تفسير سورة المجادلة

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْحَسَنِ يُجْزِي الْكَافِرَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يُجْزِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إلَّا الرَّقَبَةَ الْمُؤْمِنَةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ قَالَ أَبُو بكر ظاهر قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يَقْتَضِي جَوَازَ الْكَافِرَةِ وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُظَاهِرِ أَعْتِقْ رَقَبَةً
وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْإِيمَانَ وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهَا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَلِأَنَّ فِيهِ إيجَابَ زِيَادَةٍ فِي النَّصِّ وَذَلِكَ عِنْدَنَا يُوجِبُ النَّسْخَ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ رَقَبَةٍ لِلْخِدْمَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا أَوْ كَانَ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ ثَمَنَ رَقَبَةٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ مَنْ لَهُ خَادِمٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَلَهُ أن يصوم
قال الله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فَأَوْجَبَ الرَّقَبَةَ بَدِيًّا عَلَى وَاجِدِهَا وَنَقَلَهُ إلَى الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَمَّا كَانَ هَذَا وَاجِدًا لَهَا لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهُ فَإِنْ قِيلَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَعَهُ مَاءٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِاسْتِبْقَاءِ الْمَاءِ وَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ عِتْقُ هَذِهِ الرَّقَبَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ وَاجِدٌ وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَنَحْوِهِمْ فِي الْكَفَّارَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ قَدْ أَدَّى شَيْئًا عَنْ الْكِتَابَةِ وَلَا الْمُدَبَّرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى شَيْئًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ جَازَ وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَى عبدا ينويه عن كفارته لم يُجْزِهِ وَقَالَ زُفَرُ لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى شَيْئًا وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ وَلَا الْمُدَبَّرُ وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ وَلَا مُعْتَقٌ إلَى سِنِينَ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَا الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ وَلَا الْمُدَبَّرُ وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ يُجْزِي الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَقَالَ اللَّيْثُ يُجْزِي أَنْ يَشْتَرِيَ أَبَاهُ فَيُعْتِقَهُ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِي مَنْ إذَا اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ ويجزى المدبر ولا يجزى المكاتب وإن لم يؤدى شَيْئًا وَيُجْزِي الْمُعْتَقُ إلَى سِنِينَ وَلَا تُجْزِي أُمُّ الْوَلَدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فَإِنَّهُمَا لَا يَجْزِيَانِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا قَدْ اسْتَحَقَّا الْعِتْقَ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا ثَبَتَ لَهُمَا مِنْ حَقِّ الْعَتَاقِ يَمْنَعُ بَيْعَهُمَا وَلَا يَصِحُّ فَسْخُ ذَلِكَ عَنْهُمَا فَمَتَى أَعْتَقَهُمَا فَإِنَّمَا عَجَّلَ عِتْقًا مُسْتَحَقًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ قَالَ لَهُ الْمَوْلَى أَنْتَ حُرٌّ
312
بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ بِهَذَا الْقَوْلِ يَمْنَعُ بَيْعَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ وَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَ عِتْقِهِ عَنْ الكفار فَإِذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا فَقَدْ أَسْقَطَ الْمَالَ فَصَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا غَيْرَ مُكَاتَبٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى شَيْئًا لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يَنْفَسِخُ بِعِتْقِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ عَنْ عِتْقِهِ بَدَلَ فَلَا يُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ فَإِنَّهُ يُجْزِي إذَا نَوَى لِأَنَّ قَبُولَهُ لِلشِّرَى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَاهُ يُعْتِقُهُ بشرائه إياه فجعل شراه بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ فَأَجْزَأَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعُ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ وَقَالَ مَالِكٌ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ وَهُوَ مُدَّانِ إلَّا ثُلُثًا بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مِنْ الْحِنْطَةِ وَأَمَّا الشَّعِيرُ فَإِنْ كَانَ طَعَامَ أَهْلِ بَلَدِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا طَعَامَ أَهْلِ الْبَلَدِ أَطْعَمَهُمْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسَطًا مِنْ شِبَعِ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامِ بَلَدِهِ الَّذِي يَقْتَاتُ حنطة أو شعير أَوْ أُرْزٌ أَوْ تَمْرٌ أَوْ أَقِطٌ وَذَلِكَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْتَبَرُ مُدٌّ أُحْدِثَ بَعْدَهُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عثمان ابن أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْبَارِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عن محمد ابن عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ كُنْت امْرَأً أُصِيبُ مِنْ النِّسَاءِ وَذَكَرَ قِصَّةَ ظِهَارِهِ مِنْ امْرَأَتِهِ وَأَنَّهُ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ حَرِّرْ رَقَبَةً فَقُلْت وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إلَّا مِنْ الصِّيَامِ قَالَ فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قُلْت وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ بِتْنَا وَحْشَيْنِ وَمَا لَنَا طَعَامٌ قَالَ فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْك فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُك بَقِيَّتَهَا فَإِنْ قِيلَ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ مَالِك بْنِ ثَعْلَبَةَ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيهِ فَلْيَذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ فَلْيَأْخُذْهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا وَرَوَى عَبْدُ الله ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
313
سَلَامٍ عَنْ خَوْلَةَ أَنَّ زَوْجَهَا ظَاهَرَ مِنْهَا فَذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا
قِيلَ لَهُ قَدْ رَوَيْنَا حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطْعِمَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى خَبَرِك وَأَيْضًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَانَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ الْكَفَّارَةِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زَيْدَانَ زَوْجُ خَوْلَةَ ظَاهَرَ مِنْهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَانَهُ بِبَعْضِ الْكَفَّارَةِ
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَانَ زَوْجَهَا حِينَ ظَاهَرَ مِنْهَا بِعِذْقِ مِنْ تَمْرٍ وَأَعَانَتْهُ هِيَ بِعِذْقٍ آخَرَ وَذَلِكَ سِتُّونَ صَاعًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصدق به
واختلفوا في المظاهر هل يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَامِعُ حَتَّى يُطْعِمَ إذَا كَانَ فرضه الطعام روى زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا
وَرَوَى الْمُعَافَى وَالْأَشْجَعِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُطْعِمَ قَالَ النبي صلّى الله عليه وسلّم للمظاهر بعد ما ذَكَرَ عَجْزَهُ عَنْ الصِّيَامِ ثُمَّ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ
وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ قَبْلَ عِتْقِ الرَّقَبَةِ وَجَبَ بَقَاءُ حَظْرِهِ إذَا عَجَزَ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَجِدَ الرَّقَبَةَ قَبْلَ الْإِطْعَامِ فَيَكُونَ الْوَطْءُ وَاقِعًا قَبْلَ الْعِتْقِ.
بَابُ كَيْفَ يُحَيِّي أَهْلَ الكتاب
قال الله تعالى وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إذْ أَتَى عَلَيْهِمْ يَهُودِيٌّ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ قَالُوا سَلَّمَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قال قال اسم عَلَيْكُمْ أَيْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ
وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا عليكم أَيْ عَلَيْك مَا قُلْتَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا تبدؤهم بِالسَّلَامِ وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ السَّامُ أَنَّكُمْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ
يُرِيدُونَ بِهِ الْمَوْتَ لِأَنَّ السَّامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ نَرَى أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْمُشْرِكِ السَّلَامَ وَلَا نَرَى أن نبدأه وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْن مَرْزُوقٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ صَحِبْنَا عَبْدَ اللَّهِ فِي سَفَرٍ وَمَعَنَا أُنَاسٌ مِنْ الدَّهَاقِينِ قَالَ فَأَخَذُوا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِنَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ أَلَيْسَ هَذَا تَكْرَهُ قَالَ إنَّهُ حَقُّ الصُّحْبَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ لِأَنَّ الرَّدَّ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ أَحَدٍ
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنَّمَا كَرِهَ الِابْتِدَاءَ لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِكَرِهِ أن يبدأ بِهِ الْكَافِرَ إذْ لَيْسَ مِنْ أَهْلهَا وَلَا يُكْرَهُ الرَّدُّ عَلَى وَجْهِ الْمُكَافَأَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ قَالَ قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ أَخْتَلِفُ إلَى طَبِيبٍ نَصْرَانِيٍّ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَالَ نَعَمْ إذَا كَانَتْ لَك إلَيْهِ حَاجَةٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ
وقَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا قَالَ قَتَادَةُ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُمْ تَفَسَّحُوا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ مَجْلِسُ الْقِتَالِ قَالَ قتادة وإذا قيل انشزوا قَالَ إذَا دُعِيتُمْ إلَى خَيْرٍ وَقِيلَ اُنْشُزُوا أَيْ ارْتَفِعُوا فِي الْمَجْلِسِ وَلِهَذَا ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالرِّفْعَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَرْفَعُ مَجْلِسَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ لَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ فَضْلَهُمْ وَمَنْزِلَتَهُمْ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَكَذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلينى منكم أولو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ
فَرَتَّبَ أُولِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ إذْ جَعَلَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الَّتِي تَلِي النُّبُوَّةَ
وقَوْله تَعَالَى إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَصَرَفْتُهُ فَكُنْتُ إذَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصدقت بدرهم
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ فَلَمَّا نَزَلَتْ إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً كَفَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ وقوله وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا
وقَوْله تَعَالَى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ الْآيَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَعَاصِي وَمُسَاكَنَتَهَا وَأُلْفَهَا تُقَسِّي الْقَلْبَ وَتُبْعِدُ مِنْ التَّوْبَةِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ
وقَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ شَهِيدٌ لهذه الآية
وجعل قوله وَالشُّهَداءُ صِفَةً لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو الضُّحَى وَالضَّحَّاكُ هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وخبره لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ
وقَوْله تَعَالَى وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها الآية قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَ عَمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْقُرَبِ وَالرَّهْبَانِيَّة ثُمَّ ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ رِعَايَتِهَا بقوله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ مَا يُنْذِرُهُ وَيُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ بِالدُّخُولِ فِيهِ وَعُمُومُهُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ابْتَدَعَ قُرْبَةً قَوْلًا أَوْ فِعْلًا فَعَلَيْهِ رِعَايَتُهَا وَإِتْمَامُهَا فَوَجَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرَبِ فَعَلَيْهِ إتْمَامُهَا إلَّا وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَهَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَعَابَهُمْ الله بتركها فقال وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها الآية آخر سورة الحديد.
سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها- إلى قوله- وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قلابة قَالَ كَانَ طَلَاقُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ جَعَلَ اللَّهُ فِي الظِّهَارِ مَا جَعَلَ فِيهِ وَجَعَلَ فِي الْإِيلَاءِ مَا جَعَلَ فِيهِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ كَانَتْ النِّسَاءُ تُحَرَّمُ بِالظِّهَارِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها الْآيَةَ وَأَمَّا الْمُجَادَلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْمَرْأَةِ فَإِنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها في امرأة تقال لها خويلة وقال عكرمة بنت ثعلبة زوجها أوس بن
301
الصَّامِتِ قَالَتْ إنَّ زَوْجَهَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يَغْسِلُ رَأْسَهُ فَقَالَتْ اُنْظُرْ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ فَأَعَادَتْ ذَلِكَ مِرَارًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها- إلى قوله- ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا
قَالَ قَتَادَةُ حَرَّمَهَا ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ لَهَا فَيَطَأَهَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يتماسا قَالَ أَبُو بَكْرٍ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ الظهار ويحتمل أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الظِّهَارِ وَالْأَوْلَى أَنْ يكون المراد بجميع الطَّلَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ وَرَفْعُ النِّكَاحِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ كَانَ ثَابِتًا فِي الشَّرِيعَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الظِّهَارِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ فِيهَا بِالطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ فَكَيْفَ حَكَمَ فِيهَا بِعَيْنِهَا بِالظِّهَارِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالطَّلَاقِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بِعَيْنِهِ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فِي الْمَاضِي قِيلَ لَهُ لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّلَاقِ وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالَ مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ فَلَمْ يَقْطَعْ بِالتَّحْرِيمِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْلَمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ سَيَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ وَيَنْقُلَهُ مِنْ الطَّلَاقِ إلَى تَحْرِيمِ الظِّهَارِ الْآنَ فَجَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الْآيَةَ فَلَمْ يُثْبِتْ الْحُكْمَ فِيهِ فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ حَكَمَ فِيهَا بِمُوجِبِهَا وقَوْله تَعَالَى وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي تَشْبِيهِهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأُمِّ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَهِيَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وقَوْله تعالى الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ وَذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنْ قيل فقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا وَلَمْ يُخَصِّصْ الْمَذْكُورِينَ فِي الثَّانِيَةِ قِيلَ لَهُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قَالَ الْوَطْءُ فَإِذَا حَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا تَأْوِيلٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ لِأَنَّهُ قَالَ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ إذَا تَكَلَّمَ بِالظِّهَارِ لَزِمَهُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
302
أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَتَادَةَ إذَا أَرَادَ جِمَاعَهَا لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ في معنى العود فقال أصحابنا والليث ابن سَعْدٍ الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا لَا يَرْفَعُهُ إلَّا الْكَفَّارَةُ وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَهُمْ اسْتِبَاحَةُ وَطْئِهَا فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِكَفَّارَةٍ يُقَدِّمُهَا وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ وَطِئَهَا ثُمَّ مَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إذا ظاهره بها لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بَعْدَ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَصْحَابِنَا وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ إذَا أَجْمَعَ بَعْدَ الظِّهَارِ عَلَى إمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ وَلَمْ يُجْمِعْ عَلَى إمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ظَاهَرَ منه ثُمَّ وَطِئَهَا ثُمَّ مَاتَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ وَطِئَ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ إذَا أَجْمَعَ بَعْدَ الظِّهَارِ عَلَى إمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا وَطَلَبَ الْكَفَّارَةَ فَمَاتَتْ امْرَأَتُهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَقَالَ الْحَسَنُ إذَا أَجْمَعَ رَأْيُ الْمَظَاهِرِ عَلَى أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مُجَامَعَتِهَا وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فِيمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا قَالَ أَرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ رَاجَعَهَا أَوْ لَمْ يُرَاجِعْهَا وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَصِلْ إلَى مِيرَاثِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ فَلَمْ يُطَلِّقْ فَقَدْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ مَاتَتْ أَوْ عَاشَتْ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يُعَدُّ خِلَافًا أَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُعِيدَ الْقَوْلَ مَرَّتَيْنِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ أَنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ خَوْلَةَ حِينَ ظَاهَرَ منها زوجها أوس بن الصامت فأمر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ فَقَالَ لَا أَجِدُ فَقَالَ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَوْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَادَ أَنْ يُغْشَى عَلَى بَصَرِي فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الْعَزْمَ عَلَى إمْسَاكِهَا وَوَطْئِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يسئله عَنْ ذَلِكَ وَبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ إرَادَةَ الجماع لأنه لم يسئله وَبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَلْ طَلَّقْتهَا وَبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ إعادة القول لأنه لم يسئله هَلْ أَعَدْت الْقَوْلَ مَرَّتَيْنِ فَثَبَتَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الظِّهَارِ يُوجِبُ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ذِكْرُ الْحَالِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الظِّهَارُ فَقَالَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَالِ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا والمعنى ويعودون
303
بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ ومعناه والله شهيد فيكون نفس القول عود إلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كما قال حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وَالْمَعْنَى حَتَّى صَارَ كَذَلِكَ وَكَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
هَذِي الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا
مَعْنَاهُ صَارَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا فِي الثَّدْيِ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ وَكَمَا قَالَ لَبِيدٌ:
وَمَا الْمَرْءُ إلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إذْ هو ساطع
ويحور يرجع وإنما معناه هاهنا يَصِيرُ رَمَادًا كَذَلِكَ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إلَى حَالِ الظِّهَارِ الَّذِي كَانَ يَكُونُ مِثْلُهُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي الظِّهَارِ إيجَابُ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ مُوَقَّتًا بِالْكَفَّارَةِ فَإِذَا كَانَ الظِّهَارُ مَخْصُوصًا بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ هُوَ الْعَوْدَ إلَى اسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ بِالظِّهَارِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ يَعُودُونَ لَلْمَقُولِ فِيهِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ فِي الْمَوْهُوبِ وَكَقَوْلِنَا اللَّهُمَّ أَنْتَ رَجَاؤُنَا أَيْ مَنْ رَجَوْنَا وَقَالَ تَعَالَى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يَعْنِي الْمُوقِنَ بِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَخْبِرْ مَنْ لَاقَيْت أَنْ قَدْ وَفَيْتُمْ وَلَوْ شِئْت قَالَ المنبئون أساؤا
وَإِنِّي لَرَاجِيكُمْ عَلَى بُطْءِ سَعْيِكُمْ كَمَا فِي بُطُونِ الْحَامِلَاتِ رَجَاءُ
يَعْنِي مَرْجُوًّا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا مَعْنَاهُ لِمَا حَرَّمُوا فَيَسْتَبِيحُونَهُ فَعَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الِاسْتِبَاحَةِ وَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ اعْتَبَرَ الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ وَالْإِمْسَاكَ فَيَكُونُ الْعَوْدُ إمْسَاكُهَا عَلَى النِّكَاحِ لِأَنَّ الْعَوْدَ لَا مَحَالَةَ قَدْ اقْتَضَى عَوْدًا إلَى حُكْمِ مَعْنًى قَدْ تَقَدَّمَ إيجَابُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمْسَاكِ عَلَى النِّكَاحِ فِيهِ تَأْثِيرٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ ثُمَّ يَعُودُونَ وثم يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ وَمَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ فَقَدْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَقِيبَ الْقَوْلِ بِلَا تَرَاخٍ وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الْوَطْءِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَيْضًا لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَوْلِ هُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لَا تَحْرِيمُ الْعَزِيمَةِ وَالْعَزِيمَةُ عَلَى الْمَحْظُورِ وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً فَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حُكْمُهَا بِالْوَطْءِ فَالْعَزِيمَةُ عَلَى الِانْفِرَادِ لَا حُكْمَ لَهَا وَأَيْضًا لَا حَظَّ لِلْعَزِيمَةِ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ وَلَا
304
تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْعُقُودِ وَالتَّحْرِيمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزِيمَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا
وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ عفا لأمتى عما حدثت أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ
فَإِنْ قِيلَ هَلَّا كَانَ الْعَوْدُ إعَادَةَ الْقَوْلِ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَمَعْنَاهُ لَفَعَلُوا مِثْلَ مَا نُهُوا عَنْهُ قِيلَ لَهُ هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا قَدْ انْعَقَدَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ فَقَائِلُهُ خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجْعَلُ قَوْلَهُ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا تكرارا للقول واللفظ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ وَإِنْ حَمَلْته عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ لِمِثْلِ الْقَوْلِ فَفِيهِ إضْمَارٌ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَالْقَائِلُ بِذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ وَمُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهَا فَإِنْ قِيلَ وَأَنْتَ إذَا حَمَلْتَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَأَنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَقَدْ زُلْتَ عَنْ الظَّاهِرِ قِيلَ لَهُ إذَا كَانَ الظِّهَارُ قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ فَاَلَّذِي يَسْتَبِيحُهُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ بِالْقَوْلِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَوْدًا لِمَا قَالَ إذْ هُوَ مُسْتَبِيحٌ لِذَلِكَ الْوَطْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ بِعَيْنِهِ وَكَانَ عَوْدًا لِمَا قَالَ مِنْ إيجَابِ التَّحْرِيمِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْوَطْءَ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَحُكْمَ الْوَطْءِ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ حَرَّمَهُ بِالظِّهَارِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْدَامُ عَلَى اسْتِبَاحَتِهِ عَوْدًا لِمَا حَرَّمَ فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُطَابِقًا لِلَّفْظِ فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَتْ الِاسْتِبَاحَةُ هِيَ الْمُوجِبَةَ لِلْكَفَّارَةِ فَلَيْسَ يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الِاسْتِبَاحَةِ وَعَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ إيقَاعِ الْوَطْءِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ فَهَذَا يُلْزِمُك إيجَابَ الْكَفَّارَةِ بِنَفْسِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْوَطْءِ كَمَا قَالَ مالك والحسن ابن صَالِحٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ إيقَاعَ الْوَطْءِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ وَهَذَا خِلَافُ الْآيَةِ وَلَيْسَ هُوَ قَوْلُك أَيْضًا قِيلَ لَهُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَقِيلَ لَهُ إذَا أَرَدْت الْوَطْءَ وَعُدْت لِاسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمْته فَلَا تَطَأُ حَتَّى تُكَفِّرَ لَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ وَلَكِنَّهَا شَرْطٌ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ يَعْنِي فَقَدِّمْ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَقَوْلِهِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وَالْمَعْنَى إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ فَقَدِّمُوا الغسل وكقوله إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً وكقوله إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «٢٠- أحكام مس»
305
وَالْمَعْنَى إذَا أَرَدْتُمْ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً وَإِنَّمَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ وَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ فَإِذَا لَمْ يُرِدْ وَطْأَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ عَاشَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذْ كَانَ حُكْمُ الظِّهَارِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ فَقَطْ مُوَقَّتًا بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يُكَفِّرْ فَالْوَطْءُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ فَإِنْ وَطِئَ سَقَطَ الظِّهَارُ وَالْكَفَّارَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ حُكْمَ الظِّهَارِ وَمَا أَوْجَبَ بِهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بِأَدَائِهَا قَبْلَ الْوَطْءِ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَتَى وَقَعَ الْمَسِيسُ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْآيَةِ لِأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ أَوْ مُعَلَّقٍ عَلَى شَرْطٍ فَإِنَّهُ مَتَى فَاتَ الْوَقْتُ وَعَدِمَ الشَّرْطُ لَمْ يَجِبْ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَاحْتِيجَ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إيجَابِ مِثْلِهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي فَهَذَا حُكْمُ الظِّهَارِ إذَا وَقَعَ الْمَسِيسُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ إلَّا أَنَّهُ
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ثُمَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ
حَتَّى تُكَفِّرَ فَصَارَ التَّحْرِيمُ الَّذِي بَعْدَ الْوَطْءِ وَاجِبًا بِالسُّنَّةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ وطأ مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بَعْدَهُ فَقَالَ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ فِي آخَرِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ قَالَ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي فَجَامَعْتهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ فَقَالَ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ
فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ بَعْدَ الْوَطْءِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ الظِّهَارِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ بَطَلَ الظِّهَارُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ تَحْرِيمُ الظِّهَارِ لَا يَقَعُ إلَّا مُوَقَّتًا بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ فَإِذَا وَقَّتَهُ الْمُظَاهِرُ وَجَبَ تَوْقِيتُهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّا لَا يتوقت لَمَا انْحَلَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ بِالتَّكْفِيرِ كَالطَّلَاقِ فَأَشْبَهَ الظِّهَارُ الْيَمِينَ الَّتِي يُحِلُّهَا الْحِنْثُ فَوَجَبَ تَوْقِيتُهُ كَمَا يتوقت الْيَمِينُ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَا يُحِلُّهُ شَيْءٌ فَإِنْ قِيلَ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ يَقَعُ مؤقتا بِالزَّوْجِ الثَّانِي وَلَا يتوقت بِتَوْقِيتِ الزَّوْجِ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ قِيلَ لَهُ إنَّ الطَّلَاقَ لَا يتوقت بِالزَّوْجِ الثَّانِي وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مُسْتَقْبَلَاتٍ وَالثَّلَاثُ الْأُوَلُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ طَلَاقًا غَيْرَهَا فَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ تَوْقِيتٌ بِحَالٍ وَالظِّهَارُ مُوَقَّتٌ لَا مَحَالَةَ بِالتَّكْفِيرِ فَجَازَ تَوْقِيتُهُ بِالشَّرْطِ وَاخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ هَلْ يَدْخُلُ
306
عَلَيْهِ إيلَاءٌ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأَوْزَاعِيّ لَا يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الْمُظَاهِرِ وَإِنْ طَالَ تَرْكُهُ إيَّاهَا وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَدْخُلُ عَلَى حُرٍّ إيلَاءٌ فِي ظِهَارٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَارَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ ظِهَارِهِ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَدْخُلُ عَلَى ظِهَارِهِ إيلاء وقال ابن القاسم عنه يدخل الإيلاء عَلَى الظِّهَارِ إذَا كَانَ مُضَارًّا وَمِمَّا يُعْلَمُ بِهِ ضِرَارُهُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْكَفَّارَةِ فَلَا يُكَفِّرُ فَإِنَّهُ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ وُقِفَ مِثْلُ الْمُولِي فَإِمَّا كَفَّرَ وَإِمَّا طَلُقَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَرُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَدْخُلُ عَلَى الظِّهَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ الظِّهَارُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا صَرِيحًا فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الطَّلَاقِ بِهِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أدخل على أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ وَمَنْ أَدْخَلَ الْإِيلَاءَ عَلَى الْمُظَاهِرِ فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ
وَأَيْضًا نَصَّ اللَّهُ عَلَى حُكْمِ الْمُولِي بِالْفَيْءِ أَوْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ وَنَصَّ عَلَى حُكْمِ الْمُظَاهِرِ بِإِيجَابِ كَفَّارَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إذْ مِنْ حُكْمِ الْمَنْصُوصَاتِ أَنْ لَا يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُجْرًى عَلَى بَابِهِ وَمَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ وُقُوعُ الْحِنْثِ وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِالْوَطْءِ فَلَيْسَ هُوَ إذًا فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ وَلَا فِي حُكْمِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُولَى سَوَاءٌ قَصَدَ الضِّرَارَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ وَقَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَقْصِدْ الضِّرَارَ بِالظِّهَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ وَإِنْ قَصَدَ الضِّرَارَ فَإِنْ قِيلَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِيلَاءِ يُنْبِئُ عَنْ قَصْدِ الضِّرَارِ إذْ هُوَ حَلِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ قِيلَ لَهُ الظِّهَارُ قَصْدٌ إلى الضرار من حيث حرم وطؤها إلَّا بِكَفَّارَةٍ يُقَدِّمُهَا عَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَقْتَضِيَانِهِ مِنْ الْمُضَارَّةِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بعدهم فقهاء الْأَمْصَارِ فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ فَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَمَةٍ ظِهَارٌ وَهَذَا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالُوا هُوَ ظِهَارٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْثُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَقَالُوا يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْ أَمَتِهِ كَمَا هُوَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ إنْ كَانَ يَطَأُهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَطَأُهَا فَلَيْسَ بِظِهَارٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْصَرِفُ مِنْ الظِّهَارِ إلَى الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ وَالدَّلِيلُ
307
عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ فكان المفهوم من قوله أَوْ نِسائِهِنَّ الْحَرَائِرَ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ وقال تعالى وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ فَكَانَ عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الظِّهَارِ مَأْخُوذًا مِنْ الْآيَةِ وَكَانَ مُقْتَضَاهَا مَقْصُورًا عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ لَمْ يَجُزْ إيجَابُهُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ ظِهَارٍ فِي غير ما ورد فيه ووجه آخر مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ فَأَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُ الْأَمَةِ لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَالْأَمَةُ لَا يَصِحُّ تَحْرِيمُهَا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَتَى حَرَّمَهَا بِالْقَوْلِ لَمْ تَحْرُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَكَذَلِكَ مِلْكُ الْيَمِينِ وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا إذْ لَا يَصِحُّ تَحْرِيمُهَا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ.
فِي الظِّهَارِ بِغَيْرِ الْأُمِّ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا هُوَ مُظَاهِرٌ وَإِنْ قَالَ كَظَهْرِ فُلَانَةَ وَلَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ يَصِحُّ الظِّهَارُ بِالْمُحَرَّمِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ وَلِلشَّافِعِيَّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْأُمِّ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَصِحُّ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا صَحَّ الظِّهَارُ بِالْأُمِّ وَكَانَتْ ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ كَالْأُمِّ فِي التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ الظِّهَارُ بِهِنَّ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُنَّ فِي جِهَةِ التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الظِّهَارَ بِالْأُمِّ مِنْ الرَّضَاعَةِ صَحِيحٌ مَعَ عَدَمِ النَّسَبِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَرُوِيَ نَحْوَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْسَ أَنْ يَذْكُرَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ إنَّمَا الظِّهَارُ مِنْ الْأُمِّ وَأَيْضًا لَمَّا قال تعالى وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ الظِّهَارَ بِكُلِّ ذَاتِ مَحْرَمٍ إذْ لم يخصص الأم دون غيرها ومن قصرها عَلَى الْأُمِّ فَقَدْ خَصَّ بِلَا دَلِيلٍ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الظِّهَارَ بِالْأُمِّ قِيلَ لَهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّهُنَّ مِمَّا اشْتَمَلَ عليهن حده الْآيَةِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ
308
عُمُومًا فِي سَائِرِ مَنْ أَوْقَعَ التَّشْبِيهِ بِظَهْرِهَا مِنْ سَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْ سَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِأَنَّهُ قَدْ نَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَلْزَمَهُ حُكْمَ الظِّهَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ هَذَا الْحُكْمَ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ بِأُمَّهَاتِهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ هَذَا الْحُكْمِ فِي الظهار بسائر ذوات المحارم لأنه إذا ظَاهَرَ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَلَيْسَتْ هِيَ أُخْتَهُ وَلَا ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَهَذَا الْقَوْلُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وزورا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ مُبَاحَةٌ لَهُ وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُك عَلَى هَذَا إيجَابُ الظِّهَارِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِدَلَالَةِ فَحْوَاهَا عَلَى جَوَازِ الظِّهَارِ بِسَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ إذْ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُنَّ وَلِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ مُفِيدًا لِلتَّحْرِيمِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْلِكَ بُضْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَتَكُونَ مِثْلَهَا وَفِي حُكْمِهَا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْأَمْتِعَةِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا يَصِحُّ بِأَنْ يَقُولَ أنت على كمتاع فلان أو ولا كَمَالِ فُلَانٍ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَمْلِكُهُ بِحَالٍ فَيَسْتَبِيحُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ بِغَيْرِ الظَّهْرِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّيِّ أَوْ كَرَأْسِهَا أَوْ ذَكَرَ شَيْئًا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَإِنْ قَالَ كَبَطْنِهَا أَوْ كَفَخِذِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالظَّهْرِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْأُمِّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّيِّ أَوْ كَيَدِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِذَلِكَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حُكْمِ الظِّهَارِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَالظَّهْرُ مِمَّا لَا يَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ مَا لَا يَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إلَيْهِ فِي حُكْمِهِ وَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِهِ إذْ لَيْسَ تَحْرِيمُهَا مِنْ الْأُمِّ مُطْلَقًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الظِّهَارُ بِهِ إذْ كَانَ الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ لَهُ اسْتِبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَشْبَهَ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَيْهَا مِثْلَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْلَاكِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُحَرِّمُهُ الظِّهَارُ فَقَالَ الْحَسَنُ لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يُجَامِعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَقَالَ عَطَاءٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَبِّلَ أَوْ يُبَاشِرَ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ
309
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا الوقاع نَفْسُهُ وَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَقْرَبُ الْمُظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ وَلَا يُقَبِّلُ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ حَتَّى يُكَفِّرَ وَقَالَ مَالِكٌ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ لَا يَنْظُرُ إلَى شَعْرِهَا وَلَا صَدْرِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْعُوهُ إلَى خَيْرٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يَأْتِيهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ الْجِمَاعِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَحِلُّ لَهُ فَوْقَ الْإِزَارِ كَالْحَائِضِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُمْنَعُ الْقُبْلَةَ وَالتَّلَذُّذَ احْتِيَاطًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا قال تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا كَانَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي حَظْرِ جَمِيعِ ضُرُوبِ الْمَسِيسِ مِنْ لَمْسٍ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا وَأَيْضًا لما قال وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فَأَلْزَمَهُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ لَتَشْبِيهِهِ بِظَهْرِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ عَامًّا فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالْجِمَاعِ كَمَا أَنَّ مُبَاشَرَةَ ظَهْرِ الْأُمِّ وَمَسَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَأَيْضًا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ قَالَ فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ وَقَالَ لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْمَسِيسَ وَالْقُبْلَةَ
. فِي ظِهَارِ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا
قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهَا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَظَهْرِ أَخِي كَانَتْ مُظَاهِرَةً من زوجها قال على فسئلت محمد ابن الْحَسَنِ فَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَأَتَيْتُ أَبَا يُوسُفَ فَذَكَرْتُ لَهُ قَوْلَيْهِمَا فَقَالَ هَذَانِ شَيْخَا الفقه أخطأ هُوَ تَحْرِيمٌ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَقَوْلِهَا أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هِيَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ تُعْتِقُ رَقَبَةً وَتُكَفِّرُ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وَكَفَّرَتْ يَمِينًا رَجَوْنَا أَنْ يُجْزِيَهَا وَرَوَى مُغِيرَةٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ خَطَبَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ فَقَالَتْ هُوَ عَلَيْهَا كَظَهْرِ أَبِيهَا إنْ تَزَوَّجْته فَلَمَّا وَلِيَ الْإِمَارَةَ أَرْسَلَ إلَيْهَا فَأَرْسَلَتْ تسئل وَالْفُقَهَاءُ يَوْمِئِذٍ بِالْمَدِينَةِ كَثِيرٌ فَأَفْتُوهَا أَنْ تُعْتِقَ رقبة وتتزوجه وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ يَعْنِي عِنْدَ زَوْجِهَا يَوْمَ قَالَتْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَمْلِكُ نَفْسَهَا حِينَ قَالَتْ مَا قَالَتْ وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهَا إذَا قَالَتْ إنْ تَزَوَّجْته فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي كَانَتْ مُظَاهِرَةً وَلَوْ قَالَتْ وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ كَانَ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ
310
تَكُونَ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا تَلْزَمُهُ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ الْأَصْلُ فَكَيْفَ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ لَا يَكُونُ غَيْرَ طَالِقٍ كَذَلِكَ ظِهَارُهَا لَا يَلْزَمُهَا بِهِ شَيْءٌ وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا ظِهَارٌ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا بِالْقَوْلِ وَهِيَ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ إذْ كَانَ مَوْضُوعًا لِتَحْرِيمٍ يَقَعُ بِالْقَوْلِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ مُظَاهِرٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالظِّهَارِ فِيمَنْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَى ظَهْرِهَا بِحَالٍ وَهُوَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِ أَبِيهِ وَالْأَبُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْأَبِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَرَادَ التَّكْرَارَ فَتَكُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَالَ مَالِكٌ مَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ ظَاهَرَ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي مَقَاعِدَ شَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصْلُ أَنَّ الظِّهَارَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمٍ تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ أَنْ تَجِبَ بِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا إذَا أَرَادَ التَّكْرَارَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِمَا أَرَادَ مِنْ التَّكْرَارِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يَقْتَضِي إيجَابَ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ ظَاهَرَ مِرَارًا لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ دُونَ المرار الكثير قِيلَ لَهُ لَمَّا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ مُتَعَلِّقَةً بِحُرْمَةِ اللَّفْظِ أَشْبَهَ الْيَمِينَ فَمَتَى حَلَفَ مِرَارًا لَزِمَتْهُ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ إذَا حَنِثَ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مُوجِبًا لِلِاقْتِصَارِ بِالْأَيْمَانِ الْكَثِيرَةِ عَلَى كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُظَاهِرِ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيرِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَذَكَرَ الطحاوي عَنْ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ سَأَلْت الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ عَنْ رِجْلٍ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَلَمْ يُكَفِّرْ تَهَاوُنًا قَالَ تَسْتَعِدِّي عَلَيْهِ قَالَ وَسَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ تَسْتَعِدِّي عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ عَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا وَيَحُولُ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالتَّكْفِيرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ أَصْحَابُنَا يُجْبَرُ عَلَى جِمَاعِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ أَبَى ضَرَبَتْهُ رَوَاهُ هِشَامٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيرِ لِيُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنْ الْجِمَاعِ وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ عَنْ الظهار فقال
311
Icon