تفسير سورة لقمان

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سورة لقمان
مكية وآياتها أربع وثلاثون
هذه السورة مكية غير آيتين قال قتادة :" أولهما ﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾١ ".
١ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ثلاث آيات، أولهن ﴿ولو أن ما في الأرض﴾، وآياتها أربع وثلاثون آية..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة لقمان
هذه السورة مكية غير آيتين قال قتادة أولهما: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ [لقمان: ٢٧] إلى آخر الآيتين، وقال ابن عباس ثلاث آيات أولهن وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: ٢٧].
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦)
تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور وفي ترتيب تِلْكَ مع كل قول منها، والْحَكِيمِ يصح أن يكون من الحكمة ويصح أن يكون من الحكم، وقرأ جمهور القراء «هدى ورحمة» بالنصب على الحال من المبهم، ولا يصح أن تكون من الْكِتابِ لأنه مضاف إليه، وقرأ حمزة والكسائي «هدى ورحمة» بالرفع على تقدير هو هدى، وخصصه لِلْمُحْسِنِينَ من حيث لهم نفعه وهم نظروه بعين الحقيقة وإلا فهو هدى في نفسه، وفي قراءة ابن مسعود «هدى وبشرى للمؤمنين»، ثم وصف تعالى المحسنين بأنهم الذين عندهم اليقين بالبعث وبكل ما جاء به الرسول، وعندهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومن صفتهم ما قال رسول الله ﷺ حين سأله جبريل عن الإحسان قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» الحديث. وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ روي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد ﷺ وسبه فنزلت الآية في ذلك، وقيل إنه ابن خطل وروي عن أبي أمامة الباهلي بأن النبي ﷺ قال: «شراء المغنيات وبيعهن حرام» وقرأ هذه الآية، وقال في هذا المعنى أنزلت علي هذه الآية، وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد، وقال الحسن لَهْوَ الْحَدِيثِ المعازف والغناء، وقال بعض الناس نزلت في النضر بن الحارث لأنه اشترى كتب رستم واسبندياد وكان يخلف رسول الله ﷺ فيحدثهم بتلك الأباطيل ويقول أنا أحسن حديثا من محمد، وقال قتادة: الشراء في هذه الآية مستعار، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الأباطيل.
قال الفقيه الإمام القاضي: فكأن ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: ١٦، ١٧٥]، وقد قال مطرف: شراء لَهْوَ الْحَدِيثِ استحبابه، قال قتادة ولعله لا ينفق فيه مالا ولكن سماعه هو شراؤه، وقال الضحاك لَهْوَ الْحَدِيثِ الشرك، وقال مجاهد أيضا لَهْوَ الْحَدِيثِ الطبل وهذا ضرب من الغناء.
قال الفقيه الإمام القاضي: والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو حديث منضاف إلى كفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً، والتوعد بالعذاب المهين، وأما لفظة الشراء فمحتملة للحقيقة والمجاز على ما بينا، ولَهْوَ الْحَدِيثِ كل ما يلهي من غناء وخنى ونحوه، والآية باقية المعنى في أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا يتخذوا الآيات هزوا ولا عليهم هذا الوعيد، بل ليعطل عبادة ويقطع زمانا بمكروه، وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة تروم تتميم ذلك النقص بالأحاديث وقد جعلوا الحديث من القربى، وقيل لبعضهم أتمل الحديث؟ قال: إنما يمل العتيق.
قال الفقيه الإمام القاضي: يريد القديم المعاد، لأن الحديث من الأحاديث فيه الطرافة التي تمنع من الملل، وقرأ نافع وعاصم والحسن وجماعة «ليضل» بضم الياء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها، وفي حرف أبيّ «ليضل الناس عن سبيل الله»، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «ويتخذها» بالنصب عطفا على لِيُضِلَّ، وقرأ الباقون «ويتخذها» بالرفع عطفا على يَشْتَرِي، والضمير في يَتَّخِذَها يحتمل أن يعود على الْكِتابِ المذكور أولا ويحتمل أن يعود على السبيل، ويحتمل أن يعود على الأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث، وكذلك سَبِيلِ اللَّهِ اسم جنس ولكل وجه من الحديث وجه يليق به من السبيل.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٧ الى ١١]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
هذا دليل على كفر الذي نزلت فيه هذه الآية التي قبلها، و «الوقر» في الأذن الثقل الذي يعسر إدراك المسموعات، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث قيدت ونص عليها، ولما ذكر عز وجل حال هؤلاء الكفرة وتوعدهم بالنار على أفعالهم، عقب بذكر المؤمنين وما وعدهم به من جَنَّاتُ النَّعِيمِ ليبين الفرق، ووَعْدَ اللَّهِ منصوب على المصدر، وحَقًّا مصدر مؤكد، وقوله تعالى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها يحتمل
أن يعود الضمير على السَّماواتِ فيكون المعنى أن السماء بغير عمد وأنها ترى كذلك، وهذا قول الحسن والناس، وتَرَوْنَها على هذا القول في موضع نصب على الحال، ويحتمل أن يعود الضمير على «العمد» فيكون تَرَوْنَها صفة للعمد في موضع خفض، ويكون المعنى أن السماء لها عمد لكن غير مرئية قاله مجاهد ونحا إليه ابن عباس، والمعنى الأول أصح والجمهور عليه، ويجوز أن تكون تَرَوْنَها في موضع رفع على القطع ولا عمد ثم، و «الرواسي» هي الجبال التي رست أي ثبتت في الأرض، وقوله: أَنْ تَمِيدَ بمعنى لئلا تميد، والميد التحرك يمنة ويسرة وما قرب من ذلك، وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي من كل نوع، و «الزوج» في اللغة النوع والصنف وليس بالذي هو ضد الفرد، وقوله تعالى: كَرِيمٍ يحتمل أن يريد مدحه من جهة إتقان صنعه وظهور حسن الرتبة والتحكيم للصنع فيه فيعم حينئذ جميع الأنواع لأن هذا المعنى في كلها، ويحتمل أن يريد مدحه بكرم جوهره وحسن منظره ومما تقضي له النفوس بأنه أفضل من سواه حتى يستحق الكرم، فتكون الأزواج على هذا مخصوصة في نفائس الأشياء ومستحسناتها، ولما كان عظم الموجودات كذلك خصص الحجة بها. وقوله: «أنبتنا» يعم جميع أنواع الحيوان وأنواع النبات والمعادن، ثم وقف تعالى الكفار على جهة التوبيخ وإظهار الحجة على أن هذه الأشياء هي مخلوقات الله تعالى، ثم سألهم أن يوجده ما خلق الأوثان والأصنام وغيرهم ممن عبد، أي أنهم لن يخلقوا شيئا، بل هذا الذي قريش فيه ضلال مبين، فذكرهم بالصفة التي تعم معهم سواهم ممن فعل فعلهم من الأمم، وقوله: ماذا يجوز أن تكون «ما» استفهاما في موضع رفع بالابتداء و «ذا» خبرها بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن تكون «ما» مفعولة ب «أروني» و «ذا» و «ما» بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره في الوجهين خلقه.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)
لُقْمانَ رجل حكيم بحكمة الله تعالى وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل، واختلف هل هو نبي مع ذلك أو رجل صالح فقط، فقال بنبوءته عكرمة والشعبي، وقال بصلاحه فقط مجاهد وغيره، وقال ابن عباس: سمعت النبي ﷺ يقول «لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق، فقال يا رب إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء وإن عزمت علي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني وكان قاضيا في بني إسرائيل نوبيا أسود مشقق الرجلين ذا مشافر»، قاله سعيد بن المسيب ومجاهد وابن عباس، وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم ما بلغ بك يا لقمان ما أرى؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعني، وقال ابن المسيب: كان من سودان مصر من النوبة، وقال خالد بن الربيع: كان نجارا، وقيل كان خياطا، وقيل كان راعيا، وحكم لقمان كثيرة مأثورة، قيل له وأي الناس شر؟ قال الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئا.
وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ يجوز أن تكون أَنِ في موضع نصب على إسقاط حرف الجر أي «بأن اشكر لله»، ويجوز أن تكون مفسرة أي كانت حكمته دائرة على الشكر لله ومعانيه وجميع العبادات والمعتقدات داخلة في شكر الله تعالى، ثم أخبر تعالى أن الشاكر حظه عائد عليه وهو المنتفع بذلك، واللَّهَ تعالى غَنِيٌّ عن الشكر فلا ينفعه شكر العباد حَمِيدٌ في نفسه فلا يضره كفر الكافرين وحَمِيدٌ بمعنى محمود أي هو مستحق ذلك بذاته وصفاته، وقوله وَإِذْ قالَ يحتمل أن يكون التقدير واذكر إذ قال، ويحتمل أن يكون التقدير «وآتيناه الحكمة إذ قال» واختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه واسم ابنه ثاران، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يا بنيّ» بالشد والكسر في الياء في الثلاثة على إدغام إحدى الياءين في الأخرى، وقرأ حفص والمفضل عن عاصم «يا بنيّ» بالشد والفتح في الثلاثة على قولك يا بنيا ويا غلاما، وقرأ ابن أبي برة عن ابن كثير «يا بني» بسكون الياء، ويا بُنَيَّ إِنَّها [لقمان: ١٦] بالكسر، ويا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان: ١٧] بفتح الياء، وروى عنه قنبل بالسكون في الأولى والثالثة وبكسر الوسطى وظاهر قوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أنه من كلام لقمان، ويحتمل أن يكون خبرا من الله تعالى منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى، ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الانعام: ٨٢] أشفق أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: أينا لم يظلم، فأنزل الله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فسكن إشفاقهم.
قال الفقيه الإمام القاضي: وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون ذلك خبرا من الله تعالى، وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان، ووجه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان ومما قصده، وذلك غير متوجه لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص حسب ما أذكره بعد يضعّف أن تكون مما قالها لقمان، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة وليس ذلك بمفسد للأول منها ولا للآخر، بل لما فرغ من هاتين الآيتين عاد إلى الموعظة على تقدير إضمار وقال أيضا لقمان ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه، وهذه الآية شرك الله تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل ودرجة ذكر الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة، وأشبه ذلك قول الرسول ﷺ حين قال له رجل من أبر؟ «قال: أمك. قال ثم من؟ قال: ثم أمك. قال ثم من؟ قال: ثم أمك. قال ثم من؟ قال ثم أباك» فجعل له الربع من المبرة كالآية. وَهْناً عَلى وَهْنٍ معناه ضعفا على ضعف، وقيل إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة الولادة بعده، وقيل إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه، ويحتمل أن
348
أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف، فكأنه لم يعين ضعفين بل كأنه قال حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمره، وقرأ عيسى الثقفي «وهنا على وهن» بفتح الهاء، ورويت عن أبي عمرو وهما بمعنى واحد، وقرأ جمهور الناس «وفصاله»، وقرأ الحسن وأبو رجاء والجحدري ويعقوب «وفصله»، وأشار ب «الفصال» إلى تعديد مدة الرضاع فعبر عنه بغايته، والناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين لا زيادة ولا نقص، وقالت فرقة العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم، وقالت فرقة إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم، وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ يحتمل أن يكون التقدير «بأن اشكر»، ويحتمل أن تكون مفسرة، وقال سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى. ومن دعا لوالديه في دبر الصلوات فقد شكرهما، وقوله تعالى: إِلَيَّ الْمَصِيرُ توعد أثناء الوصية، وقوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ الآية روي أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وذلك أن أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية لما أسلم حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى يفارق دينه ويرجع إلى دين قومه فلج سعد في الإسلام، وكانت هي إذا أفرط عليها الجوع والعطش شحوا فاها، ويروى شجروا فاها، أي فتحوه بعود ونحوه وصبوا ما يرمقها، فلما طال ذلك ورأت أن سعدا لا يرجع أكلت، ففي هذه القصة نزلت الآيات، قاله سعد بن أبي وقاص والجماعة من المفسرين.
قال الفقيه الإمام القاضي: فمطلب الآية الأولى الأمر ببر الوالدين وتعظيمه، ثم حكم بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي، وجملة هذا الباب أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر جهاد الكفاية والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة، فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا الفصل فقال إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقة فلا يطعها، وقوله وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً يعني الأبوين الكافرين أي صلهما بالمال وادعهما برفق، ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي ﷺ وقد قدمت عليها خالتها، وقيل أمها من الرضاعة، فقالت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال نعم. وراغبة قيل معناه عن الإسلام.
قال الفقيه الإمام القاضي: والأظهر عندي أنها راغبة في الصلة وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد عزى بن عبد أسعد وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
وقوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، وصية لجميع العالم كأن المأمور الإنسان، وأَنابَ معناه، مال ورجع إلى الشيء، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين، وحكى النقاش أن المأمور سعد والذي أناب أبو بكر، وقال: إن أبابكر لما أسلم أتاه سعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا آمنت؟ قال نعم، فنزلت فيه أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ [الزمر: ٩] فلما سمعها الستة آمنوا فأنزل الله
349
تعالى فيهم وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ [الزمر: ١٧] إلى قوله أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٨].
ثم توعد عز وجل بالبعث من القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٦ الى ١٩]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
المعنى وقال لقمان يا بُنَيَّ، وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن «الخردلة» يقال إن الحس لا يقدر لها ثقلا إذ لا ترجح ميزانا، وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بها علما. وقوله مِثْقالَ حَبَّةٍ عبارة تصلح للجواهر، أي قدر حبة، وتصلح للأعمال أي ما تزنه على جهة المماثلة قدر حبة، وظاهر الآية أنه أراد شيئا من الأشياء خفيا قدر حبة، ويؤيد ذلك ما روي من أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في مقل البحر يعلمها الله، فراجعه لقمان بهذه الآية. وذكر كثير من المفسرين أنه أراد الأعمال المعاصي والطاعات، ويؤيد ذلك قوله يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي لا تفوت، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف منضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى، وفي القول الآخر ليس ترجية ولا تخويف. ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر قراءة عبد الكريم الجزري «فتكنّ» بكسر الكاف وشد النون من الكن الذي هو الشيء المغطى، وقرأ جمهور القراء «إن تك» بالتاء من فوق «مثقال» بالنصب على خبر «كان» واسمها مضمر تقديره مسألتك على ما روي، أو المعصية أو الطاعة على القول الثاني. ولهذا المقدر هو الضمير في إِنَّها. وقرأ نافع وحده بالتاء أيضا «مثقال» بالرفع على اسم «كان» وهي التامة، وأسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه وهذا كقول الشاعر: [الطويل]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مرّ الرياح النواسم
وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر. وقوله فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، قيل أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء وهي على ظهر ملك وقيل هي صخرة في الريح.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف لا يثبته سند، وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم، أي أن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وفي الأرض. وقرأ قتادة «فتكن» بكسر الكاف والتخفيف من وكن يكن، وتقدمت قراءة عبد الكريم «فتكنّ». وقوله يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إن أراد الجواهر فالمعنى يَأْتِ بِهَا إن احتيج إلى ذلك أو كانت رزقا ونحو هذا، وإن أراد الأعمال فمعناه يَأْتِ بذكرها وحفظها فيجازي عليها بثواب أو عقاب. ولَطِيفٌ خَبِيرٌ صفتان لائقتان بإظهار غرائب
350
القدرة، ثم وصى ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل هو في نفسه ويزدجر عن المنكر وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع، وقوله وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نال ضررا فهو إشعار بأن المغير يؤذي أحيانا، وهذا القدر هو على جهة الندب والقوة في ذات الله، وأما على اللزوم فلا. وقوله تعالى إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يحتمل أن يريد مما عزمه الله وأمر به، قاله ابن جريج، ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم والسالكين طريق النجاة، والأول أصوب، وبكليهما قالت طائفة. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن «ولا تصاعر»، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد وأبو جعفر «ولا تصعر»، وقرأ الجحدري «ولا تصعر» بسكون الصاد والمعنى متقارب، و «الصعر» الميل ومنه قول الأعرابي: «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره»، ومنه قول عمرو بن حنى التغلبي: [الطويل]
وكنا إذا الجبار صعر خده... أقمنا له من ميله فتقوم
أي فتقوم أنت، قاله أبو عبيدة، وأنشد الطبري «فتقوما» وهو خطأ لأن قافية الشعر مخفوضة، وفي بيت آخر أقمنا له من خده المتصعر. فمعنى الآية ولا تمل خَدَّكَ لِلنَّاسِ كبرا عليهم ونخوة وإعجابا واحتقارا لهم وهذا هو تأويل ابن عباس وجماعة، ويحتمل أن يريد أيضا الضد، أي «ولا تصاعر خدك» سؤالا ولا ضراعة بالفقر، والأول أظهر بدلالة ذكر الاختيال والفخر بعد، وقال مجاهد «ولا تصعر» أراد به الإعراض هجرة بسبب إحنة، والمرح النشاط، والمشي مرحا هو في غير شغل ولغير حاجة، وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء، فالمرح مختال في مشيه وقد قال عليه السلام «من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، وقال: «بينما رجل من بني إسرائيل يجر ثوبه خيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»، وقال مجاهد «الفخور» هو الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله تعالى.
قال الفقيه الإمام القاضي: وفي الآية الفخر بالنسب وغير ذلك، ولما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله من القصد في المشي وهو أن لا يتخرق في إسراع ولا يواني في إبطاء وتضاؤل على نحو ما قال القائل: [مجزوء الرمل]
كلنا نمشي رويد... كلنا يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد وأن لا يمشي مختالا متبخترا ونحو هذا مما ليس في قصد، و «غض الصوت» أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه، ثم عارض ممثلا بصوت الحمير على جهة التشبيه، أي تلك هي التي بعدت عن الغض فهي أنكر الأصوات، فكذلك كل ما بعد عن الغض من أصوات البشر فهو في طريق تلك وفي الحديث «إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا»، وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير، وقال عطاء: صياح الحمير دعاء على الظلمة، وأَنْكَرَ معناه أقبح وأخشن، وأَنْكَرَ عبارة تجمع المذام اللاحقة للصوت الجهير، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت الجهير على خلق الجاهلية ومنه قول الشاعر يمدح آخر: [المتقارب]
351
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم
ويعدو على الأين عدو الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم
فنهى الله تعالى عن هذه الخلق الجاهلية، وقوله لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أراد ب «الصوت» اسم الجنس، ولذلك جاء مفردا، وقرأ ابن أبي عبلة «أنكر الأصوات أصوات الحمير» بالجمع في الثاني دون لام، والغض رد طمحان الشيء كالنظر وزمام الناقة والصوت وغير ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)
هذه آية تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات إنما هو بمسخر ومالك، وقرأ يحيى بن عمارة وابن عباس «وأصبغ» بالصاد على بدلها من السين لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا، والجمهور قراءتهم بالسين، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وابن نصاح وغيرهم «نعمه» جمع نعمة كسدرة وسدر بفتح الدال، و «الظاهرة» هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك، و «الباطنة» المعتقدات من الإيمان ونحوه والعقل.
قال ابن عباس «الظاهرة» الإسلام وحسن الخلقة، و «الباطنة» ما يستر من سيىء العمل، وفي الحديث قيل يا رسول الله قد عرفنا الظاهرة فما الباطنة؟ قال: ستر ما لو رآك الناس عليه لقتلوك.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومن «الباطنة» التنفس والهضم والتغذي وما لا يحصى كثرة، ومن «الظاهرة» عمل الجوارح بالطاعة. قال المحاسبي رحمه الله «الظاهرة» تعم الدنيا و «الباطنة» تعم العقبى، وقرأ جمهور الناس «نعمة» على الإفراد، فقال مجاهد المراد لا إله إلا الله، وقال ابن عباس أراد الإسلام، والظاهر عندي أنه اسم جنس كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤، النحل: ١٨]، ثم عارض بالكفرة منها على فساد حالهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ، وقال النقاش: الإشارة إلى النضر بن الحارث ونظرائه لأنهم كانوا ينكرون الله ويشركون الأصنام في الألوهية، فذلك جدالهم، وبِغَيْرِ عِلْمٍ أي لم يعلمهم من يقبل قوله ولا عندهم هدى قلب ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة ولا يتبعون بذلك كتابا بأمر الله يقر بأنه وحي، بل ذلك دعوى منهم وتخرص، وإذا دعوا إلى اتباع وحي الله رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة فسلكوا طريق الآباء، ثم وقف الله تعالى وهم المراد بالتوفيق على اتباعهم دين آبائهم أيكون وهم بحال من يصير إِلى عَذابِ السَّعِيرِ فكان القائل منهم يقول هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف كما كان اتساق الكلام فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)
لما ذكر تعالى حال الكفرة أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين ليبين الفرق وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل، وقرأت عامة القراء «يسلم» بسكون السين وتخفيف اللام.
وقرأ عبد الله بن مسلم وأبو عبد الرحمن «يسلّم» بفتح السين وشد اللام ومعناه يخلص ويوجه ويستسلم به، و «الوجه» هنا الجارحة استعير للمقصود لأن القاصد للشيء فهو مستقبله بوجهه فاستعير ذلك للمقاص، و «المحسن» الذي جمع القول والعمل، وهو الذي شرح رسول الله ﷺ حين سأله جبريل عن الإحسان، و «العروة الوثقى» استعارة للأمر المنجي الذي لا يخاف عليه استحالة ولا إخلال والعرى موضع التعليق فكأن المؤمن متعلق بأمر الله فشبه ذلك بِالْعُرْوَةِ، والْأُمُورِ جمع أمر وليس بالمضاد للنهي، ثم سلى عز وجل نبيه عن موجدته لكفر قومه وإعراضهم فأمره أن لا يحزن لذلك بل يعمد لما كلفه من التبليغ ويرجع الكل إلى الله تعالى، وقرأت فرقة «يحزنك» من الرباعي، وقرأت فرقة «يحزنك» من الثلاثي، و «ذات الصدور» ما فيها والقصد من ذلك إلى المعتقدات والآراء، ومن ذلك قولهم «الذئب مغبوط بذي بطنه»، ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه «ذو بطن بنت خارجة»، والمتاع القليل هو العمر في الدنيا، و «العذاب الغليظ» معناه المغلظ المؤلم، ثم أقام عليهم الحجة في أمر الأصنام بأنهم يقرون بأن الله تعالى خالق المخلوقات ويدعون مع ذلك إلها غيره، والمعنى قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ظهور الحجة عليكم، وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ إضراب عن مقدر تقديره ليس دعواهم بحق ونحو هذا، وقوله أَكْثَرُهُمْ على أصله لأن منهم من شذ فعلهم كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس، وورقة بن نوفل، ويحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى من هو معد أن يسلم، ثم أخبر على جهة الحكم وفصل القضية بأن الله له ملك السماوات والأرض وما فيها، أي وأقوال هؤلاء لا معنى لها ولا حقيقة، والْغَنِيُّ الذي لا حاجة به في وجوده وكماله إلى شيء ولا نقص بجهة من الجهات، والْحَمِيدُ المحمود أي كذلك هو بذاته وصفاته.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)
روي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن اليهود قالت يا محمد كيف عنينا بهذا القول وَما أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
[الإسراء: ٨٥] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله تعالى وأحكامه وعندك أنها تبيان كل شيء، فقال لهم رسول الله ﷺ «التوراة قليل من كثير» ونزلت هذه الآية، وهذا هو القول الصحيح، والآية مدنية وقال قوم: سبب الآية أن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينجسر فنزلت هذه الآية، وقال السدي: قالت قريش ما أكثر كلام محمد فنزلت.
قال الفقيه الإمام القاضي: والغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى وهي في نفسها غير متناهية وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، وأيضا فإن الآية إنما تضمنت أن كَلِماتُ اللَّهِ لم تكن لتنفد، وليس تقتضي الآية أنها تنفد بأكثر من هذه «الأقلام» والبحور، قال أبو علي: المراد ب «الكلمات» والله أعلم ما في المقدور دون ما أخرج منه إلى الوجود، وذهبت فرقة إلى أن «الكلمات» هنا إشارة إلى المعلومات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول ينحو إلى الاعتزال من حيث يرون في الكلام أنه مخلوق وهذه الآية بحر نظر، نور الله تعالى قلوبنا بهداه، وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة وابن أبي إسحاق وعيسى «والبحر» بالنصب عطفا على «ما» التي هي اسم «أن»، وقرأ جمهور الناس و «البحر» بالرفع على أنه ابتداء وخبره في الجملة التي بعده لأن تقديرها هذه، حاله كذا، قدرها سيبويه وقال بعض النحويين هو عطف على «أن» لأنها في موضع رفع بالابتداء، وقرأ جمهور الناس «يمده» من مد وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يمده» من أمد، وقالت فرقة هما بمعنى واحد، وقالت فرقة مد الشيء بعضه بعضا وأمد الشيء ما ليس منه، فكأن «الأبحر السبعة» المتوهمة ليست من الْبَحْرُ الموجود، وقرأ جعفر بن محمد «والبحر مداده» وهو مصدر، وقرأ ابن مسعود «وبحر يمده»، وقرأ الحسن «ما نفد كلام الله»، ثم ذكر تعالى أمر الخلق والبعث أنه في الجميع وفي شخص واحد بالسواء لأنه كله بكن فيكون قاله مجاهد.
وحكى النقاش أن هذه الآية في أبي بن خلف وأبي الأسود ونبيه ومنبه ابني الحجاج وذلك أنهم قالوا يا محمد إنا نرى الطفل يخلق بتدرج وأنت تقول الله يعيدنا دفعة واحدة فنزلت الآية بسببهم.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)
هذا تنبيه خوطب به محمد ﷺ والمراد به جميع العالم، وهذه عبرة تدل على الخالق المخترع أن يكون الليل بتدرج والنهار كذلك فما قصر من أحدهما زاد في الآخر ثم بالعكس ينقسم بحكمة بارئ العالم لا رب غيره، ويُولِجُ معناه يدخل، و «الأجل المسمى» القيامة التي تنتقض فيها هذه البنية وتكور الشمس، وقرأ جمهور القراء «بما تعملون» بالتاء من فوق، وقرأ عباس عن أبي عمرو «يعملون» بالياء، وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الإشارة ب ذلِكَ إلى هذه العبرة وما جرى
مجراها، ومعنى هُوَ الْحَقُّ أي صفة الألوهية له حق، فيحسن في القول تقدير ذو، وكذلك الباب متى أخبر بمصدر عن عين فالتقدير ذو كذا وحق مصدر ومنه قول الشاعر:
فإنما هي إقبال وإدبار وهذا كثير ومتى قلت كذا وكذا حق فإنما معناه اتصاف كذا بكذا حق، وقوله وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يصح أن يريد الأصنام وتكون بمعنى الذي ويكون الإخبار عنها ب الْباطِلُ على نحو ما قدمناه في الْحَقُّ، ويصح أن تكون ما مصدرية كأنه قال وأن دعاءكم من دونه آلهة الباطل أي الفعل الذي لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة به، وقرأ الجمهور «تدعون» بالتاء من فوق، وقرأ «يدعون» بالياء ابن وثاب والأعمش وأهل مكة ورويت عن أبي عمرو، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
الرؤية في قوله أَلَمْ تَرَ رؤية العين يتركب عليها النظر والاعتبار، والمخاطب محمد ﷺ والمراد الناس أجمع، والْفُلْكَ جمع وواحد بلفظ واحد، وقرأ موسى بن الزبير «الفلك» بضم اللام، وقوله بِنِعْمَتِ اللَّهِ يحتمل أن يريد ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات، فالباء للأرزاق، ويحتمل أن يريد الريح وتسخير الله البحر ونحو هذا، فالباء باء السبب، وقرأ الجمهور «بنعمة»، وقرأ الأعرج ويحيى بن يعمر «بنعمات» على الجمع، وقرأ ابن أبي عبلة «بنعمات» بفتح النون وكسر العين، وذكر تعالى من صفة المؤمن «الصبار» و «الشكور» لأنهما عظم أخلاقه الصبر على الطاعات وعلى النوائب وعلى الشهوات، والشكر على الضراء والسراء، وقال الشعبي الصبر نصف الإيمان والشكر نصفه الآخر، واليقين الإيمان كله. و «غشي» غطى، أو قارب، و «الظلل» السحاب، وقرأ محمد بن الحنفية «الظلال» ومنه قول النابغة الجعدي يصف البحر: [الوافر]
يماشيهن أخضر ذو ظلال على حافاته فلق الدنان
ووصف تعالى في هذه الآية حالة البشر الذين لا يعتبرون حق العبرة، والقصد بالآية تبيين آية تشهد العقول بأن الأوثان والأصنام لا شرك لها فيه ولا مدخل وقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال الحسن منهم مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعم.
وقال مجاهد: يريد فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ على كفره أي منهم من يسلم الله ويفهم نحو هذا من القدرة وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها بسيرته ونشأته، والختّار القبيح الغدر وذلك أن نعم الله تعالى على
العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها فمن كفر ذلك وجحد به فكأنه ختر وخان، ومن «الختر» قول عمرو بن معدي كرب: [الوافر]
وإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر
وقال الحسن: «الختار» هو الغدار، وكَفُورٍ بناء مبالغة.
قوله عز وجل:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
يَجْزِي معناه يقضي، والمعنى لا ينفعه بشيء ولا يدفع عنه، وهُوَ جازٍ جملة في موضع الصفة، أي ولا يجزي مولود قد كان في الدنيا يجزي، والْغَرُورُ التطميع بما لا يتحصل، والْغَرُورُ الشيطان، بذلك فسر مجاهد والضحاك وقال هو الأمل والتسويف، وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة «الغرور» بضم العين، وقال سعيد بن جبير: معنى الآية أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة، وقرأ الجمهور «يجزي» بفتح الياء من جزا، وقرأ عكرمة «يجزي» بضم الياء على ما لم يسم فاعله، وحكى ابن مجاهد قراءة «لا يجزىء» بضم الياء والهمز وفي رفع «مولود» اضطراب من النحاة قال المهدوي: ولا يكون مبتدأ لأنه نكرة وما بعده صفة له فيبقى بغير خبر.
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة ويعقوب «ولا يغرنكم» خفيفة النون، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ذكر النقاش أن رجلا سأل رسول الله ﷺ عن هذه الخمس وروي أنه سأل عن بعضها عن جنين وعما يكسب ونحو هذا فنزلت الآية حاصرة لمفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ولن تجد من المغيبات شيئا إلا هذه أو ما يعيده النظر، والتأويل إليها، وعِلْمُ السَّاعَةِ مصدر مضاف إلى المفعول، أي كل ما شأنه أن يعلم من أمر الساعة ولكن الذي استأثر الله تعالى به هو علم الوقت وغير ذلك قد أعلم ببعض منه، وكذلك نزول الغيث أمر قد استأثر الله تعالى بتفصيله وعلم وقته الخاص به، وأمر الأجنة كذلك، وأفعال البشر وجميع كسبهم كذلك وموضع موت كل بشر كذلك إلا الأصقاع والموضع الخاص بالجسد، وقرأ ابن أبي عبلة «بأيّة أرض» بفتح الياء وزيادة تاء تأنيث، وعَلِيمٌ خَبِيرٌ صفتان متشابهتان لمعنى الآية، وقال ابن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الخمس ثم تلا الآية، وقرأ «وينزل» خفيفة أهل الكوفة وأبو عمرو وعيسى، وقرأ «وينزّل» بالتثقيل نافع وأبو جعفر وعاصم وشيبة، وذكر أبو حاتم في ترجيح التثقيل رؤيا (انتهى).
Icon