أولا : مدخل إلى سورة المائدة
١- تاريخ النزول :
نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح، وكان نزول سورة الفتح بعد صلح الحديبية وفي السنة السادسة من الهجرة، في نزول سورة المائدة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
ونلحظ أن سورة المائدة من أواخر ما نزل من السور بالمدينة، فقد روى عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن المائدة من آخر ما أنزل الله فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما وجدتم فيها من حرام ؛ فحرموه.
والمتأمل يرى أن السورة قد امتد نزول آياتها خلال السنوات الأربع الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؛ فقد ابتدأ نزولها في السنة السابعة للهجرة، وفيها آية نزلت في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة قبل وفاة النبي بثمانين يوما وهي قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ( المائدة : ٣ ).
وفي كتب التفسير : أن سورة المائدة نهارية كلها أي : نزلت آياتها نهارا ١ مدينة كلها إلا قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. فإنها نزلت بعرفة، وعدد آيات سورة المائدة ١٢٠آية، وعدد كلماتها ٢٨٠٤ كلمة.
٢- قصة التسمية :
سميت سورة المائدة بهذا الاسم ؛ لأنها السورة الوحيدة التي تحدثت عن مائدة طلب الحواريون من عيسى عليه السلام أن يسألها ربه. وذلك في قوله تعالى :
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ. ( المائدة : ١١٢-١١٣ ).
والحواريون هم خلصاء عيسى عليه السلام الذين صفت قلوبهم من الكفر والنفاق وبادروا إلى الإيمان بعيسى وتلقوا عنه التعاليم ثم انتشروا في القرى ؛ لبثها بين الناس.
المائدة
تكلم العلماء عن المائدة التي سألها الحواريون عيسى، هل نزلت أم لا ؟ وجمهور المفسرين على أنها نزلت بالفعل. وقد تعددت الروايات بعد ذلك عن أوصافها وما احتوت عليه من ألوان الطعام والشراب، وحسبك أن ترجع إلى أي تفسير من كتب التفاسير المتداولة ؛ لتقرأ في أوصافها وأوصاف ما وضع عليه الشيء الكثير، مما يجعلك ترجح أن كثيرا مما ورد في أوصاف هذه المائدة من افتراء المفترين أو أساطير الإسرائلين.
وألفاظ القرآن الصريحة تفيد : أن عيسى طلب من ربه أن ينزل مائدة من السماء تكون كافية لقومه جميعا وتكون عيدا وسعادة لأول قومه وآخرهم، والمائدة : طعام ورزق وكل طعام ورزق إنما هو من عند الله، وقد وعد الله أن ينزلها عليهم. ولم يذكر القرآن إن كانت بمفهومها الضيق كما طلبها الحواريون، أو بمفهومها المنطلق كما قد يريده الله ويفهمه عيسى ويلهمه الحواريون فيكون حينئذ وعدا بنعمة من الله عليهم طعاما ورزقا يشمل أولهم وآخرهم وترجمة للمفهوم الضيق الذي أرادوه للمائدة بمفهوم أوسع قد يشمل الطعام وسواه من الرزق ؛ ليكون ذلك ابتلاء وفتنة لأتباع المسيح بوجع عام.
والله أعلم بما كان مما سكت عنه القرآن. وليس لنا من مصدر آخر نستفتيه واثقين في مثل هذه الشئون إنما هو رأي نبديه بجوار آراء السلف عليهم رضوان الله.
٣- ظواهر تنفرد بها سورة المائدة :
تنفرد سورة المائدة بجملة من الظواهر لا نكاد نجد شيئا منها في غيرها من السور، حتى في أطول سور القرآن وهي البقرة، ذلك أنها لم تتحدث عن الشرك ولا هم المشركين على النحو الذي ألف في القرآن من محاجتهم وتسفيه أحلامهم وتحقير شركائهم، وأنها لم تعرض في قليل ولا في كثير إلى ما عهد في أكثر السور المدنية التي نزلت قبلها من الحث على القتال والتحريض عليه ورسم خطط النصر والظفر بأعداء الله المشركين كما نراه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة ؛ لأن المسلمين في ذلك الوقت لم يكونوا بحاجة إلى شيء من هذا الحديث، لقد اندحر الشرك وصار المشركون في قهر وذلة ويأس.
ولكن إذا كان المشركون قد انقضى عهدهم والمسلمون قد علا شأنهم فإن المسلمين في حاجة إلى إكمال التشريع المنظم لشئونهم على وجه يضمن لهم السعادة ويحفظ لهم السيادة، ولهم بعد ذلك صلات خاصة بطوائف من أهل الكتاب يعيشون في ذمتهم وعهدهم ويخالطونهم في حياتهم ومعاملاتهم، ومن هنا نتبين أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في حاجة إلى ما يعنيهم في الجانبين : جانب أنفسهم وجانب علاقتهم بأهل الكتاب، وبذلك دار كل ما تضمنته سورة المائدة على أمرين بارزين : تشريع المسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون، وإرشادات لطرق المحاجة والمناقشة وبيان الحق في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب مما يتصل بالعقائد والأحكام في سياق هذه المحاجة تعرض السورة لكثير من مواقف الماضيين من أسلاف أهل الكتاب مع أنبيائهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة وتنديدا بهم عن طريق أسلافهم من جهة أخرى.
٤- تشريع القرآن :
نزل القرآن على رسول الله صلى اله عليه وسلم. لينشئ به أمة و ليقيم به دولة، ولينظم به مجتمعا، وليربى به ضمائر وأخلاقا وعقولا ؛ وليربط ذلك كله برباط قوي يجمع متفرقة ويؤلف أجزاءه ويشدها كلها إلى منزل هذا القرآن، وإلى خالق الناس الذي أنزل لهم هذا القرآن.
ومن ثم نجد في كثير من سور القرآن تشريعا إلى جانب موعظة، وقصة إلى جانب فريضة، ونجد التشريع الذي ينظم العلاقات الاجتماعية والدولية، إلى جانب التشريع الذي يحل ويحرم ألوانا من الطعام أو ألوانا من السلوك والأعمال.
وهذه السورة- سورة المائدة- مثل لتلك السور التي تلتقي فيها التربية الوجدانية بالتربية الاجتماعية بتشريع الحلال والحرام في الطعام والزواج بتشريع المعاملات الدولية فيما بين المسلمين وغير المسلمين، بتعليم بعض الشرائع التعبدية، ببيان الحدود والعقوبات في بعض الجرائم الاجتماعية، بالمثل والموعظة والقصة، بتصحيح العقيدة وتنقيتها من الأسطورة والخرافة في تناسق واتساق.
٥-الوفاء بالعقود :
تبدأ سورة المائدة ابتداء إلهيا للمؤمنين أن يوفوا بالعقود فتقول :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ...
والعقود : جمع عقد وهو ما يلتزمه المرء لنفسه أو لغيره، وأساسه قد يكون شيئا فطريا تدعو إليه الطبيعة، وقد يكون شيئا تكليفيا تدعو إليه العقيدة، و قد يكون شيئا عرفيا يدعو إليه الالتزام والتعاهد والعقد العرفي، أي : المتعارف عليه من عامة الناس، يكون بين الفرد والفرد كما في البيع و الزواج والشركة والوكالة والكفالة إلى آخر ما تعارفه الناس و يتعارفونه من وجوه الاتفاقات، والكلمة عامة في الآية فإنها تأمر بالوفاء بالعقود، فتشمل العقود كلها على اختلاف أنواعها وأشكالها، وتدخل في العقود : المعاملات والمعاهدات بظاهر اللفظ، كما تدخل إقامة الحدود وتحريم المحرمات بوصفها داخلة في عقد الإسلام بين الله ورسوله والذين آمنوا بالله ورسوله.
وعلى وجه العموم فإننا نجد سياق السورة كله يدور حول العقود والمواثيق في شتى صورها حتى حوار الله والمسيح يوم القيامة الوارد في نهاية السورة نجده سؤالا عما عهد به إليه وعما إذا كان قد خالف عنه كما زعم الزاعمون بعده.
٦-الظروف التي نزلت فيها السورة ٢
نزلت سورة المائدة بعد أن قلمت أظفار المشركين وانزوى الشرك في مخابئه المظلمة وصار المسلمون في قوة ومنعة كانوا بها أصحاب السلطان والصولة في مكة وفي بيت الله الحرام، يحجون أمنين مطمئنين، وقد نكست أعلام الشرك وانطوت صفحة الإلحاد والضلال، وقد أتم الله نعمته على المسلمين بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا.
وسورة المائدة وإن ابتدأ نزولها في السنة السابعة إلا أن نزولها قد استمر إلى السنة العاشرة بدليل أن فيها آية من آخر ما نزل من القرآن وهي قوله تعالى :
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...
روى أن رجلا من اليهود جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال : إن في كتابكم آية تقرؤونها لو علينا أنزلت- معشر اليهود- لاتخذنا اليوم الذي أنزلت فيه عيدا، قال عمر : وأية آية ؟ قال :
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا. ( المائدة : ٣ ).
فقال عمر : إني والله لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله عشية عرفة في يوم الجمعة والحمد لله الذي جعله لنا عيدا.
وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال :
" يأيها الناس، إن سورة المائدة آخر ما نزل ؛ فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ".
٧-أفكار السورة وأحكامها :
انفردت سورة المائدة بعدة مسائل في أصول الدين وفروعه، وبتفصيل عدة أحكام أجمات في غيرها إجمالا. ومن هذه الأحكام ما يأتي :
١- بيان إكمال الله تعالى للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم بالقرآن وإتمام نعمته عليهم بالإسلام.
٢- النهي عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبدت لهم لما فيها من زيادة التكاليف.
٣- بيان أن هذا الدين الكامل مبني على العلم اليقيني في الاعتقاد والهداية في الأخلاق والأعمال، وأن التقليد باطل لا يقبله الله تعالى.
٤- بيان أن أصول الدين الإلهي على ألسنة الرسل كلهم هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أية ملة- من ملل الرسل كاليهود والنصارى والصابئين- فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون.
٥- وحدة الدين واختلاف شرائع الأنبياء ومناهجهم فيه.
٦- هيمنة القرآن على الكتب الإلهية.
٧- بيان عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالتبليغ العام وكونه لا يكلف من حيث كونه رسولا إلا التبليغ، وان من حجج رسالته انه بين لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم، وهو قسمان : قسم ضاع منهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وقسم كانوا يكتمونه إتباعا لأهوائهم مع وجوده في الكتاب كحكم رج الزاني، ولولا أن محمد الأمين مرسل من عند الله لما علم شيئا من هذا ولا ذاك.
٨- عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى الناس، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فكم حاولوا قتله فأعياهم وأعجزهم.
٩- بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفرادا وجماعات، وانه لا يضرهم من طل من الناس إذا هم استقاموا على صراط الهداية.
١٠- تأكيد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما بينه الله تعالى من لعن الذين كفروا من بني إسرائل على لسان داود وعيسى وابن مريم. وتعليله ذلك بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
١١- نفى الحرج من دين الإسلام.
١٢- تحريم الغلو في الدين والتشدد فيه ولو بتحريم الطيبات وترك التمتع بها.
١٣- قاعدة إباحة المحرم للمضطر ومنه أخذ الفقهاء قولهم : الضرورات تبيح المحظ
٢ للسيد رشيد رضا في تفسير المنار طريقة حكيمة في اتباع تفسيره المطول بخلاصة للسورة. وأنصح بمراجعة هذه الخلاصة قبل قراءة تفسير المنار. وانظر خلاصة سورة المائدة ج٧ ص ٢٧٦، فقد استعنت بها في كتابة هذا الموضوع. وانظر أيضا تفسير القرآن الكريم للإمام محمود شلتوت ص ٢٧٥ ط ٣..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات :أوفوا بالعقود : الوفاء : الإيتاء بالشيء وافيا. والعقود : جمع عقد والمراد هنا : العهد الموثق.
بهيكة الأنعام : البهيمة : هي ما لا عقل له من الحيوان. وخصصت- في العرف- بذوات الأربع. والأنعام : هي الإبل والبقر والغنم... وألحق بها ما يماثلها... كالظباء وبقر الوحش وحمره. والإضافة هنا : بيانية أي : بهيمة هي الأنعام.
حرم : أي : محرمون بالحج أو العمرة.
التفسير :
١- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ... ينادي الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، آمرا إياهم بالوفاء بجميع العقود.
وهذا أمر عام يشمل جميع ما ألزم الله به عباده، وعقده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية. وما يعقده العباد- فيما بينهم- من عقود الأمانات والمعاملان ونحوها مما يجب الوفاء به.
جاء في ظلال القرآن :
إنه لا بد من ضوابط للحياة حياة، الفرد مع نفسه وحياته مع غيره، هذه الضوابط لا بد لها من احترام يضمن ألا تنتهك وألا يستهتر بها، وألا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات.
والعقود : هي هذه الضوابط التي تنظم العلاقات ؛ لأنها تقيم حدود الحرية فلا تدعها فوضى، وتجعل الحياة شركة ذات أطراف، لا يجور فيها طرف على طرف.
والعقود في معناها الواسع تشمل الديانات والشعائر والعبادات والمعاملات، والمعاهدات ؛ لان هذه كلها عقود ترتبط بها النفس وضميره، ويتحدد بها عمله وسلوكه... فالأمر بالوفاء بالعقود أمر بإقامة ضوابط للحياة ما استكن منها وما ظهر على السواء. ما تعلق منها بالضمير وما تعلق منها بالسلوك. ما كان بين المرء وربه، وما كان بينه وبين غيره.
والإسلام يربط هذه العقود كلها بالله، ويجعل الوفاء بها فريضة، ويوجه الأمر للذين آمنوا فكتبوا بقلوبهم عقد الإيمان، أن يفوا بسائر العقود التي ارتبطوا بها مع عقد الإيمان ١.
أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ. أي : أحلت لكم- أيها المؤمنون- أكل بهيمة الأنعام : من الإبل والبقر والغنم، وما شابهها من الظباء وبقر الوحش، والحمر الوحشية.
إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. استثنى من هذه الأطعمة ما سيتلى في الآية الثالثة من هذه السورة ( وأخر هذا البيان مؤقتا ووقف عند هذا الإجمال ؛ ليتناول في الآية الأولى كليات مجملة بالتحريم فيكون التحليل عاما والتحريم عاما قبل التفصيل ٢
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ : أي : أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون. فلا يجوز لكم الاصطياد- أو الانتفاع بالمصيد- مادمتم محرمين، فإذا تحللتم من إحرامكم، فلا جناح عليكم أن تصيدوا، أو تنتفعوا بالمصيد، ولكن في غير الحرم.
أما الحرم، فلا يحل الاصطياد فيه، ولا الانتفاع فيه، سواء في ذلك المحرم وغير المحرم.
وهكذا يقيم الإسلام منطقة أمان في بيت الله الحرام وما حوله، كما يقيم فترة أمان في الأشهر الحرم ؛
حتى يتمرن الإنسان على السلام والأمن والأمان.
قال تعالى : أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. ( القصص : ٥٧ )
إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. أي : أن الله سبحانه يقضي في خلقه بما شاء، ومن ذلك تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه حسبما يعلمه سبحانه من المصالح لعباده، لا حسب شهواتهم وأهوائهم- فعلى العباد أن يمتثلوا أمره تعالى، ويجتنبوا نهيه، وفاء بعهده، سواء أدركوا حكمة التشريع، أم لم يدركوها.
٢ المرجع السابق.
شعائر الله : جمع شعيرة، وهي : العلامة، والمراد : ما جعل شعارا وعلامة للنسك. من مواقف الحج.
الشهر الحرام : الأشهر الأربعة التي حرمها الله وهي : ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.
الهدي : ما يهدي إلى الحرم الشريف من الأنعام.
القلائد : جمع قلادة، وهي : ما يعلق في عنق الأنعام. علامة على أنها هدي.
والمراد : ذوات القلائد.
آمين : قاصدين.
لا يجر منكم : لا يحملنكم.
شنآن : بعض.
صدوكم : منعوكم.
البر : كلمة تجمع وجوه الخير.
الإثم والعدوان : الإثم ؛ الذنب مطلقا. والعدوان ؛ خاص بما يقع على الغير.
التفسير :
٢- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ... أي لا تستبيحوا وتنتهكوا أية شعيرة من شعائر الذين : في الحج أو غيره ؛ لأنه يؤدي إلى الاستخفاف بالشرع، وذلك كفر بالله تعالى ؛ لأنه هو المشرع.
جاء في صفوة التفاسير للصابوني :
أي : لا تستحلوا حرمات الله، ولا تتعدوا حدوده، قال الحسن : يعني شرائعه التي حددها لعباده، وقال ابن عباس : ما حرم عليكم في حال الإحرام.
وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ. أي : ولا تستبيحوا القتال في الأشهر الحرم، وذلك لحرمة القتال فيها، والأشهر الحرم هي : ذو القعدة و ذو الحجة والمحرم ورجب.
وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ. كذلك نهاهم الله عن أن يعتدوا على الهدي الذي يهدي إلى الحرم، من الأنعام، لينتفع به عباد الله، أو أن يعتدوا على ما قلد من هدي الأنعام، فجعلت في عنقه قلادة من لحي شجر الحرم للدلالة على انه مهدي إلى بيت الحرم.
وخص القلائد بالنهي عن الاعتداء عليها- مع أنها داخلة في الهدي- تشريفا لها واعتناء بها.
والمراد من إحلال الهدي والقلائد المنهي عنه- غصبها أو منعها من بلوغ محلها أو إصابتها بسوء.
وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا. أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام لحج أو عمرة، نهى تعالى عن الإغارة عليهم، أو صدهم عن البيت كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
وتكرار لا. أربع مرات في ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد، ولا آمنين البيت الحرام.
للدلالة على أن قوة التحريم في كل واحدة.
وذكر كل واحدة من هذه المنهيات الخمس منفردة، مع أنها مجملة في شعائر الله ؛ لأهميتها.
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا. أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام- الذي من داخله كان آمنا- وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه، ولا تهيجوه قال مجاهد وعطاء في قوله : يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا. يعني بذلك التجارة.
وقال ابن عباس : ورضوانا : أي : يترضون الله بحجهم.
وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الآية نزلت في ( الحطيم بن همد البكري ) كان قد أغار على سرح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت.
فأنزل الله عز وجل : وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ١
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ. أي : إذا فرغتم من إحرامكم، وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد وهذا أمر بعد الحظر.
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ. أي : ولا يحملنكم بعض قوم كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذا المعنى نجده أيضا في قوله سبحانه : ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.
وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السماوات والأرض، وقال ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه، حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله هذه الآية، والشنآن هو البغض، وهو مصدر من شنأه أشنؤه شنآنا.
وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. أي : تعاونوا على فعل الخيرات وترك النكرات، وعلى كل ما يقرب إلى الله.
قال ابن كثير :
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات- وهو البر- وترك المنكرات- وهو التقوى- وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم.
روى البخاري وأحمد عن انس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، قيل : يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال : " تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره " ٢.
وفي الصحيح " من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى الضلالة كان عليه الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " ٣
وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. أي : خافوا عقابه ؛ فإنه تعالى شديد العقاب لمن عصاه.
قال صاحب الظلال :
" وهو تعقيب لتهديد من لا يتقي، ومن لا يفي بالعقد الأول، ومن تجرفه دفعة الشنآن إلى شاطئ العدوان.
إنها قمة في ضبط النفس، وفي سماحة القلب، وفي انتهاج العدل، يحدو إليها هذا القرآن ويأخذ بيد البشر في طريق الإيمان، دون ما عنت ودون ما حرج، فهو يعترف للنفس البشرية بان من حقها أن تغضب، ومن حقها أن تكره، ولكن ليس من حقها أن تعتدي على الناس مطاوعة لما فيها من شنآن، ثم يحدو لها بعد ذلك بنشيد البر ونشيد التقوى، لتتخلص من عقابيل الشنآن، فيكون في هذا تربية للنفس، بعد أن يكون فيها ضمان للعدل، في غير ما كبت للفطرة ولا إعنات ٤.
٢ انصر أخاك ظالما أو:
رواه البخاري في المظالم (٢٤٤٤، ٢٤٣٣) وفي الإكراه (٩٦٥٢) والترمذي في الفتن (٢٢٥٥) وأحمد في مسنده (١٢٦٦٦، ١١٥٣٨) من حديث أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تأخذ فوق يديه. رواه مسلم في البر (٢٥٨٤) والدرامي في الرقاق (٢٧٥٣) من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما فإن كان ظالما فلينهه فإنه له نصرة وإن كان مظلوما فلينصره..
٣ من دعا إلى هدى:
رواه مسلم في العلم ٢٦٧٤، وابن ماجه في المقدمة ٢٠٦، والدرامي في المقدمة ٥١٣، وأبو داود في السنة ٤٦٠٩، وأحمد ٨٩١٥، والترمذي في العلم ٢٦٧٤ من حديث أبي هريرة. ورواه ابن ماجه في المقدمة ٢٠٥ من حديث أنس إلا أنه بلفظ: أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن له مثل أوزار من اتبعه ولا ينقص من أوزارهم شيئا وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فإن له مثل أجور من اتبعه ولا ينقص كم أجورهم شيئا..
٤ في ظلال القرآن ٦/٢٨..
أهل لغير الله به : الإهلال : رفع الصوت. والمراد مما أهل لغير الله به : ما ذكر غير اسم الله عليه عند الذبح.
المنخنقة : ما ماتت خنقا.
الموقوذة : هي التي ضربت حتى ماتت.
المتردية : ما سقطت من علو فماتت.
والنطيحة : ما نطحها غيرها حتى ماتت.
السبع : كل حيوان مفترس.
ذكيتم : ذبحتم ذبحا شرعيا.
النصب : جمع نصاب. وقيل : واحد الأنصاب، وهي أحجار نصبوها حول الكعبة. وكانوا يدبحون عليها ويعظمونها.
تستقسموا : تطلبوا معرفة ما قسم وقدر لكم.
بالأزلام : جمع زلم، وتسمى القداح، وهي سهام كانت عندهم في الجاهلية يطلبون بها معرفة ما قسم لهم بتناولها، من نحو كيس وضعت فيه.
فسق : خروج عن طاعة الله.
يئس : اليأس : انقطاع الرجاء.
مخمصة : شدة الجوع.
متجانف لإثم : مائل إلى الإثم، من الجنف، وهو : الميل.
التفسير :
٣- حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ... الآية.
بعد أن ذكر الله-سبحانه- أنه أحل بهيمة الأنعام، شرع في بيان المحرمات منها التي استثناها بقوله : إلا ما يتلى عليكم. وهي عشرة أنواع :
١- الْمَيْتَةُ. وهي التي ماتت بدون تذكية مشروعة : لأن الغالب فيها : أنها ماتت من مرض فلا يحل أكلها ؛ لما فيها من الضرر ؛ ولأنها تعافها الأنفس.
٢- وَالْدَّمُ. والمراد به : الدم السائل. وحكمة تحريمه أن فيه من الجراثيم والفضلات ما يؤدي من يتناوله. بخلاف المتجمد منه، وهو الكبد وطحال وما يتخلل اللحم، فإن هذه ليست من الدم المسفوح، وليست محرمة.
٣- وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ. والمراد ؛ لحمه ودهنه وكل شيء فيه. وذلك : لخبثه وللأضرار التي تنشأ عن أكله.
٤- وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ. أصل معنى الإهلال : رفع الصوت، وكان أهل الجاهلية يذبحون باسم أصنامهم ؛ رافعين أصواتهم بذلك.
والمراد منه : ما ذبح على غير اسم الله ؛ لأن الذبح لغير الله فيه تعظيم لذلك الغير. والآكل من هذا المذبوح مشارك في التعظيم لغير الله.
٥- وَالْمُنْخَنِقَةُ. وهي التي ماتت خنقا ولم تذبح، وذلك : لاحتباس الدم فيها سواء أكان الخنق بفعلها أم بفعل غيرها، فإنها لا تحل.
٦- وَالْمَوْقُوذَةُ. وهي التي قذفت بمنقل كالحجارة ونحوها، حتى ماتت من الوقذ. أي : من الضرب، ولم يذبح ذبحا شرعيا.
٧- وَالْمُتَرَدِّيَةُ. وهي التي سقطت من مكان عال، أو هوت في بئر فماتت من التردي.
٨- وَالنَّطِيحَةُ. وهي التي نطحتها غيرها فأماتتها.
٩- وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ. أي : ما افترسها السبع وأكل منها، فلا يؤكل ما بقي، وكذا الحكم لو افترسها فماتت ولم يأكل منها. وهذه الأنواع من المنخنقة- وما عطف عليها- إن أدركت وبها حياة فذكيت ذكاة شرعية ؛ حل أكلها.
واشترط الأحناف في الحياة. أن تكون فوق حياة المذبوح.
وقال غيرهم : يكتفي فيه أن تدرك وبها حياة في الجملة كأن تطرف عينها. أو تضرب برجلها أو غير ذلك. فمتى أدركها الإنسان وبها مثل هذا النوع من الحياة فذكاها- أي : ذبحها- حل أكلها.
١٠-وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. والنصب حجارة نصبها أهل الجاهلية حول الكعبة. وكانوا يذبحون عليها، تقربا للأصنام. وهو حرام ؛ لأن في هذا الذبح تعظيما للأصنام، وهو إشراك بالله سبحانه وتعالى. وهذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى، إنما حرمت لأن فيها إضرار بالصحة والعقيدة.
وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَم. كانوا يستقسمون بالأزلام، أي : يطلبون معرفة ما لهم وما قدر عليهم، عن طريق الأزلام.
والأزلام : قطع من الخشب عل هيئة السهام، وتسمى القداح. وهي ثلاثة : مكتوب على أحدها : أمرني ربي ؛ وعلى الآخر : نهاني ربي. والثالث : غفل من الكتابة. وكانوا في الجاهلية إذا أراد احدهم سفرا، أو غزوا، أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك. أتي إلى بيت الأصنام أربابهم ؛ ليطلب معرفة ما قسم له من هذا الذي أراده : أيقدم عليه ؟ أم يحجم عنه ؟ فيحرك هذه الأزلام، فإن خرج الذي عليه، أمرني ربي ؛ أقدم على الفعل. وإن خرج على الذي عليه، نهاني ربي ؛ أمسك. وإن خرج الثالث وهو الغفل ؛ أعاد ثانيا حتى يخرج الأمر أو الناهي.
وهذا من الخرافات والأوهام، التي لا يقدم عليها إلا من سيطر على عقله الجهل. وجعل نفسه ألعوبة في أيدي الكهان، ومن يدعون معرفة الغيب.
والإسلام بريء من ذلك ؛ فطلب معرفة الحظ- عن طريق التنجيم وضرب الرمل والودع، وفنجان القهوة وما شابه ذلك- من الأمور التي لم يشرعها الله.
وإنما حرم الاستقسام، ومعرفة النصيب على هذا الوجه وما شابهه ؛ لأن خروج ورقة أو نحوها : عليها أمرني ربي أو : نهاني ربي- رجم بالغيب، وتقول على الله تعالى ؛ لأنه لا يمكن تعرف أمر الله أو نهيه بمثل هذا الطريق ؛ لأن الله لم يعط هذه الكائنات- أو غيرها- معرفة قدره الذي استأثر بعلمه. قال تعالى : وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. ( لقمان : ٣٤ )، فكيف نطلب العلم عن طريقها وفاقد الشيء لا يعطيه ؟
وإن أولئك الذي يلجأون إلى العرافين والمنجمين ونحوهم، إنما يتركون جانب الله العليم القدير، ويركنون إلى أدعياء يجهلون كل شيء عن مراد الله تعالى، ويعرضون أنفسهم لسخط الله، إلى جانب إهدار عقولهم وبذل أموالهم فيما يضرهم ولا ينفهم.
ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- الاستخارة في الأمور كلها. وهي من الالتجاء إلى الله تعال : أن يقدر الخير لفاعلها ويرضيه به.
روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول : " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك، و أستقدرك بقدرتك، و أسألك من فضلك العظيم. فإنك تقدر و لا أقدر، و تعلم و لا أعلم، و أنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر-ويسمي حاجته- خير لي في ديني و معاشي و عاقبة أمري- أو قال : عاجل الأمر وآجله- فاقدره لي، و يسره لي، ثم بارك لي فيه. و إن كنت تعلم أن هذا الأمر- ويسمي حاجته- شر لي في ديني و معاشي، وعاقبة أمري- أو قال : في عاجل أمري و آجله- فاصرفه عني و اصرفني عنه و أقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني - أو أرضني- به " ١.
هذه الاستخارة المشروعة لمن أراد أن يوفقه الله لعمل الخير، وخير العمل.
ذَلِكُمْ فِسْقٌ. المشار إليه، هو : كل ما ذكر من المحرمات السابقة ؛ لان ارتكاب شيء منها خروج عن طاعة الله تعالى، وعن دينه وشرعه. ولذلك كانت فسقا.
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. المراد باليوم : يوم نزول هذه الآية، وهو عيشة عرفة : عام حجة الوداع كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله عنه.
وقد أخبر سبحانه وتعالى، عباده المؤمنين، بان الكفار قد انقطع رجاؤهم من زوال دين الإسلام، أو النيل منه ومن أتباعه. فقد بدل الله المؤمنين من ضعفهم قوة، ومن خوفهم أمنا، ومن فقرهم غنى. فوجب عليهم ألا يخشوا إلا الل، ه وألا يرهبوا أحدا سواه.
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وقد أكمل الله الدين لعباده، فبين حلاله وحرامه. فليسوا في حاجة إلى تحليل أو تحريم بعد ذلك. وما كان من حكم غير منصوص، جاء عن طريق : الإجماع، أو القياس- فهو مستمد من الكتاب أو السنة.
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. وأتم الله عليهم نعمة النصر على الأعداء، والغلبة عليهم. فأصبحت لهم اليد العليا، ودخلوا مكة ظافرين منتصرين، وأدوا المناسك آمنين مطمئنين، وهدمت معالم الجاهلية، وأبطلت مناسكها، وانتشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية.
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا. واختار الله لهم الإسلام دينا.. فمن طلب الهدى في غيره، فقد ضل سواء السبيل، وخسر خسرانا مبينا : وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. ( آل عمران : ٨٥ ).
وبنزول قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا. عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسالته تمت، وأن أجله اقترب، وانه عما قريب –لاحق بالرفيق الأعلى.
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. هذا الجزء من الآية يتصل بقوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. إلى قوله : وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَم. وقد توسط قوله تعالى : ذلكم فسق. إلى هنا ؛ لتأكيد التحريم لما تقدم ذكره ؛ لأن تحريم هذه الخبائث، من جملة الدين الكامل. أي : ما ذكر من المحرمات السابقة- محظور تناول أي شيء منه في حالة الاختيار، ولكن قد يقع الإنسان في الأضرار بأن تصيبه مخمصة- أي مجاعة- فتضطروا إلى تناول شيء من هذه المحرمات ؛ إنقاذا لحياته لأنه لا يجد غيرها أمامه. فكان من رحمة الله بعباده : أن رفع الحرج عن المضطر، إذا تناول شيئا من هذه المحرمات، بشرط أن يكون غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ. أي : غير مائل إلى الإثم. وذلك بتجاوزه حد الضرورة. ولذلك ختمت الآية : فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. أي : لا يؤاخذ الله من يضطر إلى ذلك. وهذا من مظاهر رحمته سبحانه.
وقد قررت الآية مبدأين من مبادئ التشريع، بني عليهما كثير من فروع الشريعة :
أولهما : أن الضرورات تبيح المحظورات.
ثانيهما : أن الضرورة تقدر بقدرها.. وهذا من يسر الإسلام وسماحته قال تعالى : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. ( الحج : ٧٨ )
البخاري في الجمعة ١١٦٦، وفي الدعوات (٦٣٨٢)، وفي التوحيد ٧٣٩٠ وأبو داود في الصلاة (١٥٣٨)، والترمذي في الصلاة (٤٨٠) والنسائي في النكاح ٣٢٥٣، وابن ماجه في إقامة الصلاة ١٣٨٣، وأحمد ١٤٢٧٩. كلهم من حديث جابر ومعنى "فاقدره لي" أي: اجعله مقدورا لي، أو قدره. وقيل: معناه يسره لي..
الطيبات : مات طاب من الأطعمة وحل.
الجوارح : واحدها : جارحة. وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور.
مكلبين : مبالغين في تدريبها على الصيد. فالمكلب : مؤدب الجوارح ومدربها على الصيد.
٤- يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ... لما ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة آية التحريم تحرج المسلمون أن يتناولوا شيئا قبل أن يستيقنوا من حله.
لذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا أحل لهم ؟.
جاء في تفسير ابن كثير وغيره :
أخرج ابن أبي حاتم ابن جبير، أن عدي بن حاتم، وزيد بن المهلهل الطائيين- وكانا أهل صيد- قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة.
وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء، فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ...
أي : يسألك المؤمنون : ماذا أحل لهم من الطعام ؟ فقل لهم يا محمد : أحل لكم ما تستطيعون أكله وتشتهونه مما حل لكم.
قال صاحب الظلال :
وهو جواب يستحق الانتباه، إذ يلقى في حسهم أنهم لم يحرموا طيبا ولم يمنعوا عن طيب، وأن كل الطيبات ما تزال لهم حلالا. فلم يحرم إلا الخبيث، والواقع أن كل ما حرم تستقذره الفطرة السليمة بطبعها من الناحية الحسية كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو ينفر منه الضمير السليم كالذي أهل به لغير الله، وما ذبح على النصب أو الاستقسام بالأزلام.
وهو يضيف إلى الطيبات ما أمسكته الجوارح كالصقر والبازى- ومثلها كلاب الصيد- المعلمة على الصيد، التي كلبها أصحابها، أي : علموها كيف تكلب الفريسة وتكبلها وتصطادها، وتحتفظ بها لا تأكلها، واشترط لحل ما تكلبه الجوارح وتمسكه أن تكون قد أمسكته لحساب أصحابها لا لحسابها هي، وآية ذلك ألا تأكل منه عند صيده ؛ ولا تقربه إلا إذا غاب عنها صاحبها فجاعت فإنها إن تكن أمسكت الفريسة لنفسها ولتطعم منها ؛ حرمت الفريسة على الناس وتركت للذي صادها لنفسه من الجوارح.. فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه. فلا بد من ذكر اسم الله عند إطلاق الجارح أو كلب الصيد ؛ ليكون الصيد حلالا.
من كتب التفسير :
جاء في تفسير ابن كثير، وصفوة التفاسير للأستاذ محمد علي الصابوني والتفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ما نوجزه فيما يأتي :
وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ.. أي : اذكروا اسم الله على هذه الجوارح التي علمتموها عند إرسالها.
روى البخاري وأصحاب السنن من حديث عدي بن حاتم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله عليه ؛ فكل مما امسكن عليك، إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه " ١.
وعلامة المعلم أن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر وأن يمسك الصيد فلا يأكل منه، أن يذكر الله عند إرساله، فهذه أربع شروط لصحة الأكل من صيد الكلب المعلم..
قال بعض الفقهاء : بحرمة أكل الصيد الذي أكل منه الجارح ولم يدركه الصائد حيا ؛ لأنه أمسكه على نفسه، وقال مالك والليث : يؤكل وإن أكل منه الكلب.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا أكل الكلب من الصيد فلا يؤكل منه، ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه ؛ لأن تأديب سباع الطير إلى حد ألا تأكل منه متعذر، بخلاف الكلاب فإنه غير متعذر، وإذا أدرك الصائد ما أكل منه السبع حيا حياة مستقرة، فذكاه- أي : ذبحه- حل أكله اتفاقا ؛ لقوله تعالى : وما أكل السبع إلا ما ذكيتم. وإن كانت حياته غير مستقرة وذكاه، فالحكم كذلك عند الجمهور لعموم الآية.
قال أبو طلحة الأسدي : " سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها، ثم انتثر قصبها- أي أمعاؤها- فأدركت ذكاتها، فذكيتها، فقال : كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل ".
قال إسحاق بن راهويه : السنة في الشاة، على ما وصف ابن عباس، فإنها- وإن خرجت أمعاؤها- فهي حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم، وإنما ينظر- عند الذبح- أحية هي أم مية ؟ ولا ينظر إلى ما أصابها : هي تعيش معه أم لا ؟ قال ابن إسحاق : ومن خالف هذا ؛ فقد خالف جمهور الصحابة وعامة العلماء.
وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ. هذا أمر بتسمية الله تعالى عند إرسال الكلب والطير على الصيد، فالحكم في التسمية عنده كالحكم غيها عند الذبح.
وقيل : هو أمر بالتسمية على الصيد عند الأكل منه.
قال الألوسي : وهو بعيد، وإن استظهره أبو حيان ٢.
واستدل العلماء بهذه الآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة ؛ لان تعليم يحتاج إلى ذلك، وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد. ومثله للحراسة، والانتفاع به فيما يحقق المصالح العامة، مثل تعقبل اللصوص، وإنقاذ الغرقى، وقيادة العميان.
رواه البخاري في الوضوء (١٧٥) وفي الذبائح (٥٤٨٦، ٥٤٨٥، ٥٤٧٦، ٥٤٧٥) ومسلم في الصيد (١٩٢٩) وأبو داود في الصيد (٢٨٥٤) والترمذي في الصيد (١٤٧٠) والنسائي في الصيد (٤٢٦٣) والدرامي في الصيد (٢٠٠٢) واحمد في مسنده (١٨٩٠٠، ١٨٨٨٢، ١٧٧٨١) من حديث عدي بن حاتم قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه. قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر. قال: فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر" ورواه البخاري في الذبائح (٥٤٩٦، ٥٤٨٨، ٥٤٧٨) وأبو داود في الصيد (٢٨٥٦، ٢٨٥٥، ٢٨٥٢) والترمذي في الصيد (١٤٦٤) وفي السير (٣٩٨٣) وفي الأطعمة (١٧٩٧) (١٧٢٩٦، ١٧٢٨٣، ١٧٢٧٩) وابن ماجه في الصيد (٣٢٠٧) من حديث أبي ثعلبة الخشني قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يداك..
٢ مختصر تفسير ابن كثير تحقيق محمد على الصابوني ١/٤٨٥
والتفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية حزب ١ ١ص١٠١٨، وصفوة التفاسير للأستاذ محمد على الصابوني ١/٣٢٨ وفي تفسير ابن كثير عن صحيح البخاري عن عائشة أنهم قالوا يا رسول الله إن قوما يأتوننا حديث عهدهم بكفر بحلمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا ؟ فقال: (سموا أنتم وكلوا)..
المحصنات : العفيفات.
مسافحين : مجاهرين بالزنى.
أخدان : جمع خدن. وهو : الصديق في السر. يطلق على الذكر والأنثى. والمراد من قوله : ولا متخذي أخذان. ولا مسرين بالزنى مع الصديقات.
حبط عمله : بطل عمله.
التفسير :
٥-الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ...
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ. أي : أبيح لكم المستلذات من الذبائح وغيرها، وفي هذا دليل على سماحة الإسلام ويسره ورغبة الله الكريم في أن يتمتع عباده بالطيبات من الحلال في الطعام. والثياب والزواج والمسكن والدابة وشئون الحياة في غير ما إسراف ولا خيلاء. وفي حديث النبوي الشريف : " كل ما شئت والبس ما شئت ما تجنبك اثنتان الإسراف والمخيلة " ١.
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ : أي ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم.
وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ. أي : ذبائحكم حلال لهم فلا حرج أن تطعموهم وتبيعوه لهم.
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ. أي : وأبيح لكم- أيها المؤمنون- زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات.
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ. أي : وزواج الحرائر من الكتابيات- يهوديات أو نصرانيات- وهذا رأي الجمهور، وقال عطاء : قد أكثر الله المسلمات وإنما رخص لهم يومئذ.
إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. أي : أعطيتموهن مهورهن، وقيد حل المحصنات من المؤمنات، ومن أهل الكتاب بإتيانهن لتأكيد وجوبها، لا لتوقف الحل على إتيانها، فإن الزواج يحل بالصداق المؤجل، كما يحل إذا تم بدون مهر- وللزوجة مهر المثل.
وسمى الله المهور أجورا ؛ لأنها عوض عن الاستمتاع بهن كما قال أين عباس وغيره.
وتسمى صداقا لأنها مشعرة بصدق رغبة باذليها في الزواج وقد فرضت لذلك ؛ إعزازا للمرأة وتكريما لها.
وقد اوجب الله أن يكون الغرض من الزواج، الإحصان والعفة، فقال تعالى : مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ..
يشترط القرآن أن يكون المهر سبيلا إلى الإحسان والزواج الحلال، ولا يجوز أن يكون المال وسيلة للسفاح والزنى فاتخاذ العشيقة والزنى بها محرم على الرجل والمرأة على السواء، والأخذان : جمع خذن وهو الصديق ذكرا كان أم أنثى، هنا في صفوة التفاسير للصابوني.
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ. أي : حال كونهم أعفاء بالنكاح غير مجاهرين بالزنى.
وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ. أي : وغير متخذين عشيقات وصديقات تزنون بهن سرا، قال الطبري المعنى : ولا منفردا ببغيه قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها.
وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ. أي : ومن ينكر شرائع الإيمان وفروعه، وقوانينه وأحكامه التي من جملتها : ما بين من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة.
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. فقد بطل عمله، فلا يعتد به، وضل سعيه، وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. ويكون في الآخرة من الهالكين.
وتعبير ومن يكفر بالإيمان فيه جدة وطرافة فالكفر في هذه المرة ليس بالله ولا باليوم الآخر، ولا بالدين ولا بالشيء منه إنما هو الكفر بالإيمان ذاته. والتنكر لوجدان الإيمان ذاته، ومن فارقه ؛ فقد حبط عمله ؛ لأنه انبت وابتعد عن الهدي والاعتقاد أصلا، وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
في أعقاب الآية :
" نطلع في هذه الآية على صفحة جديدة من صفحات السماحة الإسلامية ؛ فالإسلام لا يكتفي بأن يترك أهل الكتاب لما يعتقدون ".
لا يكتفي بأن يترك لهم هذه الحرية، إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة والمجاملة والخلطة فيجعل طعامهم حلا للمسلمين، وطعام المسلمين حلا لهم، وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم طيبات للمسلمين، يقرن ذكرهن بالعفيفات المسلمات وهي سماحة لا يفيض بها إلا الإسلام من بين سائر الأديان.
فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية أو البوتستانتينية أو المارونية المسيحية ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة.
وهكذا يبدو أن الإسلام هو العقيدة الوحيدة التي تسمح بقيام مجتمع عالمي لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية الأخرى، ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة التي تظلها راية المجتمع الإسلامي. ٢.
ذكره البخاري تعليقا في اللباس باب قول الله تعالى: ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده﴾ وقال ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة..
٢ في ظلال القرآن سيد قطب ٦/٣٢ بتصرف واختصار..
قمتم إلى الصلاة : أردتم القيام إليها وأنتم محدثون.
المرافق : جمع مرفق ؛ وهو ما يصل الذراع في العضد.
الكعبين : العظمين الناتئين من الجانبين. عند مفصل الساق والقدم.
الغائط : المنخفض الواسع من الأرض. وهو هنا ؛ كناية عن قضاء الحاجة.
لامستم الناس : كناية عن الاتصال الجنسي، أو مطلق المباشرة.
صعيدا : الصعيد : وجه الأرض البارز.
طيبا : طاهرا.
التفسير :
٦-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ... الآية.
تأتي هذه الآية في سلسة الحديث عن الطيبات، فقد أحل الطيبات من الزوجات ومن الطعام. وهنا حديث عن طيبات الروح وهي : الوضوء والتيمم ؛ فالوضوء نظافة للجسد، وطهارة للجسد والروح، وروى مالك وأحمد ومسلم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، فإذا غسل رجليه، خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب. ١
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ... يأيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وانتم محدثون فتوضأوا بغسل وجوهكم، والوجه معروف، وحده طولا من منبت الشعر المعتاد إلى أسفل الذقن، وحده عرضا ما بين شحمتي الأذنين، ولا عبرة بالصلع أو غيره.
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ. أي : اغسلوا الوجوه والأيدي مع المرافق.
وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ. وأرجلكم. بالنصب عطفا على وجوهكم، داخلا معها في حكم الغسل فواجب الرجلين هو الغسل عند الأكثرين.
والمعنى : امسحوا رءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين معهما.
قال الزمخشري : وفائدة المجيء بالغاية إلى الكعبين. لدفع ظن من يحسبها ممسوحة ؛ لان المسح لم تضرب له غاية في الشريعة، وفي الحديث " ويل للأعقاب من النار " ٢ وفي قراءة وأرجلكم بالجر، عطفا على رءوسكم. ولا يفيد ذلك أن الواجب في الرجلين هو المسح، بل للإيذان بأنه لا ينبغي الإسراف في غسلهما، والمسح هنا محمول على الغسل كما صرح به كثير من أهل اللغة.
يقال للرجل إذا توضأ : تمسح، ويقال : مسح المطر الأرض : إذا غسلها.
ويرى الشيعة الأمامية : أن الواجب في الرجلين هو المسح، أخذا من قراءة الجر.
وأوجب داود الظاهري : الجمع بين المسح والغسل فيهما ؛ مراعاة للقراءتين.
والأرجح هو رأي جمهور الفقهاء.
والمذكور في الآية من فرائض الوضوء : غسل الوجه، وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين.
على خلاف بين الفقهاء في المقدار الممسوح من الرأس، فيرى المالكية والحنابلة أن المراد : مسح جميع الرأس، ويرى الحنفية أن المراد : ربع الرأس من أي جانب، فيري الشافعية أن المراد بمسح الرأس : البعض ولو شعرة.
وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ. أي : إن كنتم في حالة جنابة بمخالطة أو احتلام أو غيره، فلا بد من أن تتطهروا بالغسل، وهو تعميم الجسد كله بالماء، وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ. أي : وإن كنتم مرضى ويضركم الماء أو كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء، ومن العلماء من أباح التيمم للمريض والمسافر مطلقا، ورأى أن التيمم رخصة من الله للمريض، ورخصة للمسافر سواء قدر على استخدام الماء أم لا، وقد بسط هذا القول الشيخ محمد عبده، والسيد رشيد رضا في تفسير المنار.
أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ. أى : أتى من مكان البراز. أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء. أي : جامعتموهن.
فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا. أي : ولم تجدوا الماء مع طلبه فاقصدوا التراب الطاهر للتيمم به.
فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ. هو أن يمسح وجهه بيديه : بضربتين يضربهما على الصعيد، إحداهما للوجه، والثانية لليدين.
ويكفيه هذا التيمم عن كل من الطهارتين، أو مجموعهما حتى يجد الماء أو يقدر على استعماله بزوال عذره.
وهو تيمم لكل فريضة مع نوافلها، أو يصلي به ما شاء من فرائض ونوافل ؟ خلاف بين الفقهاء.
مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ. أي : ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم تضييقا عليكم أو تكليفكم بما يشق عليكم.
وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ. ولكن يريد بما شرعه لكم منها أن يطهركم من الأدناس والأقذار، والذنوب و الأوزار ؛ لأن الوضوء والغسل فيهما نظافة للجسم، وطهارة من الذنوب والخطايا.
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ. ببيان شرائع الإسلام، في الوضوء والغسل والتيمم.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. ولكي تشكروه دائما على نعمه، بطاعتكم إياه فيما أمركم به.
رواه مسلم في الطهارة (٢٤٤) والترمذي في الطهارة (٢) ومالك في الموطأ كتاب الطهارة (٦٣) والدرامي في الطهارة (٧١٨) وأحمد في مسنده (٧٩٦٠) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب..
٢ ويل للأعقاب من النار:
رواه البخاري في العلم (٩٦، ٦٠) وفي الوضوء (١٦٣) ومسلم في الطهارة (٢٤١) وأبو داود في الطهارة (٩٧) والنسائي في الطهارة (١١١) وابن ماجه في الطهارة (٤٥١) والدرامي في الطهارة (٧٠٦) وأحمد في مسنده (٦٧٧٠) من حديث عبد الله بن عمرو قال تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا. رواه البخاري في الوضوء (١٦٥) ومسلم في الطهارة (٢٤٢) والترمذي في الطهارة (٤١) وابن ماجه في الطهارة (٤٥٣) واحمد في مسنده (٧٠٨٢) من حديث أبي هريرة قال أسبغوا الوضوء قال أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال ويل للأعقاب من النار رواه مسلم في الطهارة (٢٤٠) وأحمد في مسنده (٢٣٩٥٥) من حديث سالم مولى شداد قال دخلت على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يوم توفي سعد بن أبي وقاص فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فتوضأ عندها فقالت يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل للأعقاب من النار. ورواه أحمد في مسنده (١٣٩٨٣) من حديث جابر قال رأى رسول الله وصلى الله عليه وسلم قوما يتوضئون فلم يمس أعقابهم الماء ويل للأعقاب من النار..
ميثاقه : عهده.
واثقكم به : عاهدكم به
التفسير :
٧-وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ... الآية ).
أي : تذكروا نعم الله عليكم إذ هداكم للإيمان وأرسل إليكم محمدا صلى الله عليه وسلم.
وَمِيثَاقَه الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. أي : واذكروا ميثاقه وعهده الذي أخذه عليكم بالسمع والطاعة، والمراد بالميثاق هنا : هو الميثاق الذي أخذه عليهم، حين بايعهم الرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية، سنة ثلاث عشرة من النبوة على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر، والمنشط والمكره، كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت.
وإضافة الميثاق إليه – تعالى- مع صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكون المرجع إليه سبحانه وتعالى.
وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. أي : راقبوا الله فإنه عليم بخفايا نفوسكم فيجازيكم عليها.
وذات الصدور : تعبير مصور عن النيات التي اشتملت عليها الصدور.
أي : راقبوا الله في سركم وعلانيتكم وفي كل ما تأتون وما تأتون وما تذرون ؛ فهو سبحانه مطلع على السرائر، عليم بخفايا الصدور لا تخفى عليه خافية.
قوامين : أي : قائمين حق القيام.
بالقسط : بالعدل.
لا يجر منكم : لا يحملنكم.
شنآن : بغض وعداوة.
خبير : عالم بكل أمور على وجه الدقة.
التفسير :
٨- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ... الآية.
أي : كونوا مبالغين في الاستقامة بشهادتكم لله وصيغة قوام للمبالغة.
والآية توجيه من الله لعباده المؤمنين أن يكون دأبهم القيام لله بحقوقه، في أنفسهم بالعمل الصالح، وفي غيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
شُهَدَاء بِالْقِسْطِ. أن يؤدوا الشهادة بالعدل على وجهها الصحيح، من غير مراعاة لقرابة أو صداقة، ومن غير محاباة أو مجاملة.
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ. ولا يحملنكم بغض قوم أو عداوتهم- على ان تجوروا في حكمكم، أو تغيروا في شهادتكم.
اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. أي : أن العدل هو أقرب الطرق الموصلة إلى التقوى الله وخشيته، وأنسب الطاعات لها.
وَاتَّقُواْ اللّهَ. راقبوه في أعمالكم ؛ فالتقوى ملاك كل أمر.
إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. إن الله سبحانه وتعالى –عليم بدقائق أموركم وسيجازيكم عليها إن خيرا فخير، وغن شرا فشر.
٩-وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. تكفل الله بجزاء المؤمنين الذين قاموا بواجب الإيمان وقدموا الأعمال الصالحة بأن يغفر ذنوبهم ويجزل ثوابهم بالأجر العظيم. وهو وعد من الله العادل الذي لا يخلف وعده سبحانه المتفضل بالجزاء والثواب.
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. هؤلاء يستحقون عذابا شديدا في نار تتأجج يلازمونها ملازمة صاحب الدار لداره.
يبسطوا إليكم أيديهم : يبطشوا بكم.
فكف أيديهم عنكم : فمنعهم عن إيذائكم.
التفسير :
١٠- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ... الآية.
ورد في سبب نزول هذه الآية، ما رواه مسلم وغيره من حديث جابر- أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم بعسفان، قد قاموا إلى صلاة الظهر معا فلما صلوا، ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم. وهموا أن يوقعوا بهم، إذا قاموا إلى صلاة العصر بعدها ؛ فرد الله- تعالى- كيدهم، بأن أنزل صلاة الخوف وقد يكون هذا عندما هم المشركون بقتال المسلمين في عام الحديبية ١.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ. أي : اذكروا فضل الله عليكم بحفظه إياكم من أعدائكم.
إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ. أي : يبطشوا بكم بالقتل والهلاك.
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ. أي : عصمكم من شرهم، ورد أذاهم عنكم.
وَاتَّقُواْ اللّهَ بامتثال. أمره واجتناب نهيه. وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. أي : فليثق المؤمنون بالله فإنه كافيهم وناصرهم.
رواه مسلم في صلاة المسافرين (٨٤٠) من حديث جابر قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة فقاتلونا قتالا شديدا فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقالوا إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد فلما حضرت العصر قال صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة قال فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول فلما قاموا سجد الصف الثاني ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني فقاموا مقام الأول فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا وركع فركعنا ثم سجد معه الصف الأول وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعا سلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو الزبير ثم خص جابر أن قال كما يصلي أمراؤكم هؤلاء..
ميثاق : الميثاق : العهد المؤكد- بين طرفين- في شأن هام.
نقيبا : النقيب : هو كبير القوم، المعنى بشأنهم.
إني معكم : ناصركم ومعينكم.
عزرتموهم : آزرتموهم ونصرتموهم.
أقرضتم الله : أنفقتم في سبيل الله نفقة طيبة.
التفسير :
١٢-وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ... الآية.
بعد أن أمر الله- سبحانه وتعالى- بالوفاء بالعهد، وذكر المؤمنين بميثاقه الذي واثقهم به على السمع والطاعة- ذكر بعض ما صدر من بني إسرائيل من نقض العهود، وما كان من عقاب الله لهم عليها ؛ ليتعظ المؤمنين، ويعملوا على حفظ نعم الله- تعالى- بمراعاة حق الميثاق، وتحذيرهم من نقضه، فقال :
وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. أي : لقد أخذ الله العهد على بني إسرائيل : ان يعملوا بما في التوراة، ويقبلوها بجد ونشاط.
ولقد أخذ الله عليهم مواثيق فرعية تتصل بما كلفهم الله به، ومنها ما سيأتي في الآية التي معنا.
وقد سبق بيان بعض المواثيق التي أخذت عليهم ؛ في سورتي البقرة، وآل عمران. فارجع إليها وإلى شرحها إن شئت.
وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا. وأمر الله موسى عليه السلام : أن يختار منهم اثنى عشر رئيسا دينيا يتولون أمور الأسباط، ويقومون على رعايتهم، ففعل، وبعثهم يتحسسون العدو ليقاتلوه.
وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ. بالنصر والتأييد على أعدائكم. أو المراد منه : انه معهم بعلمه : يسمع كلامهم ويعلم ضمائرهم، وانه مجازيهم على ما يحدث منهم.
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ. أي : أديتموها حق أدائها.
وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ. أي : وأعطيتموها مستحقيها. من مال طيب. وكسب حلال.
وَآمَنتُم بِرُسُلِي. كلهم.
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ. نصرتموهم وجاهدتم الأعداء معهم.
وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا. أي : أنفقتم في سبيل الله ؛ عن طيب نفس دون من أو حب للفخر والرياء.
لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ : لأمحون ذنوبكم.
وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَار. أي : ولأدخلنكم- في الآخرة- جنات تجري من تحتها أشجارها الأنهار. تتنعمون فيها بما أعد لكم من النعيم.
وقد أكد الله- تعالى- وعيده بالقسم وغيره من التوكيدات ؛ ليحملهم على تنفيذ ما عاهدوا الله عليه.
فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ. أي : فمن كفر منكم- بعد ذلك الوعد بالنصر، وتكفير السيئات وإدخال الجنات، بأن نقض العهد والميثاق- فقد حاد عن الصراط السوي : الذي رسمه الله لهم ؛ كي يسيروا عليه.
لعناهم : اللعن : الطرد من الرحمة.
قاسية : شديدة غليظة، لا تقبل خيرا.
خائنة منهم : خيانة وغدر منهم.
التفسير :
ولكن بني إسرائيل لم يوفوا بعهدهم، ونقضوا الميثاق، الذي أخذه الله عليهم ؛ فعاقبهم الله تعالى، وفي ذلك يقول سبحانه :
١٣- فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ... الآية
تعرض الآية النتائج المترتبة على موقفهم من الميثاق. فتقول :
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ. أي : فبحسب نقضهم عهدهم المؤكد.
لَعنَّاهُمْ. أي : طردناهم من رحمتنا عقوبة لهم ؛ لأنهم قد فسدت فطرتهم.
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً. أي : أورثنا قلوبهم الغلظة والقسوة. فهي لا تلين، ولا تنفذ إليها الحجة، ولا تؤثر فيها الموعظة.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ. أي : يغيرون كلام الله في التوراة، بالمحو والإثبات والزيادة والنقصان، وسوء التأويل.
وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ. أى : وأعرضوا عن بعض ما أمروا به في التوراة، من إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به، وغير ذلك. وإنما قال : يحرفون، ولم يقل : حرفوا ؛ للدلالة على ان هذا الخلق طبع فيهم ؛ تتجدد آثاره آنا فآنا.
ولذا قال الله- تعالى- لنبيه عقب ذلك.
وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ. أي : إن الغدر والخيانة عادة مستمرة لليهود. منتقلة فيهم، من الأصول إلى الفروع. فلا تزال- أيها الرسول- تطلع من هؤلاء المعاصرين. على خيانة إثر خيانة. فهم قوم لا عهد لهم، ولا فاء عندهم.
لقد دمغتهم الكتب السماوية بالغدر والخيانة والقسوة، فرماهم نبيهم أرمياء بالكذب والسرقة والزنى والشرك. وأنهم حولوا بيت الله إلى مغارة لصوص ١
ورماهم السيد المسيح- عليه السلام- بأنهم مثل القبور المبيضة من الخارج، المليئة بالجيف من الداخل، ووصفهم بأنهم الحيات، أولاد الأفاعي. وأنهم قتلوا الأنبياء والحكماء وجعلوا بيت الله مغارة لصوص ٢.
الآيات القرآنية العديدة تؤيد هذه الصفات.
إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ. وهم من آمنوا بك، واتبعوك كعبد الله بن سلام وأمثاله من الذين آمنوا بالله ورسوله، فلا تظن بهم سوءا، ولا تخف منهم خيانة ؛ لأن الله طهرهم بالإسلام.
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ. فاعف عما فرط من هؤلاء اليهود، واصفح عمن أساء منهم وعاملهم بالإحسان ؛ تأليفا لهم، فلعل الله أن يهديهم.
إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وأنت أحق الناس بالاتصاف بالإحسان وإتباع ما يحبه الله.
٢ إنجيل متى: إصحاح: ٢٣ فقرة: ٢٧، ١٤، ١٣، ٢٣-٣٥..
نصارى : جمع نصران، كندمان وندامى، ولم يستعمل إلا بياء النسب، وقد صارت كلمة " نصراني " لقبا لكل من اعتنق المسيحية. قيل : لقبوا أنفسهم بذلك، على معنى أنهم أنصار الله. وقيل : نسبة إلى الناصرة بلدة بالشام، استقر بها المسيح بعد رجوع أمه به من مصر إلى الشام.
حظا : نصيبا أو مقدارا.
فأغرينا بينهم العداوة : أي : فألقينا بينهم العداوة.
التفسير :
١٤- وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ... الآية.
أي : ومن الذين ادعوا أنهم أنصار الله، وسموا أنفسهم بذلك. أخذنا منهم أيضا الميثاق وعلى توحيد الله والإيمان بمحمد رسول الله.
فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ.. أي : فتركوا ما أمروا به في الإنجيل من الإيمان بالأنبياء ونقضوا الميثاق.
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أي : ألزمنا وألصقنا بين فرق النصارى العداوة والبغضاء إلى قيام الساعة.
قال ابن كثير : ولا يزالون متباغضين يكفر بعضهم بعضا، ويلغي بعضهم بعضا، كل فرقة تمنع الأخرى دخول معبدها.
قال صاحب الظلال : لقد نسى النصارى جانبا من تعاليم السماء، نسوا الجانب الأساسي فيها، و هو التوحيد الذي تقوم عليه، وعند هذا الانحراف كان الخلاف بين طوائف النصارى التي لا تكاد تعد، إذ إن هنالك فرقا كثيرة صغيرة داخل كل فرقة من الفرق المعلومة الكبيرة :
الأرثوذكس، والكاثوليك، والبروتستانت، والمارون ؛ اليوم، ومن قبل كان اليعقوبيون، والملكانيون والنساطرة.
وهذه العداوة التي يشير إليها النص إنما جاءت من انقسام النصارى من قديم إلى فرق، نشأت من الانحراف عن التوحيد، وتفرقت بها السبل، وهي عداوة حقيقية شهدتها المسيحية منذ القرن الأول للميلاد، وكانت على أشدها بين الملكانية واليعاقبة والنساطرة، وهي اليوم على أشدها بين الفرق القائمة فلا يكاد الإنسان يتصور العداء الذي بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بينهم وبين الأرثوذكس أو بين الموارنة والبروتستانت أو سواهم ١.
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ. وسيجازيهم الله- يوم القيامة- بما صنعوا في الدنيا من نكث العهد، ونقض الميثاق، وتحريفهم الكتاب الذي أنزل عليهم.
نور : المراد به : محمد صلى الله عليه وسلم.
كتاب مبين : هو القرآن.
التفسير :
١٥- يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ.. الآية.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير، عن عكرمة أنه قال : إن نبي الله تعالى أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، فقال عليه الصلاة والسلام ؛ أيكم أعلم ؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام، والذي رفع الطور، وبالمواثيق التي أخذت عليهم، حتى أخذه أفكل :( رعدة ) فقال : إنه لما كثر فينا ؛ جلدنا مائة وحلقنا الرأس فحكم عليهم بالرجم، فانزل الله تعالى الآية.
وتفيد كتب أسباب النزول أن التوراة كانت فيها عقوبة الرجم وأن الزنى لما كثر في أشراف اليهود أمسكوا عن تطبيق هذه العقوبة، ثم زنى رجل وامرأة من اليهود ولجأ اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لينفذ حكم الله فيهما.
فطلب التوراة فأحضروها فوضعها الرسول الله صلى الله عليه وسلم على وسادة قال : آمنت بك وبمن أنزلك. واثبت لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن حكم الزاني المحصن هو الرجم، وان هذا الحكم سبق ان جاءت به التوراة.
أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ...
الخطاب لليهود والنصارى :
أي : يا معشر أهل الكتاب، قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الحق يبين لكم الكثير مما كنتم تكتمونه في كتابكم، من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة، وغير ذلك مما كنتم تخفونه. وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ. أي : يتركه ولا يبينه، وإنما يبين لكم ما فيه حجة على نبوته وشهادة على صدقه، ولو ذكر كل شيء لفضحكم.
قال في التسهيل : وفي الآية دليل على صحة نبوته ؛ لأنه بين ما أخفوه وهو أمي لم يقرأ كتبهم ١.
قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُور. وهو محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أنار الطريق، ووضح السبيل إلى الحق، قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا. ( الأحزاب : ٤٥-٤٦ )
وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. أي : كتاب واضح ظاهر الإعجاز وهو القرآن الكريم.
سبل السلام : طرق النجاة والسلامة.
التفسير :
١٦- يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ. يهدي الله- بهذا القرآن- من يطلب رضوانه ويبحث عنه، ويقفو أثره، يهديه إلى سبل السلام الروحي بالاطمئنان إلى عقيدة واضحة سليمة.
وإلى سبل السلام الديني فلا يكون سببا في تفرق الناس شيعا، وإلى سبل السلام الاجتماعي والإنساني.
وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ. أي : يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بتوفيقه وإرادته.
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صراط الله الواحد المستقيم، الذي لا يتشعب ولا يتعرج ولا تضل فيه الخطوات.
١٧- لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ... الآية
خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه الجنة وخلق حواء من آدم ؛ لتكون له مسكنا وأمنا.
فآدم مخلوق بدون أب وأم، وحواء من أب دون أم وعيسى من أم دون أب. قال تعالى : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. ( آل عمران : ٥٩ )
فقدرة الله على الخلق والإيجاد معروفة ملموسة، قال تعالى : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. ( يس : ٨٢ ).
وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ومن قدرة الله أن أتم خلق عيسى بواسطة نفخ جبريل في جيب درع مريم.
ولما كان خلق عيسى بدون أب، غلا في النصارى فزعموا أنه إله أو ابن الله، ولهذا القول الشنيع حكم القرآن عليهم بالكفر ورد عليهم بما يبطل عقيدتهم حيث قال :
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا...
أي : قل لأولئك الكفار- يا محمد- : من يقدر أن يمنع الله من شيء أراده.. ومن ذلك أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ؟.. لا أحد يستطيع ذلك... وهم يقرون به.
وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه- شيئا ؟ فكيف يكون إلها وهو لا يستطيع دفع الهلاك عن نفسه ؟.
يقول صاحب الظلال : العقيدة المسيحية انتهت إلى : أن يجعل المسيح هو الله- وإن كانت تقول : بالتثليت كذلك- باعتبارقولهم : الله الأب والله الابن، والله روح القدس، وتفسيرهم لهذا التعقيد بأن الله واحد ولكن الأقانيم ثلاثة موحدة في الله الواحد.. والإسلام يقول : فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا. فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله، وذات عيسى رسول الله، ويقيم التوحيد كاملا دقيقا واضحا لا يحتاج إلى تأويلات غامضة يعز على العقل قبولها ؛ لأنه يعز عليه تصورها من وراء تلك المعميات ١.
وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا. فهو سبحانه وحده له ملك جميع الموجودات، وله وحده التصرف المطلق فيها، إحياء وإماتة وإيجادا وإعداما فلا شريك له في ذلك.
يَخْلُقُ مَا يَشَاء. أي : يبدع ما يشاء من المخلوقات-على أي صورة- وفقا لحكمته جلا وعلا.
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وهو القادر على كل شيء من الخلق وغيره، ومن ذلك أنه خلق عيسى من غير أب كم خلق آدم من غير أب ولا أم.
روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان ابن آصا، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدى، فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله فيهم :
١٨-وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ١... الآية
أي : نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء، ونحن أحباؤه ؛ لأننا على دينه.
قال ابن كثير : أي : نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا.
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم. أي : قل لهم – يا محمد- : إن كنتم كما زعمتم : أبناء الله وأحباؤه، فلأي شيء يعذبكم بذنوبكم، وأنتم مقرون بأنكم ستعذبون على ما ارتكبتم من خطايا كما حكي القرآن عنهم :
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً. ( البقرة : ٨٠ ) وهذا يتنافى مع دعواكم القرب من الله ومحبته لكم ؟ ! وإذن فلا مزية ولا فضل لكم على سائر البشر ولستم بأبناء الله ولا بأحبائه.
قال صاحب الظلال : واليهود والنصارى يقولون : إنهم أبناء الله وأحباؤه فيزعمون لله تعالى بنوة- على تصور من التصورات إلا تكن بنوة الجسد فهي بنوة الروح، وهي أيا كانت تلقى ظلا على عقيدة التوحيد- ويزعمون أن الله تعالى صلة بالخلق، لا تنبع من قيانهم بالحق، ولكن تنبع من عواصف خاصة من الله لذوات اليهود والنصارى ٢.
بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ. أي : ما أنتم إلا بشر كسائر البشر من خلق الله، من غير مزية لكم عليهم.
يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء. أي : يغفر لمن يشاء. بما يعمله من الطاعات، ويعذب من يشاء. بما يقدمه من المعاصي، فالأمر كله موكول إلى سنته التي تسري على الجميع سواء، ولا تعترضها عواصف خاصة، ولا صلات شخصية، وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا. فهو مالك الجميع وخالق الجميع والمتصرف في الجميع، وهذه هي الصلة العامة التي ترتبط كل المخلوقات به، وَإِلَيْهِ الْمَصِير. وهو مصير البشر جميعا ومرجعهم إليه تعالى وحده فيجازي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وليس له-سبحانه وتعالى- من خلقه بنون ولا بنات وليس لأحد عنده من فضل أو مزية على غيره إلا بالإيمان والعمل الصالح.
وفي الأثر : الخلق كلهم عيال الله، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون عنده بالتقوى ويدركون ثوابه بالعمل الصالح. قال تعالى : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. ( الزلزلة : ٧-٨ ).
٢ في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ٦/٤٣..
فترة من الرسل : أي : بعد مدة خلت من الرسل.
التفسير :
١٩- يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِير...
أرسل الله محمد صلى الله عليه وسلم بعد فترة من انقطاع الرسل ؛ ليصحح أهل الكتاب دينهم ويرشدهم إلى الجادة والصواب.
وقد ولد صلى الله عليه وسلم سنة ٥٧٠ ميلادية.
ثم أنزل الله عليه الوحي والرسالة سنة ٦١٠ ميلادية.
ثم هاجر من مكة إلى المدينة سنة ٦٢٣ ميلادية.
ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى سنة ٦٣٣ ميلادية.
وكان عمره الشريف ٦٣ سنة.
أي : أن الفترة بين ميلاد المسيح وميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ستة قرون إلا قليلا.
قال ابن كثير : والمقصود أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وطموس السبل، و تغيير الأديان وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان قد ظهر في سائر العباد ١.
يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ. يوضح لكم ما اندرس من أحكام، ويبلغكم ما احتاج إليه العصر من شرع جديد، ويصحح ما حدث في كتبكم من تحريف.
روى البخاري عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال :
" أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي " ٢.
أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِير. أي : لئلا تحتجوا وتقولوا : ما جاءنا من بشير يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم البشير والنذير محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. ( الأحزاب : ٤٥ ).
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قال ابن جرير : أي : قادر على عقاب من عصاه وثواب من أطاعه.
٢ أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم:
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٤٤٣، ٣٤٤٢) ومسلم في الفضائل (٢٣٦٥) وابو داود في السنة (٤٦٧٥) (٢٧٢٤٠، ٢٧٤٦٨) من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني و بينه نبي..
ملوكا : أحرار، عندكم ما تملكون به من أموركم، بعد أن كنتم مملوكين للفراعنة.
التفسير :
٢٠-ِ و إذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ... الآية.
من شأن القرآن أن يلون في موعظة، وأن ينتقل القارئ من الخطاب إلى الغائب ؛ ترويجا للنفس وتنشيطا للذهن.
والمعنى : واذكر لهم- أيها الرسول- ما حدث من أسلافهم وقت أن قال موسى- عليه السلام- لقومه ناصحا لهم :
يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ. تذكروا إنعام الله عليكم، وموسى يذكرهم بألوان النعم التي تفضل الله بها عليهم. ومنها على سبيل المثال :
١- فجر الله لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء.
٢- أنزل الله عليهم المن والسلوى طعاما سائغا من أيسر سبيل.
٣- أرسل إليهم الرسل والأنبياء.
٤- فضلهم على عالمي زمانهم حين اتبعوا أمر التوراة والتزموا بتعاليم السماء.
٥- نجاهم من فرعون وأغرق فرعون وقومه.
٦- ملكهم شئون أنفسهم بعد أن كانوا عبيدا لفرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم فنجاهم منه وجعل أمر أنفسهم بأيديهم.
٧- أنزل التوراة على موسى وفيها الهداية والرحمة لهم.
إلى غير ذلك من النعم ؛ ومنها أيضا قصة البقرة التي أمروا بذبحها وضرب قتيل بذنبها فيقوم ويقول : قتلني فلان.
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا. أي : لأنه جعل فيكم أنبياء كثيرين، ولم يبعث في أمة من الأمم من الأنبياء مثل ما بعث في بني إسرائيل.
وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا. أي : جعلكم أحرارا تملكون أمر أنفسكم وأموالكم، بعد أن كنتم عبيدا مستذلين لفرعون وجنده.
وقال عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله : وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا.
قال : الخادم والمرأة و البيت.
وعنه قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار ؛ سمى ملكا. وقال الحسن البصري : هل الملك إلا مركب وخادم ودار، رواه ابن جرير.
وقال السدي في قوله : وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا، قال : يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله، وقد ورد في الحديث : " من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " ١.
وروى ابن جرير الطبري، أن رجلا قال لعبد الله بن عمرو بن العاص : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟.
فقال عبد الله له : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال نعم.
قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم.
قال : فأنت من الأغنياء.
فقال الرجل : إن لي خادما، قال : فأنت من الملوك.
وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ. وأعطاكم من النعم ما لم يعط غيركم من العالمين، إذ نجاكم من عدوكم، وشق البحر لكم، وأغرق فرعون وجنوده، وأظلكم بالغمام، وانزل عليكم المن والسلوى وغير ذلك.
رواه الترمذي في الزهد (٢٣٤٦) وابن ماجه في الزهد (٤١٤١) من حديث سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا: قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية وحيزت جمعت..
المقدسة : المعظمة، حيث جعلت مسكن الأنبياء.
ترتدوا على أدباركم : ترجعوا على أعقابكم : بعد امتثال ما أمرتم به.
التفسير :
٢١- يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ... أي : ادخلوا بيت المقدس وما حوله، ويقال لها : إيليا وتفسرها : بيت الله.
الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ. أي : قدر لكم دخولها ؛ لتنشروا التوحيد بين أهلها. وموسى بهذا يستحثهم على الجهاد والشجاعة والكرامة ؛ ليستردوا بيت المقدس من يد العماليق.
وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ. أي : ولا تنكصوا عن الجهاد، وقد حذر القرآن من التخلي عن الجهاد والفرار من الميدان، وعبر عن الفرار بصورة زرية، صورة إنسان يفر من الميدان ويعطي العدو دبره.
تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ، وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ( الأنفال : ١٥-١٦ ).
فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ. فترجعوا خاسرين في دنياكم وأخراكم.
قال في التسهيل : روى أنه لما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها، وهموا أن يرجعوا إلى مصر ١.
جبارين : جمع جبار وهو العاتي الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد منهم.
التفسير :
٢٢- قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون. أي : قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : إن الأرض التي وعدتنا بدخولها فيها قوم متغلبون على كل من يقاتلهم، ولا قدرة لنا على لقائهم- وهو الكنعانيون ومن جاورهم- وإنا لن ندخل هذه الأرض المقدسة ما دام هؤلاء الجبارون فيها.
فإن يخرجوا منها لأي سبب من الأسباب التي لا شأن لنا بها ؛ فإنا ندخلها دون حرب وقتال. وهذا مطلب عجيب، إذ كيف يخرج أهل البلد الأقوياء الجبارون من بلدهم طواعية، ليدخلها هؤلاء الجبناء فاتحين ١.
أي : قال رجلان من الذين يخافون الله، قد أنعم عليهما بنعمة التوفيق والسداد، والمراد بالرجلين : يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وكانا من الأننى عشر نقيبا.
ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ. أي : قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما : ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم، وباغتوهم بقتالكم إياهم، ولا تدعوا لهم فرصة للتفكير والاستعداد لكم.
فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ. فإذا فعلتم ذلك ؛ أحرزتم النصر عليهم وأدركتم الفوز، فإنه " ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ".
قال الزمخشري : فإن قلت من أين علما أنهم غالبون ؟ قلت : من جهة إخبار موسى بذلك، ومن جهة قوله تعالى : كتب الله لكم. وقيل : من جهة غلبة الظن وما تبيناه من عادة الله في نصر رسله، وما عهد من صنع الله لموسى في قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة ١.
وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. أي : اعتمدوا على الله في قتال أعدائكم بعد أخذ العدة وتوفير الأسباب فالتوكل أخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله تعالى، وبدون الأخذ بالأسباب يعتبر ذلك تواكلا، و التواكل مدعاة للهزيمة.
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. أي : إن كنتم مؤمنين بالله حق الإيمان مصدقين بوعده واثقين بنصره.
٢٤- قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا... الآية
أي : قالوا غير عابئين بالنصيحة، بل معلنين العصيان والمخالفة : يا موسى، إنا لن ندخل هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها في أي وقت من الأوقات مادام هؤلاء الجبارين يقيمون فيها ؛ لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم : فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ.
أي : فإن كنت مصمما على دخول الأرض المقدسة، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وإخراجهم منها- وكأنهم يصورون الله بأنه إله موسى وحده، وليس إلها للجميع- أما نحن فإنا هاهنا قاعدون منتظرون وهو تأكيد منهم لعدم دخول تلك الأرض.
أي : إنا هاهنا قاعدون في مكاننا لن نبرحه، ولن تتقدم خطوة إلى الأمام ؛ لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين، فنحن في غنى عنه ولا رغبة لنا فيه.
فافرق : فافصل.
الفاسقين : الخارجين عن الطاعة.
٢٥-قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. أي : قال موسى باثا شكواه وحزنه إلى الله، ومعتذرا إليه من فسوق قومه وسفاهتهم وجبنهم.
رب، إنك تعلم أني لا املك لنصرة دينك أمر أحد ألزمه بطاعتك سوى أمر نفسي، وامر أخي هارون، ولا أحد من هؤلاء الجبناء أستطيع أن احمله على الطاعة والاستجابة إلى ما دعوت إليه.
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. أي : إن قومي قد خرجوا عن طاعتي، وفسقوا عن أمرك وما دام هذا شأنهم ؛ فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل، بأن تحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون، فإنك أنت الحكم العدل بين العباد.
يتيهون في الأرض : يتحيرون ولا يهتدون.
فلا تأس : فلا تحزن.
التفسير :
٢٦-قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ... الآية.
يتيهون في الأرض من التيه وهو الحيرة، يقال : تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق، ووقع فلان في التيه أي : في مواضع الحيرة.
فَلاَ تَأْسَ. أي : فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن، يقال : أسى - كتعب- أي : حزن فهو أسين مثل حزين، وأسا على مصيبته- من باب عدا- أي : حزن.
أي : قال الله تعالى : يا موسى، إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة، يسيرون خلالها في الصحراء تائهين حيارى لا يستقيم لهم أمر ولا يستقر لهم قرار، جزاء جبنهم وضعفهم عن لقاء الأعداء، واستهانتهم بأوامر الله.
فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. فلا تحزن يا موسى على هؤلاء الجبناء، إذ عوقبوا بهذه العقوبة فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خروجهم عن طاعتنا، وتمردهم على أوامرنا، وجبنهم عن قتال أعدائنا، وسواء أدبهم مع أنبيائنا.
من تفسير الفخر الرازي :
جاء في تفسير الفخر الرازي ما يأتي :
اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أو لا ؟
فقال قوم : إنهما ما كان في التيه ؛ لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين،
ودعوات الأنبياء مجابة، ولان التيه كان عذابا والأنبياء لا يعذبون.
وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه، إلا أن الله سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما.. وإنهما قد ماتا في التيه وبقي يوشع بن نون- وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته- وهو الذي فتح الأرض المقدسة بعد انقضاء مدة التيه.
وقيل : بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة ١.
ملاحق تفسير الآيات :
١-يدعى اليهود أن الأرض المقدسة حق لهم بدليل قوله تعالى : ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم.
والجواب : أن الله كتب لهم دخولها بشرط الجهاد والطاعة، ولكنهم تثاقلوا عن الجهاد وامتنعوا عن دخول الأرض المقدسة بالجهاد والكفاح فحرمها الله عليهم.
قال الفخر الرازي : إن الوعد بقوله : التي كتب الله لكم. مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط ٢.
وبذلك ترى أن دعوى اليهود بان الأرض المقدسة ملك لهم، بدليل قوله تعالى : كتب الله لكم. لا أساس لها من الصحة، ولا يشهد لها عقل أو نقل.
٢- لماذا كانت مدة التيه ٤٠ سنة.
الجواب عن ذلك : أن بني إسرائيل قد نشأوا في الذل وتعودوا المهانة، ولذلك امتنعوا عن قتال الجبارين، وعن دخول الأرض المقدسة فكتب الله عليهم التيهان في قطعة محدودة من الأرض، لا يعرفون لهم هدفا أو مقرا، وأن يستمروا على تلك الحال ٤٠ سنة، حتى يفني جيل الذل والقهر وينشأ جيل عزيز قادر على المطالبة والتغلب.
ولقد كان بنو إسرائيل- في هذا الوقت- في سيناء- ثم إن اليهود لما دخلوا فلسطين- بعد هذه العقوبة- مكثوا فيها مدة محدودة، ثم أشركوا بالله، وأفسدوا في الأرض فسلط الله عليهم من ينتقم منهم ويطردهم من بيت المقدس.
٣_ من مقدمة ابن خلدون :
قال ابن خلدون : ويظهر من مساق قوله تعالى : قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ...
ومن مفهومه أن حكمة ذلك التيه مقصودة، وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر، وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب، ويظهر لك من ذلكم أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، فسبحان الحكيم العليم... ٣.
حكمة عقوبة التيه لبني إسرائيل :
جاء في تفسير المنار للسيد رشيد رضا ما يأتي :
" إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد و تساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها... وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطباع الخلفية، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت منك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه، ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر...
أفسد ظلم فرعون فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطبائع المهانة والذل. وقد أراهم الله-تعالى- من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى- عليه السلام- وبين لهم أنه أخرجهم من مصر ؛ لينقذهم من الذل إلى الحرية... ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنون إليها...
وكان الله- تعالى- يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده- تعالى- لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية... ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة وعدل. الشريعة، ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم.
وعلى هذه السنة العادلة أمر الله- تعالى- بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، فأبوا واستكبروا ؛ فأخذهم الله بذنوبهم. وأنشأ من بعدهم قوما آخرين...
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي ضربها الله لنا، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد. إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل لها " ٤.
خاتمة
في هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بذكر تاريخ اليهود وبيان عادتهم وعادات أسلافهم، ونكولهم عن الجهاد، وضعفهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم، مع أن بين أظهرهم كليم الله وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ٥.
قال الإمام ابن كثير : وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال قريش فقد قالوا فأحسنوا.
لقد قال المقداد بن الأسود : يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن نقول لك : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ٦.
٢ تفسير الفخر الرازي ١١/١٩٧..
٣ مقدمة ابن خلدون.. نقلا عن تفسير سورة المائدة د محمد سيد طنطاوي ص ١٥٠..
٤ تفسير المنار جـ ٦ ص ٣٣٧- بتصرف وتلخيص-..
٥ هذا المعنى مستخلص من تفسير الطبري وتفسير ابن كثير..
٦ إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل:
رواه البخاري في المغازي (٣٩٥٢) وفي التفسير (٤٦٠٩) وأحمد في مسنده (٣٦٩٠) من حديث ابن مسعود قال شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به أتي النبي صلى الله وهو يدعو على المشركين فقال لا نقول كما قال موسى (اذهب أنت وربك فقاتلا) ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره يعني قوله. ورواه أحمد في مسنده(١١٦١١) من حديث أنس قال لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر خرج فاستشار الناس فأشار عليه أبو بكر رضي اللهم عنهم ثم استشارهم فأشار عليه عمر رضي اللهم عنهم فسكت فقال رجل من الأنصار إنما يريدكم فقالوا يا رسول الله والله لا نكون كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) ولكن والله لو ضربت أكباد الإبل حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك..
واتل عليهم : واقرأ على اليهود والنصارى. أو على أمتك يا محمد.
نبأ ابني آدم : خبرهما.
قربانا : القربان : ما يتقرب به إلى الله من ذبيحة أو صدقة أو نحوهما.
التفسير :
٢٧- وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ...
- الضمير في عليهم. يعود على بني إسرائيل أو على جميع الذين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهدايتهم.
-والقربان : اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من صدقة أو غيرها، ويطلق في أكثر الأحوال على الذبائح التي يتقرب إلى الله تعالى بذبحها.
وخلاصة ما ذكرته كتب التفسير ١.
أن حواء أم البشرية كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، وكان آدم عليه السلام يزوج ذكر بطن لأنثى بطن آخر ولا يحل للذكر زواج توأمته.
فولد مع قبيل أخت جميلة وولد مع هابيل أخت دون ذلك ؛ فأبى قابيل إلا أن يتزوج توأمته لا توأمة هابيل، وأن يخالف سنة النكاح، وقال : أنا أحق بتوأمي من هابيل ولم يكترث بزجر أبيه إياه، فدعاهما آدم أن يقربا قربانا إلى الله، وذكر لهما أن من قبل الله قربانه فهو صاحب الحق في التزوج بالأخت الجميلة.
فقدم قابيل زرعا- وكان صاحب زرع- وقدم هابيل كبشا- وكان صاحب غنم فتقبل من أحدهما وهو هابيل، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل، وكانت علامة التقبل أن تأكل نار نازلة من السماء القربان المتقبل وتترك غير المتقبل ٢.
وتأكد بذلك حق هابيل في الزواج من توأم قابيل ؛ فحقد قابيل على هابيل وقتله، وكان ذلك أول قتيل على ظهر الأرض.
معنى الآية :
واتل- يا محمد- على اليهود أو على أمتك وعلى الناس جميعا خبر ابني آدام : قابيل وهابيل بالحق والصدق حين قدم كل منهما إلى الله قربانا، ولم يكونا على درجة واحدة من الإخلاص فيما تقربا به، فتقبل الله قربانا المخلص، ولم يتقبل قربان غيره ؛ فامتلأ قلبه غيظا وحسدا على أخيه التقى الذي قبل قربانه، مع أنه لا ذنب للتقي في رفض الله قربان الشقي ؛ لأن المذنب هو الشقي بعدم إخلاصه لله تعالى. ثم حكي سبحانه ما دار بين الأخوين :
قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أي : قال الشقي لأخيه التقي : والله لأقتلنك بسبب قبول قربانك. وقد أكد الشقي كلامه بلام القسم ونون التوكيد. قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أي : قال التقي لأخيه : إنه لا ذنب لي في قبول القربان، وإنما الذنب ذنبك في عدم إخلاصك وعدم تقواك وهذا هو السبب في رفض قربانك وقبول قرباني.
قال الزمخشري : فإن قلت كيف كان قوله : إنما يتقبل الله من المتقين جوابا لقوله : لأقتلنك. قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على نوعده بالقتل، قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني ؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان، وفيه دليل على أن الله تعالى- لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق.
٢ تفسير القرطبي ٦/١٢٠ نقلا عن أبي حيان..
بسطت : مددت.
التفسير :
٢٨- لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أي : تالله لئن مددت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ؛ لأنني أخاف عقوبة الله رب العالمين إن أنا قتلتك، والآية الكريمة تصور ما بين الأخيار والأشرار من تضاد، فقابيل مصمم على قتل أخيه، وهابيل مصمم على عدم العدوان ؛ خوفا من الله منشئ الكون وصاحب النعم وهو سبحانه حرم قتل النفس، لقد كان هابيل حكيما في تحرك كل معاني الخير في نفس قابيل وتذكيره بأن القاتل لا يخاف الله، ولا يمتثل أمره.
جاء في تفسير الألوسي :
قيل : كان هابيل أقوى من قابيل، ولكنه تحرج عن قتله واستسلم له ؛ خوفا من الله تعالى ؛ لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت، وفي تلك الشريعة. أو تحريا لما هو الأفضل، والأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا.
تبوء : ترجع.
بإثمي وإثمك : بذنبي وذنبك
التفسير :
٢٩- إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ.
هابيل بهذه الآية يتوج نصائحه السابقة فقد نصحه ولون في عرض نصائحه على النحو الآتي :
أولا : أرشده إلى أن الله تعالى يتقبل الأعمال من المتقين لله الممتثلين لأمره.
ثانيا : أرشده إلى حقوق الأخوة وما تقتضيه من مودة وتسامح.
ثالثا : بين له انه لا يمنعه من بسط يده إليه بالقتل إلا الخوف من الله رب العالمين.
رابعا : أرشده إلى أن ارتكابه لجريمة القتل سيؤدي به إلى عذاب النار يوم القيامة بسبب قتله لأخيه ظلما وحسدا.
ومعنى الآية :
إني أريد باستسلامي لك وعدم قتلك- ابتداء أو دفاعا- أن ترجع بإثم قتلك لي، وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك، وإذا أصررت على قتلى، ولم تخف رب العالمين، فإنك ستكون بذلك من أصحاب النار الملازمين لها، وهذا عقاب الظالمين المعتدين.
وهو يريد بكل ذلك أن يوقظ ضميره، وأن يعلمه بالمصير المحزن الذي ينتظر القاتلين وأنه لا ينبغي لأخ أن يقاتل أخاه.
فطوعت : فسهلت ويسرت.
التفسير :
٣٠-فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
أي : سهلت له نفسه العدوان والقتل. فقتل شقيقه ظلما عمدا فأصبح من الخاسرين في الدنيا ؛ لقتله الأخ الذي يجب أن يحميه ويدافع عنه، وأصبح من الخاسرين في الآخر لارتكابه جريمة القتل وإزهاق الروح.
وفي الأثر : الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيان الله.
والآية تصور صراع النفس أمام هذه الحادثة، فالحسد والعدوان يدعوانه إلى القتل، ولكن الضمير ودواعي الخير يحذرانه من القتل، بيد أن النفس الأمارة بالسوء يسرت له العدوان، وهونته عليه حتى اقترف جريمة القتل.
قال القرطبي :
قوله : فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ. أي : سولت وسهلت نفسه له الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل، يقال : طاع أي : سهل وإنقاد " وطوعه فلان له أي : سهله " ١.
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. لقد خسر الدنيا بقتل أخيه وشقيقه الذي هو رحم يجب أن يصلها، وخسر الآخرة ؛ لأن القاتل عمدا يصلى جهنم يتلظى بعذابها.
قال الألوسي : أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لا تقتل نفس ظلما ؛ إلا كان على ابن آدم الأول كفل في دمها ؛ لأنه أول من سن القتل " ٢.
وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر- رضي الله عنه- قال : إنا لنجد ابن آدم القاتل، يقاسم أهل النار العذاب، عليه شطر عذابهم ٣.
٢ لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم:
البخاري في الأنبياء ٣٣٣٦، وفي الديات ٦٨٦٧، وفي الاعتصام ٧٣٢١، مسلم في القسامة ١٦٧٧، الترمذي في العلم ٢٦٧٣، النسائي في تحريم الدم ٣٩٨٥، ابن ماجه في الديات ٢٦١٦، وأحمد ٤١١٢، ٤٠٨١، ٣٦٢٣..
٣ تفسير القرطبي ٦/١١٥..
يبحث في الأرض : أي : يحفر في الأرض.
سوءة أخيه : السوءة في الأصل : العورة. والمراد بها هنا : جسد أخيه الذي قتله.
يا ويلتا : كلمة جزع وتحسر، والويلة والويل بمعنى : الهلكة. كأنه ينادي هلاكه ليحل به ؛ لينقذه مما حل به من الدواهي.
التفسير :
٣١- فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ...
تحير القاتل بعد أن ارتكب جريمته، ورأى جثة أخيه أمامه في العراء، معرضة لنهش السباع والطيور، ولم يكن الدفن معروفا للبشرية قبل هذه الحادثة، التي راح ضحيتها- لأول مرة- إنسان كان مملوءا حيوية ونشاطا، فأصبح جثة هامدة، يتسرب إليها العفن، ويسرع إليها النتن ويؤدي ريحها الأنوف.
فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ. أي : يحفر وينبش بمنقاره ورجليه متعمقا في الأرض.
لِيُرِيَهُ. أي : ليعلم ذلك القاتل ويعرفه.
كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ. كيف يستر في التراب جسم أخيه بعد أن فارقته الحياة.
قال القرطبي : قال المجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم حفر فدفنه ؛ فتعلم قابيل ذلك من الغراب، وكان ابن آدم هذا أول من قتل ١.
قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي. أي : فنادى قابيل متحسرا جزعا يا ويلتا، وكلمة : يا ويلتا : أصلها يا ويلتي، وهي كلمة جزع وتحسر تستعمل عند وقوع المصيبة العظيمة، كأن المتحسر ينادي ويلته ويطلب حضورها بعد تنزيلها منزلة من ينادي.
أي : قال القاتل لأخيه ظلما : يا فضيحتي، ويلتي أقبلى، فهذا وقتك ؛ لأني قد نزلت بي أسبابك. والتفت قابيل للغراب قال :
أضعفت عن الحيلة التي تجعلني مثل هذا الغراب، فأستر جسد أخي في التراب كما دفن الغراب بمنقاره ورجليه في الأرض ما أراد دفنه.
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. أي : ندم قابيل على قتل أخيه بعد ما رأى وعاش في آثار جريمته، قال صاحب المنار : والندم الذي ندمه قابيل، هو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر من الخطأ في فعل فعله، إذا ظهر له ان فعله كان شر له لا خيرا، وقد يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله، والتألم من تعدي حدوده، وهذا هو المراد بحديث " الندم توبة " ٢.
وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه، فلا يعد وحده توبة ٣.
٢ الندم توبة:
رواه ابن ماجه في الزهد (٤٢٥٢) وأحمد في مسنده (٤٠٠٢، ٣٥٥٨) من حديث ابن معقل قال دخلت مع أبي علي عبد الله فسمعته يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الندم توبة فقال له أبي أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول توبة قال نعم قال العراقي في تخريج الإحياء: أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود، ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين قال المناوي في الفيض: قال في شرح الشهاب هو حديث صحيح وقال ابن حجر في الفتح حديث حسن..
٣ تفسير المنار ٦/٣٤٧..
من أجل ذلك : أي : بسبب ذلك.
بالبينات : بالحجج الواضحات.
لمسرفون : لمجاوزون الحد في الطغيان.
التفسير :
٣٢- مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا... الآية
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. أي : من أجل المذكور في تضاعف قصة بني آدم، أو من أجل فظاعة القتل ظلما وسوء آثاره في الدنيا والآخرة قضينا وأوجبنا على بني إسرائيل في كتابهم أنه أي : الحال والشان من قتل نفسا. واحدة من النفوس الإنسانية بغير نفس. توجب القصاص. أو بغير فساد في الأرض يوجب القصاص كالردة وزنى المحصن، وقيل : الفساد في الأرض : قطع الطريق، وسفك الدماء، وهتك الحرم، ونهب الأموال والبغي على عباد الله بغير حق، وهدم البنيان وتغوير الأنهار.
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. إذ النفس الواحدة تمثل النوع الإنساني كله، فالجرأة على قتل نفس بغير حق عدوان على الجنس الآدامي كله، وعن مجاهد قال : المعنى : أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم، وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، فلو قتل الناس جميعا لم يزد على هذا.
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. أي : ومن أحيا نفسا ليس عليها قصاص ولا حد بأن أنقذها من التهلكة أو الغرق أو الحرق أو الهدم، أو عفا عمن وجب قتله أو حال دون قتل نفس ظلما بالنصيحة أو القوة.
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. أي : وجب على الكل شكره، وقيل : كأنما أحيا الناس جميعا في الأجر. وفي هذه الاية الكريمة أسمى ألوان الترغيب في صياتة الدماء و حفظ النفوس من العدوان عليها، حيث شبه سبحانه قتل النفس الواحدة بقتل الناس جميعا وإحياءها بإحياء الناس جميعا.
وبعض المفسرين يرى أن المراد بالنفس الواحدة، نفس الإمام العادل ؛ لان القتل في هذه الحالة يؤدي إلى اضطراب أحوال الجماعة، وإشاعة الفتنة فيها.
قال القرطبي : روى عن ابن عباس أنه قال : من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا ١. وجمهور المفسرين على عموم معنى الآية وشمولها لكل نفس إنسانية.
وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ. أي : ولقد جاءت رسلنا لبني إسرائيل بالآيات البينات، والمعجزات الواضحات.
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ. أي : بعد الذي كتبناه عليهم من الشرائع، وبعد مجيء الرسل إليهم بالبينات.
فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ. أي : مسرفون في قتل الناس غير مبالين به، وفائدة ذكر في الأرض. لتوضيح أن إسراف بني إسرائيل في القتل والمعاصي لم يكن فيما بينهم فحسب، بل انتشر شره في الأرض، ونحن إلى الآن نشاهد أصابع اليهود وراء انواع القتل والاغتيال، وإثارة الفتن والحروب بين الناس.
ولا يزالون يسرفون في القتل ويفسدون في الأرض، ونسمع الآن ثورة أطفال الحجارة، وعدوان اليهود على العرب والمسلمين في فلسطين مع إسراف في القتل وعدوان على الأطفال الأبرياء.
وسيأتي في الآية ٦٤ من سورة المائدة قوله تعالى :" كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
ملاحق بتفسير الآية
١- خص الله بني إسرائيل بالذكر في هذه الآية ؛ لكثرة سفكهم للدماء، وقتلهم الأنبياء، ولأن الحسد كان منشأ جريمة القتل، والحسد غالب عليهم.
٢- قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت : كيف شبه الواحد بالجميع، وجعل حكمه كحكهم ؟ قلت : لأن كل إنسان يدلي بما يدلي به الآخر من الكرامة على الله، وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله، وهتكت حرمته، وعلى العكس فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك.
يحاربون الله ورسوله : المحارب ؛ من يحمل السلاح على الناس في البر أو البحر أو الجو، دون إثارة منهم له. والمغتال كالمحارب. ويشمل القراصنة في البر والبحر والجو، كقطاع الطرق...
ويسعون في الأرض فسادا : أي تمردا على ما شرعه الله من الأمن والطمأنينة للإنسانية كلها.
أو ينفوا من الأرض : المقصود بالأرض ؛ الأرض التي يكتسبون فيها نفوذا حراما.
ينفون منها إلى حيث لا نفوذ لهم، ولو سجناء شلا للجريمة.
التفسير :
٣٣- إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا... الآية
لما بين الله- قبل هذه الآية- أن قتل النفس الواحدة له خطورته عند الله تعالى، وأنه يعتبر- عنده- كقتل الناس جميعا، أتبع ذلك هذه الآية الكريمة، التي تضمنت من التشريع، ما يردع المعتدي الأثيم، ويكفه عن ترويع الناس والإفساد فيما بينهم. فقال تعالى : إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ.
والآية نزلت في قطاع الطريق : كما قاله كثير من المفسرين والفقهاء، وأصحاب الرأي.. نقل ذلك الطبرسي وغيره.
والمقصود من محاربتهم الله ورسوله : قطعهم الطريق على الناس، وإفسادهم في الأرض وترويع الآمنين.
وجعل عملهم هذا حربا لله ورسوله ؛ إنما هو لتمردهم على ما شرعه الله سبحانه وتعالى، من وجوب الكف عن إيذاء الناس، وتوفير أسباب الأمن والسلام لهم.
المعنى : أفادت الآية، أن الذين يسعون في الأرض فسادا، بقطعهم الطريق على الناس ؛ يسلبونهم أموالهم أو أعراضهم أو يقتلونهم، أو يقطعون أطرافهم- يعاقبون بتقتيلهم أو تصليبهم ١ أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو نفيهم من الأرض.
وبيان ذلك في مسائل :
١- أن وصف المحارب لله ولرسوله، يطلق على من حمل السلاح على الناس في مدينة أو قرية، أو في طريق أو صحراء، وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم، دون إثارة منهم له، أو ثأر أو عداوة.
٢- أن المغتال كالمحارب، وهو أن يحتال في قتل إنسان ؛ ليأخذ ماله وإن لم يشهر السلاح. بأن دخل عليه بيته، أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله، فيقتل حدا لا قودا أي : يقتل قصاص.
٣- اختلف العلماء في حكم المحارب. فمنهم من قال : يعاقب بقدر ما فعل. فمن أخاف السبيل وأخذ المال ؛ قطعت يده ورجله من خلاف. وإن اخذ المال وقتل ؛ قطعت يده ورجله ثم صلب وقتل. فإذا قتل ولم يأخذ المال ؛ قتل. وإن لم يأخذ المال ولم يقتل ؛ نفي. وبهذا قال النخعي، وعطاء وغيرهم.
وقال أبو يوسف : إذا أخذ المال وقتل ؛ صلب وقتل على الخشبة.
قال الليث : بالحربة : مصلوبا.
قال أبو حنيفة : إذا قتل ؛ قتل. وإذا أخذ المال ولم يقتل ؛ قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل ؛ فالسلطان مخير فيه : إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه.
وقال الشافعي : إذا اخذ المال ؛ قطعت يده اليمنى، وحسمت ٢ ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت. وخلي سبيله ؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة.
وإذا قتل، قتل، وإذا أخذ المال وقتل ؛ قتل وصلب.
وروى عنه أنه قال : يصلب ثلاثة أيام، وأنه يكره أن يقتل مصلوبا، بل يصلب بعد القتل ؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة. ٣ وبمثل قوله قال أحمد.
وقال أبو ثور : الإمام مخير على ظاهر الآية. وكذا قال مالك وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي كلهم قال :
الإمام مخير في الحكم على المحاربين ؛ يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى ؛ من القتل والصلب، أو القطع، أو النفي ؛ أخذا بظاهر الآية.
وروى عن ابن عباس، أنه قال : إن كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار. وهذا هو الأظهر، وهو ما نرجحه.
٤- النفي من الأرض : اختلف في معناه :
فعن الشافعي : أنهم يخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود. وبه قال الليث ابن سعد، والزهري.
وقال مالك : ينفي من البلد الذي احدث فيه الحرابة إلى غيره،
ويحبس فيه كالزاني.
وقال الكوفيون : نفيهم : سجنهم... فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها.
حكي مكحول عن عمر قال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة. ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم.
قال القرطبي : والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة- أي : مكان الجريمة- ثم قال : ينبغي للإمام- إذا كان هذا المحارب مخوف الجانب ؛ يظن أن يعود إلى حرابة، أو إفساد- أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه. وإن كان غير مخوف الجانب ؛ سرح.
قال ابن عطية : وهذا صريح مذهب مالك، أن يغرب ويسجن حيث يغرب. وهذا على الأغلب في انه مخوف. ورجحه الطبري ؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد، بحسب الخوف منه.
فإن تاب وفهمت توبته ؛ سرح.
٥- لا يراعي في المال الذي يأخذه المحارب نصاب، كما يراعى في السارق. وقيل : يراعي أن يكون ربع دينار. وهو نصاب القطع.
قال ابن العربي : قال الشافعي، وأصحاب الرأي : لا يقطع من قطاع الطريق، إلا من اخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق.
قال مالك : يحكم عليه بحكم المحارب. وهو الصحيح ؛ لأن الله تعالى- وقت على لسان نبيه القطع في السرقة، في ربع دينار. ولم يوقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء- على المحاربة- عن حقه.
ثم إن هذا قياس أصل على أصل. وهو مختلف فيه. وقياس أدنى على أعلى. وذلك عكس القياس وكيف يقاس المحارب على السارق. وهو يطلب خطف المال، فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه، أو صيح عليه وحارب عليه، فهو محارب ؛ يحكم عليه بحكم المحارب.
قال القاضي ابن العربي : كنت في أيام حكمي بين الناس : إذا جاءني أحد بسارق- وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل- حكمت فيهم بحكم المحاربين.. فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين. ١ه.
نقول : وهذا ما يمسيه علماء القانون : " سرقة بالإكراه ".
وفي المسألة أحكام عظيمة، وتفاصيل نفسية ينبغي لأهل القضاء أن يعرفوها ؛ ليطبقوها على الذين يعيثون في الليل والنهار فسادا.
فليتعرفها هؤلاء القضاة من مظانها في كتب التفسير المطولة. المعنية بأحكام القرآن، وفي كتب الفقه.
ولينفذوها في أولئك المحاربين لله ورسوله ؛ قطعا لدابرهم.
ثم ختم الله الآية بقوله :
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. أي : ذلك الذي مر من جزاء المحاربين، خزي وذل وفضيحة لهم في الدنيا.. ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
وإنما بولغ في جزاء قطاع الطريق ؛ لأنهم يسدون سبيل الكسب والتجارة على الناس، ويلزمونهم البيوت، ويقطعون الأرزاق عن عباد الله، ويروعونهم في مآمنهم، فلذا شرع لهم أشد العقاب، قطعا لدابرهم.
٢ الحسم: الكي لمنع سيلان الدم..
٣ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة:
رواه البخاري في المظالم (٢٤٧٤) وفي الذبائح (٥٥١٦) وأحمد في مسنده (١٨٢٦٥) من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النهبي والمثلة. ورواه النسائي في تحريم الدم (٤٠٤٧) من حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة و ينهى عن المثلة. ورواه أبو داود في الجهاد (٢٦٦٧) من حديث الهياج بن عمران أن عمران أبق له غلام فجعل الله عليه لئن قدرعليه ليقطعن يده فأرسلني لأسأل له فأتيت سمرة بن جندب فسألته فقال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة فأتيت عمران بن حصين فسألته فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة. ورواه أحمد في مسنده (١٧٦٨٦) من حديث المغيرة بن شعبة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة..
أفادت هذه الآية : أن توبة المحاربين- بعد القدرة عليهم- لا تنفعهم، بل لا بد من أن تقام عليهم الحدود التي وجبت في الآية السابقة.
أما إن تابوا قبل القدرة عليهم وإمساكهم ؛ فإن حق الله يسقط عنهم، بقوله تعالى : فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أما حقوق الآدميين من قصاص وغيره، فلا تسقط بالتوبة، فإن شاءوا عفوا، وإن شاءوا استوفوا منهم حقوقهم، قصاصا عادلا.
وابتغوا : واطلبوا.
الوسيلة : هي ما يتوسل به، ويتقرب إلى الله من فعل الطاعات، وترك المعاصي.
التفسير :
٣٥- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ... الآية.
أي : راقبوا الله تعالى في أقوالكم وأعمالكم وتقربوا إليه بالعمل الصالح، " والوسيلة : هي القربة، وهي فعلية من توسلت إليها أي : تقربت، قال عنترة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة | أن يأخذوك تكحلى وتخضبي |
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا | وعاد التصافي بيننا والوسائل ١ |
" من قال حين يسمع النداء- أي : الأذان- : اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة " ٢
والآية أرشدت المسلمين إلى الأمور الآتية :
١- تقوى الله وطاعته والتزام أوامره واجتناب نواهيه.
٢- التقرب إليه بما يرضيه.
٣- الجهاد في سبيله.
ثم رتبت على ذلك الفلاح و الفوز والنجاح، حيث قال سبحانه وتعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وقد أطال الآلوسي في تفسير هذه الآية الكريمة، وكتب قرابة خمس صفحات، يوضح فيها أن الوسيلة ليست الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد.
فطلب الدعاء من الأحياء جائز، والتوسل بهم إلى الله تعالى جائز، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعمر بن الخطاب. " لا تنسنا يا أخي من دعائك " ٣
ونقل الآلوسي كلاما طويلا خلاصته أن التوسل لا يكون إلا بالأحياء، ولم يرد عن أحد من الصحابة أنه طلب من ميت شيئا، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر رضي الله عنه- كان إذا أقحطوا ؛ استسقى بالعباس رضي الله عنه فقال :
" اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك- صلى الله عليه وسلم- فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا ؛ فيسقون ". ٤
وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أي : وجاهدوا أنفسكم بكفها عن الأهواء، وكذلك جاهدوا أعداءكم ؛ حتى تكون كلمة الله هي العليا، رجاء أن تفوزوا بالفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
٢ اللهم رب هذه الدعوة التامة:
رواه البخاري في الأذان (٦١٤) وفي التفسير (٤٧١٩) وأبو داود في الصلاة (٥٢٩) والترمذي في الصلاة (٢١١) والنسائي في الأذان (٦٨٠) وابن ماجه في الأذان (٧٢٢) وأحمد في مسنده (١٤٢٠٩) من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة..
٣ لا تنسنا يا أخي من دعائك:
رواه أبو داود في الصلاة (١٤٩٨) والترمذي في الدعوات (٣٥٦٢) وابن ماجه في المناسك (٢٨٩٤) وأحمد في مسنده (١٩٦) من حديث عمر رضي الله عنهم قال استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي وقال لا تنسنا يا أخي من دعائك فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا قال شعبة ثم لقيت عاصما بعد بالمدينة فحدثنيه وقال أشركنا يا أخي في دعائك. قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد وأو يعلى وفيه عاصم بن عبيد الله بن عاصم وفيه كلام كثير لغفلته وقد وثق..
٤ اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك:
رواه البخاري في الجمعة (١٠١٠) وفي المناقب (٣٧١٠) من حديث أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب رضي اللهم عنهم كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون..
إن الذين كفروا لو أن لكل واحد منهم منفردا ما في الأرض- جميعا- من أموالها وزروعها وكنوزها ونفائسها ومنافعها- وضعفه معه- وقدموا كل ذلك ؛ ليخلصوا به أنفسهم من عذاب يوم القيامة، ما قبله الله منهم ؛ لأن سنته قد اقتضت أن تكون نجاة الإنسان من العذاب يوم القيامة متوقفة على الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، ولهم عذاب أليم شديد الإيلام.
قال الفخر الرازي : والمقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم ؛ فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص.
روى البخاري عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتي بالرجل من اهل النار فيقال له : يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك ؟ فيقول : شر مضجع، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم، فيقال له : قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك : ألا تشرك بالله شيئا، فيؤمر به إلى النار " ١
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٣٣٤) وفي الرقاق (٦٥٥٧، ٦٥٣٨) ومسلم في صفة القيامة (٢٨٠٥) وأحمد في مسنده (١١٩٠٣) من حديث أنس يرفعه إن الله يقول لأهون أهل النار عذابا لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به قال نعم قال فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك..
" وهذه الآية خاصة بالكافرين كما يفيده نصها، أما المسلمون المذنبون، الذين أدخلوا النار بسبب معاصيم فإنهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة " ١.
وجاء في تفسير القرطبي : قيل لجابر بن عبد الله : إنكم يا أصحاب محمد تقولون : إن قوما يخرجون من النار والله تعالى يقول : وَمَا هُم بِخَارِجِينَ منها. فقال جابر : إنكم تجعلون العام خاصا، والخاص عاما، إنما هذا في الكفار خاصة، فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة. ٢.
أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة " ٣.
٢ تفسير القرطبي ٦/١٥٩ طبعة دار الكتب المصرية..
٣ يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة:
رواه مسلم في الإيمان (١٩١) وأحمد في مسنده (١٤٤١٤) من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلوا الجنة. ورواه البخاري في الرقاق (٦٥٥٩) وأحمد في مسنده (١٣٤٢٧) من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين. ورواه البخاري في الرقاق (٦٥٦٦) وأبو داود في السنة (٤٧٤٠) من حديث عمران بن حصين رضي اللهم عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم قال يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة يسمون الجهنمين..
نكالا من الله : أي : عقابا من الله، ينكل به السارق، أي : يردع عن معاودة السرقة، ويحذر به هو وغيره من فعلها.
قال صاحب القاموس : النكال : ما نكلت به غيرك كائنا ما كان.
وقال أيضا : ونكل به تنكيلا : صنع به صنيعا بحذر غيره.
والله عزيز : أي : غالب، فلا يفوته المعتدون.
حكيم : في شرع هذا الحد ؛ لما فيه من الردع.
التفسير :
٣٨- وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
بعد أن بين حكم قاطع الطريق، تكلم عن عقوبة السارق والسارقة، وفي سورة النور بدأ الله بالزانية فقال تعالى :
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ماِئَةَ جَلْدَةٍ. لأن الزني من المرأة أفحش، ولان الحبل يظهر منها، ولأن أسرتها تصيبها المعرة، ولأن شهوة الاستمتاع على النساء أغلب، وحب المال على الرجال أغلب، والرجل على السرقة أجرأ ١ فناسب أن يبدأ في السرقة بالرجل، وفي الزنى بالمرأة.
والسارق : هو الذي يأخذ مال غيره خفية من حرز مثله، ولا شبهة له فيه، دون طعن بسلاح أو تهديد به، فإن طعن بسلاح أو هدد به- وهو ما يعرف الآن : بالسطو المسلح- فحكمه حكم قاطع الطريق، الذي يسعى في الأرض فسادا.
ولا يعاقب السارق هذا العقاب إلا إذا كان بالغا عاقلا، غير مالك للمسروق منه ولا ولاية له عليه ؛ فلا تقطع يد صبي ولا مجنون، ولا يد سيد أخذ مال عبده، ولا يد عبد سرق مال سيده بإجماع الصحابة، ولا يقطع الوالدان بسرقة مال ولدهما ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم " أنت ومالك لأبيك " ٢ وقيل : تقطع يد الابن إذا سرق ما أبوبه. والراجح أنه لا يقطع لأن الابن ينبسط في مال أبيه كالعادة.
وإذا استكمل هذه الشروط ؛ فلا تقطع يده إلا إذا سرق ما قيمته ربع دينار.
روى الشيخان عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " ٣.
وقال أبو حنيفة وصاحباه والثورى : لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا، أو دينارا ذهبا أو وزنا، ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل، وحجتهم حديث ابن عباس قال : قوم المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم، ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم، أخرجهما الدارقطني وغيره.
ومن العلماء من قال : لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم، و منهم من قال : لا تقطع اليد إلا في أربعة دراهم، ومنهم من قال : لا تقطع اليد إلا في ثلاثة دراهم، ومنهم من قال : تقطع اليد في كل ما له قيمة على ظاهر الآية، وهو قوم الخوارج.
قال القرطبي : وهذه الأقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك. اه.
إن التضخم، وتدني قيمة النقود، تجعل رأي الحنفية أولى بالاعتبار.
روى ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " ٤.
وعلى الحاكم أن يتثبت بعناية من واقعة السرقة، وظروفها ودواعيها، وان يعدل عن القطع عند وجود شبهة.
وتقطع يد السارق اليمنى من الكوع عند المفصل الذي بين الساعد والكف. فإن سرق ثانيا ؛ قطعت رجله اليسرى من مفصل الرجل.
فإن سرق ثالثا ؛ قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعا ؛ قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك عزر بما يراه الحاكم رداعا مانعا، وروى عن أحمد انه لا تقطع اليد اليسرى ولا الرجل اليمنى وهو قول أبي بكر وعمر وأبي حنيفة، وروى عنه أنها تقطع، وبه قال مالك والشافعي ٥.
وقال عطاء : تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع، وذكره ابن العربي وقال : أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافا ٦.
وتثبت السرقة بالبينة والإقرار.
ملاحظة :
يرى بعض الفقهاء أن جاحد العارية تقطع يده كالسارق، وأكثر الفقهاء يرون أنه لا قطع عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا قطع على خائن " ٧.
أما من ذهب إلى أن جاحد العارية تقطع يده كالسارق فقد استدل بما رواه الشيخان عن عائشة قالت : كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : " لا أراك تكلمني في حد من حدود الله تعالى، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا وقال : " إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " ٨
قال : فقطع يدها.
وجاء البخاري أنها سرقت، وجاء في مسلم أن المرأة المذكورة كانت تستعير المتاع وتجحده. وقد توسع العلماء والفقهاء والمفسرون في تفسير هذه الآية وخصوصا التفاسير التي عنيت بالأحكام الفقهية، ومثال ذلك أن القرطبي بين أن هذه الآية فيها سبع وعسرون مسألة كتبها في ١٥ صفحة ومن نماذج تفسير القرطبي ما يأتي :
المسألة الثانية عشرة : قوله تعالى : فاقطعوا. القطع معناه : الإبانة والإزالة، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه وفي صفته.
١- فأما ما يعتبر في السارق فأربعة أوصاف وهي : البلوغ، والعقل، وأن يكون غير مالك المسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية ؛ فلا يقطع العبد إن سرق مال سيده، وكذلك السيد إن اخذ مال عبده لا قطع بحال، ولا قطع على صبي ولا مجنون.
٢- وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فثلاثة أوصاف :
( أ ) النصاب
( ب ) أن يكون مما يتمول ويتملك ويحل بيعه.
( ج ) ألا يكون للسارق فيه ملك كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره.
٣- وأما ما يعتبر في موضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق.
وجملة القول فيه : أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه، فالدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا.
والقبر والمسجد حرز لما فيهما، والخزانة في مكاتب الناس- أو الحكومة- حرز لما فيها، وظهور الدواب حرز لما تحمل ٩.
فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا. والخطاب هنا لولاة الأمر الذين يرجع إليهم تنفيذ الأحكام والحدود. وجمع سبحانه اليد فقال : أيديهما. ولم يقل : يديهما بالتثنية ؛ لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية.
قال القرطبي :
قوله تعالى : جَزَاء بِمَا كَسَبَا. مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا، وكذا : نَكَالاً مِّنَ اللّهِ. اه وفيه بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت.
أي : اقطعوا أيديهما جزءا لهما بسبب فعلهما الخبيث، وكسبهما السيئ وخيانتهما القبيحة، ولكي يكون هذا القطع لأيديهما نكالا. أي : عبرة وزجرا- من الله تعالى- لغيرهما ؛ حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة.
يقال : نكل فلان بفلان تنكيلا، أي : صنع به صنيعا يحذر غيره.
وسميت هذه العقوبة نكالا ؛ لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها ؛ حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده، وفضيحة لأمره، وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. غالب على أمره، حكيم في شرائعه وتكاليفه.
قال الأصمعي : قرأت هذه الآية، وإلى جنبي أعرابي فقلت : والله غفور رحيم، سهوا ؛ فقال الأعرابي : كلام من هذا ؟ قلت : كلام الله، قال : أعد ؛ فأعدت : والله غفور رحيم، فقال : ليس كلام الله ؛ فتنبهت فقلت : والله عزيز حكيم. فقال : أصبت هذا كلام الله، فقلت له : أتقرأ القرآن ؟ قال : لا، قلت : فمن أين علمت أنب أخطأت ؟ فقال : يا هذا عزيز حكيم. فأمر بالقطع، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع ١٠ فقد فهم الأعرابي أن مقتضى العزة والحكمة، غير مقتضي المغفرة والرحمة، وأن الله تعالى- يضع كل اسم موضعه في كتابه.
٢ أنت ومالك لأبيك:
رواه ابن ماجه في التجارات (٢٢٩١) من حديث جابر بن عبد الله أن رجلا قال يا رسول الله إن لي مالا وولدا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال أنت ومالك لأبيك. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات على شرط البخاري ورواه ابن ماجه في التجارات (٢٢٩٢) وأحمد في مسنده (٦٨٦٣) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي اجتاح مالي فقال أنت ومالك لأبيك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم. ورواه الشافعي في مسنده (٦٣٩) من حديث محمد بن منكدر: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي مالا وعيالا وأنه يريدأن يأخذ مالي ويطعمه عياله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" قال الزيلعي في نصب الراية: قال ابن القطان: إسناده صحيح، وقال المنذري: رجاله ثقات، وقال في التنقيح": ويوسف بن اسحاق من الثقات المخرج لهم في "الصحيحين" قال: وقول الدراقطني فيه: غريب تفرد به عيسى عن يوسف لا يضره، فإن غرابة الحديث والتفرد به لا يخرجه عن الصحة. قال المناوي في الفيض: قال ابن حجر في تخريج الهداية: رجاله ثقات لكن قال البزار: إنما يعرف عن هشام عن ابن المنكدر مرسلا وقال البيهقي: أخطأ من وصله عن جابر (طب) وكذا البزار (عن سمرة) بن جندب قال الهيثمي: فيه إبراهيم بن عبد الحميد ولم أجد من ترجمه وبقية رجاله ثقات وقال ابن حجر: فيه من طريق ابن مسعود هذا معاوية بن يحيي وهو ضعيف وأما حديث سمرة فإن العقبلي بعد تخريجه عنه قال: وفي الباب أحاديث فيها لين وبعضها أحسن من بعض وقال البيهقي: روى من وجوه موصولا لا يثبت مثلها وقال ابن حجر في موضع آخر قد أشار البخاري في الصحيح إلى تضعيف هذا الحديث..
٣ تقطع يد السارق في ربع دينار:
رواه البخاري في الحدود (٦٧٩١، ٦٧٩٠، ٦٧٨٩) ومسلم في الحدود (١٦٨٤) ومالك في الموطأ كتاب الحدود (١٥٧٥) وأبو داود في الحدود (٤٣٨٤، ٤٣٨٣) والترمذي في الحدود (١٤٤٥) والنسائي في قطع السارق (٤٩١٤) وابن ماجه في الحدود (٢٥٨٥) والدرامي في الحدود (٢٣٠٠) و أحمد في مسنده (٢٣٥٥٩) من حديث عائشة قال النبي صلى الله عليه وسلم تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا..
٤ ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم:
رواه الترمذي في الحدود (١٤٢٤) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العقوبة. قلت: في إسناده يزيد بن زياد. قال الزيلعي في نصب الراية: ورواه الحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في "مختصره" فقال: يزيد بن زياد، قال فيه النسائي: متروك، انتهى و قال الترميدي في"علله الكبير" : قال محمد ابن اسماعيل : يزيد بن زياد منكر الحديث، ذاهب، انتهى. ورواه الدارقطني، ثم البيهقي في "سننيهما" مرفوعا، وقال البيهقي: الموقوف أقرب إلى الصواب. قلت وذكره أيضا من حديث علي وقال: أ ما حديث علي: فأخرجه الدارقطني في" سننه" (٢) عن مختار التمار عن أبي مطر عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ادرءوا الحدود "، انتهى ومختار التمار ضعيف..
٥ زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٢/٣٥٤..
٦ تفسير القرطبي٦/١٧٢..
٧ لا قطع على خائن:
رواه أبو داود في الحدود (٤٣٩٢) والترمذي في الحدود (١٤٤٨) والنسائي في قطع السارق (٤٩٧١) وابن ماجه في الحدود (٢٥٩١) والدرامي في الحدود (٢٣١٠) وأحمد في مسنده (١٤٦٥٢) من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقطع الخائن ولا المنتهب ولا المختلس. قال المناوي في الفيض: قال ابن حجر رواته ثقات إلا انه معلول بين ذلك ابو حاتم والنسائي. قال الزيلعي في نصب الراية: وسكت عنه عبد الحق في "أحكامه" وابن القطان بعده، فهو صحيح عندهما وفرقة أبو داود، فرواه بهذا الإسناد، ليس على المنهي قطع، ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا، وقال بهذا الإسناد: ليس على الخائن، ولا على المختلس قطع انتهى، قال أبو داود: وهذان الحديثان لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير..
٨ أتشفع في حد من حدود الله:
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء ح ٣٤٧٥ وفي حدود ح ٦٧٨٨، و مسلم في الحدود ح ١٦٨٨، والترمذي في الحدود ح ١٤٣٠، والنسائي في قطع السارق ح ٤٩٠٢، ٤٨٩٩، وأبو داود في الحدود ح ٤٣٧٣، وابن ماجه في الحدود ٢٥٤٧، والدرامي في الحدود ح ٢٣٠٢..
٩ تفسير القرطبي ٦/١٦٩ بتصرف واختصار شديد، وتنظيم..
١٠ تفسير المنار ٦/٣٨٤ زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٢/٣٥٤..
قال ابن كثير : أي : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو رد بدلها، وهذا عند الجمهور.
فإن كانت توبته قبل أن يرفع أمره إلى القضاء فلا قطع، كما قال عطاء وجماعة من الفقهاء استنادا إلى قوله تعالى : إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ( المائدة : ٣٤ ).
فإنه وإن نزل في قطاع الطريق فحكمه عام في جميع الحدود عند هؤلاء العلماء، وإن كانت توبته بعد أن رفع أمره للقضاء، أقيم عليه الحد فلا يسقط الحد بالتوبة، بل تنفذ العقوبة بالنسبة لأحكام الدنيا، ويقبل الله التوبة رجاء القبول في الآخرة.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم- فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا سول الله، إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها : فنحن نفذيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقطعوا يدها " فقطعت اليمنى، فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فأنزل الله تعالى : فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ٢
وروى ابن ماجه عن ثعلبة الأنصاري : أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إني سرقت جملا لنبي فلان فطهرني، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا " فأمر به فقطعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار " ٣
٢ اقطعوا يدها فمن تاب بعد ظلمه:
رواه أحمد في مسنده (٦٦١٩) من حديث عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا قال قومها فنحن نفديها يعني أهلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقطعوا يدها فقالوا نحن نفديها بخمس مائة دينار قال اقطعوا يدها قال فقطعت يدها اليمنى فقالت المرأة هل لي من توبة يا رسول الله قال نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله عز وجل في سورة المائدة ﴿فمن تاب من بعد ظلمة وأصلح﴾ إلى آخر الآية. قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف. وبقية رجاله ثقات..
٣ الحمد لله الذي طهرني منكم:
رواه ابن ماجه في الحدود (٢٥٨٨) من حديث ثعلبة الأنصاري أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا افتقدنا جملا لنا فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده قال ثعلبة أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول الحمد لله الذي طهرني منك أردت أن تدخلي جسدي النار. قلت: في إسناده ابن لهيعة..
هذه الآية مسوقة لبيان حق الله في أن يشرع لعباده ما تقدم من عقاب قاطع الطريق والسارق والعفو عن التائب منهما.
والمعنى : ألم تعلم أن الله له سلطان الكامل على السماوات والأرض وما فيهما، ومن كان كذلك ؛ فإن له كامل الحق في أن يعذب من يشاء من المعتدين، وان يغفر لمن شاء من التائبين.
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير. فهو سبحانه عظيم القدرة، فلا يمنعه عن تشريعه الحكيم مانع، ولا يدفعه عن جزائه لهم في الدنيا والآخرة دافع.
يسارعون في الكفر : يجدون فيه.
ومن الذين هادوا : أي : من اليهود.
يحرفون الكلم من بعد مواضعه : يسيئون تأويله.
فتنته : إخلاله لسوء اختياره.
خزي : هوان ومذلة.
التفسير :
٤١- يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ...
وردت عدة أسباب لنزول هذه الآية نجدها في تفسير ابن كثير والقرطبي وغيرهما.
قيل : إنها نزلت في المنافقين.
وقيل : إنها نزلت في ابن صوريا ؛ آمن ثم كفر.
وأرجح الأقوال أنها نزلت في اليهود عندما حرفوا حكم التوراة، وكانت التوراة تنص على أن عقوبة الزاني المحصن هو الرجم بالحجارة حتى يموت، فلما كثر الزنى في أشراف اليهود ؛ بدلوا حكم الرجم إلى الجلد وتسويد الوجه.
ثم تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن رجل وامرأة قد زنيا من اليهود، ورغبوا أن يحكم بغير الرجم. فسألهم عن حكم الله في التوراة فقالوا : الجلد فناشدهم الله أن ينطقوا بالحق، فقالوا : إنه الرجم ؛ فقال صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه ".
ثم أمر أن يرجم الزانيان فرجما.
وقد ورد هذا المعنى في صحيح البخاري ومسلم ١
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ... أراد الله سبحانه وتعالى أن يسلي رسوله الكريم ويواسيه ؛ حتى لا يحزن بما يفعله المنافقون واليهود وغيرهم.
فناداه الله تعالى بوصف الرسالة ؛ تشريفا له وتكريما، وحثه على السلوى والصبر وعدم الحزن من هؤلاء المعاندين..
" والنهي عن الحزن وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه، والمراد به هنا : النهي عن لوازمه كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب، وتعظيم أمرها، وبذلك تتجدد الآلام وتعز السلوى " ٢.
يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر. ِ أي : يذهبون إليه بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفك، ر فهم ينتقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخله، دون أن يزعهم وازع من خلق أو دين.
قال أبو سعود : والمسارعة في الشيء : الوقوع فيه بسرعة ورغبة. وإيثار كلمة في. على كلمة ( إلى ) للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين، وإبراز آثار الكثير للإسلام ونحو ذلك.
مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ. وهم المنافقون، وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ. يعني : اليهود أي : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. هذا الوصف يعود إلى الفريقين، أو إلى اليهود خاصة، أي : الذين يسارعون في الكفر هم سماعون للكذب أي : كثيرو السماع للكذب من أحبارهم ورؤسائهم، واللام في قوله : للكذب للتقوية أي : أنهم يسمعون الكذب كثيرا سماع قبول وتلذذ، ويأخذونه ممن يقوله- من أعداء الإسلام- على انه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها.
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ. أي : لم يحضروا مجلسك، وهم طائفة من اليهود، كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ تكبرا وتمردا، ولكن يوجهون إليه بعض أتباعهم ؛ ليحضروا مجلسه وينقلوا إليهم كلامه.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ. من جملة صفات القوم المذكورين، أي : أنهم يميلون بالتوراة ويحرفون الكلام الوارد فيها ويؤولونه على غير تأويله من حيث لفظه أو من حيث معناه، ولعل المراد : أنهم حرفوا التوراة ومما حرفوه : الرجم على الزاني والزانية، جعلوا بدله تسويد الوجه.
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ... أي : يقولون لأتباعهم السماعين لهم : إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ. أي : إن أفتاكم محمد بما تريدون- وهو الجلد- فخذوه واعلموا بموجبه.
جاء في زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي :
" وذلك أن رجلا وامرأة من أشراف اليهود زنيا، فكرهت اليهود رجمهما، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يسألونه عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا، وقالوا : إن أفتاكم بالجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فلا تعلموا به " ٣.
إِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ. أي : وإن أفتاكم محمد بغير ما أفتيناكم به فاحذروه قبول حكمه، وإياكم أن تستجيبوا له أو تميلوا إلى ما قاله لكم.
وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا. ومن يقض الله بكفره وضلالته ؛ فلن تستطيع- أيها الرسول الكريم- دفعه عن الضلالة ؛ لأنك لا تملك له من الله شيئا في دفع الفتنة عنه.
فقد اقتضت حكمته أنه يمنح هدايته وتوفيقه وعونه، لمن سار في طريق الهدى وآثر الحق ورغب في السير على الطريق القويم ؛ أما من أعرض عن الهدى وتنكب الجادة، فإن الله تعالى هداه وتوفيقه عنه ويتركه مفتونا متنكبا طريق الجادة.
قال تعالى : وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى. ( طه : ١٢٤-١٢٦ ).
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ. أي : هؤلاء المذكورين- من المنافقين واليهود- هم الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من دنس الكفر والضلالة، بطهارة الإيمان والإسلام ؛ لأنهم منهكون في الضلالة مصرون عليها، معرضون عن طريق الهداية والرشاد.
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ. أما خزي المنافقين : فبهتك سترهم، وإطلاع النبي على كفرهم، وخزي اليهود : بفضيحتهم في إظهار كذبهم ؛ إذ كتموا الرجم، وبأخذ الجزية منهم.
قال مقاتل : وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي النضير بإجلائهم، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ؛ بدخولهم النار، والخلود فيها.
رواه مسلم في الحدود ح ١٧٠٠ وأبو داود في الحدود ح ٤٤٤٨، وابن ماجه في الحدود ح ٢٥٥٨، وأحمد ح ١٨٠٥٤ من حديث البراء..
٢ تفسير سورة المائدة د. محمد سيد طنطاوي ص ٢٠١..
٣ زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٢/٣٥٨..
أكالون : كثيرالأكل.
لسحت : السحت ؛ الحرام. كالربا ونحوه.
بالقسط : بالعدل
التفسير :
٤٢- سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.... إن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم-أيضا- أنهم كثيرو السماع للكذب، وكثير الأكل للمال الحرام بجميع صوره وألوانه، ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا ولا تؤمل فيه رشدا.
وجاءت هاتان الصفتان- سماعون وأكالون - بصيغة المبالغة للإيذان، بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم، فهم يستمرئون سماع الباطل من القول، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل.
قال ابن الجوزي :
وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال :
أحدها : الرشوة في الحكم.
والثاني : الرشوة في الدين.
والثالث : انه كل كسب لا يحل.
فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. أي : فإن جاءك اليهود متحاكمين إليك، فأنت بالخيار بين أن تحكم بينهم. لأنهم اتخذوك حكما، أو تعرض عنهم ؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك إتباع الحق.
قال الشوكاني في فتح القدير :
وقد أجمع العلماء على انه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم، واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم، فقيل : يجب الحكم بينهم، وقيل : هو جائز وله أن يردهم، ولا يحكم بينهم بشيء.
وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا. أي : وإن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلن يقدروا على الإضرار بك ؛ لأن الله عاصمك من الناس.
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. أي : وإن اخترت الحكم بينهم، فالواجب ان يكون الحكم بينهم بالعدل، الذي أمرك الله به وانزله عليك.
قال تعالى : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ. ( النساء : ٥٨ ).
وقال سبحانه : وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ. ( المائدة : ٤٩ ).
وقريب منه قوله تعالى : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ. ( ص : ٢٦ )
إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ : وهو ختام للآية مقرر لما قبله من وجوب الحكم بالعدل إذا ما اختار أن يقضي بينهم.
يقال : أقسط الحاكم في حكمه : إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أي : عادل، ومنه : إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن وكالتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " ١.
في أعقاب الآية :
١- ذهب فريق من العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة وان النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا بين الحكم بين اليهود أو الإعراض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :
وأن احكم بينهم بنا أنزل الله. والراجح أن الآية غير منسوخة، وان التخيير لا يزال قائما، أما قوله تعالى : وان احكم بينهم بما أنزل الله. فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له.
رواه مسلم في الإمارة(١٨٢٧) والنسائي في آداب القضاة (٥٣٧٩) وأحمد في مسنده (٦٤٥٦) من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المقسطين عند الله على منابر نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم واهليهم وما ولوا..
٤٣- وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ.... الآية أي : أن أمر هؤلاء اليهود لمن أعجب العجب ؛ لأنهم يحكمونك يا محمد في قضاياهم مع أنهم لم يتبعوا شريعتك، ومع أن كتابهم التوراة قد ذكر حكم الله صريحا واضحا فيما يحكونك فيه، فالاستفهام في قوله : وكيف يحكمونك. للتعجب من أحوالهم حيث حكموا من لا يؤمنون به في قضية حكمها بين أيديهم ظنا منهم أنه سيحكم بينهم بما اتفقوا عليه مما يرضى أهواءهم وشهواتهم.
ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ. أي : ثم يعرضون من بعد حكمك الموافق لما في كتابهم.
وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. تذييل مقرر لمضمون ما قبله، فهم غير مؤمنين بالتوراة ؛ لتحريفهم بعض أحكامها. وغير مؤمنين بك ؛ لأعراضهم عم حكمك الموافق لما في التوراة.
والربانيون : جمع رباني ؛ وهو المنسوب إلى الرب. والمراد : الزهاد والعباد.
والأحبار : جمع حبر ؛ وهو : العالم، أو رؤساء العلماء عند اليهود.
استحفظوا : كلفوا من الله بالمحافظة عليه.
شهداء : أي : رقباء يحمونه من التغيير والتبديل.
التفسير :
٤٤-إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ... الآية.
هذا كلام مستأنف لبيان علو شأن التوراة فهو سبحانه الذي انزلها من عنده لتكون مصدر هداية للناس إلى سبيل الله مشتملة على الأحكام والتكاليف والشرائع.
ومشتملة على النور من بيان للعقائد السليمة والمواعظ الحكيمة والأخلاق القويمة.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :
والمعنى : إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى مشتملة على ما يهدي الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضئ لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة.
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ..
النبيون. هنا هم الأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى.
الَّذِينَ أَسْلَمُواْ. صفة للنبيين أي : أخلصوا وجوههم لله
قال الشوكاني : وفيه إرغام لليهود بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام، الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يقال لنبي من الأنبياء : إنه يهودي أو نصراني، بل كانوا جميعا مسلمين.
لِلَّذِينَ هَادُواْ. أي : رجعوا عن الكفر، والمراد لهم اليهود.
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء.
َالرَّبَّانِيُّونَ. العلماء الحكماء.
الأَحْبَار. العلماء.
وقال مجاهد : الربانيون : الفقهاءُو العلماء وهم فوق الأحبار، وقال ابن عباس : الربانيون : هم الذين يسوسون الناس بالعلم، ويربونهم بصغاره قبل كباره.
والحبر والحبر : الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير وهو التحسين، فهم يخبرون العلم أي : يبينونه ويزينونه، وهو محبر في صدورهم ١
بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ. أي : أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبذيل والمحافظة على تطبيق أحكامها، وأن يكونوا رقباء على تنفيذ حدودها، وتطبيق أحكامها ؛ حتى لا يهمل شيء منها.
والمعنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق، وضياء لهم من ظلمات الباطل، وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياؤهم الذين أسلموا وجوههم لل، ه وأخلصوا له العبادة والطاعة، ويحكم بها أيضا الربانيون والأحبار الذين التزموا طريقة الأنبياء.
وكان هذا الحكم منهم بالتوراة بين اليهود، بسبب انه تعالى حملهم أمانة حفظ كتابه والقيام على تنفيذ أحكامه، وشرائعه وتعاليمه.
قال الفخر الرازي :
قوله تعالى : بما استحفظوا من كتاب الله.
حفظ كتاب الله على وجهين.
الأول : أن يحفظ فلا ينسى.
والثاني : أن يحفظ فلا يضيع، وقد اخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين :
أحدهما : أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم.
الثاني : ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه ٢
فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
الخشية : خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها في قوله : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء.. ٣ ( فاطر : ٢٠ ).
فالخشية خوف يشوبه تعظيم ومحبة للمخشي، بخلاف الخوف فهو أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغوض مذموم.
والمعنى : إذا كان شأن التوراة، أن تنفذ أحكامها وتعاليمها فلا تخافوا يا علماء اليهود، أحدا من الناس كائنا من كان، وعليكم أن تطبقوا أحكام الله كما أنزلها الله وأن تجعلوا خشيتكم مني وحدي، لا من أحد من الناس فانا الذي بيدي نفع العباد وضرهم.
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً. أي : لا تتركوا الحكم بما أنزل الل ؛ ه خوفا من احد أو رغبة في مصلحة أو رشوة.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسير سورة المائدة.
والاشتراء هنا معناه : الاستبدال، والمراد بالآيات : ما اشتملت عليه التوراة من أحكام وتشريعات وبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه، وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا.
أي : ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة، أحكاما أخرى تغايرها وتخالفها لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا.
وهذا الثمن لا يكون إلا قليلا- وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا- بالنسبة لطاعة الله والرجاء في رحمته ورضاه.
وهذا النهي، وإن كان موجها إلى رؤساء اليهود وأحبارهم، إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ؛ لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب. وإلى هذا المعنى أشار الآلوسي بقوله : فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا.. خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات- إذا انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم- ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة ٤
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
هذه الآية، وما يأتي من قوله تعالى : فأولئك هم الظالمون.
وقوله تعالى : فأولئك هم الفاسقون. نزلت كلها في الكفار وعلى هذا رأى أكثر المفسرين.
فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة ٥
صفحة من تفسير القرطبي
قال القرطبي ٦ قوله تعالى : وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
والظالمون والفاسقون. نزلت كلها في الكفار ؛ ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم. وعلى هذا المعظم فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل : فيه إضمار ؛ أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وحجدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر ؛ قاله ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا.
قال ابن مسعود والحسن : هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي : معتقدا ذلك ومستحلا له ؛ فأما من فعل ذلك، وهو معتقد أنه راكب محرم ؛ فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس في رواية : ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار. وقيل أي : ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله ؛ فهو كافر، فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع ؛ فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول، إلا أن الشعبي قال : هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس ؛ قال : ويدل على ذلك ثلاثة أشياء منها : أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله : للذين هادوا. فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك، ألا ترى أن بعده وكتبنا عليهم. فهذا الضمير لليهود بإجماع ؛ وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص. فإن قال قائل : من إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها ؟ قيل له : من. هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة ؛ والتقدير : واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك الكافرين ؛ فهذا من أحسن ما قيل في هذا.
ويروي أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل ؟ قال : نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل. وقيل : الكافرون. للمسلمين، والظالمون لليهود، والفاسقون. للنصارى ؛ وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال : لأنه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي أيضا. قال طاوس وغيره : ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر ٧.
٢ تفسير الفخر الرازي ١٢/٤..
٣ المفردات في غريب القرآن ص ١٤٩ للراغب الأصفهاني..
٤ تفسير سورة المائدة للدكتور محمد سيد طنطاوي ص ٢١٩ نقلا عن تفسير الآلوسي ٦/١٤٥..
٥ التفسير الوسيط تأليف لجنة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية الحزب ١٢ ص ١٠٨٠..
٦ تفسير القرطبي ٦/١٩٠..
٧ قال في البحر: يعني أن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر. قلت وهو كفر النعمة عند الإباضية..
قصاص : القصاص : عقاب الجاني بمثل ما جنى.
تصدق : أي : عفا عن الجاني.
كفارة له : محو لذنوبه وآثامه.
التفسير :
٤٥- وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ... الآية
أي : وكتبنا على اليهود في التوراة القصاص بقتل النفس بالنفس كبيرة أو صغيرة، ذكرا أو أنثى، وشرع من قبلنا يلزم إذا لم ينسخ، والعين بالعين. أي : أن العين إذا فقئت، أو قلعت عمدا ولم يبق فيها مجال للإدراك، فيجب أن تفقأ عين الجاني أو تقلع بها، وقال القاضي أبو يعلى : ليس المراد قلع العين بالعين، لتعذر استفاء المماثلة، لأنا لا نقف على الحد الذي يجب فيما ذهب ضوءها وهي قائمة، وصفة ذلك أن تشد عين القالع، و تحمي مرآة، فتقدم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوءها.
والأنف بالأنف. إذا جدع جميعه فإنه يجدع أنف الجاني به. والأذن بالأذن. أي : تقطع الأذن بالأذن، والسن بالسن. أي : وكذلك السن إذا قلعت أو كسرت تؤخذ بها، لا فرق بين الثنايا، والأنياب، والأضراس، والرباعيات، وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فصل لبعضها بعض، وينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للمأخوذ من المجني عليه، كالأذن اليمنى مثلا دون اليسرى.
والجروح قصاص. ١ فيقتص من الجاني بجرح مثل ما جرح، إن كان لا يحدث من القصاص تلف النفس، ويعرف مقدار الجرح عميقا أو طويلا أو عرضا، وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة.
جاء في تفسير الوسيط :
ويتم القصاص إذا كانت المساواة ممكنة فإذا تعذرت المساواة كما إذا فقأ أعمى عين مبصرة أو كان فيها خطر على حياة المقتص منه كما إذا فقأ أعور عين مبصر ففي ذلك دية الجراح ٢ فمن تصدق به : أي : فمن عفا عن القصاص من الجاني بقبول الدية أو كع التنازل عنها فهو كفارة له أي : فهو كفارة للمتصدق يكفر الله بها عنه ذنوبه.
وعبر عن العفو والتصديق للترغيب فيه وإظهار جزيل ثوابه والقصاص المذكور في الآية غنما يكون حال العدوان العمد أما الخطأ أو شبهه ففيه الدية
في أعقاب الآية :
١- ختم الله الآية السابقة بقوله : وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وفي هذه الآية قال : وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم.
قال ابن كثير :
هذه الآية مما وبخت به اليهود وأيضا وقرعن عليهم فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا فأفادوا النضري من القرظي ولم يقيدوا القرظي من النضري وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن وعدلوا إلا ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ولهذا قال هناك : وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا وقال هنا : فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ في تتمة الآية لأنهم لم ينصفوا المظلم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه فخالفوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض.... اه.
٢- استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي ٣ وذهب بعض العلماء إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة بل تجب عليه ديتها وإلى أنه لا يقتل مؤمن بكافر وأجاب العلماء بأن الآية عامة تفيد النفس بالنفس وما روى في الحديث لا يقتل مؤمن بكافر ٤ والمراد بما روى الحربي
٣- قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فإتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( البقرة : ١٧٨ ).
تذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقا.
وعند التحقيق نجد أن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين على فرد معين، فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمدا.
فأما آية البقرة فمجالها مجال الاعتداء الجماعي حيث تعتدي أسرة على أسرة أو جماعة على جماعة فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء فإذا أقيم ميزان القصاص ؛ كان الحر من هذه بالحر من تلك والعبد من هذه بالعبد من تلك، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك، وإلا فكيف يكون القصاص في مثل تلك الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة، وإذا صح هذا النظر، وعلمنا أن سبب نزول آية البقرة أن حيين من العرب اقتتلا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهما قتلى وجرحات فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل فنزل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.
وإذا أمعنا النظر فلن يكون هناك تعارض بين الآيتين. آية البقرة في الاعتداء الجماعي، وآية المائدة في الاعتداء الفردي ٥
٤- لم يكن لا يهود إلا القصاص. ولم يكن للنصارى إلا العفو وخيرت الأمة الإسلامية بين القصاص، وقبول الدية والعفو، وقد رغب القرآن في العفو وحث عليه قال تعالى : فمن عفا وأصلح فأجره على الله. ( الشورى : ٤٠ ) وقال سبحانه : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. ( آل عمران : ١٣٤ ) وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل يخرج في جسده جراحة فيتصدق بها ؛ إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به " ٦ ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة، فقد شرع القصاص ؛ زجرا للمعتدي، وإشعارا له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده، وجبرا لخاطر المعتدي عليه، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه، ومع هذا التمكين التام للمجني عليه من الجاني، فقد رغب الإسلام المجني عليه في العفو والصفح حيث قال :
فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ.
٥- قال ابن العربي : نص الله سبحانه وتعالى على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه.
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. أي : أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية.
٢ التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية حزب ١٢ ص ١٠٨٢..
٣ تفسير ابن كثير ٢/٦١..
٤ لا يقتل مؤمن بكافر:
رواه أبو داود في الجهاد (٢٧٥١) وفي الديات (٤٥٠٦) وأحمد في مسنده (٦٦٥٣) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقتل مؤمن بكافر ومن يقتل مؤمنا متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية ورواه ابن ماجه في الديات (٢٦٦٠)من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يقتل مؤمن بكافر و لا ذو عهد في عهده. و رواه الترميذي في الديات(١٤١٢) والنسائي في القسامة ٤٧٣٥، من حديث القرآن وما في الصحيفة قلت وما في الصحيفة قلت وما في الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر. وقال عيسى حديث علي حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود في الديات (٤٥٣٠) والنسائي في القسامة (٤٧٣٥) من حديث علي رضي اللهم عنهم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده..
٥ في نور القرآن د. عبد الله شحاثة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة ١٩٧٣ م ص ٣٢..
٦ ما من رجل يجرح في جسده جراحة:
رواه أحمد في مسنده (٢٢٢٨٦، ٢٢١٩٣) من حديث عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به..
وقفينا : أتبعنا
مصدقا لما بين يديه : لما تقدمه.
التفسير :
٤٦- وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ... وأتبعنا على آثار أولئك النبئين الذي أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا له العبادة، والذين كانوا يحكمون بالتوراة كموسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم- أتبعنا على آثارهم بعيسى بن مريم ناهجا نهجهم في الخضوع والطاعة والإخلاص لله رب العالمين.
وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ. وأعطيناه الإنجيل مشتملا على الهداية إلى الحق والنور الذي يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات.
وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ. أي : ومؤيدا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل كما قال تعالى على لسان المسيح لنبي إسرائيل : ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم. ( آل عمران : ٥٠ ) ولهذا كان المشهور من قول العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة ١
وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ. أي : وجعلنا الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى هدى يهتدي به، وزاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم لمن اتقى الله وخاف عقابه.
أمر من الله تعالى لأهل الإنجيل من المسيحيين بأن ينفذوا الأحكام الواردة في الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، وهذا الأمر ممتد إلى البعثة المحمدية ؛ لأن البشارة وردت بمحمد في الإنجيل. فهم مأمورون بأن يعلموا بما فيه، و من جملة ما فيه : دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب إتباعه فيما يجئ به.
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله في الإنجيل، ولم يتبع ما ورد فيه من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان برسالته، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن حكمه.
جاء في تفسير المنار ١
وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية، وبوصف الفسوق في الثالثة.
ففي الآية الأولى : كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدي والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به.. فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له مؤثرا لغيره عليه ؛ يكون كافرا به.
أما الآية الثانية : فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته...
فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا ؛ فهم الفاسقون بالمعصية، والخروج من محيط تأديب الشريعة ٢
٢ تفسير المنار ٦/٤٤..
مهينا عليه : مسيطرا.
شرعة : شريعة.
ومنهاجا : طريقا واضحا في تطبيق هذه الشريعة.
ليبلوكم : ليختبركم.
فاستبقوا الخيرات : أي : فليستبق كل منهم الآخر إلى فعل الخيرات.
التفسير :
٤٨- وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ... الآية.
المراد بالكتاب الأول : القرآن، وأل فيه للعهد، والمراد بالكتاب الثاني : جنس الكتب السماوية فيشمل التوراة والإنجيل.
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ. أي : رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية وأمينا وحاكما عليها ؛
لأنه هو الذي يشهد لها بالصحة ويقرر أصول شرائعها.
والمعنى :
لقد أنزلنا التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب الجامع لكل ما اشتملت عليه الكتب السماوية من هدايات وقد أنزلناه متلبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وجعلناه مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ. أي : مؤيدا لما في هذه الكتب التي تقدمته من دعوة إلى عبادة الله وحده، وإلى التمسك بمكارم الأخلاق وجعلناه كذلك وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ. أي : أمينا ورقيبا وحاكما على كل كتاب سبقه.
قال ابن كثير :
جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، جعله أشملها وأعظمها وأكملها ؛ لأنه سبحانه جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفل سبحانه بحفظه بنفسه فقال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. ( الحجر : ٩ )
فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ. أي : فاحكم بين أهل الكتاب بالحق الذي أنزل إليك في كتابه الكريم ؛ فإنه المرجع السماوي الصحيح، المحفوظ من التحريف، وكل ما لا يتوافقه في التوراة والإنجيل منسوخ يحرم العمل به.
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ. أي : أهواء أهل الملل السابقة، ولا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق. أي : الحق الذي أنزل الله عليك، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر علة ما هم عليه، وما أدركوا عليه سلفهم، وإن كان باطلا منسوخا أو منحرفا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء، كما أرادوا في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله ١.
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً. أي : لكل أمة منكم با نبي آدم جعلنا شريعة تناسب أحوالها وزمانها ومنهاجا. أي : طريقا واضحا تسير عليه في تنفيذ أحكام شريعتهم. فقد جعل الله التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله. وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن، وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ٢.
وقال ابن كثير :
هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد " ٣.
أي : في التوحيد الذي أرسل به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله.
قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ. ( الأنبياء : ٢٥ )
وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً. بشريعة واحدة، وكتاب واحد ورسول واحد.
وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم. أي : ولكن أنزل إليكم شرائع ومناهج مختلفة ؛ ليعاملكم معاملة من يختبركم فيما آتاكم من الشرائع ومدى امتثالكم لأحكامها، هل تعملون بها مذعنين لها، معتقدين أن في اختلافها نفعا لكم في معاشكم ومعادكم ؟ وهل تستجيبون لدعوة خاتم أنبيائه : الذي جاءكم بالشريعة التي ختمت بها الشرائع، لتكون شريعة الناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ. أي : فليسبق كل منهم غيره فعل الخيرات.
قال الشوكاني : أي : فسابقوا أيها المسلمون غيركم من أصحاب الشرائع الذين عملوا على أساسها بطاعة الل، ه واعملوا بطاعة الله على أساس شريعتكم.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :
" لو شاء الله تعالى أن يجعل الأمم جميعا أمة واحدة تدين بدين واحد وبشريعة واحدة لفعل ؛ لأنه سبحانه لا يعجزه شيء، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، وإنما شاء أن يجعلكم أمما متعددة ؛ ليختبركم فيما آتاكم من شرائع مختلفة في بعض فروعها ولكنها متحدة في جوهرها وأصلها فيجازي من أطاعه بما يستحقه من ثواب ؛ ويجازي من خالف أمره بما يستحقه من عذاب.
وإذا كان الأمر كما وصفت لكم ؛ فسارعوا إلى القيام بالأعمال الصالحة وتنافسوا في عمل الخيرات بكل عزيمة ونشاط. اه.
إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. أي : إلى الله وحده مصيركم ومرجعكم فيخبركم عند الحساب ؛ بما كنتم تختلفون فيه في الدنيا، ويجازيكم بما تستحقون، ويفصل بين المحق منكم والمبطل، والعامل والمفرط.
٢ فتح القدير للشوكاني..
٣ أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم:
تقدم ٩٦..
٤٩- وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ... أي : إن جاءوك لتحكم بينهم فأردت أن تحكم ؛ فليكن حكمك طبقا لما أنزل الله عليك لا طبقا لما تهواه أنفسهم أو طبقا لما في كتبهم من التحريف.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في كعب ابن أسد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس وغيرهم، فقد قالوا فيما بينهم : اذهبوا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فاتوه فقالوا : يا محمد، إنك قد عرفت أننا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله الآية : ولا تتبع أهواءهم. التي يسيرون عليها ويتبعون طريقها ؛ فإنها أهواء زائغة باطلة.
وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ. واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلنا إليك ولو كان أقل قليل، بان يصوروا لك الباطل في صورة الحق أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم.
وقد كرر سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله ؛ لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعي التأكيد ؛ لان اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته- صلى الله عليه وسلم- وإغرائه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم.
وإعادة : ما أنول الله إليك. لتأكيد التحذير، بتهويل الخطب إذا تمكنوا من صرفه عن ذلك.
فَإِن تَوَلَّوْاْ. أي : أعرضوا فن قبول الحق المنزل، وأرادوا غيره، مما يتفق مع أهوائهم.
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. ألا وهو ذنب التولي والإعراض عن حكم الله والرغبة في خلافه.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :
فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب هذه الذنوب متى اقترفوها بتوليهم عن حكم الله وإعراضهم عن وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغي والضلال ؛ لان الأمة التي لا تخضع لأحكام شرع الله وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها الباطلة لابد أن يصيبها العقاب الشديد يسبب ذلك.
وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ومتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه مخالفيه ولاسيما اليهود.
أي : وإن كثيرا من الناس لخارجون عن طاعتنا، ومتمردون على أحكامنا، ومتبعون لخطوات الشيطان الذي استحوذ عليهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا تبتئس يا محمد عما لقيته من أصحاب النفوس المريضة، بل اصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم.
٥٠- أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ... هذا إنكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم.
والمعنى : أينصرفون عن حكمك بما أنزل الله ويعرضون عنه فيبغون حكم الجاهلية مع أن ما أنزله الله إليك من قرآن فيه الأحكام العادلة التي ترضى كل ذي عقل سليم ومنطق قويم.
قال الآلوسي : روى أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة، طلب بعضهم من رسول الله ان يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل.
فقال صلى الله عليه وسلم :'القتلى بواء " أي : متساوون.
فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بحكمك ؛ فنزلت الآية ١.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ. أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم سبحانه أحكم الحاكمين، وارحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء والقادر على كل شيء والعادل في كل شيء.
روى الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الناس إلى الله تعالى- من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلين ومن طلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه " ٢.
ومجموع هذا الربع يبدأ بنداء الرسول الكريم بعد المبالاة بما يصدر عن أولئك يسارعون في الكفر، ثم خيرت الآيات الرسول صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم أو الإعراض عنهم إذا ما تحاكموا إليه.
ثم وبخت الآيات اليهود على إعراضهم عن أحكام الله العادلة التي أنزلها لعباده، ووصفت المعرضين عن حكمه سبحانه بالكفر تارة والفسق تارة أخرى.
وبعد أن مدحت التوراة والإنجيل، عقبت ذلك ببيان منزلة القرآن الكريم، وأنه الكتاب الجامع في هدايته وفضله لكل ما جاء في الكتب السابقة.
ثم ختمت الآية بالتحذير من خداع اليهود ومكرهم وتوعدت كل من يرغب عن حكم الله إلى غيره بسوء العاقبة وشديد العذاب.
٢ أبغض الناس إلى الله من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلين:
رواه البخاري في الديات (٦٨٨٢) من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه..
أولياء : أحبابا، أو أصدقاء، أو نصراء.
التفسير :
٥١- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء... الأية.
خطاب من الله تعالى لجميع المؤمنين يحذرهم فيه من مصاقاة اليهود والنصارى مصاقاة الأحباب ومعاشرتهم معاشرة الأصدقاء والنصراء.
وقد روى ابن جرير أن هذه الآية وما بعدها نزلت في عبد الله بن أبي حينما تشبت بمخالفة اليهود وقال : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من موالي.
وقيل : أنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري حين قال لبني قريظة إذا رضوا بحكم سعد بن معاذ : إنه الذبح. ثم أدرك أبو لبابة بعد ذلك أنه خان الله ورسوله.
والخطاب في الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :
أي : يأيها الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لا يتخذ أحد منكم أحدا من اليهود والنصارى وليا ونصيرا، أي : لا تصافوهم مصافاة الأحباب، ولا تستنصروا بهم ؛ فإنهم جميعا يد واحدة عليكم يبغونكم الغوائل، ويتربصون بكم الدوائر، فكيف يتوهم أن تكون بينهم موالاة لكم ؟
لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء. أي : لا يتخذ احد منكم أحدا منهم وليا يعتمد عليه ويستنصر به ويتودد إليه ويخالطه مخالطة الأصفياء.
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ. أي : لا تتخذوا أيها المؤمنون اليهود والنصارى أولياء ؛ لأن بعض اليهود أولياء لبعض منهم وبعض النصارى أولياء لبعض منهم، والكل يضمرون لكم البغضاء والشر، وهم وإن اختلفوا فيما بينهم، لكنهم متفقون على كراهية الإسلام والمسلمين.
قال تعالى : لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ ( آل عمران : ٢٨ ).
وقيل : مراد هذه الفقرة أن اليهود يوالون النصارى، والنصارى يوالون اليهود على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوة ما جاء به، وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين.
وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. أي : ومن يتودد إلى اليهود والنصارى ويستنصر بهم فإنه من جملتهم وليس مع جماعة المؤمنين.
والولاية لليهود والنصارى إن كانت على سبيل الرضا بدينهم والطعن في دين الإسلام ؛ كانت كفرا وخروجا عن دين الإسلام، وإن كانت على سبيل المصافاة والمصادقة ؛ كانت معصية تختلف درجتها بحسب قوة الموالاة، وبحسب اختلاف أحوال المسلمين وتأثرهم بهذه الموالاة.
قال الفخر الرازي :
قوله : وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. قال ابن عباس : يريد كأنه مثلهم، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين.
روى عن ابي موسى الأشعري أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن لي كاتبا نصرانيا ؛ فقال : مالك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفيا، أما سمعت قول الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء.
قلت : له دينه، ولي كتابته، فقال : لا أكرمهم إذا أهانهم الله، ولا أعزهم إذا أذلهم الله، ولا أدنيهم إذا أبعدهم الله، قلت : لا يتم أمره البصرة إلا به، فقال : مات النصراني والسلام.
يعني : هب انه مات فماذا تصنع بعد، فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره ١.
إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أي : إن الله لا يوفق إلى قبول الحق، أولئك الذين ظلموا أنفسهم باختيار الضلالة على الهدى، وظلموا غيرهم بإيذائهم ومضارتهم، وتدبير الكيد لهم، فلا يهدي إلى الإيمان من ظلم نفسه من المسلمين. بموالاة غير المؤمنين، وإتباع غير طريق المسلمين.
وفي ختام الآية بهذا : زجر شديد للمؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، وأنه ظلم للإسلام، لا يهدي الله صاحبه.
في قلوبهم مرض : شك ونفاق.
أن تصيبنا : ان تدركنا وتستأصلنا. من أصاب الشيء : أدركه واستأصله.
دائرة : الدائرة : الهزيمة، أو الداهية. يقال : دارت عليهم الدوائر. أي : نزلت بهم الدواهي.
التفسير :
٥٢- فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ... الآية.
نزلت هذه الآية في المنافقين. كانوا يصلون حبالهم باليهود خوفا من وقوع هزيمة بالمسلمين.
روى ابن الجوزي أن اليهود والنصارى كانوا يجلبون الطعام والميرة للمنافقين ويقرضونهم فيوادونهم فلما نزلت : لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء. قال المنافقون : كيف نقطع مودة قوم إن أصابتنا سنة وسعوا علينا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وممن قال : نزلت في المنافقين ولم يعين مجاهد وقتادة ١ والمراد بالمرض الشك والنفاق. ومعنى يسارعون فيهم. أي : يسارعون في موالاتهم، أو معاونتهم على المسلمين.
والمعنى : يا محمد فترى أولئك المنافقين الذين ضعف إيمانهم وذهب يقينهم، يسارعون في مناصرة أعداء الإسلام مسارعة الداخل في الشيء أي : أنهم مستقرون في مودتهم.
يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ. أي : يقولون في أنفسهم، أو للناصحين لهم بالثبات على الحق : اتركونا وشأننا فإننا نخشى أن تنزل بنا مصيبة من المصائب التي يدور بها الزمان، كأن تمسنا أزمة مالية، أو ضائقة اقتصادية، أو يكون النصر في النهاية لهؤلاء الذين نواليهم فنحن نصادقهم ونصافيهم ؛ لنتقي شرهم ولننال عونهم في الملمات والضوائق.
فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ. وهو وعد من الله تعالى لرسوله وللمؤمنين بان يحقق لهم الغلبة على أعدائهم والقضاء عليهم. والمراد بالفتح : فتح مكة، أو فتح خيبر او فتح بلاد المشركين أو نصر الإسلام وإعزازه، وكل ذلك قد كان. أو أمر من عنده. أي : أن يأتي الله بأمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل البتة مثل : القضاء على اليهود وقطع دابرهم أو هو الخصب والسعة للمسلمين، بعد أن كانوا في ضيق من العيش، أو هو الجزية التي تفرض على اليهود والنصارى، أو هو إظهار أمر المنافقين. والحق أن كل ذلك قد حققه للمسلمين.
فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ. أي : فيصبح هؤلاء المنافقون بعد أن جاء الفتح والنصر، آسفين متحسرين بسبب ما وقعوا فيه من ظن فاسد أو خائب " أو إذا ما عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب " ٢
٢ تفسير الطبري ٦/٢١٨..
أي : يقول الذين آمنوا لليهود على جهة التوبيخ، أهؤلاء المنافقون، الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد بالمناصرة والمعاضدة في القتال- ويحتمل أن يكون القول من المؤمنين بعضهم لبعض : أي : أهؤلاء الذين كانوا يحلفون أنهم مؤمنون فقد هتك الله اليوم سترهم، حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ. أي : بطلت الأعمال التي كانوا يعملونها، أو كل عمل يعملونه فصاروا خاسرين في الدنيا والآخرة.
ملحق بالآيات عن علاقة المسلمين بغيرهم
هل النهي الوارد في الآيات القرآنية عن موالاة غير المسلمين على إطلاقه ؟
والجواب عن ذلك أن غير المسلمين أقسام ثلاثة :
القسم الأول : وهم الذين يعيشون مع المسلمين ويسالمونهم، ولا يعملون لحساب غيرهم ؛ ولم يبدر منهم ما يفضي إلى سوء الظن بهم... وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولا مانع من مودتهم والإحسان إليهم كما في قوله- تعالى- : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ( الممتحنة : ٨ ).
والقسم الثاني : وهم الذين يقاتلون المسلمين، ويسيئون إليهم بشتى الطرق وهؤلاء لا تصح مصافاتهم، ولا يجوز موالاتهم، وهم الذين عناهم الله في الآيات التي معنا وفيما يشبهها من آيات كما في قوله- تعالى- إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. ( الممتحنة : ٩ ).
والقسم الثالث : قوم لا يعلنون العداوة لنا ولكن القرائن تدل على أنهم لا يحبوننا بل يحبون أعداءنا، وهؤلاء يأمرنا ديننا بأن نأخذ حذرنا منهم دون أن نعتدي عليهم...
ومهما تكن أحوال غير المسلمين ؛ فإنه لا يجوز لولي الأمر المسلم أن يوكل إليهم ما يتعلق بأسرار الدولة الإسلامية. أو أن يتخذهم بطانة له بحيث يطلعون على الأمور التي يؤدى إفشاؤها إلى خسارة الأمة في السلم او الحرب.
المفردات :
يرتد : يرجع عما هو عليه.
أذلة : جمع ذليل، لين رحيم، متواضع لا بمعنى مهين. أي : رحماء متواضعين.
أعزة : أقوياء أشداء.
لومة : المرة من اللوم، ولامه : كدره بالكلام ؛ لإتيانه مالا ينبغي.
التفسير :
٥٤- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ... الآية. من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى الكفر وإنكار ما جاء به الإسلام من تكاليف.
فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ. بأناس آخرين
يُحِبُّهُمْ. يرضى عنهم إذا هداهم إلى خيري الدنيا والآخرة.
وَيُحِبُّونَهُ. ويحرصون على طاعته وينصرون دينه.
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ. أي : يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الغلظة والشدة والترفع على الكافرين.
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ. يجمعون بين المجاهد في سبيل الله، وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان، من الأزدراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوئ، ومناقبهم مثالب ؛ حسدا وبغضا وكراهية للحق وأهله ١.
ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. أي : ما تقدم من الأوصاف العظيمة، والفضائل الجليلة من محبة الله لهم، ومحبتهم لله تعالى، وحنوهم على المؤمنين، والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله- دون خشية أحد- إنما هو لطف الله وإحسانه، يتفضل بمنحه من يشاء من عباده، وذلك بتوفيقه للعمل على تحصيله والحرص على التحلي به.
وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. كامل القدرة، كثيرالأفضال، كامل العلم، محيط بكل شيء وقد تحدثت الآية عمن يرتدون قبل أن يقع ردتهم، فكان ذلك إخبارا عن مغيبات، وكان معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإعجازا للقرآن الكريم، وقد ارتد من العرب في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق :
١- بنو مدلج : تحت رياسة الأسود العنسي تنبأ باليمن، ثم فيروز الديلمي.
٢- بنو حنيفة : أصحاب مسيلمة الكذاب وقد قتل في حروب الردة.
٣- بنو أسد : قوم طلحة بن خويلد وقد هزم وهرب إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.
وقد قيض الله أبا بدر الصديق فجهز الجيوش لقتال المرتدين، واستطاع القضاء على هذه الفتنة، وضم المسلمين بعد أن كادوا يتفرقون وقد اختلف المفسرون في المراد بهؤلاء القوم الذين يأتي الله بهم، فقال بعضهم : أبو بكر الصديق ومن معه من المؤمنين.
وقال بعضهم : المراد بهم الأنصار.
وقال مجاهد : أهل اليمن.
وقال آخرين : كل من تنطبق عليه هذه الصفات الجليلة : فكل من أحب الله وأحبه الله، وتواضع للمؤمنين وأغلظ على الكافرين وجاهد في سبيل الله دون أن يخشى أحدا سواه فهو منهم.
٥٥- إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.
جاء في تفسير الطبري : أن جابر بن عبد الله قال : جاء عبد الله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن قومنا من بني قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك ؛ لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال : رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء.
كما وردت عدة أقوال فيمن نزلت فيهم هذه الآية.
فقيل : إنها نزلت في أبي بكر الصديق. وقيل : نزلت في علي بن أبي طالب، وقيل : الآية عامة في جميع المؤمنين.
ومعنى الآية :
أن الولي حقا، الجدير بأن يستنصر به : هو الله تعالى وحده، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، فإن الاستعانة بهم استعانة بالله تعالى.
وقد جاءت هذه الآية تحريضا للمؤمنين على الاستنصار بالله وبرسوله والمؤمنين، تحذيرا من موالاة غيرهم.
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ. أي : إنما وليكم الجدير بالولاء هو الله وحده وكذلك رسوله والمؤمنون.
وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. أي : الذين يحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها ويعطون الزكاة لمستحقيها وهم خاشعون خاضعون لأمر الله لا يتكبرون على أحد من الفقراء.
جاء في تفسير زاد المسير لابن الجوزى :
والمراد بالركوع ثلاثة أقوال :
أحدها : انه ركوع الصلاة.
ثانيها : أنه صلاة التطوع بالليل والنهار، وإنما أفرد الركوع بالذكر ؛ تشريفا له.
ثالثها : أنه الخشوع والخضوع وأنشدوا :
ولا تهن الفقير علك أن تر | كع يوما والدهر قد رفعه. |
ذكر ابن كثير والفخر الرازي وغيرهم من المفسرين أن الآية عامة في حق جميع المؤمنين، فكل من كان مؤمنا حقا فهو نصير لجميع المؤمنين.
ونظيره قوله تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ. ( التوبة : ٧١ )
قال الراغب : " الركوع : الانحناء وتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة، وتارة يستعمل في التذلل والتواضع إما في العبادة، وإما في غيرها... ١.
حزب الله : الحزب في اللغة ؛ القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم. وحزب الرجل : أصحابه الذين يكونون معه على رأيه. وأظهر ما قاله المفسرون في بيان معناه : أنهم الذين يطيعون الله فيما أمر ونهى، فينصرهم الله.
٥٦- وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.
ذكر الشوكاني في سبب نزول الآية :
أنه لما حاربت بنو قينقاع من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسك عبد الله بن أبي بحلفه معهم، اما عبادة ابن الصامت، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من حلفهم، وكان له من حلفهم مثل ما لعبد الله بن أبي، لكنه خلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
قال الطبري :
" أي من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله وولي المسلمين فهو من حزب الله " ١ وهم المؤمنون القائمون بنصر شريعة الله الذين يطيعون أمره ويجتنبون نهيه فكان لهم النصر على أعدائهم
٥٧-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء... الآية.
ورد في تفسير القرطبي، وتفسير الآلوسي وغيرهما روايات في أسباب نزول هذه الآية من ذلك ما يأتي :
أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ... الآية ١
وروى عن ابن عباس أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى هذه الآيات ٢.
والآيات في حد ذاتها خطاب من الله تعالى لجميع المؤمنين ينهاهم عن موالاة المتخذين للدين هزوا ولعبا، وهذا النهي يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام ٣
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء.... أي : لا تجعلوا أيها المؤمنون- أولئك الذين تلاعبوا بدينكم من أهل الكتاب والكفار واستهزءوا به وسخروا منه، بإظهار الإسلام بألسنتهم مع الإصرار على الكفر بقلوبهم- أولياء أبدا.
وصدر أهل الكتاب في الذكر ؛ لزيادة التشنيع عليهم ؛ لأنهم أعرف بالتدين السليم ممن سواهم، ممن كفروا ولا دين لهم.
وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. وهذه الجملة تذييل قصد به استنهاض همتهم لامتثال أمر الله تعالى، وإلهاب نفوسهم ؛ حتى يتركوا موالاة أعدائهم بسرعة ونشاط.
أي : واتقوا الله في سائر ما أمركم به وما نهاكم عنه، فلا تضعوا موالاتكم في غير موضعها، ولا تخالفوا لله أمرا إن كنتم مؤمنين حقا.
٢ تفسير القرطبي ٦/٢٢٣..
٣ تفسير فتح القدير للشوكاني..
هزوا : هزأ بفلان ؛ سخر منه، واستخف به. واتخذه هزوا أي : جعله موضع سخرية منه.
٥٨- وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ. ورد في سبب نزول هذه الآية أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها قالت اليهود : قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا، على سبيل الاستهزاء والضحك، فنزلت هذه الآية ١.
وروى أن الكفار لما سمعوا الأذان ؛ حسدوا رسول اله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ذلك وقالوا : يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم نسمع فيها مضى من الأمم فمن أين لك صياح مثل صياح العير، فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر ٢.
ومعنى الآية :
وإذا ناديتم- أيها المؤمنون- بعضكم بعضا إلى الصلاة عن طريق الأذان اتخذ هؤلاء الضالون الصلاة والمناداة بها موضعا لسخريتهم وعبثهم وتهكمهم.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ. لأن الهزؤ واللعب شأن أهل السفه والخفة والطيش، فكيف بمن يهزأ بشعائر دين الله :
والصلاة هي شعار المؤمنين وفيها صلة روحية بالله تعالى وفيها عبادة وطهارة وذكر وخشوع وتبتل، وليس شيء مما يدعو إلى السخرية.
قال ابن كثير :
هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام من الكتابين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون وهي شرائع الإسلام المطهرة. المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها هزوا، يستهزئون بها، ولعبا يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد كما قال القائل :
وكم من عائب قولا صحيحا | وآفته من الفهم السقيم ٣. |
٢ تفسير الطبري ٦/٢٢٤..
٣ تفسير ابن كثير ٢/٧٢..
٤ تفسير القرطبي٦/٢٢٦..
تنقمون : تعيبون علينا وتنكرون منا.
التفسير :
٥٩- قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ...
سبب النزول : أن نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فذكر جميع الأنبياء، فلما ذكر عيسى، جحدوا نبوته، وقالوا : والله ما نعلم دينا شرا من دينكم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ١.
ومعنى نقمت : بالغت في كراهية الشيء، والمعنى : هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم لأنكم علمتم أننا على الحق، وأنكم فسقتم.
وجاء في التفسير الوسيط :
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا. أي : ما تنكرون منا وتعيبون علينا إلا إيماننا بالله وما أنزل إلينا من القرآن المجيد وإيماننا بما أنزل من قبل إنزال القرآن الكريم : من التوراة والإنجيل المنزلين عليكم، وسائر الكتب السماوية، وكذلك إيماننا بأنكم قوم فاسقون متمردون على الحق خارجون عن الطريق المستقيم للصالح الإنساني، مكذبون بنبوة محمد الذي بشرت به كتبكم وجاء لخلاصكم ٢.
وقال الشوكاني في فتح القدير في معنى الآية :
هل تعيبون أو تسخطون أو تنكرون أو تكرهون منا إلا إيمانا بالله وبكتبه المنزلة، وقد علمتم بأننا على الحق.
وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ. بترككم للإيمان والخروج عن امتثال أوامر الله. اه.
ومن بلاغة القرآن الكريم وإنصافه في الأحكام واحترسه في التعبير، أنه لم يعمم الحكم بالفسق على جميعهم، بل جعل الحكم بالفسق منصبا على الكثيرين منهم حتى يخرج عن هذا الحكم القلة المؤمنة من أهل الكتاب، وشبيه بهذا قوله في آية أخرى : مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ. ( المائدة : ٦٦ ).
وفي الآية ما يسمى عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس. فمن الأول قول القائل :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
فتكلمت أخلاقه غير أنه جواد فما يبقى من المال باقيا
أما تأكيد الذم بما يشبه المدح ففي هذه الآية وما يشبهها. أي : ما ينبغي أن ينقموا شيئا إلا هذا، وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئا، إذا فليس هناك شيء ينقمونه، وما دام الأمر كذلك، فينبغي لهم أن يؤمنوا به ولا يكفروا، وفيه أيضا تقريع لهم حيث قابلوا الإحسان بسوء الصنيع ٣
٢ التفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية الحزب الثاني عشر ص ١١٠٤..
٣ تفسير القاسمي٦/٢٥١ بتصرف واختصار..
الطاغوت : رأس الضلال. وقيل : الشيطان، أو كل معبود من دون الله.
مثوبة : المثوبة والثواب ؛ الجزاء على الأعمال خيرها، وشرها، وكثر استعماله في الخير.
التفسير :
٦٠- قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.. الآية.
بين سبحانه لرسوله أن هناك قوما فيهم من العيب ما هو أولى بالعيب، وهو ما هم عليه من الكفر الموجب للعن الله وغضبه ومسخه ١.
والمعنى :
قل لهم يا محمد على سبيل التبكيت والتنبيه على ضلالهم : هل أخبركم أيها اليهود، بمن هم شر وأسوأ من أهل ذلك الدين عقوبة عند الله يوم القيامة ؟ !
هم أولئك الذين طردهم الله من رحمته، وأبعدهم عن رضوانه وحل عليهم سخطه، وهم :
مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. أي : وجعل منهم من يشبه القردة في التقليد الأعمى، والخنازير في الانغماس في كل ما هو قذر.
وكذلك جعل منهم الذين عبدوا الكهنة ورؤساء الضلال.
وفي المراد بالطاغوت هنا قولان :
أحدهما : الأصنام.
والثاني : الشيطان.
وفي القرطبي وابن كثير، وابن الجوزي عشرون قراءة في كلمة وعبد الطاغوت وفيها وجهان. أحدهما : أن المعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت.
والثاني : أن المعنى : من لعنه الله وعبد الطاغوت. أي : خدم الطاغوت وأطاع الظلم والباطل والفساد. والآية وردت على سبيل المشاكلة والمجاورة لتفكير اليهود الفاسد وزعمهم الباطل.
فكأنه سبحانه يقول لنبيه :
إن هؤلاء يا محمد ينكرون عليكم إيمانكم بالله وبالكتب السماوية ويعتبرون ذلك شرا، قل لهم : لئن كنتم تعيبون علينا إيماننا وتعتبرونه شرا لا خير فيه فشر منه عاقبة ومآلا ما انتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله، وما أصاب أسلافهم من مسخ بعضهم قردة، وبعضهم خنازير. وما عرف عنكم من عبادة لغير الله.. وشبيه بهذه الآية في مجاراة الخصم قوله تعالى : وَإِنَّا وْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ. ( سبأ : ٢٤ )
أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً. أي : هؤلاء الموغلون في الاتصاف بتلك القبائح والخبائث التي أوقعتهم في سوء المصير. هم في شر المكانة وأحط المقام في الدنيا والآخرة.
وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ. أي : وهم أكثر ضلالا عن طريق الحق المستقيم من سواهم، فهم في الدنيا يشركون بالله وينتهكون محارمه وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار.
٦١- وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ... الآية
نزلت هذه الآيات في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به ؛ نفاقا وخداعا ومكرا.
فإذا خرجوا من عنده خرجوا بالكفر كما دخلوا دون أن يتأثروا بما سمعوه من هدى الرسول وإرشاده فأنزل الله هذه الآيات لإظهار نفاقهم.
والمعنى : وإذا جاءوا إليكم أيها المؤمنون- أولئك اليهود- أظهروا أمامكم الإسلام وقالوا لكم : أمنا بأنكم على حق، وحالتهم وحقيقتهم أنهم قد دخلوا إليكم وهم متلبسون بالكفر، وخرجوا من عندكم وهم متلبسون به أيضا، فهم يدخلون عليكم ويخرجون من عندكم وقلوبهم كما هي لا تتأثر بالمواعظ التي يلقيها الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم قد قست قلوبهم، وفسدت نفوسهم.
وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ. أي : والله أعلم بما كانوا يخفونه من نفاق وخداع وبغض للمسلمين وتدبير للكيد لهم وإلحاق أبلغ الضرر بهم.
وقد قال تعالى في شأنهم أيضا : وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. ( أل عمران : ٧٢ ).
الإثم : الذنب وكل المعاصي، ويطلق على الكذب.
والعدوان : مجاوزة الحد في الظلم.
السحت : الحرام.
٦٢- وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي : وترى- أيها الرسول الكريم- كثيرا من هؤلاء اليهود يسارعون في ارتكاب الآثام والظلم وأكل المال الحرام بدون تردد أو تريث.
لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
تذييل. قصد به تقبيح أعمالهم التي يأباها الدين والخلق الكريم.
وفي هذه الآية نجد أن الله تعالى قال : وترى كثير ا منهم. ولم يقل : وتراهم ؛ لأن قليلا منهم كانت فيهم إنسانية فيستحيون، فيتركون المعاصي.
وأكثر ما يستعمل لفظ المسارعة في الخير قال تعالى : نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ. ( المؤمنون : ٥٦ ).
فاستعماله هنا يدل على أنهم كانوا يرتكبون المعاصي وكأنهم على حق فيما يفعلون.
لولا : هلا. وهي هنا : للتحضيض.
الربانيون : العلماء العارفون بالله، يكونون في اليهود وغيرهم.
الأحبار : علماء اليهود، وقيل : هما في اليهود ؛ لأن الحديث ما زال متصلا ببيان شأنهم.
التفسير :
٦٣-لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.
أي : هلا قام العلماء بالنهي عن التسابق إلى ارتكاب المعاصي والانغماس في الشهوات ؟
السحت : هو المال الحرام كالربا والرشوة، سمي سحتا من سحته إذا استأصله ؛ لأنه مسحوت البركة أي : مقطوعها، أو لأنه يذهب فضيلة الإنسان ويستأصلها، واليهود أرغب الناس في المال الحرام وأحرضهم عليه، والربانيون : جمع رباني وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم. والأحبار : جمع حبر، وهم علماء اليهود وفقهاؤهم المفسرون لما ورد في التوراة من أقوال وأحكام.
جاء في فتح القدير للشوكاني عند تفسير الآية :
أي : لقد ترك علماؤهم نهيهم عن المنكر الذي يقولونه بألسنتهم، وما يأكلونه من الحرام والرشا والظلم.
لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ. فبئس الصنيع من علمائهم هذا التهاون في إبقائهم واقعين في الحرم دون إنكار ولا تغيير، فوبخ سبحانه الخاصة وهم العلماء التاركون للأمر والنهي عن المنكر، بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعلى المعاصي، فهم أشد حالا، وأعظم وبالا من العصاة، فرحم الله عالما قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ١.
وقال ابن جرير : كان العلماء يقولون : ما في القران آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها.
وقال ابن كثير : روى الإمام أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : " ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، وهم أعز منه وأمنع ولم يغيروا ؛ إلا أصابهم الله منه بعذاب " ٢.
وروى ابن أبي حاتم عن يحيي بن يعمر قال : خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم ؛ بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار فلما تمادوا ؛ أخذتهم العقوبات ؛ فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا ٣ ".
وجاء في تفسير القرطبي للآية :
روى سفيان بن عيينة قال : حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال : بلغني ان ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال : يا رب، فيها فلان العابد، فأوحى الله إليه : " أن به فابدأ فإنه لم يتعمر ٤وجهه في ساعة قط " ٥.
وفي صحيح الترمذي " إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه ؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " ٦.
٢ ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي:
رواه أحمد في مسنده (١٨٧٣١) من حديث جرير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه إلا أصابهم الله عز وجل منه بعقاب..
٣ تفسير ابن كثير ٢/٧٤..
٤ أن به فابدأ فإنه لم يتمعر:
قال الهيتمي في المجمع: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها قال: إن فيها عبدك فلانا لم يعصك طرفه عين قال: اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر (أي لم يتغير من التألم والغضب) في ساعة قط. رواه الطبراني في الأوسط من رواية عبيد بن إسحاق العطار عن عمار بن سيف وكلاهما ضعيف ووثق عمار بن سيف بن المبارك وجماعة ورضي أبو حاتم عبيد بن إسحاق..
٥ يتمعر وجهه: يتغير..
٦ إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه:
رواه أبو داود في الملاحم (٤٣٣٨) والترمذي في الفتن (٢١٦٨) واحمد في مسنده (٣١، ٣٠) من حديث قيس قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ﴿عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ قال عن خالد وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب..
يد الله : اليد في كلام العرب تكون : للجارحة، وللنعمة، وللقوة، وللقدرة، وللصلة، وللتأييد، وللنصرة.
مغلولة : الغل : قيد من الجلد، أو الحديد يوضع في اليد أو العنق. ومرادهم بذلك : أنها مقبوضة، بخيلة بالعطاء.
مبسوطتان : البسط : المد بالعطاء. والمراد منه هنا : الجود والإعطاء.
أوقدوا نارا للحرب : أوقد النار : أشعلها. والمراد هنا : أثاروا الفتن، ودبروا المكائد التي تؤدي إلى وقوع الحرب بين الناس.
التفسير :
٦٤- وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ... الآية
سبب النزول : جاء في تفسير القرطبي ما يأتي :
قال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ قل ما لهم، فقالوا : إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء، فالآية خاصة في بعضهم، وقيل : لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون، صاروا كأنهم بأجمعهم قالواهذا.
وقال الحسن : المعنى : يد الله مقبوضة عن عذابنا.
وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا : مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا. ( البقرة : ٢٤٥ ).
ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا : إن إله محمد فقير وربما قالو : بخيل وهذا معنى قولهم : يد الله مغلولة. فهم على التمثيل كقوله : وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ. ( الإسراء : ٢٩ ).
ويقال للبخيل : جعد الأنامل، ومقبوض الكف، وكز الأصابع ومغلول اليد ١.
والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال، لاسيما في دفع المال وإنفاقه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والخير إلى اليد والكف فقيل للجواد : فياض اليد، مبسوط الكف، وقيل للبخيل : مقبوض اليد، كز الكف...
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ. أي : أن الله بخيل علينا بما عنده من المال والعطاء والرزق، أو المراد : أنه فقير لا يجد ما يعطيه لنا، حيث قالوا في الآية ١٨١ من سورة آل عمران : إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء.
وهذا نوع من جرأة اليهود على الله وسوء أدبهم معه وتوبيخ لهم على جحودهم نعم الله التي لا تحصى.
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ. وهو دعاء عليهم بالشح المرير وبالبخل الشنيع بأن يخلق سبحانه فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس، ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الل، ه وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله تعالى.
قال الآلوسي : ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدي : الحقيقة أن يغلوا في الدنيا أساري، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فيكون تجنيسا، وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره أي : قطعه ؛ لأن السب أصله القطع ٢ وقد حقق الله قضاءه فيهم، فكانوا أبخل الناس في الدنيا، وأحرصهم على المال، وباءوا في الآخرة بالخلود في النار.
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء. أي : ليس الأمر كما زعمتم أيها اليهود، بل هو سبحانه الواسع الفضل، الجزيل العطاء، وما من شيء إلا عنده خزائنه.
فبسط اليد هنا : كناية عن الجود والفضل والأنعام منه- سبحانه- على خلقه وقد أشير بثنية اليد إلى تقرير غاية جوده وغناه.
فإن أقصى ما تصل إليه همة الجواد السخي أن يعطي بكلتا يديه.
وقوله : يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء. جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده، والدلالة على انه ينفق على مقتضى حكمته ومشيئته، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقبضه عمن يشاء ؛ لحكمة يعلمها ولا نعلمها.
قال تعالى : وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ( الشورى : ٢٧ ).
وقال تعالى : قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ( آل عمران : ٢٦ )
وروى البخاري ومسلم، وأحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى قال : أنفق أنفق عليك " ٣ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء ٤ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه، قال : وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض. ٥
قال القرطبي :
يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء. يرزق كما يريد ويجوز أن يكون اليد في هذه الآية بمعنى : القدرة أي : قدرته شاملة إن شاء وسع وإن شاء قتر.
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا. المراد بالكثير : علماء اليهود ورؤساؤهم، أي : إذا نزل شيء من القرآن فكفروا به ؛ ازداد كفرهم.
والقرآن بطبيعته كتاب هداية وشفاء للنفوس من ضلالها لكن اليهود قوم أكل الحقد قلوبهم واستولى الحسد على نفوسهم فهم يضمون إلى حقدهم القديم وكفرهم السابق كفرا جديدا بكل ما نزل عليك يا محمد.
قال تعالى : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا. ( الإسراء : ٨٢ ).
وقد أكد الله هذه الجملة بالقسم المطوى وباللام الموطئة له، وبنون التوكيد الثقيلة ؛ لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم وليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع.
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قال ابن عطية : وكأن العداوة. شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء لا تتجاوز النفوس.
والمعنى : وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة، العداوة الدائمة والبغضاء المستمرة، فلا تتوافق قلوبهم، ولا تتطابق أقوالهم أبدا إلى يوم القيامة.
ولقد كانوا كذلك طوال تاريخهم، منذ أن أرسل إليهم الرسل ودأبوا على قتل الأنبياء بغير حق، ثم كذبوا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمروا على اقتراف حرائمهم، وازدادوا فيها، قال تعالى : بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.. ( الحشر : ١٤ )
كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ. أي : كلما هموا بحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفسد الله عليهم خطتهم وأحبط مكرهم، وألقى الرعب في قلوبهم، او كلما حاربوا أحدا أو جماعة غلبوا وهزموا، وقد كان أمرهم كذلك على مدى التاريخ.
جاء في تفسير القرطبي :
وقيل : إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله- التوراة- أرسل الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فأرسل عليهم تيطس الرومي، ثم أفسدوا فبعث عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث عليهم المسلمين فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله كلما أوقدوا نارا أي : أهاجوا شرا، وأجمعوا أمرهم على الحرب قهرهم الله ووهن أمرهم فذكر النار مستعار ٦.
والعرب كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم أوقدوا نارا يسمونها : نار الحرب.
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. أي : أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله، وأنهم يسعون سعيا حثيثا للإفساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن وإيقاظ الأحقاد بين الناس.
وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. بل يبغضهم ويمقتهم ؛ لإيثارهم الضلالة على الهدى والشر على الخير.
وقد كانت أصابع اليهود وراء نيران الحروب والعداوة في تاريخهم الطويل.
ومنذ القدم واليهود كلما جمعوا جموعهم وأعدوا عدتهم لإيذاء الناس، أو إشعال نار الفتنة على عباد الله ؛ شتت الله شملهم، وخيب رجاءهم ودمر كيدهم.
٢ تفسير الآلوسي ٦/١٠٨، والتفسير الوسيط حزب ١٢ ص ١١١١..
٣ أنفق أنفق عليك:
رواه البخاري في تفسير القرآن (٤٦٤٨) وفي النفقات (٥٣٥٢) وفي التوحيد (٧٤٩٦) ومسلم في الزكاة (٩٩٣) وابن ماجه في الكفارات (٢١٢٣) وأحمد في مسنده (٧٢٥٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال قال الله.
٤ يمين الله ملأي:
رواه البخاري في التوحيد (٧٤١٩) ومسلم في الزكاة (٩٩٣) وابن ماجه في المقدمة (١٩٧) واحمد في مسنده (٧٢٥٦) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن يمين الله ملأي لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى الفيض أو القبض يرفع ويخفض..
٥ انظر تفسير القرطبي وفيه: السح الصب الكثير، ويغيض: ينقص. وبالهامش "الليل والنهار" قال النووي:
هو بنصب الليل والنهار ورفعهما بالنصب على الظرف، والرفع على الفاعل..
٦ تفسير القرطبي٦/٢٤٠..
٦٥- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
والمعنى : ولو أن أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من حق ونور واتقوا الله تعالى وأقبلوا على طاعته بصدق وإخلاص لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ. أي : غفرنا ذنوبهم وسترنا عليهم في الدنيا ولأدخلناهم جنات النعيم في الآخرة.
قال الفخر الرازي :
واعلم أنه سبحانه لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم عقب ذلك ببيان أنهم لو آمنوا واتقوا ؛ لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين : أحدهما : رفع العقاب، والثاني : إيصال الثواب، أما رفع العقاب : فهو المراد بقوله : لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ.
أما إيصال الثواب : فهو المراد بقوله : وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وأما سعادات الدنيا فقد ذكرناها في قوله بعد ذلك وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ.
أقاموا التوراة والإنجيل : نفذوا ما فيها من الأحكام التي شرعها الله لخير الإنسانية، والتزموا بالمحافظة على أدائها.
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم : المراد : لوسع الله عليهم أرزقهم.
منهم أمة مقتصدة : الاقتصاد في اللغة : الاعتدال من غير غلو ولا تقصير أي : من اليهود طائفة معتدلة، وهو الذين آمنوا إيمانا حقيقيا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وكثير منهم ساء ما يعملون : كثير من اليهود ظلوا على الكفر وأفرطوا في العداوة والبغضاء فبئس ما عملوا.
٦٦- وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم... الآية
والمعنى : لو أن أصحاب الكتاب عملوا بما في التوراة والإنجيل وأقاموا الحدود ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه.
وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ. أي : القرآن الكريم.
لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم. يعني : المطر والنبات أي : لوسعنا عليهم في أرزاقهم وأكلوا أكلا متواصلا.
قال القرطبي :
ونظير هذه الآية قوله تعالى : وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. ( الطلاق : ٢-٣ ).
وقوله سبحانه : وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا. ( الجن : ١٦ ).
وقوله عزشأنه : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ. ( الأعراف : ٩٦ ).
فجعل التقوى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات ووعد بالمزيد لمن شكر فقال : لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ. ( إبراهيم : ٧ ).
مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ. وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان، وعبد الله بن السلام وغيرهم من المؤمنين بالرسل السابقين وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل : أراد بالاقتصاد : قوما لم يؤمنوا ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين.
وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ. وجماعة كبيرة من أهل الكتاب أكثروا من فعل السيئات، وأعرضوا عن الإيمان وحرفوا الكتب وكذبوا الرسل وأكلوا السحت، وكان من حالهم ما يثير العجب والدهشة.
يعصمك : يحفظك وينجيك.
التفسير :
٦٧- يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ...
وردت روايات في سبب نزول هذه الآية منها : أن رجلا حاول قتل النبي صلى الله عليه وسلم فحال بينه وبين ما يريد، فأنزل الله تعالى هذه الآية كما ورد في تفسير ابن كثير وأورد الفخر الرازي عشرة أقوال في سبب نزولها ثم قال : واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمل الآية على أن الله تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير، وما بعدها بكثير لما كان كلاما عن اليهود و النصارى، امتنع القاء هذه الاية الواحدة على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها...
فالآية عامة لتثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالمضي في تبليغ رسالته بدون خوف من أعدائه.
لقد ناداه الله بعنوان الرسالة في هذه السورة الكريمة مرتين.
دعاه في الأولى منها إلى عدم الحزن على مسارعة الكفار في إنكار رسالته.
ودعاه في هذه الآية إلى تبليغ جميع ما أنزل عليه من الآيات البينات ؛ لعموم رسالته للبشر أجمعين.
والمعنى : يأيها الرسول الكريم المرسل، إلى الناس جميعا، بلغ. أي : أوصل إليهم ما أنزل إليك من ربك. أي : كل ما أنزل إليك من ربك من الأوامر والنواهي والأحكام والآداب والأخبار.. دون أن تخشى أحدا إلا الله.
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ. وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك من ربك ؛ كنت كمن لم يبلغ شيئا مما أوحاه الله إليه، لأن ترك بعض الرسالة يعتبر تركا لها كلها، وتقصيرا في أداء الأمانة، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أو يقصر في حق الله تعالى.
جاء في الصحيحين أن سائلا سأل الإمام عليا رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما كان في كتاب الله ؟ فقال : لا والذي فلق الحبو وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن. ١.
وروى البخاري والترمذي : " من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب " ٢.
لقد قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. ( الحجر : ٩ ) وفيها دلالة على ان الله تعالى تكفل بحفظ كتابه الذي أمر الرسول بتبلغه فبلغه.
قال الزهري- فيما رواه البخاري_ من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وقد شهدت أمته له بتبليغ الرسالة في حجة الوداع، وقد أدى هذه الشهادة أربعون ألفا حضروا معه حجة الوداع.
وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. أي : بلغ الرسالة والله تعالى- يحفظ من كيد أعدائك ويمنعك من أن تعلق نفسك بشيء من شبهاتهم واعتراضاتهم، ويصون حياتك من أن يعتدي عليها أحد بالقتل أو الإهلاك.
وهذا لا ينافي ما تعرض له- صلى الله عليه وسلم-من بأساء و ضراء و أذى بدني، فقد رماه المشركون بالحجارة حتى سالت دماؤه، و شج وجهه، و كسرت رباعيته في غزوة أحد، و المراد بالناس هنا : المشركون و المنافقون و اليهود ومن على شاكلتهم في الكفر و الضلال و العناد.
ولقد تضمنت هذه الجملة الكريمة معجزة كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد عصم الله تعالى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يصيبنا قتل أو إهلاك على أيدي الناس مهما دبروا له من مكر وكيد، لقد نجاه من كيدهم عندما اجتمعوا لقتله في دار الندوة ليلة هجرته إلى المدينة.
ونجاه من كيد اليهود عندما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم.
ونجاة من مكرهم عندما وضعت إحدى نسائهم السم في طعام قدم إليه، إلى غير ذلك من الأحداث التي نجاه الله منها.
وقد أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : " أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله "
إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. تذييل قصد به تعليل عصمته صلى الله عليه وسلم، وتثبيت قلبه، أي : إن الله – تعالى- لا يهدي القوم الكافرين إلى طريق الحق بسبب عنادهم وإيثارهم العمى على الرشد... ولا يواصلهم إلى ما يريدون من قتلك، ومن القضاء على دعوتك بل سينصرك عليهم ويجعل العاقبة لك.
رواه البخاري في الجهاد (٣٠٤٧) وفي الديات (٦٩١٥، ٦٩٠٣) والترمذي في الديات (١٤١٢) والنسائي في القسامة (٤٧٣٥) والدرامي في الديات (٢٣٥٦) وأحمد في مسنده (٦٠٠) من حديث أبي جحيفة قال قلت لعلي يا أمير المؤمنين هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما علمته إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في الصحيفة قلت وما في الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر. وقال أبو عيسى حديث على حديث حسن صحيح ورواه مسلم في الإيمان (٧٨) من حديث أبي ذر قال قال على والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق..
٢ من حدثك أن محمدا صلى الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا:
رواه البخاري في تفسير القرآن (٢٣٥٦) وفي التوحيد (٧٥٣١) ومسلم في الإيمان (١٧٧) والترمذي في تفسير القرآن (٣٢٧٨، ٣٠٦٨) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب والله يقول﴿يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك﴾ الآية..
حتى تقيموا : حتى تؤدوا أداء كاملا على أحسن وجه.
طغيانا : الطغيان : تجاوز الحد في الضلال.
فلا تأس : فلا تحزن.
التفسير :
٦٨- قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ... الآية
ادعى اليهود أنهم على ملة إبراهيم، وأنهم متمسكون بالتوراة أنهم على الحق والهدى، ولن يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ١ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى :
يا أهل الكتاب، لستم على شيء يعتد به من العقيدة الصحيحة ؛ حتى تلتزموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل، وحتى تؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا تفرقوا بين الرسل.
قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا. ( النساء : ١٥٠-١٥١ ).
والمعروف أن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل، ولم يعلموا بما بقي بين أيديهم منها، فارتكبوا المنكرات واتبعوا الشهوات.
وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ. أي : لستم على شيء يعتد به من أمر الذين حتى تؤمنوا بما أنزل إليكم من ربكم من قرآن كريم يهذي إلى الرشد.
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا... أمعن اليهود في الضلال والإضلال وجاوزوا الحد في الكفر والعناد، وكان الأولى بهم أن يستجيبوا لهداية القرآن ويستمعوا لآياته بقلوب مفتوحة راغبة في الاستفادة.
لكنهم بدلا من أن يزدادوا إيمانا بما أنزل الله إليك، ازدادوا إمعانا في الكفر والطغيان، إلا قليلا منهم استجابوا للحق فآمنوا بما أنزله الله عليك من الآيات البينات، وبقي الكثيرون على ضلالهم القديم.
فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. أي : إذا كان شأن الكثيرين كذلك فلا تحزن عليهم، ولا تتأسف على القوم الكافرين فإنهم هم الذين استحبوا العمى على الهدى، وحسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين. وليس المراد : نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن والأسى ؛ لأنهما أمران طبيعيان لا قدرة للإنسان عن صرفهما، وإنما المراد نهيه هم لوازمهما.
كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب، وتعظيم أمرها، وبذلك تتجدد الآلام ويحزن القلب.
الصابئون : المائلون من عقيدة إلى عقيدة، والمراد : أتباع بعض الرسالات السماوية السابقة.
التفسير :
٦٩- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئونَ وَالنَّصَارَى... الآية.
إن أتباع الديانات السابقة من المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومن اليهود المتمسكين برسالة موسى عليه السلام قبل المسيحية ممن لم يحرفوا كتب أنبيائهم.
ومن الصابئين الذين تمسكوا بملة إبراهيم عليه السلام قبل نسخها.
( والصابئة : فرقة تعيش في العراق ولهم طقوس دينية خاصة بهم، ومن العسير الجزم بحقيقة معتقدهم لأنهم أكتم الناس لعقائدهم. ويقال : إنهم يعبدون الملائكة أو الكواكب ).
ومن المسيحين الذي تمسكوا بالمسيحية، ولم يحرفوها قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء جميعا إذا آمنوا بالله تعالى إيمانا صحيحا غير ملتبس بالشرك، واستمسكوا بهذا الإيمان، واتبعوا أنبياءهم وما جاء على ألسنتهم من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا به عند مبعثه، وآمنوا بالبعث والنشور والجزاء، وعملوا الصالحة ؛ إن هؤلاء جميعا يظفرون بالثواب الجزيل على ما قدموه من إيمان وعمل صالح.
مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. إن كل من آمن من هؤلاء بالله واليوم الآخر- فإن الله تعالى يرضى عنه ويثيبه ثوابا حسنا.
ولا خوف على هؤلاء المؤمنين من عقاب ولا يعتريهم حزن من سوء الجزاء فلا يخافون بخسا ولا رهقا ولا يحزنهم الفزع الأكبر.
يقول الدكتور طنطاوي :
والإيمان المشار إليه في قوله : مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر. ِ يفسره بعض العلماء بالنسبة لليهود والنصارى والصابئين. بمعنى : صدور الإيمان منهم على النحو الذي قدره الإسلام فمن لم تبلغه دعوة الإسلام وكان ينتمي إلى دين صحيح في أصله بحيث يؤمن بالله واليوم الآخر، ويقوم بالعمل الصالح على الوجه الذي يرشده إليه دينه ؛ فله أجره على ذلك عند ربه.
أما الذين بلغتهم دعوة الإسلام من تلك الفرق، ولكنهم لم يقبلوها فإنهم لا يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا أنهم مؤمنون بدين آخر ؛ لأن شريعة الإسلام قد نسخت ما قبلها، والرسول صلى الله عليه وسلم قال : لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أتباعي ١.
وبعض العلماء يرى أن معنى من آمن. أي : من أحدث من هذه الفرق إيمانا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عنده.
قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام
والآية الكريمة مسوقة للترغيب في الإيمان والعمل الصالح.
وقد بدأت الآية بحرف إن وهو حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر وكان مقتضى ذلك أن تكون هكذا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئونَ. لكن جمهور القراء قرأها والصابئون، وقرأ ابن كثير بالنصب.
ورفع : الصابئون ؛ إبرازا لأنهم أيضا ناجون شأنهم شأن المؤمنين والنصارى واليهود، ودفعا لما يسبق إلى الأذهان من أنهم عبدة أوثان.
وجاء في حاشية الجمل على الجلالين :
وقوله : إن الذين آمنوا أي : إيمانا حقا لا نفاقا، وخبر إن محذوف وتقديره : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، دل عليه المذكور.
والذين هادوا : مبتدأ فالواو لعطف الجمل أو للاستئناف وقوله : والصابئون والنصارى عطف على هذا المبتدأ وقوله : فلا خوف عليهم. خبر عن هذه المبتدآت الثلاثة وقوله : من آمن بالله واليوم الآخر. بدل من كل منها بدل بعض من كل بعض، فهو مخصص فكأنه قال : " الذين آمنوا من اليهود ومن النصارى والصابئين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فالإخبار عن اليهود ومن بعدهم بما ذكر مشروط بالإيمان لا مطلقا... " ٢
رواه أحمد (١٧٨٧١، ١٥٤٣٧) من حديث عبد الله بن ثابت. وذكره الهندي في الكنز (١٠١١) ونسب لابن سعد وأحمد والحاكم في الكني والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن ثابت الأنصاري قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني ورجاله ورجال الصحيح إلا أن فيه جابرا الجعفي وهو ضعيف..
٢ حاشية الجمل على الجلالين ١/٥١١..
ميثاق : الميثاق ؛ العهد القوي.
التفسير :
٧٠- لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً... الآية
أخذ الله العهد المؤكد على بني إسرائيل بعبادته وحده وأداء جميع أوامره واجتناب جميع نواهيه.
كما أرسل سبحانه إليهم رسلا ذوي عدد كثير وأولي شأن خطير ؛ لكي يتعهدوهم بالتبشير والإنذار، بحيث لم يبق لهم عذر في مخالفة العهد أو نقض الميثاق، وقد ذكر هذا الميثاق في أماكن أخرى في القرآن الكريم.
ففي الآية ١٢ من سورة المائدة يقول سبحانه : وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ.
وقال سبحانه : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... ( البقرة : ٨٣ ).
وقال عز شأنه : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ... ( البقرة : ٨٤ ).
كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ. أي : أخذنا الميثاق المؤكد عليهم ١ وأرسلنا إليهم رسلا كثيرين لهدايتهم، ولكنهم نقضوا الميثاق، وعصوا الرسل وقابلوهم بالجحود والعدوان والتكذيب، ولم يقتصروا على التكذيب بل قتلوا بعض هؤلاء الرسل.
والتقدير، كلما جاءهم رسول بما يخالف أهواءهم، استكبروا ولجوا في العناد فكذبوا فريقا من الأنبياء وقتلوا فريقا منهم، كما قال تعالى لهم :... أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ. ( البقرة : ٨٧ ).
فتنة : الفتنة : الاختبار بالنار، ومعناها هنا : العاب.
التفسير :
٧١- وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ...
فتنة. من الفتن وهو إدخال الذهب في النار لتظهر جودته.. والمراد بها هنا : الشدائد والمحن و المصائب التي تنزل بالناس.
فَعَمُواْ وَصَمُّواْ. من العمى الذي هو ضد الابصار و من الصمم الذي هو ضد السمع، وقد استعيرهنا للإعراض عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل.
والمعنى : لقد ظن اليهود أنهم لن يصبيهم بلاء بتكذيبهم للرسل وقتلهم لهم فأمنوا عقاب الله وتمادوا في فنون البغي والفساد، وعموا وصموا عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل واشتملت عليها الكتب السماوية.
ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ. أي : ثم تاب عليهم قبل توبتهم بعد أن رجعوا عما كانوا عليه من فساد، ثم نكسوا على رءوسهم مرة أخرى فعادوا إلى فسادهم وضلالهم وعدوانهم على أنبيائهم إلا عددا قليلا منهم بقي على توبته وإيمانه.
وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ. أي : والله تعالى عليم بما يعملونه علم من يبصر كل شيء دون أن تخفى عليه خافية، وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقونه من عذاب أليم.
وتفيذ الآية : أن فساد اليهود وعماهم وصممهم على الحق قد حصل مرتين، واختلف المفسرون في المراد بهاتين المرتين على وجوه :
الأول : أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيي وعيسى ثم تاب الله عليهم حيث وفق بعضهم للإيمان ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان محمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني : أن العمى الأول كان في زمن بختصر البابلي، وقد غزاهم سنة ٦٠٦ قبل الميلاد، ثم ساعدهم قورش ملك الفرس سنة ٥٢٦ قبل الميلاد فعادوا لبلادهم وأعادوا بناء هيكلهم.
ثم عموا مرة ثانية ؛ فسلط الله عليهم الرومان بقيادة تيطس سنة ٧٠م.
قال القفال ١ : ذكر الله تعالى في سورة الإسراء ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال : وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علو كبيرا. ( الإسراء : ٤١ ).
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي ٢ بعد أن نقل عن الفخر الرازي آراء المفسرين ثم عقب قائلا :
" والذي نراه أن تحديد عماهم وصممهم وتوبتهم بزمان معين أو بجريمة أو جرائم معينة تابوا بعدها- هذا التحديد غير مقنع، ولعل أحسن منه أن تقول :
إن القرآن الكريم يصور ما عليه بنو إسرائيل من صفات ذميمة وطبائع معوجة، ومن نقص للعهود والمواثيق... فهم أخذ الله عليهم العهود فنقضوها، وأرسل إليهم الرسل فاعتدوا عليهم، وظنوا أن عدوانهم هذا شيء هين ولن يصيبهم بسببه عقاب دنيوي، فلما أصابهم العقاب الدنيوي كالقحط والوباء والهزائم... بسبب مفاسدهم ؛ تابوا إلى الله فقبل الله توبتهم ورفع عنهم عقابه فعادوا إلى عماهم وصممهم- إلا قليلا منهم- وارتكبوا ما ارتكبوا من منكرات بتصميم وتكرار، فأصابهم- سبحانه- بفتن لم يتب عليهم منها..
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. ( العنكبوت : ٤٠ ).
٢ تفسير سورة المائدة ٣١٠..
٧٢- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ... الآية
بعد أن تحدث الله عن اليهود ونقضهم الميثاق، وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء، شرع هنا في الكلام عن النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا : إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
قال الفخر الرازي : وهذا هو قول اليعقوبية، لأنهم يقولون : إن مريم ولدت إلها، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون : إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى اه.
والمعنى : أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله المستحق للعبادة هو المسيح ابن مريم مع أنه بشر ولا يصح أن يكون إلها.
ونسبة المسيح إلى مريم، للإيذان بأنه ليس له حظ من الألوهية وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
أي : قال المسيح مكذبا من وصفه بالألوهية :
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ. وحده ولا تشركوا به شيئا فهو ربي الذي خلقني وتعهدني بالتربية والرعاية، وهو ربكم الذي أنشأكم وأوجدكم ورزقكم من الطيبات. ومع أن الأناجيل قد حرفت، لكنها بقيت فيها بقية ناطقة بالتوحيد تؤيد أن المسيح عبد الله ورسوله، ومن ذلك ما قاله المسيح : " وهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع : المسيح الذي أرسلته " يوحنا ١٧-٣٠.
قوله : " وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله ".
وقوله : " للرب إلهك نسجد وإياه وحده نعبده " متى ٤-١٠.
وقوله : " ليس لأعمل لمشيئتي بل لمشيئة الذي أرسلني " يوحنا ٦-٣٨.
إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ. إن الحال والشأن، أن الله حرم الجنة على من أشرك في عبادته أحدا من خلقه، وجعل مأواه النار. أي : جعل مستقره ومكانه النار بدل الجنة.
والجملة الكريمة تحذير من الإشراك بالله وبيان عاقبة الشرك فقد جمعت الآية بين العقوبة السلبية وهي حرمان المشرك من الجنة وبين العقوبة الإيجابية وهي الاستقرار في النار.
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. أي : من ظلموا أنفسهم فقابلوا نعم الله المتوالية عليهم بالكفر لا ينقذهم احد من عقابه ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، وهذه الجملة الكريمة، يحتمل أن تكون من كلام عيسى الذي حكاهالله عنه، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى ؛ لتأكيد ما قاله المسيح من دعوته لقومه بعبادة الله وحده والتحذير من الشرك بالله تعالى.
٧٣- لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ... الآية
لقد كفر الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله واحد من آلهة ثلاثة، والحق أنه ليس في هذا الوجود إله مستحق للعبادة والخضوع سوى إله واحد وهو الله رب العالمين.
جاء في التفسير الوسيط ما يأتي :
نصت الآية على الكفر من قال : إن الله ثالث ثلاثة.
والتثليت هو العقيدة السائدة بين الطوائف المسيحية، حيث يطلقون على الله- سبحانه- لقب الأب ويشركون معه الابن وهو عيسى، وروح القدس وهو جبريل.
لقد ادعو أن المسيح ابن الله ؛ لأنه ورد وصفه بهذا أربعا وأربعين مرة في العهد الجديد- وهو يضم الأناجيل الأربعة والرسائل الملحقة بها.
وهذا اللقب لم ينحصر في المسيح ولم يقتصر عليه، بل أطلق على آدم وعلى إسرائيل، وعلى داود، وعلى الملائكة وعلى المؤمنين جميعا.
ومع هذا فقد ورد أيضا في العهد الجديد وصف المسيح بما يقرب من ضعفي هذا العدد بأنه ابن الإنسان وثمانية وسبعين مرة ١.
وطبيعي أن هذين الوصفين يهدمان النبوة بمعنى الألوهية وإذا انهدمت النبوة فقد انهدمت تبعا لها الأبوة.
أما روح القدس : فهو جبريل عليه السلام، وهو من الملائكة المقربين، وهو بهذا من خلق الله وكلامهم فيه مضطرب مختل.
وأما كلمة التثليت : فقد اعترف كبار علماء اللاهوت- في قاموس الكتاب المقدس- أنها " لم ترد في الكتاب المقدس، ويظن أن أول من صاغها واخترعها واستعملها ترتيليان في القرن الثاني للميلاد، وقد خالفه كثيرون ولكن مجمع نيقية أقر التثليت سنة ٣٢٥ ميلادية، ثم استقر التثليت بعد ذلك عند الكنيسة المسيحية، على يد أوغسطنيوس في القرن الخامس ٢.
ومن هنا يتضح أن التثليت نبت بعد المسيح عليه السلام بأكثر من ثلاثة قرون وربع القرن، وأنه دخيل على المسيحية الحقة الموحدة.
وبهذا استحق القائلون به الحكم بالكفر الصريح، وقال كبار الباحثين : إن التثليت تسرب إلى المسيحية من العقائد الوثنية الهندية القديمة.
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ. والحق أنه لا يكمن عقلا أن يكون الإله إلا واحد.
أما تعدد الآلهة فهو وصم لها بالقصور والحاجة إلى الآخرين، ولو كان كل واحد قادرا على ما يخلق الآخرون فما فائدة التعدد، ولو كان كل واحد منهم عاجزا فلا يصلحون جميعا للألوهية، وإن كان البعض قادرا والبعض عاجزا فالقادر هو الإله وحده.
وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. أي : وإن لم يرجع هؤلاء الذين قالوا بالتثليت عن عقائدهم الزائفة وأقوالهم الفاسدة، ويعتصموا بعروة التوحيد.
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. أي : ليصيبن الذين استمروا على الكفر منهم عذاب شديد. وهذه الجملة تحذير من الله تعالى لهم عن الاستمرار في هذا القول الكاذب، والاعتقاد الفاسد الذي يتنافى مع الرأي السديد والفكر القويم.
٢ قاموس الكتاب المقدس ٢٣٣، ٢٣٢..
هذه دعوة من الله لهم إلى التوبة من معتقداتهم الفاسدة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام. أي : أيسمعون ما يسمعون من الحق الذي يزهق باطلهم ومن النذر التي ترقق القلوب...
فلا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى الله وطلب مغفرته.
وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. والحال أنه سبحانه عظيم المغفرة واسع الرحمة يقبل توبة التائبين ويغفر للنادمين ويرحم كل من جاء إليه. قال تعالى : غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. ( غافر : ٣ )
٧٥- مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ... الآية
ناقشت آيات سابقة اليهود ثم أتبعت ذلك بمناقشة النصارى في تأليه المسيح. وهنا تفيد الآيات أن عيسى عليه السلام رسول من البشر كسائر الرسل الذين سبقوه، مثل : نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الرسل الذين مضوا دون أن يدعي أحد منهم الألوهية، وأما أم عيسى فما هي إلا أمة من إماء الله كسائر النساء ديدنها الصدق مع خالقها عز وجل، أو التصديق له في سائر أمورها.
ونسبة عيسى إلى مريم للدلالة على انه ولد من غير أب، فإن الوالد ينسب إلى أبيه لا إلى أمه وللدلالة على بشريته وبشريتها فإن التوالد من صفات البشر.
والأناجيل التي بين أيدينا تؤيد ما ذكره القرآن الكريم.
فقد جاء في إنجيل يوحنا ١٧-٣- أن المسيح قال مخاطبا ربه : " أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ".
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ. الصديق : هو الذي يلتزم الصدق والحق.
ومريم من سلالة طاهرة. ونشأت في بيئة طيبة.
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ. ( التحريم : ١٢ ).
كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ. وأكل الطعام : يستدعي الحاجة إليه للانتفاع به ويستدعي شرب الماء والإخراج وغير ذلك من صفات البشر.
قال الزمخشري : لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة... وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام وحاشا للإله أن يكون كذلك ١.
انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. أي : انظر يا محمد : كيف نبين لهم الأدلة المنوعة على حقيقة عيسى وأمه بيانا واضحا ظاهرا.
ثم انظر بعد ذلك كيف ينصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء تفكيرهم، واستيلاء الجهل والوهم والعناد على عقولهم.
قال ابن الجوزي في زاد المسير يؤفكون : يصرفون عن الحق ويعدلون يقال : أفك الرجل عن كذا : إذا عدل عنه، وأرض مأفوكة : محرومة المطر والنبات. كأن ذلك صرف عنها وعدل.
أي : قل يا محمد لهؤلاء الضالين من النصارى وأشباههم في الكفر والشرك- قل لهم : أتعبدون معبودات غير الله تعالى، هذه المعبودات التي لا تملك أن تصيبكم بشيء من الضرر كالمرض والفقر، ولا تملك أيضا أن تنفعكم بشيء من النفع كبسط الرزق ودفع الضر وغير ذلك مما أنتم في حاجة إليه.
فالآية الكريمة تنفي أن يكون هناك إله سوى الله تعالى يستحق العبادة والخضوع لأنه سبحانه هو المالك لكل شيء والخالق لكل شيء. أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. ( الأعراف : ٥٤ ).
وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أي : كيف تعبدون من لا يسمع نجواكم، ولا يعلم أموركم الخفية ونياتكم الباطنة وتتركون عبادة الله المحيط علمه بالأمور والشئون وهو سبحانه يعلم السر وأخفى ؟.
٧٧- قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ... الآية
بين الله فيما سبق انحراف اليهود والنصارى عن دينهم القويم ثم دعاهم إلى التوبة والاستغفار. وهنا ينهاهم عن الغلو في الدين ومجاوزة الحد.
قال الزمخشري : دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان : غلو حق : هو أن يفحص عن حقائقه، و يفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون... غلو باطل : وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة وإتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع والضلال ١.
ومعنى الآية : قل لهم يا محمد، يأهل الكتاب لا ينبغي لمن أن اتتجاوزوا القصد، ولا أن تخرجوا عن الحق والصواب كأن تعبدوا غير الله مع أنه هو الذي خلقكم ورزقكم، وكأن تصفوا عيسى بأوصاف هو برئ منها.
روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " ٢.
وروى البخاري عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " ٣.
وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ. أي : لا يبغي لكم أن تنقادوا لشهوات الأحبار والرهبان من أسلافكم وعلمانكم ورؤسائكم الذين قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بتحريفهم للكتب السماوية.
فأظلوا كثيرا ممن اتبعوهم وقلدوهم ووافقوهم على أكاذيبهم.
وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ. أي : عن الطريق الواضح الذي أتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو طريق الإسلام.
٢ إياكم والغلو في الدين:
رواه النسائي في مناسك الحج (٣٠٥٧) وابن ماجه في المناسك (٣٠٢٩) وأحمد في مسنده (١٨٥٤) من حديث ابن عباس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته هات القط لي فلقطت له حصيات هن حصى الحذف فلما وضعتهن في يده قال بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين..
٣ لا تطروني كما أطرت النصارى:
تقدم ص ٣٦..
اللعن هو الطرد من رحمة الله.
والمعنى : لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان نبيين كريمين هما داود وعيسى عليهما السلام. أي : لعنهم الله سبحانه في الزبور على لسان داود، وفي الإنجيل على لسان عيسى. وقد كان داود قائدا مظفرا قادهم إلى النصر بعد الهزيمة ومهد لهم الملك.
وعيسى عليه السلام آخر أنبيائهم، وقد لقي منهم أشد الإيذاء، وقد حاولوا قتله فنجاه الله من كيديهم الأثيم، ولذا سماهم عيسى : أولا الأفاعي ١.
وقيل : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود :
اللهم ألبسهم اللعنات مثل : الرداء ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة.
وأصحاب المائدة لما كفروا بعيسى ؛ قال : اللهم عذب من كفر من أصحاب المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت ٢.
ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ. أي : استحقوا اللعن والطرد بسبب عصيانهم وتمردهم واستمرارهم في البغي والعدوان حتى كذبوا بعض أنبيائهم، وقتلوا بعضهم، وبالغوا في إيذاء الآخرين.
٢ تفسير الآلوسي ٦/٢١١..
أي : أن من مظاهر عصيان الكافرين من بني إسرائيل أنهم أهملوا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كانوا يرون المنكرات ترتكب فيسكتون عليها بدون استنكار مع قدرتهم على منعها من قبل وقوعها وهذا شر ما تصاب به الأمم في حاضرها ومستقبلها : أن تفشو فيها المنكرات والرذائل فلا تجد من يستطيع تغييرها وإزالتها.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنهما قوام الامم وسياج الدين.
روى الشيخان عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " ١.
وقد مدح الله أمة الإسلام بخصيصة الأمر بالمعروف والنهي عن المكر، قال تعالى : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ. ( آل عمران : ١١٠ ).
وروى الإمام أحمد والترمذي، وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسهم في مجالسهم أو في أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعظهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ٢.
وكان صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس- فقال : لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطرأ " ٣.
أي : تحملوهم على الحق حملا.
وفي رواية لأبي داود وابن ماجه والترمذي : " والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم " ٤.
لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ. واللام في لبئس لام القسم.
أي : أقسم لبئس ما كانوا يفعلون، وهو ارتكاب المعاصى والعدوان وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال صاحب الكشاف :
قوله : لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ للتعجب من سوء فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبثهم به، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذه الباب.
مسلم في الإيمان ح ٧٠، والترمذي في الفتن ح ٢٠٩٨ وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في الإيمان ح ٤٩٢٢، ٤٩٢٣، وأبو داود في الصلاة ح ٩٦٣، وفي الملاحم ح ٣٧٧٧، وابن ماجه في إقامة الصلاة ح ١٢٦٥، وفي الفتن ح ٤٠٠٣، وأحمد ح ١٠٦٥١، ١١٠٣٤، ١١٠٩١، ١١٤٤٢ من حديث أبي سعيد الخذري..
٢ لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم:
رواه الترمذي في تفسير القرآن (٣٠٤٧) وأحمد في مسنده (٣٧٠٥) من حديث عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهيتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم: (على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) قال فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا. وقال الترمذي: حسن غريب..
٣ لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم:
انظر ما قبله..
٤ والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون:
رواه الترمذي في الفتن ح ٢١٦٩، وأحمد ح ٢٢٧٩٠، ٢٢٨١٦ من حديث حذيفة بن اليمان، وقال الترمذي: حديث حسن.
* * *
تمت الهوامش وتخريج الأحاديث بحمد الله
وبها تم الجزء السادس
.
يتولون : يوالون ويناصرون.
سخط : غضب غضبا شديدا.
التفسير :
٨٠- تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ... الآية
أي : ترى أيها الرسول الكريم كثيرا من بني إسرائيل يوالون مشركي قريش ومنافقي المدينة وكانوا على صلات وثيقة بالروم فهم يوالون كل مناهض للإسلام ؛ حسدا للرسول الكريم وكراهية للإسلام والمسلمين.
والذي يقرأ تاريخ الدعوة الإسلامية يرى أن اليهود كانوا دائما يضعون العراقيل في طريقها ويناصرون كل محارب لها، ففي غزوة الأحزاب انضم بنو قريظة إلى المشركين ولم يقيموا وزنا للعهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين، وظلت عداوة اليهود للإسلام والمسلمين مستمرة في الماضي والحاضر، قال تعالى : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا. ( المائدة : ٨٢ ) ونشاهد الآن في فلسطين ثورة الحجارة : وقيام اليهود بالقتل والقمع، والعدوان على الشباب والشيوخ والأطفال الأبرياء والنساء.
وفي الحديث الصحيح : " لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول الحجر يا عبد الله هذا اليهودي ورائي فاقتله ".
لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ. أي : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم من أقوال كاذبة وأعمال قبيحة وأفعال منكرة واستحقوا بسببها سخط الله عليهم.
وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ. أي : وسيكون جزاءهم على هذا في الآخرة الخلود في النار ومقاساة عذابها الأليم.
أولياء : نصراء.
فاسقون : خارجون عن شعائر الذين.
التفسير :
٨١- وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء... ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله ربا وخالقا، وبنبي الله موسى، ويؤمنون بالتوراة التي أنزلها الله عليه إيمانا سليما ولو كانوا مؤمنين هذا الإيمان الصادق ؛ لكفوا عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصفياء ؛ لأن تحريم موالاتهم للمشركين متأكدة في التوراة وفي كل شريعة أنزلها الله على نبي من أنبيائه.
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ. أي : ولكن أكثر اليهود، خرجوا عن الجادة، وانحرفوا عن الديانة الحقة إلى مولا الكافرين ومعاداة المؤمنين، وقد ذكر سبحانه وصف الكثيرين منهم بالصفات الذميمة ؛ إنصافا للقلة المؤمنة، وتمييزا لها عن تلك الكثرة الكافرة الفاسقة.
إن الآيات الكريمة السابقة تحدثت طويلا عن أهل الكتاب عامة وعن اليهود خاصة فذكرت نقضهم للعهود والمواثيق التي أخذها الله عليهم، وذكرت دعاواهم الباطلة ومسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين وتحدثت عن المصير المؤلم الذي ينتظرهم، كما سلك القرآن الكريم منهجا قويما في دعوتهم إلى الدين الحق وإلى التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
خاتمة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
* * *
قسيسين : جمع قسيس ؛ وهو رئيس ديني مسيحي.
ورهبانا : الرهبان ؛ جمع راهب، وهو المتبتل : المنقطع للعبادة وحرمان النفس من الاستمتاع بالزوج والولد.
التفسير :
٨٢- لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.... الآية
أسباب النزول :
تعددت الروايات في سبب نزول هذه الآية ولكنها تلتقى في أن بعض طوائف النصارى، استمعوا إلى القرآن الكريم فتأثرت به نفوسهم وفاضت أعينهم بالدمع وأعلنوا الإسلام.
ويذهب جمهور المفسرين إلى أنها نزلت في النجاشى ملك الحبشة ومن معه من القسيسين والرهبان. وجميع الروايات : تدل على أنه أسلم وهو ومن معه. وكتب السيرة تفيد أن قيصر ملك الروم تلقى دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رفق وأناة. كذلك تلقى المقوقس عظيم القبط بمصر دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مودة ولين وأرسل إلى رسول الله بعض الهدايا.
رأى الطبري : ساق الطبري عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات، منها ما يفيد أنها نزلت بعد أن أسلم النجاشى ثم عقب الطبرى على الروايات بقوله :
والصواب في ذلك من القول عندي : أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا : إنا نصارى، أن نبي الله يجدهم أقرب الناس مودة لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسم لنا أسماءهم، وقد يجوز أن يكون أريد بذلك : أصحاب النجاشى، ويجوز أن يكون أريد بذلك : قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلموا، لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه ( ١ ).
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا..........
أقسم لك يا محمد بأنك عند مخالطتك للناس ودعوتهم إلى الدين الحق، ستجد أشدهم عداوة لك ولأتباعك فريقين منهم : وهو اليهود والذين أشركوا.
وعداوة المشركين للمسلمين معروفة السبب ؛ فالمشرك لا يؤمن بالله الواحد المنزه عن النظير والمثيل، والمؤمن يؤمن بالله الواحد الخالق الرازق، فلا عجب أن يحمل المشركون للمسلمين العداء ؛ لاختلاف مناهج الإيمان من الأساس. واختلاف تصور الفريقين للألوهية.
إلى جوار أن مشركي مكة كانوا على جانب من الغنى والجاه والسلطان والجبروت و رأوا أن الإسلام يحد من طغيانهم وجبروتهم وما اعتادوه من استعلاء وكبرياء، وكانوا يرون أن الأغنياء والعظماء أولى بالرسالة والنبوة وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. ( الزخرف : ٣١ ).
وقد جاهر كفار مكة بالعداء للإسلام والمسلمين ومازالوا بالمسلمين يعذبونهم ويضطهدونهم حتى أخرجوهم من ديارهم وصادروا أموالهم.
أما اليهود :
فهم أهل كتاب وتوحيد وعقيدة تؤمن بالله واليوم الآخر لكنهم في نفس الوقت أهل حقد وحسد وعناد ؛ فقد حقدوا على العرب أن يكون نبيهم من نسل إسماعيل لا من نسل إسحاق. وأعلنوا العداء للإسلام ورسوله. وشنوا على الإسلام الحروب الطاغية بقوة السلاح، أو بالدسائس والمؤامرات كما عرف عن اليهود قسوة القلب وتحريف التوراة و قتلهم الأنبياء، وأكلهم أموال الناس بالباطل والإسراف في التمرد والعصيان.
وقد تعرض الإسلام في مكة لعنت المشركين وحربهم وظلمهم حتى حاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو حبسه أو نفيه فأمره الله بالهجرة إلى المدينة، وقام اليهود بدور بارز في فتنة المؤمنين وإشاعة الأراجيف، وبث الفرقة في صفوف المسلمين ومن هنا قال القرآن الكريم.
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.
لقد كان اليهود أشد الناس عداء للإسلام فحاربوه بالسلاح والكيد والتآمر. ولذلك قدمهم القرآن على الذين أشركوا، وهم كفار مكة ومن سار على نهجهم.
أما النصارى، فقد سارعت طائفة منهم لاعتناق الإسلام كما أكرم ملك الحبشة المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحاول المشركون أن يوغروا صدره عليهم ولكنه لم يستجب لهم، وأكرم المسلمين، قال تعالى :
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى. أي : لتجدن يا محمد، أقرب الناس محبة ومودة لك وللمؤمنين الذين قالوا : إنا نصارى.
أي : الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهج إنجيله فهؤلاء فيهم مودة للإسلام في الجملة، وفي قلوبهم رأفة ورحمة ؛ قال تعالى :
وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية. ( الحديد : ٢٧ ) في كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فادر له خدك الأيسر ؛ ليس القتال مشروعا في ملتهم.
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. ففيهم من يتولى تعليمهم دين المسيح وهم القسس جمع قسيس وقس، وقد يجمع على قسوس، وبهذا التعليم والتوجيه والتربية ؛ تظل تعاليم السماء ووحى السماء رطبا في نفوسهم.
وفيهم الرهبان وهم جمع راهب وهو العابد، مشتق من الرهبة وهي الخوف، كراكب وركبان، وفارس وفرسان، ويطلق الرهبان على الواحد وعلى الجمع.
والرهبان هم الزاهدون في الدنيا المتفرغون للعبادة في الصوامع والخرب.
وهذه الفقرة وصفت النصارى بثلاث صفات :
( أ ) العلم.
( ب ) العبادة.
( ت ) التواضع.
فهم لا يتكبرون عن الاستجابة للحق والاستماع إليه، والبكاء عند سماع القرآن، والدخول في دين الإسلام.
هذه الآية استمرار في وصف النصارى واستجابتهم للإيمان ؛ قيل : نزلت هذه الآية في النجاشى وأصحابه لما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم.
قال : فمازالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة.
وقال السهيلى : هم وفد نجران، وكانوا نصارى، فلما سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكوا مما عرفوا من الحق وآمنوا، وكانوا عشرين رجلا، وكان قدومهم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمكة.
وأما الذين قدموا عليه بالمدينة من النصارى من عند النجاشى فهم آخرون وفيهم نزل صدر سورة آل عمران.
مما عرفوا من الحق. أي : مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فبكاؤهم من أجل الفرح والاهتداء إلى دين الإسلام الحق.
يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. لقد قابلوا معرفة الإسلام واستماع القرآن بالبكاء والتأثر حتى إذا اطمأنت نفوسهم ؛ أعلنوا إسلامهم وقالوا : ربنا آمنا بنبيك محمد ورسالته فتقبل منا.
فاكتبنا مع الشاهدين. أي : من يشهد بصحة هذا ويؤمن به.
عن ابن عباس في قوله : فاكتبنا مع الشاهدين. أي : مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته هم الشاهدون، يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا.
وقال أبو على : فاكتبنا مع الشاهدين. الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك.
والمعنى أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله وكل ما حولنا يوحي إلينا بالإيمان فلماذا لا نؤمن بالله ونصدق بما جاءنا من الحق بعد ما تبين لنا صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وصحة رسالته ؟ !.
أي : لا شيء يصرفنا عن ذلك، وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله... الآية. ( آل عمران : ١٩٩ ) وهم الذين قال الله فيهم : وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين. ( القصص : ٥٣ ).
فجازاهم الله وكافأهم، وأسعدهم بما أعد لهم من جنات، تجري الأنهار من تحت قصورها وأشجارها خالدين فيها أي : ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون. وذلك جزاء المحسنين. أي : في اتباعهم الحق وانقيادهم له، حيث كان وأين كان ومع من كان.
وهذا الجزاء الحسن يعم كل من أحسن إحسانهم. قال تعالى : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. ( الرحمن : ٦٠ ).
وفي التفسير الوسيط.
المعنى : والذين كفروا – من اليهود والنصارى والمشركين ومن لا دين لهم، ودأبوا على التكذيب عنادا واستكبارا، بعدما وضح الحق، وقامت الأدلة على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أولئك أصحاب الجحيم. أي : هم أهلها والداخلون فيها.
في أعقاب الآيات :
نلمح من الآيات أن المراد بها فئة من النصارى آمنت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستجابت لدعوة الإيمان في قولها وسلوكها.
وهناك فئات أخرى جحدت رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيتت له الكيد والحقد والعناد، والكفر والتكذيب فليس هؤلاء بأقرب الناس مودة للذين آمنوا إنما هم حرب عليهم في تاريخهم القديم والحديث.
ولقد شهد المسلمون من فظائع الصليبيين ما شهدوا في الشرق، وشهدوا منهم في الأندلس ما تقشعر لهوله الأبدان، ولا يزال الحقد الصليبي يظهر تحت ستار الآيات الشيطانية وغيرها، مما يجعل المسلمين على حذر فأهل الكتاب ثلاثة أصناف كما سبق أن ذكرنا،
١- صنف يظهر الولاء للإسلام والمسلمين وهؤلاء لا حرج علينا في إحسان معاملتهم وبرهم وإكرامهم.
٢- صنف يبحث عن عورات المسلمين ومثالبهم وهؤلاء يحرم علينا موالاتهم.
٣- صنف غلي الحياد وهؤلاء لا بأس من معاملتهم مع الحيطة والحذر.
٨٧- يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
والمعنى يا أيها الذين آمنوا إيمانا حقا، لا تحرموا على أنفسكم شيئا من الطيبات التي أحلها الله لكم فإنه سبحانه ما أحلها لكم إلا لما فيها من منافع وفوائد تعينكم على شؤون دينكم ودنياكم.
ولا تتجاوزوا حدود الله بالإسراف أو بالتقتير أو بتناول ما حرمه عليكم، فإنه سبحانه لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته وسنن فطرته وهدى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون. أي اجعلوا أنفسكم في وقاية من غضب الله الذي آمنتم به فلا تتجاوزوا ما شرعه الله لكم.
وعن الحسن البصري رضي الله عنه أن الله أدب عباده فأحسن أدبهم فقال : لينفق ذو سعة من سعته. ( الطلاق : ٧ ). ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا بها وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه.
وتمثل هاتان الآيتان مع غيرهما من هدى القرآن والسنة منهج الإسلام الوسط فهو لم يحرم الطيبات وإنما حرم الإسراف واتباع الشهوات.
وقد كان عليه الصلاة والسلام نموذجا عمليا في ذلك فهو يأكل ما يجده أكل اللحم بالثريد وشرب اللبن، والماء الصافي وكان يأكل الخشن من الطعام ويصوم ويجوع ويطوى، ويتمتع النعمة ويصبر مع الشدة، ويعلم أصحابه فن حب الحياة وشكر نعم الله، والبعد عن تحريم الحلال.
قال القرطبي : قال علماؤنا : في هذه الآية وما شابهها من الأحاديث الواردة في معناها، رد على غلاة المتزهدين وعلى أهل البطالة من المتصوفين إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه وحاد عن تحقيقه.
قال الطبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء على نفسه مما أحل الله لعباده المؤمنين من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ولذلك رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه وعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنه لأمته واتبعه على مناهجه الأئمة الراشدون.
إن التفاضل بين المؤمنين يكون باستقامة النفس وسلامة العبادة وكثرة إيصال النفع للناس......
ولا يكون بالانقطاع عن الدنيا وتحريم طيباتها التي أحلها الله تعالى.
وقد ورد في القرآن والسنة ما يؤيد وسطية الإسلام قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون. ( البقرة : ١٧٢ ).
وقال عز شأنه : يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. ( الأعراف : ٣١ ).
وأورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة في معنى هذه الآيات منها ما يأتي :
- روى الشيخان عن عائشة أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا آكل اللحم، وقال بعضهم لا أتزوج النساء، وقال بعضهم : لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( ما بال أقوام يقول أحدهم كذا، وكذا. لكنى أصوم وأفطر، وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ( ٢ ).
- وعن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت على اللحم فنزلت :
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم. ( ٣ )
- وروى سفيان الثوري عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس معنا نساء فقلنا ألا نستخصى، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله. يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ( ٤ ) الآية، وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة، والله أعلم.
باللغو : اللغو في اليمين : الحلف من غير قصد القسم.
بما عقدتم الأيمان : أصل العقد : نقيض الحل. فعقد الأيمان وتعقيدها : توكيدها بالقصد والتصميم.
فكفارته : أصل الكفارة من الكفر. وهو : الستر والتغطية، ثم صارت – في اصطلاح الشرع – اسما لأعمال تكفر – أي تمحو – بعض الذنوب.
من أوسط ما تطعمون أهليكم : الأوسط ؛ المعتدل من كل شيء. والمراد هنا : الأغلب من الطعام، الذي هو وسط بين الدون الذي يتقشف به، وبين الأعلى الذي يتوسع به.
أو تحرير رقبة : أي اعتناق رقيق ملوك له.
تمهيد في : أنواع الأيمان.
تنقسم الأيمان إلى ثلاثة أقسام :
يمين اللغو : وهو ما يسبق إليه اللسان بالحلف بدون قصد مثل قوله : لا والله، وبلى والله، أو من حلف على شيء يعتقد أنه صادق فيه، وكان الأمر بخلافه، كمن حلف أنه ليس معه نقود أو قلم، ثم تبين وجود نقود أو قلم في جيبه، بدون أن يعلم بوجوده.
أما اليمين المنعقدة : فهي الحلف على شيء أن يفعله أو لا يفعله عاقدا العزم مؤكدا النية على ذلك فإذا حنث في هذا اليمين فتلزمه الكفارة وهو مخير في هذه الكفارة بين ثلاثة أشياء.
١- إطعام عشرة مساكين يغديهم ويعيشهم، أو يعطي لكل مسكين نصف صاع من قمح أو صاعا من شعير.
٢- إعطاء كل مسكين ثوبا يستره ويصلح للصلاة فيه.
٣- إعتاق رقبة.
قال في البحر المحيط : وأجمع العلماء على أن الحانث مخير بين الإطعام والكسوة والعتق.
فإذا عجز المسلم عن أداء أي واحد من الثلاثة المذكورة فكفارة اليمين له صيام ثلاثة أيام واشترط الأحناف والحنابلة التتابع في الأيام.
وقال الشافعي ومالك : لا يجب التتابع، واختار الطبري أنه كيفما صامهن مفرقة أو متتابعة أجزأه.
٨٩- لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم... الآية يسر الله التشريع والأحكام فقال تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج. ومن هذا التيسير أنه رفع عن هذه الأمة ما حدثت به نفسها، ورفع عنها اثم ما سبق إليه اللسان، بدون قصد من القلب، كقول الحالف لا والله وبلى والله.
كما سامح المؤمن في الحلف على شيء أنه فعله أو لم يفعله معتقدا صدق ذلك ثم تبين أن الأمر بخلافة.
يسمى ذلك اليمين اللغو وهي يمين نرجوا أن يسامحنا الله فيها.
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمان. أي ولكن يؤاخذكم بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية إذا حنثتم.
فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم. أي كفارة اليمين عند الحنث أن تطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تطعمون منه أهليكم.
جاء في فتح القدير للشوكاني :
المراد بالوسط هنا : المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، وليس المراد به الأعلى كما في غير هذا الموضع : أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه، ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه، ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه، وظاهره أنه يجزئ إطعام عشرة حتى يشبعوا.
وقد روى عن على أنه قال : لا يجزئ إطعام العشرة غذاء دون عشاء حتى يغديهم ويعيشهم، قال أبو عمرو : هو قول أئمة الفتوى بالأمصار.
وقال الحسن البصري وابن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا وسمنا أو خبزا ولحما.
وقال عمر بن الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعى وميمون بن مهران وأبو مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبو قلابة ومقاتل : يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر.
وقال أبو حنيفة نصف صاع بر، وصاع مما عداه.
( أو كسوتهم ) أي كسوة المساكين لكل مسكين ثوب يستر البدن.
( أو تحرير رقبة ) أي إعتاق عبد مملوك لوجه الله.
( قمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) أي فمن لم يجد شيئا من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام.
( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم.
( واحفظوا أيمانكم ) أي احفظوها من الابتذال ولا تسارعوا إلى الحلف، وإذا حنثتم فلا تتركوها بغير تكفير.
( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الأحكام الشرعية ويوضحها لتشكروه على هدايته وتوفيقه لكم.
في أعقاب الآية :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال :
لما نزلت : يا أيها الذين آمونا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم. في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم اللحم والنساء، قالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم.
الخمر : هي كل ما خامر العقل وغيبه.
الميسر : القمار.
الأنصاب : الأصنام المنصوبة جمع نصب.
والأزلام : هي قداح أي قطع رقيقة من الخشب على هيئة السهام، كانوا يستقسمون بها في الجاهلية لأجل التفائل أو التشائم.
رجس : قذر.
تمهيد :
عرف العرب الخمر ومدحوها في أشعارهم وتحدثوا عن أسباب شربها فهي تولد فيهم الشجاعة والجرأة وتنسيهم آلام الفقر على حد قول الشاعر :
فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذ صحوت فإني رب الشهوية والبعير
وقد كان الشارع حكيما في التدرج في التشريع فقد حرم الخمر بالتدريج، كما حرم الزنا بالتدريج.
تقول عائشة رضي الله عنها :( لو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقال الناس : لا نترك الخمر أبدا، ولو نزل أول ما نزل لا تقربوا الزنا لقال الناس : لا نترك الزنا أبدا، وإنما نزل أول ما نزل آيات تدعوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر حتى إذ استقر الإيمان في القلوب حرم الله الخمر وحرم الزنا ) ( ٥ ).
لقد نزلت آية في مكة تحذر من الزنا ولم تشرع عقوبة للزناة بمكة، ففي سورة الفرقان مدح الله عباد الرحمن بصفات متعددة منها بعدهم عن الزنا، وفي سورة الإسراء وهي من أواخر ما نزل بمكة يقول الله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل ﴾. وفي سورة النور التي نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق حوالي سنة ٦ للهجرة أنزل الله تحريم الزنا وشرع عقوبة رادعة له واعتبر الزنا جريمة جنائية يجب على شرطة الدول وإدارتها معاقبة الزنا وإقامة الحد عليهم بشروط معينة.
وكذلك تحريم الخمر مر بمراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : بيان أن ضرر الخمر أكثر من نفعه، والمعروف أن ما كثر ضرره وجب تركه.
قال تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. فترك الخمر بعض الناس، ولم يتركه الجميع.
ثم قال تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فترك الخمر بعض الناس، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلاة.
ثم حرم الله تعالى الخمر تحريما قاطعا مبينا مفاسدها وآثامها. محذرا من إفسادها لدين المسلم وقواه العقلية لما وردت أحاديث كثيرة بروايات متعددة في تحريم الخمر وتحريم صنعها، والاتصال بها على أي نحو من الأنحاء.
حتى قال العلماء : ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الخمر بأخبار بلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا على تحريمها وبذلك استقرت الحرمة حكما للخمر في الإسلام، وصارت حرمتها من المعلوم من الدين بالضرورة ( ٦ ).
التفسير :
٩٠- يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون.
أكد الله سبحانه وتعالى تحريم الخمر بأساليب متعددة نظرا لأن مدمن الخمر يصعب عليه التخلص منها لما تتركه من آثار كميائية ولها تأثر على الأعصاب والمخ والدم، كما أنها سبب في كثير من الأمراض والمدمن إما أن يفقد منزلته أو يفقد اتزانه.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :( أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد، منها : تصدير الجملة، بإنما، ومنها : أنه قرنهما بعبادة الأصنام. ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم :( شارب الخمر كعابد الوثن ) ومنها : أنه جعلهما رجسا، كما قال :( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) ومنها : أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها : أنه أمر بالاجتناب ومنها : أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة ومعصية، ومنها : أنه ذكر ما ينتج منهما عن الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمار، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة. انتهى.
وهذه الآية الكريمة بينت مضار الخمر، ( والميسر ) وهو القمار ( والأنصاب ) وهي الأصنام المنصوبة للعبادة ( والأزلام ) وهي الأقداح التي كانت عند سدنة البيت وخدام الأصنام.
قال ابن عباس ومجاهد : الأنصاب حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، والأزلام : قداح كانوا يستقسمون بها.
ذكر سبحانه أن هذه الأربعة – الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ( رجس من عمل الشيطان ) أي قذر ونجس تعافه العقول وخبيث مستقذر من تزيين الشيطان. ( فاجتنبوه لعلكم تفلحون ).
أي ابتعدوا عنه وكونوا في جانب آخر بعيدين عن هذه القاذورات لتفوزوا بالثواب العظيم.
عرف العرب الخمر ومدحوها في أشعارهم وتحدثوا عن أسباب شربها فهي تولد فيهم الشجاعة والجرأة وتنسيهم آلام الفقر على حد قول الشاعر :
فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذ صحوت فإني رب الشهوية والبعير
وقد كان الشارع حكيما في التدرج في التشريع فقد حرم الخمر بالتدريج، كما حرم الزنا بالتدريج.
تقول عائشة رضي الله عنها :( لو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقال الناس : لا نترك الخمر أبدا، ولو نزل أول ما نزل لا تقربوا الزنا لقال الناس : لا نترك الزنا أبدا، وإنما نزل أول ما نزل آيات تدعوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر حتى إذ استقر الإيمان في القلوب حرم الله الخمر وحرم الزنا ) ( ٥ ).
لقد نزلت آية في مكة تحذر من الزنا ولم تشرع عقوبة للزناة بمكة، ففي سورة الفرقان مدح الله عباد الرحمن بصفات متعددة منها بعدهم عن الزنا، وفي سورة الإسراء وهي من أواخر ما نزل بمكة يقول الله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل ﴾. وفي سورة النور التي نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق حوالي سنة ٦ للهجرة أنزل الله تحريم الزنا وشرع عقوبة رادعة له واعتبر الزنا جريمة جنائية يجب على شرطة الدول وإدارتها معاقبة الزنا وإقامة الحد عليهم بشروط معينة.
وكذلك تحريم الخمر مر بمراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : بيان أن ضرر الخمر أكثر من نفعه، والمعروف أن ما كثر ضرره وجب تركه.
قال تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. فترك الخمر بعض الناس، ولم يتركه الجميع.
ثم قال تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فترك الخمر بعض الناس، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلاة.
ثم حرم الله تعالى الخمر تحريما قاطعا مبينا مفاسدها وآثامها. محذرا من إفسادها لدين المسلم وقواه العقلية لما وردت أحاديث كثيرة بروايات متعددة في تحريم الخمر وتحريم صنعها، والاتصال بها على أي نحو من الأنحاء.
حتى قال العلماء : ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الخمر بأخبار بلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا على تحريمها وبذلك استقرت الحرمة حكما للخمر في الإسلام، وصارت حرمتها من المعلوم من الدين بالضرورة ( ٦ ).
المفردات :
البغضاء : البغض.
ويصدكم : أي : ويمنعكم يقال صده يصده منعه عن أمر.
التفسير :
٩١- إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر... الآية. أي ما يريد الشيطان بهذه الرذائل إلا إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين في شربهم الخمر. ولعبهم بالقمار ويصدكم عن ذر الله وعن الصلاة. أي ويمنعكم بالخمر والميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، وعن الصلاة التي هي عماد دينكم.
قال أبو حيان : ذكر الله تعالى في الخمر والميسر مفسدتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية، فأما الدنيوية فإن الخمر تثير الشرور والأحقاد وتئول بشاربها إلى التقاطع، وأما الميسر فإن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سليبا لا شيء له، وينتهي إلى أن يقامر على أهله وولده، وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور والطرب بها تلهى عن ذكر الله وعن الصلاة، والميسر – سواء كان غالبا أو مغلوبا – يلهى عن ذكر الله ( ٧ ).
فهل أنتم منتهون. وهذا الاستفهام من أشد أساليب النهي عن الخمر والميسر، ولذلك قال عمر عندما سمعها انتهينا ربنا انتهينا.
قال أبو حيان في البحر المحيط : وهذا الاستفهام من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيهما من المفاسد التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهمون أم باقون على حالكم ؟
في أعقاب الاية :
وردت الأحاديث الصحيحة في تحريم الخمر ومن ذلك ما يأتي :
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا، فمن كان عنده شيء منها فليبعه، ولينتفع به ) وما لبثوا إلا يسيرا حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية يريد ( إنما الخمر والميسر ) وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع، فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها ) ( ٨ ).
- وروى أحمد ومسلم والنسائي ما يأتي :
لقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يوم الفتح برواية من خمر فقال له أما علمت أن الله حرمها ؟
فأقبل الرجل على غلامه وقال له اذهب فبعها فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الذي حرم شربها حرم بيعها فأمر بها فأفرغت في البطحاء ( ٩ ).
ومن هذه الأحاديث وغيرها تقررت حرمة الانتفاع بالخمر على أي نحو من النحاء، فيحرم أن تدخل في الطعام بأي قدر كان، ويحرم أن يصف بها الشعر، كما تفعله بعض السيدات، ويحرم تقديمها في موائد المسلمين مجاملة لغير المسلمين.
المخدرات :
أن الخمر هي كل ما أسكر كما ورد. ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) ( ١٠ ).
إن بعض المخدرات أشد فتكا بصحة الإنسان من الخمر. ولذلك أجمع فقهاء الإسلام على حرمة المخدرات وقرروا أن استحلالها كاستحلال الخمر وجاء في كتبهم ( ويحرم أكل البنج والحشيش والأفيون لأنها مفسدة للعقل، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويجب تعزيز آكلها بما يردعه ).
وقال ابن تيمية ( إن فيها من المفاسد ما ليس في الخمر فهي أولى بالتحريم، ومن استحلها، وزعم انها حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين ).
وقال ابن المقيم :( يدخل في الخمر كل مسكر، مائعا كان أو جامدا، عصيرا أو مطبوخا، واللقمة الملعونة، لقمة الفسق والفجور التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن ) ويعني باللقمة الملعونة ( الحشيشة ) هذه اللقمة وغيرها من المخدرات تذهب بنخوة الرجال. وبالمعاني الفاضلة في الإنسان وتجعله غير وفي إذا عاهد، وغير أمين إذا اؤتمن، وغير صادق إذا حدث، تميت فيه الشعور بالمسؤولية، والشعور بالكرامة.
وثبت طيبا أن للمخدرات الحديثة كالكوكايين والهروين والأقراص المصنعة آثارا قوية على المخ وسائر ملكات الإنسان، بل فيها قتل معنوي، وسحق للقيم وهي تشمت بنا الأعداء، وتحزن الأصدقاء.
ويمكن التغلب عليها بالإيمان واليقين الصادق بالله وباليوم الآخر، وبقوة العزيمة، ومعونة الأطباء والعلماء.
يجب أن يقوم البيت بواجبه في رعاية الفتيان والفتيات، ويجب أن تقوم وسائل الإعلام بالتوعية الحقيقية، وأن ينهض المسجد والمدرسة والأجهزة المعنية برعاية المدمنين وتوجيههم، والأخذ بيدهم إلى الشفاء، يجب تحذير الجميع من هذه المخدرات ومن تناولها مطلقا فإن المرة الأولى يمكن أن تجر صاحبها إلى الإدمان، وإلى العجز التام عن العودة إلى الجادة والاستقامة، ولقد سبق القرآن إلى تحريم الخمر، وهي كل ما خامر العقل وستره سواء أكان خمرا. أم أي صنف من المخدرات وجب علينا أن نستجيب لأمر الله ففيه الحياة الحقيقية قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم. ( الأنفال : ٢٤ ). وقال سبحانه : يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. ( الأعراف : ١٥٧ ). وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدور وكرهت أن يطلع عليه الناس )( ١١ ).
ولم تظهر هذه المخدرات في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإنما ظهرت مع سقوط بغداد في يد التتار سنة ٦٥٦ ه، وأفتى العلماء بتحريمها لأنها تفسد العقل وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، بل هي أشد فتكا بالجسم والعقل من الخمر.
وقد جاء الإسلام ليحافظ على العقول، وجعل العقل واللب والفؤاد والقلب أسمى أدوات الخطاب وأوجب علينا التفكر والتدبر، وحرم الغفلة والضياع. قال تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. ( البقرة : ١٩٠ ) وقال سبحانه : ولا تقتلوا أنفسكم ( النساء : ٢٩ ).
وروى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها وبائعها، ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها، وآكل ثمنها، وحاملها والمحمولة إليه ) ( ١٢ ).
المخدرات وباء فتاك :
إن مما يدعو للحزن والأسف أن يتهافت الشباب على هذه المخدرات ويدعي أن تحريمها لم يذكر في القرآن الكريم وهذه المخدرات قتل معنوي للإنسان خصوصا الهروين والكوكايين ففي الشمة الأولى يفقد المخ ٣٣% من مقوماته، وفي الشمة الثانية يفقد المخ ٦٦% من مقوماته وفي الشمة الثالثة يفقد المخ ٩٩% من مقوماته ويصبح المدمن آلة في يد الإدمان، وهذا قتل وتدمير لكرامة الإنسان قال تعالى : ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. ( الإسراء : ٧٠ ). وفي القرآن الكريم : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. ( البقرة : ١٩٥ ).
إن هذه المخدرات هلاك لجيل من الشباب والفتيان والفتيات، وعدوان على مستقبل الأمة، وامتهان لكرامة الوطن والمواطن، لأن المدمن لا يستطيع أن يضبط عمله ولا أن يصون نفسه، ولا أن يدافع عن وطنه وفي الحديث الشريف ( البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدور وكرهت أن يطلع عليه الناس ) ( ١٣ ).
إذا ثبت ان المخدرات ضارة بالصحة وبالعقل والتفكير وجب الابتعاد عنها تماما كما أمر الله بالابتعاد عن الخمر لأنها تستر العقل، والمخدرات تستر العقل وتفسد المخ فهي أشد ضررا من الخمر، وكل ما ثبت ضرره وجب تركه من أصول الدين ( لا ضرر ولا ضرار ) ( ١٤ ) فترك الضرر واجب شرعا، والإقلاع عن المخدرات واجتنابها نهائيا واجب شرعا، ومقصد من مقاصد الشريعة حفاظا على أنفسنا وعلى أمتنا قال تعالى :
ولا تقتلوا أنفسكم....... ( النساء : ٢٩ ).
من وسائل العلاج :
إن الابتعاد عن المخدرات لا يكفي معه الكلام أو النصح بل يحتاج إلى خطة متكاملة حتى يصبح البعد عن الإيمان سلوكا عاما.
وهذا السلوك يحتاج إلى تكاتف المختصين بالأمر من أطباء الصحة وعلماء النفس والتربية والاجتماع والإعلام والصحافة وخبراء التربية الإسلامية، والدينية.
إن قيام المسجد والكنيسة وسائر دور العبادة بالدور المطلوب منها، وبالواجب المنوط بها، سيؤدي إلى استقرار حكم التحريم لهذه المخدرات، ومن الواجب أن تتسع صدورنا لمناقشة المدمن، وتشجيعه على الاعتراف والحديث ؛ فهو مريض يحتاج إلى العلاج، قبل أن يحتاج إلى الفتوى ومن العلاج أن نحترم إنسانيته وأن نفتح أمامه باب التوبة والأمل، حتى يتغلب على اليأس والإحباط.
كما ينبغي للأسرة أن تتقبل المدمن، وأن تتكاتف في رعايته حتى يقلع عن الإدمان.
ويجب العناية بدو الاستشفاء والعلاج من الإدمان، وتزويد هذه الدور بالمتخصصين، لأنها استثمار حقيقي للإنسان وقد خلق الله الكون كله من أجل الإنسان، وسخر له الشمس والقمر والليل والنهار، والسماء والأرض، واستخلف الإنسان في عمارة الكون، وإصلاح الحياة، والمؤمن الصالح أهل للخلافة في هذه الأرض، ولا صلاح إلا بالاستقامة والجد والعمل والأمل.
قال تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا...... ( الكهف : ٣٠ ).
قال تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. ( الأنبياء : ١٠٥ )
عرف العرب الخمر ومدحوها في أشعارهم وتحدثوا عن أسباب شربها فهي تولد فيهم الشجاعة والجرأة وتنسيهم آلام الفقر على حد قول الشاعر :
فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذ صحوت فإني رب الشهوية والبعير
وقد كان الشارع حكيما في التدرج في التشريع فقد حرم الخمر بالتدريج، كما حرم الزنا بالتدريج.
تقول عائشة رضي الله عنها :( لو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقال الناس : لا نترك الخمر أبدا، ولو نزل أول ما نزل لا تقربوا الزنا لقال الناس : لا نترك الزنا أبدا، وإنما نزل أول ما نزل آيات تدعوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر حتى إذ استقر الإيمان في القلوب حرم الله الخمر وحرم الزنا ) ( ٥ ).
لقد نزلت آية في مكة تحذر من الزنا ولم تشرع عقوبة للزناة بمكة، ففي سورة الفرقان مدح الله عباد الرحمن بصفات متعددة منها بعدهم عن الزنا، وفي سورة الإسراء وهي من أواخر ما نزل بمكة يقول الله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل ﴾. وفي سورة النور التي نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق حوالي سنة ٦ للهجرة أنزل الله تحريم الزنا وشرع عقوبة رادعة له واعتبر الزنا جريمة جنائية يجب على شرطة الدول وإدارتها معاقبة الزنا وإقامة الحد عليهم بشروط معينة.
وكذلك تحريم الخمر مر بمراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : بيان أن ضرر الخمر أكثر من نفعه، والمعروف أن ما كثر ضرره وجب تركه.
قال تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. فترك الخمر بعض الناس، ولم يتركه الجميع.
ثم قال تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فترك الخمر بعض الناس، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلاة.
ثم حرم الله تعالى الخمر تحريما قاطعا مبينا مفاسدها وآثامها. محذرا من إفسادها لدين المسلم وقواه العقلية لما وردت أحاديث كثيرة بروايات متعددة في تحريم الخمر وتحريم صنعها، والاتصال بها على أي نحو من الأنحاء.
حتى قال العلماء : ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الخمر بأخبار بلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا على تحريمها وبذلك استقرت الحرمة حكما للخمر في الإسلام، وصارت حرمتها من المعلوم من الدين بالضرورة ( ٦ ).
٩٢- وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا........ الآية.
هذا أمر من الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتحذير من مخالفة الله ومخالفة رسوله وقريب من ذلك قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا. ( النساء : ٨٠ )
وفي الآية ترغيب في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله وتحذير من المخالفة فمن خالف رسول الله وأعرض عن هدى السماء فإنه لا يخالف المرسل وإنما يخالف المرسل، وهو صلى الله عليه وآله وسلم ليس مسيطرا، ولا مكلفا بالهداية قال تعالى : إن عليك إلا البلاغ. ( الشورى : ٤٨ ).
وقال سبحانه : فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر. ( الغاشية : ٢١، ٢٢ ).
فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين.
قال الشوكاني في فتح القدير : أي فإن أعرضتم عن الامتثال فقد فعل الرسول ما هو الواجب من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم، ولم تضروا بالمخالفة إلا أنفسكم، وفي هذا من الزجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه.
قال النسفي :
أي : فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه.
عرف العرب الخمر ومدحوها في أشعارهم وتحدثوا عن أسباب شربها فهي تولد فيهم الشجاعة والجرأة وتنسيهم آلام الفقر على حد قول الشاعر :
فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذ صحوت فإني رب الشهوية والبعير
وقد كان الشارع حكيما في التدرج في التشريع فقد حرم الخمر بالتدريج، كما حرم الزنا بالتدريج.
تقول عائشة رضي الله عنها :( لو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقال الناس : لا نترك الخمر أبدا، ولو نزل أول ما نزل لا تقربوا الزنا لقال الناس : لا نترك الزنا أبدا، وإنما نزل أول ما نزل آيات تدعوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر حتى إذ استقر الإيمان في القلوب حرم الله الخمر وحرم الزنا ) ( ٥ ).
لقد نزلت آية في مكة تحذر من الزنا ولم تشرع عقوبة للزناة بمكة، ففي سورة الفرقان مدح الله عباد الرحمن بصفات متعددة منها بعدهم عن الزنا، وفي سورة الإسراء وهي من أواخر ما نزل بمكة يقول الله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل ﴾. وفي سورة النور التي نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق حوالي سنة ٦ للهجرة أنزل الله تحريم الزنا وشرع عقوبة رادعة له واعتبر الزنا جريمة جنائية يجب على شرطة الدول وإدارتها معاقبة الزنا وإقامة الحد عليهم بشروط معينة.
وكذلك تحريم الخمر مر بمراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : بيان أن ضرر الخمر أكثر من نفعه، والمعروف أن ما كثر ضرره وجب تركه.
قال تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. فترك الخمر بعض الناس، ولم يتركه الجميع.
ثم قال تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فترك الخمر بعض الناس، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلاة.
ثم حرم الله تعالى الخمر تحريما قاطعا مبينا مفاسدها وآثامها. محذرا من إفسادها لدين المسلم وقواه العقلية لما وردت أحاديث كثيرة بروايات متعددة في تحريم الخمر وتحريم صنعها، والاتصال بها على أي نحو من الأنحاء.
حتى قال العلماء : ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الخمر بأخبار بلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا على تحريمها وبذلك استقرت الحرمة حكما للخمر في الإسلام، وصارت حرمتها من المعلوم من الدين بالضرورة ( ٦ ).
المفردات :
فيما طعموا : أي : فيما تناولوا قبل التحريم.
التفسير :
٩٣- ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين.
سبب النزول :
لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة : كيف بمن مات منا وهو يشربها، ويأكل الميسر، وماتوا وهي في بطونهم فكان الجواب أنهم ماتوا قبل تحريمها، فلم يكن عليهم في شربها إثم وكانوا أتقياء.
قال القرطبي :
وهذه الآية نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت وما كان الله ليضيع إيمانكم...... الآية ( البقرة : ٤٣ ).
والمعنى :( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ) أي إثم أو عقوبة ( فيما طعموا ) أي فيما تناولوه من طعام أو شراب قبل تحريمه، وكذلك لا إثم على من مات قبل التحريم والخمر في بطنه.
إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات. إذ اتقوا الله وخافوه وعملوا الأعمال الصالحة.
ثم اتقوا وآمنوا أي ثم استمروا على تقواهم وامتلاء قلوبهم بخشية الله والإيمان الحق به سبحانه.
ثم اتقوا وأحسنوا ثم تأكد استمرارهم على التقوى وإحسان العمل والإخلاص لله في السر والعلن.
والله يحب المحسنين. أي يرضى عنهم ويشملهم برحمته.
والإحسان : أسمى أنواع العبادة : وهي عبادة الله مع الإخلاص وصدق النية، وفي الحديث الصحيح ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ( ١٥ ).
والآية تشتمل على جانب من مظاهر رحمة الله بعباده، فإنه لا يؤاخذ الناس على الفعل إلا من بداية تحريمه، فمن مات شاربا للخمر قبل تحريمها فلا جناح ولا إثم عليه.
وتلحظ أن الآية ختمت بوصف التقوى وتكرير التقوى، والمقصود من ذلك، وجوب امتلاء قلب المؤمن بتقوى الله، واستمراره على ذلك حتى يصل إلى مرتبة الإحسان في العبادة.
قال الطبري :
الاتقاء الأول : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق.
والاتقاء الثاني : الثبات على التصديق.
والثالث الإحسان والتقرب بالنوافل.
ليبلونكم : الابتلاء ؛ الاختبار.
بشيء من الصيد : الصيد : ما صيد من حيوان البحر، ومن حيوان البر الوحشية، ومن الطيور. تناله أيديكم ورماحكم : يراد به كثرته وسهولة اصطياده.
روى عن ابن عباس : أنه ما تناله الأيدي : الصغار والفراخ من الصيد. وما يؤخذ وينال بالرماح الكبار.
ليعلم الله من يخافه بالغيب : أي ليعاملكم معاملة المختبر، الذي يريد أن يعلم الشيء علم وقوع – وإن كان سبحانه وتعالى يعلمه علم غيب – فهو علام الغيوب.
التفسير :
٩٤- يا أيها الذين آمنوا ليبلوكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم.
تمهيد :
خلق الله الإنسان للاختبار والبتلاء فمن أطاع فله الجنة، ومن أساء فله النار.
قال تعالى : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا. ( الملك : ٢ ).
وقد كان الصيد أحد معايش العرب فابتلاهم الله بتحريمه مع الإحرام وفي الحرم، كما ابتلى بني إسرائيل ألا يعتدوا في السبت.
عن مقاتل قال : أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.
يا أيها الذين آمنوا ليبلوكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم.
والمعنى : أي ليختبرنكم الله – وأنتم محرمون – ببعض من الصيد يسهل عليكم تناوله، بحيث تناله أيديكم بدون حاجة إلى سهام أو جوارح، أو بطيور صغار تستطيعون أخذها بأيديكم وبطيور كبار تستطيعون صيدها برماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب. ليتميز عند الله من يخافه منكم خفية عن الناس، كما يخافه بمرأى من الناس ومسمع منهم، فالخوف بالغيب برهان الإيمان.
جاء في حاشية الجمل : وقوله ( بالغيب ) حال من فاعل يخافه أي يخاف الله حال كونه غائبا عن الله، ومعنى كون العبد غائبا من الله، أنه لم ير الله تعالى.
أو حال من المفعول : أي يخاف الله حال كونه – تعالى – ملتبسا بالغيب عن العبد أي غير مرئي له. ( فمن اعتدى ) فاصطاد.
( بعد ذلك )أي بعد الابتلاء.
( فله عذاب أليم ) أي شديد الإيلام عظيم الإهانة لأن التعدي بعد الإنذار، دليل على عدم المبالاة بأوامر الله، ومن لم يبال بأوامر الله ساءت عاقبته وقبح مصيره.
هذا ولقد نجحت الأمة الإسلامية، وخصوصا سلفها الصالح في هذا الاختبار، فقد تجنب أبنائها وهم محرمون صيد البر مهما أغراهم قربه منهم، وحبهم لصيده والانتفاع به.
بينما أخفق بنو إسرائيل فيما يشبه هذا الاختبار فقد نهاهم الله عن الصيد في يوم السبت، فكانت الأسماك تظهر لهم في هذا اليوم امتحانا من الله لهم، فما كان منهم إلا أن تحايلوا على صيدها بأن حبسوها في يوم السبت، ليصيدوها في غيره.. فاستحق اليهود اللعنة والمسخ واستحقت الأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس.
وأنتم حرم : جمع حرام. ويطلق على الذكر والأنثى. يقال : رجل وامرأة حرام. أي رجل محرم وامرأة محرمة : بحج أو عمرة.
من النعم : الأنعام من الإبل والبقر والغنم.
أو عدل ذلك. العدل ( بفتح العين ) : المعادل للشيء، والمساوي له، مما يدرك بالعقل والعدل ( بكسر العين ) : المساوى للشيء مما يدرك بالحس.
ليذوق وبال أمره : الوبال : من الوبل والوابل. وهو : المطر الثقيل، وطعام وبيل أي ثقيل. ويقال للأمر الذي يخشى ضرره : هو وبال.
التفسير :
٩٥- يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم... الآية.
لما كان قتل الصيد في حال الإحرام – ذنبا كبيرا كرر النهي عنه في هذه السورة.
أي : لا تتسببوا في قتل الصيد، ولا تباشروا القتل في حال الإحرام.
قال القرطبي :
هذه الآية خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى قبل هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا ليبلوكم الله بشيء من الصيد. وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري كان محرما عام الحديبية بعمرة، فقتل حمارا وحشيا فنزلت هذه الآية.
وتفيد الآية النهي عن قتل الصيد لمن كان محرما بحج أو عمرة، سواء أكان الصيد مأكول اللحم أو غير مأكول وهذا رأي الجمهور، وخصه الشافعية بما يؤكل لحمه فقط، لأنه الغالب فيه عرفا.
أما الحيوانات الخطرة على حياة الإنسان فإنه يباح قتلها في الحرم.
قال صلى الله عليه وآله وسلم :( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ) ( ١٦ ) وفي رواية الحية بدل العقرب. رواه الشيخان عن عائشة.
وقد ألحق مالك واحمد بالكلب العقور : الذئب، والسبع والنمر، والفهد، لأنها أشد ضررا منها، وهكذا كل ما يكون خطرا على حياة الإنسان.
ومن قتله منكم متعمدا فجزاؤه مثل ما قتل من النعم... الآية. أي : ومن تعمد منكم قتل الصيد، أو كان له دخل في قتله، وسواء أقتله في الحرم أم خارجه، وكذلك من قتله في الحرم – وهو غير محرم – فعليه في كل حالة مما ذكر جزاء من النعم مماثل لما قتله إن وجد.
قال ابن كثير وفي قوله تعالى :
فجزاء مثل ما قتل من النعم... الآية. دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي واحمد من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، خلافا لأبي حنيفة حيث أوجب القيمة سواء أكان الصيد المقتول مثليا أو غير مثلي، قال : وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه وإن شاء اشترى به هديا.
والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز.. وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمن يحمل إلى مكة ( ١٧ )
وقوله تعالى : متعمدا ليس قيد لوجوب الجزاء والكفارة، فإن الخطأ مثل العمد في الكفارة المذكورة، فالتعبير بقوله متعمدا لبيان الواقع، لأن الآية كما سبق نزلت في أبي اليسر، لما قتل عمدا حمارا وحشيا وهو محرم.
يحكم به ذوى عدل منكم. أي يحكم بالجزاء أو بمثل ما قتل رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين، فإذا حكما بشيء لزم.
هديا بالغ الكعبة.
المعنى : أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدى من الإرسال إلى مكة والنحر هناك، ولم يرد الكعبة بعينيها، فإن الهدى لا يبلغها، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا.
أو كفارة طعام مساكين اوعدل ذلك صياما.
المعنى : أن من قتل الصيد وهو محرم، أو قتله في الحرم وهو غير محرم، فهو مخير بين ثلاثة أمور :
١- الجزء بالمثل.
٢- إطعام المساكين.
٣- الصيام.
فأما الإطعام فبقيمة ما قتل من الصيد يعطي لكل مسكين مد وأما الصيام فإنه يصوم عن كل مد يوما وبهذا نرى أن المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاء من النعم مماثل للصيد المقتول في الخلقة والمنظر، أو عليه ما يساوي قيمة هذا الجزاء طعاما لكل مسكين مد، أو عليه ما يعادل هذا الطعام صياما، عن كل مد يوم.
أما أبو حنيفة فيرى أن المماثلة إنما تعتبر ابتداء بحسب القيمة فيقوم الصيد المقتول من حيث هو، فإن بلغت قيمته قيمة هدي يخير الجاني بين أن يشتري بها هديا يهدى إلى الحرم، ويذبح في الحرم ويتصدق بلحمه على الفقراء، وبين أن يشتري بالقيمة طعاما للمساكين يوزع لكل مسكين مد، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما.
وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقا، وأسهل تطبيقا، وأدق في تعرف المثل، وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح، إذ لا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة ( ١٨ ).
ليذوق وبال أمره. أي أوجب الله هذا الجزاء السابق على قاتل الصيد ليذوق عقاب جنايته لهتكه حرمة الإحرام أو الحرم.
عفا الله عما سلف. أي عفا الله عما تقدم من قتلكم الصيد قبل نزول هذه الكفارة.
ومن عاد فينتقم الله منه. أي ومن عاد إلى قتل الصيد – بعد نزول هذه الآية – فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة. والله عزيز ذو انتقام. فهو سبحانه العزيز الذي لا يغالب ولا يقاوم، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين من التعرض للصيد في حالة إحرامهم وبينت الجزاء المترتب على من يفعل ذلك، وهددت من يستهين بحدود الله بالعذاب الشديد.
أحل لكم صيد البحر : البحر المراد به : الماء الكثير الذي يوجد فيه السمك، كالانهار، والبرك ونحوها.. وصيد البحر ما يصاد منه مما يعيش فيه عامة.
وطعامه متعا لكم : وطعام البحر : ما قذف به إلى ساحله.
وللسيارة : والسيارة هم المسافرون، يتزودون منه.
الذي إليه تحشرون : أي تجمعون وتساقون إليه يوم القيامة.
التفسير :
٩٦- أحل لكم صيد البحر وطعامه... الآية. المراد بالبحر ما يعم المياه العذبة والملحة، والمراد بصيده : ما صيد منه، فهو حلال كله، سواء أكان صيده للطعام كالسمك، أم لغيره من وجوه النفع الأخرى كاللؤلؤ والمرجان.
وطعامه. أي وأكل ما يصلح للأكل منه، سواء أخذ من البحر حيا أم ميتا.
أخرج الإمام أحمد وأهل السنن ومالك والشافعي عن أبي هريرة ان رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضئنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) ( ١٩ ).
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – ( أحلت لنا ميتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال ) ( ٢٠ ).
وقد احتج بهذه الآية من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ولم يستثن من ذلك شيئا.. وقد استثنا بعضهم الضفادع، وأباح ما سواها.. وقال أبو حنيفة لا يؤكل ما مات في البحر، كما لا يؤكل ما مات في البر لعموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة.
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. أي وحرم عليكم اصطياد حيوان البر – أو طيره – ما دمتم محرمين، بخلاف ما صاده غير المحرمين او ما صدتمون قبل إحرامكم، فليس محرم عليكم أن تأكلوه ولو في حال إحرامكم.
وقد ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد إلى انه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من اجله.
وقال أبو حنيفة : أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال، إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد.
واتقوا الله الذي إليه تحشرون. أي قفوا عند حدوده فلا تتجاوزوها واعلموا أن مرجعكم وحشركم إليه وحده، وسيجازيكم على أعمالكم التي عملتموها في دنياكم.
والحكمة من تحريم الصيد البري على المحرمين ما يأتي :
١- تكريم منطقة الحرم فهي منطقة أمان للإنسان والحيوان والطير.
٢- تعويد المؤمن على السلام عمليا حتى إنه لا يقتل صيدا ولو وجد قاتل أبيه في الحرم لا يقتله حتى يخرج إلى منطقة الحل.
٣- توفير الصيد حول الحرم لأهل مكة وحدهم حتى ينتفعوا به.
قياما للناس : ما يقوم به أمر الناس ؛ ويصلح شأنهم في دينهم ودنياهم.
والشهر الحرام : الحرام ؛ ( أل ) في الشهر، للجنس. فيعم الاشهر الحرم الأربعة. وهي : ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم ورجب. وقيل :( الشهر ) هو شهر ذي الحجة.
والهدى : ما يهدي إلى الحرم من الانعام قربة إلى الله، للتوسعة على فقراء الحرم.
والقلائد : جمع قلادة، وهي كل ما علق على أسنمة النعام وأعناقها، علامة على أنها لله والمراد بالقلائد : ذوات القلائد إذا ساقوها هديا.
التفسير :
٩٧- جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي... الآية.
اقتضت حكمة الله تعالى رحمته بعباده ان يصير الكعبة التي هي البيت الحرام قياما للناس أي به قوامهم في إصلاح أمر دينهم ودنياهم فهي مركز الإسلام الأول.
وصلاح أمر الدين بالحج إلى البيت الحرام وأداء المناسك والعبادات، وصحة الصلاة باستقبال البيت الحرام، وصلاح امر الدنيا عن طريق تبادل المنافع، وبذل الأموال والشعور بالأمان والاطمئنان، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية.
فقد جعل الله الكعبة معظمة في القلوب، يفد الناس إليها من كل فج عميق لأداء المناسك، وصار ذلك سببا في إسباغ النعم على أهلها، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم الخليل : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقوموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون. ( إبراهيم ٣٧ ).
وقد حقق الله دعوة سيدنا إبراهيم، فصارت الكعبة ملاذا للناس، وأمنا لأهلها على أنفسهم وأموالهم، فلو وجد الإنسان قاتل أبيه أو أخيه عند الكعبة لم يجز له ان يقتله.
وكذلك جعل الله الأشهر الحرم منطقة زمنية يحرم فيها القتال وذلك لن الناس يتفرغون للتجارة والعمل والإنتاج والإفادة، فتطمئن الأفئدة ويحصل التآلف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادي.
كما ان الهدي والقلائد، التي يسوقها المحرمون إلى الحرم فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء، وإشاعة روح المحبة والتسامح والإخاء.
ويشير الإمام القرطبي في تفسيره إلى الحكمة من جعل هذه الأشياء قياما للناس فيقول :
إن الله تعالى خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب والغارة، فلم يكن يد في الحكمة الإلهية من وازع يحملهم على التآلف.
فجعل الله الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى، وعظم في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالالتجاء إليه، كما جعل الله الأشهر الحرم ملجأ آخر، وقرر في نفوسهم حرمتها فكانوا لا يطلبون فيها دما، ولا يروعون فيها نفسا، ثم شرع لهم الهدي والقلائد فمن علق قلادة على بعيره أو على نفسه لم يروعه أحد حيث لقيه.
والهدي : ما يهدى للبيت الحرام وفي ذبحه منافع للفقراء وقيام لمعيشتهم وثواب للأغنياء، ورفع لدرجتهم
والقلائد : أي الحيوانات التي توضع في رقبتها قلادة من ورق الشجر، فمن رآها علم أنها ستقدم للبيت الحرام فترك سبيلها حتى تذبح، وتوزع على الفقراء الحرم، وتخصيص القلائد بالذكر – مع شمول الهدي إياها – لبيان أن الشرع أباح تقليد الهدي، لما فيه من إظهار شعائر الله، والمبالغة في منع التعرض لها.
ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم. أي شرع الله هذه الأحكام السابقة لتعلموا أنه سبحانه يعلم علما شاملا ما في السموات وما في الأرض، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم، وهتاف أرواحهم.. لأن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار، ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه سبحانه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وعلى أنه بكل شيء عليم فلا تخفى عليه خافية والجملة الأخيرة في الآية توكيد، لإحاطته تعالى بما كان، وبما هو كائن، وبما سيكون.
٩٨- اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم. تعتمد التربية الإسلامية على التوازن والتكامل والجمع بين الخوف والرجاء، فإذا اشتد الخوف صار يأسا ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وإذا قوى الرجاء وزاد عن حده تحول إلى تمن وطاعة وفي الحديث ( ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ( ٢١ ) ألا وإن أقواما غرتهم الأماني فخرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا : نحسن الظن بالله وكذبوا على الله ولو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ).
اعلموا أن الله شديد العقاب. أي اعلموا – أيها الناس – أن الله شديد العقاب لمن انتهك حرماته وتجاوز حدوده.
وأن الله غفور رحيم. لمن تاب وعاد إلى ربه وندم على ما فرط منه.
وقد جمعت الآية بين الخوف والرجاء، تحذيرا من المعصية وترغيبا في التوبة والإنابة.
وتلك طريقة القرآن الحكيمة، لأنها طريقة العليم الخبير الذي خلق الإنسان، وقدر له أسباب الهداية، وحذره من الغواية قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. ( ق : ١٦ ).
والمعنى : أي على رسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يبلغ دعوة ربه وأن يدعو الناس إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وليس عليه الهداية أو الضلال، وإنما ذلك بيد الله وحده فهو سبحانه بيده الملك والأمر وهو المطلع على السرائر وهو المجازي والمحاسب.
والله يعلم ما تبدون وما تكتمون. فهو سبحانه يعلم ما تظهرون وما تخفون من طاعة ومعصية، فيحاسبكم عليه ويجازيكم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
والمعنى : أمر الله تعالى رسوله الأمين أن يبلغ أمته هذه القاعدة السليمة : لا يستوي في ميزان الله ولا في ميزان العقلاء الخبيث والطيب، حتى ولو كان الفريق الخبيث كثير العدد براق الشكل تعجب الناظرين هيأته، فلا تغتر به أيها العاقل، ولا تؤثر في نفسك كثرته، وسوطته، فإنه مهما كثر وظهر وفشا.. فإنه سيئ العاقبة، سريع الزوال، لذته تعقبها الحسرة، وشهوته تتلوها الندم.
أما الفريق الطيب أو الشيء الطيب فهو محمود العاقبة، لذته الحلال، يباركها الله، وثماره الحسنة تؤيدها شريعته وطريقه المستقيم – مهما قل سالكوها – هي الطريق التي توصل إلى كل خير وفلاح.
ولا شك أن العقل عندما يتخلص من الهوى سيختار الطيب على الخبيث، لأن في الطيب سعادة الدنيا والآخرة، وما أحسن قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :( ما تمتع الأشرار بشيء إلا وتمتع به الأخيار، وزادوا عليه رضى الله عز وجل ).
فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون. أي إذا كان الطيب راجحا ومحمودا مهما قل، والخبيث مرذولا ومرجوحا مهما كثر.
فراقبوا الله يا أصحاب العقول السليمة لعلكم بسبب هذه التقوى تدركون الفلاح والنجاح في دنياكم وآخرتكم.
قال الفخر الرازي :
لما ذكر الله سبحانه و تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة، و التحذيرات من المعصية أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقال : فاتقوا الله يا أولي الالباب لعلكم تفلحون أي فاتقوا الله بعد هذه البينات الجلية و التعريفات القوية، و لا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية و الدينية العاجلة و الآجلة.
١٠١- يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم... الآية.
سبب النزول :
روى البخاري – بسننه– عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، وقال فيها ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا ) ( ٢٢ ) قال : فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجوههم – لهم حنين – فقال رجل : من أبي ؟ فقال فلان : فنزلت هذه الآية.
وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البحيرة والسائية والوصيلة والحام.
وذكر المفسرون روايات متعددة في سبب نزول الآيتين ومنها ما رواه البخاري أيضا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه :( فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقام هذا، فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال :( النار ) فقام عبد الله بن حذافة وكان إذ لا حى يدعى إلى غير أبيه، فقال من أبي يا رسول الله ؟ فقال : أبوك حذافة.. ( ٢٣ ).
قال القرطبي : ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض.
المعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله حق الإيمان، لا تسألوا نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره عن أشياء تتعلق بالعقيدة أو بالأحكام الشرعية أو بغيرها، هذه الأشياء ( إن تبد لكم وتظهر ) ( تسؤكم ) أي تغمكم وتحزنكم وتندموا على السؤال عنها لما يترتب عليها من إحراجكم ومن المشقة عليكم، ومن الفضيحة لبعضكم.
فالآية كما يقول ابن كثير : تأديب من الله لعباده المؤمنين، ونهى لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنها إذا ظهرت لهم تلك الأمور ربما سائتهم وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ).
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم.
والسؤال نوعان : سؤال يمكن الاستغناء عنه وسؤال يحتاج الإنسان إلى معرفته فيما يتعلق بتفصيل أحكام نزل بها القرآن الكريم أو شرح لها.
والمعنى لا تكثروا أيها المؤمنون من الأسئلة التي لا خير لكم في السؤال عنها، وإن تسألوا عن أشياء نزل بها القرآن مجملة، فتطلبوا بيانها لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.
من تفسير القرطبي :
قال القرطبي : قوله تعالى : وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم. فيه غموض. وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال، ثم قال : وإن تسألوا... إلخ. فأباحه لهم فقيل : إن المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف، ولا يصح حمله على غير الحذف.
قال الجرجاني : الكناية في ( عنها ) ترجع إلى أشياء أخر، كقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين يعني آدم، ثم قال : ثم جعلناه نطفة أي : ابن آدم، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال.
فالمعنى : وإن تسألوا عن أشياء – أخر – حين ينزل القرآن من تحريم او تحليل أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم فقد أباح – سبحانه – هذا النوع من السؤال ( ٢٤ ).
عفا الله عنها. أي هناك اشياء سكت عنها القرآن، ولم يكلفكم فيها بشيء، فلا تسألوا عنها، ولكن إن سألتم عنها ينزل عليكم التكليف بحكمها، أي فلا تكثروا من السؤال ( ٢٥ ).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فيحرم من أجل مسألته ) ( ٢٦ ).
والله غفور حليم. والله واسع المغفرة والحلم والصفح ولذا لم يكلفكم بما يشق عليكم، ولم يؤاخذكم بما فرط منكم من أقوال وأعمال قبل النهي عنها.
قال الألوسي :( واختلف في تعيين القوم : فعن ابن عباس هم قوم عيسى سألوه إنزال مائدة ثم كفروا بها، وقيل : هم قوم صالح – عليه السلام – سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل : هم بنوا إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم... )
من تفسير ابن كثير :
قال ابن كثير : ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته فالأولى الإعراض عنها..
فقد روى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ذرونى ما تركتكم، فإنما هلك من كان من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) ( ٢٧ ).
وروى الدارقطني وأبو نعيم عن أبي ثعلبة الخشنى. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، ورحم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ( ٢٨ ).
من تفسير القاسمي :
قال القاسمي : رحمه الله تعالى عقب تفسيره للآيتين ما يأتي : رأيت في موافقات الإمام الشاطبي في هذا الموضع مبحثا جليلا قال فيه :
الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح... وهذه مواضع يكره السؤال فيها :
١- السؤال عما لا يقع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة من أبي يا رسول الله ؟ فأجابه أبوك حذافة.
٢- أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في سنن أبي داود في النهي عن الأغلوطات ( ٢٩ ) وهي المسائل يغالط بها العلماء ليزلوا فيها فيهيج بذلك شر وفتنة.
٣- أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وعلى ذلك يدل ما أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى ابن عبد الرحمن ابن حاطب أن عمر ابن الخطاب خرج في ركب، فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا، فقال عمرو بن العاص، يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع ؟
فقال عمر يا صاحب الحوض، لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا ( ٣٠ ).
٤- السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه.
وعن عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل.
٥- السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر ابن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال :
تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن ألطخ بها لساني.
٦- سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة عند الخصام وقد ذم القرآن هذا اللون من الناس فقال : وهو ألد الخصام. ( البقرة : ٢٠٤ )، وقال سبحانه : بل هم قوم خصمون. ( الزخرف : ٥٨ ). وفي الحديث :( إن من أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم.
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ويقاس عليها ما سواها وليس النهي فيها واحدا، بل فيها ما تشتد كراهته، ومنها ما يخف ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محل اجتهاد.
والنهي في الآية مقيد بما لا تدعو إليه الحاجة من الأسئلة لأن الأمر الذي تدعوا إليه الحاجة قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. ( الأنبياء : ٧ ). وفي الحديث :( قاتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء الجهل بالسؤال ( ٣١ ).
بحيرة : البحيرة ؛ هي الناقة التي يبحرون أذنها. أي يشقونها إذا أنتجت خمسة أبطن، خامسها أنثى.
سائبة : السائبة ؛ هي الناقة التي تسيب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت ولا يحمل عليها شيء، ولا يجوز وبرها، ولا يحلب لبنها إلا لضيف.
وصيلة : الوصيلة هي الشاة التي تصل أخاها. فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا : كان لآلهتهم.
وإذا ولدت أنثى : كانت لهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت اخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
حام : الحامى : هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن، فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
التفسير :
١٠٣- ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
١- البحيرة : الناقة كان أهل الجاهلية يبحرون أذنها، أي يشقونها، ويجعلون لبنها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس، وجعل شق أذنها علامة لذلك.
٢- السائبة : الناقة تسيب. أو البعير يسيب بنذر على الرجل : يقول إن شفيت من مرضى أو بلغت منزلي فناقتي سائبة أي لا تحلب ولا تركب، ولا تحبس عن رعى ولا ماء.
٣- الوصيلة : هي الشاة التي تصل أخاها، فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
٤- الحامى : هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة، قال : قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء.
والمعنى : ما شرع الله تعالى شيئا مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم في البحيرة والوصيلة والسائبة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان.
ولكن الذين يفترون على الله الكذب. حيث حرموا هذه الأشياء تدينا وتعبدا ولم يحرمها الله عليهم، ثم نسبوا هذا التحريم إلى الله كذبا وزورا والمراد بالذين كفروا هنا هم الرؤساء والزعماء الذين يأتون للعوام بالأحكام الفاسدة. والمزاعم الباطلة وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا.
وأكثرهم لا يعقلون. أن ذلك افتراء، لأنه قلدوا فيه آباءهم.
والمراد هنا العوام والدهماء الذين يقلدون الرؤساء والكهان بدون تدبر أو تبصر.
وقد عبر سبحانه بقوله : وأكثرهم لا يعقلون : إنصافا للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة واستجابت للحق عند ظهوره.
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن لحى وإني رأيته يجر أمعاءه في النار ) ( ٣٢ ).
أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون. وهذا رد عليهم بأسلوب التأنيب والتعجيب من جهالاتهم وخضوعهم للباطل بدون مراجعة أو تفكير. والاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ.
والمعنى : أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، ويغلقون على أنفسهم باب الهداية، ليبقوا في ظلمات الضلالة... أو لو كان آباءهم لا يعلمون شيئا من الحق ولا يهتدون إليه لانطماس بصيرتهم.
١٠٥- يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم... الآية.
المعنى : الزموا أنفسكم واحفظوها، لا يضركم ضلال من ضل من الناس، إذا اهتديتم للحق في أنفسكم، وقد دلت الآية القرآنية، والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا متحتما، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحل به ما ضره ضررا يسوغ معه الترك ( ٣٣ ).
وإذا تأملنا سياق الآية وجدنا أنها مسوقة لتسلية المؤمنين ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم.
فكأنها تقول لهم :– أيها المؤمنون – إذا قمتم بما يجب عليكم، لا يضركم غيركم.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة : يتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم :( عليكم أنفسكم ) وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى ( لا يضركم ) الضلال عن دينكم : إذا كنتم مهتدين..... وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا، وإنما هو بعض الضلال، الذين فصلت الآية بينهم وبينه.
وقد نقل القرطبي في تفسيره ما يأتي :
روى أبو داوا والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبي حازم قال : خطبنا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – فقال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها :
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم... الآية. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ) ( ٣٤ ).
وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعبانى قال : أتيت أبا ثعلبة الخشنى فقلت له كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال : أية آية ؟ فقلت قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم... قال : أما والله لقد سألت عنها جبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – فقال : ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهو متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة، فإن من ورائكم أياما : الصابر فيهن، مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم ( ٣٥ ).
وزاد في رواية أخرى ( قيل يا رسول الله، أجر خمسين منا أو منهم ؟ ) قال :( بل أجر خمسين منكم ).
والخلاصة : أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط وجوبها عن القادر عليهما.
قال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر... الآية. ( آل عمران : ١١٠ ).
وقال سبحانه : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.. ( آل عمران : ١٠٤ ).
وقد لعن الله اليهود، لأنهم : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه... الآية. ( المائدة : ٧٩ ).
ونقل الفخر الرازي في تفسيره عن عبد الله بن المبارك أنه قال :
هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه سبحانه قال : عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، وهذا كقوله، فاقتلوا أنفسكم، يعني أهل دينكم، فقوله ( عليكم أنفسكم ) يعني أن يعظ بعضكم بعضا، ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات، وينفره من القبائح والسيئات.
إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون. أي إليه وحده رجوعكم جميعا، من ضل، ومن اهتدى، فيخبركم – عند الحساب – بما قدمتم من أعمال، ويجزيكم على حسب ما علمه من هدايتكم أو ضلالكم وفي هذا وعد للمهتدين، ووعيد للضالين، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره قال تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخر.. الآية. ( فاطر : ١٨ ).
وقال سبحانه : يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
شهادة بينكم : الشهادة ؛ قول صادر عن علم حصل، بطريق البصر أو السمع، أو بهما جميعا.
إن أنتم ضربتم في الأرض : أي : سافرتم فيها.
تحبسونهما : أي : تمسكونهما، وتمنعونهما من الانطلاق والهرب.
إن ارتبتم : أي : شككتم في صدقهما فيما يقران به.
لمن الآثمين : أي : العاصين.
التفسير :
١٠٦- يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية إثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم... الآية.
لما بين الله تعالى – في الآية السابقة – أن المرجع إليه وحده بعد الموت، وأنه هو الذي يتولى الحساب، وجزاء المحسن والمسيء، أرشدنا سبحانه – في هذه الآية – إلى أنه يلزم – في الوصية قبل الموت – الإشهاد عليها، حفاظا على أداء الحقوق الموصى بها لمستحقيها.
سبب النزول :
عن ابن عباس رضي الله عنه قال :( خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي ابن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم. فلما قدما بتركته، فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالله تعالى : ما كتمتما ولا اطلعتما. ثم وجد الجام بمكة. فقيل اشتريناه من تميم وعدي. فقام رجلان من أولياء السهمى، فحلفا بالله، لشهادتنا أحق من شهادتهما. وإن الجام لصاحبهم.
وفيهم نزلت : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ( ٣٦ ).
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوات عدل... الآية.
أعلم الله سبحانه المؤمنين : أن الشهادة المشروعة بينهم – حين الوصية – هي شهادة اثنين من أصحاب العدالة والتقوى : يشهدهما على وصيته، فيتحملان هذه الشهادة، لأدائها عند الحاجة.
( منكم ) : أي من المؤمنين، وقيل : من أقارب الموصي.
أو آخران من غيركم.
أي : من غير المسلمين فكأنه قال : أو شهادة اثنين آخرين من غير المسلمين.
إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت.
أي : إن أنتم سافرتم في الأرض، ونزلت بكم مصيبة الموت، وأردتم الإيصاء. فأشهدوا عدلين من أقارب الموصى أو من المؤمنين أو آخرين من أهل الذمة. أي : فأشهدوا عدلين منكم معشر المؤمنين.
وقيل عدلين من أقارب الموصى. وذلك إذا تيسر وجودهما. فإن لم يتيسر وجودهما. فإن لم يتيسر وجودهما – بسبب السفر مثلا – فيجوز اختيار اثنين من أهل الذمة. وقيل من غير أقارب الموصى له.
تحبسونهما بعد الصلاة.
تمنعونهما من الانصراف للتحليف بعد الصلاة. والمراد بالصلاة التي يحبسان بعدها، صلاة العصر ؛ لأنه وقت اجتماع الناس ؛ ولأن الحكام كانوا يجلسون للقضاء في هذا الوقت بين الخصوم.
وقيل : بعد أي صلاة كانت ؛ لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب لقوله تعالى :(... إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... ). ( العنكبوت : ٤٥ ).
والمأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حلف عديا وتميما الدارى بعد العصر.
وقد جرى العمل على هذا بين المسلمين.
فيقسمان بالله إن ارتبتم.
فيقسمان عند ارتياب الورثة وشكهم، فإذا لم تكن ريبة. فيصدق الشاهدان، لأمانتهما وعدم الارتياب فيهما.
لا نشري به ثمنا ولو كان ذا قربى.
أي : لا نستبدل بالقسم بالله عرضا زائلا من الدنيا. فلا نحلف بالله كاذبين، ولو كان القسم يحقق مصلحة لبعض الأقارب، طمعا في عرض الدنيا.
ولا نكتم شهادة الله. أي ويقول الحالفان – في يمينهما – ولا نكتم الشهادة التي أمر الله تعالى بإقامتها. كما قال تعالى : وأقيموا الشهادة لله... الآية. ( الطلاق : ٢ ) وكقوله سبحانه :
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه... الآية. ( البقرة : ٢٨٣ ).
إنا إذن لمن الآثمين.
أي : أننا إذا اشترينا بالقسم ثمنا. أو راعينا فيه قرابة. بأن كذبنا في الشهادة – ابتغاء المنفعة لأنفسنا أو لقرابتنا أو كتمنا الشهادة كلها أو بعضها – كنا من الواقعين في الإثم، المستحقين للعقوبة من الله عليه.
فإن عثر : عثر من العثور على الشيء، وهو ؛ الاطلاع عليه من غير سبق طلب له.
وأعثره عليه : وقفه عليه، فأعلمه به، من حيث لم يكن يتوقع ذلك.
التفسير :
١٠٧ – فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان.
فإن اطلع – بعد القسم – على أن الشاهدين الحالفين استحقا إثما، بسبب الكذب أو الكتمان في الشهادة، أو الخيانة في شيء من التركة : التي تحت أيديهما – فعدلان آخران من أقرباء الميت : الذين وجب عليهم أداء الشهادة والقسم.. وهذان الشاهدان هما : الأوليان بالشهادة والقسم. من سائر أقرباء الميت، لقوة قرابتهما من الميت واستحقاقهما في وصيته. فيحلفان بالله قائلين. لشهادتنا أحق وأولى بالقبول من شهادة الشاهدين الآثمين السابقين. وما تجاوزنا الحق فيما شهدنا به، وأقسمنا عليه.
إنا إذا لمن الظالمين.
أي : إنا – إذا اعتدينا عليهما، ونسبنا إليهما الباطل، وأقسمنا زورا وبهتانا – لنكون حينئذ، من الظالمين لهما بالكذب عليهما، ولأنفسنا بتعريضها لسخط الله وعقابه.
بيان للحكمة في مشروعية الشهادة وهذه الأيمان.
والمعنى : أن ذلك التشريع الحكيم، الذي شرعناه، أقرب إلى أن يؤدى المؤتمن على الوصية.
الشهادة على وجه الحق والعدل، بلا تغيير ولا تبديل، مراقبة لجانب الله، وحوفا من عقابه.
فإن في أداء الشاهدين للقسم – على ملإ من الناس بعد الصلاة – ما يبعث الرهبة من الله والخوف من عذابه، والرغبة في مثوبته وعظيم أجره.
والذي لا يرتقي إلى هذه المرتبة – من مخافة الله ومراقبته – فإنه – قطعا – يخاف الافتضاح والتشهير به، برد اليمين على الورثة الأقربين، حيث يقوم بالشهادة والحلف الأوليان، والأحقان بوصية الموصى.
وفي ذلك من الخزي والفضيحة، ما فيه.
واتقوا الله واسمعوا.
أي : واتقوا الله تعالى – وراقبوه واسمعوا، وأطيعوا، واحذروا أن تحلفوا كاذبين في أيمانكم، أو أن تخونوا في الأمانات التي تحت أيديكم. فإن لم تتقوا –ولم تسمعوا ما أمرتم به، وما نهيتم عنه – كنتم الفاسقين الخارجين عن طاعة الله.
والله لا يهدي القوم الفاسقين : إلى سبيل الرشاد.
١٠٩- يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم... الآية.
تمهيد :
ذكر الله تعالى فيما سبق الدعوة إلى إقامة الشهادة على وجهها، وحذر من شهادة الزور، وأمر بتقوى الله ثم عقب على ذلك بذكر أهوال القيامة.
قال الفخر الرازي : اعلم أن عادة الله – تعالى – جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها غما بالإلهيات، وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع، وهنا لما ذكر فيما سبق أنواعا كثيرة من الشرائع أتبعها بذكر أحوال القيامة.
يوم يجمع الله الرسل فيقولون ماذا أجبتم... الآية.
بمعنى : اذكر أيها المكلف ذلك اليوم الهائل الشديد، يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام، في شتى الأمكنة والأزمان، فيقول لهم : ماذا أجبتم من أقوامكم ؟
أي : ما الإجابة التي أجابكم بها أقوامكم ؟
أهي إجابة قبول ؟ أم إجابة رفض وإباء.
وبما أن الله تعالى يعلم جواب الأمم لرسلهم فالمقصود من السؤال توبيخ قومهم، كما كان سؤال المؤودة توبيخا للوائد.
قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب.
أي لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شيء، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا. إلا أن علمنا لا يتعدى الظواهر، أما علمك أنت يا ربنا فشامل للظواهر والبواطن.
وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم.
( وقيل معناه : لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة ( ٣٧ ) )
بروح القدس : هو ملك الوحي، جبريل عليه السلام.
الكتاب : الكتب السماوية، أو الكتابة.
والحكمة : العلم الصحيح الذي يبعث الإنسان على إصابة الحق ؛ في الرأي والقول والعمل.
والتوراة : الكتاب الذي أنزله الله على موسى، أساسا لشريعته. وينطبق عليه ما انطبق على التوراة في التسمية.
تخلق : تصور.
الأكمه : من ولد أعمى.
والأبرص : المريض ببياض الجلد. والبرص : مرض جلدي يغير لون البشرة إلى البياض.
سحر مبين : السحر ؛ تمويه وتخييل. به يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته.
١١٠- إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك إذ أيدتك بروح القدس... الآية.
يستمر هذا الدرس في بيان حقيقة الألوهية، ويستعرض ذلك في مشهد من مشاهد القيامة ويذكر عيسى هنا حيث أن الناس قد أسرفوا في القول حوله.
قال صاحب الظلال :
يلتفت الخطاب إلى عيسى ابن مريم على الملإ ممن ألهوه وعبدوه وصاغوا حوله وحول أمه مريم التهاويل يلتفت إليه يذكره نعمة الله عليه، وعلى والدته، ويستعرض المعجزات التي آتاه الله إياها، ليصدق الناس برسالته ( ٣٨ ).
وقال ابن كثير قوله : اذكر نعمتي عليك. أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي. وعلى والدتك. حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة. إذ أيدتك بروح القدس. وهو جبريل، وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك، وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيرا فشهدت ببراءة أمك من كل عيب واعترفت لي بالعبودية.
تكلم الناس في المهد و كهلا. أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك، وضمن تكلم معنى تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب ( ٣٩ ).
وروح القدس جبريل عليه السلام يؤيده في المهد بالنطق السليم ويؤيده في الكهولة بالتثبيت.
وقيل المراد بروح القدس روح عيسى حيث أيده سبحانه بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية وسيطرت.
وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.
يبين الحق سبحانه عددا من النعم على عيسى فقد جاء إلى الأرض لا يعلم شيئا فعلمه الكتابة، أي أن عيسى لم يكن أميا، بل كان قارئا وكاتبا، وقيل المراد به ما سبقه من كتب النبيين كزبور داود وصحف إبراهيم، أي جنس الكتاب فيشمل الكتب السابقة لأنها جميعا متفقة في أصول الشريعة.
وعلمتك. الحكمة. أي سداد الرأي، وإصابة الحق، وفهم أسرار العلوم.
والتوراة. التي أنزلتها على موسى.
والإنجيل. الذي أنزلته عليك لتكتمل بهما رسالتك.
وخصصهما بالذكر، لأنهما أهم الكتب التي أنزلها الله على أنبياء بني إسرائيل، ومنهما تؤخذ شريعة عيسى. وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني.
وهذه معجزة خارقة للعادة لا يقدر عليها بشر إلا بإذن الله فكان عيسى عليه السلام يصور من الطين مثل صورة الطير بأمر الله وتيسيره، ثم ينفخ في هذه الصورة فتكون طيرا حقيقيا بتيسير الله. ليكون ذلك آية تدل على صدقه.
وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني.
وتذكر يا عيسى نعمتي عليك، حين تبرئ الأكمه – وهو من ولد أعمى – فتمنحه الإبصار بإذن الله وتيسيره.
وتبرئ ( الأبرص ) وهو المريض بهذا المرض العضال. بإذني. وإذ تخرج الموتى بإذني.
واذكر وقت أن جعلت من معجزاتك أن تخرج الموتى من القبور أحياء ينطقون ويتحركون.. وكل ذلك بإذني ومشيئتي وإرادتي وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياء الموتى كان عن طريق الدعاء، وكان دعاؤه : يا حي يا قيوم، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح ( ٤٠ ).
وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين.
من الله على عيسى بالعديد من النعم، وهنا ذكره بنعمته وقت أن صرف عنه أذى اليهود حين جاءهم بالمعجزات الواضحات سواء ما ذكر منها هنا، أم في موضع آخر، كإخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، فقال الكافرون منهم، ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين واضح.
الحواريين : واحدهم حواري، وهو : من أخلص سرا وجهرا في مودتك.
وحواريوا الأنبياء : المخلصون لهم.
التفسير :
١١١- وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي... الآية.
ذكر الله تعالى نعماءه على عيسى وأمه، وإن كانت معظم النعم خاصة بعيسى إلا أن الارتباط كامل بين الابن وأمه فكل نعمة على الابن هي نعمة على الأم.
والحوارييون هم المخلصون في العبادة أو الذين أخلصوا قلوبهم لله، والحور العين، خالصة البياض، والحوراء شديدة بياض العين، مع شدة سواد العين، وحوارى الرجل خلصاؤه ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الزبير بن العوام : لكل نبي حواري وحواري الزبير.
والمراد بالوحي هنا الإلهام أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا أو أمرتهم بذلك في الإنجيل على لسانك.
والمعنى : اذكر نعمتي عليك – يا عيسى – حين أوحيت إلى الحواريين بطريق الإلهام أو بطريق الأمر على لسانك وقلت لهم :
أن آمنوا بي وبرسولي.
أي آمنوا بأنى أنا الواحد المستحق للعبادة وبرسولي عيسى بأنه مرسل من جهتي قالوا آمنا بالله وبرسوله وأشهد بأننا مخلصون وقد عدد الله على عيسى سبعا من النعم ( إذ أيدتك.. وإذ علمتك.. وإذ تخلق.. وإذ تبرئ.. وإذ تخرج الموتى.. وإذ كففت.. وإذ أوحيت ) ( ٤١ )
وإنما ذكر الله تعالى قوله : وإذ أوحيت. في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبولا عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان.
هل يستطيع ربك : هل يستجيب ربك.
مائدة : المائدة، الخوان الذي عليه الطعام، أو الطعام نفسه.
التفسير :
١١٢- إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء... الآية.
المعنى : واذكر أيها المتأمل، حين قال الحواريون : يا عيسى ابن مريم، هل يستجيب لك ربك إذا سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء.
وقد اختلفت التأويلات في قولهم هل يستطيع ربك. ؟
فقيل إن الاستفهام هنا على المجاز لأن الحواريين كانوا مؤمنين، ولا يعقل من مؤمن أن يشك في قدرة الله.
فقيل : إن معنى يستطيع يطيع، والسين زائدة كاستجاب بمعنى أجاب.
أي أن معنى الجملة الكريمة : هل يطيعك – ربك يا عيسى إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء، وقيل إن المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء، ويؤيد ذلك قراءة
هل يستطيع ربك. بالتاء وبفتح الباء في ربك قال معاذ : أقرأنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يستطيع ربك. وقال معاذ أيضا : وسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرارا يقرأ بالتاء ( ٤٢ ).
قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. أي اتقوا الله وقفوا عند حدوده، واملئوا قلوبكم خشية وهيبة منه، ولا تطلبوا أمثال هذه المطالب إن كنتم مؤمنين حق الإيمان، فإن المؤمن الصادق في إيمانه يبتعد عن طلب الخوارق، ولا يقترح على الله.
شرح الحوارييون أسباب طلبهم للمائدة، فهم لم يسألوا ذلك تعنتا. ولا شكا في قدرة الله أو نوبة عيسى وإنما طلبوا نزول المائدة لأربعة أسباب :
١- الأكل منها فتنالهم بركة السماء حين يأكلون من طعام فريد لا نظير له عند أهل الأرض.
٢- زيادة اليقين والاطمئنان حين يرون هذه الخارقة أمامهم ويذكرنا ذلك بدعاء إبراهيم لربه أن يشاهد كيفية إحياء الموتى حتى يطمئن قلبه، قال تعالى : وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي... الآية. ( البقرة : ٢٦٠ ).
٣- العلم بأن عيسى قد صدقهم في دعوى النبوة والرسالة.
٤- ليكونوا شهودا لدى بقية قومهم على وقوع هذه المعجزة.
المفردات :
تكون لنا عيدا : العيد ؛ السرور، أو موسم السرور.
وآية منك : أي علامة على صدقي في دعوتي ونبوتي.
والمعنى : تضرع عيسى إلى الله ربه وخالقه أن ينزل عليهم مائدة من السماء فيها طعام يكفيهم جميعا من أولهم إلى آخرهم، ويكون أيضا يوم نزولها عيدا وسرورا وبهجة لمن سيأتي بعدنا ممن لم يشاهدها.
وآية منك : واجعلها علامة من لدنك، ترشد القوم إلى صحة نبوءتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك، ويزداد يقينهم بكمال قدرتك.
وارزقنا وأنت خير الرازقين. وهذا تذييل بمثابة التعليل لما قبله، أي أنزلها علينا يا ربنا وارزقنا من عندك رزقا هنيئا رغدا، فإنك خير الرازقين وخير المعطين، وكل عطاء من غيرك لا يغني ولا يشبع.
استجاب الحق سبحانه وتعالى لدعاء عيسى عليه السلام، ولكن بالجد اللائق بجلاله سبحانه.. لقد طلبوا خارقة، واستجاب الله تعالى على أن يعذب من يكفر منهم بعد هذه الخارقة عذابا شديدا بالغا في شدته لا يعذبه أحدا من العالمين فقد مضت سنة الله تعالى من قبل بهلاك من يكذبون بالرسل بعد المعجزة، حيث لا عذر لمن يرى الآيات تترى في الرسول ثم يطلب معجزة على النحو الذي اقترحه، فيجاب لها، ثم بعد ذلك يكفر، ونحن نثق بأن الأمر كان معجزة في حد ذاتها فنزلت مائدة من السماء عليها طعام كثير ويكفي جميع الموجودين.
أما صفة المائدة، وأنواع طعامها، فلم يجئ فيها دليل يعول عليه.
قال ابن جرير الطبري :( وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة فأن يقال : كان عليها مأكول، وجائز أن يكون هذا المأكول سمكا وخبزا، وجائز أن يكون من ثمار الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل ( ٤٣ ).
وهذه القصة لم ترد في الأناجيل الموجودة في أيدينا، والقرآن الكريم قد بين كثيرا مما أخفاه أهل الكتاب، أو ضاع منهم علمه بسبب ما، والقرآن مهيمن على هذه الكتب السابقة ومتمم لها.
وبعض القصص ورد في القرآن ولم يرد في التوراة أو الأناجيل، لأن التحريف قد دخل في التوراة والأناجيل ولم يدخل في القرآن الكريم.
قال تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. ( المائدة : ١٥ ).
وقد ورد في كتب التفسير وصف للمائدة وأنواع الطعام التي نزلت، مثل ما روي أن الملائكة نزلت بالمائدة عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم ( ٤٤ ).
قال ابن كثير : و هذه أخبار أسانيدها ضعيفة ولا تخلوا عن غرابة ونكارة ( ٤٥ ).
هل نزلت المائدة بالفعل ؟
تفيد الآيات القرآنية أن الحواريين قد طلبوا من عيسى أن يدعو ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، وأن عيسى قد دعا ربه فعلا أن ينزلها.
لكن هل نزلت المائدة بالفعل ؟
يرى الحسن ومجاهد أن المائدة لم تنزل، فقد روى ابن جرير بسنده عن قتادة قال : كان الحسن يقول لما قيل لهم : فمن يكفر بعد منكم قالوا : لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل.
والجمهور يرون أنها نزلت لأن الله وعد بذلك في قولها إني منزلها عليكم.
وروح الآيات القرآنية تؤيد رأي الجمهور وكذلك الآثار التي وردت ترجح رأي الجمهور.
سبحانك : أي تنزيها لك عما لا يليق بك.
التفسير :
١١٦- وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله... الآية.
يعني : اذكر يا محمد يوم القيامة، يوم يقول الله تعالى هذا القول لعيسى ابن مريم : وقيل بل هذا قول قاله الله لعيسى عند رفعه إلى السماء، لما قالت النصارى فيه ما قالت.
وإنما يسأله الله تعالى عن هذا القول وهو يعلم أنه لم يقله، توبيخا للنصارى وقطعا لحجتهم، وقيل : يقوله أيضا لقصد تعريف المسيح عليه السلام بأن قومه قد غيروا بعده وقالوا عليه ما لم يقله، من اتخاذه ربا من دون الله، وعبادته وأمه من دون الله، مع أن الله سبحانه ما بعثه إليهم إلا ليعبدوا الله وحده.
وقد نعى الله على الذين اتخذوا المسيح إلها في مواضع عدة من هذه السورة.
وعبادة أمه كانت معروفة في الكنائس الشرقية والغربية وسمى الذين عبدوها ( المريميون )...
وهذه العبادة منها :
ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود.
ومنها : ما هو استغاثة، واستشفاع.
ومنها : ما هو صيام ينسب إليها، ويسمى صيام العذراء.
وكل ذلك يقترن بخضوع وخشوع لذكرها ولصورها ولتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها، وأنها تنفع وتضر في الدنيا والآخرة، إما بنفسها أو بواسطة ابنها ويسمونها :( والدة الإله ).
قال سبحانك. أي أنزهك تنزيها عن أن يكون معك إله آخر.
ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك. أي ما ينبغي لي أن أدعي لنفسي ما ليس من حقها، فأنا مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود، ثم رد العلم كله إلى لله حيث قال : إن كنت قلته فقد علمته. أي : إن كنت قلت هذا القول وهو : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. فأنت تعلمه ولا يخفى عليك منه شيء، لأنك أنت – يا إلهي – تعلم ما في نفسي أي ما في ذاتي ولا أعلم ما في ذاتك.
والمراد : تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم، وتعلم ما في غيبي ولا ألعم ما في غيبك، وتعلم ما أقول وأفعل، ولا أعلم ما تقول وتفعل.
إنك أنت علام الغيوب. أي إنك أنت المحيط بجميع الغيوب لا يخفى عليك شيء منها، في الأرض ولا في السماء ومن كان كذلك، فلا تخفى عليه براءتي.
وكنت عليهم شهيدا : أي رقيبا، أو شاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان.
فلما توفيتني : التوفى ؛ أخذ الشيء وافيا كاملا، ، ومنه الموت ؛ لأن الميت استوفى أجله.
الرقيب : المطلع على أحوالهم.
التفسير :
١١٧- ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم. أي ما أمرتم إلا بما أمرتني أن أبلغهم إياه وهو عبادتك وحدك لا شريك لك فأنت ربي وربهم، وأنت الذي خلقتني وخلقتهم، فيجب أن ندين لك جميعا بالعبادة والخضوع والطاعة.
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم. أي : وكنت مراقبا لأحوالهم، مرشدا لهم مدة بقائي بينهم. فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد. أي فلما رفعتني إليك حيا إلى السماء بعد أن توفيتني من حياة الأرض، كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد عليهم.
وأنت على كل شيء شهيد. لا تخفى عليك خافية من أمور خلقك.
ومذهب الجمهور : هو أن عيسى ابن مريم رفع إلى السماء حيا وهو باق على الحياة التي كان عليها في الدنيا حتى ينزل إلى الأرض في آخر الزمان.
وقال صاحب الظلال : وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله سبحانه، قد توفى عيسى ابن مريم ثم رفعه إليه وبعض الآثار تفيد أنه حي عند الله، وليس هنالك – فيما أرى – أي تعارض يثير أي استشكال بيد أن يكون الله قد توفاه من حياة الأرض، وأن يكون حيا عنده، فالشهداء كذلك يموتون في الأرض وهم أحياء عند الله، أما صورة حياتهم عنده فنحن لا ندري لها كيفا، وكذلك صورة حياة عيسى – عليه السلام – وهو هنا يقول لربه : إنني لا أدري ماذا كان منهم بعد وفاتي.
ومن الباحثين من يرى أن معنى : فلما توفيتني. أي : أمتني وزعموا أن رفعه إلى السماء كان بعد موته.
وذهب غيرهم إلى معنى : فلما توفيتني. أي وفيتني أجرى كاملا أو أخذتني وافيا بالرفع إلى السماء حيا، إنجاء لي مما دبروه من قتلى من التوفي وهو أخذ الشيء وافيا أي كاملا، وقد جاء التوفي بهذا المعنى في قوله تعالى : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا. ( ولا يصح أن يحمل التوفي على الإماتة، لأن إماتة عيسى في وقت حصار أعدائه له ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها، ورفعه إلى السماء جثة هامدة، سخف من القول، وقد نزه الله السماء أن تكون قبورا لجثث الموتى، وإن كان الرفع بالروح فقط، فأي مزية لعيسى في ذلك على سائر الأنبياء، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة، فالحق أنه – عليه السلام – رفع إلى السماء حيا بجسده وروحه وقد جعله الله آية والله على كل شيء قدير ) ( ٤٦ ).
وقد دلت الآية الكريمة على أن الأنبياء بعد استيفاء أجلهم الدنيوي، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم وقد روى البخاري عن ابن عباس قال :
خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا – أي غير مختونين – ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين. ثم قال : ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصيحابي، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم. فيقال لي : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) ( ٤٧ ).
وإن تغفر لهم. أي وإن تغفر لمن أقلع منهم وآمن، فذلك تفضل منك، وأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في جميع أفعالك.
وهذا القول من عيسى قاله على سبيل الاستعطاف، وفي هذا القول تبرؤ من القدرة على الحكم في أمته يوم القيامة، بل الحكم فيهم إلى الله وحده.
قال ابن الأنبارى : معنى الكلام : لا ينبغي لأحد أن يعترض عليك، فإن عذبتهم، فلا اعتراض عليك، و إن غفرت لهم – و لست فاعلا إذا ماتوا على الكفر – فلا اعتراض عليك وقال غيره : العفو لا ينقص عزك، ولا يخرج عن حكمك ( ٤٨ ).
١١٩- قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. في هذا الموقف العظيم يتبرأ عيسى ممن اتخذه إلها، ويفوض الأمر إلى الله تعالى.
وفي هذا المشهد نجد قول الحق سبحانه إن هذا اليوم يوم الجزاء يوم يأخذ الصادق في الدنيا جزاء صدقه بنعيم لا يحد في جنة تجري من تحتها الأنهار. هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. إنها كلمة رب العالمين في ختام الاستجواب الهائل على مشهد من العالمين وهي الكلمة الأخيرة في المشهد.
جاء في التفسير الوسيط للدكتور محمد سيد طنطاوي :
والمراد باليوم في قوله : هذا يوم... يوم القيامة الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت، وقد قرأ الجمهور برفع يوم من غير تنوين على أنه خبر لاسم الإشارة، أي قال الله تعالى، إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينتفع الصادقون فيه بصدقهم في إيمانهم وأعمالهم، لأنه يوم الجزاء والعطاء على ما قدموا من خيرات في دنياهم.
أي إن صدقهم في الدنيا ينفعهم يوم القيامة ( ٤٩ ).
لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم. أي إن لهم هذا النعيم الجثماني في الجنات، وما يتبعها من عيشة هنية، ولهم نعيم روحاني متمثل في تكريم الله لهم ورضاه عنهم ورضاهم عنه بما جازاهم به مما لم يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم.
ذلك الفوز العظيم. أي ذلك الانتفاع الحسي والمعنوي هو الظفر بالمطلوب على أتم الأحوال.
قال الفخر الرازي : اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة، شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب، وحقيقة الثواب : انها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله : لهم جنات تجري من تحتها الأنهار. إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله : خالدين فيها أبدا. إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة : فإنه أينما ذكر الثواب قال : خالدين فيها أبدا. وأينما ذكر العقاب للفساق من أهل الإيمان، ذكر لفظ الخلود و لم يذكر معه التأبيد، وأما قوله : رضي الله عنهم ورضوا عنه. فتحته أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها، جعلنا الله من أهلها ( ٥٠ ).
جاء في فتح القدير للإمام الشوكاني :
لله ملك السموات والأرض. دون عيسى وأمه وسائر من ادعيت لهم الربوبية، ودون سائر مخلوقات الله تعالى.
وما فيهن. أي من جميع الخلائق كلهم ملك لله تعالى، فليس له ولد ولا والد.
وهو على كل شيء قدير. أي فلن يحتاج منهم إلى نصير ينصره.
وهذه الآية مسك الختام لهذه السورة الكريمة التي اشتملت على كثير من التشريعات التي تتعلق بالحلال والحرام، وبالعبادات والحدود والقصاص والإيمان، كما اشتملت على أمور تتعلق بأهل الكتاب، فذكرت حكم أطعمتهم وحكم زواج المحصنات من نسائهم، كما ذكرت أقوالهم الباطلة في شأن عيسى وأمه وردت على مزاعمهم وفندت أقوالهم بالحجة البالغة ولا عجب فالقرآن كتاب : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ( فصلت : ٤٢ ).
تم تفسير سورة المائدة، ويتبعه تفسير الأنعام إنشاء الله تعالى.
( اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفره لما لا نعلمه ).
اللهم وفق وأعن وتقبل، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الخميس ٩ رمضان ١٤١٠ ه الموافق ٥ / ٤ / ١٩٩٠ م
بسلطنة عمان بجامعة سلطان قابوس.