تفسير سورة الفاتحة

زاد المسير
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ

فصل : في الاستعاذة


قد أمر الله عز وجل بالاستعاذة عند القراءة بقوله تعالى :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [ النحل : ٩٨ ] ومعناه : إذا أردت القراءة. ومعنى أعوذ : ألجأ وألوذ.
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وقرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن، فقال :( والذي نفسي بيده، ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ).
فمن أسمائها : الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة. ومن أسمائها أم القرآن، وأم الكتاب، لأنها أمت الكتاب بالتقدم. ومن أسمائها : السبع المثاني، وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في ( الحجر ) إن شاء الله.
واختلف العلماء في نزولها على قولين.
أحدهما : أنها مكية، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وأبي العالية، وقتادة، وأبي ميسرة.
والثاني : أنها مدنية، وهو مروي عن أبي هريرة، ومجاهد، وعبيد بن عمير، وعطاء الخراساني.
وعن ابن عباس كالقولين.
سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
(٩) روى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال- وقرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن- فقال: «والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة، ولا في الانجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
فمن أسمائها: الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة. ومن أسمائها: أم القرآن، وأم الكتاب، لأنها أمت الكتاب بالتقدم. ومن أسمائها: السَّبع المثاني، وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في (الحجر) إن شاء الله.
واختلف العلماء في نزولها على قولين: أحدهما: أنها مكية، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وأبي العالية، وقتادة، وأبي ميسرة. والثاني: أنها مدنية، وهو مرويّ عن أبي هريرة، ومجاهد، وعبيد بن عمير، وعطاء الخراساني. وعن ابن عباس كالقولين «١».
صحيح. أخرجه الترمذي ٣١٢٥ والنسائي ٢/ ١٣٩ وأحمد ٥/ ١١٤ وابن خزيمة ٥٠٠ وابن حبان ٧٧٥ وصححه الحاكم ١/ ٥٥٧ ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وأخرجه الترمذي ٢٨٧٥ والطبري ١٥٨٨٩ والبغوي ١١٨٣ من حديث أبي هريرة مطوّلا، وإسناده حسن. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ووافقه البغوي وعجزه، أخرجه البخاري ٤٧٠٤ من حديث أبي هريرة أيضا. وفي الباب من حديث أبي سعيد بن المعلى أخرجه البخاري ٤٤٧٤ و ٤٦٤٧ و ٤٧٠٣ و ٥٠٠٦ وأبو داود ١٤٥٨ وابن ماجة ٣٧٨٥ والطيالسي ٢/ ٩ وأحمد ٣/ ٢١١ و ٤٥٠ وابن حبّان ٧٧٧ والطبراني ٢٢/ ٣٠٣ والبيهقي ٢/ ٣٦٨ وانظر «فتح الباري» ٨/ ١٥٧.
__________
(١) قال القرطبي رحمه الله ١/ ١٥٤: اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي- واسمه رفيع- وغيرهم: هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم: هي مدنية.
ويقال نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره. والأول أصح لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] والحجر مكية بإجماع. ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير «الحمد لله رب العالمين» يدل على هذا قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهذا خبر عن الحكم، لا عن الابتداء، والله أعلم.
17
فصل: فأما تفسيرها: ف الْحَمْدُ رفع بالابتداء، ولِلَّهِ الخبر. والمعنى: الحمد ثابت لله، ومستقرّ له، والجمهور على كسر لام «لله»، وضمها ابن [أبي] «١» عبلة، قال الفراء: هي لغة بعض بني ربيعة، وقرأ ابن السَّميفع «٢» :«الحمد» بنصب الدال «لله» بكسر اللام. وقرأ أبو نهيك بكسر الدال واللام جميعا.
واعلم أن الحمد: ثناء على المحمود، ويشاركه الشكر، إلا أن بينهما فرقاً، وهو: أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء، والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة، وقيل: لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، فتقديره: قولوا: الحمد لله. وقال ابن قتيبة: (الحمد) الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة، وأشباه ذلك. والشكر: الثناء عليه بمعروف أو لاكه، وقد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال:
حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرت له على شجاعته.
فأما «الرب» فهو المالك، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة، فيقال: هذا رب الدار، ورب العبد. وقيل: هو مأخوذ من التربية. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: ربّ فلان صنيعته يربها رباً: إذا أتمها وأصلحها، فهو ربّ ورابٌ. قال الشاعر:
يربّ الذي يأتي من الخير إنه إذا سئل المعروف زاد وتمُّما
قال: والرب يقال على ثلاثة أوجه: أحدها: المالك. يقال: رب الدار. والثاني: المصلح، يقال: رب الشيء. والثالث: السيد المطاع. قال تعالى: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً «٣».
والجمهور على خفض باء «ربِّ». وقرأ أبو العالية، وابن السّميفع، وعيسى بن عمر بنصبها. وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خثيم «٤» وأبو عمران الجوني، برفعها.
فأما الْعالَمِينَ فجمع عالم، وهو عند أهل العربية: اسم للخلق من مبتداهم إلى منتهاهم، وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالما. فقال الحطيئة:
أراح الله منك العالمينا «٥»
(١) سقط من نسخ المطبوع، والاستدراك عن كتب التراجم، و «تفسير القرطبي» ١/ ١٨١ طبع «دار الكتاب العربي» بتخريجنا. وابن أبي عبلة اسمه إبراهيم، تابعي ثقة، توفي سنة ١٥٢.
(٢) كذا في الأصل و «الميزان» للذهبي و «اللسان» لابن حجر، ووقع في «لسان العرب» و «شرح القاموس» «السميقع». والمثبت هو الراجح، فإن الذهبي ضبطه كذلك، وهو إمام علم الحديث والرجال من المتأخرين.
قال الذهبي في «الميزان» ٣/ ٥٧٥: محمد بن السّميفع اليماني، أحد القرّاء، له قراءة شاذة منقطعة السند، قاله أبو عمرو الدّاني وغيره، روى أخباره محمد بن مسلم المكي ذاك الواهي.
(٣) يوسف: ٤١.
(٤) وقع في المطبوع هنا وبعد قليل: (خيثم) والتصويب عن «التقريب» وكتب التراجم.
(٥) هو عجز بيت، وصدره: تنحي فاجلسي مني بعيدا.
18
فأمّا أهل النظر، فالعالم عندهم: اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلكٍ، وسماء، وأرض، وما بين ذلك.
وفي اشتقاق «العالم» قولان: أحدهما: أنه من العلم، وهو يقوي قول أهل اللغة. والثاني: أنه من العلامة، وهو يقوي قول أهل النظر، فكأنه إنما سمي عندهم بذلك، لانه دالٌ على خالقه.
وللمفسرين في المراد ب «العالمين» هاهنا خمسة أقول: أحدها: الخلق كلّه، السّماوات والأرضون ما فيهنّ وما بينهن. رواه الضحّاك عن ابن عباس. والثاني: كل ذي رُوح دب على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم الجن والإنس. روي ايضا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، ومقاتل. والرابع: أنهم الجن والإنس والملائكة، نقل عن ابن عباس أيضا، واختاره ابن قتيبة. والخامس: أنهم الملائكة، وهو مروي عن ابن عباس أيضا.
قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣). قرأ أبو العالية، وابن السميفع، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما، وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خثيم، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما.
قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤). قرأ عاصم والكسائيّ، وخلق ويعقوب: «مالك» بألف. وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة كذلك، إِلا أنهما نصبا الكاف. وقرأ أبو هريرة، وعاصم الجحدري: «ملْكِ» باسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف، وقرأ أبو عثمان النهدي، والشعبي «مَلِكَ» بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة، ومورَّق العجلي:
«مَلِكُ» مثل ذلك إلا أنهم رفعوا الكاف. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو رجاء العطاردي «مليك» بياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف. وقرأ عمرو بن العاص كذلك، إلا أنه ضمَّ الكاف. وقرأَ أبو حنيفة، وأبو حياة «مَلكَ» على الفعل الماضي، «ويومَ» بالنصب. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو: إِسكان اللام، والمشهور عن أبي عمرو وجمهور القراء «مَلِك» بفتح الميم مع كسر اللام، وهو أظهر في المدح، لأن كل ملك مالك، وليس كلّ مالك ملكا.
وفي «الدّين» ها هنا قولان: أحدهما: أنه الحساب. قاله ابن مسعود. والثاني: الجزاء. قاله ابن عباس. ولما أخبر الله عزّ وجلّ في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ أنه مالك الدنيا. دل بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ على أنه مالك الأخرى. وقيل: إِنما خصَّ يوم الدين، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه.
قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو مجلز «يُعْبَدُ» بضم الياء وفتح الباء.
قال ابن الأنباري: المعنى: قل يا محمد: إِياك يعبد، والعرب ترجع من الغيبة إِلى الخطاب، ومن الخطاب الى الغيبة كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «١»، وقوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً «٢». وقال لبيد:
باتت تشكى إليَّ النفس مجهشة وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
وفي المراد بهذه العبارة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى التوحيد. روي عن علي، وابن عباس في آخرين. والثاني: أنها بمعنى الطاعة، كقوله: لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ «٣». والثالث: أنها بمعنى
(١) يونس: ٢٢.
(٢) الدهر: ٢١، ٢٢.
(٣) يس: ٦٠.
19
الدعاء كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «١».
قوله تعالى: اهْدِنَا فيه أربعة أقوال: أحدها: ثبتنا. قاله عليّ، وأبيّ. والثاني: أرشدنا.
والثالث: وفقنا. والرابع: ألهمنا. رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس.
والصِّراطَ: الطريق. ويقال: إِن أصله بالسين، لأنه من الاستراط وهو: الابتلاع، فالسراط كأنه يسترط المارّين عليه، فمن قرأ بالسين، كمجاهد، وابن محيصن، ويعقوب، فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصاد، كأبي عمرو، والجمهور، فلأنها أَخف على اللسان، ومن قرأ بالزاي، كرواية الأصمعي عن أبي عمرو، واحتج بقول العرب: صقر وسقر وزقر. وروي عن حمزة: إِشمام السين زاياً، وروي عنه أنه تلفظ بالصراط بين الصاد والزاي. قال الفراء: اللغة الجيدة بالصاد، وهي لغة قريش الأولى، وعامة العرب يجعلونها سيناً، وبعض قيس يشمُّون الصاد، فيقول: الصراط بين الصاد والسين، وكان حمزة يقرأ «الزراط» بالزاي، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. يقولون في «أصدق» : أزدق.
وفي المراد بالصّراط ها هنا أربعة أقوال:
(١٠) أحدها: أنه كتاب الله، رواه عليّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
المرفوع ضعيف، والصحيح موقوف. ورد من وجوه متعددة، أشهرها حديث الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أنّ النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن- أي لم يتوقفوا- في قبوله، وأنه كلام الله تعالى إذ سمعته حتى قالوا: إِنّا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهدي إِلى الرُّشْد فآمنا به، من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي ٢٩٠٦ وابن أبي شيبة ١٠/ ٤٨٢ والدارمي ٢/ ٤٣٥ والبزار في مسنده ٣/ ٧١- ٧٢ والفريابي في «فضائل القرآن» ٨١ وأبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» ١/ ٥- ٦. ومحمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» ص ١٥٧ ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» ١/ ٩١ والبيهقي في «الشعب» ٤/ ٤٩٦- ٤٩٧ من طريق حمزة الزّيات بهذا الإسناد، وإسناده ضعيف لضعف الحارث بن عبد الله. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال اه. وورد من طريق سعيد بن سنان البرجمي عن عروة بن مرة عن سعيد بن فيروز عن الحارث الأعور به. عند الدارمي ٢/ ٤٣٥- ٤٣٦ والفريابي في «فضائل القرآن» ٧٩، والبزار ٣/ ٧٠- ٧١ وأبو الفضل الرازي في «فضائل القرآن» ٣٥. وأخرجه أحمد ١/ ٩١ وأبو يعلى ١/ ٣٠٢- ٣٠٣ والبزار ٣/ ٧٠ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث به. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» ٨/ ٣٢١ من طريق أبي هاشم عمن سمع عليا... وهذا إسناد ضعيف، فيه من لم يسم، والظاهر أنه الحارث، وقال الحافظ ابن كثير في «فضائل القرآن» ص ١٧- ١٨ بعد أن ذكر هذه الروايات وتكلم عليها: وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح اه.
وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص ٢١ وابن الضريس ٥٨ والحاكم ١/ ٥٥٥ والآجري في «أخلاق حملة القرآن» ١١ وابن حبان في «المجروحين» ١/ ١٠٠ وأبو الشيخ في «طبقات أصبهان» ٤/ ٢٥٢ وأبو الفضل الرازي ٣٠ وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» ٢/ ٢٧٨ وابن الجوزي في «العلل» ١/ ١٠١- ١٠٢ ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» ١/ ٨٨ والبيهقي في «الشعب» ٤/ ٥٥٠.
وإسناده ضعيف فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو لين الحديث. والحديث صححه الحاكم، وقال الذهبي:
إبراهيم بن مسلم ضعيف اه. وقال ابن الجوزي: يشبه أن يكون من كلام ابن مسعود اه. وقال ابن كثير في «فضائل القرآن» ص ١٧- ١٨: وهذا غريب من هذا الوجه، وإبراهيم بن مسلم هو أحد التابعين، ولكن تكلموا فيه كثيرا، وقال أبو حاتم الرازي: لين ليس بالقوي. وقال أبو الفتح الأزدي: رفّاع كثير الوهم. قال ابن كثير: فيحتمل- والله أعلم- أن يكون وهم في رفع هذا الحديث وإنما هو من كلام ابن مسعود ولكن له شاهد من وجه آخر والله أعلم اه.
- والموقوف على ابن مسعود أخرجه الدارمي ٢/ ٤٣١ والطبراني في «الكبير» ٩/ ١٣٩ وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» ٢/ ٢٧٢ وأبو الفضل الرازي ٣١ و ٣٢ والبيهقي في «الشعب» ٤/ ٥٤٩.
- وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبري ٧٥٧٠ وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف، والأشبه في هذه الأحاديث كونها موقوفة على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وقد أنكر الذهبي رحمه الله هذا الحديث، كونه مرفوعا، وصوّب ابن كثير فيه الوقف، وهو الراجح، والله أعلم.
__________
(١) غافر: ٦٠. [.....]
20
والثاني: أنه دين الاسلام. قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وأبو العالية في آخرين.
والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والرابع: أنه طريق الجنة، نقل عن ابن عباس أيضاً. فان قيل: ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى: إِهدنا لزوم الصراط، فحذف اللزوم. قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المعنى: ثبتنا على الهدى، تقول العرب للقائم: قم حتى آتيك، أي: اثبت على حالك. والثالث: أن المعنى: زدنا هداية.
قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. قال ابن عباس: هم النبيُّون، والصديقون، والشهداء، والصالحون. وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء، وكذلك «لديهم» و «إِليهم» وقرأهنَّ حمزة بضمها.
وكان ابن كثير يصل «١» ضم الميم بواو. وقال ابن الأنباري: حكى اللّغويون في «عليهم» عشر لغات، قرئ بعامّتها «عليهم» بضم الهاء وإسكان الميم «وعليهم» بكسر الهاء وإسكان الميم، و «وعليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة، و «عليهُمو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة، و «عليهمو» بضم الهاء والميم وإِدخال واو بعد الميم، و «عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهُمي» بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم، و «عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياءٍ، و «عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إِلحاق واو، و «عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم.
(١١) فأما «المغضوب عليهم» فهم اليهود و «الضالون» : النصارى. رواه عدي بن حاتم عن
صحيح. أخرجه الترمذي ٢٩٥٤ وأحمد ٤/ ٣٧٨- ٣٧٩ وابن حبان ٧٢٠٦ والبيهقي في «الدلائل» ٥/ ٣٣٩ ٣٤١ والطبراني ١٧/ ٢٣٧ من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال»، وحسّن إسناده الترمذي. وقال الهيثمي في «المجمع» ٥/ ٣٣٥: رجال أحمد رجال الصحيح غير عباد بن حبيش، وهو ثقة اه. وتوبع عباد عند الطبري ٢٠٧ وقد تقدم ومن وجه آخر ٢٠٩ فهو صحيح.
ويشهد له ما أخرجه أحمد ٥/ ٣٢- ٣٣ والطبري ٢١٢ وعبد الرزاق في «تفسيره» ١٣ عن عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بوادي القرى، وهو على فرسه فسأله رجل من بلقين، فقال: يا رسول الله: «من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم- وأشار إلى اليهود- قال: فمن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضالين- يعني النصارى- قال: وجاء رجل فقال: استشهد مولاك، أو قال: غلامك فلان، قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها». وإسناده إليه صحيح وجهالة الصحابي لا تضر. وانظر «المجمع» ١٠٨٠٩ و ١٠٨١٠. وانظر «تفسير الشوكاني» ١/ ٢٩ بتخريجنا.
__________
(١) قال السيوطي في «الدر» ١/ ٤٢: وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ «عليهمو» بكسر الهاء وضم الميم مع إلحاق الواو. وأخرج أيضا عن ابن إسحاق أنه قرأ «عليهم» بضم الهاء والميم من غير إلحاق واو.
وانظر «تفسير الشوكاني» ١/ ٢٩.
21
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن قتيبة: والضلال: الحيرة والعدول عن الحقّ.
فصل: ومن السّنّة في حق قارئ الفاتحة أن يعقبها ب «آمين». قال شيخنا أبو الحسن عليّ بن عبيد الله: وسواء كان خارج الصلاة أو فيها.
(١٢) لما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا قال الامام (غَيْرِ المغْضُوبِ عَليْهم ولا الضَّالين) فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه».
وفي معنى «آمين» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معنى آمين: كذلك يكون. حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس، والحسن. والثاني: أنها بمعنى: اللهم استجب. قاله الحسن والزجاج. والثالث: أنه اسم من أسماء الله تعالى. قاله مجاهد، وهلال بن يساف، وجعفر بن محمد.
وقال ابن قتيبة: معناها: يا أمين أجب دعاءنا، فسقطت يا، كما سقطت في قوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا «١»، تأويله: يا يوسف. ومن طوَّل الألف فقال: آمين، أدخل ألف النداء على ألف أمين، كما يقال: آزيد أَقبل: ومعناه: يا زيد. قال ابن الأنباري: وهذا القول خطأ عند جميع النحويين، لأنه إِذا أدخل «يا» على «آمين» كان منادىً مفرداً، فحكم آخره الرفع، فلما أجمعت العرب على فتح نونه، دل على أنه غير منادى، وإنما فتحت نون «آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما تقول العرب:
ليت، ولعل. قال: وفي «آمين» لغتان: «أمين» بالقصر، و «آمين» بالمد، والنون فيهما مفتوحة. أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي:
سقى الله حياً بين صارة والحمى حمى فيْدَ صوبَ المُدْجِنات المواطر «٢»
أمين وأَدى الله ركباً إليهمُ بخير ووقَّاهم حمام المقادر
صحيح. أخرجه البخاري ٧٨٠- ٧٨١- ٧٨٢- ٦٤٠٢ ومسلم ٤١٠ وأبو داود ٩٣٦ والترمذي ٢٥٠ والنسائي ٢/ ١٤٣- ١٤٤ وابن ماجة ٨٥٢ ومالك ١/ ٨٧ والشافعي في «المسند» ١/ ٧٦ وعبد الرزاق في «المصنّف» ٢٦٤٤ وأحمد ٢/ ٢٣٣، والدارمي ١/ ٢٨٤ وابن حبان ١٨٠٤ والبيهقي في «السنن» ٢/ ٥٧ عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» قال ابن شهاب وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «آمين». لفظ البخاري.
__________
(١) يوسف: ٢٩.
(٢) الدّاجنة: المطرة المطبقة كالدّيمة. والدّجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء، والمطر الكثير.
22
وأَنشدنا أبو العباس أيضاً:
تباعد مني فُطْحُل وابن أمه أَمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وأنشدنا أبو العباس أيضاً:
يا رب لا تسلبنّي حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا
وأَنشدني أَبي:
أمين ومن أعطاك منّي هوادة رمى الله في أطرافه فاقفعلَّت «١»
وأنشدني أبي:
فقلت له قد هجت لي بارح الهوى أصَاب حمام الموت أَهوننا وجدا
أمين وأضناه الهوى فوق ما به أمين ولاقى من تباريحه جهدا
فصل: نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تتعين، وهي رواية عن أحمد «٢».
(١٣) ويدل على الرواية الأولى: ما روي في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
صحيح. أخرجه البخاري ٧٥٦ ومسلم ٣٩٤ وأبو داود ٨٢٢ والنسائي ٢/ ١٣٧ والدارمي ١/ ٢٨٣ وابن ماجة ٨٣٧ وابن الجارود ١٨٥ والحميدي ٣٨٦ والشافعي ١/ ٧٥ وأحمد ٥/ ٣١٤- ٣٢١ وابن حبّان ١٧٨٢ و ١٧٨٦ كلهم من حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». ورواية لمسلم «لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن». وانظر «تفسير القرطبي» ١/ ١٥٤- ١٥٧ بتخريجي.
__________
(١) في «القاموس» اقفعلّت يداه اقفعلالا: تشنجت وتقبّضت.
(٢) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١/ ١٥٧- ١٦٠.: واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فقال مالك وأصحابه: هي متعيّنة للإمام والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز منداد البصري المالكي: لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه. واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية فقال مرة: يعيد الصلاة، وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو، قال ابن عبد البر: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا. وقال أبو الحسن البصري: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن وهي تامة لقوله عليه السلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» وهذا قد قرأ بها. قلت: ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة وهو الصحيح على ما يأتي. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك.
وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: أقلّه ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدّين. والصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» وقوله: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» ثلاثا.
وقال أبو هريرة: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أنادي أنه: «لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد» أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها.
23
Icon