تفسير سورة لقمان

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة لقمان
أخرج ابن الضريس وإبن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أنزلت سورة لقمان بمكة ولا استثناء في هذه الرواية وفي رواية النحاس في تاريخه عنه استثناء ثلاث آيات منها وهي ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) إلى تمام الثلاث فإنها نزلن بالمدينة وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود : بلغنا أنك تقول :( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أعنيتنا أم قومك قال : كلا عنيت فقالوا : إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء فقال عليه الصلاة والسلام : ذلك في علم الله تعالى قليل فأنزل الآيات ونقل الداني عن عطاء وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا : هي مكية إلا آيتين هما ( ولو أن ما في الأرض ) إلى آخر الآيتين وقيل : هي مكية إلا آية وهي قوله تعالى :( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ) فإن إيجابهما بالمدينة وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلا يتم التقريب فيها نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة وقيل : إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما وآيها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل :( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة وأنه كان في آخر ما قبلها ( ولئن جئتهم بآية ) وفيها ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا ) وقال الجلال السيوطي : ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح بألم إن قوله تعالى :( هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ) متعلق بقوله تعالى : فيما قبل :( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق وذكر في السابقة ( في روضة يحبرون ) وقد فسر بالسماع وذكر هنا ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك وأقول في الاتصال أيضا : إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى :( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) وهنا قوله سبحانه :( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عز قائلا :( إن الله سميع بصير ) وذكر سبحانه هناك قوله تعالى :( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ) وقال عز وجل هنا :( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك وما ألطف هذا الاتصال من حيث أن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك على كثير من الأقوال حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها أوصى ابنه بما يأبى المحاربة ويقتضي الصبر والمسالمة وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى.

وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك، وأقول في الاتصال أيضا: إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: ٢٧] وهنا قوله سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: ٢٨] وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عزّ وجلّ قائلا: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وذكر سبحانه هناك قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم: ٣٣] وقال عزّ وجلّ هنا: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: ٣٢] فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك.
وما ألطف هذا الاتصال من حيث إن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك على كثير من الأقوال حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها أوصى ابنه بما يأبى المحاربة ويقتضي الصبر والمسالمة وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة، ووصف الكتاب بذلك عند بعض المغاربة مجاز لأن الوصف بذلك للتملك وهو لا يملك الحكمة بل يشتمل عليها ويتضمنها فلأجل ذلك وصف بالحكيم بمعنى ذي الحكمة، واستظهر الطيبي أنه على ذلك من الاستعارة المكنية. والحق أنه من باب عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١] على حد لابن وتامر.
نعم يجوز أن يكون هناك استعارة بالكناية أي الناطق بالحكمة كالحي، ويجوز أن يكون الحكيم من صفاته عزّ وجلّ ووصف الكتاب به من باب الإسناد المجازي فإنه منه سبحانه بدا، وقد يوصف الشيء بصفة مبدئه كما في قول الأعشى:
65
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها
وأن يكون الأصل الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف إلى الضمير المجرور وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا ثم استسكن في الصفة المشبهة وأن يكون الْحَكِيمِ فعيلا بمعنى مفعل كما قالوا: عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وهذا قليل، وقيل: هو بمعنى حاكم، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في الكلام على نظيرها هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحالية من آياتُ والعامل فيهما معنى الإشارة على ما ذكره غير واحد وبحث فيه.
وقرأ حمزة، والأعمش، والزعفراني، وطلحة، وقنبل من طريق أبي الفضل الواسطي، ونظيف بالرفع على الخبر بعد الخبر- لتلك- على مذهب الجمهور أو الخبر لمحذوف أي هي أو هو هدى ورحمة عظيمة لِلْمُحْسِنِينَ أي العاملين الحسنات، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة للمتعاطفين، وقوله تعالى:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إما مجرور على أنه صفة كاشفة أو بدل أو بيان لما قبله، وإما منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل فهو تفسير للمحسنين على طريقة قول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
فقد حكي عن الأصمعي أنه سأل عن الألمعي فأنشده ولم يزد عليه، وهذا ظاهر على تقدير أن يراد بالحسنات مشاهيرها المعهودة في الدين، وأما على تقدير أن يراد بها جميع ما يحسن من الأعمال فلا يظهر إلا باعتبار جعل المذكورات بمنزلة الجميع من باب «كل الصيد في جوف الفرا»، وقيل: إذا أريد بالحسنات المذكورات يكون الموصول صفة كاشفة وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ استئنافا، وإذا أريد بها جميع ما يحسن من الأعمال وكان تخصيص المذكورات بالذكر لفضل اعتداد بها يكون الموصول مبتدأ وجملة أُولئِكَ عَلى هُدىً إلخ خبره والكلام استئناف بذكر الصفة الموجبة للاستئهال.
وقيل: إن الموصول على التقديرين صفة إلا أنه على التقدير الأول كاشفة وعلى التقدير الثاني صفة مادحة للوصف لا للموصوف، وبناء يُوقِنُونَ على هُمْ للتقوى، وأعيد الضمير للتأكيد ولدفع توهم كون بِالْآخِرَةِ خبرا وجبرا للفصل بين المبتدأ وخبره ولم يؤخر الفاصل للفاصلة.
وذكر بعض أجلة المفسرين في قوله تعالى أول سورة البقرة: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إن بناء يُوقِنُونَ على هُمْ يدل على أن مقابليهم ليسوا من اليقين في ظل ولا فيء وأن تقديم «في الآخرة» يدل على أن ما عليه مقابلوهم ليس من الآخرة في شيء وذلك لإفادة تقديم الفاعل المعنوي وتقديم الجار على متعلقه الاختصاص فانظر هل يتسنى نحو ذلك هنا، وقد مر أول سورة البقرة ما يعلم منه وجه اختيار اسم الإشارة ووجه تكراره، وفي الآية كلام بعد لا يخفى على من راجع ما ذكروه من الكلام على ما يشبهها هناك وتأمل فراجع وتأمل.
وَمِنَ النَّاسِ أي بعض من الناس أو بعض الناس مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي الذي أو فريق يشتري على أن مناط الإفادة والمقصود بالأصالة هو اتصافهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونهم ذوات أولئك المذكورين، والجملة عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: من الناس هاد مهدي ومنهم ضال مضل أو عطف قصة على قصة، وقيل: إنها حال من فاعل الإشارة أي أشير الى آيات الكتاب حال كونها هدى ورحمة والحال من الناس من يشتري إلخ، ولَهْوَ الْحَدِيثِ على ما روي عن الحسن كل ما شغلك عن عبادة الله تعالى وذكره من السمر والأضاحيك والخرافات والغناء ونحوها، والإضافة بمعنى من أن أريد بالحديث المنكر كما
في حديث «الحديث في
66
المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»
بناء على أنها بيانية وتبعيضية أن أريد به ما هو أعم منه بناء على مذهب بعض النحاة كابن كيسان، والسيرافي قالوا: إضافة ما هو جزء من المضاف إليه بمعنى من التبعيضية كما يدل عليه وقوع الفصل بها في كلامهم، والذي عليه أكثر المتأخرين وذهب إليه ابن السراج، والفارسي وهو الأصح أنها على معنى اللام كما فصله أبو حيان في شرح التسهيل وذكره شارح اللمع.
وعن الضحاك أن لَهْوَ الْحَدِيثِ الشرك، وقيل: السحر، وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الصهباء قال سألت عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: هو والله الغناء وبه وفسر كثير، والأحسن تفسيره بما يعم كل ذلك كما ذكرناه عن الحسن، وهو الذي يقتضيه ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال: لَهْوَ الْحَدِيثِ هو الغناء، وأشباهه، وعلى جميع ذلك يكون الاشتراء استعارة لاختياره على القرآن واستبداله به، وأخرج ابن عساكر عن مكحول في قوله تعالى: مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال الجواري الضاربات.
وأخرج آدم، وابن جرير، والبيهقي في سننه عن مجاهد أنه قال فيه: هو اشتراؤه المغني والمغنية والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل، وفي رواية ذكرها البيهقي في السنن عن ابن مسعود أنه قال: في الآية هو رجل يشتري جارية تغنيه ليلا أو نهارا واشتهر أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، ففي رواية جويبر عن ابن عباس أنه اشترى قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه ويقول: خذ أخير مما يدعوك إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه فنزلت.
وفي أسباب النزول للواحدي عن الكلبي، ومقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم وفي بعض الروايات كتب الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا عليه الصلاة والسلام يحدثكم بحديث عاد، وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم، وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت، وقيل: إنها نزلت في ابن خطل اشترى جارية تغني بالسب، ولا يأبى نزولها فيمن ذكر الجمع في قوله تعالى بعد: أُولئِكَ لَهُمْ كما لا يخفى على الفطن، والاشتراء على أكثر هذه الروايات على حقيقته ويحتاج في بعضها إلى عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى على من دقق النظر، وجعل المغنية ونحوها نفس لهو الحديث مبالغة كما جعل النِّساءِ في قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ [آل عمران:
١٤] نفس الزينة.
وفي البحر إن أريد بلهو الحديث ما يقع عليه الشراء كالجواري المغنيات وككتب الأعاجم فالاشتراء حقيقة ويكون الكلام على حذف مضاف أي من يشتري ذات لهو الحديث.
وقال الخفاجي: عليه الرحمة لا حاجة إلى تقدير ذات لأنه لما اشتريت المغنية لغنائها فكأن المشتري هو الغناء نفسه فتدبره، وفي الآية عند الأكثرين ذم للغناء بأعلى صوت وقد تضافرت الآثار وكلمات كثير من العلماء الأخيار على ذمه مطلقا لا في مقام دون مقام، فأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي، في شعبه عن ابن مسعود قال: إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه شيطان فقال: تغنه فإن كان لا يحسن قال: تمنه، وأخرجا أيضا عن الشعبي قال: عن القاسم بن محمد أنه سأل عن الغناء فقال للسائل: أنهاك عنه وأكرهه لك فقال السائل: أحراء هو؟ قال: انظر يا ابن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء، وأخرجا عنه أيضا أنه قال: «لعن الله تعالى المغني والمغني له»،
67
وفي السنن عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»
، وأخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا ورواه عن أبي هريرة، والديلمي عنه وعن أنس وضعفه ابن القطان، وقال النووي لا يصح، وقال العراقي: رفعه غير صحيح لأن في إسناده من لم يسم وفيه إشارة إلى أن وقفه على ابن مسعود صحيح وهو في حكم المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الرأي.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك»
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا، وقال الضحاك: الغناء منفدة للمال مسخطة للرب مفسدة للقلب،
وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ إلى آخر الآية»
وفي رواية ابن أبي الدنيا، وابن مردويه عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
ويعود هذا ونحوه إلى ذم الغناء.
وقيل: الغناء جاسوس القلب وسارق المروءة والعقول يتغلغل في سويداء القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى بيت التخييل فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار العلم كلامه حكمة وسكوته عبرة فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه وذهبت مروءته وبهاؤه فيستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه ويبدي من أسراره ما كان يكتمه وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهذيان والاهتزاز كأنه جان وربما صفق بيديه ودق الأرض برجليه وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك، واختلف العلماء في حكمه فحكي تحريمه عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه القاضي أبو الطيب، والقرطبي، والماوردي، والقاضي عياض.
وفي التاتار خانية اعلم أن التغني حرام في جميع الأديان، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب، وحكي عن ظهير الدين المرغيناني: أنه قال من قال لمقرىء زماننا أحسنت عند قراءته كفر. وصاحبا الهداية والذخيرة سمياه كبيرة. هذا في التغني للناس في غير الأعياد والأعراس ويدخل فيه تغني صوفية زماننا في المساجد والدعوات بالأشعار والأذكار مع اختلاط أهل الأهواء والمراد بل هذا أشد من كل تغني لأنه مع اعتقاد العبادة وأما التغني وحده بالأشعار لدفع الوحشة أو في الأعياد والأعراس فاختلفوا فيه والصواب منعه مطلقا في هذا الزمان انتهى.
وفي الدر المختار التغني لنفسه لدفع الوحشة لا بأس به (١) عند العامة على ما في العناية وصححه العيني (٢)
(١) قوله لا بأس به إلخ لما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة وكان يتغنى وأجيب بأنه يجوز أن يكون معنى يتغنى ينشد الأشعار أي المباحة اهـ منه.
(٢) قوله وصححه العيني وإليه ذهب شمس الأئمة السرخسي اهـ منه.
68
وغيره. قال ولو فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقا ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدف فيه ومنهم من أباحه مطلقا ومنهم من كرهه مطلقا انتهى. وفي البحر والمذهب حرمته مطلقا فانقطع الاختلاف بل ظاهر الهداية أنه كبيرة ولو لنفسه وأقره المصنف وقال: ولا تقبل شهادة من يسمع الغناء أو يجلس مجلسه انتهى كلام الدر.
وذكر الإمام أبو بكر الطرسوسي في كتابه في تحريم السماع أن الإمام أبا حنيفة يكره الغناء ويجعله من الذنوب وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي، وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا بين أهل البصرة في كراهة ذلك والمنع منه انتهى وكأن مراده بالكراهة الحرمة، والمتقدمون كثيرا ما يريدون بالمكروه الحرام كما في قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء: ٣٨] ونقل عليه الرحمة فيه أيضا عن الإمام مالك انه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بالعيب وإنه سئل ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق؟ ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع وغيره، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب البلغة أن أكثر أصحابهم على التحريم وعن عبد الله ابن الإمام أحمد انه قال: سألت أبي عن الغناء فقال ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق، وقال المحاسبي في رسالة الإنشاء الغناء حرام كالميتة، ونقل الطرسوسي أيضا عن كتاب أدب القضاء أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته، وفيه أنه صرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب، والطبري، والشيخ أبي إسحاق في التنبيه وذكر بعض تلامذة البغوي في كتابه الذي سماه التقريب أن الغناء حرام فعله وسماعه، وقال ابن الصلاح في فتاواه بعد كلام طويل: فإذن هذا السماع حرام بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين انتهى. والذي رأيته في الشرح الكبير للجامع الصغير للفاضل المناوي أن مذهب الشافعي أنه مكروه تنزيها عند أمن الفتنة، وفي المنهاج يكره الغناء بلا آلة قال العلامة ابن حجر لما صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وذكر الحديث السابق الموقوف عليه وإنه جاء مرفوعا من طرق كثيرة بينها في كتابه كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ثم قال: وزعم أنه لا دلالة فيه على كراهته لأن بعض المباح كلبس الثياب الجميلة ينبت النفاق في القلب وليس بمكروه يرد بأنا لا نسلم أن هذا ينبت نفاقا أصلا، ولئن سلمناه فالنفاق مختلف فالنفاق الذي ينبته الغناء من التخنث وما يترتب عليه أقبح وأشنع كما لا يخفى ثم قال: وقد جزم الشيخان يعني النووي والرافعي في موضع بأنه معصية وينبغي حمله على ما فيه وصف نحو خمر أو تشبب بأمرد أو أجنبية ونحو ذلك مما يحمل غالبا على معصية، قال الأذرعي: أما ما اعتيد عند محاولة عمل وحمل ثقيل كحداء الأعراب لإبلهم والنساء لتسكين صغارهن فلا شك في جوازه بل ربما يندب إذا نشط على سير أو رغب في خير كالحداء في الحج والغزو، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض الصحابة انتهى، وقضية قولهم بلا آلة حرمته مع الآلة، قال الزركشي لكن القياس تحريم الآلة فقط وبقاء الغناء على الكراهة انتهى.
ومثل الاختلاف في الغناء الاختلاف في السماع فأباحه قوم كما أباحوا الغناء واستدلوا على ذلك بما
رواه البخاري عن عائشة قالت: «دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه- وفي رواية لمسلم- تسجى بثوبه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: دعهما فلما غفل غمرتهما فخرجتا وكان يوم عيد» الحديث
ووجه الاستدلال أن هناك غناء أو سماعا وقد أنكر عليه الصلاة والسلام إنكار أبي بكر رضي
69
الله تعالى عنه بل فيه دليل أيضا على جواز سماع الرجل صوت الجارية ولو لم تكن مملوكة لأنه عليه الصلاة والسلام سمع ولم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره وقد استمرتا تغنيان إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج. وإنكار أبي بكر على ابنته رضي الله تعالى عنهما مع علمه بوجود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لظن أن ذلك لم يكن بعلمه عليه الصلاة والسلام لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائما. وفي فتح الباري استدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة.
ويكفي في رد ذلك ما
رواه البخاري أيضا بعيده عن عائشة أيضا قالت: «دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا»
فنفت فيه عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح.
قال القرطبي: قولها «ليستا بمغنيتين» أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منهما تجوز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرقة والله تعالى المستعان انتهى كلام القرطبي، وكذا الغرض من كلام فتح الباري وهو كلام حسن بيد أن قوله:
وإنما يسمى بذلك من ينشد إلخ لا يخلو عن شيء بناء على أن المتبادر عموم ذلك لما يكون في المنشد منه تعريض أو تصريح بالفواحش ولما لا يكون فيه ذلك، وقال بعض الأجلة: ليس في الخبر الإباحة مطلقا بل قصارى ما فيه إباحته في سرور شرعي كما في الأعياد والأعراس فهو دليل لمن أجازه في العرس كما أجاز ضرب الدف فيه، وأيضا إنكار أبي بكر رضي الله تعالى عنه ظاهر في أنه كان سمع من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذم الغناء والنهي عنه فظن عموم الحكم فأنكر، وبإنكاره عليه الصلاة والسلام عليه إنكاره تبين له عدم العموم. وفي الخبر الآخر ما يدل على أنه أوضح له صلى الله تعالى عليه وسلم مقرونا ببيان الحكمة وهو أنه يوم عيد فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس، ومع هذا أشار صلى الله تعالى عليه وسلم بالتفافه بثوبه وتحويل وجهه الشريف إلى أن الإعراض عن ذلك أولى، وسماع صوت الجارية الغير المملوكة بمثل هذا الغناء إذا أمنت الفتنة مما لا بأس به فليكن الخبر دليلا على جوازه.
واستدل بعضهم على ذلك بما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان يتغنى، ولا يخفى ما فيه فإن هذا التغني ليس بالمعنى المشهور، ونحوه التغني في
قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»
وسفيان بن عيينة وأبو عبيدة فسرا التغني في هذا الحديث بالاستغناء فكأنه قيل: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره، وهو مع هذا تغن لإزالة الوحشة عن نفسه في عقر داره، ومثله ما روي عن عبد الله بن عوف قال: أتيت باب عمر رضي الله تعالى عنه فسمعته يغني:
70
فكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطرا منها جميل بن معمر
أراد به جميلا الجمحي وكان خاصا به فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم قال: إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم. وحرم جماعة السماع مطلقا، وقال الغزالي: السماع إما محبوب بأن غلب على السامع حب الله تعالى ولقائه ليستخرج به أحوالا من المكاشفات والملاطفات، وإما مباح بأن كان عنده عشق مباح لحليلته أو لم يغلب عليه حب الله تعالى ولا الهوى، وإما محرم بأن غلب عليه هوى محرم.
وسئل العز بن عبد السلام عن استماع الإنشاد في المحبة والرقص فقال: الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل فلا يصلح إلا للنساء، وأما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به بل يندب عند الفتور وسآمة القلب، ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث فإنه يحرك ما في القلب، وقال أيضا: السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم، وهم أما عارفون بالله تعالى ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخوفات نحو حزن وبكاء وتغير لون، وهو إما خوف عقاب أو فوات ثواب أو أنس وقرب وهو أفضل الخائفين والسامعين وتأثير القرآن فيه أشد، ومن غلب عليه الرجاء أثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات، فإن كان رجاؤه للأنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في المرتبة الثانية، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني، ومن غلب عليه حب الله تعالى لإنعامه فيؤثر فيه سماع الإنعام والإكرام، أو لجماله سبحانه المطلق فيؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات، وهو أفضل مما قبله لأن سبب حبه أفضل الأسباب، ويشتد التأثير فيه عند ذكر الإقصاء والأبعاد، ومن غلب عليه التعظيم والإجلال وهو أفضل من جميع ما قبله، وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه، فالسماع من الولي أشد تأثيرا من السماع من عامي ومن نبي أشد تأثيرا منه ومن ولي، ومن الرب عزّ وجلّ أشد تأثيرا من السماع من نبي لأن كلام المهيب أشد تأثيرا في الهائب من كلام غيره كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرا في المحب من كلام غيره، ولهذا لم يشتغل النبيون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على كلام ربهم جلّ شأنه، ومن يغلب عليه هوى محرم يعشق حليلته فهو يؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فسماعه لا بأس به، ومن يغلب عليه هوى محرم كعشق أمرد أو أجنبية فهو يؤثر فيه السعي إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام، وأما من لم يجد في نفسه شيئا من هذه الأقسام الستة فيكره سماعه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة فربما هيجه السماع إلى صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها، ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة انطووا عليها ويراؤون الحاضرين بأن سماعهم لشيء محبوب، وهؤلاء قد جمعوا بين المعصية وبين إيهام كونهم من الصالحين، وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكرهم المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين جل وعلا وهذا مراء بأمر غير محرم، ثم قال: اعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والأفعال الرضية، ولكل صفة من الصفات حال مختص بها، فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حال الراجين وسمعه سماعهم، ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين وسماعه سماعهم، وعلى هذا القياس، وقد تغلب الأحوال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حاله الأولى عليه انتهى، وقد نقله بعض الأجلة وأقره وفيه ما يخالف ما نقل عن الغزالي.
ونقل القاضي حسين عن الجنيد قدس سره أنه قال: الناس في السماع إما عوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم،
71
وإما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم، وإما عارفون وهو مستحب لهم لحياة قلوبهم، وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي عليه الرحمة في عوارفه، والظاهر أن الجنيد أراد بالحرام معناه الاصطلاحي.
واستظهر بعضهم أنه لم يرد ذلك وإنما أراد أنه لا ينبغي، ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه سئل عن السماع فقال: هو ضلال للمبتدي والمنتهي لا يحتاج إليه، وفيه مخالفة لما سمعت.
وقال القشيري رحمه الله تعالى: إن للسماع شرائط منها معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال وما يمتنع في نعت الحق سبحانه وما يجوز وصفه تعالى به وما يجب وما يصح إطلاقه عليه عز شأنه من الأسماء وما يمتنع، ثم قال: فهذه شرائط صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول، وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع، والسماع فتنة يدعو إليها استيلاء العشق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة، وأطال بما يطول ذكره، قيل: وبه يتبين تحريم السماع على أكثر متصوفة الزمان لعقد شروط القيام بأدائه. ومن العجب أنهم ينسبون السماع والتواجد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
ويروون عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أصحاب الصفة يوما فجلس بينهم، وقال عليه الصلاة والتحية: هل فيكم من ينشدنا أبياتا. فقال واحد:
لسعت حية الهوى كبدي ولا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي فقام عليه الصلاة والسلام وتمايل حتى سقط الرداء الشريف عن منكبيه فأخذه أصحاب الصفة فقسموه فيما بينهم بأربعمائة قطعة
، وهو لعمري كذب صريح وإفك قبيح لا أصل له بإجماع محدثي أهل السنة وما أراه إلا من وضع الزنادقة. فهذا القرآن العظيم يتلوه جبريل عليه السلام صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلوه هو أيضا ويسمعه من غير واحد ولا يعتريه عليه الصلاة والسلام شيء مما ذكروه في سماع بيتين هما كما سمعت سبحانك هذا بهتان عظيم، وأنا أقول: قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والخانات وسائر ما يعد من المحظورات، ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين، ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الاكتراث بالدين، وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم إنهم قبحهم الله تعالى إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون: نعني بالخمر المحبة الإلهية وبالسكر غلبتها وبمية، وليلى، وسعدى مثلا المحبوب الأعظم وهو الله عزّ وجلّ، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: ١٨٠] وفي القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام ليس من أدب السماع أن يشبه غلبة المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء الأدب وكذا تشبيه المحبة بالخمر أم الخبائث فلا يشبه ما أحبه الله تعالى بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته فإن تشبيه النفيس بالخسيس سوء الأدب بلا شك فيه، وكذا التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات، ولقد كره لبعضهم قوله: أنتم روحي ومعلم راحتي ولبعضهم قوله: فأنت السمع والبصر لأنه لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما، ثم إنه وإن أباح بعض أقسام السماع حط على من يرقص ويصفق عنده فقال: أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة برعونة الإناث لا يفعلها إلا أرعن أو متصنع كذاب، وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم»
ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك،
72
وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله تعالى شأنه ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما ادعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين. إحداهما لذة قليل من الأحوال المتعلقة بذي الجلال. والثانية لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات ليست من آثار الدين ولا متعلقة بأموره فلما عظمت عندهم اللذات غلطوا فظنوا أن مجموع ما حصل لهم إنما حصل بسبب حصول ذلك القليل من الأحوال وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين في شيء. وقد حرم بعض العلماء التصفيق
لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما التصفيق للنساء»
ولعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء، ومن هاب الإله أدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدر أن إلا من جاهل، ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء ولا معتبر من أتباعهم وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء، وقد قال تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] ولقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئا من ذلك فما ذاك إلا غرض من أغراض النفس وليس بقربة إلى الرب جلّ وعلا، وفاعله إن كان ممن يقتدى به ويعتقد أنه ما فعله إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات وإنما هو من أقبح الرعونات. وأما الصياح والتغاشي ونحوهما فتصنع ورياء، فإن كان ذلك عن حال لا يقتضيهما فإثم الفاعل من جهتين. إحداهما إيهامه الحال الثابتة الموجبة لهما. والثانية تصنعه ورياؤه، وإن كان عن مقتض أثم إثم رياء لا غير. وكذلك نتف الشعور وضرب الصدور وتمزيق الثياب محرم لما فيه من إضاعة المال، وأي ثمرة لضرب الصدور ونتف الشعور وشق الجيوب إلا رعونات صادرة عن النفوس اهـ كلامه، ومنه يعلم ما في نقل الأسنوي عنه رحمه الله تعالى أنه كان يرقص في السماع، والعلامة ابن حجر قال: يحمل ذلك على مجرد القيام والتحرك لغلبة وجد وشهود وتجل لا يعرفه إلا أهله، ومن ثم قال الإمام إسماعيل الحضرمي: موقف الشمس عن قوم يتحركون في السماع هؤلاء قوم يروحون قلوبهم بالأصوات الحسنة حتى يصيروا روحانيين فهم بالقلوب مع الحق وبالأجساد مع الخلق، ومع هذا فلا يؤمن عليهم العدو ولا يعول عليهم فيما فعلوا ولا يقتدى بهم فيما قالوا اهـ، وما ذكره فيمن يصدر عنه نحو الصياح والتغاشي عن حال يقتضيه لا يخلو عن شيء، فقد قال البلقيني فيما يصدر عنهم من الرقص الذي هو عند جمع ليس بمحرم ولا مكروه لأنه مجرد حركات على استقامة أو اعوجاج ولأنه عليه الصلاة والسلام، أقر الحبشة عليه في مسجده يوم عيد، وعند آخرين مكروه، وعند هذا القائل حرام إذا كثر بحيث أسقط المروءة إن كان باختيارهم فهم كغيرهم وإلا فليسوا بمكلفين، واستوضحه بعض الأجلة وقال: يجب اطراده في سائر ما يحكى عن الصوفية مما يخالف ظواهر الشرع فلا يحتج به لأنه إن صدر عنهم في حال تكليفهم فهم كغيرهم أو مع غيبتهم لم يكونوا مكلفين به، والذي يظهر لي أن غناء الرجل بمثل هذه الألحان إن كان لدفع الوحشة عن نفسه فمباح غير مكروه كما ذهب إليه شمس الأئمة السرخسي لكن بشرط أن لا يسمعه من يخشى عليه الفتنة من امرأة أو غيرها ولا من يستخف به ويسترذله وبشرط أن لا يغير اسم معظم بنحو زيادة ليست فيه في أصل وضعه لأجل أن لا يخرج عن مقتضى الصنعة مثل أن يقول في الله إيلاه وفي محمد موحامد، هذا مع كون ما يتغنى به مما لا بأس بإنشاده وإن كان للناس للهو في غير حادث سرور كعرس بأجرة أو بدونها ازدرى به لذلك أو لم يزدر كان ما يتغنى به مباح الإنشاد أو لم يكن فحرام وإن أمنت الفتنة وأراه من الصغائر كما يقتضيه كلام الماوردي حيث قال: وإذا قلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصغائر دون الكبائر، وإن كان في حادث سرور فهو مباح إن أمنت الفتنة وكان ما يتغنى به جائز الإنشاد ولم يغير فيه اسم معظم ولم يكن سببا للازدراء به وهتك مروءته ولا لاجتماع الرجال والنساء على وجه محظور، وإن كان سببا لمحرم فهو حرام وتتفاوت مراتب حرمته حسب تفاوت حرمة ما كان هو سببا له وإن كان للناس لا للهو بل لتنشيطهم على ذكر الله
73
تعالى كما يفعل في بعض حلق التهليل في بلادنا فمحتمل الإباحة إن لم يتضمن مفسدة ولعله إلى الكراهة أقرب.
وربما يقال: إنه حينئذ قربة كالحداء وهو ما يقال خلف الإبل من زجر وغيره إذا كان منشطا لسير هو قربة لأن وسيلة القربة به اتفاقا فيقال: لم نقف على خبر في اشتمال حلق الذكر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكذا على عهد خلفائه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وهم أحرص الناس على القرب على هذا الغناء ولا على سائر أنواعه وصحت أحاديث في الحداء ولذا أطلق جمع القول بندبه وكونهم نشطين بدون ذلك لا يمنع أن يكون فيهم من يزيده ذلك نشاطا فلو كان لذلك قربة لفعلوه ولو مرة ولم ينقل أنهم فعلوه أصلا، على أنه لا يبعد أن يقال: إنه يشوش على الذاكرين ولا يتم لهم معه معنى الذكر وتصوره وهو بدون ذلك لا ثواب فيه بالإجماع، ولعل ما يفعل على المنائر مما يسمونه تمجيدا منتظم عند الجهلة في سلك وسائل القرب بل يعده أكثرهم قربة من حيث ذاته وهو لعمري عند العالم بمعزل عن ذلك، وإن كان لحاجة مرض تعين شفاؤه به فلا شك في جوازه والإكباب على المباح منه يخرم المروءة كاتخاذه حرفة، وقول الرافعي: لا يخرمها إذا لاق به رده الزركشي بأن الشافعي نص على رد شهادته وجرى عليه أصحابه لأنها حرفة دنية ويعد فاعلها في العرف ممن لا حياء له، وعن الحسن أن رجلا قال له: ما تقول في الغناء؟ قال: نعم الشيء الغناء يوصل به الرحم وينفس به عن المكروب ويفعل فيه المعروف قال: إنما أعني الشد، قال: وما الشد أتعرف منه شيئا؟ قال: نعم قال: فما هو؟ فاندفع الرجل يغني ويلوي شدقيه ومنخريه ويكسر عينيه فقال الحسن: ما كنت أرى أن عاقلا يبلغ من نفسه ما أرى، واختلفوا في تعاطي خارم المروءة على أوجه. ثالثها إن تعلقت به شهادة حرم وإلا فلا.
قال بعض الأجلة: وهو الأوجه لأنه يحرم عليه التسبب في إسقاط ما تحمله وصار أمانة عنده لغيره ويظهر لي أنه إن كان ذلك من عالم يقتدى به أو كان ذلك سببا للازدراء حرم أيضا وإن سماعه أي استماعه لا مجرد سماعه بلا قصد عند أمن الفتنة وكون ما يتغنى به جائز الإنشاد وعدم تسببه لمعصية كاستدامة مغن لغناء آثم به مباح والإكباب عليه كما قال النووي: بسقط المروءة كالإكباب على الغناء المباح، والاختلاف في تعاطي مسقطها قد ذكرناه آنفا وأما سماعه عند عدم أمن الفتنة وكون ما يتغنى به غير جائز الإنشاد وكونه متسببا لمعصية فحرام، وتتفاوت مراتب حرمته ولعلها تصل إلى حرمة كبيرة، ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى وكثير مما يسمعونه من الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة ويزعمون أن أكثرهم رغبة فيه أشدهم رغبة أو رهبة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون.
ولا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم عن القشيري وغيره أن سماعهم مذموم عند من يعتقدون انتصاره لهم ويحسبون أنهم وإياه من حزب واحد فويل لمن شفعاؤه خصماؤه وأحباؤه أعداؤه، وأما رقصهم عليه فقد زادوا به في الطنبور رنة وضموا كسر الله تعالى شوكتهم بذلك إلى السفه جنة. وقد أفاد بعض الأجلة أنه لا تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف الذي قيل يباح أو يسن ضربه لعرس وختان وغيرهما من كل سرور، ومنه قدوم عالم ينفع المسلمين رادا على من زعم القبول فقال: وعن بعضهم تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف لاعتقادهم أن ذلك قربة كما تقبل شهادة حنفي شرب النبيذ لاعتقاده إباحته وكذا كل من فعل ما اعتقد إباحته اهـ، ورد بأنه خطأ قبيح لأن اعتقاد الحنفي نشأ عن تقليد صحيح ولا كذلك غيره وإنما منشؤه الجهل والتقصير فكان خيالا باطلا لا يلتفت إليه اهـ.
ثم إني أقول: لا يبعد أن يكون صاحب حال يحركه السماع ويثير منه ما يلجئه إلى الرقص أو التصفيق أو الصعق والصياح وتمزيق الثياب أو نحو ذلك مما هو مكروه أو حرام فالذي يظهر لي في ذلك أنه إن علم من نفسه
74
صدور ما ذكر كان حكم الاستماع في حقه حكم ما يترتب عليه، وإن تردد فيه فالأحوط في حقه إن لم نقل بالكراهة عدم الاستماع،
ففي الخبر «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
ثم إن ما حصل له شيء من ذلك بمجرد السماع من غير قصد ولم يقدر على دفعه أصلا فلا لوم ولا عتاب فيه عليه، وحكمه في ذلك حكم من اعتراه نحو عطاس وسعال قهريين ولا يشترط في دفع اللوم والعتاب عنه كون ذلك مع غيبته فلا يجب على من صدر منه ذلك إن لم يغب إعادة الوضوء للصلاة مثلا، ولينظر فيما لو اعتراه وهو في الصلاة بدون غيبة هل حكمه حكم نحو العطاس والسعال إذا اعتراه فيها أم لا، والذي سمعته عن بعض الكبار الثاني فتدبر. ومن الناس من يعتريه شيء مما ذكر عند سماع القرآن إما مطلقا أو إذا كان بصوت حسن، وقلما يقع ذلك من سماع القرآن أو غيره لكامل.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه قيل لها: إن قوما إذا سمعوا القرآن صعقوا فقالت: القرآن أكرم من أن يسرق منه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٣] وكثيرا ما يكون لضعف تحمل الوارد، وبعض المتصنعين يفعله رياء، وعن ابن سيرين أنه سئل عمن يسمع القرآن فيصعق فقال: ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره فإن صعقوا فهو كما قالوا، ولا يرد على إباحة الغناء وسماعه في بعض الصور
خبر ابن مسعود «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»
لا لأن الغناء فيه مقصور وأن المراد به غنى المال الذي هو ضد الفقر إذ يرد ذلك أن الخبر روي من وجه آخر بزيادة والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع، ومقابلة الغناء بالذكر ظاهر في المراد به التغني، على أن الرواية كما قال بعض الحفاظ بالمد بل لأن المراد أن الغناء من شأنه أن يترتب عليه النفاق أي العملي بأن يحرك إلى غدر وخلف وعد وكذب ونحوها ولا يلزم من ذلك اطراد الترتب.
وربما يشير إلى ذلك التشبيه في قوله: كما ينبت الماء البقل فإن إنبات الماء البقل غير مطرد، ونظير ذلك في الكلام كثير، والقائل بإباحته في بعض الصور إنما يبيحه حيث لا يترتب عليه ذلك. نعم لا شك أن ما هذا شأنه الأحوط بعد كل قيل وقال عدم الرغبة فيه كذا قيل.
وقيل: يجوز أن يكون أريد بالنفاق الإيماني، ويؤيده مقابلته في بعض الروايات بالإيمان ويكون مساق الخبر للتنفير عن الغناء إذ كان الناس حديثي عهد بجاهلية كان يستعمل فيها الغناء للهو ويجتمع عليه في مجالس الشرب، ووجه انباته للنفاق إذ ذاك أن كثيرا منهم لقرب عهده بلذة الغناء وما يكون عنده من اللهو والشرب وغيره من أنواع الفسق يتحرك قلبه لما كان عليه ويحن حنين العشار إليه ويكره لذلك الإيمان الذي صده عما هنالك ولا يستطيع لقوة شوكة الإسلام أن يظهر ما أضمر وينبذ الإيمان وراء ظهره ويتقدم إلى ما عنه تأخر فلم يسعه إلا النفاق لما اجتمع عليه مخافة الردة والاشتياق فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وأما الآية فإن كان وجه الاستدلال بها تسمية الغناء لهوا فكم لهو هو حلال وإن كان الوعيد على اشترائه واختياره فلا نسلم أن ذلك على مجرد الاشتراء لجواز أن يكون على الاشتراء ليضل عن سبيل الله تعالى ولا شك أن ذلك من الكبائر ولا نزاع لنا فيه وقال ابن عطية: الذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله تعالى: لِيُضِلَّ إلخ اهـ.
ومما ذكرنا يعلم ما في الاستدلال بها على حرمة الملاهي كالرباب والجنك والسنطير والكمنجة والمزمار وغيرها من الآلات المطربة بناء على ما روي عن ابن عباس والحسن أنهما فسرا لَهْوَ الْحَدِيثِ بها نعم أنه يحرم استعمالها واستماعها لغير ما ذكر فقد صح من طرق خلافا لما وهم فيه ابن حزم الضال المضل فقد علقه البخاري ووصله الإسماعيلي، وأحمد، وابن ماجة، وأبو نعيم وأبو داود بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها وصححه جماعة آخرون
75
من الأئمة كما قاله بعض الحفاظ
أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ليكونن في أمتي قوم يستحلون الخز والخمر والمعازف»
وهو صريح في تحريم جميع آلات اللهو المطربة ومما يشبه الصريح في ذلك ما
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي عن أنس، وأحمد، والطبراني عن ابن عباس، وأبي أمامة مرفوعا «ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف»
وهي الملاهي التي سمعتها، ومنها الصنج العجمي وهو صفر يجعل عليه أوتار يضرب بها على ما ذهب إليه غير واحد خلافا للماوردي حيث قال: إن الصنج يكره مع الغناء ولا يكره منفردا لأنه بانفراده غير مطرب، ولعله أراد به العربي وهو قطعتان من صفر تضرب أحدهما بالأخرى فإنه بحسب الظاهر هو الذي لا يطرب منفردا لكن يزيد الغناء طربا، وذكر أنه يستعمله المخنثون في بعض البلاد، ولا يبعد عليه القول بالحرمة، ومنها اليراع وهو الشبابة فإنه مطرب بانفراده بل قال بعض أهل الموسيقى: إنه آلة كاملة جامعة لجميع النغمات إلا يسيرا، وقد أطنب الإمام الدولعي وهو من أجلة العلماء في دلائل تحريمه ومنها القياس وهو إما أولى أو مسار وقال: العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم بزعم أن الشبابة حلال اهـ ومنه يعلم ما في قول التاج السبكي في توشيحه لم يقر عندي دليل على تحريم اليراع مع كثرة التتبع والذي أراه الحل فإن انضم إليه محرم فلكل منهما حكمة، ثم الأولى عندي لمن ليس من أهل الذوق الإعراض عنه مطلقا لأن غاية ما فيه حصول لذة نفسانية وهي ليست من المطالب الشرعية وأما أهل الذوق فحالهم مسلم إليهم وهم على حسب ما يجدونه من أنفسهم اهـ.
وحكي عن العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد أنهما كانا يسمعان ذلك والظاهر أنه كذب لا أصل له وبذلك جزم بعض الأجلة، ولا يبعد حلها إذا صفر فيها كالأطفال والرعاء على غير القانون المعروف من الإطراب.
ومنها العود وهو آلة للهو غير الطنبور وأطلقه بعضهم عليه وحكاية النجس ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان يسمع العود من جملة كذبه وتهوره كدعواه إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء واللهو، ومثله في المجازفة وارتكاب الأباطيل على الجزم ابن حزم لا الدف فيجوز ضربه من رجل وامرأة لا من امرأة فقط خلافا للحليمي واستماعه لعرس ونكاح وكذا غيرهما من كل سرور في الأصح وبحل ذي الجلاجل منه وهي إما نحو حلق يجعل داخله كدف العرب أو صنوج عراض من صفر تجعل في حروف دائرته كدف العجم جزم جماعة وجزم آخرون بحرمته وبها أقول لأنه كما قال الأذرعي أشد إطرابا من أكثر الملاهي المتفق على تحريمها، وبعض المتصوفة ألفوا رسائل في حل الأوتار والمزامير وغيرها من آلات اللهو وأتوا فيها بكذب عجيب على الله تعالى وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضي الله تعالى عنهم والتابعين والعلماء العاملين وقلدهم في ذلك من لعب به الشيطان وهوى به الهوى إلى هوة الحرمان فهو عن الحق بمعزل وبينه وبين حقيقة التصوف ألف ألف منزل، وإذا تحقق لديك قول بعض الكبار بحل شيء من ذلك فلا تغتر به لأنه مخالف لما عليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من الأكابر المؤيد بالأدلة القوية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك ما عدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن رزق عقلا مستقيما وقلبا من الأهواء الفاسدة سليما لا يشك في أن ذلك ليس من الدين وأنه بعيد بمراحل عن مقاصد شريعة سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين واستدل بعض أهل الإباحة على حل الشبابة بما
أخرجه ابن حبان في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع صوت زمارة راع فجعل إصبعيه في أذنيه وعدل عن الطريق وجعل يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فلما قلت: لا رجع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعله، وأخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن نافع أيضا،
76
وسأل عنه الحافظ محمد بن نصر السلامي فقال: إنه حديث صحيح، ووجه الاستدلال به أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر ابن عمر وكان عمره إذ ذاك كما قال الحافظ المذكور سبع عشرة سنة بسد أذنيه ولا نهى الفاعل فلو كان ذلك حراما لأمر ونهى عليه الصلاة والسلام، وسد أذنيه صلى الله تعالى عليه وسلم يحتمل أن يكون لكونه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك في حال ذكر أو فكر وكان السماع يشغله عليه الصلاة والسلام والتحية ويحتمل أن يكون إنما فعله صلّى الله عليه وسلم تنزيها وقال الأذرعي: بهذا الحديث استدل أصحابنا على تحريم المزامير وعليه بنوا التحريم في الشبابة اهـ.
والحق عندي أنه ليس نصا في حرمتها لأن سد الأذنين عند السماع من باب فعله صلّى الله عليه وسلم وليس مما وضح فيه أمر الجبلة ولأثبت تخصيصه به عليه الصلاة والسلام ولا مما وضح أنه بيان لنص علم جهته من الوجوب والندب والإباحة فإن كان مما علمت صفته فلا يخلو من أن تكون الوجوب أو الندب أو الإباحة لا جائز أن تكون الوجوب المستلزم لحرمة سماع اليراع إذ لا قائل بأنه يجب على أحد سد الأذنين عند سماع محرم إذ يأمن الإثم بعدم القصد فقد قالوا:
إن الحرام الاستماع لا مجرد السماع بلا قصد، وفي الزواجر الممنوع هو الاستماع لا السماع لا عن قصد اتفاقا، ومن ثم صرح أصحابنا- يعني الشافعية- أن من بجواره آلات محرمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزمه النقلة ولا يأثم بسماعها لا عن قصد وإصغاء اهـ، والظاهر أن الأمر كذلك عند سائر الأئمة، نعم لهم تفصيل في القعود في مكان فيه نحو ذلك، قال في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار: دعي إلى وليمة وثمة لعب وغناء قعد وأكل ولو على المائدة لا ينبغي أن يقعد بل يخرج معرضا لقوله تعالى: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: ٦٨] فإن قدر على المنع فعل وإلا يقدر صبر إن لم يكن ممن يقتدى به فإن كان مقتدى به ولم يقدر على المنع خرج ولا يقعد لأن فيه شين الدين، والمحكي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كان قبل أن يصير مقتدى به، وإن علم أولا لا يحضر أصلا سواء كان ممن يقتدى به أولا اهـ فتعين كونها الندب أو الإباحة وكلا الأمرين لا يستلزمان الحرمة فيحتمل أن يكون ذلك حراما أو مكروها يندب سد الأذنين عند سماعه احتياطا من أن يدعو إلى الاستماع المحرم أو المكروه، وإن كان مما لم تعلم صفته فقد قالوا فيما كان كذلك المذاهب فيه بالنسبة إلى الأمة خمسة الوجوب والندب والإباحة والوقف والتفصيل وهو أنه إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويعلم مما ذكرنا الحال على كل مذهب والذي يغلب على الظن أن ما أشار إليه الخبر إن كان الزمر بزمارة الراعي على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات كما يفعله من جعل ذلك صنعته اليوم فاستماعه حرام وسد الأذنين المشار إليه فيه لعله كان منه عليه الصلاة والسلام تعليما للأمة أحد طرق الاحتياط المعلوم حاله لئلا يجرهم ذلك إلى الاستماع وإلا فالاستماع لمكان العصمة مما لا يتصور في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن عرف قدر الصحابة واطلع على سبيلهم وحرصهم على التأسي به عليه الصلاة والسلام لم يشك في أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه سد أذنيه أيضا تأسيا ويكون حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام الذي يشير إليه الخبر له رضي الله تعالى عنه أتسمع على معنى تسمع (١) أتسمع وإنما أسقط تسمع لدلالة الحال عليه إذ من سد أذنيه لا يسمع، وإنما أذن له صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك لموضع الحاجة وهذا أقرب من احتمال كون سد الأذنين منه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان في حال ذكر أو فكر وكان يشغله صلى الله تعالى عليه وسلم عند السماع.
وأما عدم نهيه عليه الصلاة والسلام من كان يرمز عن الزمر والإنكار عليه فلا يسلم دلالته على الجواز فإنه يجوز
(١) قوله على معنى تسمع هي بشد الميم في خط المؤلف اهـ.
77
أن يكون الصوت جاء من بعيد وبين الزامر وبينه عليه الصلاة والسلام ما يمنع من الوصول إليه أو لم يعرف عينه صلّى الله عليه وسلم لأن الصوت قد جاء من وراء حجاب ولا تتحقق القدرة معه على الإنكار، ويجوز أيضا أن يكون التحريم معلوما من قبل وعلم من النبي صلّى الله عليه وسلم الإصرار عليه وأن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله فيكون ذلك كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم، وفي مثل ذلك لا يدل السكوت وعدم الإنكار على الجواز إجماعا، ومن قال بأن الكافر غير مكلف بالفروع قال: يجوز أن يكون ذلك الزامر كافرا وأن السكوت في حقه ليس دليل الجواز وإن كان الزمر بها لا على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات فلا بعبد في أن يقال بالجواز والإباحة فعلا واستماعا، وسد الأذنين عليه لغاية التنزه اللائق به عليه الصلاة والسلام، وقول الأذرعي في الجواب إن قوله في الخبر: زمارة راع لا يعين أنها الشبابة فإن الرعاة يضربون بالشعيبية وغيرها يوهم أن ما يسمى شعيبية مباح مفروغ منه وفيه نظر فإنها عبارة عن عدة قصبات صغار ولها اطراب بحسب حذق متعاطيها فهي شبابة أو مزمار لا محالة، وفي إباحة ذلك كلام، وبعد هذا كله نقول:
إن الخبر المذكور رواه أبو داود وقال: إنه منكر وعليه لا حجة فيه للطرفين وكفى الله تعالى المؤمنين القتال، ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو استماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة فلو كان الأمر كما زعموا لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويأمروا اتباعهم به، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء، وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولو كان استعمال الملاهي المطربات او استماعها من الدين ومما يقرب إلى حضرة رب العالمين لبينه صلّى الله عليه وسلم وأوضحه كمال الإيضاح لأمته،
وقد قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه»
وما ذكر داخل في الشق الثاني كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل مستقيم فتأمل وأنصف وإياك من الاعتراض قبل أن تراجع تعرف، ولنا عودة إن شاء الله تعالى للكلام في هذا المطلب يسر الله تعالى ذلك لنا بحرمة حبيبه الأعظم صلّى الله عليه وسلم.
واستدل بعضهم بالآية على القول بأن لهو الحديث الكتب التي اشتراها النضر بن الحارث على حرمة مطالعة كتب تواريخ الفرس القديمة وسماع ما فيها وقراءته، وفيه بحث، ولا يخفى أن فيها من الكذب ما فيها فالاشتغال بها لغير غرض ديني خوض في الباطل، وعده ابن نجيم في رسالته في بيان المعاصي من الصغائر ومثل له بذكر تنعم الملوك والأغنياء فافهم هذا، ومن الغريب البعيد وفيه جعل الاشتراء بمعنى البيع ما ذهب إليه صاحب التحرير قال:
يظهر لي أنه أراد سبحانه بلهو الحديث ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم والأمر بالدوام عليه وتغيير صفة الرسول عليه الصلاة والسلام وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق عليه السلام يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان وأطلق اسم الاشتراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم، وقال: يؤيده قوله تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو كما ترى، والمراد بسبيله تعالى دينه عزّ وجلّ أو قراءة كتابه سبحانه أو ما يعمهما، واللام في لِيُضِلَّ للتعليل. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو «ليضل» بفتح الياء، والمراد ليثبت على ضلاله ويزيد فيه فإن المخبر عنه ضال قبل: واللام للعاقبة وكونها على أصلها كما قيل بعيد، وجوز الزمخشري أن يكون قد وضع «ليضل» على هذه القراءة موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة فدل بالرديف وهو الضلال على المردوف وهو الإضلال، ووجه الدلالة أنه أريد بالضلال المضاعف في شأن من جانب سبيل الله تعالى وتركه رأسا وهذا الضلال لا ينفك عن الإضلال وبالعكس، وبه يندفع نظر صاحب الفرائد بأن الضلال لا يلزمه إلا ضلال، وفيه توافق القراءتين وبقاء اللام على حقيقتها، وهي على الوجهين متعلقة بقوله سبحانه: يَشْتَرِي وقوله عزّ وجلّ: بِغَيْرِ عِلْمٍ يجوز أن يكون
78
متعلقا به أيضا أي يشتري ذلك بغير علم بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق، ويجوز أن يكون متعلقا بيضل أي ليضل عن سبيله تعالى جاهلا أنها سبيله عزّ وجلّ أو جاهلا أنه يضل أو جاهلا الحق وَيَتَّخِذَها بالنصب عطفا على «يضل» والضمير للسبيل فإنه مما يذكر ويؤنث، وجوز أن يكون للآيات، وقيل:
يجوز أن يكون للأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث وهو كما ترى هُزُواً أي مهزوءا به. وقرأ جمع من السبعة يَتَّخِذَها بالرفع عطفا على يَشْتَرِي وجوز أن يكون على إضمار هو أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لما اتصفوا به من اهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه وترغيب الناس فيه والجزاء من جنس العمل، وأُولئِكَ إشارة إلى مِنَ وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الشرارة، والجمع في اسم الإشارة والضمير باعتبار معناها كما أن الأفراد في الفعلين باعتبار لفظها، وكذا في قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ ففي الآية مراعاة اللفظ ثم مراعاة المعنى ثم مراعاة اللفظ ونظيرها في ذلك قوله تعالى في سورة [الطلاق: ٢] وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ الآية، قال أبو حيان:
ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين، وقال الخفاجي: ليس كذلك فإن لها نظائر أي وإذا تتلى على المشتري المذكور آياتُنا الجليلة الشأن وَلَّى أعرض عنها غير معتد بها مُسْتَكْبِراً مبالغا في التكبر فالاستفعال بمعنى التفعل كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال من ضمير وَلَّى أو من ضمير مُسْتَكْبِراً أي مشابها حاله في أعراضه تكبرا أو في تكبره حال من لم يسمعها وهو سامع، وفيه رمز إلى أن من سمعها لا يتصور منه التولية والاستكبار لما فيها من الأمور الموجبة للإقبال عليها والخضوع لها على طريقة قول الخنساء:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
وكَأَنْ المخففة ملغاة لا حاجة إلى تقدير ضمير شأن فيها وبعضهم يقدره كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي صمما مانعا من السماع، وأصل معنى الوقر الجمل الثقيل استعير للصمم ثم غلب حتى صار حقيقة فيه. والجملة حال من ضمير لم يسمعها أو هي بدل منها بدل كل من كل أو بيان لها ويجوز أن تكون حالا من أحد السابقين، ويجوز أن تكون كلتا الجملتين مستأنفتين والمراد من الجملة الثانية الترقي في الذم وتثقيل كَأَنْ في الثانية كأنه لمناسبته للثقل في معناه، وقرأ نافع «في أذنيه» بسكون الذال تخفيفا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي أعلمه أن العذاب المفرط في الإيلام لاحق به لا محالة، وذكر البشارة للتهكم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لحال المؤمنين بآياته تعالى إثر بيان حال الكافرين بها أي أن الذين آمنوا بآياته تعالى وعملوا بموجبها لَهُمْ بمقابلة ما ذكر من إيمانهم وعملهم جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي النعيم الكثير وإضافة الجنات إليه باعتبار اشتمالها عليه نظير قولك: كتب الفقه.
وفي هذا إشارة إلى أن لهم نعيمها بطريق برهاني فهو أبلغ من لهم نعيم الجنات إذ لا يستدعي ذلك على أن تكون نفس الجنات ملكا لهم فقد يتنعم بالشيء غير مالكه، وقيل: في وجه الأبلغية إنه لجعل النعيم فيه أصلا ميزت به الجنات فيفيد كثرة النعيم وشهرته، وأيا ما كان فجنات النعيم هي الجنات المعروفة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال: جنات النعيم بين جنات الفردوس وبين جنات عدن وفيها جوار خلقن من ورد الجنة قيل: ومن يسكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمتي راقبوني والذين انثنت أصلابهم في خشيتي
، والله تعالى أعلم بصحة الخبر، والجملة خبر أن، قيل: والأحسن أن يجعل لَهُمْ هو الخبر لأن وجَنَّاتُ النَّعِيمِ مرتفعا به على الفاعلية، وقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها حال من الضمير المجرور أو المستتر
79
في لَهُمْ بناء على أنه خبر مقدم أو من جَنَّاتُ بناء على أنه فاعل الظرف لاعتماده بوقوعه خبرا والعامل ما تعلق به اللام.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «خالدون» بالواو وهو بتقدير هو وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه أي لما هو كنفسه وهي الجملة الصريحة في معناه أعني قوله تعالى: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ فإنه صريح في الوعد.
وقوله تعالى: حَقًّا مصدر مؤكد لتلك الجملة أيضا إلا أنه يعد مؤكدا لغيره إذ ليس كل وعد حقا في نفسه.
وجوز أن يكون مؤكدا لوعد الله المؤكد، وأن يكون مؤكدا لتلك الجملة معدودا من المؤكد لنفسه بناء على دلالتها على التحقيق والثبات من أوجه عدة وهو بعيد. وفي الكشف لا يصح ذلك لأن الأخبار المؤكدة لا تخرج عن احتمال البطلان فتأمل وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء ليمنع من انجاز وعده وتحقيق وعيده الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، ويفهم هذا الحصر من الفحوى، والجملة تذييل لحقية وعده تعالى المخصوص بمن ذكر المؤمي إلى الوعيد لأضدادهم خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ إلخ استئناف جيء به للاستشهاد بما فصل فيه على عزته عزّ وجلّ التي هي كمال القدرة وحكمته التي هي كمال العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال أمر الإشراك وتبكيت أهله، والعمد جمع عماد كأهب جمع أهاب وهو ما يعمد به أي يسند يقال عمدت الحائط إذا دعمته أي خلقها بغير دعائم على أن الجمع لتعدد السماوات، وقوله تعالى: تَرَوْنَها استئناف في جواب سؤال تقديره ما الدليل على ذلك؟ فهو مسوق لإثبات كونها بلا عمد لأنها لو كانت لها عمد رؤية فالجملة لا محل لها من الاعراب والضمير المنصوب للسماوات والرؤية بصرية لا علمية حتى يلزم حذف أحد مفعوليها، وجوز أن يكون صفة لعمد فالضمير لها أي خلقها بغير عمد مرئية على التقييد للرمز الى أنه تعالى عمدها بعمد لا ترى وهي عمد القدرة، وروي ذلك عن مجاهد وكون عمادها في كل عصر الإنسان الكامل في ذلك العصر ولذا إذا انقطع الإنسان الكامل وذلك عند انقطاع النوع الإنساني تطوى السماوات كطي السجل للكتب كلام لا عماد له من كتاب أو سنة فيما نعلم وفرق كل ذي علم عليم وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ بيان لصنعه تعالى البديع في قرار الأرض إثر بيان صنعه عزّ وجلّ الحكيم في قرار السماوات أي ألقى فيها جبالا شوامخ أو ثوابت كراهة أَنْ تَمِيدَ أو لئلا تميد أي تضطرب بِكُمْ لو لم يلق سبحانه وتعالى فيها رواسي لما أن الحكمة اقتضت خلقها على حال لو خلت معه عن الجبال لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة لأكثرها والرياح العواصف التي تقتضي الحكمة هبوبها أو بنحو ذلك، وقد يعد منه حركة ثقيل عليها، وقد ذكر بعض الفلاسفة أنه يلزم بناء على كرية الأرض ووجوب انطباق مركز ثقلها على مركز العالم حركتها مع ما فيها من الجبال بسبب حركة ثقيلة من جانب منها إلى آخر لتغير مركز الثقل حينئذ إلا أنه لم يظهر ذلك لكون الأثقال المتحركة عليها كلا شيء بالنسبة إليها مع ما فيها، ولعل من يعد حركة الثقيل عليها من أسباب الميد لو خلت من الجبال يقول: لا يبعد حركة ثقيل عليها كماء جرى من من مكان إلى آخر فاجتمع حتى صار بحرا عظيما مع ما ينضم إلى ذلك مما تنقله الأهوية من الرمال الكثيرة والتراب يكون له مقدار يعتد به بالنسبة إلى الأرض خالية من الجبال فتتحرك بحركته إلى خلاف جهته، ثم إن الميد لولا الرواسي بنحو المياه والرياح متصور على تقدير كون الأرض كرية كما ذهب إلى الغزالي وكذا ذهب إليه كرية السماء، وجاء في رواية عن ابن عباس ما يقتضيه وإليه ذهب أكثر الفلاسفة مستدلين عليه بما في التذكرة وشروحها وغير ذلك وهو الذي يشهد له الحس والحدس، وعلى تقدير كونها غير كروية كما ذهب إليه من ذهب واختلفوا في شكلها عليه وتفصيل ذلك
80
يطلب من محله، ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة إلقاء الرواسي فيها بسلامتها عن الميد فإن لذلك حكما لا تحصى.
وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس، ووراءه مذاهب أظهر بطلانا منه. نعم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك كثيرة وَبَثَّ فِيها أي أوجد وأظهر، وأصل البث الإثارة والتفريق ومنه فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: ٦] وكَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤] وفي تأخيره إشارة إلى توقفه على إزالة الميد مِنْ كُلِّ دابَّةٍ من كل نوع من أنواعها وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر والمراد بالسماء جهة العلو، وجوز تفسيرها بالمظلة وكون الإنزال منها بضرب من التأويل، وترك التأويل لا ينبغي أن يعول عليه إلا إذا وجد من الأدلة ما يضطرنا إليه لأن ذلك خلاف المشاهد فَأَنْبَتْنا فِيها أي بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف كَرِيمٍ أي شريف كثير المنفعة، والالتفات إلى ضمير العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بهما لتكررهما مع ما فيهما من استقامة حال الحيوان وعمارة الأرض ما لا يخفى.
هذا أي ما ذكر من السماوات والأرض وسائر الأمور المعدودة خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي أي أعلموني وأخبروني، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم ذلك فأروني ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة حتى استحقوا به العبودية، وماذا يجوز أن يكون اسما واحدا استفهاميا ويكون مفعولا لخلق مقدما لصدارته وأن يكون ما وحدها اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبرها وتكون الجملة معلقا عنها سادة مسد المفعول الثاني لأروني، وأن يكون ماذا كله اسما موصولا فقد استعمل كذلك على قلة على ما قال أبو حيان ويكون مفعولا ثانيا له والعائد محذوف في الوجهين وقوله تعالى:
بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إضراب عن تبكيتهم بما ذكر إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة لإستحالة أن يفهموا منها شيئا فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه ومتعدون عن الحد وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد.
81
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل..
ولقمان اسم اعجمي لا عربي مشتق من اللقم وهو على ما قيل: ابن باعوراء قال وهب: وكان ابن أخت أيوب عليه الصلاة والسلام، وقال مقاتل: كان ابن خالته، وقال عبد الرحمن السهيلي: هو ابن عنقا بن سرون، وقيل: كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال: ألا أكتفي إذا كفيت، وقيل: كان قاضيا في بني إسرائيل، ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال: وكان زمانه بين محمد، وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وقال عكرمة، والشعبي كان نبيا، والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام ولم يكن نبيا. واختلف فيه أكان حرا أو عبدا والأكثرون على أنه كان عبدا. واختلفوا فقيل:
كان حبشيا، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وأخرج ذلك ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا
، وذكر مجاهد في وصفه أنه كان غليظ الشفتين مصفح القدمين، وقيل: كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس وابن المسيب، ومجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال:
كان قصيرا أفطس من النوبة، وأخرج هو، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه قال: إن لقمان كان أسود من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال فقال خالد بن الربيع: كان نجارا بالراء وفي معاني الزجاج كان نجادا بالدال وهو على وزن كتان من يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه كان خياطا وهو أعم من النجاد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان راعيا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة ولا وثوق لي بشيء من هذه الأخبار وإنما نقلتها تأسيا بمن نقلها من المفسرين الأخيار عن أني أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ولم يكن نبيا.
والْحِكْمَةَ على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس العقل والفهم والفطنة. وأخرج الفريابي، وأحمد في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنها العقل والفقه والإصابة في القول، وقال الراغب: هي معرفة الموجودات وفعل الخيرات وقال الإمام: هي عبارة عن توفيق العمل بالعلم ثم قال: وإن أردنا تحديدا بما يدخل فيه حكمة الله تعالى فنقول: حصول العمل على وفق المعلوم وقال أبو حيان: هي المنطق الذي يتعظ به ويتنبه ويتناقله الناس لذلك، وقيل:
82
إتقان الشيء علما وعملا وقيل: كمال حاصل باستكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها وفسرها كثير من الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية. ولهم تفسيرات أخر وما لها وما عليها من الجرح والتعديل مذكوران في كتبهم ومن حكمته
قوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا، وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عزّ وجلّ حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية وقوله: ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع وقوله: يا بني إياك والدّين فإنه ذلّ النهار وهم الليل وقوله يا بني ارج الله عزّ وجلّ رجاء لا يجزيك على معصيته تعالى وخف الله سبحانه خوفا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه، وقوله: من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم، وقوله: يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمر من الفقر، يا بني لا ترسل رسولك جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك، يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا، يا بني لا تأكل شبعا على شبع فإن القاءك إياه للكلب خير من أن تأكله، يا بني لا تكن حلوا فتبلع ولا مرا فتلفظ، وقوله لابنه:
لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء، وقوله: لا خير في أن تتعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى، وقوله: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره، وقوله: لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء، وقوله: يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بد لك منه، يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، وقوله: يا بني امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك
إلى غير ذلك مما لا يحصى أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي أي أشكر على أن أَنِ تفسيرية وما بعدها تفسير لإيتاء الحكمة وفيه معنى القول دون حروفه سواء كان بإلهام أو وحي أو تعليم.
وجوز أن يكون تفسيرا للحكمة باعتبار ما تضمنه الأمر، وجعل الزجاج أَنِ مصدرية بتقدير اللام التعليلية ولا يفوت معنى الأمر كما مرّ تحقيقه.
وحكى سيبويه كتبت إليه بأن قم، والجار متعلق بآياتنا، وجوز كونها مصدرية بلا تقدير على أن المصدر بدل اشتمال من الحكمة، وهو بعيد وَمَنْ يَشْكُرْ إلخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للامتثال بالأمر أي ومن يشكر له تعالى فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه من ارتباط القيد واستجلاب المزيد والفوز بجنة الخلود مقصورة عليها وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن كل شيء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر حَمِيدٌ حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد أو محمود بالفعل ينطق بحمده تعالى جميع المخلوقات بلسان الحال، فحميد فعيل بمعنى محمود على الوجهين، وعدم التعرض لكونه سبحانه وتعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد رأس الشكر لم يشكر الله تعالى بعد لم يحمده»
فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا، وفي اختيار صيغة المضي في هذا الشق قيل: إشارة إلى قبح الكفران وأنه لا ينبغي إلا أن يعد في خبر كان، وقيل:
إشارة إلى أنه كثير متحقق بخلاف الشكر وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣] وجواب الشرط محذوف قام مقامه قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ إلخ، وكان الأصل ومن كفر فإنما يكفر على نفسه لأن الله غني حميد، وحاصله ومن
83
كفر فضرر كفره عائد عليه لأنه تعالى غني لا يحتاج إلى الشكر ليتضرر سبحانه بالكفر محمود بحسب الاستحقاق أو بنطق ألسنة الحال فكلا الوصفين متعلقات بالشق الثاني، وجوز أن يكون غَنِيٌّ تعليلا لقوله سبحانه: فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وقوله عزّ وجلّ: حَمِيدٌ تعليلا للجواب المقدر للشرط بقرينة مقابله وهو فإنما يكفر على نفسه، وأن يكون كل منهما متعلقا بكل منهما، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف الذي لم يدع إليه ولم تقم عليه قرينة فتدبر.
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ تاران على ما قال الطبري، والقتيبي، وقيل: ما ثان بالمثلثة، وقيل: أنعم، وقيل: أشكم وهما بوزن أفعل، وقيل: مشكم بالميم بدل الهمزة، وَإِذْ معمول لا ذكر محذوفا، وقيل: يحتمل أن يكون ظرفا لآتينا والتقدير وآتيناه الحكمة إذا قال واختصر لدلالة المقدم عليه، وقوله تعالى: وَهُوَ يَعِظُهُ جملة حالية، والوعظ- كما قال الراغب- زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل، هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يا بُنَيَّ تصغير اشفاق ومحبة لا تصغير تحقير:
ولكن إذا ما حب شيء تولعت به أحرف التصغير من شدة الوجد
وقال آخر:
ما قلت حبيبي من التحقير بل يعذب اسم الشيء بالتصغير
وقرأ البزي هنا «يا بنيّ» بالسكون وفيما بعد «يا بني إنها» بكسر الياء ويا بُنَيَّ أَقِمِ [لقمان: ١٧] بفتحها، وقنبل بالسكون في الأولى والثالثة والكسر في الوسطى، وحفص، والمفضل عن عاصم بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا والاجتزاء بالفتحة عن الألف، وقرأ باقي السبعة بالكسر فيها لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل: كان ابنه كافرا ولذا نهاه عن الشرك فلم يزل يعظه حتى أسلم، وكذا قيل في امرأته.
وأخرج ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين عن الفضل الرقاشي قال: ما زال لقمان يعظ ابنه حتى مات.
وأخرج عن حفص بن عمر الكندي قال: وضع لقمان جرابا من خردل وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظتها جبلا لتفطر فتفطر ابنه، وقيل: كان مسلما والنهي عن الشرك تحذير له عن صدوره منه في المستقبل، والظاهر أن الباء متعلق بما عنده، ومن وقف على لا تُشْرِكْ جعل الباء للقسم أي أقسم بالله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والظاهر أن هذا من كلام لقمان ويقتضيه كلام مسلم في صحيحه، والكلام تعليل للنهي أو الانتهاء عن الشرك، وقيل: هو خير من الله تعالى شأنه منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى، وكون الشرك ظلما لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه وكونه عظيما لما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه سبحانه ومن لا نعمة له.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلخ كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيه من النهي عن الإشراك فهو من كلام الله عزّ وجلّ لم يقله سبحانه للقمان، وقيل: هو من كلامه تعالى قاله جلّ وعلا له وكأنه قيل: قلنا له أشكر وقلنا له وصينا الإنسان إلخ، وفي البحر لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه كان ذلك حثا على طاعة الله تعالى ثم بين أن الطاعة أيضا تكون للأبوين وبين السبب في ذلك فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه أخبر الله تعالى عنه بذلك، وكلا القولين كما ترى، والمعنى وأمرنا الإنسان برعاية والديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً أي ضعفا عَلى وَهْنٍ أي ضعف، والمصدر حال من أُمُّهُ بتقدير مضاف أي ذات وهن وجوز جعله نفسه حالا مبالغة لكنه مخالف للقياس إذ القياس في الحال كونه مشتقا، ويجوز أن يكون مفعولا لا مطلقا لفعل مقدر أي تهن وهنا، والجملة حال من أُمُّهُ أيضا.
84
وأيا ما كان فالمراد تضعف ضعفا متزايدا بازدياد ثقل الحمل إلى مدة الطلق، وقيل: ضعفا متتابعا وهو ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف النفاس، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في حَمَلَتْهُ العائد على الْإِنْسانَ وهو الذي يقتضيه ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: وَهْناً الولد عَلى وَهْنٍ الوالدة وضعفها، والمراد أنها حملته حال كونه ضعيفا على ضعيف مثله، وليس المراد أنها حملته حال كونه متزايد الضعف ليقال أن ضعفه لا يتزايد بل ينقص. وقرأ عيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية وَهْناً عَلى وَهْنٍ بفتح الهاء فيهما فاحتمل أن يكون من باب تحريك العين إذا كانت حرف حلق كالشعر والشعر على القياس المطرد عند الكوفي كما ذهب إليه ابن جني، وأن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن بفتحها فإن مصدره جاء كذلك وهذا كما يقال تعب يتعب تعبا كما قيل، وكلام صاحب القاموس ظاهر في عدم اختصاص أحد المصدرين بأحد الفعلين قال:
الوهن الضعف في العمل ويحرك والفعل كوعد وورث وكرم.
وَفِصالُهُ أي فطامه وترك إرضاعه. وقرأ الحسن، وأبو رجاء وقتادة، والجحدري، ويعقوب «وفصله» وهو أعم من الفصال، والفصال هاهنا أوقع من الفصل لأنه موقع يختص بالرضاع وإن رجعنا إلى أصل واحد على ما قاله الطيبي فِي عامَيْنِ أي في انقضاء عامين أي في أول زمان انقضائهما، وظاهر الآية أن مدة الرضاع عامان وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي، والإمام أحمد، وأبو يوسف، ومحمد، وهو مختار الطحاوي. وروي عن مالك، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: ١٥]، ووجه الاستدلال به أنه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال: أجلت الدين الذي لي على فلان والدين الذي لي على فلان سنة فإنه يفهم أن السنة بكمالها لكل، أو على شخص بأن قال لفلان على ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة فصدقه المقر له في الأجل فإذا مضت السنة يتم أجلهما جميعا إلا أنه قام النقص في أحدهما أعني مدة الحمل لقول عائشة الذي لا يقال مثله إلّا سماعا: الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل فتبقى مدة الفصال على ظاهرها، وما ذكر هنا أقل مدته وفيه بحث أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تفسير لوصينا كما اختاره النحاس فإن تفسيرية، وجوز أن تكون مصدرية بتقدير لام التعليل قبلها وهو متعلق بوصينا وبلا تقدير على أن يكون المصدر بدلا من- والديه- بدل الاشتمال، وعليه كأنه قيل: وصينا الإنسان بوالديه بشكرهما وذكر شكر الله تعالى لأن صحة شكرهما تتوقف على شكره عزّ وجلّ كما قيل في عكسه لا يشكر الله تعالى من لا يشكر الناس ولذا قرن بينهما في الوصية، وفي هذا من البعد ما فيه، وأما القول بأن الأمر يأبى التفسير والتعليل والبدلية فليس بشيء كما أشرنا إليه قريبا، وعلى الأوجه الثلاثة يكون قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ- إلى- عامَيْنِ اعتراضا مؤكدا للتوصية في حق الأم خصوصا لذكر ما قاسته في تربيته وحمله، ولذا
قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في حديث صحيح رواه الترمذي، وأبو داود عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لمن سأله عمن يبره: أمك وأجابه عن سؤاله به ثلاث مرات،
وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه:
أحمل أمي وهي الحمالة. ترضعني الدرة والعلالة
ولا يجازي والد فعاله ولله تعالى در من قال:
85
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي... لها من جراها أنة
وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة... فمن غصص لها الفؤاد
يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها... وما حجرها إلا لديك
سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها... ومن ثديها شرب لديك
نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها... حنوا وإشفاقا وأنت
صغير فآها لذي عقل ويتبع الهوى... وآها لأعمى القلب وهو
بصير فدونك فارغب في عميم دعائها... فأنت لما تدعو به لفقير
واختلف في المراد بالشكر المأمور به فقيل هو الطاعة وفعل ما يرضي كالصلاة والصيام بالنسبة إليه تعالى وكالصلة والبر بالنسبة إلى الوالدين، وعن سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه في أدبارها فقد شكرهما ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر إِلَيَّ الْمَصِيرُ تعليل لوجوب الامتثال بالأمر أي إلى الرجوع لا إلى غيري فأجازيك على ما صدر عنك مما يخالف أمري.
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ أي باستحقاقه الإشراك أو بشركته له تعالى في استحقاق العبادة، والجار متعلق بقوله تعالى: عِلْمٌ وما مفعول تُشْرِكَ كما اختاره ابن الحاجب ثم قال: ولو جعل تُشْرِكَ بمعنى الذي يمعنى تكفر وجعلت ما نكرة أو بمعنى كفرا أو الكفر وتكون نصبا على المصدرية لكان وجها حسنا، والكلام عليه أيضا بتقدير مضاف أي وأن جاهدك الوالدان على أن تكفر بي كفرا ليس لك أو الكفر الذي ليس لك بصحته أو بحقيته علم فَلا تُطِعْهُما في ذلك والمراد استمرار نفي العلم لا نفي استمراره فلا يكون الإشراك إلا تقليدا. وفي الكشاف أراد سبحانه بنفي العلم نفي ما يشرك أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد عزّ وجلّ الأصنام كقوله سبحانه ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: ٤٢] وجعله الطيبي على ذلك من باب نفي الشيء بنفي لازمه وذلك ان العلم تابع للمعلوم فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجودا، ونقل عن ابن المنير أنه عليه من باب:
على لاحب لا يهتدى بمناره أي ما ليس باله فيكون لك علم بإلهيته وفي الكشف أن الزمخشري أراد أنه بولغ في نفي الشريك حتى جعل كلا شيء ثم بولغ حتى ما لا يصح أن يتعلق به علم والمعدوم يصح أن يعلم ويصح أن يقال إنه شيء فادخل في سلك المجهول مطلقا وليس من قبيل نفي العلم لنفي وجوده وهذا تقرير حسن وفيه مبالغة عظيمة منه يظهر ترجيح هذا المسلك في هذا المقام على أسلوب:
ولا ترى الضب بها ينجحر اهـ فافهم ولا تغفل وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم والمروءة كإطعامهما واكسائهما وعدم جفائهما وانتهارهما وعيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا، وذكر فِي الدُّنْيا لتهوين أمر الصحبة والإشارة إلى أنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء فلا يضر تحمل مشقتها لقلة أيامها وسرعة انصرامها وقيل للإشارة إلى أن الرفق بهما في الأمور الدنيوية دون الدينية.
وقيل: ذكره لمقابلته بقوله تعالى: «ثم إليّ مرجعكم» وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ أي رجع إِلَيَّ بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، وحاصله اتبع سبيل المخلصين لا سبيلهما ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعك ورجوعهما وزاد
86
بعضهما من أناب وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان ففيه تغليب للخطاب على الغيبة فَأُنَبِّئُكُمْ عند رجوعكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازي كلّا منكم بما صدر عنه من الخير والشر، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص أخرج أبو يعلى، والطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت في هذه الآية وَإِنْ جاهَداكَ الآية كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت: يا سعد وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه قلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني هذا لشيء فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا الشيء فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت فنزلت هذه الآية، وذكر بعضهم أن هذه وما قبلها أعني قوله تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ الآية نزلتا فيه قيل ولكون النزول فيه قيل: من أناب بتوحيد الضمير حيث أريد بذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإن إسلام سعد كان بسب إسلامه.
وأخرج الواحدي عن عطاء عن ابن عباس قال إنه يريد بمن أناب أبو بكر وذلك أنه حين أسلم رآه عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وعثمان وطلحة والزبير فقالوا لأبي بكر آمنت وصدقت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فقال أبو بكر: نعم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فآمنوا وصدقوا فأنزل الله تعالى يقول لسعد: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وابن جريج يقول كما أخرج عنه ابن المنذر من أناب محمد عليه الصلاة والسلام، وغير واحد يقول هو صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، والظاهر هو العموم.
يا بُنَيَّ إلخ رجوع إلى القصة بذكر بقية ما أريد حكايته من وصايا لقمان أثر تقرير ما في مطلعه من النهي عن الشرك وتأكيده بالاعتراض إِنَّها أي الخصلة من الإساءة والإحسان لفهمها من السياق. وقيل: وهو كما ترى إنها أي التي سألت عنها، فقد روي أن لقمان سأله ابنه أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر أيعلمها الله تعالى فقال يا بني إنها أي التي سألت عنها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي إن تكن مثلا في الصغر كحبة الخردل والمثقال ما يقدر به غيره لتساوي ثقلهما وهو في العرف معلوم.
وقرأ نافع، والأعرج، وأبو جعفر «مثقال» بالرفع على أن الضمير للقصة وتَكُ مضارع كان التامة والتأنيث لإضافة الفاعل إلى المؤنث كما في قول الأعشى:
لأمك حق لو علمت كبير كثيرك يا هذا لديه يسير
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
أو لتأويله بالزنة أو الحسنة والسيئة فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أي فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر والقماءة في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي، وقيل: في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو أعلاه كمحدب السماوات أو أسفله كمقعر الأرض، ولا يخفى أنه لا دلالة في النظم على تخصيص المحدب والمقعر ولعل المقام يقتضيه إذ المقصود المبالغة.
وفي قوله تعالى: فِي السَّماواتِ لا يأبى ذلك لأنها ذكرت بحسب المكانية أو للمشاكلة أو هي بمعنى على، وعبر بها للدلالة على التمكن ومع هذا الظاهر ما تقدم، وفي البحر أنه بدأ بما يتعقله السامع أولا وهو كينونة الشيء في صخرة وهو ما صلب من الحجر وعسر الإخراج منه ثم أتبعه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض، وقيل: إن خفاء الشيء وصعوبة نيله بطرق بغاية صغره ويبعده عن الرائي وبكونه في ظلمة وباحتجاجه فمثقال حبة من خردل إشارة إلى غاية الصغر، وفِي صَخْرَةٍ إشارة إلى الحجاب وفِي السَّماواتِ
87
إشارة إلى البعد وفِي الْأَرْضِ إشارة إلى الظلمة فإن جوف الأرض أشد الأماكن ظلمة أو يقال فليس المراد بصخرة صخرة معينة، وعن ابن عباس، والسدي أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن الأرض على نون والنون على البحر بحر على صخرة خضراء خضرة الماء منها والصخرة على قرن ثور وذلك الثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلّا الله تعالى.
وفسر بعضهم الصخرة بهذه الصخرة، وقيل: هي صخرة في الريح، قال ابن عطية: وكل ذلك ضعيف لا يثبت سنده وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم أي إن قدرته عزّ وجلّ تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وما يكون في الأرض اهـ، والأقوى عندي وضع هذه الأخبار ونحوها فليست الأرض إلّا في حجر الماء وليس الماء إلّا في جوف الهواء وينتهي الأمر إلى عرش الرحمن جلّ وعلا والكل في كف قدرة الله عزّ وجلّ.
وقرأ عبد الرحيم الجزري فَتَكُنْ بكسر الكاف وشد النون وفتحها، وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي «فتكن» بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة، وقرأ قتادة «فتكن» بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ورويت هذه القراءة عن الجزري أيضا، والفعل في جميع ما ذكر من وكن الطائر إذا استقر في وكنته أي عشه ففي الكلام استعارة أو مجاز مرسل كما في المشفر، والضمير للمحدث عنه فيما يسبق، وجوز أن يكون للابن والمعنى أن تختف أو تخف وقت الحساب يحضرك الله تعالى، ولا يخفى أنه غير ملائم للجواب أعني قوله تعالى: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يحضرها فيحاسب عليها، وهذا إما على ظاهره أو المراد يجعلها كالحاضر المشاهدة لذكرها والاعتراف بها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه تعالى إلى كل خفي خَبِيرٌ عالم بكنهه.
وعن قتادة لطيف باستخراجها خبير بمستقرها، وقيل: ذو لطف بعباده فيلطف بالإتيان بها بأحد الخصمين خبير عالم بخفايا الأشياء وهو كما ترى، والجملة علة مصححة للإتيان بها، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن رباح اللخمي إنه لما وعظ لقمان ابنه وقال: إِنَّها إِنْ تَكُ الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك وهو واد في الشام فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء الله تعالى ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته والله تعالى أعلم، وبعد ما أمره بالتوحيد الذي هو أول ما يجب على المكلف في ضمن النهي عن الشرك ونبهه على كمال علمه تعالى وقدرته عزّ وجلّ أمره بالصلاة التي هي أكمل العبادات تكميلا من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد فقال مستميلا له: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك، ويروى أنه قال له: يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء صلها واسترح منها فإنها دين، وصل في جماعة ولو على رأس زج وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك والظاهر أنه ليس المراد معروفا ومنكرا معينين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: وأمر بالمعروف يعني التوحيد وانه عن المنكر يعني الشرك وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والمحن لا سيما فيما أمرت به من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واحتياج الآخرين للصبر على ما ذكر ظاهر، والأول لأن إتمام الصلاة والمحافظة عليها قد يشق ولذا قال تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: ٤٥] وقال ابن جبير: واصبر على ما أصابك في أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول: إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر وأصابك في ذلك أذى وشدة فاصبر عليه إِنَّ ذلِكَ أي الصبر على ما أصابك عند ابن جبير، وهو يناسب إفراد اسم الإشارة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته في الفضل، أو الإشارة إلى الصبر وإلى سائر ما أمر به والأفراد للتأويل بما ذكر وأمر البعد على ما سمعت مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي مما عزمه الله تعالى وقطعه قطع إيجاب وروي ذلك عن ابن جريج، والعزم بهذا المعنى مما ينسب إلى الله تعالى ومنه ما
88
ورد من عزمات الله عزّ وجلّ
، والمراد به هنا المعزوم إطلاقا للمصدر على المفعول، والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور المعزومة.
وجوز أن يكون العزم بمعنى الفاعل أي عازم الأمور من عزم الأمر أي جد فعزم الأمور من باب الإسناد المجازي كمكر الليل لا من باب الإضافة على معنى في وإن صح، وقيل: يريد من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، واستظهر أبو حيان إنه أراد من لازمات الأمور الواجبة، ونقل عن بعضهم أن العزم هو الحزم بلغة هذيل، والحزم والعزم أصلان، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء لاطراد تصاريف كل من اللفظين فليس أحدهما أصلا للآخر، والجملة تعليل لوجوب الامتثال بما سبق وفيه اعتناء بشأنه وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون قاله ابن عباس، وجماعة وأنشدوا:
وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوما
فهو من الصعر بمعنى الصيد وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه ويستعار للتكبر كالصعر، وقال ابن خويز منداد:
نهى أن يذل نفسه من غير حاجة فيلوى عنقه، ورجح الأول بأنه أوفق بما بعد، ولام لِلنَّاسِ تعليلية والمراد ولا تصعر خدك لأجل الإعراض عن الناس أو صلة. وقرأ نافع وأبو عمرو. وحمزة، والكسائي «تصاعر» بألف بعد الصاد. وقرأ الجحدري تصعر مضارع أصعر والكل واحد مثل علاه وعالاه وأعلاه.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ التي هي أحط الأماكن منزلة مَرَحاً أي فرحا وبطرا، مصدر وقع موقع الحال للمبالغة أو لتأويله بالوصف أو تمرح مرحا على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة في موضع الحال أو لأجل المرح على أنه مفعول له، وقرىء مرحا بكسر الراء على أنه وصف في موضع الحال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تعليل للنهي أو موجبه والمختال من الخيلاء وهو التبختر في المشي كبرا، وقال الراغب: التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه، ومنه تؤول لفظ الخيل لما قيل إنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة، والفخور من الفخر وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لظهور أنه مباهاة بالمال، وعن مجاهد تفسير الفخور بمن يعدد ما أعطى ولا يشكر الله عزّ وجلّ، وفي الآية عند الزمخشري لف ونشر معكوس حيث قال: المختال مقابل للماشي مرحا وكذلك الفخور للمصعر خده كبرا وذلك لرعاية الفواصل على ما قيل، ولا يأبى ذلك كون الوصية لم تكن باللسان العربي كما لا يخفى.
وجوز أن يكون هناك لف ونشر مرتب فإن الاختيال يناسب الكبر والعجب وكذا الفخر يناسب المشي مرحا.
والكلام على رفع الإيجاب الكلي والمراد السلب الكلي، وجوز أن يبقى على ظاهره، وصيغة فَخُورٍ للفاصلة ولأن ما يكره من الفخر كثرته فإن القليل منه يكثر وقوعه فلطف الله تعالى بالعفو عنه وهذا كما لطف بإباحة اختيال المجاهد بين الصفين وإباحة الفخر بنحو المال لمقصد حسن وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ بعد الاجتناب عن المرح فيه أي توسط فيه بين الدبيب والإسراع من القصد وهو الاعتدال، وجاء في عدة روايات إلّا أن في أكثرها مقالا يخرجها عن صلاحية الاحتجاج بها كما لا يخفى على من راجع
شرح الجامع الصغير للمناوي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن»
أي هيبته وجماله أي تورثه حقارة في أعين الناس، وكأن ذلك لأنها تدل على الخفة وهذا أقرب من قول المناوي لأنها تتعب فتغير البدن والهيئة.
وقال ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشيا بين ذلك، وما في النهاية من أن عائشة نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء فقالت: كان عمر رضي الله تعالى عنه
89
سيد القراء وكان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا ضرب أوجع. فالمراد بالإسراع فيه ما فوق دبيب المتماوت (١) وهو الذي يخفي صوته ويقل حركاته مما يتزيا بزي العباد كأنه يتكلف في اتصافه بما يقربه من صفات الأموات ليوهم أنه ضعف من كثرة العبادة فلا ينافي الآية، وكذا ما ورد في صفته صلى الله تعالى عليه وسلم إذا يمشي كأنما ينحط من صبب وكذا لا ينافيها قوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: ٦٣] إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه، وقال السخاوي: محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمر ديني، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مثلا مما قالوا أنه مما لا ينبغي فلا تغفل، وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه، وقيل: جعل البصر موضع القدم، والمعول عليه ما تقدم: وقرىء. «وأقصد» بقطع الهمزة ونسبها ابن خالويه للحجازي من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها أي سدد في مشيك والمراد أمش مشيا حسنا، وكأنه أريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء فتتوافق القراءتان وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي انقص منه واقصر من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به وضع منه وحط من درجته. وفي البحر الغض رد طموح الشيء كالصوت والنظر ويستعمل متعديا بنفسه كما في قوله: فغض الطرف إنك من نمير ومتعديا بمن كما هو ظاهر قول الجوهري غض من صوته. والظاهر إن ما في الآية من الثاني، وتكلف بعضهم جعل من فيها للتبعيض، وادعى آخر كونها زائدة في الإثبات، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية ومنه، قول الشاعر:
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم
ويخطو على العم خطو الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم
والحكمة في غض الصوت المأمور به أنه أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أي أقبحها يقال وجه منكر أي قبيح قال في البحر: وهو أفعل بني من فعل المفعول كقولهم: أشغل من ذات النحيين وبناؤه من ذلك شاذ، وقال بعض: أي أصعبها على السمع وأوحشها من نكر بالضم نكارة ومنه يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [القمر: ٦] أي أمر صعب لا يعرف، والمراد بالأصوات أصوات الحيوانات أي إن أنكر أصوات الحيوانات لَصَوْتُ الْحَمِيرِ جمع حمار كما صرح به أهل اللغة ولم يخالف فيه عير السهيلي قال: إنه فعيل اسم جمع كالعبيد وقد يطلق على اسم الجمع الجمع عند اللغويين، والجملة تعليل للأمر بالغض على أبلغ وجه وآكده حيث شبه الرافعون أصواتهم بالحمير وهم مثل في الذم البليغ والشتيمة ومثلت أصواتهم بالنهاق الذي أوله زفير وآخره شهيق ثم أخلى الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة، وفي ذلك من المبالغة في الذم والتهجين والإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه ما فيه، وإفراد الصوت مع جمع ما أضيف هو إليه للإشارة إلى قوة تشابه أصوات الحمير حتى كأنها صوت واحد هو أنكر الأصوات، وقال الزمخشري أن ذلك لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل بيان صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس. قيل: فعلى هذا كان المناسب لصوت الحمار بتوحيد المضاف إليه وأجيب بأن المقصود من الجمع التتميم والمبالغة في التنفير فإن الصوت إذا توافقت عليه الحمير كان أنكر. وأورد عليه أنه يوهم أن الأنكرية في التوافق دون الانفراد وهو لا يناسب
(١) ورأى عمر رضي الله تعالى عنه رجلا متماوتا فقال: لا تمت علينا ديننا أماتك الله تعالى، ورأى رجلا مطأطئا رأسه فقال: ارفع رأسك فإن الإسلام ليس بمريض اهـ منه.
90
المقام وأجيب بأنه لا يلتفت إلى مثل هذا التوهم وقيل: لم يجمع الصوت المضاف لأنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع ما لم تقصد الأنواع كما في أَنْكَرَ الْأَصْواتِ فتأمل، والظاهر أن قوله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ من كلام لقمان لابنه تنفيرا له عن رفع الصوت، وقيل: هو من كلام الله تعالى وانتهت وصية لقمان بقوله:
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ رد سبحانه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ورفعه مع أن ذلك يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأذن وبين عزّ وجلّ أن مثلهم في رفع أصواتهم مثل الحمير وأن مثل أصواتهم التي يرفعونها مثل نهاقها في الشدة مع القبح الموحش وهذا الذي يليق أن يجعل وجه شبه لا الخلو عن ذكر الله تعالى كما يتوهم بناء على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال: صياح كل شيء تسبيحه إلّا الحمار لما أن وجه الشبه ينبغي أن يكون صفة ظاهرة وخلو صوت الحمار عن الذكر ليس كذلك، على أنا لا نسلم صحة هذا الخبر فإن فيه ما فيه. ومثله ما شاع بين الجهلة من أن نهيق الحمار لعن للشيعة الذين لا يزالون ينهقون بسبب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومثل هذا من الخرافات التي يمجها السمع ما عدا سمع طويل الأذنين، والظاهر أن المراد بالغض من الصوت الغض منه عند التكلم والمحاورة، وقيل: الغض من الصوت مطلقا فيشمل الغض منه عند العطاس فلا ينبغي أن يرفع صوته عنده أن أمكنه عدم الرفع، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يقتضيه ثم إن الغض ممدوح إن لم يدع داع شرعي إلى خلافه، وأردف الأمر بالقصد في المشي بالأمر بالغض من الصوت لما أنه كثيرا ما يتوصل إلى المطلوب بالصوت بعد العجز عن التوصل إليه بالمشي كذا قيل، هذا وأبعد بعضهم في الكلام على هذين الأمرين فقال: إن الأول إشارة إلى التوسط في الأفعال والثاني إشارة إلى الاحتراز من فضول الكلام والتوسط في الأقوال، وجعل قوله تعالى: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إلخ إشارة إلى إصلاح الضمير وهو كما ترى.
وقرأ ابن أبي عبلة «أصوات الحمير» بالجمع بغير لام التأكيد أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد، والتسخير على ما قال الراغب سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا، وفي إرشاد العقل السليم المراد به أما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من أن يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله كيف يريد كعامة ما في الأرض من الأشياء المسخرة للإنسان المستعملة له من الجماد والحيوان أو لا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير أن يكون له دخل في استعماله كجميع ما في السماوات من الأشياء التي نيطت بها مصالح العباد معاشا أو معادا، وأما جعله منقادا للأمر مذللا على أن معنى لَكُمْ لأجلكم فإن جميع ما في السماوات والأرض من الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق وما يستعمله الإنسان حسبما يشاء وإن كان مسخرا له بحسب الظاهر فهو في الحقيقة مسخر لله عزّ وجلّ وَأَسْبَغَ أي أتم وأوسع عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ جمع نعمة وهي في الأصل الحالة المستلذة فإن بناء الفعلة كالجلسة والركبة للهيئة ثم استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة إطلاقا للمسبب على السبب، وفي معنى ذلك قولهم: هي ما ينتفع به ويستلذ ومنهم من زاد ويحمد عاقبته، وقال بعضهم: لا حاجة إلى هذه الزيادة لأن اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته وعليه لا يكون لله عز وجلّ على كافر نعمة، ونقل الطيبي عن الإمام أنه قال: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا: وإنما زدنا قيد الحسنة لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر، والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة الشكر كونه إحسانا وجهة استحقاق الذم والعقاب الحظر فأي امتناع في
91
اجتماعهما، ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر لإنعامه والذم لمعصية الله تعالى فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك، أما قولنا: المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة، وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمه وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها اهـ، ويعمل منه حكم زيادة ويحمد عاقبته ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي محسوسة ومعقولة معروفة لكم وغير معروفة، وعن مجاهد النعمة الظاهرة وظهور الإسلام والنصرة على الأعداء والباطنة الإمداد من الملائكة عليهم السلام، وعن الضحاك الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة، وقيل: الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح والباطنة القلب والعقل والفهم، وقيل: الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم الآخرة، وقيل: الظاهرة نحو إرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق لقبول الإسلام والإتيان به والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية والباطنة ما أصاب الأرواح في عالم الذر من رشاش نور النور وأول الغيث قطر ثم ينسكب.
ونقل بعض الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: الظاهرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به من معرفة الله تعالى وتوحيده والباطنة ولا يتنا أهل البيت وعقد مودتنا
، والتعميم الذي أشرنا إليه أولا أولى، لكن
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عطاء قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال: هذه من كنوز علمي سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أما الظاهرة فما سوي من خلقك وأما الباطن فما ستر من عورتك ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم.
وفي رواية أخرى رواها ابن مردويه، والديلمي، والبيهقي، وابن النجار عن ابن عباس أنه قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى وَأَسْبَغَ إلخ قال: أما الظاهرة فالإسلام وما سوي من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه وأما الباطنة فما ستر من مساوئ عملك
فإن صح ما ذكر فلا يعدل عنه إلى التعميم إلا أن يقال: الغرض من تفسير الظاهرة والباطنة بما فسرنا به التمثيل وهو الظاهر لا التخصيص وإلا لتعارض الخبران.
ثم إن ظاهر هذين الخبرين يقتضي كون الذنب وهو المعبر عنه في الأول بما ستر من العورة وفي الثاني بما ستر من مساوئ العمل نعمة ولم نر في كلامهم التصريح بإطلاقها عليه ويلزمه أن من كثرت ذنوبه كثرت نعم الله تعالى عليه فكان المراد أن النعمة الباطنة هي ستر ما ستر من العورة ومساوئ العمل ولم يقل كذلك اعتمادا على وضوح الأمر، وجاء في بعض الآثار ما يقتضي ذلك، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن مقاتل أنه قال في الآية: ظاهِرَةً الإسلام وَباطِنَةً ستره تعالى عليكم المعاصي، بل جاء في بعض روايات الخبر الثاني وأما ما بطن فستر مساوئ عملك.
وجوز أن يكون ما في ما ستر في الخبرين مصدرية ومن صلة ستر لا بيان لما وقرأ يحيى بن عمارة وأصبغ بالصاد وهي لغة بني كلب يبدلون من السين إذا اجتمعت مع أحد الحروف المستعلية الغين والخاء والقاف صادا فيقولون في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سائغ صائغ ولا فرق في ذلك بين أن يفصل بينهما فاصل وأن لا يفصل، وظاهر كلام بعضهم أنه لا فرق أيضا بين أن تتقدم السين على أحد تلك الأحرف وأن تتأخر، واشترط آخر تقدم السين، وذكر الخفاجي أنه ابدال مطرد.
وقرأ بعض السبعة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «نعمة» بالإفراد وقرىء «نعمته» بالإفراد والإضافة، ووجه الافراد بإرادة الجنس كما قيل ذلك في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وقال الزجاج: من قرأ «نعمة» فعلى معنى ما أعطاهم من التوحيد ومن قرأ نعمه بالجمع فعلى جميع ما أنعم به عليهم والأول أولى، ونصب ظاهِرَةً
92
وَباطِنَةً
في قراءة التعريف على الحالية وفي قراءة التنكير على الوصفية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ من الجدال وهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كان المتجادلين يفتل كل منهما صاحبه عن رأيه وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة وكأن الجملة في موضع الحال من ضميره تعالى فيما قيل أي ألم تروا إن الله سبحانه فعل ما فعل من الأمور الدالة على وحدته سبحانه وقدرته عزّ وجلّ والحال من الناس من ينازع ويخاصم كالنضر بن الحارث وأبي ابن خلف كانا يجادلان النبي صلّى الله عليه وسلم فِي اللَّهِ أي في توحيده عزّ وجلّ وصفاته جلّ شأنه كالمشركين المنكرين وحدته سبحانه وعموم قدرته جلت قدرته وشمولها للبعث ولم يقل فيه بدل في الله بإرجاع الضمير للاسم الجليل في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ تهويلا لأمر الجدال بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل عقلي وَلا هُدىً راجع إلى رسول مأخوذ منه، وجوز جعل الهدى نفس الرسول مبالغة وفيه بعد وَلا كِتابٍ أنزله الله تعالى مُنِيرٍ أي ذي نور والمراد به واضح الدلالة على المقصود، وقيل: منقذ من ظلمة الجهل والضلال بل يجادلون بمجرد التقليد كما قال سبحانه وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يريدون عبادة ما عبدوه من دون الله عزّ وجلّ، وهذا ظاهر في منع التقليد في أصول الدين والمسألة خلافية فالذي ذهب إليه الأكثرون ورجحه الإمام الرازي والآمدي أنه لا يجوز التقليد في الأصول بل يجب النظر والذي ذهب إليه عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة الجواز وربما قال بعضهم أنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام، وعلى كل يصح عقائد المقلد المحق وإن كان آثما بترك النظر على الأول، وعن الأشعري أنه لا يصح إيمانه، وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: هذا مكذوب عليه لما يلزمه تكفير العوام وهم غالب المؤمنين، والتحقيق أنه إن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك ووهم بأن لا يجزم المقلد فلا يكفي إيمانه قطعا لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه وإن كان لكن جزما فيكفي عند الأشعري وغيره خلافا لأبي هاشم في قوله لا يكفي بل لا بد لصحة الإيمان من النظر، وذكر الخفاجي أنه لا خلاف في امتناع تقليد من لم يعلم أنه مستند الى دليل حق، وظاهر ذم المجادلين بغير علم ولا هدى ولا كتاب أنه يكفي في النظر الدليل النقلي الحق كما يكفي فيه الدليل العقلي.
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أي يدعو آباءهم لا أنفسهم كما قيل: فإن مدار إنكار الاستتباع كون المتبوعين تابعين للشياطين وينادي عليه قوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: ١٧٠] بعد قوله سبحانه: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة: ١٧٠] ويعلم منه حال رجوع الضمير الى المجموع أي أولئك المجادلين وآباؤهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي إلى ما يؤول إليه أو يستبب منه من الإشراك وإنكار شمول قدرته عزّ وجلّ للبعث ونحو ذلك من الضلالات، وجوز بقاء عَذابِ السَّعِيرِ على حقيقته والاستفهام للإنكار ويفهم التعجيب من السياق أو للتعجيب ويفهم الإنكار من السياق والواو حالية والمعنى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب، وجوز كون الواو عاطفة على مقدر أي أيتبعونهم لو لم يكن الشيطان يدعوهم الى العذاب ولو كان يدعوهم إليه، وهما قولان مشهوران في الواو الداخلة على لَوْ الوصلية ونحوها، وكذا في احتياجها إلى الجواب قولان قول بالاحتياج وقول بعدمه لانسلاخها عن معنى الشرط، ومن ذهب إلى الأول قدره هنا لا يتبعوهم وهم مما لا غبار عليه على تقدير كون الواو عاطفة، وأما على تقدير كونها حالية فزعم بعضهم أنه لا يتسنى وفيه نظر، وقد مرّ الكلام على نحو هذه الآية الكريمة فتذكر.
93
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن فوض إليه تعالى جميع أموره وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه، فالإسلام كالتسليم التفويض، والوجه الذات، والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسلم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عزّ وجلّ وقد يعدى الإسلام باللام قصدا لمعنى الإخلاص.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار «يسلّم» بتشديد اللام من التسليم وهو أشهر في معنى التفويض من الإسلام وَهُوَ مُحْسِنٌ أي في أعماله والجملة في موضع الحال.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق أتم تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهذا تشبيه تمثيلي مركب حيث شبه حال المتوكل على الله عزّ وجلّ المفوض إليه أموره كلها المحسن في أعماله بمن ترقى في جبل شاهق أو تدلى منه فتمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه، وجوز أن يكون هناك استعارة في المفرد وهو العروة الوثقى بأن يشبه التوكل النافع المحمود عاقبته بها فتستعار له وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي هي صائرة إليه عزّ وجلّ لا إلى غيره جلّ جلاله فلا يكون لأحد سواه جلّ وعلا تصرف فيها بأمر ونهي وثواب وعقاب فيجازي سبحانه هذا المتوكل أحسن الجزاء، وقيل: فيجازي كلا من هذا المتوكل وذاك المجادل بما يليق به بمقتضى الحكمة، وأل في الأمور للإستغراق، وقيل: تحتمل العهد على أن المراد الأمور المذكورة من المجادلة وما بعدها، وتقديم إِلَى اللَّهِ للحصر ردا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور.
واختار بعضهم كونه إجلالا للجلالة ورعاية للفاصلة ظنا منه أن الاستغراق مغن عن الحصر وهو ليس كذلك.
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي فلا يهمنك ذلك إِلَيْنا لا إلى غيرنا مَرْجِعُهُمْ رجوعهم بالبعث يوم القيامة فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي بعملهم أو بالذي عملوه في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب، وقيل:
إلينا مرجعهم في الدارين فنجازيهم بالإهلاك والتعذيب والأول أظهر وأيا ما كان فالجملة في موضع التعليل كأنه قيل:
لا يهمنك كفر من كفر لأنا ننتقم منه ونعاقبه على عمله أو الذي عمله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الافراد في الأول باعتبار لفظها، وقرىء في السبع «ولا يحزنك» مضارع أحزن مزيد حزن اللام وقدر اللزوم ليكون للنقل فائدة وحزن وأحزن لغتان، قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرىء بهما، وذكر الزمخشري أن المستفيض في الاستعمال ماضي الأفعال ومضارع الثلاثي والعهدة في ذلك عليه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل للتنبئة المعبر بها عن المجازاة أي يجازيهم سبحانه لأنه عزّ وجلّ عليم بالضمائر فما ظنك بغيرها.
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ثقيل عليهم ثقل الإجرام الغلاظ، والمراد بالاضطرار أي الإلجاء إلزامهم ذلك العذاب الشديد إلزام المضطر الذي لا يقدر على الانفكاك مما ألجئ إليه، وفي الانتصاف تفسير هذا الاضطرار ما في الحديث من أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد فيرسل عليهم الزمهرير فيكون أشد عليهم من اللهب فيتمنون عود اللهب اضطرارا فهو اختيار عن اضطرار وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث قال:
يرون الموت قداما وخلفا فيختارون والموت اضطرار
وقيل: المعنى نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق فلا تغفل وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي خلقهن الله تعالى، وجوز أن يكون التقدير الله خلقهن والأول أولى كما فصل في محله وقولهم ذلك لغاية وضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به جلّ شأنه في العبادة التي لا يستحقها غير الخالق والمنعم الحقيقي.
94
وجوز جعل المحمود عليه جعل دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها المكابر أيضا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك يلزمهم قيل: وفيه إيغال حسن كأنه قال سبحانه: وإن جهلهم انتهى إلى أن لا يعلموا أن الحمد لله ما موقعه في هذا المقام، وقد مر تمام الكلام في نظير الآية في العنكبوت فتذكر.
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وتصرفا ليس لأحد سواه عزّ وجلّ استقلالا ولا شركة فلا يستحق العبادة فيهما غيره سبحانه وتعالى بوجه من الوجوه، وهذا إبطال لمعتقدهم من وجه آخر لأن المملوك لا يكون شريكا لمالكه فكيف يستحق ما هو حقه من العبادة وغيرها إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء الْحَمِيدُ المستحق للحمد وإن لم يحمده جلّ وعلا أحد أو المحمود بالفعل يحمده كل مخلوق بلسان الحال، وكأنه الجملة جواب عما يوشك أن يخطر ببعض الأذهان السقيمة من أنه هل اختصاص ما في السموات والأرض به عزّ وجلّ لحاجته سبحانه إليه، وهو جواب بنفي الحاجة على أبلغ وجه فقد كان يكفي في الجواب إن الله غني الا أنه جيء بالجملة متضمنة للحصر للمبالغة وجيء بالحميد أيضا تأكيدا لما تفيده من نفي الحاجة بالإشارة إلى أنه تعالى منعم على من سواه سبحانه أو متصف بسائر صفات الكمال فتأمل جدا، وقال الطيبي: إن قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تهاون بهم وإبداء أنه تعالى مستغن عنهم وعن حمدهم وعبادتهم ولذلك علل بقوله سبحانه:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن حمد الحامدين الْحَمِيدُ أي المستحق للحمد وإن لم يحمدوه عزّ وجلّ.
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما- فإن- وما بعدها فاعل ثبت مقدر بقرينة كون أَنَّ دالة على الثبوت والتحقق وإلى هذا ذهب المبرد، وقال سيبويه: إن ذلك مبتدأ مستغن عن الخبر لذكر المسند والمسند إليه بعده، وقيل: مبتدأ خبره، مقدر قبله، وقال ابن عصفور: بعده وما فِي الْأَرْضِ اسم أن ومِنْ شَجَرَةٍ بيان- لما- أو للضمير العائد إليها في الظرف فهو في موضع الحال منها أو منه
95
أي ولو ثبت أن الذي استقر في الأرض كائنا من شجرة، وأَقْلامٌ خبر أن قال أبو حيان: وفيه دليل دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله: إن خبر أن الجائية بعد- لو- لا يكون اسما جامدا ولا اسما مشتقا بل يجب أن يكون فعلا وهو باطل ولسان العرب طافح بخلافه، قال الشاعر:
ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما
وقال آخر:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
إلى غير ذلك، وتعقب بأن اشتراط كون خبرها فعلا إنما هو إذا كان مشتقا فلا يرد أَقْلامٌ هنا ولا ما ذكر في البيتين، وأما قوله تعالى: لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ [الأحزاب: ٢٠] فلو فيه للتمني والكلام في خبر أن الواقعة بعد لو الشرطية. والمراد بشجرة كل شجرة والنكرة قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام ذلك كما في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤] وقول ابن عباس رضي الله عنهما لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها؟ تمرة خير من جرادة على ما اختاره جمع ولا نسلم المنافاة بين هذا العموم وهذه التاء فكأنه قيل: ولو أن كل شجرة في الأرض أقلام إلخ، وكون كل شجرة أقلاما باعتبار الأجزاء أو الأغصان فيؤول المعنى إلى لو أن أجزاء أو أغصان كل شجرة في الأرض أقلاما إلخ، ويحسن إرادة العموم في نحو ما نحن فيه كون الكلام الذي وقعت فيه النكرة شرطا بلو وللشرط مطلقا قرب ما من النفي فما ظنك به إذا كان شرطا بها وإن كانت هنا ليست بمعناها المشهور من انتفاء الجواب لانتفاء الشرط أو العكس بل هي دالة على ثبوت الجواب أو حرف شرط في المستقبل على ما فصل في المغني، واختيار شَجَرَةٍ على أشجار أو شجر لأن الكلام عليه أبعد عن اعتبار التوزيع بأن تكون كل شجرة من الأشجار أو الشجر قلما المخل بمقتضى المقام من المبالغة بكثرة كلماته تعالى شأنه. وفي البحر أن هذا مما وقع فيه المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة، ونظيره ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: ١٠٦] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر: ٢] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [النحل: ٤٩] وقول العرب: هذا أول فارس وهذا أفضل عالم يراد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب وأول الفرسان وأفضل العلماء ذكر المفرد النكرة وأريد به معنى الجمع المعرف باللام وهو مهيع في كلام العرب معروف وكذلك يقدر هنا من الشجرات أو من الأشجار اهـ فلا تغفل.
وقال الزمخشري: إنه قال سبحانه شَجَرَةٍ على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر لأنه أريد تفصيل الشجر شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما وتعقب بأن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار غير معهود والمعهود إفادته ذلك بالتكرير نحو جاؤوني رجلا رجلا فتأمل، واختيار جمع القلة في أَقْلامٌ مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه وقلام غير متداول فلا يحسن استعماله وَالْبَحْرُ أي المحيط فأل للعهد لأنه المتبادر ولأنه الفرد للكامل إذ قد يطلق على شعبه وعلى الأنهار العظام كدجلة والفرات، وجوز إرادة الجنس ولعل الأول أبلغ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نفاده وقيل من ورائه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مفروضة كل منها مثله في السعة والإحاطة وكثرة الماء، والمراد بالسبعة الكثرة بحيث تشمل المائة والألف مثلا لا خصوص العدد المعروف كما في
قوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء»
واختيرت لها لأنها عدد تام كما عرفت عند الكلام في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وكثير من المعدودات التي لها شأن كالسماوات والكواكب السيارة والأقاليم الحقيقية وأيام الأسبوع إلى غير ذلك منحصر في سبع فلعل في ذكرها هنا
96
دون سبعين المتجوز به عن الكثرة أيضا رمزا إلى شأن كون تلك الأبحر عظيمة ذات شأن ولما لم تكن موضوعة في الأصل لذلك بل للعدد المعروف القليل جاء تمييزها أبحر بلفظ القلة دون بحور وإن كان لا يراد به إلا الكثرة ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في السبعة واستعملت للتكثير تجوز في أبحر واستعمل فيه أيضا، وكان الظاهر بعد جعل ما في الأرض من شجر أقلاما أن يقال: والبحر مداد لكن جيء بما في النظم الجليل لأن يمده يغني عن ذكر المداد لأنه من قولك: مد الدواة وأمدها أي جعلها ذات مداد وزاد في مدادها ففيه دلالة على المداد مع ما يزيد في المبالغة وهو تصوير الامداد المستمر حالا بعد حال كما تؤذن به صيغة المضارع فأفاد النظم الجليل جعل البحر المحيط بمنزلة الدواة وجعل أبحر سبعة مثله مملوءة مدادا فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع، ورفع الْبَحْرُ على ما استظهره أبو حيان فيه على الابتداء وجملة يمده خبره والواو للحال والجملة حال من الموصول أو الضمير الذي في صلته أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما في حال كون البحر ممدودا بسبعة أبحر، ولا يضر خلو الجملة عن ضمير ذي الحال فإن الواو يحصل بها من الربط ما لا يتقاعد عن الضمير لدلالتها على المقارنة، وأشار الزمخشري إلى أن هذه الجملة وما أشبهها كقوله:
وقد اغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل
وجئت والجيش مصطف من الأحوال التي حكمها حكم الظروف لأنها في معناها إذ معنى جئت والجيش مصطف مثلا ومعنى جئت وقت اصطفاف الجيش واحد وحيث إن الظرف يربطه بما قبله تعلقه به وإن لم يكن فيه ضمير وهو إذا وقع حالا استقر فيه الضمير فما يشبهه كأنه فيه ضمير مستقر، ولا يرد عليه اعتراض أبي حيان بأن الظرف إذا وقع حالا ففي العامل فيه الضمير ينتقل إلى الظرف، والجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو فليس فيها ضمير منتقل فكيف يقال انها في حكم الظرف. نعم الحق أن الربط بالواو كاف عن الضمير ولا يحتاج معه إلى تكلف هذه المئونة، وجوز أن تكون الجملة حالا من الأرض والعامل فيه معنى الاستقرار والرابط ما سمعت أو أل التي في الْبَحْرُ بناء على رأي الكوفيين من جواز كون أل عوضا عن الضمير كما في قوله تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: ٥٠] أي ولو ثبت كون الذي استقر في الأرض من شجرة أقلاما حال كون بحرها ممدودا بسبعة أبحر قال في الكشف: ولا بد أن يجعل مِنْ شَجَرَةٍ بيانا للضمير العائد إلى ما لئلا يلزم الفضل بين أجزاء الصلة بالأجنبي.
والْبَحْرُ على تقدير جعل آل فيه عوضا عن المضاف إليه العائد إلى الأرض يحتمل أن يراد به المعهود وأن يراد به غيره، وقال الطيبي: إن البحر على ذلك يعم جميع الأبحر لقرينة الإضافة ويفيد أن السبعة خارجة عن بحر الأرض وعلى ما سواه يحتمل الحصة المعهودة المعلومة عند المخاطب. ورد بأنه لا فرق بينهما بل كون بحرها للعهد أظهر لأن العهد أصل الإضافة ولا ينافيه كون الأرض شاملة لجميع الأقطار لأن المعهود البحر المحيط وهو محيط بها كلها، وجوز الزمخشري كون رفعه بالعطف على محل أن ومعمولها، وجملة يَمُدُّهُ حال على تقدير لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما وثبت أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر، وتعقب بأن الدال على الفعل المحذوف هو أن وخبره على ما قرر في بابه فإذن لا يمكن إفضاء إلى المعطوف دون ملاحظة دال وفي هذا العطف إخراج عن الملاحظة، وأجيب بأنه يحتمل في التابع ما لا يحتمل في المتبوع، ثم لا يخفى أن العطف على هذا من عطف المفرد لا المفرد على الجملة كما قيل إذ الظاهر أن المعطوف عليه إنما هو المصدر الواقع فاعلا لثبت وهو مفرد لا جملة، وجوز أن يكون العطف على ذلك بناء على رأي من يجعله مبتدأ، وتعقب بأنه يلزم أن يلي لو الاسم الصريح الواقع مبتدأ إذ يصير
97
التقدير ولو البحر على ما قال أبو حيان لا يجوز إلّا في ضرورة شعر نحو قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري (١)
وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع كما في نحو رب رجل وأخيه يقولان ذلك، وقال بعضهم: إنه يلزم على العطف السابق أن يلي لو الاسم الصريح وهو أيضا مخصوص بالضرورة وأجاب بما أجيب وفيه عندي تأمل، وجوز كون الرفع على الابتداء وجملة يَمُدُّهُ خبر المبتدأ والواو واو المعية وجملة المبتدأ وخبره في موضع المفعول معه بناء على أنه يكون جملة كما نقل عن ابن هشام ولا يخفى بعده، وجوز كون الواو على ذلك للاستئناف وهو استئناف بياني كأنه؟ قيل: ما المداد حينئذ فقيل: والبحر إلخ، وتعقب بأن اقتران الجواب بالواو وإن كانت استئنافية غير معهود، وما قيل إنه يقترن بها إذا كان جوابا للسؤال على وجه المناقشة لا للاستعلام مما لا يعتمد عليه، ومن هنا قيل:
الظاهر على إرادة الاستئناف أن يكون نحويا، وجوز في هذا التركيب غير ما ذكر من أوجه الإعراب أيضا.
وقرأ البصريان «والبحر» بالنصب على أنه معطوف على اسم أن ويَمُدُّهُ خبر له أي ولو أن البحر ممدود بسبعة أبحر.
قال ابن الحاجب في أماليه: ولا يستقيم أن يكون يَمُدُّهُ حالا لأنه يؤدي أيضا إلى تقييد المبتدأ الجامد بالحال ولا يجوز لأنها بيان الفاعل أو المفعول والمبتدأ ليس كذلك ويؤدي إلى كون المبتدأ لا خبر له ولا يستقيم أن يكون أَقْلامٌ خبرا له لأنه خبر الأول اهـ، ولم يذكر احتمال تقدير الخبر لظهور أنه خلاف الظاهر.
وجوز أن يكون منصوبا على شريطة التفسير عطفا على الفعل المحذوف أعني ثبت ودخول لو على المضارع جائزة، وجملة يَمُدُّهُ إلخ حينئذ لا محل لها من الإعراب.
وقرأ عبد الله «وبحر» بالتنكير والرفع وخرج ذلك ابن جني على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي هناك بحر يمده إلخ، والواو واو الحال لا محالة، ولا يجوز أن يعطف على أَقْلامٌ لأن البحر وما فيه ليس من حديث الشجر والأقلام وإنما هو من حديث المداد. وفي البحر أن الواو على هذه القراءة للحال أو للعطف على ما تقدم، وإذا كانت للحال كان الْبَحْرُ مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة تقدم تلك الواو فقد عد من مسوغات ابتداء بالنكرة كما في قوله:
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوءه كل شارق
اهـ ولا يخفى أنه إذا عطف على فاعل ثبت فجملة يَمُدُّهُ في موضع الصفة له لا حال منه وجوز ذلك من جوز مجيء الحال من النكرة، والظاهر على تقدير كونه مبتدأ جعل الجملة خبره ولا حاجة إلى جعل خبره محذوفا كما فعل ابن جني.
وقرأ ابن مسعود، وأبي «تمده» بتاء التأنيث من مد كالذي في قراءة الجمهور، وقرأ ابن مسعود أيضا، والحسن، وابن مصرف، وابن هرمز «يمده» بضم الياء التحتية من الأمداد، وقال ابن الشيخ: يمد بفتح فضم ويمد بضم فكسر لغتان بمعنى، وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما «والبحر مداده» أي ما يكتب به من الحبر، وقال ابن عطية: هو
(١) الاعتصار بالماء أن يشربه قليلا ليسيغ ما غص به من الطعام اهـ منه.
98
مصدر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ جواب لَوْ وفي الكلام اختصار يسمى حذف إيجاز ويدل على المحذوف السياق والتقدير ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله تعالى ما نفدت لعدم تناهيها ونفد تلك الأقلام والمداد لتناهيها، ونظير ذلك في الاشتمال على إيجاز الحذف قوله تعالى: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة: ١٩٦] أي فحلق رأسه لدفع ما به من الأذى ففدية، والمراد بكلماته تعالى كلمات علمه سبحانه وحكمته جلّ شأنه وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن الروح فأنزل سبحانه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٨٥] فقالوا: تزعم (١) أنا لم نؤت من العلم إلّا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت وَلَوْ أَنَ
إلخ. وظاهر هذا أن اليهود قالوا ذلك له عليه الصلاة والسلام مشافهة وهو ظاهر في أن الآية مدنية، وقيل: إنهم أمروا وفد قريش أن يقولوا له صلّى الله تعالى عليه وسلم ذلك وهذا القائل يقول: إنها مكية، وحاصل الجواب أنه وإن كان ما أوتيتموه خيرا كثيرا لكونه حكمة إلّا أنه قليل بالنسبة إلى حكمته عزّ وجلّ.
وفي رواية أنه أنزل بمكة قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ إلخ فلما هاجر عليه الصلاة والسلام أتاه أحبار اليهود فقالوا بلغنا أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أفعنيتنا أم قومك فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «كلا عنيت» فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال عليه الصلاة والتحية: «وهي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن علمتم به نجوتم» «قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: ٢٦٩] فكيف يجتمع؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «هذا علم قليل وخير كثير» فأنزل الله تعالى هذه الآية
. وهذا نص في أن الآية مدنية، وقيل: المراد بها مقدوراته جلّ وعلا وعجائبه عزّ وجلّ التي إذا أراد سبحانه شيئا منها قال تبارك وتعالى: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧ وغيرها] ومن ذلك قوله تعالى في عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: ١٧١] وإطلاق الكلمات على ما ذكر من إطلاق السبب على المسبب، وعلى هذا وجه ربط الآية بما قبلها أظهر على ما قيل وهو أنه سبحانه لما قال: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكان موهما لتناهي ملكه جلّ جلاله أردف سبحانه ذلك بما هو ظاهر بعدم التناهي وهذا ما اختاره الإمام المراد بكلماته تعالى إلّا أن في انطباقه على سبب النزول خفاء، وعن أبي مسلم المراد بها ما وعد سبحانه به أهل طاعته من الثواب وما أوعد جلّ شأنه به أهل معصيته من العقاب، وكأن الآية عليه بيان لأكثرية ما لم يظهر بعد من ملكه تعالى بعد بيان كثرة ما ظهر، وقيل: المراد بها ما هو المتبادر منها بناء على ما أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم عن قتادة قال: قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفذ فنزلت وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية، وفي وجه ربط الآية عليه بما قبلها وكذا بما بعدها خفاء جدا إلّا أنه لا يقتضي كونها مدنية، وإيثار الجمع المؤنث سالم بناء على أنه كجمع المذكر جمع قلة لأشعاره وإن اقترن بما قد يفيد معه الاستغراق والعموم من أل أو الإضافة نظرا لأصل وضعه وهو القلة بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. وقرأ الحسن «ما نفد» بغير تاء «كلام الله» بدل كلمات الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه جلّ شأنه شيء حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه تعالى وحكمته سبحانه شيء، والجملة تعليل لعدم نفاد كلماته تبارك وتعالى.
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلّا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي بالنسبة إليه عزّ وجلّ إذ لا
(١) قوله فقالوا تزعم عن ابن جريج أن القائل حيي بن أخطب اهـ منه.
99
يشغله تعالى شأن عن شأن لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته تعالى الواجبة أو قوله جلّ وعلا: كن مع قدرته سبحانه الذاتية وإمكان المتعلق ولا توقف لذلك على آلة ومباشرة تقتضي التعاقب ليختلف عنده تعالى الواحد والكثير كما يختلف ذلك عند العباد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ يبصر كل مبصر في حالة واحدة لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض فكذا الخلق والبعث وحاصله كما أنه تعالى شأنه ببصر واحد يدرك سبحانه المبصرات وبسمع واحد يسمع جلّ وعلا المسموعات ولا يشغله بعض ذلك عن بعض كذلك فيما يرجع إلى القدرة والفعل فهو استشهاد بما سلموه فشبه المقدورات فيما يراد منها بالمدركات فيما يدرك منها كذا في الكشف. واستشكل كون ذلك مسلما بأنه قد كان بعضهم إذا طعنوا في الدين يقول: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فنزل وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك: ١٣].
وأجيب بأنه لا اعتداد بمثله من الحماقة بعد ما رد عليهم ما زعموا وأعلموا بما أسروا، وقيل: إن الجملة تعليل لإثبات القدرة الكاملة بالعلم الواسع وأن شيئا من المقدورات لا يشغله سبحانه عن غيره لعلمه تعالى بتفاصيلها وجزئياتها فيتصرف فيها كما يشاء كما يقال: فلان يجيد عمل كذا لمعرفته بدقائقه ومتمماته، والمقصود من إيراد الوصفين إثبات الحشر والبشر لأنهما عمدتان فيه ألّا ترى كيف عقب ذلك بما يدل على عظيم القدرة وشمول العلم.
وأيّا ما كان يندفع توهم أن المناسب لما قبل أن يقال: إن الله قوي قدير أو نحو ذلك دون ما ذكر لأن الخلق والبعث ليسا من المسموعات والمبصرات، وعن مقاتل أن كفار قريش قالوا: إن الله تعالى خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة لحما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة فنزلت وذكر النقاش أنها نزلت في أبي بن خلف، وأبي الأسود، ونبيه، ومنبه ابني الحجاج، وذكر في سبب نزولها فيهم نحو ما ذكر، وعلى كون سبب النزول ذلك قيل: المعنى أنه تعالى سميع بقولهم ذلك بصير بما يضمرونه وهو كما ترى أَلَمْ تَرَ قيل: خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم وقيل: عام لكل من يصلح للخطاب وهو الأوفق لما سبق وما لحق أي ألم تعلم.
أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل كل واحد منها في الآخر ويضيفه سبحانه إليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا، وعدل عن يولج أحد الملوين في الآخر مع أنه أخصر للدلالة على استقلال كل منهما في الدلالة على كمال القدرة، وقدم الليل على النهار لمناسبته لعالم الإمكان المظلم من حيث إمكانه الذاتي، وفي بعض الآثار كان العالم في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره، وهذا الإيلاج إنما هو في هذا العالم ليس عند ربك صباح ولا مساء، وقدم الشمس على القمر في قوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مع تقديم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لأنها كالمبدأ للقمر ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر وأيضا آثار ذلك التسخير أعظم من آثار تسخيره وقال الإمام في تعليل تقديم كل على ما قدم وعليه: لأن الأنفس تطلب سبب المقدم أكثر مما تطلب سبب المؤخر وبين ذلك بما بين، ولعل ما ذكرناه أولى لا سيما إذا صح أن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وعطف قوله سبحانه سَخَّرَ على قوله تعالى يُولِجُ والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد في آثاره كما يشير ذلك إلى قوله تعالى: كُلٌّ أي كل واحد من الشمس والقمر يَجْرِي يسير سيرا سريعا مستمرا إِلى أَجَلٍ أي منتهى للجري مُسَمًّى سماه الله تعالى وقدره لذلك، وهو كما قال الحسن يوم القيامة فإنه لا ينقطع جرى النيرين وتبطل حركتهما إلّا في ذلك اليوم، والظاهر أن هذا الجري هو هذه الحركة التي يشاهدها كل ذي بصر من أهل المعمورة، وهي عند الفلاسفة بواسطة الفلك الأعظم فإن حركته كذلك وبها حركة
100
سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب ويسمى حركة الكل والحركة اليومية والحركة السريعة والحركة الأولى والحركة على خلاف التوالي والحركة الشرقية، وبعضهم يسميها الحركة الغربية، وقيل: ما يعم هذه الحركة وحركتهما الخاصة بهما وهي حركتهما بواسطة فلكيهما على التوالي من المغرب إلى المشرق وهي للقمر أسرع منها للشمس، وليس في العقل الصريح والنقل الصحيح ما يأبى إثبات هاتين الحركتين لكل من النيرين كما لا يخفى على المنصف العارف، ومنتهى هذا الجري العام لهاتين الحركتين يوم القيامة أيضا، والجملة على تقدير عموم الخطاب اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد، وعلى تقدير اختصاصه به صلّى الله تعالى عليه وسلم يجوز أن تكون حالا من الشمس والقمر فإن جريهما إلى يوم القيامة من جملة ما في حيز رؤيته عليه الصلاة والسلام، وقيل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما والأجل المسمى لجري الشمس آخر السنة المسماة بالسنة الشمسية الحقيقية وهي زمان مفارقة الشمس أية نقطة تفرض من فلك البروج إلى عودها إليها بحركتها الخاصة، وجعلوا ابتداءها من حين حلول الشمس رأس الحمل ومدتها عند بعض ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وعند بطليموس ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وخمس ساعات وخمسة وخمسون دقيقة واثنتا عشر ثانية، وعند بعض المتأخرين ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وخمس ساعات وست وأربعون دقيقة وأربع وعشرون ثانية، وعند الحكيم محيي الدين الكسر الزائد خمس ساعات ودقيقة، وبالرصد الجديد الذي تولاه الطوسي بمراغة خمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة، ووجد برصد سمرقند أزيد من هذا بربع دقيقة، وأما الاصطلاحية فاعتبرها بعض كالروم والأقدمين من الفرس ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وأخذ الكسر ربعا تاما إلّا أن الروم يجعلون ثلاث سنين ثلاثمائة وخمسة وستين ويكبسون في الرابعة بيوم والفرس كانوا يكسبون في مائة وعشرين سنة بشهر، واعتبرها بعض آخر كالقبط والمستعملين لتاريخ الفرس من المحدثين ثلاثمائة وستين يوما بليلته وأسقط الكسر رأسا ولجري القمر آخر الشهر القمري الحقيقي وهو زمان مفارقة القمر أي وضع يعرض له من الشمس إلى عوده إليه، وجعلوا ابتداءه من اجتماع الشمس والقمر وزمان ما بين الاجتماعين المتتالين كط لان من الأيام ودقائقها وثوانيها تقريبا وأما الشهر الغير الحقيقي فالمعتبر
فيه الهلال ويختلف زمان ما بين الهلالين كما هو معروف.
قيل: وعلى هذا فالجملة بيان لحكم تسخيرهما أو تنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر، وكون ذلك بحسب اختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجها إلى سمت الرأس تزداد القوس التي فوق الأرض كبرا فيزداد النهار طولا بانضمام بعض أجزاء الليل إليه إلى أن يبلغ المدار الذي هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى رأس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسي التي فوق الأرض تزداد صغرا فيزداد النهار قصرا بانضمام بعض أجزائه إلى الليل إلى أن يبلغ المدار الذي هو أبعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها رأس الجدي.
وأنت تعلم أنه لا مدخل لجريان القمر في الإيلاج فالتعرض له في الآية الكريمة يبعد هذا الوجه، ولعل الأظهر على تقدير جعل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما أن يجعل الأجل المسمى عبارة عن يوم القيامة أو يجعل عبارة عن آخر السنة والشهر المعروفين عند العرب فتأمل، وجرى يتعدى بإلى تارة وباللام أخرى وتعديته بالأول باعتبار كون المجرور غاية وبالثاني باعتبار كونه غرضا فتكون اللام لام تعليل أو عاقبة وجعلها الزمخشري للاختصاص ولكل وجه، ولم يظهر لي وجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام. وقال النيسابوري: وجه ذلك أن هذه الآية صدرت بالتعجيب فناسب التطويل وهو كما ترى فتدبر، وقوله تعالى:
101
وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عطف على قوله: أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ إلخ داخل معه في حيز الرؤية على تقديري خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير اللائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عزّ وجلّ محيطا بحلائل أعماله ودقائقها وقرأ عياش عن أبي عمرو «بما يعملون» بياء الغيبة ذلِكَ إشارة إلى ما تضمنته الآيات وأشارت إليه من سعة العلم وكمال القدرة واختصاص الباري تعالى شأنه بها بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي بسبب أنه سبحانه وحده الثابت المتحقق في ذاته أي الواجب الوجود.
وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلها الْباطِلُ المعدوم في حد ذاته وهو الممكن الذي لا يوجد إلّا بغيره وهو الواجب تعالى شأنه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ على الأشياء الْكَبِيرُ عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف جلّ وعلا بنقص لا بشيء أعلى منه تعالى شأنه شأنا وأكبر سلطانا، ووجه سببية الأول لما ذكر أن كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته يستلزم أن يكون هو سبحانه وحده الموجد لسائر المصنوعات البديعة الشأن فيدل على كمال قدرته عزّ وجلّ وحده والإيجاب قد أبطل في الأصول ومن صدرت عنه جميع هاتيك المصنوعات لا بد من أن يكون كامل العلم على ما بين في الكلام، ووجه سببية الثالث لذلك أن كونه تعالى وحده عليا على جميع الأشياء متسلطا عليها متنزها عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف بنقص عزّ وجلّ يستلزم كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته وقد سمعت الكلام فيه، وأما وجه سببية كون ما يدعونه من دونه إلها باطلا ممكنا في ذاته لذلك فهو أن إمكانه على علو شأنه عندهم على ما عداه مما لم يعتقدوا إلهيته يستلزم إمكان غيره مما سوى الله عزّ وجلّ لأن ما فيه مما يدل على إمكانه موجود في ذلك حذو القذة بالقذة ومتى كان ما يدعونه إلها من دونه تعالى وغيره مما سوى الله سبحانه وتعالى ممكنا انحصر وجوب الوجود في الله تعالى فيكون جلّ وعلا وحده واجب الوجود في ذاته وقد علمت إفادته للمطلوب وكأنه إنما قيل إن ما يدعون من دونه الباطل دون أن ما سواه الباطل مثلا نظير قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل تنصيصا على فظاعة ما هم عليه واستلزم ذلك إمكان ما سوى الله تعالى من الموجودات من باب أولى بناء على ما يزعم المشركون في آلهتهم من علو الشأن ولم يكتف في بيان السبب بقوله سبحانه: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بل عطف عليه ما عطف مع أنه مما يعود إليه وتشعر تلك الجملة به إظهارا لكمال العناية بالمطلوب وبما يفيده منطوق المعطوف من بطلان الشريك وكونه تعالى هو العلي الكبير.
وقيل: أي ذلك الاتصاف بما تضمنته الآيات من عجائب القدرة والحكمة بسبب أن الله تعالى هو الإله الثابت إلهيته وأن من دونه سبحانه باطل الإلهية وإن الله تعالى هو العلي الشأن الكبير السلطان ومدار أمر السببية على كونه سبحانه هو الثابت الإلهية وبين ذلك الطيبي بأنه قد تقرر أن من كان إلها كان قادرا خالقا عالما إلى غير ذلك من صفات الكمال ثم قال إن قوله تعالى بأن الله هو الحق كالفذلكة لما تقدم من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ الى هذا المقام وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ كالفذلكة لتلك الفواصل المذكورة هنالك كلها.
ولعل ما قدمنا أولى بالاعتبار، وقال العلامة أبو السعود في الاعتراض على ذلك: أنت خبير بأن حقيته تعالى وعلوه وكبرياءه وإن كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الصفات لكن بطلان إلهية الأصنام لا دخل له في المناطية قطعا فلا مساغ لنظمه في سلك الأسباب بل هو تعكيس للأمر ضرورة أن الصفات المذكورة هي المقتضية لبطلانها لا أن بطلانها يقتضيها انتهى، وفيه تأمل والعجب منه أنه ذكر مثل ما اعترض عليه في نظير هذه الآية في سورة الحج ولم يتعقبه بشيء.
102
وجوز أن يكون المعنى ذلك أي ما تلي من الآيات الكريمة بسب بيان أن الله هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد ولأجل بيان بطلان إلهية ما يدعون من دونه لكونها شاهدة شهادة بينة لا ريب فيها ولأجل بيان أنه تعالى هو المرتفع على كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف تلك الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به أي بيان وهو وجه لا تكلف فيه سوى اعتبار حذف مضاف كما لا يخفى وكأنه إنما قيل هنا: وأن ما يدعون من دونه الباطل بدون ضمير الفصل، وفي سورة الحج وأن ما يدعون من دونه هو الباطل بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة.
وقال النيسابوري في ذلك إن آية الحج وقعت بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسب ذلك توسيط الضمير بخلاف ما هنا ويمكن أن يقال تقدم في تلك السورة ذكر الشيطان مرات فلهذا ذكرت تلك المؤكدات بخلاف هذه السورة فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان فيها نحو ذكره هناك، وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر «تدعون» بتاء الخطاب أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ استشهاد آخر على باهر قدرته جلّ وعلا وغاية حكمته عزّ وجلّ وشمول إنعامه تبارك وتعالى، والمراد بنعمة الله تعالى إحسانه سبحانه في تهيئة أسباب الجري من الريح وتسخيرها فالباء للتعدية كما في مررت بزيد أو سببية متعلقة بتجري.
وجوز أن يراد بنعمته تعالى ما أنعم جلّ شأنه به بما تحمله الفلك من الطعام والمتاع ونحوه فالباء للملابسة والمصاحبة متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الفلك أي تجري مصحوبة بنعمته تعالى وقرأ موسى بن الزبير «الفلك» بضم اللام ومثله معروف في فعل مضموم الفاء.
حكي عن عيسى بن عمر أنه قال: ما سمع فعل بضم الفاء وسكون العين إلّا وقد سمع فيه فعل بضم العين.
وفي الكشاف كل فعل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فعل فعل، وجعل ضم العين للإتباع وإسكانها للتخفيف.
وقرأ الأعرج، والأعمش، وابن يعمر «بنعمات الله» بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء وهو جمع نعمة بكسر فسكون، ويجوز كما قال غير واحد في كل جمع مثله تسكين العين على الأصل وكسرها اتباعا للفاء وفتحها تخفيفا.
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ سالك القصد أي الطريق المستقيم لا يعدل عنه لغيره، وأصله استقامة الطريق ثم أطلق عليه مبالغة، والمراد بالطريق المستقيم التوحيد مجازا فكأنه قيل: فمنهم مقيم على التوحيد، وقول الحسن: أي مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعمة يرجع إلى هذا، وقيل: مقتصد من الاقتصاد بمعنى اتوسط والاعتدال.
والمراد حينئذ على ما قيل متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء موف بما عاهد عليه الله تعالى في البحر، وتفسيره بموف بعهده مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويدخل في هذا البعض على هذا المعنى عكرمة بن أبي جهل
فقد روى السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الناس أن يكفوا عن قتل أهلها إلّا أربعة نفر منهم قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، وقيس بن ضبابة، وعبد الله بن أبي سرح
. فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجني في البر غيره. اللهم إن لك عليّ عهدا إن أنت عافيتي مما أنا فيه أن آتي محمّدا صلّى الله تعالى
103
عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء وأسلم، وقيل: متوسط في الكفر لانزجاره بما شاهده بعض الانزجار.
وقيل: متوسط في الإخلاص الذي كان عليه في البحر فإن الإخلاص الحادث عند الخوف قلما يبقى لأحد عند زوال الخوف. وأيا ما كان فالظاهر أن المقابل لقسم المقتصد محذوف دل عليه قوله تعالى:
وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ والآية دليل ابن مالك ومن وافقه على جواز دخول الفاء في جواب لما ومن لم يجوز قال: الجواب محذوف أي فلما نجاهم إلى البر انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم جاهد، والختار من الختر وهو أشد الغدر ومنه قولهم: إنك لا تمد لنا شبرا من غدر إلّا مددنا لك باعا من غدر، وبنحو ذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لابن الأزرق وأنشد قول الشاعر:
لقد علمت واستيقنت ذات نفسها بأن لا تخاف الدهر صرمي ولا ختري
ونحوه قول عمرو بن معد يكرب:
وإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر
وفي مفردات الراغب الختر غدر يختر فيه الإنسان أي يضعف ويكسر لاجتهاده فيه أي وما يجحد بآياتنا ويكفر بها إلّا كل غدار أشد الغدر لأن كفره نقض للعهد الفطري، وقيل: لأنه نقض لما عاهد الله تعالى عليه في البحر من الإخلاص له عزّ وجلّ كَفُورٍ مبالغ في كفران نعم الله تعالى، وخَتَّارٍ مقابل لصبار لأن من غدر لم يصبر على العهد وكفور مقابل لشكور يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم بعد ذكر دلائل الوحدانية، ويجزى من جزى بمعنى قضى ومنه قيل للمتقاضي المتجازي أن لا يقضي والد عن ولده شيئا.
وقرأ أبو السمال، وعامر بن عبد الله، وأبو السوار «لا يجزىء» بضم الياء وكسر الزاي مهموزا ومعناه لا يغني والد عن ولده ولا يفيده شيئا من أجزأت عنك مجزأ فلان أي أغنيت.
وقرأ عكرمة «يجزي» بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول والجملة على القراءات صفة يوما والراجع إلى الموصوف محذوف أي فيه فأما أن يحذف برمته وأما على التدريج بأن يحذف حرف الجر فيعدى الفعل إلى الضمير ثم يحذف منصوبا، وقوله تعالى: وَلا مَوْلُودٌ أما عطف على والِدٌ فهو فاعل يَجْزِي وقوله تعالى: هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً في موضع الصفة له والمنفي عنه هو الجزاء في الآخرة والمثبت له الجزاء في الدنيا أو معنى هو جاز أي من شأنه الجزاء لعظيم حق الوالد أو المراد بلا يجزي لا يقبل ما هو جاز به، وأما مبتدأ والمسوغ للابتداء به مع أنه نكرة تقدم النفي، وذهل المهدوي عن ذلك فمنع صحة كونه مبتدأ وجملة هُوَ جازٍ خبره وشَيْئاً مفعول به أو منصوب على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف وعلى الوجهين قيل تنازعه يَجْزِي وجازٍ واختيار ما لا يفيد التأكيد في الجملة الأولى وما يفيده في الجملة الثانية لأن أكثر المسلمين وأجلتهم حين الخطاب كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر وعلى الدين الجاهلي فلما كان غناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج نفيه إلى التأكيد، ولما كان غناء المسلم عن الكافر مما يقع في الأوهام أكد نفيه قاله الزمخشري.
وتعقبه ابن المنير بأنه يتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ والصحيح أنه عام لهم
104
ولكل من ينطلق عليه اسم الناس، ورده في الكشف بأن المتقدمتين فاسدتان، أما الثانية فلما تقرّر في أصول الفقه أن يا أَيُّهَا النَّاسُ يتناول الموجودين، وأما لغيرهم فبالإعلام أو بطريقه والمالكية موافقة، وأما الأولى فعلى تقدير التسليم لا شك أن أجلة المؤمنين وأكابرهم إلى انقراض الدنيا هم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ومعلوم أن أكثرهم قبض آباؤهم على الكفر فمن أين التوقيف اهـ.
واختار ابن المنير في وجه ذلك أن الله تعالى لما أكد الوصية بالآباء وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره عزّ وجلّ وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوء بحسب نهاية إمكانه قطع سبحانه هاهنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة كما أوجب الله تعالى عليه في الدنيا ذلك في حقه فلما كان جزاء الولد عن الوالد مظنة الوقوع لأنه سبحانه حض عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم ولا كذلك العكس وقريب منه ما قاله الإمام: إن الولد من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والولد يجزي لما فيه من النفقة وليس ذلك بواجب عليه فلذا قال سبحانه في الولد: لا يَجْزِي وفي الولد وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ ألا ترى أنه يقال لمن يحيك وليست الحياكة صنعته هو يحيك ولمن يحيك وهي صنعته هو حائك، وقيل: إن التأكيد في الجملة الثانية الدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي لأنه دون الوالد في الحنو والشفقة فلما كان أولى بهذا الحكم استحق التأكيد وفي القلب منه شيء، وقد يقال: إن العرب كانوا يدخرون الأولاد لنفعهم ودفع الأذى عنهم وكفاية ما يهمهم ولعل أكثر الناس كذلك فأريد حسم توهم نفعهم ودفعهم الأذى، وكفاية المهم في حق آبائهم يوم القيامة فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم وعد من جملة المؤكدات التعبير بالمولود لأنه من ولد بغير واسطة بخلاف الولد فإنه عام يشمل ولد الولد فإذا أفادت الجملة أن الولد الأدنى لا يجزي عن والده علم أن من عداه من ولد لا يجزي عن جده من باب أولى.
واعترض بأن هذه التفرقة بين الولد والمولود لم يثبتها أهل اللغة، ورد بأن الزمخشري، والمطرزي ذكرا ذلك وكفى بهما حجة، ثم إن في عموم الولد لولد الولد أيضا مقالا فقد ذهب جمع أنه خاص بالولد الصلبي حقيقة.
وقال صاحب المغرب يقال للصغير مولود وإن كان الكبير مولودا أيضا لقرب عهده من الولادة كما يقال لبن حليب ورطب جني للطري منهما، ووجه أمر التأكيد عليه بأنه إذا كان الصغير لا يجزي حينئذ مع عدم اشتغاله بنفسه لعدم تكليفه في الدنيا فالكبير المشغول بنفسه من باب أولى وهو كما ترى، وخصص بعضهم العموم بغير صبيان المسلمين لثبوت الأحاديث بشفاعتهم لوالديهم.
وتعقب بأن الشفاعة ليست بقضاء ولو سلم فلتوقفها على القبول يكون القضاء منه عزّ وجلّ حقيقة فتدبر.
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ قيل بالثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد أو هو بمعناه اللغوي حَقٌّ ثابت متحقق لا يخلف وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه وأما عدم إخلاف الوعد بالعقاب ففيه كلام والحق أنه لا يخلف أيضا، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين فليس من إخلاف الوعيد في شيء لما أن الوعيد في حقهم كان معلقا بشرط لم يذكر ترهيبا وتخويفا، والجملة على هذا تعليل لنفي الجزاء، وقيل: المراد أن وعد الله بذلك اليوم حق، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه لما قيل: يا أيها الناس اتقوا يوما (١) إلخ سأل سائل أن يكون ذلك اليوم؟ فقيل: إن وعد الله حق أي نعم يكون لا محالة لمكان الوعد به فهو جواب على أبلغ وجه، وإليه يشير كلام
(١) قوله «اتقوا يوما» إلخ هكذا بخطه والتلاوة تقدمت اتقوا ربكم واخشوا يوما.
105
الإمام فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان كما روي عن ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد والضحاك بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة منه تعالى أو يذكر لكم أنها لا تضر من سبق في علم الله تعالى موته على الإيمان وأن تركها لا ينفع من سبق في العلم موته على الكفر، وعن أبي عبيدة كل شيء غرك حتى تعصي الله تعالى وتترك ما أمرك سبحانه به فهو غرور شيطانا أو غيره، وإلى ذلك ذهب الراغب قال: الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان.
وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل: الدنيا تغر وتضر وتمر، وأصل الغرور من غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد والمراد به الخداع، والظاهر أن بِاللَّهِ صلة يَغُرَّنَّكُمْ أي لا يخدعنكم بذكر شيء من شؤونه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه.
وجوز أن يكون قسما وفيه بعد، وقرأ ابن أبي إسحاق، وابن أبي عبلة، ويعقوب، «تغرنكم» بالنون الخفيفة، وقرأ سمال بن حرب، وأبو حيوة «الغرور» بضم الغين وهو مصدر والكلام من باب جد جده، ويمكن تفسيره بالشيطان يجعله نفس الغرور مبالغة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلخ،
أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوارث بن عمرو جاء إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا محمد متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت، فنزلت هذه الآية، وذكر نحوه محيي السنة البغوي
، والواحدي، والثعلبي فهو نظرا إلى سبب النزول جواب لسؤال محقق ونظرا إلى ما قبلها من الآي جواب لسؤال مقدر كأن قائلا يقول: متى هذا اليوم الذي ذكر من شأنه ما ذكر؟ فقيل إن الله، ولم يقل إن علم الساعة عند الله مع أنه أخصر لأن اسم الله سبحانه أحق بالتقديم ولأن تقديمه وبناء الخبر عليه يفيد الحصر كما قرّره الطيبي مع ما فيه من مزية تكرر الإسناد، وتقديم الظرف يفيد الاختصاص أيضا بل لفظ عند كذلك لأنها تفيد حفظه بحيث لا يوصل إليه فيفيد الكلام من أوجه اختصاص علم وقت القيامة بالله عزّ وجلّ، وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي في إبانه من غير تقديم ولا تأخير في بلد لا يتجاوزه به وبمقدار تقتضيه الحكمة، الظاهر أنه عطف على الجملة الظرفية المبنية على الاسم الجليل على عكس قوله تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ [المؤمنون: ٢١] فيكون خبرا مبنيا على الاسم الجليل مثل المعطوف عليه فيفيد الكلام الاختصاص أيضا والمقصود تقييدات التنزيل الراجعة إلى العلم لا محض القدرة على التنزيل إذ لا شبهة فيه فيرجع الاختصاص إلى العلم بزمانه ومكانه ومقداره كما يشير إلى ذلك كلام الكشف، وقال العلامة الطيبي في شرح الكشاف: دلالة هذه الجملة على علم الغيب من حيث دلالة المقدور المحكم المتقن على العلم الشامل وقوله تعالى وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي أذكر أم أنثى أتام أم ناقص وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال عطف على الجملة الظرفية أيضا نظير ما قبله، وخولف بين عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وبين هذا ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها، وفي هذا على استمرار تجدد التعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله بأن يقال: ويعلم الغيث مثلا إشارة بإسناد التنزيل الى الاسم الجليل صريحا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم قال تعالى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم: ٤٩، ٥٠] وقال سبحانه: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: ١٩] إلى غير ذلك، وربما يقال: إن لتنزيل الغيث وإن لم يكن الغيث
106
المعهود دخلا في المبعث بناء على ما
ورد من حديث مطر السماء بعد النفخة الأولى مطرا كمني الرجال
، وقيل:
الاختصاص راجع إلى التنزيل وما ترجع إليه تقييداته التي يقتضيها المقام من العلم، وفي ذلك ردّ على القائلين مطرنا بنوء كذا وللاعتناء برد ذلك لما فيه من الشرك في الربوبية عدل عن يعلم إلى يُنَزِّلُ وهو كما ترى، وقوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ أي كل نفس برة كانت أو فاجرة كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي ماذا تَكْسِبُ غَداً أي في الزمان المستقبل من خير أو شر، وقوله سبحانه: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ عطف على ما استظهره صاحب الكشف على قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وأشار إلى أنه لما كان الكلام مسوقا للاختصاص لا لإفادة أصل العلم له تعالى فإنه غير منكر لزم من النفي على سبيل الاستغراق اختصاصه به عزّ وجلّ على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ، وفي العدول عن لفظ العلم إلى لفظ الدراية لما فيها من معنى الختل والحيلة لأن أصل دري رمي الدرية وهي الحلقة التي يقصد رميها الرماة وما يتعلم عليه الطعن والناقة التي يسببها الصائد ليأنس بها الصيد فيستتر من ورائها فيرميه وفي كل حيلة، ولكونها علما بضرب من الختل والخيلة لا تنسب إليه عزّ وجلّ إلّا إذا أولت بمطلق العلم كما
في خبر خمس «لا يدريهن إلا الله تعالى»
وقيل: قد يقال الممنوع نسبتها إليه سبحانه بانفراده تعالى أما مع غيره تبارك اسمه تغليبا فلا، ويفهم من كلام بعضهم صحة النسبة إليه جلّ وعلا على سبيل المشاكلة كما في قوله:
لا هم لا أدري وأنت الداري.
فلا حاجة إلى ما قيل: إنه كلام أعرابي جلف لا يعرف ما يجوز إطلاقه على الله تعالى وما يمتنع فيكون المعنى لا تعرف كل نفس وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد وأبعد، وقد روعي في هذا الأسلوب الإدماج المذكور ولذا لم يقل: ويعمل ماذا تكسب كل نفس ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت، وجوز أن يكون أصل وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وأن ينزل الغيث فحذف أن وارتفع الفعل كما في قوله: أيهذا الزاجري أحضر الوغى وكذا قوله سبحانه:
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ والعطف على عِلْمُ السَّاعَةِ فكأنه قيل: إن الله عنده علم الساعة وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام، ودلالة ذلك على اختصاص علم تنزيل الغيث به سبحانه ظاهر لظهور أن المراد بعنده تنزيل الغيث عنده علم تنزيله، وإذا عطف يُنَزِّلُ على السَّاعَةِ كان الاختصاص أظهر لانسحاب علم المضاف إلى الساعة الى الإنزال حينئذ فكأنه قيل: إن الله عنده علم الساعة وعلم تنزيل الغيث، وهذا العطف لا يكاد يتسنى في وَيَعْلَمُ إذ يكون التقدير وعنده علم علم ما في الأرحام وليس ذاك بمراد أصلا.
وجعل الطيبي وَما تَدْرِي نَفْسٌ إلخ معطوفا على خبر إن من حيث المعنى بأن يجعل المنفي مثبتا بأن يقال:
ويعلم ماذا تكسب كل نفس غدا ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وقال: إن مثل ذلك جائز في الكلام إذا روعي نكتة كما في قوله تعالى: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام: ١٥١] فإن العطف فيه باعتبار رجوع التحريم إلى ضد الإحسان وهي الإساءة، وذكر في بيان نكتة العدول عن المثبت إلى المنفي نحو ما ذكرنا آنفا. وتعقب ذلك صاحب الكشف بأن عنه مندوحة أي بما ذكر من عطفه على جملة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وقال الإمام: في وجه نظم الجمل الحق أنه تعالى لما قال: وَاخْشَوْا يَوْماً إلخ وذكر سبحانه أنه كائن بقوله عزّ وجلّ قائلا: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فكأن قائلا يقول: فمتى هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لم يحصل لغيره تعالى وذلك قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ثم ذكر جلّ وعلا الدليلين اللذين ذكرا مرارا على البعث. أحدهما إحياء الأرض بعد موتها المشار إليه بقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ والثاني الخلق ابتداء المشار
107
إليه بقوله سبحانه: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ فكأنه قال عزّ وجلّ: يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله تعالى قادر عليها كما هو سبحانه قادر على إحياء الأرض وعلى الخلق في الأرحام ثم بعد جلّ شأنه له أن يعلم ذلك بقوله عزّ وجلّ وما تدري إلخ فكأنه قال تعالى: يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها وإن من الأشياء ما هو أهم منها لا تعلم معاشك ومعادك فما تعلم ماذا تكسب غدا مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة متى يكون والله تعالى ما علمك كسب غدك ولا علمك أين تموت مع أن لك في ذلك فوائد شتى وإنما لم يعلمك لكي تكون في كل وقت بسبب الرزق راجعا متوكلا عليه سبحانه ولكيلا تأمن الموت إذا كنت في غير الأرض التي أعلمك سبحانه أنك تموت فيها فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه وهو وقت القيامة وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمك جلّ وعلا بذلك على ألسنة أنبيائه تعالى عليهم الصلاة والسلام انتهى، ولا يخفى أن الظاهر على ما ذكره أن يقال: وبخلق ما في الأرحام كما قال سبحانه:
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ووجه العدول عن ذلك إلى ما في النظم الجليل غير ظاهر على أن كلامه بعد لا يخلو عن شيء، وكون المراد اختصاص علم هذه الخمس به عزّ وجلّ هو الذي تدل عليه الأحاديث والآثار،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة من حديث طويل «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل متى الساعة؟ فقال للسائل: ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل إليهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ الآية»
أي إلى آخر السورة كما في بعض الروايات، وما وقع عند البخاري في التفسير من قوله: إلى الأرحام تقصير من بعض الرواة،
وأخرجها أيضا هما وغيرهما عن ابن قال: عمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «مفتاح- وفي رواية مفاتح- الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر».
وأخرج أحمد، والبزار، وابن مردويه، والروياني، والضياء بسند صحيح عن بريدة قال «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: خمس لا يعلمهن إلّا الله إن الله عنده علم الساعة الآية»
وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن ما عدا هذه الخمس من المغيبات قد يعلمه غيره عزّ وجلّ وإليه ذهب من ذهب. أخرج حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل الظهور فأنكر عليه فقال: إنما الغيب خمس وتلا هذه الآية وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن علم هذه الخمس لم يؤت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويلزمه أنه لم يؤت لغيره عليه الصلاة والسلام من باب أولى.
أخرج أحمد، والطبراني، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أوتيت مفاتيح كل شيء إلّا الخمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» الآية
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم صلّى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير الخمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يغم على نبيكم صلّى الله عليه وسلم إلّا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إن الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة
وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والبخاري في الأدب عن ربعي بن حراش قال: حدثني رجل من بني عامر أنه قال: يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟
فقال عليه الصلاة والسلام: لقد علمني الله تعالى خيرا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله تعالى الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية
، وصرح بعضهم باستئثار الله تعالى بهن، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة أنه قال في الآية: خمس
108
من الغيب استأثر الله تعالى بهن فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا إن الله عنده علم الساعة ولا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة ولا في أي شهر أليلا أم نهارا وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلا أم نهارا ويعمل ما في الأحلام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرا أم أنثى أحمر أو أسود ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا أخيرا أم شرا وما تدري بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر في سهل أم في جبل، والذي ينبغي أن يعلم أن كل غيب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ وليس المغيبات محصورة بهذه الخمس وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها أو لأنها كثيرا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها، وقال القسطلاني: ذكر صلّى الله عليه وسلم خمسا وإن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي زائدا عليه ولأن هذه الخمسة هي التي كانوا يدعون علمها انتهى، وفي التعليل الأخير نظر لا يخفى وأنه يجوز أن يطلع الله تعالى بعض أصفيائه على إحدى هذه الخمس ويرزقه عزّ وجلّ العلم بذلك في الجملة وعلمها الخاص به جلّ وعلا ما كان على وجه الإحاطة والشمول لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأتم، وفي شرح المناوي الكبير للجامع الصغير في الكلام على حديث بريدة السابق خمس لا يعلمهن إلا الله على وجه الإحاطة والشمول كليا وجزئيا فلا ينافيه اطلاع الله تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة، وإنكار المعتزلة لذلك مكابرة انتهى، ويعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدالة على استئثار الله تعالى بعلم ذلك وبين ما يدل على خلافه كبعض إخباراته عليه الصلاة والسلام بالمغيبات التي هي من هذا القبيل يعلم ذلك من راجع نحو الشفاء والمواهب اللدنية مما ذكر فيها معجزاته صلّى الله عليه وسلم وأخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات، وذكر القسطلاني أنه عزّ وجلّ إذا أمر بالغيث وسوقه إلى ما شاء من الأماكن علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء سبحانه من خلقه عزّ وجلّ، وكذا إذا أراد تبارك تعالى خلق شخص في رحم يعلم سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جلّ وعلا كما يدل عليه ما
أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى وكل بالرحم ملكا يقول: يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء الله تعالى من خلقه عزّ وجلّ»
وهذا لا ينافي الاختصاص والاستئثار بعلم المذكورات بناء على ما سمعت منا من أن المراد بالعلم الذي استأثر سبحانه به العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل فما يعلم به الملك ويطلع عليه بعض الخواص يجوز أن يكون دون ذلك العلم بل هو كذلك في الواقع بلا شبيهة، وقد يقال فيما يحصل للأولياء من العلم بشيء مما ذكر إنه ليس بعلم يقيني قال: علي القارئ في شرح الشفا: الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون يقينيا وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا ومثل هذا عندي بل هو دونه بمراحل علم النجومي ونحوه بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث وذكورة الحمل أو أنوثته أو نحو ذلك ولا أرى كفر من يدعي مثل هذا العلم فإنه ظن عن أمر عادي، وقد نقل العسقلاني في فتح الباري عن القرطبي أنه قال: من ادعى علم شيء من الخمس غير مسندة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان كاذبا في دعواه وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم، وعليه فقول القسطلاني من ادعى علم شيء منها فقد كفر بالقرآن العظيم ينبغي أن يحمل العلم فيه على نحو العلم الذي استأثر الله تعالى به دون مطلق العلم الشامل للظن وما يشبهه، وبعد هذا كله أن أمر الساعة أخفى الأمور المذكورة وأن ما أطلع الله تعالى عليه نبيه صلّى الله عليه وسلم من وقت قيامها في غاية الإجمال وإن كان أتم من علم غيره من البشر صلّى الله عليه وسلم
وقوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين»
لا يدل على أكثر من العلم الإجمالي بوقتها ولا أظن أن خواص الملائكة عليهم السلام أعلم منه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، ويؤيد ظني ما رواه الحميدي في نوادره بالسند عن الشعبي قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل عليهما السلام عن الساعة فانتفض بأجنحته، وقال: ما المسئول بأعلم من السائل،
109
والمراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها على الوجه الأكمل ويرشد إلى العلم الإجمالي بها ذكر أشراطها كما لا يخفى، ويجوز أن يكون الله تعالى أطلع حبيبه عليه الصلاة والسلام على وقت قيامها على وجه كامل لكن لا على وجه يحاكي علمه تعالى به إلّا أنه سبحانه أوجب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كتمه لحكمة ويكون ذلك من خواصه عليه الصلاة والسلام، وليس عندي ما يفيد الجزم بذلك، هذا وخص سبحانه المكان في قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ليعرف الزمان من باب أولى فإن الأول في وسع النفس في الجملة بخلاف الثاني،
وأخرج أحمد وجماعة عن أبي غرة الهذلي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا أراد الله تعالى قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ عليه الصلاة والسلام وما تدري نفس بأي أرض تموت»
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت فقال: كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك:
كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
وتَدْرِي في الموضعين معلقة فالجملة من قوله تعالى: ماذا تَكْسِبُ في موضع المفعول، ويجوز أن تكون ماذا كلها موصولا منصوب المحل بتدري كأنه قيل: وما تدري نفس الشيء الذي تكسبه غدا وبِأَيِّ متعلق بتموت والباء ظرفية، والجملة في موضع نصب بتدري.
وقرأ غير واحد من السبعة «ينزل» من الإنزال، وقرأ موسى الأسواري، وابن أبي عبلة «بأية أرض» بتاء التأنيث لإضافتها إلى المؤنث وهي لغة قليلة فيها كما أن كلا إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث نادرا فيقال: كلتهن فعلن ذلك فليعلم والله عزّ جلّ أعلم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ مبالغ في العلم فلا يعزب عن علمه سبحانه شيء من الأشياء خَبِيرٌ يعلم بوطنها كما يعلم ظواهرها فالجمع بين الوصفين للإشارة الى التسوية بين علم الظاهر والباطن عنده عزّ وجلّ والجملة على ما قيل في موضع التعليل لعلمه سبحانه بما ذكر، وقيل: جواب سؤال نشأ من نفي دراية الأنفس ماذا تكسب غدا وبأي أرض تموت كأنه قيل: فمن يعلم ذلك فقيل: إن الله عليم خبير وهو جواب بأن الله تعالى يعلم ذلك وزيادة، ولا يخفى أنه إذا كانت هذه الجملة من تتمة الجملتين اللتين قبلها كانت دلالة الكلام على انحصار العلم بالأمرين اللذين نفي العلم بهما عن كل نفس ظاهرة جدا فتأمل ذاك والله عزّ وجلّ يتولى هداك ومن باب الإشارة في السورة الكريمة الم إشارة إلى آلائه تعالى ولطفه جلّ شأنه ومجده عزّ وجلّ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بحضور القلب والإعراض عن السوي وهي صلاة خواص الخواص، وأما صلاة الخواص فبنفي الخطرات الردية والإرادات الدنيوية ولا ضر فيها طلب الجنة ونحوه، وأما صلاة العوام فما يفعله أكثر الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ببذل الوجود للملك المعبود لنيل المقصود وهي زكاة الأخص، وزكاة الخاصة ببذل المال كله لتصفية قلوبهم عن صدأ محبة الدنيا، وزكاة العامة ببذل القدر المعروف من المال المعلوم على الوجه المشروع المشهور لتزكية نفوسهم عن نجاسة البخل وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ هو ما يشغل عن الله تعالى ذكره ويحجب عنه عزّ وجلّ استماعه، وأما الغناء فهو عند كثير منهم أقسام منها ما هو من لهو الحديث، ونقل بعضهم عن الجنيد قدّس سره أنه قال: السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم، وعن أبي بكر الكناني سماع العوام على متابعة الطبع وسماع المريدين رغبة ورهبة وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعم وسماع العارفين على المشاهدة وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل من هؤلاء مصدر ومقام، وذكروا أن من القوم من يسمع في الله ولله
110
وبالله ومن الله جلّ وعلا ولا يسمع بالسمع الإنساني بل يسمع بالسمع الرباني كما
في الحديث القدسي «كنت سمعه الذي يسمع به»
وقالوا: إنما حرم اللهو لكونه لهوا فمن لا يكون لهوا بالنسبة إليه لا يحرم عليه إذ علة لحرمة في حقه منتفية والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، ويلزمهم القول بحل شرب المسكر لمن لا يسكره لا سيما لمن يزيده نشاطا للعبادة مع ذلك، ومن زنادقة القلندرية من يقول بحل الخمر والحشيشة ونحوها من المسكرات المحرمة بلا خلاف زاعمين أن استعمال ذلك يفتح عليهم أبواب الكشوف، وبعض الجهلة الذين لعب بهم الشيطان يطلبون منهم المدد في ذلك الحال قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ قيل: هي إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام، وذكروا أن الحكمة موهبة الأولياء كما أن الوحي موهبة الأنبياء عليهم السلام فكل ليس بكسبي إلا أن للكسب مدخلا ما في الحكمة،
فقد ورد «من أخلص لله تعالى أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه»
والحكمة التي يزعم الفلاسفة أنها حكمة ليست بحكمة إذ هي من نتائج الفكر ويؤتاها المؤمن والكافر وقلما تسلم من شوائب آفات الوهم، ولهذا وقع الاختلاف العظيم بين أهلها وعدها بعض الصوفية من لهو الحديث ولم يبعد في ذلك عن الصواب، وأشارت قصة لقمان إلى التوحيد ومقام جمع الجمع وعين الجمع واتباع سبيل الكاملين والإعراض عن السوي وتكميل الغير والصبر على الشدائد والتواضع للناس وحسن المماشاة والمعاملة والسيرة وترك التماوت في المشي وترك رفع الصوت، وقيل: الْحَمِيرِ في قوله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ هم الصوفية الذين يتكلمون بلسان المعرفة قبل أن يؤذن لهم، وطبق بعضهم جميع ما في القصة على ما في الأنفس وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال الجنيد: النعم الظاهرة حسن الأخلاق والنعم الباطنة أنواع المعارف، وقيل: على قراءة النعمة الظاهرة اتباع ظاهر العلم والباطنة طلب الحقيقة في الاتباع، وقيل: النعمة الظاهرة بلا زلة والباطنة قلب بلا غفلة.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ يشير الى أهل الجدل من الفلاسفة فإنهم يجادلون في ذات الله تعالى وصفاته عزّ وجلّ كذلك عند التحقيق لأنهم لا يعتبرون كلام الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا الكتب المنزلة من السماء وأكثر علومهم مشوب بآفة الوهم ومع هذا فشؤون الله جلّ وعلا طور ما وراء طور العقل:
هيهات أن تصطاد عنقاء البقا بلعابهن عناكب الأفكار
وأبعد من محدب الفلك التاسع حصول علم بالله عزّ وجلّ وبصفاته جل شأنه يعتد به بدون نور إلهي يستضيء العقل به وعقولهم في ظلمات بعضها فوق بعض، وقد سدت أبواب الوصول إلّا على متبع للرسول صلّى الله عليه وسلم قال بعضهم مخاطبا لحضرة صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام:
وأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إلى قوله سبحانه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فيه إشارة الى أنه سبحانه تمام وفوق التمام، والمراد بالأول من حصل له كل ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى: هُوَ الْحَقُّ والمراد بالثاني من حصل له ذلك وحصل لما عداه ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى: هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ووراء هذين الشيئين ناقص وهو ما ليس له ما ينبغي كالصبي والمريض والأعمى ومكتف وهو من أعطى ما تندفع به حاجته في وقته كالإنسان الذي له من الآلات ما تندفع به حاجته في وقته ولكنها في معرض التحلل والزوال إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية ذكر غير واحد حكايات عن الأولياء متضمنة لاطلاع الله تعالى إياهم على ما عدا علم الساعة من الخمس وقد علمت
111
الكلام في ذلك، وأغرب ما رأيت ما ذكره الشعراني عن بعضهم أنه كان يبيع المطر فيمطر على أرض من يشتري منه متى شاء، ومن له عقل مستقيم لا يقبل مثل هذه الحكاية، وكم للقصاص أمثالها من رواية نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من اعتقاد خرافات لا أصل لها وهو سبحانه ولي العصمة والتوفيق.
وقرأ ابن أبي عبلة «بنعمات الله» بفتح النون وكسر العين جمعا لنعمة بفتح النون وهي اسم للتنعيم، وقيل: بمعنى النعمة بالكسر لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي بعض دلائل ألوهيته تعالى ووحدته سبحانه وقدرته جلّ شأنه وعمله عزّ وجلّ، وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ تعليل لما قبله أي أن فيما ذكر لآيات عظيمة في ذاتها كثيرة في عددها لكل مبالغ في الصبر على بلائه سبحانه ومبالغ في الشكر على نعمائه جلّ شأنه.
وصَبَّارٍ شَكُورٍ كناية عن المؤمن من باب حي مستوي القامة عريض الأظفار فإنه كناية عن الإنسان لأن هاتين الصفتين عمدتا الإيمان لأنه وجميع ما يتوقف عليه إما ترك للمألوف غالبا وهو بالصبر أو فعل لما يتقرب به وهو شكر لعمومه فعل القلب والجوارح واللسان، ولذا ورد الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر، وذكر الوصفين بعد الفلك فيه أتم مناسبة لأن الراكب فيه لا يخلو عن الصير والشكر، وقيل: المراد بالصبار كثير الصبر على التعب في كسب الأدلة من الأنفس والآفاق وإلّا فلا اختصاص للآيات بمن تعب مطلقا وكلا الوصفين بنيا بناء مبالغة، وفعال على ما في البحر أبلغ من فعول لزيادة حروفه، قيل: وإنما اختير زيادة المبالغة في الصبر إيماء إلى أن قليله لشدة مرارته وزيادة ثقله على نفس كثير وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ أي علاهم وغطاهم من الغشاء بمعنى الغطاء من فوق وهو المناسب هنا، وقيل: أي أي أتاهم من الغشيان بمعنى الإتيان وضمير غَشِيَهُمْ أن اتحد بضمير المخاطبين قبله ففي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة وإلّا فلا التفات، والموج ما يعلو من غوارب الماء وهو اسم جنس واحدة موجة وتنكيره للتعظيم والتكثير، ولذا أفرد مع جمع المشبه به في قوله تعالى: كَالظُّلَلِ وهو جمع ظلة كغرفة وغرف وقربة وقرب، والمراد بها ما أظل من سحال أو جبل أو غيرهما.
وقال الراغب: الظلة السحابة تظل وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره، وفسر قتادة الظل هنا بالسحاب، وبعضهم بالجبال، وقرأ محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه «كالظلال» وهو جمع ظلة أيضا كعلبة وعلاب وجفرة وجفار، وإذا ظرف لقوله تعالى: دَعَوُا أي دعوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إذا غشيهم موج كالظلل وإنما فعلوا ذلك حينئذ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد.
112
سورة السجدة
وتسمى المضاجع أيضا كما في الإتقان، وفي مجمع البيان أنها كما تسمى سورة السجدة تسمى سجدة لقمان لئلا تلتبس بحم السجدة، وأطلق القول بمكيتها، أخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس إنها نزلت بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله، وجاء في رواية أخرى عن الحبر استثناء، أخرج النحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى تمام الآيات الثلاث، وروي مثله عن مجاهد، والكلبي، واستثنى بعضهم أيضا آيتين أخريين وهما قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ [السجدة: ١٦] إلخ، واستدل عليه ببعض الروايات في سبب النزول وستطلع على ذلك إن شاء الله تعالى واستبعد استثناؤهما لشدة ارتباطهما بما قبلهما، وهي تسع وعشرون آية في البصري وثلاثون في الباقية، ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمال كل على دلائل الألوهية، وفي البحر لما ذكر سبحانه فيما قبل دلائل التوحيد وهو الأصل الأول ثم ذكر جلّ وعلا المعاد وهو الأصل الثاني وختم جل شأنه به السورة ذكر تعالى في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو النبوة وقال الجلال السيوطي في وجه الاتصال بما قبلها: إنها شرح لمفاتيح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة ما قبل، فقوله تعالى: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: ٥] شرح قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: ٣٤] ولذلك عقب بقوله سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [السجدة: ٦] وقوله تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [السجدة: ٧] شرح قوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: ٣٤] وقوله تبارك وتعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: ٧] الآيات شرح قوله جل جلاله: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان: ٣٤] وقوله عزّ وجلّ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: ٥] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: ١٣] شرح قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وقوله جلّ وعلا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: ١٠] إلى قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: ١١] شرح قوله سبحانه: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: ٣٤] اه، ولا يخلو عن نظر، وجاء في فضلها أخبار كثيرة،
أخرج أبو عبيد وابن الضريس من مرسل المسيب بن رافع أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «تجيء الم تنزيل- وفي رواية- الم السجدة يوم القيامة لها جناحان تظل صاحبها وتقول: لا سبيل عليه لا سبيل عليه».
وأخرج الدارمي، والترمذي، وابن مردويه عن طاوس قال: الم السجدة، وتبارك الذي بيده الملك تفضلان على كل سورة في القرآن بستين حسنة، وفي رواية عن ابن عمر تفضلان ستين درجة على غيرهما من سور القرآن.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وأحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، والترمذي، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن جابر قال: «كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك»
113
Icon