ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية وفي التيسير ثمان وعشرون وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه آخر السورة قبل ما فيها وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت أي السور الثلاث وكفي بذلك مناسبة.
ﰡ
ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية، وفي التيسير ثمان وعشرون، وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه آخر السورة قبل ما فيها
وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت»
أي السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي لفّت من كورت العمامة إذا لففتها وهو مجاز عن رفعها (١) وإزالتها من مكانها بعلاقة اللزوم فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفا ويطوى ثم يرفع ونحوه قوله تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [الأنبياء: ١٠٤] ويجوز أن يراد لف ضوئها المنبسط في الآفاق المنتشر في الأقطار، إما على أن الشمس مجاز عن الضوء فإنه شائع في العرف، أو على تقدير المضاف، أو على التجوز في الإسناد ويراد من لفه إذهابه مجازا بعلاقة اللزوم كما سمعت آنفا، أو رفعه وستره استعارة كما قيل، وقد اعتبر تشبيه الضوء بالجواهر والأمور النفسية التي إذا رفعت لفّت في ثوب ثم تعتبر الاستعارة ويجعل التكوير بمعنى اللف قرينة ليكون هناك استعارة مكنية تخييلية. وكون المراد إذهاب ضوئها مروي عن الحسن وقتادة ومجاهد وهو ظاهر ما رواه جماعة عن ابن عباس من تفسيره كُوِّرَتْ بأظلمت، والظاهر أن ذاك مع بقاء جرمها كالقمر في خسوفه وفي الآثار ما يؤيد ذلك، وقيل: إن ذاك عبارة عن إزالة نفس الشمس والذهاب بها للزوم العادي واستلزام زوال اللازم لزوال الملزوم، ويجوز أن يكون المراد ب كُوِّرَتْ ألقيت عن فلكها
وكذا يقال في قوله تعالى وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي انقضت وسقطت كما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة، ومنه: انكدر البازي إذا نزل بسرعة على ما يأخذه. قال العجاج يمدح عمر بن عمر التميمي:
إذا الكرام ابتدروا الباع بدر | تقضّي البازي إذا البازي كسر |
دانى جناحيه من الطود فمر | أبصر خربان فضاء فانكدر |
في خبر: «إن لكل شيء ملكا وإن كل قطرة من قطرات المطر ينزل معها ملك»
وخبر «أتاني ملك الجبال وملك البحار»
وتسمى المثل الأفلاطونية وهي أنوار مجردة قائمة بنفسها مدبرة بإذن الله تعالى للمربوبات حافظة إياها وهي المنمية والغاذية والمولودة في النباتات والحيوانات ويقال في السلاسل إنه أريد بها القوى التي بها حفظ الأوضاع أو نحو ذلك. وقيل: انكدرت تغيرت وانطمس. نورها كما في هو في الرواية الأخرى عن ابن عباس من كدرت الماء فانكدر ففيه تشبيه انطماس نورها بتكدر الماء الذي لا يبقى معه صفاؤه ورونق منظره، وتكون هي حينئذ على ما في بعض الآثار مع عبدتها في النار وظاهر أن النجوم لا تشمل الشمس وقيل تشملها وذكرها بعدها تعميم بعد تخصيص فلا تغفل وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي أزيلت عن أماكنها من الأرض
وقيل عن عدم إمطارها وقيل: هي الديار تعطل فلا تسكن، وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع.
وقرأ مضر اليزيدي «عطلت» بالتخفيف والبناء للمجهول ونقله في اللوامح عن ابن كثير ثم قال: هو وهم إنما «عطلت» بفتحتين بمعنى تعطلت لأن تشديده للتعدية، يقال: عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها حلي فلعل هذه القراءة لغة استوى فيها فعلت وأفعلت أي في التعدي، وقيل: الأظهر أنه عدّي بالحرف ثم حذف وأوصل الفعل بنفسه.
وَإِذَا الْوُحُوشُ جمع وحش وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم والمراد به ما يعم البهائم مطلقا حُشِرَتْ أي جمعت من كل جانب وذلك قبيل النفخة الأولى حين تخرج نار تفر الناس والأنعام منها حتى تجتمع، وقيل أميتت من قولهم: إذا أجحنت السنة الناس حشرتهم، ونحوه ما أخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال: حشرها موتها، وعن ابن عباس تفسير الحشر بالجمع إلّا أنه قال كما أخرجه جماعة وصححه الحاكم جمعت بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين، وقيل: بعثت للقصاص فيحشر كل شيء حتى الذباب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وعن قتادة وجماعة. وفي رواية عن الحبر تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها موتي فتموت، وقيل: إذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس والظبي. وقيل: يبقى كل ما لم ينتفع به إلّا المؤمن كشاة لم يأكل منها إلّا هو ويدخل ما يبقى الجنة على حال لائقة بها. وذهب كثير إلى بعث جميع الحيوانات ميلا إلى هذه الأخبار ونحوها
فقد أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لتؤذن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء».
وزاد أحمد بن حنبل: «وحتى الذرة من الذرة»
ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفا إلّا أهلا للكرامة بوجه وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحا لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية، ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام وإلى هذا القول أميل ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستندا
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي أحميت بأن تغيض مياهها وتظهر النار في مكانها ولذا ورد على ما قيل إن البحر غطاء جهنم، أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون مالحها وعذبها بحرا واحدا من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه، وقيل: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار، وقيل: ملئت ترابا تسوية لها بأرض المحشر وليس له مستند أثر عن السلف. ونقل في البحر عن كتاب لغات القرآن أن سُجِّرَتْ بمعنى جمعت لغة خثعم ولعل جمعها عليه بالتفجير. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول فيكون ذلك مأخوذا من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه، ويقال: سجره إذا شده به. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سجّرت» بالتخفيف وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي قرنت كل نفس بشكلها. أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذلك فقال: يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس. وفي حديث مرفوع رواه النعمان أيضا ما يقتضي ظاهره ذلك وقال بعض هذا في الموقف أن يقرن بين الطبقات الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. وقال مقاتل بن سليمان: تقرن نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور وغيرهن، ونفوس الكافرين بالشياطين. وقيل: تقرن كل نفس بكتابها وقيل بعملها وجوز أن يراد تقرن كل نفس بخصمها فلا يمكنها الفرار منه وأنت تعلم أن كون كل نفس ذا خصم بين الانتفاء وأيّا ما كان فالنفس بمعنى الذات والتزويج جعل الشيء زوجا أي مقارنا. وقال عكرمة والضحاك والشعبي: تقرن النفوس بأزواجها وذلك عند البعث والنفس عليه بمعنى الروح. وقرأ عاصم «زوجت» على فوعلت.
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ وهي البنت التي تدفن حية من الوأد وهو الثقل كأنها سميت بذلك لأنها تثقل بالتراب حتى تموت. وقيل: هو مقلوب الأوتد وحكاه المرتضى في درره عن بعض أهل اللغة وهو غير مرتضى عند أبي حيان وكانت العرب تئد البنات مخافة لحوق العار بهم من أجلهن، وقيل: مخافة الإملاق ولعله بالنسبة إلى بعضهم ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله سبحانه عما يقولون فألحقوا البنات به تعالى فهو عز وجل أحق بهن. وذكر غير واحد أنه كان الرجل منهم إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها فيها، وإن ولدت ابنا حبسته ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت لأمير لهم فاستردها بعد الصلح فخيرت برضا منه بين أبيها ومن هي عنده فاختارت من هي عنده وآثرته على أبيها فغضب وسن لقوله الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم بعد مثل ما وقع، وشاع في العرب غيرهم والله تعالى أعلم بصحة ذلك. وقرأ البزي في رواية الموؤدة» كمعونة فاحتمل أن يكون الأصل الْمَوْؤُدَةُ كقراءة الجمهور فنقل حركة الهمزة إلى الواو قبله وحذفت ثم همزت تلك الواو واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد والأصل المأوودة فحذفت أحد الواوين فصارت الموءودة كما حذفت من مقوول فصار مقولا. وقرىء «الموودة» بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة أعني التسهيل بحذفها ونقل حركتها إلى ما قبلها. وفي مجمع البيان والعهدة عليه روي عن أبي جعفر وأبي
وقرأ أبيّ وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن يعمر «سألت» أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل قُتِلَتْ لما أن الكلام إخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرأ كذلك علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود أيضا وجابر بن يزيد وأبو الضحى ومجاهد. وقرأ الحسن والأعرج «سيلت» بكسر السين وذلك على لغة من قال سال بغير همز. وقرأ أبو جعفر بشد الياء لأن الموءودة اسم جنس فناسب التكثير باعتبار الأشخاص وفي الآية دليل على عظم جناية الوأد.
وقد أخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أعتق عن كل واحدة رقبة» قال: إني صاحب إبل قال:
«فاهد عن كل واحدة بدنة»
. وكان لأمر للندب لا للوجوب لتوقف صحة التوبة عليه فإن الإسلام يجب ما قبله من مثل ذلك وفيه تعظيم أمر الوأد وكان من العرب من يستقبحه كصعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق كان يفتدي الموءودات من قومه بني تميم وبه افتخر الفرزدق في قوله:
وجدي الذي منع الوائدات | فأحيا الوئيد فلم توأد |
. وعد من الوأد العزل لما
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن العزل فقال: «ذلك الوأد الخفي»
ومن هنا قيل بحرمته وأنت تعلم أن المسألة خلافية فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: العزل وهو أن يجامع فإذا قارب الانزال نزع وأنزل خارج الفرج مكروه عندنا في كل حال امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل. وأما التحريم فقد قال أصحابنا- يعني الشافعية- لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضررا في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها، وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقا تبعا لأمه، وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلّا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا المطلب يجمع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه، وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس معناه نفي الكراهة انتهى. وأجيب على الحديث السابق بأن تسميته بالوأد الخفي لا يدل على أن حكمه حكم الوأد الظاهر فقد صح أن الرياء شرك خفي ولم يقل أحد بأن حكمه حكمه، ولا يبعد أن يكون الاستمناء باليد كالعزل وأدا
أخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن يزيد الجعفي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الوائدة والموءودة في النار» إلّا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله تعالى عنها»
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: «الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين»
وتفسيره على ما قيل ما
روى أبو داود عن عائشة قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال «من آبائهم» قلت: بلا عمل؟ قال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» قلت يا رسول الله فذراري المشركين؟ فقال:
«من آبائهم» قلت: بلا عمل؟ قال: «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين»
وفي مسند الإمام أحمد سألت خديجة عن ولدين ما بالهما في الجاهلية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هما في النار وأنت تعلم أن في مسألة الأطفال من هذه الحيثية ما عدا أطفال الأنبياء عليهم السلام فإنهم أجمع على كونهم من أهل الجنة
كما قال اللقاني خلافا فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا، وتوقفت فيه بعض من لا يعتد به
لحديث عائشة: توفي صبي من الأنصار فقالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال صلّى الله عليه وسلم: «أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم».
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم صلّى الله عليه وسلم قال ذلك في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلّا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم»
وغير ذلك من الأحاديث. وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم
لحديث سئل عن أولاد المشركين من يموت منهم صغيرا فقال عليه الصلاة والسلام: «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين»
أي وغير ذلك. وتوقف طائفة فيهم وقالت الثالثة وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها
حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلّى الله عليه وسلم في الجنة حوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين قال: «وأولاد
ومنها قوله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والجواب عن
حديث «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين»
أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار، وحقيقة لفظة:
«الله تعالى أعلم بما كانوا يعملون»
لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلّا بالبلوغ انتهى. وتعقب ما ذكره من الاحتمال في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه يأباه ما ذكره من حديث إبراهيم عليه السلام فإن حديث عائشة كان بالمدينة لأنه في صبي من الأنصار وبناؤه عليه الصلاة والسلام عليها إنما كان فيها، وحديث إبراهيم عليه السلام كان بمكة لأن الظاهر أن تلك الرؤية كانت ليلة المعراج وهو قد كان فيها، ومنه يعلم أنه صلّى الله عليه وسلم قد علم أن الأطفال كلهم في الجنة يومئذ فكيف يحتمل أن يكون ما قاله بعد قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، وأيضا إذا كان حديث إبراهيم عليه السلام في مكة يضعف الجواب الأول عن حديث عائشة باحتمال أن تكون قالت ما قالت لأنه بلغها ذلك الحديث. ثم ما ذكر من أن المذاهب في أطفال المشركين ثلاثة الظاهر أنه مبني على ما وقف عليه وإلّا فهي غير منحصرة فيها بل منها أنهم في برزخ بين الجنة والنار ومنها أنهم يمتحنون بدخول النار يوم القيامة فمن كتب له السعادة أطاع بدخولها فيرد إلى الجنة، ومن كتب له الشقاوة امتنع فيسحب إلى النار كما جاء في بعض الروايات فلا يحكم على معين منهم بجنة ولا نار وعليه حمل الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي اختيارات الشيخ ابن تيمية أن هذا أحسن الأجوبة فيهم. وقال الجلال السيوطي هو الصحيح المعتمد ومنها ما ذكره هذا الجلال واختاره الإمام الرباني الفاروقي السرهندي قدس سره أنهم يحشرون ثم يصيرون ترابا كالوحوش وإن أريد مما تقدم من أنهم في الجنة كونهم فيها كسائر أهلها فهناك قول آخر وهو أنهم فيها خدما لأهلها وقد نقله النسفي في بحر الكلام على أهل السنة والجماعة وفيه أحاديث جمة. والظاهر أن المراد بأطفال المشركين الأطفال الذين ولدوا لهم وهم مشركون ولو آمنوا بعد ويدل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام: «السابق في ولدي خديجة هما في النار»
وهو يعكر على من يقول: أطفال الذين ماتوا مشركين في النار وأطفال المشركين الذين آمنوا بعد موتهم في الجنة إكراما لهم. والذي أختاره القول بأن الأطفال مطلقا وكذا فرخ الزنا ومن جن قبل البلوغ في الجنة فهو الأخلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عز وجل والأوفق للحكمة بحسب الظاهر والأكثر تأيدا بالآيات ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على خلافه والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة والسلام قبل علمه صلّى الله عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة بعيد عندي. نعم جوز أن يكون قد أخبر صلّى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار بناء على أخبار الوحي به كأخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث إنه مقيد بشرط كان لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لم يذكر معها لحكمة ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم من أهل الجنة بناء على أخبار الوحي به أيضا ويكون متضمنا للأخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق فضلا من الله تعالى وكرما ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ومثل ذلك أخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه السلام فتأمل.
نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم وقال بعضهم: إن الست الأول فيما بين النفختين وإنه مراد من قال إنها في الدنيا، وقيل: هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ جواب إِذَا على أن المراد بها زمان واحد ممتد يشع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى إن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلّا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال، والمراد ب ما أَحْضَرَتْ أعمالها من الخير والشر، وبحضور الأعمال أما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وأما حضور أنفسها على ما قالوا من أن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور وحمل على ذلك نحو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠] وعن ابن عباس ما يؤيده ويؤيده أيضا حديث ذبح الموت ونحوه، قيل: ولا بعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس، وقد حكي عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء وكان ذلك بنوع من التجسد وأيا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما يؤذن به قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: ٣٠]
قد أترك القرم مصفرا أنامله | كأن أثوابه مجّت بفرصاد |
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ جمع خانس من الخنوس وهو الانقباض والاستخفاء الْجَوارِ جمع جارية من الجري وهو المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه الْكُنَّسِ جمع كانس وكانسة من كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بها على ما
أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن
، فقيل لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها. وفي تفسير تكنس بتطلع خفاء وقيل لأنها تخنس نهارا وتخفى عن العيون مع طلوعها وكونها فوق الأفق وتكنس بعد طلوعها في المغيب وتدخل فيه كما تكنس الظباء في الكنس فتكون تحت الأفق بعد أن كانت فوقه. وروي تفسيرها بالكواكب عن الحسن وقتادة أيضا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي خمسة أنجم زحل وعطارد والمشتري وبهرام يعني المريخ والزهرة والخنس الرواجع من خنس إذا تأخر
، ووصفت بما ذكر في الآية لأنها تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بحسب الرؤية وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها، وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها في سيرها فيما يشاهد فلها استقامة ورجعة وإقامة فبينما تراها تجري إلى جهة إذا بها راجعة تجري إلى خلاف تلك الجهة، وبينما تراها تجري إذا بها مقيمة لا تجري وسبب ذلك على ما قال المتقدمون من أهل الهيئة كونها في تداوير في حوامل مختلفة الحركات على ما بيّن في موضعه وللمحدثين منهم النافين لما ذكر غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وهي مع الشمس والقمر يقال لها السيارات السبع لأن سيرها بالحركة الخاصة مما لا يكاد يخفى على أحد بخلاف غيرها من الثوابت. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم وابن مردويه عن ابن عباس أنها المرادة هنا ووصفها بِالْخُنَّسِ بمعنى الرواجع قيل من باب التغليب إذ لا رجعة للشمس ولا للقمر وبالخنس لاختفائها في مغيبها. وقيل: الوصفان باعتبار أنها تغيب عن العيون وتطلع في أماكنها على نحو ما تقدم على تقدير أن يكون المراد بها الكواكب جميعها وكون السيارات هي هذه السبع هو المعروف عند المتقدمين من المنجمين. وأما اليوم فقد ضموا إليها كواكب أخرى يقال لها وستا وزونو وبالاس وسرس وأورنوس ويسمى هرسل وهو اسم المنجم الذي ظفر به بالرصد، وبينوا مقدار أقطارها وأبعادها وحركاتها ولولا مخافة التطويل لذكرت ذلك.
وعدوا من جملة السيارات الأرض بناء على زعمهم أن لها حركة حول الشمس واشتهر أنهم لم يعدوا القمر منها لكونه من توابع الأرض بزعمهم. وأخرج الحاكم وصححه وجماعة من طرق عن ابن مسعود أنها بقر الوحش، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن مجاهد وأبي ميسرة والحسن وحكاه في البحر عن النخعي وجابر بن زيد وجماعة. وأخرج ابن جرير عن الحبر أنها الظباء وروي ذلك أيضا عن ابن جبير والضحاك قالوا: و «الخنس» تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة وتوصف به بقر الوحش والظباء ومنه قول بعض المولدين:
ما سلم الظبي على حسنه | كلا ولا البدر الذي يوصف |
فالظبي فيه خنس بيّن | والبدر فيه كلف يعرف |
حتى إذا الصبح لها تنفسا | وانجاب عنها ليلها وعسعسا |
وظاهر كلام بعضهم أنه بعد الاستعارة يكون ذلك كناية عن الإضاءة وجوز أن يكون هناك مكنية وتخييلية بأن يشبه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة ويثبت له التنفس المراد به هبوب نسيمه مجازا على طريق التخييل كما في ينقضون عهد الله. وقال الإمام: النهار يغشيان الليل المظلم كالمكروب وكما أنه يجد راحة بالتنفس كذلك تخلص الصبح من الظلام وطلوعه كأنه تخلص من كرب إلى راحة وهذا أدق مما عنى الكشاف كما لا يخفى، وجوز أن يقال: إن الليل لما غشى النهار ودفع به إلى تحت الأرض فكأنه أماته ودفنه فجعل ظهور ضوئه كالتنفس الدال على الحياة وهو نحو مما نقل عن الإمام. وقيل: تنفس أي توسع وامتد حتى صار نهارا، والظاهر أن التنفس في الآية إشارة إلى الفجر الثاني الصادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق بخلاف الأول الكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه ثم يعدم وتعقبه ظلمة أو يتناقص حتى ينغمر في الثاني على زعم بعض أهل الهيئة أو يختلف حاله في ذلك تارة وتارة بحسب الأزمنة والعروض على ما قيل، وسمي هذا الكاذب عارضا
ففي خبر مسلم: «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير»
أي ينتشر ذلك العموم في نواحي الأفق. وكلام بعض الأجلة يشعر بأنه فيها إشارة إلى الكاذب حيث قال: يؤخذ من تسمية الفجر الأول عارضا للثاني أنه يعرض للشعاع الناشئ عنه الفجر الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة. والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعه أن يكون أوله أكثر من آخره، ويعلم من ذلك سبب طول العمود وإضاءة أعلاه إلى آخر ما قال وفيه بحث. ثم الظاهر أن تنفس الصبح وضياءه بواسطة قرب الشمس إلى الأفق الشرقي بمقدار معين وهو في المشهور ثمانية عشر جزءا. وقول الإمام إنه يلزم على ذلك بناء على كريّة الأرض واستضاءة أكثر من نصفها من الشمس دائما ظهور الضياء وتنفس الصبح إذا فارقت الشمس سمت القدم من دائرة نصف النهار وذلك بعيد نصف الليل والواقع خلافه تشكيك فيما يقرب أن يكون بديهيا وفيه غفلة عن أحوال ظل الأرض وانعكاس الأشعة من أبصار سكنة أقطارها فتأمل. ولا تغفل. والواو في قوله تعالى وَالصُّبْحِ وَاللَّيْلِ على ما نقل عن ابن جني للعطف وإِذا ليس معمولا لفعل القسم لفساد المغني إذا التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو على ما اختاره غير واحد معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له كأنه قيل: ولا أقسم بعظمة الليل زمان عسعس وبعظمة النهار زمان تنفس على نحو قولهم عجبا من الليث إذا سطا فإنه ليس المعنى على تقييد التعجب من هوله وعظمته في ذلك الزمان وقال عصام الدين: ينبغي أن يجعل تقييدا للمقسم به أي أقسم بالليل كائنا إذا عسعس والحال مقدرة أي مقدرا كونه في ذلك الوقت.
وصرح العلامة التفتازاني في التلويح في مثله أن إِذا بدل من اللَّيْلِ إذ ليس المراد تعليق القسم وتقييده بذلك الوقت ولهذا منع المحققون كونه حالا من الليل لأنه أيضا يفيد تقييد القسم بذلك الوقت وسيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الشمس ما يتعلق بهذا المقام أيضا.
إِنَّهُ أي القرآن الجليل الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة وجعل الضمير للإخبار عن الحشر والنشر تعسف لَقَوْلُ رَسُولٍ هو كما قال ابن عباس وقتادة والجمهور جبريل عليه السلام ونسبته إليه عليه السلام
وقيل: المراد القوة في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف. وقيل: لا يبعد أن يكون المراد قوة الحفظ والبعد عن النسيان والخلط عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي ذي مكانة رفيعة وشرف عند الله العظيم جل جلاله عندية إكرام وتشريف لا عندية مكان فالظرف متعلق بمكين وهو فعيل من المكانة وقد كثر استعمالها كما في الصحاح حتى ظن أن الميم من أصل الكلمة واشتق منه تمكن كما اشتق من المسكنة تمسكن. وجوز أن يكون مصدرا ميميا من الكون وأصله مكون بكسر الواو فصار بالنقل والقلب مكينا وأريد بالكون الوجود كأنه من كمال الوجود صار عين الوجود والأول هو الظاهر. وقيل: إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة أخرى لرسول أي كائن عند ذي العرش الكينونة اللائقة وهو كما ترى مُطاعٍ فيما بين الملائكة المقربين عليهم السلام يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ثَمَّ ظرف مكان للبعيد وهو يحتمل أن يكون ظرفا لما قبله وجعل إشارة إلى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ والمراد بكونه مطاعا هناك كونه مطاعا في ملائكته تعالى المقربين كما سمعت ويحتمل أن يكون ظرفا لما بعده أعني قوله سبحانه أَمِينٍ والإشارة بحالها وأمانته على الوحي
وفي رواية عنه عليه السلام أنه قال: «أمانتي أني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره»
ولأمانته أنه عليه السلام يدخل الحجب كما في بعض الآثار بغير إذن. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهسم وابن مقسم «ثمّ» بضم الثاء حرف عطف تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة. وقال صاحب اللوامح هي بمعنى الواو لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ولو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى عليّ ثم أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم السلام لجاز أن ورد به أثر انتهى. والمعول عليه ما سمعت والمقام يقتضي تعظيم الأمانة لأن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول.
وَما صاحِبُكُمْ هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ كما تبهته الكفرة قاتلهم الله تعالى. وفي التعرض لعنوان الصحبة مضافة إلى ضميرهم على ما هو الحق تكذيب لهم بألطف وجه إذ هو إيماء إلى أنه عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن فأنتم أعرف به وبأنه صلّى الله عليه وسلم أتم الخلق عقلا وأرجحهم قيلا وأكملهم وصفا وأصفاهم ذهنا فلا يسند إليه الجنون إلّا من هو مركب من الحمق والجنون. واستدل الزمخشري بالمبالغة في ذكر جبريل عليه السلام وتركها في شأن النبي صلّى الله عليه وسلم على أفضليته عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم وأجابوا بما بحث فيه والوجه في الجواب على ما في الكشف أن الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة وقد علمت أن من شأن البليغ أن يجرد الكلام لما ساق له لئلا يعد الزيادة لكنة وفضولا ولا خفاء أن وصف الآتي بالقول يشدّ من عضد ذلك أبلغ شد، وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في البين إلّا إذا كان الغرض الحث على اتباعه فلهذا لم تدل المبالغة في شأن جبريل عليه السلام وعد صفاته الكوامل وترك ذلك في شأن نبينا عليه أفضل الصلوات والتسليمات على تفضيله بوجه. وقال بعضهم: إن المبالغة في وصف جبريل عليه السلام مدح بليغ في حق النبي صلّى الله عليه وسلم لأن الملك إذا أرسل لأحد من هو معزز معظم مقرب لديه دل على أن المرسل إليه بمكانه عنده ليس فوقها
وَلَقَدْ رَآهُ أي وبالله تعالى لقد رأى صاحبكم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الرسول الكريم جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض بالصورة التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما
روي عن الحسن وقتادة ومجاهد وسفيان وفي رواية عن مجاهد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآه عليه السلام نحو جياد وهو مشرق مكة
وقيل: إن المراد به مطلع رأس السرطان فإنه أعلى المطالع لأهل مكة، وهذه الرؤية كانت فيها بعد أمر غار حراء. وحكى ابن شجرة أنه أفق السماء الغربي وليس بشيء.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية رآه في صورته عند سدرة المنتهى
والأفق على هذا قيل بمعنى الناحية وقيل سمّي ذلك أفقا مجازا وَما هُوَ أي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى الْغَيْبِ على ما يخبر به من الوحي إليه وغيره من الغيوب بِضَنِينٍ من الضنّ بكسر الضاد وفتحها بمعنى البخل أي ببخيل لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ والتعليم ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون على ما يزعمون معرفته إلّا بإعطاء حلوان. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ومن السبعة النحويان وابن كثير «بظنين» بالظاء أي بمتهم من الظنّة بالكسر بمعنى التهمة وهو نظير الوصف السابق ب أَمِينٍ. وقيل معناه بضعيف القوة على تبليغ الوحي من قولهم: بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء والأول أشهر. ورجحت هذه القراءة عليه بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له صلّى الله تعالى عليه وسلم ونفي التهمة أول من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلّا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه لكن قال الطبري بالضاد خطوط المصاحف كلها ولعله أراد المصاحف المتداولة فإنهم قالوا بالظاء خط مصحف ابن مسعود ثم إن هذا لا ينافي قول أبي عبيدة أن الظاء والضاد في الخط القديم لا يختلفان إلّا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى زيادة يسيرة قد تشتبه كما لا يخفى. والفرق بين الضاد والظاء مخرجا أن الضاد مخرجها من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ومنهم من يتمكن من إخراجها منهما، والظاء مخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. واختلفوا في إبدال إحداهما بالأخرى هل يمتنع وتفسد به الصلاة أم لا؟ فقيل: تفسد قياسا ونقله في المحيط البرهاني عن عامة المشايخ ونقله في الخلاصة عن أبي حنيفة ومحمد، وقيل: لا استحسانا ونقله فيها عن عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي ومحمد بن سلمة وقال جمع: إنه إذا أمكن الفرق بينهما فتعمد ذلك وكان مما لم يقرأ به كما هنا وغير المعنى فسدت صلاته وإلّا فلا لعسر التمييز بينهما خصوصا على العجم وقد أسلم كثير منهم في الصدر الأول ولم ينقل حثهم على الفرق وتعليمه من الصحابة ولو كان لازما لفعلوه ونقل وهذا هو الذي ينبغي أن يعود عليه ويفتى به وقد جمع بعضهم الألفاظ التي لا يختلف معناها ضادا وظاء في رسالة صغيرة ولقد أحسن بذلك فليراجع فإنه مهم.
وَما هُوَ أي القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي بقول بعض المسترقة للسمع لأنها هي التي ترجم وهو نفي لقولهم إنه كهانة فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن العظيم كقولك لتارك الجادة الذاهب في بنيات الطريق أين تذهب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور أنه وحي إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ موعظة وتذكير عظيم لمن يعلم وضمير هُوَ للقرآن أيضا وجوز كون الضميرين للرسول عليه الصلاة والسلام أي وما هو ملتبس بقول شيطان رجيم كما هو شأن الكهنة إن هو إلّا مذكر
وقال بعض أهل التأويل: الشمس شمس الروح، والنجوم نجوم الحواس، والجبال جبال القوالب وهي تسير كل وقت إلّا أنه يظهر ذلك للمحجوب إذا كشف له الغطاء والعشار عشار القوى القالبية، والوحوش وحوش الأخلاق الذميمة النفسانية، والبحار بحار العناصر الطبيعية والنفوس القوى النفسانية وتزويجها قرن كل قوة بعملها، والموءودة الخواطر الإلهامية التي ترد على السالك فيئدها في قبر القالب ويظلمها والصحف على ظاهرها، والسماء سماء الصدر، والجحيم جحيم النفس وتسعيرها بنيران الهوى والجنة جنة القلب والخنس الأنوار المودعة في القوى القلبية، والليل الأنوار الجلالية، والصبح الأنوار الجمالية إلى آخر ما قال. ويستدل بحال البعض على البعض وقد حكى أبو حيان شيئا من نحو ذلك وعقبه بتشنيع فظيع وهو لا يتم إلّا إذا أنكر إرادة الظاهر وأما إذا لم تنكر وجعل ما ذكره ونحوه من باب الإشارة فلا يتم أمر التشنيع كما حقق ذلك في موضعه.