تفسير سورة الضحى

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الضحى من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَالضُّحَى (١)﴾ أقسم بالضحى؛ أي: بالنهار كله بدليل أنه قابله بالليل كله في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢)﴾ وقيل: أقسم بوقت الضحى، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الصيف والشتاء، وعلى القول الأول يكون في الكلام مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل، وقرينته مقابلة بالليل، كما قاله البغوي، وقيل: على تقدير المضاف؛ أي: ورب الضحى، فيكون فيه مجاز بالحذف، قالوا: تخصيصه (١) بالإقسام به؛ لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام، وألقي السحرة فيها سجدًا؛ لقوله: ﴿وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ فكان له بذلك شرف، ومناسبة لمجال المقسم لأجله
٢ - ﴿وَاللَّيْلِ﴾؛ أي: وأقسم بجنس الليل، قال ابن خالويه هو معطوف على ﴿الضحى﴾، لا قسم مستقل؛ لأنه يصلح أن يقع في موضع ﴿الواو﴾ ثم، من الفاء بأن يقال: ثم الليل مثلًا، وثم لا تكون للقسم. ﴿إِذَا﴾: هذه لمجرد (٢) الظرفية، والعامل فيها فعل القسم المقدر مثل ما تقدم، وورد عليه الإشكال المتقدم في سورة الشمس؛ أي: وأقسم بالليل إذا ﴿سَجَى﴾ وغطى بظلامه على كل شيء، قال ابن عباس: إذا أقبل بظلامه، وعنه إذا ذهب، وقيل معناه: إذا سكن واستقر ظلامه وتناهى، فلا يزداد بعد ذلك يعني: أن سكون ظلامه عبارة عن عدم تغيره بالاشتداد، والتنزل، وذلك حين اشتد ظلامه وكمل، فيستقر زمانًا، ثم يشرع في التنزل، فإسناد سكون الظلمة الكائنة فيه إليه مجاز علاقته الحلول والظرفية، فإن الزمان ظرف لما فيه، من إذا سكن أهله فهو مجاز أيضًا، من إسناد ما للشيء إلى زمانه نحو نهاره صائم، وليله قائم، فمعناه: سكون الناس والأصوات، وجميع ما فيه يقال: سجا البحر - من باب سما - سجوًا إذا سكنت أمواجه، وليلة ساجية: ساكنة الريح، وعن جعفر الصادق: إن المراد بالضحى: هو الضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبالليل: ليلة المعراج.
فإن قلت: لم قدم هنا (٣) ﴿الضحى﴾ على ﴿الليل﴾ وفي السورة التي قبلها قدم ﴿الليل﴾ على ﴿النهار﴾؟
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
(٣) الفتوحات.
قلت: لأن لكل منهما أثرًا في صلاح العالم، ولليل فضيلة السبق، وللنهار فضيلة النور، فقدم هذا تارة وهذا أخرى، من يقال: إنه قدم الليل في سورة أبي بكر وهي السابقة؛ لأن أبا بكر سبق له كفر، وقدم الضحى في سورة محمد؛ لأنه نور محض، ولم يتقدمه ذنب، ولم يفصل بين السورتين إشارة إلى أنه لا واسطة بين النبي - ﷺ - وأبي بكر رضي الله عنه.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل بجملته؟
أجيب: بأن ذلك إشارة إلى أن ساعة من نهار توازي جميع الليل، كما أن محمدًا - ﷺ - يوازي جميع الأنبياء، وأيضًا الضحى وقت السرور، والليل وقت الوحشة، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا أقل من شرورها، وأن غموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة، والليل ساعات اهـ "خطيب".
٣ - ثم ذكر جواب القسم بقوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾ يا محمد؛ أي: ما تركك ربك يا محمد منذ اختارك ﴿وَمَا قَلَى﴾؛ أي: وما أبغضك منذ أحبك، وإنما قال: ﴿وَمَا قَلَى﴾ ولم يقل: وما قلاك، لموافقة رؤوس الآي، وقيل معناه: وما قلى أحدًا من أصحابك، ومن هو على دينك إلى يوم القيامة.
وقال أبو حيان: وحذف المفعول اختصارًا في ﴿قَلَى﴾، وفي: ﴿فَأوَى﴾، وفي: ﴿فَهَدَى﴾، وفي: ﴿فَأَغْنَى﴾؛ إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول - ﷺ -، وقوله: ﴿وَدَّعَكَ﴾ (١) من التوديع، وهو مبالغة في الوداع، وهو الترك؛ لأن من ودعك مفارقًا، فقد بالغ في تركك، والوداع وهو الإعلام بالفراق، وقال الراغب: أصل التوديع من الدعة، وهو: أن يدعو للمسافر أن يتحمل الله عنه كآبة السفر، وأن يبلغه الدعة والخفض، كما أن التسليم دعاء له بالسلامة، فصار ذلك متعارفًا في تشييع المسافر وتركه، وعبر به عن الترك في الآية.
والمعنى: ما قطعك ربك يا محمد قطع المودع، وما تركك بالحط عن درجة الوحي والقرب والكرامة، ففيه استعارة تبعية، وإشارة إلى أن الرب لا يترك المربوب، وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ بتشديد الدال من التوديع، كما مر، وقرأ
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
ابن عباس وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة: بتخفيفها من قولهم: ودعه إذا تركه، واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر، وعن اسم فاعلهما بتارك، وعن اسم مفعولهما بمتروك، وعن مصدرهما بالترك، وقد سُمع وَدْع ووَذْر.
قال أبو الأسود:
لَيْتَ شِعْرِيْ عَنْ خَلِيْلِي مَا الَّذِيْ غَالَهُ فِىْ الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهْ
﴿وَمَا قَلَى﴾؛ أي: وما أبغضك (١)، والقِلى شدة البغض، يقال: قلا زيدًا يقلوه أبغضه من القلو؛ وهو الرمي، كما يقال: قلت الناقة براكبها رمت به، فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه، فلا يقبله، ولعل عطف ﴿وَمَا قَلَى﴾ على ما قبله من عطف السبب على المسبب؛ لإفادة التعليل.
والحاصل: أن (٢) الله سبحانه أقسم لرسوله - ﷺ - بآيتين عظيمتين من آياته في الكون ضحى النهار وصدره، والليل وظلامه أنه ما تركك وما أبغضك كما يقال لك وكما تتوهم في نفسك،
٤ - ثم ذكر له ما يثلج صدره وما فيه الطمأنينة والبشرى، فقال: ﴿وَلَلْآخِرَةُ﴾؛ لما (٣) أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق ﴿خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾؛ أي: من الدنيا؛ لما أنها فانية مشوبة بالمضار، وسميت بالأولى؛ لأنها خلقت قبل الآخرة على ما قيل، فالمراد بالآخرة والأولى كرامتهما، و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿وَلَلْآخِرَةُ﴾: لام الابتداء المؤكدة للجملة، لا لام القسم، كما قاله الشوكاني، وفي "التأويلات النجمية": يعني أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أفعال بدايتك، كما أخبر بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾ الآية؛ لأنه - ﷺ - لا يزال يطير بجناح الشريعة في سماء القرب والكرامة، وهذا حال ورثته.
والمعنى (٤): أي وإن أحوالك في مستأنف حياتك خير لك مما مضى منها، وإن كل يوم ستزداد عزًا إلى عز، وسيرتفع شأنك كل يوم عما قبله، وسأمنحك كل آنٍ جلالًا فوق جلالك ورفعة فوق رفعتك، وكأنه يقول له: لا تظنن أني كرهتك أو
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
تركتك، بل أنت عندي اليوم أشد تمكينًا وأقرب اتصالًا.
ولقد صدق الله وعده، فما زال يسمو بنبيه ويرفع درجته يومًا بعد يوم، حتى بلغ الغاية التي لم يبلغها أحد قبله، فجعله رسول الرحمة والهداية والنور إلى جميع خلقه، وجعل محبته من محبة الله، واتباعه والاقتداء به سببًا للفوز العظيم، وجعله وأمته شهداء على الناس جميعًا، ونشر دينه وبلغ دعوته إلى أطراف المعمورة، فأي فضل فوق ذلك الفضل، وأي نعمة أصفى من هذه النعمة، وأي إكرام فوق هذا الإكرام؟ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،
٥ - ثم زاده في البشرى، فقال: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّك﴾ و ﴿اللام﴾ (١) فيه للابتداء، دخلت على الخير؛ لتأكيد مضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك ربك؛ لأن لام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة الاسمية، وليست للقسم؛ لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة، وجمعها مع ﴿سوف﴾؛ للدلالة على أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تراخى لحكمة يعني: أن لام الابتداء لما تجردت؛ للدلالة على التأكيد، وكانت ﴿سوف﴾ تدل على التأخير والتنفيس.. حصل من اجتماعهما أن العطاء المتأخر لحكمة كائن لا محالة، وكانت اللام لتأكيد الحكم المقترن بالاستقبال، وقيل (٢): ﴿اللام﴾: للقسم، قال أبو علي الفارسي: ليست هذه اللام هي التي في قولك: إن زيدًا لقائم، بل هي التي في قولك: لأقومن، ونابت ﴿سوف﴾ عن إحدى نوني التوكيد، فكأنه قال: وليعطينك، قيل: المعنى: ولسوف يعطيك ربك الفتح في الدنيا والثواب في الآخرة فترضى، وقيل: الحوض والشفاعة، وقيل: ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك، كما ورد، وقيل: غير ذلك، والظاهر أنه سبحانه يعطيه ما يرضى به من خيري الدنيا والآخرة، وأهم ذلك عنده وأقدمه لديه قبول شفاعته لأمته.
﴿فَتَرْضَى﴾ ما تعطاه مما يطمئن به قلبك، وهو معطوف على ما قبله بالفاء، والآية عدة (٣) كريمة شاملة لما أعطاه الله سبحانه وتعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوحات الواقعة في عصره - ﷺ -، وفي عمر خلفائه الراشدين، وغيرهم من الملوك الإِسلامية، وفشوّ الدعوة
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والإِسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد أنبأ عن سمة منها قوله - ﷺ -: "لى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابها المسك".
والمعنى (١): أي ولسوف يظاهر ربك عليك نعمه ويوالي عليك منته، ومنها توارد الوحي عليك بما فيه إرشادك وإرشاد قومك إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وسيظهر دينك على الأديان كلها، وتعلو كلمتك ويرتفع شأنك على شؤون الناس جميعًا.
٦ - وقوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا﴾ شروع في تعداد ما أفاضه الله سبحانه عليه من النعم؛ أي: ألم يجدك يا محمد ربك يتيمًا بموت أبويك، والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: قد وجدك ربك يتيمًا، والوجود بمعنى العلم. و ﴿يَتِيمًا﴾: مفعوله الثاني. ﴿فَآوَى﴾ عطف على ما قبله؛ أي: ألم يَعْلَمْك الله يتيمًا بلا أب، فجعل لك مأوى تأوي إليه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَآوَى﴾ بألف بعد الهمزة رباعيًا من آواه يؤويه إذا جعل له مأوى يأوي إليه، وقرأ أبو الأشهب العقيلي: ﴿فأوى﴾ ثلاثيًا بلا مد، وهو إما بمعنى الرباعي، من من أوى له إذا رحمه، يقال: أوى فلان إلى منزله يأوي أويًا على وزن فعول إذا رجع ولجأ إليه، وآويته أنا إيواء، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء ليلًا من نهارًا؛ أي: يرجع إليه وينزل فيه، ويجوز أن يكون الوجود بمعنى (٣) المصادفة، و ﴿يَتِيمًا﴾ حال من مفعوله، يعني: على المجاز بأن يُجعل تعلق العلم الوقوعي الحالي مصادفة، وإلا فحقيقة المصادفة لا تمكن في حقه تعالى.
روي (٤): أن أباه عبد الله مات بعد حمله بشهرين، وقيل: قبل ولادته بشهرين، وقيل: بعد ولادته بشهرين، وقيل: بعد ولادته بسبعة أشهر، وقيل: بعدها بتسعة أشهر، وقيل: بعدها بثمانية وعشرين شهرًا، والراجح المشهور الأول، وكانت وفاة أبيه بالمدينة المنورة، ودُفن في دار النابغة، وقيل: دُفن بالأبواء قرية من عمل
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) الفتوحات.
89
الفُرع، وتوفيت أمه، وهو ابن أربع سنين، وقيل: خمس سنين، وقيل: ست سنين، وقيل: سبع سنين، وقيل: ثمان سنين، وقيل: تسع سنين، وقيل: ثنتي عشرة سنة وشهر وعشرة أيام، وكانت وفاتها بالأبواء، وقيل: بالحجون اهـ، من "المواهب" و"شرحه".
وقال بعضهم (١): لما وُلد رسول الله - ﷺ - كان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة، فهلكت أمه آمنة وهو ابن ست سنين، ثم مات جده بعد أمه بسنتين، ورسول الله ابن ثمان سنين، ولما أشرف جده عبد المطلب على الموت.. أوصى به - ﷺ - أبا طالب؛ لأن عبد الله وأبا طالب كانا من أم واحدة، فكان أبو طالب هو الذي كفل رسول الله - ﷺ - إلى أن بعثه الله تعالى نبيًا، فقام ينصره مدة مديدة، ثم توفي أبو طالب، فنال المشركون منه - ﷺ - ما لم ينالوا منه في حياة أبي طالب، أي: آذوه، وكان - ﷺ - يقول: "كنت يتيمًا في الصغر وغريبًا في الكبر"، وكان يحب الأيتام ويحسن إليهم، وفي الحديث: "من ضم يتيمًا، وكان في نفقته.. كفاه مؤنته، كان له حجابًا من النار، ومن مسح رأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة".
وإنما جعله الله سبحانه يتيمًا؛ لئلا يسبق إلى قلب بشر أن الذي نال من العز والشرف والاستيلاء.. كان عن تظاهر نسب أو توارث مال من نحو ذلك، وعن مجاهد، معنى الآية (٢): ألم يجدك واحدًا في شرفك لا نظير لك، فآواك الله سبحانه بأصحاب يحفظونك ويحوطونك، فجعل يتيمًا من قولهم: درة يتيمة، أي: لا نظير لها، وهذا المعنى بعيد جدًّا، وقيل المعنى: ألم يجدك وحيدًا في قريش عديم النظير، فآواك إليه، وأيدك وشرفك بنبوته، واصطفاك برسالته، والأول أولى.
وخلاصة المعنى: أي ألم تكن يا محمد يتيمًا لا أب له يعني: بتربيتك، ويقوم بشؤونك، ويهتم بتنشئتك، فما زال يحميك ويتعهدك برعايتك، ويجنبك أدناس الجاهلية وأوضارها، حتى رقيت إلى ذروة الكمال الإنساني، وقد عاش النبي - ﷺ - يتيمًا؛ إذ توفي أبوه وهو في بطن أمه، فلما وُلد عطَّف الله عليه قلب جده عبد المطلب، فما زال يكفله خير كفالة حتى توفي، والنبي - ﷺ - يومئذ في السنة الثامنة، فكفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب، فكان به حفيًا شديد العناية
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
90
بأمره، وما زال يتعهده حتى كبر وترعرع حتى أرسله الله رسولًا، فقام يؤازره وينصره ويدفع عنه أذى قريش حتى مات، فاستطاعت قريش أن تنال منه، وتجرأ عليه سفهاؤهم، وسلطوا عليه غلمانهم حتى اضطروه إلى الهجرة، ولو تدبر (١) المنصف في رعاية الله له وحياطته بحفظه وحسن تنشئته.. لوجد من ذلك العجب، فقد كان اليتم وحده مدعاة إلى المضيعة وفساد الخلق؛ لقلة من يحفل باليتيم ويحرص عليه، وكان في خلق أهل مكة وعاداتهم ما فيه الكفاية في إضلاله لو أنه سار سيرتهم، لكن عناية الله تعالى كانت ترعاه، وتمنعه السير على نهجهم، فكان الوفي الذي لا يمين والأمين الذي لا يخون والصادق الذي لا يكذب والطاهر الذي لم يدنس برجس الجاهلية.
٧ - وقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧)﴾ معطوف (٢) على المضارع المنفي، وقيل: هو معطوف على ما يقتضيه الكلام الذي قبله كما ذكرنا؛ أي: قد وجدك يتيمًا فآوى، ووجدك ضالًا فهدى، والضلال هنا بمعنى الغفلة، كما في قوله: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾، وكما في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ والمعنى: إنه وجدك غافلًا عما يراد بك من أمر النبوة فهداك إليه، واختار هذا الزجاج، وقيل: معنى ﴿ضَالًّا﴾ لم تكن تدري القرآن ولا الشرائع، فهداك لذلك، وقال الكلبي والسدي والفراء: وجدك في قوم ضلال، فهداهم الله بك، وقيل: وجدك ضالًا، أي: طالبًا للقبلة، فهداك إليها، كما في قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ ويكون الضلال بمعنى الطلب، وقيل: وجدك ضائعًا في قومك فهداك إليه، فيكون الضلال بمعنى الضياع، وقيل: وجدك محبًا للهداية فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة، ومنه قول الشاعر:
عَجَبًا لِعَزَّةَ فِيْ اخْتِيَارِ قَطِيْعَتِيْ بَعْدَ الضَّلَالِ فَحَبْلُهَا قَدْ أَخْلَقَا
وقيل: وجدك ضالًا في شعاب مكة فهداك؛ أي: ردك إلى جدك عبد المطلب، وعن ابن عباس (٣) - رضي الله عنهما - أن النبي - ﷺ - ضل في شعاب مكة حال صباه، وكان عبد المطلب يطلبه، ويقول متعلقًا بأستار الكعبة:
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
91
يَا رَبِّ فَارْدُدْ وَلَدِيْ مُحَمَّدَا رَدًّا إِلَيَّ وَاصْطَنِعْ عِنْدِيْ يَدَا
فوجده أبو جهل، فرده إلى عبد المطلب، فمن الله عليه حيث خلصه على يدي عدوه، فكان في ذلك نظير موسى عليه السلام حيث التقط فرعون تابوته، ليكون له عدوًا وحزنًا، فما زال عبد المطلب يكرر هذا البيت عند الكعبة حتى أتاه أبو جهل على ناقة له ومحمد بين يديه، وهو يقول: لا تدري ماذا ترى من ابنك، فقال عبد المطلب: ولِمَ؟ قال: أنخت الناقة وأركبته من خلفي، فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة، وكانت تقول: يا أحمق هو الإِمام، فكيف يقوم خلف المقتدي، وقال سعيد بن المسيّب (١): خرج رسول الله - ﷺ - مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة إذ جاء إبليس، فأخذ زمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورد رسول الله - ﷺ - إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك، وقيل: الضلال هنا بمعنى الحيرة، وذلك لأنه - ﷺ - كان يخلو في غار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه حتى هداه الله لدينه، وقال الجنيد: ووجدك متحيرًا في بيان ما أنزل الله إليك فهداك لبيانه، فهذا ما قيل في تفسير هذه الآية، ولا يُلتفت إلى قول من قال: إنه - ﷺ - كان قبل النبوة على ملة قومه، فهداه الله سبحانه إلى الإِسلام؛ لأن نبينا - ﷺ -، وكذلك الأنبياء قبله منذ وُلدوا انتشؤوا على التوحيد والإيمان قبل النبوة وبعدها، وإنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله تعالى وتوحيده، ويدل على ذلك أن قريشًا عابوا النبي - ﷺ -، ورموه بكل عيب سوى الشرك وأمر الجاهلية، فإنهم لم يجدوا لهم عليه سبيلًا؛ إذ لو كان فيه شيء من ذلك لما سكتوا عنه، ولنُقِل ذلك، فبرّأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه وعيَّروه به من السحر والكهانة والجنون والشعر.
ويؤيد هذا (٢): ما روي في قصة بحيرا الراهب حين استحلف النبي - ﷺ - باللات والعزى، وذلك حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام، فرأى بحيرا علامة النبوة فيه، وهو صبي، فاختبره بذلك، فقال له النبي - ﷺ -: "لا تسألني بهما، فوالله ما أبغضت شيئًا بغضهما" ويؤيده شرح صدره - ﷺ - في حال الصغر، واستخراج العلقة
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
92
منه، وقول جبريل: هذا حظ الشيطان منك، وملأه حكمة وإيمانًا، وقوله تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)﴾. وقال الزمخشري: ومن قال كان على أمر قومه أربعين سنة، فإن أراد أنه كان على خلقهم من العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على دين قومه فمعاذ الله، والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ والله أعلم.
والمعنى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧)﴾؛ أي: ووجدك حائرًا مضطربًا في أمرك مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة من أمرهم، فعبادتهم باطلة ومعتقداتهم فاسدة، وكان يفكر في دين اليهودية، ثم يرى اليهود أنفسهم ليسوا على حال خير من حال قومه؛ إذ بدلوا دينهم وخالفوا ما كان عليه رسولهم، فيبدو عليه الإعراض عنه، ثم يفكر في دين عيسى عليه السلام، فيرى النصارى على حال شر من حال اليهود، فيرجع عن التفكير فيه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف ما حوته تلك الأديان من الأحكام والشرائع، وأعظم أنواع حيرته ما كان يراه في العرب أنفسهم من سخف في العقائد، وضعف في البصائر باستيلاء الأوهام عليهم، وفساد أعمالهم وشؤمها في أحوالهم بتفرق الكلمة، وتفانيهم في سفك الدماء، والإشراف على الهلاك باستعباد الغرباء لهم، وتحكمهم فيهم، فالحبشة والفرس من جانب، والرومان من جانب آخر، فما العمل في تقويم عقائدهم وتخليصهم من تحكم العادات فيهم، وأي الطرق ينبغي أن يُسلك في إيقاظهم من سباتهم.
وقصارى ذلك: أنه كان في قرارة نفسه يعتقد أن قومه قد ضلوا سواء السبيل، وبدلوا دين أبيهم إبراهيم، وكانت حال أهل الأديان الأخرى ليست خيرًا من حالهم، لكن الإله الحكيم لم يتركه ونفسه، بل أنزل عليه الوحي يبين له أوضح السبل، كما قال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾
٨ - ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا﴾؛ أي: فقيرًا لا مال لك، يؤيده ما في مصحف عبد الله بن مسعود ﴿عديمًا﴾ يقال: عال يعيل عيلًا وعيلة إذا افتقر ﴿فأغنا﴾ ك بمال خديجة - رضي الله عنها - من بما أفاء الله عليه من الغنائم، حتى كان - ﷺ - يهب المئة من الإبل، وفي الحديث: "جعل رزقي تحت ظل رمحي" ولكن في هذا المعنى الأخير نظر؛ لأن السورة مكية.
والحكمة في جعله أولًا فقيرًا، ثم إغنائه: أنه لو كان متمولًا من أول الأمر.. لكان يسبق إلى بعض الأوهام أنه إنما وجد العز والغلبة بسبب المال، فلما علا كل العلو على الأغنياء والملوك.. عُلم أنه كان علوه من جهة الحق سبحانه، وقيل معناه: فأغنى قلبك وقنعك بما أعطاك.
قال - ﷺ -: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" ولذا قال الراغب: معنى فأغناك: أي: أزال عنك فقر النفس وجعل لك الغنى الأكبر، وهو المعني بقوله - ﷺ -: "الغنى غنى النفس" ثم المراد (١) من تعداد هذه النعم ليس الامتنان، بل تقوية قلبه - ﷺ - للاطمئنان بعد التوديع، وقرأ الجمهور (٢): ﴿عَائِلًا﴾؛ أي: فقيرًا.
قال جرير:
اللهُ نَزَّلَ فيْ الْكِتَابِ فَرِيْضَةً لابْنِ السَّبِيْلِ وَللْفَقِيْرِ الْعَائِلِ
كرره لاختلاف اللفظ، وقرأ محمد بن السميفع واليماني: ﴿عَيَّلًا﴾ بفتح العين وتشديد الياء المكسورة على وزان سيد، ومنه قول أحيحة بن الجلاح:
وَمَا يَدْرِيْ الْفَقِيْرُ مَتَى غِنَاهُ وَمَا يَدْرِيْ الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيْلُ
والمعنى (٣): أي إنك كنت فقيرًا لم يترك لك والدك من الميراث إلا ناقة وجارية، فأغناك بما أجراه لك من الربح في التجارة، وبما وهبته لك خديجة من مالها.
وخلاصة ما تقدم: أن من آواك في يتمك وهداك من ضلالك، وأغناك من فقرك لا يتركك في مستقبل أمرك،
٩ - وبعد أن بين نعمه السابقة، أوصاه باليتامى والفقراء شكرًا على هذه النعم، وأداء لحقها، فقال: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ﴾ منصوب بقوله: ﴿فَلَا تَقْهَر﴾ فالفاء الأولى للإفصاح، والثانية لربط جواب ﴿أما﴾ الشرطية، كما بيَّنَّاهما في شروحنا على الآجرومية؛ أي: إذا عرفت ما بينّاه لك من النعم المذكورة، وأردت القيام بشكرها، فأقول لك: لا تقهر اليتيم؛ أي: لا تذلِله ولا تغلبه على ماله وحقه بوجه من وجوه القهر كائنًا ما كان، قال مجاهد: لا تحرك
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
اليتيم فقد كنت يتيمًا وإن له ربًا ينصره، وقال الأخفش: لا تسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يتمك، وقال الفراء والزجاج: لا تقهره على ماله، فتذهب بحقه لضعفه، وكذا كانت العرب تفعل في حق اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم، وكان رسول الله - ﷺ - يُحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي به.
وفي الحديث: "إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن، فيقول: من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده تحت الثرى، من أسكته - أي: أرضاه - فله الجنة" وروي أيضًا أنه - ﷺ - قال: "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بأصبعه: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وهو يشير باصبعيه، رواه البغوي بسنده.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَلَا تَقْهَر﴾ بالقاف، وقرأ ابن مسعود إبراهيم النخعي والشعبي والأشهب العقيلي: ﴿تكهر﴾ بالكاف بدل القاف، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور، والعرب تعاقب بين القاف والكاف، وقال النحاس: إنما يقال: كهره إذا اشتد عليه وغلّظ، وقيل: القهر الغلبة، والكهر الزجر، وقيل: معنى ﴿فلا تكهر﴾ فلا تعبس في وجهه، والمعنى؛ أي: لا تقهر اليتيم ولا تستذله، بل ارفع نفسه بالأدب، وهذّبه بمكارم الأخلاق؛ ليكون عضوًا نافعًا في جماعتك، لا جرثومة فساد يتعدى أذاها إلى كل من يخالطها من أمتك، ومن ذاق مرارة لضيق في نفسه، فما أجدر أن يستشعرها في غيره، وقد كان - ﷺ - يتيمًا، فباعد الله عنه ذل اليتم، فآواه، فمن أولى منه بأن يكرم كل يتيم شكرًا لله تعالى على نعمته.
١٠ - ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ﴾ والمستعطي ﴿فَلَا تَنْهَرْ﴾؛ أي: فلا تزجره، لكن أعطه، أو رده ردًا جميلًا، والنهر والانتهار: الزجر بمغالظة؛ أي: لا تزجره، ولا تغلظ له القول، بل رده ردًا طيبًا، وهذا بمقابلة قوله: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٨)﴾.
قال الواحدي (٢): قال المفسرون: يريد السائل على الباب يقول: لا تنهره إذا سألك، فقد كنت فقيرًا، فإما أن تطعمه، وإما أن ترده ردًا لينًا، قال قتادة: معناه رد السائل برحمة ولين، وقيل: المراد بالسائل: الذي يسأل عن الدِّين، فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين، كذا قال سفيان، فيكون في مقابلة {وَوَجَدَكَ
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
ضَالًّا فَهَدَى (٧)}، و ﴿السَّائِلَ﴾ منصوب بـ ﴿تنهر﴾ كما أن ﴿الْيَتِيمَ﴾ منصوب بـ ﴿تقهر﴾، والتقدير: مهما يكن من شيء، فلا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل.
والآية بيّنة لجميع الخلق (١)؛ لأن كل واحد من الناس كان فقيرًا في الأصل، فإذا أنعم الله سبحانه عليه.. وجب عليه أن يعرف حق الفقراء، وقال بعضهم: الأولى حمل السائل على المعنى الأعم من أن يسأل المال، ويسأل عن العلم، فيكون التفصيل مطابقًا للتعديد، كما مرت الإشارة إليه آنفًا، فيجب إكرام طالب العلم وإنصافه بمطلوبه ولا يعبس في وجهه، ولا يُنهَر، ولا يُتلَقى بمكروه.
وفي الحديث: "من كتم علمه أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار"، وهذا الوعيد يشمل حبس الكتب عمن يطلبها للانتفاع بها.
١١ - ولما ذكّره نعمه عليه في هذه السورة من جبر اليتم، والهدى بعد الضلالة، والإغناء بعد العيلة والفقر.. أمره أن يشكره على إنعامه عليه، فقال: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)﴾؛ لأن تحديث العبد، وإخباره بنعمة الله تعالى شكر لها باللسان وتذكير للغير.
وفي الحديث: "التحدث بالنعم شكر" والمراد بتحديثها إظهارها للناس وإشهارها بينهم، والظاهر (٢) حمل النعمة على العموم من غير تخصيص بفرد من أفرادها، من نوع من أنواعها، وقال مجاهد والكلبي: المراد بالنعمة هنا القرآن، وقال الكلبي: وكان القرآن أعظم ما أنعم الله به عليه، فأمره أن يقرأه، قال الفراء: وكان يقرؤه ويحدثه به، وقال مجاهد أيضًا: المراد بالنعمة النبوة التي أعطاه الله، واختار الزجاج هذا القول، فقال: أي: بلِّغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك الله تعالى، وهي أجل النعم، فحينئذ فقد إندرج تحت الأمر هدايته - ﷺ - لأهل الضلال، وتعليمه للشرائع والأحكام حسبما هداه الله وعلّمه من الكتاب والحكمة، وقال مقاتل: يعني: اشكر ما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من الهدى بعد الضلال، وجبر اليتيم، والإغناء بعد العيلة، فاشكرها وحدث بها للناس؛ لأن التحدث بنعمة الله شكر وكتمانها كفر.
وهذا الثالث بمقابلة الثاني (٣)، وهو قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧)﴾ آخره
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
96
لمراعاة الفواصل، ولأن التحلية وهو التحدث بنعمة الله بعد التخلية، وهو ﴿لا تقهر﴾ و ﴿لا تنهر﴾، وكرر أما؛ لوقوعها في مقابلة ثلاث آيات.
قال في "الكواشي": رأى بعض العلماء التحدث بنعمة الله من الطاعات، مع أمن الرياء، وغائلة النفس، وطلب الاقتداء به، وكرهه بعضهم خوف الفتنة، وفي "عين المعاني" أنه - ﷺ - قال: "التحدث بالنعم شكر وتركه كفر"، وأما الحديث الآخر: "عليكم بكتمان النعم، فإن كل ذي نعمة محسود" يعني: عن الحسود لا غير، وفي "الأشباه":
(س) أي رجل ينبغي له إخفاء إخراج الزكاة عن بعض دون بعض؟.
(ج) فقيل: المريض إذا خاف من ورثته يخرجها سرًا عنهم.
(س) وأي رجل يُستحب له إخفاؤها؟.
(ج) فقيل: الخائف من الظلمة، لا يعلمون كثرة ماله. وقال ابن عطية في الآية: حدِّث به نفسك؛ أي: لا تنس فضله عليك قديمًا وحديثًا.
وخلاصة معنى قوله: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)﴾؛ أي: أوسع (١) في البذل على الفقراء بمالك، وأفض من نعمه الأخرى على طالبيها، وليس المراد مجرد ذكر الثروة والإفاضة في حديثها، فإن ذلك ليس من كرم الأخلاق في شىء.
وقد جرت عادة البخلاء أن يكتموا مالهم؛ لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل، ولا تجدهم إلا شاكِين من القل، أما الكرماء فلا يزالو يظهرون بالبذل مما آتاهم الله تعالى من فضله، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه، وقد استفاضت الأحاديث بأنه - ﷺ - كان كثير الإنفاق على الفقراء، وعظيم الرأفة بهم، واسع الإحسان إليهم، وكان يتصدق بكل ما يدخل في ملكه ويبيت طاويًا.
نبذة من الأحاديث المناسبة للآية
منها: ما روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "من أُعطي عطاء فليُجْزِ به إن وجد، فإن لم يجد فليثن عليه، فإن أثنى عليه فقد
(١) المراغي.
97
شكره، ومن كتمه فقد كفر، ومن تحلى بما لم يُعط كان كلابس ثوبي زور" أخرجه الترمذي، وله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - ﷺ - قال: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله".
وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "الطاعم الشاكر بمنزله الصائم الصابر".
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن النعمان بن بشير قال: قال: سمعت رسول الله - ﷺ - على المنبر يقول: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
فائدة: والسنة في قراءة أهل مكة أن يكبر من أول سورة الضحى على رأس كل سورة حتى يختم القرآن، فيقول: الله أكبر، وسبب ذلك أن الوحي لما احتبس عن رسول الله - ﷺ -.. قال المشركون: هجره شيطانه وودعه، فاغتم النبي - ﷺ - لذلك، فلما نزلت: ﴿وَالضُّحَى (١)﴾.. كبر رسول الله - ﷺ - فرحًا بنزول الوحي، فاتخذوه سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإعراب
﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)﴾.
﴿وَالضُّحَى (١)﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿الضحى﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالضحى، وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَاللَّيْلِ﴾: معطوف على ﴿وَالضُّحَى (١)﴾، وأجاز ابن هشام أن تكون ﴿الواو﴾ في ﴿وَاللَّيْلِ﴾ عاطفة، من قسمية، قال: والصواب الأول، وإلا لاحتاج كل إلى الجواب. ﴿إِذَا﴾: ظرف زمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم، وتقدمت لها نظائر، وجملة ﴿سَجَى﴾ في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، وفاعل ﴿سَجَى﴾: ضمير يعود إلى ﴿الليل﴾. ﴿ما﴾: نافية. ﴿وَدَّعَكَ﴾: فعل ماض ومفعول به. ﴿رَبُّكَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿قَلَى﴾: فعل ماض، وفاعل
98
مستتر يعود على الرب، والمفعول محذوف لعلمه مما قبله، أي: وما قلاك، والجملة معطوفة على جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلَلْآخِرَةُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء مؤكِّدة لمضمون الجملة. ﴿الآخرة﴾: مبتدأ. ﴿خَيْرٌ﴾: خبره، ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، وكذا ﴿مِنَ الْأُولَى﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾ أيضًا، والجملة معطوفة على جملة القسم، أو على جوابها، أو مستأنفة. ﴿وَلَسَوْفَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء مؤكد لمضمون الجملة. ﴿سوف﴾: حرف تنفيس للاستقبال البعيد. ﴿يُعْطِيكَ﴾: فعل مضارع ومفعول به أول، والثاني محذوف معلوم من السياق تقديره: سوف يعطيك ترضاه. ﴿رَبُّكَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك ربك، والجملة الابتدائية معطوفة على جملة جواب القسم، وإنما لم تكن ﴿اللام﴾ للقسم؛ لأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد، فتعيَّن أن تكون للابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة المكونة من المبتدأ والخبر، فتعيَّن تقدير مبتدأ، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟
قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة، وان تأخر لما في التأخير من المصلحة. ﴿فَتَرْضَى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿ترضى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُعْطِيكَ﴾.
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: الهمزة للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف جزم ونفى. ﴿يَجِدْكَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، تقديره: هو، و ﴿الكاف﴾: ضمير متصل في محل النصب مفعول أول. ﴿يَتِيمًا﴾: مفعول ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعداد أياديه ونعمه عليه، والغرض من تعدادها كما تقدم تقوية قلبه - ﷺ -، وتشجيعه على السير في طريقه التي إختارها الله له، وهى طريق محمودة العواقب سليمة المغابَّ. ﴿فَآوَى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿آوَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على قوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ﴾ لأنه
99
في تقدير الإثبات؛ لأن الاستفهام تقريري، والتقدير: ووجدك يتيمًا فآواك. ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعولان، معطوف على قوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ﴾؛ لأنه في معنى الإثبات، كما مر آنفًا. ﴿فَهَدَى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿هدى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعولان، معطوف على قوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا﴾. ﴿فَأَغْنَى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أغنى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على قوله: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا﴾، والمفعول محذوف كسابقه؛ أي: فأغناك. ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما أنعمنا به عليك من النعم المذكورة، وأردت بيان ما هو اللازم لك في المستقبل.. فأقول لك: ﴿أما اليتيم﴾ ﴿أما﴾: حرف شرط أبدًا وتفصيل غالبًا، نائبة عن أداة الشرط وفعله، والأصل مهما يكن من شيء، فأقول لك: لا تقهر اليتيم: حرف لا محل لها من الإعراب، مبني على سكون الألف المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين ﴿الْيَتِيمَ﴾: مفعول به مقدم لـ ﴿تَقْهَرْ﴾؛ للفصل به بين ﴿أما﴾ وجوابها. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع ﴿أما﴾؛ لأن أصل التركيب مهما يكن من شيء، فلا تقهر اليتيم، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَقْهَرْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد مجزوم بـ ﴿لا﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿أما﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. ﴿وَأَمَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أما﴾: حرف شرط. ﴿السَّائِلَ﴾: مفعول مقدم لـ ﴿تَنْهَرْ﴾ ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَنْهَرْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة الفعلية جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الأولى. ﴿وَأَمَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أما﴾: حرف شرط وتفصيل. ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿حَدِّثْ﴾، والفاء غير مانعة؛ لأنها بمثابة الزائدة. ﴿فَحَدِّثْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾، ﴿حدِّث﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾
100
معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الأولى.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالضُّحَى (١)﴾: صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي أشعتها على هذا الكون، وفي "القاموس": والضَّحو والضَّحوة والضحية كعشية ارتفاع النهار، والضُّحى فويقه، والضَّحاء بالمد إذا قرب انتصاف النهار، وبالضم والقصر يطلق على الشمس أيضًا اهـ. وأصله: ضَحَوَ بوزن فعل تحرك حرف العلة وفتح ما قبله فقُلبت ألفًا.
﴿إِذَا سَجَى﴾؛ أي: سكن، يقال: سجا البحر يسجو سجوًا - من باب سما - إذا سكنت أمواجه، وليلة ساجية ساكنة الريح، والمراد إذا الأحياء فيه، وانقطعوا عن الحركة، وفيه إعلال بالقلب أصله: سَجَوَ واوي اللام، تحركت الواو وفُتح ما قبلها فقلبت ألفًا.
﴿مَا وَدَّعَكَ﴾: من التوديع، وهو مبالغة في الوَدْع، وهو الترك؛ أي: ما تركك ضائعًا بتأخير الوحي عنك، وقرىء بالتخفيف من قولهم: ودعه إذا تركه، واختُلف في دع بمعنى الترك هل يتصرف، فيأتي منه الماضي وغيره، أم لا؟ قال الجوهري: أميت ماضيه، وقال غيره: ربما جاء ماضيه في الضرورة، وهو المشهور.
قال الشاعر:
لَيْتَ شِعْرِيْ عَنْ خَلِيْلِيْ مَا الَّذِيْ غَالَة فِىْ الْحُبَّ حَتَّى وَدَعَهْ
ومنه قوله تعالى: ﴿ما وَدَعَك ربك﴾ على قراءة التخفيف، وجا منه المصدر، ومنه الحديث: "ولينتهن أقوام عن وَدْعِهم الجمعات"؛ أي: عن تركهم إياها، وجاء منه اسم المفعول وغيره في الشعر، والأصح القول بقلة الاستعمال، لا بالإماتة.
﴿وَمَا قَلَى﴾؛ أي: وما أبغضك، فالمفعول محذوف كما مر، وفى "المصباح": قليته قليًا، وقلوته قلوًا من بابي: ضرب وقتل، وهو الإنضاج في المِقلى، وهي: مِفعَل بالكسر، وقد يقال: مِقلاة بالهاء، واللحم وغيره مَقِلي بالياء، ومقلو بالواو،
والفاعل: قَلّاء بالتشديد؛ لأنه صنعة كالعطار والنجار، وقليت الرجل أقليه - من باب رمى - قلى بالكسر والقصر، وقد يمد إذا أبغضته، ومن باب تعب لغة، وقال
101
بن خالويه يقال: قلاه يقلاه بفتح الماضي والمستقبل، وليس في كلام العرب فعل يفتح فيه الماضي والمستقبل مما ليس فيه حرف من حروف الحلق إلا قلى يقلى، وأبى يأبى مثلًا.
فقوله: ﴿وَمَا قَلَى﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: قَلَوَ أو قَلَيَ بوزن فعل، قلُبت الواو من الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَتَرْضَى﴾ أصله: تَرْضَيُ بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَآوَى﴾ قرأ العامة: ﴿آوى﴾ بألف بعد الهمزة رباعيًا، من آواه يؤويه إيواء، وقرأ أبو الأشهب: ﴿فَآوَى﴾ ثلاثيًا، وفي "المصباح": أوى إلى منزله يأوي - من باب ضرب - أويًا، أقام، وربما عُدِّي بنفسه، فقيل: أوى منزلَه، والمأوى بفتح الواو لكل حيوان مسكنه، وآويت زيدًا بالمد، في التعدي، ومنهم من يجعله مما يستعمل لازمًا ومتعديًا، فيقول: أويته وزان ضربته، ومنهم من يستعمل الرباعي لازمًا أيضًا، ورده جماعة.
وأصل ﴿فَآوَى﴾ أأوى بوزن: أفعل، أُبدلت الهمزة الثانية ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ أصله: ضالِلًا اسم فاعل، أُدغمت اللام الأولى في الثانية.
﴿فَهَدَى﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: هَدَيَ بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا﴾: فيه إعلال بالإبدال، أصله: عايلًا، أبدلت الياء همزةً في الوصف حملًا له على فعله في الإعلال.
﴿فَأَغْنَى﴾ أصله: أَغْنَيَ بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿السَّائِلَ﴾: اسم فاعل من سأل الثلاثي بوزن فعل، وقوله: أيضًا ﴿عَائِلًا﴾ من عال زيد من باب: سار؛ أي: افتقر، وأعال زيد إذا كثرت عياله، وهذه المادة لها أصلان: واوي ويائي، أما الواوي، فقد قال في "القاموس": فيه عال - أي: جار ومال عن الحق، وعال الميزان نقص وجار، أو زاد - يعول ويعيل، وعال أمرهم: اشتد وتفاقم، وعال الشيء فلانًا إذا غلبه وثقل عليه وأهمه، وعالت الفريضة في
102
الحساب: زادت وارتفعت إلى آخر ما ذكره، وأما اليائي، فقد قال صاحب "القاموس": وعال يعيل عيلًا وعيلة وعيولًا ومعيلًا إذا افتقر، فهو عائل، والجمع عالة وعُيُل وعَيْلَى، كسكرى، والاسم العيلة، والمعيل الأسد والنمر والذئب؛ لأنه يعيل صيدًا؛ أي: يلتمس، وعالني الشيء عيلًا ومعيلًا أعوزني، وفي مشيه تمايل واختالّ وتبختر كتعيّل، إلى آخر ما جاء في هذه المادة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان البديع:
فمنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿إِذَا سَجَى﴾؛ أي: سكن أهله، ففيه إسناد الفعل إلى زمانه، كنهاره صائم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾؛ لأن التوديع حقيقة في تشييع المسافر، فاستعمله هنا على طريق الاستعارة التصريحية التبعية بجامع القطع والفرقة في كل.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿وَمَا قَلَى﴾؛ أي: وما قلاك، وكذا قوله: ﴿فَهَدَى﴾ ﴿فَأَغْنَى﴾، فحذف المفعول لعلمه من المقام.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤)﴾؛ لأن المراد بـ ﴿الْأُولَى﴾: الدنيا، وهي تطابق ﴿الآخرة﴾.
ومنها: الجمع بين لام الابتداء وحرف التنفيس في قوله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)﴾؛ للدلالة على أن الإعطاء كائن لا محالة، وإن تراخى لحكمة، يعني: أن لام الابتداء لما تجردت للدلالة على التأكيد، وكانت السين تدل على التأخير والتنفيس.. حصل من اجتماعهما أن العطاء المتأخر لحكمة كائن لا محالة، وكانت اللام لتأكيد الحكم المقترن بالاستقبال.
ومنها: حذف المفعول الثاني لأعطى؛ للدلالة على التعميم والتفخيم؛ أي: كل ما ترضى في الدنيا والآخرة.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧)﴾ شبه
103
الشريعة بالهدى، وعدم وجودها بالضلال، وحذف المشبه، وأبقى المشبه به وهو الضلال، من ضل في طريقه إذا سلك طريقًا غير موصلة لمقصده، والمقصد هنا العلوم النافعة التي تسمو بالعقل والروح معًا.
ومنها: الالتزام، من لزوم ما لا يلزم في قوله: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (١٠)﴾ فقد لزمت الهاء قبل الراء في هاتين الفاصلتين، وفيه أيضًا الجناس الناقص بين الفاصلتين؛ لاختلاف الحرف الثاني في الكلمتين.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه الرجعى والمآب.
* * *
104
مقاصد هذه السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد:
١ - أن الله ما قَلَى رسوله ولا تركه.
٢ - وعد رسوله بأنه سيكون في مستأنَف أمره خيرًا من ماضيه.
٣ - تذكيره بنعمه عليه فيما مضى، وأنه سيواليها عليه.
٤ - طلب الشكر منه على هذه النعم (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تم تفسير سورة الضحى بعون الله وتوفيقه في الليلة الخامسة عشرة ليلة الأربعاء من شهر ذي القعدة من شهور سنة: ١٤١٦ هـ ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
105
سورة الشرح
سورة الشرح مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الضحى، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ نزلت بمكة، وزاد بعد الضحى.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة ألم نشرح بمكة، وآياتها (١): ثمان، وكلماتها تسع وعشرون كلمة، وحروفها: مئة وثلاثة أحرف.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: ظاهرة؛ لأنها شديدة الاتصال بما قبلها؛ لكونهما نزلتا في تعداد النعم على الرسول - ﷺ -، حتى روي (٢) عن طاووس وعمر بن عبد العزيز: أنهما كانا يقولان: هما سورة واحدة، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة، وما كانا يفصلان بينهما بالبسملة، ولكن المتواتر كونهما سورتين، وإن كانتا متصلتين معنى؛ إذ في كل منهما تعداد النعم وطلب الشكر عليها.
وعبارة "الجمل": ولما ذكر الله تعالى بعض النعم عليه - ﷺ - بقوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ...﴾ إلخ.. أتبعه بما هو كالتتمة له، وهو شرح الصدر المذكور في هذه السورة. انتهى. وسميت الشرح؛ لذكر الشرح في أولها.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الشرح كلها محكمة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
ومن فضلها (٣): ما روي عن النبي - ﷺ -: "من قرأ سورة ألم نشرح.. فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني" ولكن لا أصل له.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
106
Icon