تفسير سورة لقمان

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة لقمان
هذه السورة مكية، قال ابن عباس : إلا ثلاث آيات، أولهنّ :﴿ ولو أن ما في الأرض ﴾.
وقال قتادة : إلا آيتين، أوّلهما :﴿ ولو أن ﴾ إلى آخر الآيتين، وسبب نزولها أن قريشاً سألت عن قصة لقمان مع ابنه، وعن بر والديه، فنزلت.
وقيل : نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاثة :﴿ ولو أن ما في الأرض ﴾ إلى آخرهنّ، لما نزل ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ وقول اليهود : إن الله أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا ومعنا، فقال الرسول :« التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله »، فنزل :﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾.
ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى :﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ﴾ فأشار إلى ذلك بقوله :﴿ الم، تلك آيات الكتاب الحكيم ﴾ ؛ وكان في آخر تلك :﴿ ولئن جئتهم بآية ﴾ وهنا :﴿ وإذا تتلى عليه آياتنا ولىّ مستكبراً ﴾، وتلك إشارة إلى البعيد، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته وعلو شأنه.

ﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ
سورة لقمان
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١ الى ٣٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
405
لُقْمَانُ: اسْمُ عَلَمٍ، فَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا فَمَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَمَنْعُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ، وَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ اللَّقْمِ مُرْتَجَلًا، إِذْ لَا يُعْلَمُ لَهُ وَضْعٌ فِي النَّكِرَاتِ. صَعَّرَ: مُشَدَّدُ الْعَيْنِ، لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ شَاعِرُهُمْ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ من ميله فيقوم
فيقوم: أَمْرٌ بِالِاسْتِقَامَةِ لِلْقَوَافِي فِي الْمَخْفُوضَةِ، أَيْ فَيَقُومُ إِنْ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَإِنْشَادُ الطَّبَرِيِّ فَيُقَوَّمَا فِعْلًا مَاضِيًا خَطَأٌ، وَتَصَاعَرَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَيُقَالُ: يُصَعِّرُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّهِ الْمُتَصَعِّرِ وَيُقَالُ: أَصْعَرَ خَدَّهُ. قَالَ الْفَضْلُ: هُوَ الْمَيْلُ، وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: هُوَ التَّشَدُّقُ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ هَذَا مِنَ الصَّعَرِ، دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ في رؤوسها وَأَعْنَاقِهَا، فَتَلْتَوِي مِنْهُ أَعْنَاقُهَا. الْقَلَمُ: مَعْرُوفٌ. الْخَتَّارُ: شَدِيدُ الْغَدْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:
إِنَّكَ لَا تَمُدُّ إِلَيْنَا شِبْرًا مِنْ غَدْرِ إِلَّا مَدَدْنَا لَكَ بَاعًا مِنْ خَتْرِ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ:
وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْرٍ مَلَأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
وَقَالَ الأعشى:
فالأيلق الْفَرْدُ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ ختار
الم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ
407
الْمُفْلِحُونَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ، أَوَّلُهُنَّ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا آيَتَيْنِ، أَوَّلُهُمَا: وَلَوْ أَنَّ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلَتْ عَنْ قِصَّةِ لُقْمَانَ مَعَ ابْنِهِ، وَعَنْ بِرِّ وَالِدَيْهِ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ إلا الآيات الثلاثة: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِنَّ، لَمَّا نَزَلَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «١».
وَقَوْلُ الْيَهُودِ: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى وَخَلَفَهَا فِينَا ومعنا، فقال الرسول:
«التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَنْبَاءِ قَلِيلٌ فِي عِلْمِ الله»، فنزل: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ «٢»، فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وَكَانَ فِي آخِرِ تِلْكَ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ «٣»، وَهُنَا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعِيدِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبُعْدِ غَايَتِهِ وَعُلُوِّ شأنه.
وآياتُ الْكِتابِ: القرآن واللوح المحفوظ. وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْحَكِيمِ، إِمَّا لِتَضَمُّنِهِ لِلْحِكْمَةِ، قِيلَ: أَوْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ، وَهَذَا يَقِلُّ أَنْ يَكُونَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَمِنْهُ عَقَّدْتُ الْعَسَلَ فَهُوَ عَقِيدٌ، أَيْ مُعْقَدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمٌ بِمَعْنَى حَاكِمٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَكِيمُ: ذُو الْحِكْمَةِ أَوْ وَصْفٌ لِصِفَةِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْحَكِيمُ قَابِلُهُ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَبِانْقِلَابُهُ مَرْفُوعًا بَعْدَ الْجَرِّ اسْتَكَنَّ فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هُدىً وَرَحْمَةً، بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْآيَاتِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي تِلْكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَقُنْبُلٌ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْفَضْلِ الْوَاسِطِيِّ: بِالرَّفْعِ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ خبر بعد خبر،
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٥.
(٢) سورة الروم: ٣٠/ ٥٨.
(٣) سورة الروم: ٣٠/ ٥٨.
408
عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذلك. لِلْمُحْسِنِينَ: الذين يَعْمَلُونَ الْحَسَنَاتِ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا. كَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَوْسٍ:
الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ ال ظَّنَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
حُكِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَلْمَعِيِّ فَأَنْشَدَهُ وَلَمْ يَزِدْ، وَخُصَّ الْمُحْسِنُونَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهِ وَنَظَرُوهُ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالْحَسَنِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَخُصَّ منهم القائمون بهذه الثلاثة، لِفَضْلِ الِاعْتِدَادِ بِهَا. وَمِنْ صِفَةِ الْإِحْسَانِ مَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْإِحْسَانَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».
وَقِيلَ: الْمُحْسِنُونَ:
الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: هُمُ السُّعَدَاءُ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: هُمُ الْمُنْجِحُونَ. وَقِيلَ:
النَّاجُونَ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ قَدْرِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ الْحِكْمَةَ، وَأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةً، وَأَنَّ مُتَّبِعَهُ فَائِزٌ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ يَطْلُبُ مَنْ بَدَّلَ الْحِكْمَةَ بِاللَّهْوِ، وَذَكَرَ مُبَالَغَتَهُ فِي ارْتِكَابِهِ حَتَّى جَعَلَهُ مُشْتَرِيًا لَهُ وَبَاذِلًا فِيهِ رَأْسَ عَقْلِهِ، وَذَكَرَ عِلَّتَهُ وَأَنَّهَا الْإِضْلَالُ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ.
وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ يَتَّجِرُ إِلَى فَارِسَ، وَيَشْتَرِي كُتُبَ الأعاجم، فيحدث قريشان بِحَدِيثِ رُسْتُمَ وَاسْفِنْدَارَ وَيَقُولُ: أَنَا أَحْسَنُ حَدِيثًا. وَقِيلَ: فِي ابْنِ خَطَلٍ، اشْتَرَى جَارِيَةً تُغَنِّي بِالسَّبِّ، وَبِهَذَا فُسِّرَ لَهْوَ الْحَدِيثِ: الْمَعَازِفَ وَالْغِنَاءَ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «شِرَاءُ الْمُغَنِّيَاتِ وَبَيْعُهُمْ حَرَامٌ»، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَهْوَ الْحَدِيثِ: الشِّرْكُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: الطَّبْلُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ آلَةِ الْغِنَاءِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: التُّرَّهَاتُ. وَقِيلَ: السِّحْرُ. وَقِيلَ: مَا كَانَ يَشْتَغِلُ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ السِّبَابِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا شَغَلَكَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَذِكْرِهِ مِنَ السِّحْرِ.
وَالْأَضَاحِيكِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْغِنَاءِ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْجِدَالُ فِي الدِّينِ وَالْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشِّرَاءَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ اخْتِيَارِ الشَّيْءِ، وَصَرْفِ عَقْلِهِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ، كَالْجَوَارِي الْمُغَنِّيَاتِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَكَكُتُبِ الْأَعَاجِمِ الَّتِي اشْتَرَاهَا النَّضْرُ فَالشِّرَاءُ حَقِيقَةٌ وَيَكُونُ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ مَنْ يَشْتَرِي ذَاتَ لَهْوِ الْحَدِيثِ.
وَإِضَافَةُ لَهْوَ إِلَى الْحَدِيثِ هِيَ لِمَعْنَى مِنْ، لِأَنَّ اللَّهْوَ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَدِيثٍ، فَهُوَ كَبَابٍ سَاجٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: الْحَدِيثُ الْمُنْكَرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى مِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي بَعْضَ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ اللَّهْوُ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: لِيَضِلَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّهَا. قَالَ
409
الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ بَيِّنَةٌ، لِأَنَّ النَّضْرَ كَانَ غَرَضُهُ بِاشْتِرَاءِ اللَّهْوِ أَنْ يَصُدَّ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيُضِلُّهُمْ عَنْهُ، فَمَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالْفَتْحِ؟
قُلْتُ: مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا: لِيَثْبُتَ عَلَى ضَلَالِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يَصْدِفُ عَنْهُ، وَيَزِيدُ فِيهِ وَيَمُدُّهُ بِأَنَّ الْمَخْذُولَ كَانَ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ فِي عَدَاوَةِ الدِّينِ وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوضَعَ لِيُضِلَّ مَوْضِعَ لِيَضِلَّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مِنَ أَضَلَّ كَانَ ضَالًّا لَا مَحَالَةَ، فَدَلَّ بِالرَّدِيفِ عَلَى الْمَرْدُوفِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا مَعْنَاهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا جَعَلَهُ مُشْتَرِيًا لَهْوَ الْحَدِيثِ بِالْقُرْآنِ قَالَ: يَشْتَرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ بِالتِّجَارَةِ وَبِغَيْرِ بَصِيرَةٍ بِهَا، حَيْثُ يَسْتَبْدِلُ الضَّلَالَ بِالْهُدَى وَالْبَاطِلَ بِالْحَقِّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ «١»، أَيْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ لِلتِّجَارَةِ وَبُصَرَاءُ بِهَا. انتهى. وسَبِيلِ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ أَوِ الْقُرْآنُ، قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي لَهْوِ الْحَدِيثِ مُضَافًا إِلَى الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ اشْتَدَّتْ أَلْفَاظُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: لِيُضِلَّ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: وَيَتَّخِذَها، بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِيُضِلَّ، تَشْرِيكًا فِي الصِّلَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالرَّفْعِ، عَطْفًا عَلَى يَشْتَرِي، تَشْرِيكًا فِي الصِّلَةِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ ضَمِيرِ وَيَتَّخِذَها عَلَى السَّبِيلِ، كَقَوْلِهِ:
وَيَبْغُونَها عِوَجاً «٢». قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى آياتُ الْكِتابِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً «٣». قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ على الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَرَادَ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ: مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْوِيَةِ دِينِهِمْ، وَالْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرِ صفة الرسول، وَأَنَّ التَّوْرَاةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ، يَقْصِدُونَ صَدَّ أَتْبَاعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِمْ يَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ الرِّشَا وَالْجَعَائِلَ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: أَيْ دِينِهِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ حَذْفٍ وَتَلْخِيصٍ.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ: بَدَأَ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، فَأَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشْتَرِي، ولِيُضِلَّ، ويَتَّخِذَها، ثُمَّ جَمَعَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى اللَّفْظِ فَأَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى إلى آخره. ومن فِي: مَنْ يَشْتَرِي مَوْصُولَةٌ، وَنَظِيرُهُ فِي مَنِ الشَّرْطِيَّةِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ «٤»، فَمَا بَعْدَهُ أُفْرِدَ ثُمَّ قَالَ:
خالِدِينَ، فَجَمَعَ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً «٥»، فَأَفْرَدَ، وَلَا نَعْلَمُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٦.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٤٥، وسورة هود: ١١/ ١٩.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٣١.
(٤) سورة التغابن: ٦٤/ ٩- ١١.
(٥) سورة الطلاق: ٦٥/ ١١.
410
مَا حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ، غَيْرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَالنَّحْوِيُّونَ يُذَكِّرُونَ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ الْآيَةَ فَقَطْ، ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ جَارٍ فِي مَنِ الْمَوْصُولَةِ وَنَظِيرِهَا مِمَّا لَمْ يُثَنَّ وَلَمْ يُجْمَعْ مِنَ الْمَوْصُولَاتِ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَمَّ الْمُشْتَرِي مِنْ وُجُوهِ التَّوْلِيَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ الِاسْتِكْبَارِ، ثُمَّ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى سَمَاعِهَا، كَأَنَّهُ غَافِلٌ عَنْهَا، ثُمَّ الْإِيغَالِ فِي الْإِعْرَاضِ بِكَوْنِ أُذُنَيْهِ كَأَنَّ فِيهِمَا صَمَمًا يَصُدُّهُ عَنِ السَّمَاعِ. وكَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُسْتَكْبِراً، أَيْ مُشَبِّهًا حَالَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، لِكَوْنِهِ لَا يَجْعَلُ لَهَا بَالًا وَلَا يَلْتَفِتُ إليها وكأن هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَاجِبُ الحذف. وكَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً: حَالٌ مِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا اسْتِئْنَافَيْنِ. انْتَهَى، يَعْنِي الْجُمْلَتَيْنِ التَّشْبِيهِيَّتَيْنِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا وَعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، ذَكَرَ مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خَالِدُونَ، بِالْوَاوِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لنفسه، وحَقًّا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مُتَغَايِرٌ، فوعد اللَّهِ مَنْصُوبٌ، أَيْ يُوعِدُ الله وعده، وحقا منصوب بأحق ذَلِكَ حَقًّا.
خَلَقَ السَّماواتِ إِلَى فَأَنْبَتْنا فِيها، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْنَى كَرِيمٍ: مِدْحَتُهُ بِكَرَمِ جَوْهَرِهِ وَنَفَاسَتِهِ وَحُسْنِ مَنْظَرِهِ، وَمَا تَقْضِي لَهُ النُّفُوسُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى اسْتَحَقَّ الْكَرَمَ، فَيَخُصُّ لَفْظُ الْأَزْوَاجِ مَا كَانَ نَفِيسًا مُسْتَحْسَنًا مِنْ جِهَةٍ، أَوْ مِدْحَتُهُ بِإِتْقَانِ صِفَتِهِ وَظُهُورِ حُسْنِ الرُّتْبَةِ وَالتَّحَكُّمِ لِلصُّنْعِ فِيهِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ الْأَنْوَاعُ. هَذَا خَلْقُ اللَّهِ
إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَبَّخَ بِذَلِكَ الْكُفَّارَ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ. وَالْخَلْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، كَقَوْلِهِمْ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ مَضْرُوبُهُ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ أَنْ يُورِدَهُ.
وَأَمَّا خِلْقَتُهُ آلِهَتِهِمْ لَمَّا ذَكَرَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَكَيْفَ عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ؟ وَيَجُوزُ فِي مَاذَا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وتكون مفعولا ثانيا لأروني. وَاسْتِعْمَالُ مَاذَا كُلِّهَا مَوْصُولًا قَلِيلٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الابتداء، وذا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بأروني، وأروني مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْعَمَلِ لَفْظًا لِأَجْلِ الِاسْتِفْهَامِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ تَوْبِيخِهِمْ وَتَبْكِيتِهِمْ إِلَى التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ لِمَنْ يَتَدَبَّرُ، لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ صَنَمًا وَتَرَكَ خَالِقَهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ فِي حَيْرَةٍ وَتِيهٍ لَا يُقْلِعُ عَنْهُ.
411
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
اخْتُلِفَ فِي لُقْمَانَ، أَكَانَ حُرًّا أَمْ عَبْدًا؟ فَإِذَا قُلْنَا: كَانَ حُرًّا، فَقِيلَ: هُوَ ابْنُ بَاعُورَا.
قَالَ وَهْبٌ: ابْنُ أُخْتِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ابْنُ خَالَتِهِ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْ أَوْلَادِ آزَرَ، وَعَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَدْرَكَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْعِلْمَ، وَكَانَ يُفْتِي قَبْلَ مَبْعَثِ دَاوُدَ، فَلَمَّا بُعِثَ دَاوُدُ، قَطَعَ الْفَتْوَى، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ؟ فَقَالَ: أَلَا أَكْتَفِي إِذَا كُفِيتُ؟ وَكَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَزَمَانُهُ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ: كَانَ نَبِيًّا. وَإِذَا قُلْنَا: كَانَ عَبْدًا، اخْتُلِفَ فِي جِنْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ:
كَانَ نُوبِيًّا مُشَقَّقَ الرِّجْلَيْنِ ذَا مَشَافِرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: كَانَ حَبَشِيًّا مَجْدُوعَ الْأَنْفِ ذَا مِشْفَرٍ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا كَانَ يُعَانِيهِ مِنَ الْأَشْغَالِ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الرَّبِيعِ: كَانَ نَجَّارًا، وَفِي مَعَانِي الزَّجَّاجِ: كَانَ نَجَّادًا، بِالدَّالِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ خَيَّاطًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَاعِيًا. وَقِيلَ: كَانَ يَحْتَطِبُ لِمَوْلَاهُ كُلَّ يَوْمٍ حُزْمَةً. وَهَذَا الِاضْطِرَابُ فِي كَوْنِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَفِي جِنْسِهِ، وَفِيمَا كَانَ يُعَانِيهِ، يُوجِبُ أَنْ لَا يُكْتَبَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَلَ. لَكِنِ الْمُفَسِّرُونَ مُولَعُونَ بِنَقْلِ الْمُضْطَرِبَاتِ حَشْوًا وَتَكْثِيرًا، وَالصَّوَابُ تَرْكُهُ.
وَحِكْمَةُ لُقْمَانَ مَأْثُورَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:
قِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مُسِيئًا. وَقَالَ لَهُ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَوْمًا: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ فِي يَدِ غَيْرِي، فَتَفَكَّرَ دَاوُدُ فِيهِ، فَصُعِقَ صَعْقَةً.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي حِكَمِ لُقْمَانَ أَكْثَرَ من عشرة آلاف. والْحِكْمَةَ: الْمَنْطِقُ الَّذِي يَتَّعِظُ بِهِ وَيَتَنَبَّهُ بِهِ، وَيَتَنَاقَلُهُ النَّاسُ لِذَلِكَ. أَنِ اشْكُرْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْحِكْمَةِ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقَدْ نَبَّهَ
412
سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْأَصْلِيَّةَ وَالْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْعَمَلُ بِهِمَا، أَوْ عِبَادَةُ اللَّهِ وَالشُّكْرُ لَهُ، حَيْثُ فَسَّرَ إِيتَاءَ الْحِكْمَةِ بِالْبَعْثِ عَلَى الشَّكِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ لِأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ، فَجَعَلَهَا مَصْدَرِيَّةً، لَا تَفْسِيرِيَّةً. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ. فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ: أَيْ ثَوَابَ الشُّكْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلشَّاكِرِينَ، إِذْ هُوَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الشُّكْرِ، فَشُكْرُ الشَّاكِرِ لَا يَنْفَعُهُ، وَكُفْرُ مَنْ كفر لا يضره. وحَمِيدٌ: مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ.
وَإِذْ قالَ: أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ، إِذْ قَالَ، وَاخْتُصِرَ لِدَلَالَةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. وَابْنُهُ بَارٌّ، أَيْ: أَوْ أَنْعِمْ، أَوِ اشْكُرْ، أَوْ شَاكِرٌ، أَقْوَالٌ.
وَهُوَ يَعِظُهُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قِيلَ: كَانَ ابْنُهُ وَامْرَأَتُهُ كَافِرَيْنِ، فَمَا زَالَ يَعِظُهُمَا حَتَّى أَسْلَمَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ، مُنْقَطِعٌ عَنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، مُتَّصِلٌ بِهِ فِي تَأْكِيدِ الْمَعْنَى وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ: يَا بُنَيَّ، بِالسُّكُونِ، ويا بُنَيَّ إِنَّها: بكسر الياء، ويا بُنَيَّ أَقِمِ: بِفَتْحِهَا. وَقِيلَ: بِالسُّكُونِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْكَسْرِ فِي الْوُسْطَى وَحَفْصٌ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: بِالْفَتْحِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى تَقْدِيرِ يَا بنيا، وَالِاجْتِزَاءِ بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْكَسْرِ فِي الثَّلَاثَةِ.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ: لَمَّا بَيَّنَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ وَنَهَاهُ عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ حَثًّا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الطَّاعَةَ تَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ، وَبَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ مِمَّا وَصَّى بِهِ ابْنَهُ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، قَالَهُ لِلُقْمَانَ، أَيْ قُلْنَا لَهُ اشْكُرْ. وَقُلْنَا لَهُ: وَوَصَّيْنَا. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ اعْتِرَاضٌ بَيِّنٌ أَثْنَاءَ وَصِيَّتِهِ لِلُقْمَانَ، وَفِيهَا تَشْدِيدٌ وَتَوْكِيدٌ لِاتِّبَاعِ الْوَلَدِ وَالِدَهُ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَآيَةَ الْعَنْكَبُوتِ نَزَلَتَا فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَمَّا خَصَّ الْأُمَّ بِالْمَشَقَّاتِ مِنَ الْحَمْلِ وَالنِّفَاسِ وَالرِّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ، نَبَّهَ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْإِيصَاءِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِبِرِّ الْأُمِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ
، فَجَعَلَ لَهُ مَرَّةً الرُّبْعَ مِنَ الْمَبَرَّةِ.
وَهْناً عَلى وَهْنٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَخَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ضَعْفًا بَعْدَ ضَعْفٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جُهْدًا عَلَى جُهْدٍ، يَعْنِي: ضَعْفَ الْحَمْلِ، وَضَعْفَ الطَّلْقِ، وَضَعْفَ النِّفَاسِ، وَانْتَصَبَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: وَهْناً
413
عَلى وَهْنٍ
: نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، إِلَى آخِرِ النَّشْأَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي حَمْلَتْهُ، وَهُوَ الْوَلَدُ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، بِفَتْحِ الْهَاءِ فِيهِمَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَالشَّعْرِ وَالشَّعَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ وَهِنَ بِكَسْرِ الْهَاءِ يَوْهَنُ وَهَنًا، بِفَتْحِهَا فِي الْمَصْدَرِ قِيَاسًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بسكون الهاء فيهما. وقرأوا:
وَفِصالُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَيَعْقُوبُ: وَفَصْلَهُ، وَمَعْنَاهُ الْفِطَامُ، أَيْ فِي تَمَامِ عَامَيْنِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِنِهَايَتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِ الْعَامَيْنِ فِي مُدَّةِ الرِّضَاعِ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ وَالنَّفَقَاتِ، وَأَمَّا فِي تَحْرِيمِ اللَّبَنِ فِي الرِّضَاعِ فَخِلَافٌ مذكور في الفقه.
وأَنِ اشْكُرْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً. لِي: أَيْ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ. وَلِوالِدَيْكَ: عَلَى نِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ إِلَيَّ الْمَصِيرُ: تَوَعَّدَ أَثْنَاءَ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ جاهَداكَ إِلَى: فَلا تُطِعْهُما: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا عَلَى، وَهُنَاكَ لِتُشْرِكَ بِلَامِ الْعِلَّةِ. وَانْتَصَبَ مَعْرُوفاً عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صَحَّابًا، أَوْ مُصَاحِبًا مَعْرُوفًا وَعِشْرَةً جَمِيلَةً، وَهُوَ إِطْعَامُهُمَا وَكِسْوَتُهُمَا وَعَدَمُ جَفَائِهِمَا وَانْتِهَارِهِمَا، وَعِيَادَتُهُمَا إِذَا مَرِضَا، وَمُوَارَاتُهُمَا إِذَا مَاتَا. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ: أَيْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، وهو سبيل الرسول لَا سَبِيلُهُمَا. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ:
أَيْ مَرْجِعُكَ وَمَرْجِعُهُمَا، فَأُجَازِي كُلًّا مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ.
وَلَمَّا نَهَى لُقْمَانُ ابْنَهُ عَنِ الشِّرْكِ، نَبَّهَهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ مقدوره شيء فقال: يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهَا ضَمِيرُ الْقِصَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: مِثْقَالُ، بِالرَّفْعِ عَلَى إِنْ تَكُ تَامَّةً، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَأَخْبَرَ عَنْ مِثْقَالٍ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، إِخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ، لِإِضَافَتِهِ إِلَى مُؤَنَّثٍ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَكُ زِنَةَ حَبَّةٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالنَّصْبِ عَلَى إِنْ تَكُ نَاقِصَةً، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ:
هِيَ، أَيِ الَّتِي سَأَلْتُ عَنْهَا. وَكَانَ فِيمَا رُوِيَ قَدْ سَأَلَ لُقْمَانُ ابْنَهُ: أَرَأَيْتَ الْحَبَّةَ تَقَعُ فِي مَغَاصِ الْبَحْرِ؟ أَيَعْلَمُهَا اللَّهُ؟ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ جَوْهَرٍ لَا ضَمِيرَ عَرَضٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ: فَتَكِنَّ، بِكَسْرِ الْكَافِ وَشَدِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَقِرَاءَةُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي فَجَّةَ الْبَعْلَبَكِّيِّ: فَتُكَنَّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: فَتَكِنْ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ النُّونِ، مِنْ وَكَنَ يَكِنُ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ أَيْضًا: أَيْ تَسْتَقِرُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ عَرَضٍ، أَيْ تِلْكَ الْفِعْلَةُ مِنَ الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ. وَعَلَى مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ مِثْقَالٍ، يَجُوزُ أَنْ
414
يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهَا ضَمِيرَ الْفِعْلَةِ، لَا ضَمِيرَ الْقِصَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَنْ نَصَبَ يَعْنِي مِثْقَالَ، كَانَ الضَّمِيرُ لِلْهَيْئَةِ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ، أَيْ كَانَتْ مَثَلًا فِي الصِّغَرِ وَالْقَمَاءَةِ، كَحَبَّةِ الْخَرْدَلِ، فَكَانَتْ مَعَ صِغَرِهَا فِي أَخْفَى مَوْضِعٍ وَأَحْرَزِهِ، كَجَوْفِ الصَّخْرَةِ، أَوْ حَيْثُ كَانَتْ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَوِ السُّفْلِيِّ.
يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُحَاسِبُ عَلَيْهَا. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ، يَتَوَصَّلُ عِلْمُهُ إِلَى كُلِّ خَفِيٍّ. خَبِيرٌ: عَالِمٌ بِكُنْهِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِهَا، خَبِيرٌ بِمُسْتَقَرِّهَا. وَبَدَأَ لَهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَوَّلًا، وَهُوَ كَيْنُونَةُ الشَّيْءِ. فِي صَخْرَةٍ: وَهُوَ مَا صُلِبَ مِنَ الْحَجَرِ وَعَسُرَ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَهُوَ أَغْرَبُ لِلسَّامِعِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا يَكُونُ مَقَرَّ الْأَشْيَاءِ لِلشَّاهِدِ، وَهُوَ الأرض. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ، أَنَّ هَذِهِ الصَّخْرَةَ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ تَحْتَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ، يُكْتَبُ فِيهَا أَعْمَالُ الْفُجَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
قِيلَ: أَرَادَ الصَّخْرَةَ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَرْضُ وَالْحُوتُ وَالْمَاءُ، وَهِيَ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ. وَقِيلَ: هِيَ صَخْرَةٌ فِي الرِّيحِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ سَنَدُهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: المبالغة والانتهاء في التفهيم، أَيْ إِنَّ قُدْرَتَهُ تَنَالُ مَا يَكُونُ فِي تَضَاعِيفِ صَخْرَةٍ، وَمَا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. انْتَهَى. قِيلَ: وَخَفَاءُ الشَّيْءِ يُعْرَفُ بِصِغَرِهِ عَادَةً، وَيُبْعِدُهُ عَنِ الرَّائِي. وَبِكَوْنِهِ فِي ظُلْمَةٍ وَبِاحْتِجَابِهِ، فَفِي صَخْرَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى الحجاب، وفي السموات إِشَارَةٌ إِلَى الْبُعْدِ، وَفِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى الظُّلْمَةِ، فَإِنَّ جَوْفَ الْأَرْضِ أَظْلَمُ الْأَمَاكِنِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: يُحِيطُ بِهَا عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ.
وَلَمَّا نَهَاهُ أَوَّلًا عَنِ الشِّرْكِ، وَأَخْبَرَهُ ثَانِيًا بِعِلْمِهِ تَعَالَى وَبَاهِرِ قُدْرَتِهِ، أَمَرَهُ بِمَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، فَبَدَأَ بِأَشْرَفِهَا، وَهُوَ الصَّلَاةُ، حَيْثُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْمِحَنِ جَمِيعِهَا، أَوْ عَلَى مَا يُصِيبُهُ بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّنْ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِمَّنْ يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ، فَكَثِيرًا مَا يُؤْذَى فَاعِلُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَمْثُلَ هُوَ فِي نَفْسِهِ فَيَأْتِيَ بِالْمَعْرُوفِ. أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ وَأَمَرَهُ بِهِ. وَالْعَزْمُ مَصْدَرٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيِ مِنْ مَعْزُومِ الْأُمُورِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْفَاعِلُ، أَيْ عَازِمِ الْأُمُورِ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «١». وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مِمَّا عَزَمَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ وَقِيلَ: مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعَزَائِمِ أَهْلِ الْحَزْمِ السَّالِكِينَ طَرِيقَ النَّجَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ لَازِمَاتِ الْأُمُورِ الواجبة، لأن الإشارة
(١) سورة محمد: ٤٧/ ٢١.
415
بِذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَهَذِهِ الطَّاعَاتُ يَدُلُّ إِيصَاءُ لُقْمَانَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا فِي سَائِرِ الْمِلَلِ. وَالْعَزْمُ: ضَبْطُ الْأَمْرِ وَمُرَاعَاةُ إِصْلَاحِهِ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: الْعَزْمُ:
الْحَزْمُ، بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وَالْحَزْمُ وَالْعَزْمُ أَصْلَانِ، وَمَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ مِنْ أَنَّ الْعَيْنَ قُلِبَتْ حَاءً لَيْسَ بشيء، لا طراد تَصَارِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لِلْآخَرِ.
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ: أَيْ لَا تُوَلِّهِمْ شِقَّ وَجْهِكَ، كَفِعْلِ الْمُتَكَبِّرِ، وَأَقْبِلْ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِكَ مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَلَا إِعْجَابٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَمَاعَةُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ:
نَهَى أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَأَوْرَدَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ احْتِمَالًا فَقَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: وَلَا سُؤَالًا وَلَا ضَرَاعَةً بِالْفَقْرِ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ، يَعْنِي تَأْوِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجَمَاعَةِ، أَظْهَرُ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الِاخْتِيَالِ وَالْعَجْزِ بَعْدَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلا تُصَعِّرْ، أَرَادَ بِهِ الْإِعْرَاضَ، كَهَجْرِهِ بِسَبِّ أَخِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تُصَعِّرْ، بِفَتْحِ الصَّادِ وَشَدِّ الْعَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِأَلِفٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: يُصَعِّرُ مُضَارِعَ أَصْعَرَ. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النِّسَاءِ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً «١». وَلَمَّا وَصَّى ابْنَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِذْ صَارَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُمْتَثِلًا لِلْمَعْرُوفِ مُزْدَجَرًا عَنِ الْمُنْكَرِ، أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ وَنَاهِيًا عَنْهُ غَيْرَهُ، نَهَاهُ عَنِ التَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِعْجَابِ وَالْمَشْيِ مَرَحًا، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ، وَهُوَ الْمُتَكَبِّرُ، وَلَا الْفَخُورَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ الَّذِي يُعَدِّدُ مَا أَعْطَى، وَلَا يَشْكُرُ اللَّهَ. وَيَدْخُلُ فِي الْفَخُورِ:
الْفَخْرُ بِالْأَنْسَابِ.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ: وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الْخُلُقِ الذَّمِيمِ، أَمَرَهُ بِالْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ الْقَصْدُ فِي المشي، بحيث لا يبطىء، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَنَامِسُونَ وَالْمُتَعَاجِبُونَ، يتباطؤون فِي نَقْلِ خُطُوَاتِهِمُ الْمُتَنَامِسِينَ لِلرِّيَاءِ وَالْمُتَعَاجِبُ لِلتَّرَفُّعِ، وَلَا يُسْرِعُ، كَمَا يَفْعَلُ الْخَرِقُ الْمُتَهَوِّرُ. وَنَظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَقَالَ:
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدًا، كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدًا، غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ خَبَبِ الْيَهُودِ وَدَبِيبِ النَّصَارَى، وَلَكِنَّ مَشْيًا بَيْنَ ذَلِكَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: اجْعَلْ بَصَرَكَ مَوْضِعَ قدمك. وقرىء: وَأَقْصِدْ، بِهَمْزَةِ الْقَطْعِ: أَيْ سَدِّدْ فِي مَشْيِكَ مِنْ أَقْصَدَهُ الرَّامِي إِذَا سَدَّدَ سَهْمَهُ نَحْوَ الرَّمِيَّةِ، وَنَسَبَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ لِلْحِجَازِ. وَالْغَضُّ مِنَ الصَّوْتِ: التَّنْقِيصُ مِنْ
(١) سورة النساء: ٤/ ٣٦.
416
رَفْعِهِ وَجَهَارَتِهِ، وَالْغَضُّ: رَدُّ طُمُوحِ الشَّيْءِ، كَالصَّوْتِ وَالنَّظَرِ وَالزِّمَامِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْتَخِرُ بِجَهَارَةِ الصَّوْتِ، وَتَمْدَحُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
جَهِيرُ الْكَلَامِ جَهِيرُ الْعُطَاسِ جَهِيرُ الرُّوَاءِ جَهِيرُ النعيم
وَيَخْطُو عَلَى الْأَيْنِ خَطْوَ الظَّلِيمِ وَيَعْلُو الرِّجَالَ بِخَلْقٍ عميم
وَغَضُّ الصَّوْتِ أَوْفَرُ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَأَبْسَطُ لِنَفْسِ السَّامِعِ وَفَهْمِهِ. وأنكر: أَفْعَلُ، إِنْ بُنِيَ مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِمْ: أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْنِ وَبِنَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ شَاذٌّ. وَالْأَصْوَاتُ: أَصْوَاتُ الْحَيَوَانِ كُلُّهَا. وَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ لِلْمَذَامِّ اللَّاحِقَةَ لِلْأَصْوَاتِ، وَالْحِمَارُ مَثَلٌ فِي الذَّمِّ الْبَلِيغِ وَالشَّتِيمَةِ. شُبِّهَ الرَّافِعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْحَمِيرِ، وَأَصْوَاتُهُمْ بِالنُّهَاقِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ، بَلْ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ، وَهَذِهِ أَقْصَى مُبَالَغَةٍ فِي الذَّمِّ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ. وَلَمَّا كَانَ صَوْتُ الْحَمِيرِ مُتَمَاثِلًا فِي نَفْسِهِ، لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ فِي الْفَظَاعَةِ، أُفْرِدَ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ.
وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْحَمِيرِ فَغَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ جِدًّا، جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ، فَالْمَعْنَى: أَنْكَرَ أَصْوَاتِ الْحَمِيرِ، بِالْجَمْعِ بِغَيْرِ لَامٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَفَاخَرُونَ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَيْرًا، فُضِّلَ بِهِ الْحَمِيرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، تَنْفِيرٌ لَهُ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ، وَمُمَاثَلَةُ الْحَمِيرِ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَرَغَتْ وَصِيَّةُ لُقْمَانَ فِي قَوْلِهِ: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ رَدًّا لِلَّهِ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِجَهَارَةِ الصَّوْتِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ يُؤْذِي السَّامِعَ وَيَقْرَعُ الصِّمَاخَ بِقُوَّةٍ، وَرُبَّمَا يَخْرُجُ الْغِشَاءُ الَّذِي هُوَ دَاخِلُ الْأُذُنِ.
وَقِيلَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْأَفْعَالِ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْأَقْوَالِ، فَنَبَّهَ عَلَى التَّوَسُّطِ فِي الْأَفْعَالِ، وَعَلَى الْإِقْلَالِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ.
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
417
مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
سَخَّرَ لَكُمْ: تَنْبِيهٌ عَلَى الصَّنْعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ تَسْخِيرِ مَا فِي السَّماواتِ: مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَالسَّحَابِ وَما فِي الْأَرْضِ: مَنْ الْحَيَوَانِ، وَالنَّبَاتِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالْبِحَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُسَخَّرٍ مِنْ مَالِكٍ مُتَصَرِّفٍ كَمَا يَشَاءُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَيَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ: وَأَصْبَغَ بِالصَّادِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَنِي كَلْبٍ، يُبَدِّلُونَهَا مِنَ السِّينِ، إِذَا جَامَعَتِ الْغَيْنُ أَوِ الْخَاءُ أَوِ الْقَافُ صَادًا وَبَاقِي الْقُرَّاءِ:
بِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: نِعَمَهُ جَمْعًا مُضَافًا لِلضَّمِيرِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نِعْمَةً، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِالنِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ: الْإِسْلَامُ، وَالْبَاطِنَةِ: السِّتْرُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ، الظَّاهِرَةُ: حُسْنُ الصُّورَةِ وَامْتِدَادُ الْقَامَةِ وَتَسْوِيَةُ الْأَعْضَاءِ، وَالْبَاطِنَةُ: الْمَعْرِفَةُ. وَقِيلَ:
الظَّاهِرَةُ: الْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَاللِّسَانُ وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ، وَالْبَاطِنَةُ: الْقَلْبُ وَالْعَقْلُ وَالْفَهْمُ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الظَّاهِرَةَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْمُشَاهِدَةِ، وَالْبَاطِنَةَ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، أَوْ لَا يُعْلَمُ أَصْلًا. فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ لَا يَعْلَمُهَا، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الْعِلْمِ بِهَا؟ وَانْتَصَبَ ظاهِرَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ نِعَمَهُ، الْجَمْعُ عَلَى الصِّفَةِ، وَمِنْ نِعْمَةٍ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: وَمِنَ النَّاسِ إِلَى: مُنِيرٍ، فِي الْحَجِّ، وَعَلَى مَا بَعْدَهُ إِلَى: آباءَنا، فِي نَظِيرِهِ فِي الْبَقَرَةِ. أَوَلَوْ: كَانَ تَقْدِيرُهُ: أَيَتْبَعُونَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ؟ وَفِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَّبَعَ فِيهَا الْآبَاءُ؟ لِأَنَّهَا حَالُ تَلَفٍ وَعَذَابٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ الَّذِي فِيهِ وَلَوْ، أَنَّمَا يَكُونُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ، نَحْوَ: اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ، رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ «١».
وَكَذَلِكَ هَذَا، كَانَ يَنْبَغِي مَنْ دَعَا إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ أَنْ لَا يَتْبَعَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَمَنْ يُسْلِمْ، مُضَارِعُ أَسْلَمَ
وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ:
بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، مُضَارِعَ سَلَّمَ
، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ:
التَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ: مُثِّلَتْ حَالُ الْمُتَوَكِّلِ بِحَالِ مَنْ تَدَلَّى مِنْ شَاهِقٍ، فَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِأَنِ اسْتَمْسَكَ بِأَوْثَقِ عُرْوَةٍ مِنْ حَبْلٍ مَتِينٍ مَأْمُونٌ انْقِطَاعُهُ. انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِ
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٧.
418
الْمُجَادِلِ، ذَكَرَ حَالَ الْمُسْلِمِ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ مُنْتَهَى الْأُمُورِ صَائِرَةٌ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالْعُرْوَةُ: مَوْضِعُ التَّعْلِيقِ، فَكَأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْعُرْوَةِ. وَسَلَّى رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ، إِلَى آخِرِهِ، وَشَبَّهَ إِلْزَامَ الْعَذَابِ وَإِرْهَاقَهُمْ إِلَيْهِ بِاضْطِرَارِ مَنْ يُضْطَرُّ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ، وَلَا الِانْفِكَاكُ مِنْهُ. وَالْغِلَظُ يَكُونُ فِي الْإِجْرَامِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ: الشِّدَّةُ. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ: أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ، وَيَدْعُونَ مَعَ ذَلِكَ إِلَهًا غَيْرَهُ. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: إِضْرَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: لَيْسَ دَعْوَاهُمْ، نَحْوَ:
لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ ادِّعَاءِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ ذُو عِلْمٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، فَلَا افْتِقَارَ لَهُ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ. الْحَمِيدُ:
الْمُسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَى مَا أَنْشَأَ وَأَنْعَمَ.
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ: تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاهِيًا، بَيَّنَ أَنَّ فِي قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ عَجَائِبَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ لَوْ وَقَعَ أَوْ ثَبَتَ عَلَى رَأْيِ الْمُبَرِّدِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ الْخَبَرِ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ، وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. ومِنْ شَجَرَةٍ: تبيين لما، وَهُوَ فِي التَّقْرِيرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْمُنْتَقِلِ مِنَ الْعَامِلِ فِيهِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ أَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الْأَرْضِ كَائِنًا مِنْ شَجَرَةٍ وَأَقْلَامٍ خَبَرٌ لأن، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَى الزَّمَخْشَرِيِّ وَبَعْضِ الْعَجَمِ مِمَّنْ يَنْصُرُ قَوْلَهُ: إِنَّ خَبَرَ أَنَّ الْجَائِيَةِ بَعْدَ لولا يَكُونُ اسْمًا جَامِدًا وَلَا اسْمًا مُشْتَقًّا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلِسَانُ الْعَرَبِ طافع بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَوْ أَنَّهَا عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتُهَا مسومة تدعو عبيدا وأيما
وَقَالَ الْآخَرُ:
مَا أَطْيَبَ الْعَيْشَ لَوْ أَنَّ الْفَتَى حَجَرٌ تَنْبُو الْحَوَادِثُ عَنْهُ وَهُوَ مَلْمُومُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَوْ أَنَّ حَيًّا فَائِتُ الْمَوْتِ فَاتَهُ أَخُو الْحَرْبِ فوق القارح القدوان
وَهُوَ كَثِيرٌ فِي لِسَانِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَالْبَحْرُ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ، وَهُمُ
419
الْجُمْهُورُ، وَاوُ الْحَالِ وَالْبَحْرُ مبتدأ، ويَمُدُّهُ الْخَبَرُ، أَيْ حَالُ كَوْنِ الْبَحْرِ مَمْدُودًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى مَحِلِّ إِنَّ وَمَعْمُولِهَا عَلَى وَلَوْ، ثَبَتَ كَوْنُ الْأَشْجَارِ أَقْلَامًا، وَثَبَتَ أَنَّ الْبَحْرَ مَمْدُودًا بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْمُبَرِّدِ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ أَنَّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى أَنْ، لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلَوْلَا يَلِيهَا الْمُبْتَدَأُ اسْمًا صَرِيحًا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، نَحْوُ قَوْلِهِ:
لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي
فَإِذَا عَطَفْتَ وَالْبَحْرُ عَلَى أَنَّ وَمَعْمُولَيْهَا، وَهُمَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ يَلِيهَا الِاسْمُ مُبْتَدَأً، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَوِ الْبَحْرُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَحْوُ: رُبَّ رَجُلٍ وَأَخِيهِ يَقُولَانِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
وَبَحْرٌ يَمُدُّهُ، بِالتَّنْكِيرِ بِالرَّفْعِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ، كَانَ بَحْرٌ، وَهُوَ نَكِرَةٌ، مُبْتَدَأً، وَذَكَرُوا فِي مُسَوِّغَاتِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ أَنْ تَكُونَ وَاوُ الْحَالِ تَقَدَّمَتْهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ:
سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَقَدْ بَدَا مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِقِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَمُدُّهُ بِالْيَاءِ، مِنْ مَدَّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، مِنْ مَدَّ أَيْضًا وَعَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ مُطَرِّفٍ، وَابْنُ هُرْمُزَ: بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتَ، مِنْ أَمَدَّ
وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَالْبَحْرُ مِدَادُهُ
، أَيْ يُكْتَبُ بِهِ مِنَ السَّوَادِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَصْدَرٌ. انْتَهَى. مِنْ بَعْدِهِ: أَيْ مِنْ بَعْدِ نَفَادِ مَا فِيهِ، سَبْعَةُ أَبْحُرٍ: لَا يُرَادُ بِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، بَلْ جِيءَ به لِلْكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءَ، لَا يُرَادُ بِهِ الْعَدَدُ، بَلْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ سَبْعَةُ لَيْسَ مَوْضُوعًا فِي الْأَصْلِ لِلتَّكْثِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادًا بِهِ التَّكْثِيرُ، جَاءَ مُمَيِّزُهُ بِلَفْظِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ أَبْحُرٍ، وَلَمْ يَقُلْ بُحُورٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرَادُ بِهِ أَيْضًا إِلَّا التَّكْثِيرُ، لِيُنَاسِبَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. فَكَمَا يَجُوزُ فِي سَبْعَةُ، وَاسْتُعْمِلَ لِلتَّكْثِيرِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ فِي أَبْحُرٍ، وَاسْتُعْمِلَ لِلتَّكْثِيرِ. وَفِي الْكَلَامِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَكَتَبَ بِهَا الْكُتَّابُ كَلِمَاتِ اللَّهِ.
مَا نَفِدَتْ، وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَنَّ أَشْجَارَ الْأَرْضِ أَقْلَامٌ، وَالْبَحْرُ مَمْدُودٌ بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ، وَكُتِبَتْ بِتِلْكَ الْأَقْلَامِ وَبِذَلِكَ الْمِدَادِ كَلِمَاتِ اللَّهِ، مَا نَفِدَتْ، وَنَفِدَتِ الْأَقْلَامُ وَالْمِدَادُ
420
الَّذِي فِي الْبَحْرِ وَمَا يَمُدُّهُ، كَمَا قَالَ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي «١» الْآيَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: زَعَمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ، حَالٌ فِي أَحَدِ وَجْهَيِ الرَّفْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى ذِي الْحَالِ، قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِهِ:
وَقَدْ أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ فِي وُكْنَاتِهَا وَجِئْتُ وَالْجَيْشُ مُصْطَفٌّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي حُكْمُهَا حُكْمُ الظُّرُوفِ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَبَحْرُهَا، وَالضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي جَعَلَهُ سُؤَالًا وَجَوَابًا مِنْ وَاضِحِ النَّحْوِ الَّذِي لا يجهله المبتدءون فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ إِذَا كانت حالا بِالْوَاوِ، لَا يُحْتَاجُ إِلَى ضَمِيرٍ يَرْبُطُ، وَاكْتُفِيَ بِالْوَاوِ فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي حُكْمُهَا حُكْمُ الظُّرُوفِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الظَّرْفَ إِذَا وَقَعَ حَالًا، فَفِي الْعَامِلِ فِيهِ ضَمِيرٌ يَنْتَقِلُ إِلَى الظَّرْفِ. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ إِذَا كَانَتْ حَالًا بِالْوَاوِ، فَلَيْسَ فِيهَا ضَمِيرٌ مُنْتَقِلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ يَجْعَلُونَ أَلْ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ: مِنْ شَجَرَةٍ، عَلَى التَّوْحِيدِ دُونَ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ شَجَرٌ؟ قُلْتُ: أُرِيدَ تَفْصِيلُ الشَّجَرِ وَنَقْضُهَا شَجَرَةً شَجَرَةً، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ جِنْسِ الشَّجَرِ وَاحِدَةٌ إِلَّا قَدْ بُرِيَتْ أَقْلَامًا. انْتَهَى. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مِمَّا أُوقِعَ فِيهِ الْمُفْرَدُ مَوْقِعَ الْجَمْعِ، وَالنَّكِرَةُ مَوْقِعَ الْمَعْرِفَةِ، وَنَظِيرُهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «٢»، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «٣»، وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ «٤» وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: هُوَ أَوَّلُ فَارِسٍ، وَهَذَا أَفْضَلُ عَالِمٍ، يُرِيدُ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنَ الرَّحَمَاتِ وَمِنَ الدَّوَابِّ، وَأَوَّلُ الْفُرْسَانِ. أَخْبَرُوا بِالْمُفْرَدِ وَالنَّكِرَةِ، وَأَرَادُوا بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِأَلْ، وَهُوَ مَهْيَعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ. وَكَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ هَذَا مِنَ الشَّجَرَاتِ، أَوْ مِنَ الْأَشْجَارِ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَكْثِيرِ الْأَقْلَامِ وَالْمِدَادِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْجَارَ مُشْتَمِلٌ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى الْأَغْصَانِ الْكَثِيرَةِ، وَتِلْكَ الْأَغْصَانُ كُلُّ غُصْنٍ مِنْهَا يُقْطَعُ عَلَى قَدْرِ الْقَلَمِ، فَيَبْلُغُ عَدَدُ الْأَقْلَامِ فِي التَّنَاهِي إِلَى مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَلَا يُحِيطُ إِلَّا اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَلِمَةُ اللَّهِ، عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مَا نَفِدَ، بِغَيْرِ تَاءٍ، كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: مَا فِي الْمَعْدُومِ دُونَ مَا خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَقَالَتْ فرقة:
(١) سورة الكهف: ١٨/ ١٠٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٠٦. [.....]
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٢.
(٤) سورة النحل: ١٦/ ٤٩.
421
الْمُرَادُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ: مَعْلُومَاتُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْكَلِمَاتُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَالْمَوَاضِعُ مَوَاضِعُ التَّكْثِيرِ لَا التَّقْلِيلِ، فَهَلَّا قِيلَ: كَلِمُ اللَّهِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا تَفِي بِكَتْبِهَا الْبِحَارُ، فَكَيْفَ بِكَلِمَهِ؟ انْتَهَى. وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ كَلِمَاتٍ جَمْعُ قِلَّةٍ، فَجُمُوعُ الْقِلَّةِ إِذَا تَعَرَّفَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ غَيْرِ الْعَهْدِيَّةِ، أَوْ أُضِيفَتْ، عَمَّتْ وَصَارَتْ لَا تَخُصُّ الْقَلِيلَ، وَالْعَامُّ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ: كَامِلُ الْقُدْرَةِ، فَمَقْدُورَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا.
حَكِيمٌ: كَامِلُ الْعِلْمِ، فَمَعْلُومَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، ذَكَرَ مَا يُبْطِلُ اسْتِبْعَادَهُمْ لِلْحَشْرِ. إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ: إِلَّا كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا، وَمَنْ لَا نَفَادَ لِكَلِمَاتِهِ يَقُولُ لِلْمَوْتَى: كُونُوا فَيَكُونُونَ، فَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، لَا يُتَفَاوَتُ فِي قُدْرَتِهِ.
وَقَالَ النَّقَّاشُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَأَبِي الْأَسَدِ، وَنُبَيْهٍ وَمُنَبَّهِ ابْنَيِ الْحَجَّاجِ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ: إِنَّا نَرَى الطِّفْلَ يُخْلَقُ بِتَدْرِيجٍ، وَأَنْتَ تَقُولُ: اللَّهُ يُعِيدُنَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَنَزَلَتْ.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ: سَمِيعٌ كُلَّ صَوْتٍ، بَصِيرٌ كُلَّ مُبْصِرٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَشْغَلُهُ إِدْرَاكُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَكَذَلِكَ الْخَلْقُ وَالْبَعْثُ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
يُولِجُ اللَّيْلَ: الْجُمْلَتَيْنِ شَرَحْتُ فِي آلِ عِمْرَانَ وَهُنَا. إِلى أَجَلٍ، وَيَدُلُّ عَلَى الِانْتِهَاءِ، أَيْ: يَبْلُغُهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَفِي الزُّمَرِ: لِأَجَلٍ «١»، وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِجَعْلِ الْجَرْيِ مُخْتَصًّا بِإِدْرَاكِ أَجَلٍ مُسَمًّى، وَجَرْيُ الشَّمْسِ مُخْتَصٌّ بِآخِرِ السَّنَةِ، وَجَرْيُ الْقَمَرِ بِآخِرِ الشَّهْرِ فَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَنَاسِبٌ لِجَرْيِهِمَا، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِهِمَا. وَقَرَأَ عَيَّاشُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِمَا يَعْمَلُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ الْآيَةَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي الحج وهنا.
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٥.
422
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَفِي الْحَجِّ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ «١»، بِزِيَادَةِ هُوَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَسْخِيرَ النَّيِّرَيْنِ وَامْتِنَانَهُ بِذَلِكَ عَلَيْنَا، ذَكَرَ أَيْضًا مَنْ سَخَّرَ الْفُلْكَ مِنَ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْجَرَيَانِ. وقرأ الجمهور: بِنِعْمَتِ اللَّهِ عَلَى الْإِفْرَادِ اللَّفْظِيِّ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ يَعْمُرَ: بِنِعْمَاتِ اللَّهِ، بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ جَمْعًا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ وَالْبَاءِ، وَتَحْتَمِلُ السَّبَبِيَّةَ، أَيْ تَجْرِي بِسَبَبِ الرِّيحِ وَتَسْخِيرِ اللَّهِ، وَتَحْتَمِلُ الْحَالِيَّةَ، أَيْ مَصْحُوبَةً بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَهِيَ مَا تَحْمِلُهُ السُّفُنُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْأَرْزَاقِ وَالتِّجَارَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ مُوسَى بْنُ الزُّبَيْرِ: الْفُلْكَ، بِضَمِّ اللَّامِ. وصَبَّارٍ شَكُورٍ: بِنْيَتَا مُبَالَغَةٍ، وَفَعَّالٌ أَبْلَغُ لِزِيَادَةِ حُرُوفِهِ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ جَرْيِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَى رَاكِبِهِ مِنَ الْخَوْفِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ، نَاسَبَ الْخَتْمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُحْذَرُ، وَبِالشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ تَعَالَى، وَشَبَّهَ الْمَوْجَ فِي ارْتِفَاعِهِ وَاسْوِدَادِهِ وَاضْطِرَابِهِ بِالظُّلَلِ، وَهُوَ السَّحَابُ. وَقِيلَ:
كَالظُّلَلِ: كَالْجِبَالِ، أُطْلِقَ عَلَى الْجَبَلِ ظُلَّةٌ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: كَالظِّلَالِ، وَهُمَا جُمَعُ ظُلَّةٍ، نَحْوَ: قُلَّةٍ وَقُلَلٍ وَقِلَالٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا غَشِيَهُمْ، فِيهِ الْتِفَاتٌ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي لِيُرِيَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الغيبة في غَشِيَهُمْ. ومَوْجٌ: اسْمُ جِنْسٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ شَبَّهَهُ بِالْجَمْعِ.
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ مُؤْمِنٌ يَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي هَذِهِ النِّعَمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُقْتَصِدٌ عَلَى كُفْرِهِ: أَيْ يُسْلِمُ لِلَّهِ وَيَفْهَمُ أَنَّ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ ضَلَّ فِي الْأَصْنَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُعَظِّمُهَا. قِيلَ: أَوْ مُقْتَصِدٌ فِي الْإِخْلَاصِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْلَاصَ الْحَادِثَ عِنْدَ الْخَوْفِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ قَطُّ. انْتَهَى.
وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَطُّ ظَرْفًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ غَيْرُ مَاضٍ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ. فقبل حُذِفَ مُقَابِلُ فَمِنْهُمْ مُؤْمِنٌ مُقْتَصِدٌ تَقْدِيرُهُ: وَمِنْهُمْ جَاحِدٌ وَدَلَّ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مُقْتَصِدٌ مَعْنَاهُ: مُؤْمِنٌ مُقْتَصِدٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، مُوَفٍّ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ، وَخَتَمَ هُنَا بِبِنْيَتَيْ مُبَالَغَةٍ، وَهُمَا:
خَتَّارٍ، وكَفُورٍ. فَالصَّبَّارُ الشَّكُورُ مُعْتَرِفٌ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالْخَتَّارُ الْكَفُورُ يَجْحَدُ بِهَا.
وَتَوَازَنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا لَفْظًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنًى فَالْخَتَّارُ هو الغدار، والغدر
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٦٢.
423
لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ، لِأَنَّ الصَّبَّارَ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا الْغَدَّارُ فَيَعْهَدُ وَيَغْدِرُ، فَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْعَهْدِ وَأَمَّا الْكَفُورُ فَمُقَابَلَتُهُ مَعْنًى لِلشَّكُورِ وَاضِحَةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْحَشْرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، أَمَرَ بِالتَّقْوَى عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ بِهَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ.
لَا يَجْزِي: لَا يَقْضِي، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُتَقَاضِي: الْمُتَجَازِي، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْوَالِدُ أَكْثَرَ شَفَقَةً عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ، بَدَأَ بِهِ أَوَّلًا، وَأَتَى فِي الْإِسْنَادِ إِلَى الْوَالِدِ بِالْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّجَدُّدِ، لِأَنَّ شَفَقَتَهُ مُتَجَدِّدَةٌ عَلَى الْوَلَدِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَتَى فِي الْإِسْنَادِ إِلَى الْوَلَدِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَالثُّبُوتُ يَصْدُقُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ لَا يَجْزِي صِفَةٌ لِيَوْمٍ، وَالضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ بِرُمَّتِهِ، وَإِمَّا عَلَى التَّدْرِيجِ حُذِفَ الْخَبَرُ، فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ فَحُذِفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجْزِي مُضَارِعَ جَزَى وَعِكْرِمَةُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَأَبُو السِّمَاكِ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو السَّوَّارِ: لا يجزىء، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مَهْمُوزًا، وَمَعْنَاهُ: لَا يُغْنِي يُقَالُ: أَجْزَأْتُ عَنْكَ جَزَاءَ فُلَانٍ: أَيْ أَغْنَيْتُ. وَيَجُوزُ فِي وَلا مَوْلُودٌ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وَالِدٍ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ جازٍ، صِفَةُ لمولود. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وهو مبتدأ ثان، وجاز خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْأَوَّلِ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ لِوُجُودِ مُسَوِّغِ ذَلِكَ، وَهُوَ النَّفْيُ. وَذُهِلَ الْمَهْدَوِيُّ فَقَالَ:
لَا يَكُونُ مَوْلُودٌ مُبْتَدَأً، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ وَمَا بَعْدَهُ صِفَةٌ، فَيَبْقَى بِلَا خبر وشَيْئاً منصوب بجاز، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، لِأَنَّهُ يَطْلُبُهُ لَا يَجْزِي وَيَطْلُبُهُ جازٍ، فَجَعَلْنَاهُ مِنْ أَعْمَالِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَيَعْقُوبُ: نغرنكم، بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَقَرَأَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ: الْغُرُورُ بِالضَّمِّ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وَالْجُمْهُورُ:
بِالْفَتْحِ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكُ بِالشَّيْطَانِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ قِرَاءَةِ الضَّمِّ عَلَيْهِ جُعِلَ الشَّيْطَانُ نَفْسَ الْغُرُورِ مُبَالَغَةً.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ قَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً هُوَ وَارِدٌ عَلَى طَرِيقٍ مِنَ التَّوْكِيدِ، لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ آكَدُ مِنَ الْفِعْلِيَّةِ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: هُوَ، وَقَوْلُهُ: مَوْلُودٌ، وَالسَّبَبُ فِي مَجِيئِهِ هَذَا السَّنَنَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَغَالِبُهُمْ قُبِضَ آبَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الدِّينِ الْجَاهِلِيِّ، فَأُرِيدَ حَسْمُ أَطْمَاعِهِمْ وَأَطْمَاعِ النَّاسِ أَنْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَشْفَعُوا
424
لَهُمْ، وَأَنْ يُغْنُوا عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوْكَدِ. وَمَعْنَى التَّوْكِيدِ فِي لَفْظِ الْمَوْلُودِ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ شَفَعَ لِلْوَالِدِ الْأَدْنَى الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ فَضْلًا أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ فَوْقَهُ مِنْ أَجْدَادِهِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَقَعُ عَلَى الْوَلَدِ، وَوَلَدِ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ، فَإِنَّهُ لِمَنْ وُلِدَ مِنْكَ.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ:
يُرْوَى أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عُمَارَةَ الْمُحَارِبِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ مَتَى قِيَامُهَا؟ وَإِنِّي لَقَدْ أَلْقَيْتُ حُبَاتِي فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ أَبْطَأَتْ عَنِّي السَّمَاءُ، مَتَى تُمْطِرُ؟ وَأَخْبِرْنِي عَنِ امْرَأَتِي، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟
وَعَلِمْتُ ما علمت أَمْسِ، فَمَا أَعْمَلُ غَدًا؟ وَهَذَا مَوْلِدِي قَدْ عَرَفْتُهُ، فَأَيْنَ أَمُوتُ؟ فَنَزَلَتْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، وَتَلَا هَذِهِ الآية.
وعلم: مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى السَّاعَةِ، وَالْمَعْنَى:
عِلْمُ يَقِينٍ، وَفِيهَا: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ فِي آيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ. مَا فِي الْأَرْحامِ مِنْ ذَكَرٍ أَمْ أُنْثَى، تَامٍّ أَوْ نَاقِصٍ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ، بَرَّةٌ أَوْ فَاجِرَةٌ. مَاذَا تَكْسِبُ غَداً مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَرُبَّمَا عَزَمَتْ عَلَى أَحَدِهِمَا فعلمت ضِدَّهُ. بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ:
وَرُبَّمَا أَقَامَتْ بِمَكَانٍ نَاوِيَةً أَنْ لَا تُفَارِقَهُ إِلَى أَنْ تُدْفَنَ بِهِ، ثُمَّ تُدْفَنَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَخْطُرْ لَهَا بِبَالٍ قَطُّ. وَأَسْنَدَ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، وَالدِّرَايَةَ لِلنَّفْسِ، لِمَا فِي الدِّرَايَةِ مِنْ مَعْنَى الْخَتْلِ وَالْحِيلَةِ وَلِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِالْعَالِمِ، وَلَا يُوصَفُ بِالدَّارِي. وأما قوله:
لا هم لَا أَدْرِي وَأَنْتِ الدَّارِي فَقَوْلُ عَرَبِيٍّ جِلْفٍ جَاهِلِيٍّ، جَاهِلٍ بِمَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا يَمْتَنِعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِأَيِّ أَرْضٍ. وَقَرَأَ مُوسَى الْأَسْوَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِأَيَّةِ أَرْضٍ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى الْمَوْتِ، وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِيهِمَا. كَمَا أَنَّ كُلًّا إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مُؤَنَّثٍ قَدْ تُؤَنَّثُ، تَقُولُ: كُلُّهُنَّ فَعَلْنَ ذَلِكَ، وَتَدْرِي مُعَلَّقَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. فَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ:
مَاذَا تَكْسِبُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ تَدْرِي، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا موصولا منصوبا بتدري، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ الشَّيْءَ الَّتِي تَكْسِبُ غدا. وبأي متعلق بتموت، وَالْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: فِي أَيِّ أَرْضٍ؟ فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بتدري. وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ هَذِهِ الْخَمْسَ، لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِسَائِلٍ سَأَلَ، وَهُوَ يَسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ أَشْيَاءَ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا هُوَ، وَهَذِهِ الْخَمْسِ.
425
Icon