ﰡ
(مدنية وقيل مكية حروفها تسعة وتسعون كلمها تسع وعشرون آياتها ثلاث)
[سورة النصر (١١٠) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣)الوقوف:
وَالْفَتْحُ هـ أَفْواجاً هـ لا وَاسْتَغْفِرْهُ ط تَوَّاباً هـ.
التفسير:
السورة المتقدمة اشتملت على نصرة الله بقوله يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: ١] وعلى فتح مكة القلب بعسكر التوحيد، وعلى تسخير جميع القوى البدنية في طاعة خالقها بقوّة البراءة عن الأديان الباطلة كلها فقال الله سبحانه: نصرتني بلسانك فكان جزاؤه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ فتح مكة في الظاهر وسخرت قواك لطاعتي فجازيناك بدخول الناس في دين الله أفواجا. ثم إنه قابل هذه الخلع الثلاث بحكم تهادوا تحابوا بثلاثة أنواع من العبودية إن نصرتك فسبح تنزيها لفعلي عن مشابهة المحدثات وتنبيها على أن لا يستحق أحد عليّ شيء، وإذا فتحت مكة فاحمد لأن النعمة يجب مقابلتها بالحمد، وإذا رأيت الناس قد أطاعوك فاستغفر لذنبك وهو الاشتغال بما عسى أن يقع من لذة الجاه والقبول وللمؤمنين والمؤمنات، لأنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر وكان احتياجهم إلى الاستغفار أشد. وقوله إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ معناه لا تذهب إلى النصر بل النصر يجيء إليك نظيره
«زويت لي الأرض»
يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك، ولا ترحل إلا إلى مقام قاب قوسين سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: ١] بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا، فإذا بقي الفقراء من غير مطية أسوق الجنة إليهم وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: ٣١] وإنما قال في السورة المتقدّمة ما أَعْبُدُ [الكافرون: ٣] وهاهنا قال نَصْرُ اللَّهِ إشارة إلى أنه يجب أن لا يذكر اسمي مع الأعداء حتى لا يهينوه ولكن اذكر اسمي مع الأحباب حتى يكرموه. والفرق بين النصر والفتح أن النصر أي الإعانة على تحصيل المطلوب هو الطريق،
٧٣] وكان رسول الله ﷺ أبدا منصورا بالدلائل والمعجزات إلا أن الغلبة على قريش بل على أكثر العرب لما حصلت في هذا التاريخ صح التقييد به. ثم إن جمهور المفسرين ومنهم ابن عباس ذكروا أن الفتح هو فتح مكة الذي يقال له فتح الفتوح. يروى أن فتح مكة كان سنة ثمان ونزول السورة سنة عشر ولم يعش رسول الله ﷺ بعد نزولها إلا سبعين يوما ولذلك تسمى سورة التوديع، وقد اتفق أكثر الصحابة على أنها دلت على نعي الرسول ﷺ وفهمه بعض الصحابة منها،
وخطب رسول الله ﷺ بعد نزولها فقال: إن عبدا خيرّه الله بين الدنيا وبين لقائه في الآخرة فاختار لقاء الله.
قالوا: ومما يدل عليه أنه ذكر مقرونا بالنصرة وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم. أما يوم فتح مكة فاجتمع له الأمران، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم وذلك
أنه ﷺ وقف على باب المسجد وقال: لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خير، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
فسموا بذلك. وقيل: فتح خيبر. وقيل: فتح الطائف. وعن أبي مسلم: النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق. وقيل:
انشراح الصدر للخيرات والأعمال الفاضلة، والفتح انفتاح أبواب المعارف والكشوف. أما الذين قالوا إن الفتح فتح مكة وكان نزول السورة قبله على ما يدل عليه ظاهر صيغة إذا فالآية من جملة المعجزات لأنها إخبار بالغيب وقد وقع. واللام في الفتح بدل من الإضافة كأنه قيل: وفتح الله. قوله وَرَأَيْتَ ظاهره أنها رؤية القلب، وجوز أن تكون رؤية البصر فيكون يَدْخُلُونَ حالا. وظاهر لفظ الناس يقتضي العموم فيجب أن يقدر غيرهم كالنسناس بدليل قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ [الأعراف: ١٧٩]
وسئل الحسن بن عليّ فقال: نحن الناس وأشياعنا أشباه الناس وأعداؤنا النسناس، فقبّله عليّ بين عينيه وقال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤]
قيل: إنهم لما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير فكيف استحقوا المدح بأنهم الناس؟ وأجيب بأنه إشارة إلى سعة رحمة الله فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية سبعين سنة فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره قبل إيمانه كأن الرب تعالى يقول: ربيته سبعين سنة فإن مات على كفره وقع في النار وضاع إحساني إليه في سبعين سنة.
ويروى أن الملائكة تقول لمثل هذا الإنسان: أتيت وإن كنت قد أبيت.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم
ويجوز أن يكون المراد بالناس أهل اليمن على ما
روي عن أبي هريرة انه لما نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر جاء نصر الله والفتح.
وجاء «أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم»
الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية» «٢»
وقال «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «٣»
قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين: إن إيمان المقلد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه. ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدلائل ولا صفات الكمال ونعوت الجلال، وكونه سبحانه متصفا بها منزها عن غيرها ولا ثبوت المعجز التام على يد محمد ﷺ ولا وجه دلالة المعجزة على النبوة. وعن الحسن: لما فتح رسول الله ﷺ مكة قالت العرب: لا يدي لنا به فقد ظفر بأهل مكة وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وكل من أرادهم بسوء فأخذوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال. ولا شك أن هذا القدر مما يفيد غلبة الظن فقط. والفوج الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين.
وروي أن جابر بن عبد الله بكى ذات يوم فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا.
ثم إنه أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار فكأنه ﷺ ضاق قلبه عن تأخير النصر كما قال وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: ٢١٤] فأمر بالتسبيح تنزيها لله عما لا يليق بكماله وحكمته وعنايته بخلقه، وأمر أن يكون التسبيح مقرونا بالحمد لأن المقام يستدعي تذكير النعمة وهي الفتح والنصر ودخول الناس في الدين من غير متاعب الجهاد ومؤن القتال، ثم أمر بالاستغفار كفارة لما عسى أن يبدو ويدور في الخلد من ملاحظة حاله بعين الكمال، وكما أن التسبيح المقرون بالحمد نظر من الحق إلى الخلق فالاستغفار عكسه وهو التفات عن الخلق إلى الحق. وإنما قهمت الصحابة من السورة نعي النبي ﷺ لأن كل كمال فإنه يدل على زوال كما قيل:
إذا تم أمر يدا نقصه | توقع زوالا إذا قيل تم |
(٣) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٥٤١).
روت عائشة أن رسول الله ﷺ بعد نزول هذه السورة كان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك.
وفي رواية: كان يكثر أن يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي.
وفي رواية أخرى كان نبي الله ﷺ في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده. فقلت: يا رسول الله إنك تكثر من قول «سبحان الله وبحمده» قال: إني أمرت بها وقرأ السورة.
وعن ابن مسعود أنه لما نزلت هذه السورة كان ﷺ يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم.
وفي الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله وأنذره الشيب أقبل على التوبة والاستغفار وتدارك بعض ما فات في أوان الغفلة والاغترار وفي معنى الباء في قوله بِحَمْدِ رَبِّكَ وجوه للمفسرين منها: أن المراد قل سبحان الله والحمد لله تعجبا مما أراك من مقصودك. يقال: شربت اللبن بالعسل أي خلطتهما فشربت المخلوط. ومنها أن الباء للآلة أي سبحه بواسطة تحميده لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص، والدليل عليه أنه ﷺ عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلا الحمد لله الذي نصر عبده. ومنها أن المراد فسبح متلبسا بالحمدلة لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظا فاجمعهما نية. وقيل: سبحه مقرونا بحمد الله على ما هداك إلى تسبيحه كما
روي أنه ﷺ كان يقول: الحمد لله على الحمد لله.
وقيل:
الباء للبدل أي ائت بالتسبيح بدل الحمد الواجب عليك في مقابلة نعمة النصر والفتح لأن الحمد لا حصر له وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤] وقيل: فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لله أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر لوجوب الإتيان بكل منهما على الفور كما لو ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب وجب أن يقول اخترت الشفعة بردّي ذلك المبيع. وقيل: الباء صلة أي طهر محامد ربك عن النقائص والرياء. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن التربية هي الموجبة للحمد، أما الاستغفار فإن كان لأجل الأمة فلا إشكال، وإن كان لأجل نفسه فإما للاقتداء وإما لترك الأولى والأفضل، وإما بالنظر إلى المرتبة المتجاوز عنها فإن السالك يلزمه عند الارتقاء في كل درجة يصل إليها أن يستغفر عما يخلفها. وفي قوله تَوَّاباً دون أن يقول «غفارا كما في سورة نوح إشارة إلى أن هذا النبي ﷺ بل هذه الأمة امتثلوا فاستغفروا وتابوا فوجب على فضل الله قبول توبتهم بخلاف قوم نوح.