تفسير سورة القارعة

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(١٠١) سورة القارعة مكيّة وآياتها إحدى عشرة
[سورة القارعة (١٠١) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)
اللغة:
(الْقارِعَةُ) القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها وفي المختار: «وقرع من باب قطع والقارعة الشديدة من شدائد الدهر وهي الداهية» وفي المصباح: «قرعت الباب قرعا بمعنى طرقته ونقرت عليه».
(الفراش) في القاموس: «والفراشة التي تهافت في السراج والجمع فراش ومن القفل ما ينشب فيه وكل عظم رقيق والماء القليل والرجل الخفيف وقرية بين بغداد والحلّة وموضع بالبادية وعلم ودرب
562
فراشة محله ببغداد والفراش كسحاب: ما يبس بعد الماء من الطين على الأرض ومن النبيذ الحبب الذي يبقى عليه وعرقان أخضران تحت اللسان والحديدتان يربط بهما العذران في اللجام وبالكسر ما يفرش والجمع فرش وزوجة الرجل قيل ومنه وفرش مرفوعة وعش الطائر وموقع اللسان في قعر الفم» وقد خلط صاحب المنجد فمزج الفراشة والفراش في مادة واحدة وجعل من معاني الفراش الرجل الخفيف وإنما هو فراشة، وسيأتي المزيد من معنى هذا التشبيه في باب البلاغة.
(الْمَبْثُوثِ) المتفرق المنتشر يقال قد بسط فلان خيره وبثّه وبقّه إذا وسعه قال:
وبسط الخير لنا وبقّه فالناس طرا يأكلون رزقه
(العهن) الصوف الأحمر واحدها عهنه.
(الْمَنْفُوشِ) اسم مفعول من النفش وهو- كما في القاموس- تشعيث الشيء بأصابعك حتى ينتشر كالتنفيش، والنفش بالتحريك الصوف، وعبارة ابن خالويه: «يقال: نفشت الصوف والقطن وسبّخته إذا نفشته وخففته كما يفعل النادف، ويقال: لقطع القطن وما يتساقط عند الندف السبيخة وجمعها سبائخ ويقال: سبخ الله عنك الحمّى أي خففها وسلها عنك ومن ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى عائشة تدعو على سارق سرقها فقال: لا تسبّخي عنه بدعائك عليه».
الإعراب:
(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) تقدم إعرابها في الحاقة ما الحاقة (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) تقدم إعرابها في ما أدراك ما الحاقة، فجدد بها عهدا (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الظرف نصب بمضمر دلّت عليه القارعة
563
أي تقرع القلوب بأهوالها يوم القيامة، ولا يجوز أن يكون معلقا بالقارعة الأول للفصل بينهما بالخبر ولا بالثاني والثالث لعدم التئام الظرف معهما من حيث المعنى وجملة يكون في محل جر بإضافة الظرف إليها والناس اسم يكون وكالفراش خبرها والمبثوث نعت للفراش ويجوز أن تكون يكون تامة فيكون الناس فاعلا وكالفراش حال من فاعل يكون التامة أي يوجدون ويحشرون حال كونهم كالفراش (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) عطف على الآية السابقة مماثلة لها في إعرابها (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) الفاء تفريعية وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة ثقلت موازينه صلة لمن لا محل لها والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وهو مبتدأ ثان وفي عيشة خبره وراضية صفة والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول وهو من، وسيأتي معنى راضية في باب البلاغة (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) عطف على الجملة السابقة وأمه مبتدأ وهاوية خبر أمه والجملة خبر من (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) الواو عاطفة وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبر والكاف مفعول به أول وما اسم استفهام مبتدأ وهي خبر والهاء للسكت وجملة ما هيه المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني. والهاوية اسم من أسماء جهنم وهي المهواة التي لا يدرك قعرها ولا يسبر غورها، وقال قتادة: هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال هوت أمه وقيل أراد أم رأسه يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم وعبارة الزمخشري: «فأمه هاوية، من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا قال:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يردّ الليل حين يئوب»
والبيت لكعب في مرثية أخيه، وهوت أمه دعاء لا يراد به الوقوع
564
بل التعجب وما اسم استفهام مبتدأ وما بعده خبر والمعنى أي شيء يبعثه الصبح منه وأي شيء يردّه الليل ولا بدّ من تقدير منه التجريدية يعني أنه كان يغدو في طلب الغارة ويرجع في الليل ظافرا وما في الموضعين من الاستفهام معناه التعجب والاستعظام وإسناد الفعل للصبح والليل مجاز (نارٌ حامِيَةٌ) نار خبر لمبتدأ محذوف أي هي وحامية نعت. هذا ويكثر حذف المبتدأ في جواب الاستفهام وبعد فاء الجواب وبعد القول.
البلاغة:
١- في قوله «القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة» فن التكرير والمراد به تهويل شأنها وتفخيم لفظاعتها، وقد تقدم بحثه كثيرا.
٢- وفي قوله «يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش» تشبيهان رائعان وهو تشبيه مرسل مجمل لأن وجه الشبه حذف ففي الأول وجوه الشبه كثيرة منها:
١- الطيش الذي لحقهم ٢- وانتشارهم في الأرض ٣- وركوب بعضهم بعضا ٤- الكثرة التي لا غناء فيها ٥- والضعف والتذلل وإجابة الداعي من كل جهة ٦- والتطاير إلى النار للاحتراق من حيث لا تريد الاحتراق.
أما تشبيه الجبال بالعهن المنفوش فهو أيضا تشبيه مرسل مجمل، وأوجه الشبه كثيرة أيضا منها:
١- تفتتها وانهيارها ٢- وصيرورتها كالعهن ٣- ثم صيرورتها كالهباء. وقد تشبث الشعراء بهذه المعاني فقال جرير يهجو الفرزدق:
565
أبلغ بني وقبان أن حلومهم خفّت فما يزنون حبة خردل
أزرى بحلمكم الفياش فأنتم مثل الفراش غشين نار المصطلي
وقال أبو العلاء المعرّي في رثاء والده:
فيا ليت شعري هل يخف وقاره إذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الرويّ مبادرا مع الناس أم يأبى الزحام فيستأني
وأولها:
نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن فلا جادني إلا عبوس من الدّجن
وليت فمي إن شاء سنى تبسمي فم الطعنة النجلاء تدمى بلا سن
٣- وفي قوله «فهو في عيشة راضية» مجاز مرسل لأن الذي يرضى بها الذي يعيش فيها فهو مجاز مرسل علاقته المحلية وقيل راضية بمعنى مرضية، وأول من ألّف في مجازات القرآن في أواخر القرن الثاني الهجري أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه «مجاز القرآن» وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب وهو يقدّم لكتابه بمقدمة في بحوث لغوية عامة في القرآن يبدؤها ببحث كلمة قرآن وله رأي خاص في اشتقاق هذه الكلمة ينقله عنه المتأخرون وهو قوله: «إنما سمي قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها وتفسير ذلك آية في القرآن قال الله جلّ ثناؤه: إن علينا جمعه وقرآنه» ويستشهد عليه من كلام العرب ويدلف بعد ذلك إلى نص القرآن وما يتضمنه من فنون الكلام منبّها إلى أن القرآن يشابه في نظمه كلام العرب فيقول: «وفي القرآن مثل ما في كلام العرب من وجوه الإعراب والمعاني» ويذكر تلك الوجوه مع أمثلة لها ويتعرض لها بالتفصيل منبّها وبصدد الآية قال «ومن مجاز ما يقع المفعول إلى الفاعل قال: كالذي ينعق بما لا يسمع المعنى على الشاة المنعوق بها وحول على الراعي الذي ينعق بالشاة وقال: كالنهار مبصرا له مجازان أحدهما أن العرب وضعوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل والمعنى أنه
566
مفعول لأنه ظرف يفعل فيه غيره ولأن النهار لا يبصر ولكنه يبصر فيه الذي ينظر وفي القرآن: في عيشة راضية وإنما يرضى بها الذي يعيش فيها» وخلاصة القول في كتاب المجاز أنه كان خطوة في سبيل الكلام في طرق القول أو المجاز بمعناه العام وقد حاول أن يكشف عن بعض ما جاء من ذلك في أسلوب القرآن مع مقارنته بما جاء في الأدب العربي وساعد عليه محصوله الغزير فيه.
567
Icon