ﰡ
مكية، إحدى عشرة آية، أربعون كلمة، مائة وسبعون حرفا
وَالضُّحى (١) وهو أول النهار حين ترفع الشمس وتلقي شعاعها وتخصيصه بالإقسام به لأنه الساعة التي كلم الله موسى فيها، وألقي السحرة فيها سجدا وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) أي أظلم واسود، ونقل عن قتادة، ومقاتل، وجعفر الصادق أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام، وبالليل ليلة المعراج، وقيل: إنما ذكر ساعة من النهار، وذكر الليل بكليته لأن النهار وقت السرور، والراحة، والليل وقت الوحشة، والغم، فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة والليل ساعات ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ أي ما قطعك ربك قطع المودع، والمفارق.
وقرأ عروة بن الزبير، وابنه هشام، وابن أبي عبلة بتخفيف الدال أي ما تركك ربك يا أشرف الرسل منذ أوحى إليك تركا تحصل به فرقة كفرقة المودع وَما قَلى (٣) أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. روى البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت أم جمل امرأة أبي لهب فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت هذه الآية،
وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن جروا دخل البيت فدخل تحت السرير، فمات فمكث النبي صلّى الله عليه وسلّم أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا خولة ما حدث في بيتي إن جبريل عليه السلام لا يأتيني» «١». قالت خولة: فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ترعد لحياه، وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: «يا خولة دثريني» «٢». فأنزل الله تعالى هذه السورة ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التأخر فقال: أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
، وروي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أياما لزجره سائلا ملحا، فقال
(٢) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٦٢٥٣)، والهيثمي في مجمع الزوائد (٣: ٩٩).
روي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس أن هذا هو الشفاعة في الأمة
كما
يروى أنه صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية قال: إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: رضي جدي أن لا يدخل النار موحد،
وهذا أيضا وعده تعالى رسوله على أحوال الدنيا، فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر، ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا، والغلبة على قريظة، والنضير وإجلائهم وبث عساكره في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وما هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وما وهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب، وتهيب الإسلام وفشو الدعوة أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) بمد الهمزة أي ضمك إلى من يكفلك، وقرأ أبو الأشهب «فأوى» ثلاثيا أي فرحمك، روي أن عبد الله بن عبد المطلب توفي وهو صلّى الله عليه وسلّم جنين قد أتت عليه ستة أشهر، ثم ولد رسول الله فكان مع عبد المطلب، ومع أمه آمنة، فماتت وهو ابن ست سنين فكان مع جده، ثم مات بعد آمنة بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين، وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به فكان هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة، فقام بنصرته صلّى الله عليه وسلّم، ثم توفي أبو طالب فذكره الله هذه النعمة
روي أن أبا طالب قال يوما لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه، فقال: بلى، فقال: إني ضممته إلي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا أأتمن عليه أحدا حتى إني كنت أنومه في فراشي، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه، لكنه كره أن يخالفني، وقال: «يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي»، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه في الفراش إذ بيني وبينه ثوب في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكنت أفتقده من فراشي مرارا فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فأرجع ولقد كنت أسمع منه مرارا كلاما يعجبني، وذلك عند مضي بعض الليل
وكان يقول في أول الطعام: «باسم الله الأحد»، فإذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله»، فتعجبت
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧) أي وجدك خاليا من الشريعة فهداك بإنزالها إليك، وقيل: وجدك ضالا عن عبد المطلب فردك إليه، كما
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضللت عن جدي عبد المطلب، وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني، فهداني الله»
وروي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضل في شعاب مكة وهو صبي فتعلق عبد المطلب بأستار الكعبة وقال:
يا رب رد ولدي محمدا | اردده رب واصطنع عندي يدا |
روي أن عمر قال حين أسلم والأصحاب كانوا يعبدون الله سرّا: يا رسول الله ابرز أنعبد نحن اللات جهرا ونعبد الله سرا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «حتى تكثر الأصحاب» فقال: حسبك الله وأنا، فقال تعالى:
حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[الأنفال: ٦٤] وقيل أغناه الله تعالى بتربية أبي طالب، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة، وأغناه بإعانة الأنصار، ثم أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم، ثم
قال صلّى الله عليه وسلّم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي»
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) أي لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما كما قاله مجاهد، أو فلا تغلبه على ماله، وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس وجهك إليه، وروي أن هذه الآية نزلت حين صاح النبي صلّى الله عليه وسلّم على ولد خديجة وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسة في الوجه، فكيف إذا أذل التيم أو أكل ماله؟ وروي أن موسى عليه السلام قال: إلهي بما نلت ما نلت قال الله تعالى: «أتذكر حيث هربت منك السخلة فلما قدرت عليها قلت أتعبت نفسك، ثم حملتها فلهذا السبب جعلتك وليا على الخلق، فلما نال موسى عليه السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) أي لا تغلظ له القول، بل رده ردا لينا برفق والمراد من السائل. مطلق السائل.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا فجاء عثمان بتمر فوضعه بين يديه، فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال: رحم الله عبدا يرحمنا فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج واشتراه من السائل، ثم رجع السائل وكان النبي يعطيه ففعل
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ واختار الحسن أن المراد من السائل من يسأل العلم،
وروى الزمخشري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره»
«١»
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١) قال مجاهد: تلك النعمة هي القرآن فالتحديث به أن يقرأه ويقرئ غيره، وروي عنه أيضا أن تلك النعمة هي النبوة أي بلّغ ما أنزل إليك من ربك،
وروي عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال: إذا عملت خيرا فحدث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به،
وروي أن شخصا كان جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فرآه رث الثياب فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألك مال» قال:
نعم، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك»
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»
«٢».
٢٦)، والطبراني في المعجم الكبير (٨: ٢٤)، والهيثمي في مجمع الزوائد (٢: ٢١٣)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥١٠٨)، والبغوي في شرح السنة (١٣: ١٦٥)، وابن حجر في المطالب العالية (٢١٧٠)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦: ٤٩٨)، والمتقي الهندي في كنز العمال (١٧١٦٥)، والسيوطي في مجمع الجوامع (٤٧٧٧)، والقرطبي في التفسير (١: ٦٩٦)، والألباني في السلسلة الصحيحة (١: ٢١١)، والسيوطي في الدر المنثور (٣: ٧٩)، والعراقي في المغني عن محل الأسفار (٤: ٢٩٠)، والشجري في الأمالي (٢: ٢١٧)، والمنذري في الترغيب والترهيب (٣: ٥٦٧).
(٢) رواه أبو داود في السنن (٨٨٧).