تفسير سورة النّور

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة النور من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة النور

سُورَةُ النُّورِ
مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا وَهِيَ اثْنَتَانِ وَقِيلَ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ آيَةً بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (٢٤) : آيَةً ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
قَرَأَ الْعَامَّةُ (سُورَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالنَّصْبِ، أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالرَّفْعِ فَالْجُمْهُورُ قَالُوا الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لَا يَجُوزُ، وَالتَّقْدِيرُ هَذِهِ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا، أَوْ نَقُولُ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا، وَقَالَ الْأَخْفَشُ لَا يَبْعُدُ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ فَسُورَةٌ مُبْتَدَأٌ وَأَنْزَلْنَا خَبَرُهُ، وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ، يَعْنِي اتَّبِعُوا سُورَةً أَوْ اتْلُ سُورَةً أَوْ أَنْزَلْنَا سُورَةً، وَأَمَّا مَعْنَى السُّورَةِ وَمَعْنَى الْإِنْزَالِ فَقَدْ تَقَدَّمَ، فَإِنْ قِيلَ الْإِنْزَالُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ صُعُودٍ إِلَى نُزُولٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي جِهَةٍ، قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَحْفَظُهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ يُنْزِلُهَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ أَنْزَلْنَاهَا تَوَسُّعًا وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَهَا مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا دُفْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أَنْزَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ نُجُومًا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: مَعْنَى أَنْزَلْناها أَيْ أَعْطَيْنَاهَا الرَّسُولَ، كَمَا يَقُولُ الْعَبْدُ إِذَا كَلَّمَ سَيِّدَهُ رَفَعْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي، كَذَلِكَ يَكُونُ مِنَ السَّيِّدِ إِلَى الْعَبْدِ الْإِنْزَالُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: ١٠].
أَمَّا قَوْلُهُ: وَفَرَضْناها فَالْمَشْهُورُ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّشْدِيدِ.
أَمَّا قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ فَالْفَرْضُ هُوَ الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] أَيْ قَدَّرْتُمْ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [الْقَصَصِ: ٨٥] أَيْ قَدَّرَ، ثُمَّ إِنَّ السُّورَةَ لَا يُمْكِنُ فَرْضُهَا لِأَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَفَرَضْنَا مَا بُيِّنَ فِيهَا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ بَابِ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ فَلِذَلِكَ عَقَّبَهَا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، أَمَّا الْمُبَالَغَةُ فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا حُدُودٌ وَأَحْكَامٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِهَا لِيَحْصُلَ الِانْقِيَادُ لِقَبُولِهَا، وَأَمَّا التَّكْثِيرُ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ فِيهَا أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَهَا عَلَى كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ/ الدَّهْرِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ وَفِي آخِرِهَا دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ فَقَوْلُهُ: وَفَرَضْناها إِشَارَةٌ
إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا أَوَّلًا ثُمَّ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا بُيِّنَ مَنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ وَالشَّرَائِعَ مَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُمْ لِيُؤْمَرُوا بِتَذْكِيرِهَا. أَمَّا دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ فَقَدْ كَانَتْ كَالْمَعْلُومَةِ لَهُمْ لِظُهُورِهَا فَأُمِرُوا بِتَذْكِيرِهَا. وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْحُدُودِ وَالشَّرَائِعِ كَقَوْلِهِ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مَرْيَمَ: ١٠] سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ عَمَلًا وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَاضِي إِنَّ السُّورَةَ كَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى عَمَلِ الْوَاجِبَاتِ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَثَاتِ بِأَنْ بَيَّنَهَا اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ بَيَانُهُ سُبْحَانَهُ لَهَا مُفَصَّلًا وَصَفَ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا بَيِّنَاتٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فقرىء بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِهَا، وَمَعْنَى لَعَلَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ الْقَاضِي لَعَلَّ بِمَعْنَى كَيْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوا وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ مِنَ الْكُلِّ لَمَا قَوَّى دَوَاعِيَهُمْ إِلَى جَانِبِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ التَّقْوِيَةُ لَزِمَ وُقُوعُ الْفِعْلِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا جَازَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ عَلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحِ وَيَلْزَمُ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ لَعَلَّ عَلَى سائر الوجوه المذكورة في سورة البقرة
[سورة النور (٢٤) : آية ٢]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أحكاما كثيرة:
الحكم الأول
[في قَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي رَفْعُهُمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ عَلَى مَعْنَى: فِيمَا فَرَضَ اللَّه عَلَيْكُمُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أَيْ فَاجْلِدُوهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ فَاجْلِدُوا وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ لِكَوْنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ بِمَعْنَى الَّذِي وَتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ الَّتِي زَنَتْ وَالَّذِي زَنَى فَاجْلِدُوهُمَا كَمَا تَقُولُ مَنْ زَنَا فَاجْلِدُوهُ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، وَقُرِئَ وَالزَّانِ بِلَا يَاءٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ/ بِالشَّرْعِيَّاتِ وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِيَّاتِ وَنَحْنُ نَأْتِي عَلَى الْبَابَيْنِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
النوع الْأَوَّلُ: الشَّرْعِيَّاتُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَرَنَهُ بِالشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: ٦٨] وَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٣٢]، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمِائَةَ فِيهَا بِكَمَالِهَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَرَعَ فِيهِ الرَّجْمَ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الرَّأْفَةِ وَأَمَرَ بِشُهُودِ الطَّائِفَةِ لِلتَّشْهِيرِ وَأَوْجَبَ كَوْنَ تِلْكَ الطَّائِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ صُلَحَاءِ قَوْمِهِ أَخْجَلُ وَثَالِثُهَا: مَا
رَوَى حُذَيْفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النَّاسِ اتَّقُوا الزِّنَا فَإِنَّ فِيهِ سِتَّ خِصَالٍ ثَلَاثٌ فِي الدُّنْيَا وَثَلَاثٌ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَيُذْهِبُ الْبَهَاءَ وَيُورِثُ الْفَقْرَ وَيُنْقِصُ العمر،
302
وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآخِرَةِ فَسُخْطُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسُوءُ الْحِسَابِ وَعَذَابُ النَّارِ»
وَعَنْ عَبْدِ اللَّه قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّه؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ للَّه نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ، وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: وَأَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»
فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى تَصْدِيقَهَا: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الْفُرْقَانِ: ٦٨] وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَثَانِيهَا: عَنْ أَحْكَامِ الزِّنَا وَثَالِثُهَا: عَنِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِ الزِّنَا مُوجِبًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ وَرَابِعُهَا: عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ حُصُولُ الزِّنَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:
فَاجْلِدُوهُمْ [النور: ٤] مَنْ هُمْ؟ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الرَّجْمَ وَالْجَلْدَ الْمَأْمُورَ بِهِمَا فِي الزِّنَا كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمَا؟.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٌ قَطْعًا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللُّواطَةَ هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الزِّنَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَائِلُونَ نَعَمْ. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ» وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللِّوَاطَ مِثْلُ الزِّنَا صُورَةً وَمَعْنًى. أَمَّا الصُّورَةُ فَلِأَنَّ الزِّنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٌ قَطْعًا، وَالدُّبُرُ أَيْضًا فَرْجٌ لِأَنَّ الْقُبُلَ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرَجًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِانْفِرَاجِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الدُّبُرِ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ فِي الْعُرْفِ لَا تُسَمَّى اللُّوَاطَةُ زِنًا وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا طَبِيبٌ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ مَعَ أَنَّ الطِّبَّ عِلْمٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الزِّنَا قَضَاءٌ لِلشَّهْوَةِ مِنْ مَحَلٍّ مُشْتَهًى طَبْعًا عَلَى جِهَةِ الْحَرَامِ الْمَحْضِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطِ لِأَنَّ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ يُشْتَهَيَانِ لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مُتَعَلِّقُ الشَّهْوَةِ مِنَ الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ وَضِيقِ الْمَدْخَلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ بِالطَّبَائِعِ لَا يُفَرِّقُ/ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُفَرِّقُ هُوَ الشَّرْعُ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَهَذَا حُجَّةُ مَنْ قَالَ اللِّوَاطُ دَاخِلٌ تَحْتَ اسْمِ الزِّنَا، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّ اللِّوَاطَ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ اسْمِ الزِّنَا وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْعُرْفُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَنَّ هَذَا لِوَاطٌ وَلَيْسَ بِزِنًا وَبِالْعَكْسِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّغْيِيرِ وَثَانِيهَا: لَوْ حَلَفَ لَا يَزْنِي فَلَاطَ لَا يَحْنَثُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ اللِّوَاطِ وَكَانُوا عَالِمِينَ بِاللُّغَةِ فَلَوْ سُمِّيَ اللِّوَاطُ زِنًا لَأَغْنَاهُمْ نَصُّ الْكِتَابِ فِي حَدِّ الزِّنَا عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِثْمِ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ»
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْفَرْجَ وَإِنْ كَانَ سُمِّيَ فَرْجًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِانْفِرَاجِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَا فِيهِ انْفِرَاجٌ بِالْفَرْجِ وَإِلَّا لَكَانَ الْفَمُ وَالْعَيْنُ فَرْجًا، وَأَيْضًا فَهُمْ سَمَّوُا النَّجْمَ نَجْمًا لِظُهُورِهِ، ثُمَّ مَا سَمَّوْا كُلَّ ظَاهِرٍ نَجْمًا. وَسَمَّوُا الْجَنِينَ جَنِينًا لِاسْتِتَارِهِ، وَمَا سَمَّوْا كُلَّ مُسْتَتِرٍ جَنِينًا، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي فِعْلِ اللواط قولان أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا إِنْ كَانَ مُحْصَنًا يُرْجَمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا يُجْلَدُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا وَثَانِيهِمَا: يُقْتَلُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، لِمَا
رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ»
ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: تُحَزُّ رَقَبَتُهُ كَالْمُرْتَدِّ وَثَانِيهَا:
يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَثَالِثُهَا: يُهْدَمُ عَلَيْهِ جِدَارٌ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَرَابِعُهَا:
يُرْمَى مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ حَتَّى يَمُوتَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ
303
الْوُجُوهَ: لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى عَذَّبَ قَوْمَ لُوطٍ بكل ذلك فقال تعالى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: ٨٢] وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يُحَدُّ اللوطي بَلْ يُعَذَّرُ، أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا طَائِعًا فَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْفَاعِلِ الْقَتْلُ فَيُقْتَلُ الْمَفْعُولُ بِهِ عَلَى صِفَةِ قَتْلِ الْفَاعِلِ لِلْخَبَرِ، وَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْفَاعِلِ حَدُّ الزِّنَا فَعَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ مِائَةُ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَقِيلَ إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً مُحْصَنَةً فَعَلَيْهَا الرَّجْمُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُحَصَنَةً بِالتَّمْكِينِ فِي الدُّبُرِ فَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الْمُحْصَنَاتِ كَمَا لَوْ كان المفعول به، ذكر حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللِّوَاطَ، إِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ الزِّنَا فِي الْمَاهِيَّةِ أَوْ يُسَاوِيَهُ فِي لَوَازِمِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْحَدُّ بَيَانُ الْأَوَّلِ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ»
فَاللَّفْظُ دَلَّ عَلَى كَوْنِ اللَّائِطِ زَانِيًا، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى مَاهِيَّةٍ دَالٌّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى حُصُولِ جَمِيعِ لَوَازِمِهَا، وَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ مُشْتَرِكَانِ فِي أَصْلِ الدَّلَالَةِ، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الزِّنَا دَالٌّ عَلَى حُصُولِ جَمِيعِ اللَّوَازِمِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إِنْ تَحَقَّقَ مُسَمَّى الزِّنَا فِي اللِّوَاطِ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مُسَمَّى الزِّنَا وَجَبَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَوَازِمُ مُسَمَّى الزِّنَا لِمَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى تَحَقُّقِ مَاهِيَّةٍ دَالٌّ عَلَى تَحَقُّقِ جَمِيعِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْمَاهِيَّةِ/ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ، لَكِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الزِّنَا وُجُوبَ الْحَدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي اللِّوَاطِ. أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ
فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ»
لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ هُنَاكَ تَرْكُهُ هَاهُنَا الثَّانِي: أَنَّ اللَّائِطَ يَجِبُ قَتْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ رَجْمًا بَيَانُ الْأَوَّلِ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ مِنْهُمَا وَالْمَفْعُولَ بِهِ»
وَبَيَانُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ قَتْلُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَانِيًا وَإِلَّا لَمَا جَازَ قَتْلُهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى ثَلَاثٍ»
وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ وَلَا قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْتَلَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَجَبَ الرَّجْمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّالِثُ: نَقِيسُ اللِّوَاطَ عَلَى الزِّنَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ الطَّبْعَ دَاعٍ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِالْتِذَاذِ وَهُوَ قَبِيحٌ فَيُنَاسِبُ الزَّجْرَ، وَالْحَدُّ يَصْلُحُ زَاجِرًا عَنْهُ. قَالُوا:
وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه وجد في الزنا داعيات، فَكَانَ وُقُوعُهُ أَكْثَرَ فَسَادًا فَكَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزَّاجِرِ أَتَمَّ الثَّانِي: أَنَّ الزِّنَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْأَنْسَابِ وَالْجَوَابُ: إِلْغَاؤُهُمَا بِوَطْءِ الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: اللِّوَاطُ لَيْسَ بِزِنًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْتَلَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى ثَلَاثٍ»
وَثَانِيهَا: أَنَّ اللِّوَاطَ لَا يُسَاوِي الزِّنَا فِي الْحَاجَةِ إِلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ، وَلَا فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يُسَاوِيهِ فِي الْحَدِّ بَيَانُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ في الحاجة. أن اللواطة وَإِنْ كَانَتْ يَرْغَبُ فِيهَا الْفَاعِلُ لَكِنْ لَا يَرْغَبُ فِيهَا الْمَفْعُولُ طَبْعًا بِخِلَافِ الزِّنَا، فَإِنَّ الدَّاعِيَ حَاصِلٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْجِنَايَةِ فَلِأَنَّ فِي الزِّنَا إِضَاعَةَ النِّسَبِ وَلَا كَذَلِكَ اللِّوَاطُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسَاوِيَهُ فِي الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَنْفِي شَرْعَ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الزِّنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي اللِّوَاطِ عَلَى الْأَصْلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَدَّ كَالْبَدَلِ عَنِ الْمَهْرِ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِاللِّوَاطِ الْمَهْرُ فكذا الحدو الجواب: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللِّوَاطَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لِلزِّنَا فِي مَاهِيَّتِهِ لَكِنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الْأَحْكَامِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ اللِّوَاطَ وَإِنْ كَانَ لا يرغب فيه المفعول لَكَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ اشْتِدَادِ رَغْبَةِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَرِيصٌ عَلَى مَا مُنِعَ وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْجَامِعِ واللَّه أَعْلَمُ.
304
المسألة الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حُرْمَةِ إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ. وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي عُقُوبَتِهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا:
يَجِبُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَيُجْلَدُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ وَيُغَرَّبُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقْتَلُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
لِمَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ» فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟ فَقَالَ: مَا أَرَاهُ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا، وَقَدْ عُمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْعَمَلُ
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّه: أَنَّ عليه التعزير لِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ لِلزَّجْرِ عَمَّا تَمِيلُ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْفِعْلُ لَا تَمِيلُ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَضَعَّفُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِأَكْلِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: السَّحْقُ مِنَ النِّسْوَانِ وَإِتْيَانُ الْمَيْتَةِ وَالِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ لَا يُشْرَعُ فيها إلا التعزير.
الْبَحْثُ الثَّانِي: عَنْ أَحْكَامِ الزِّنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عُقُوبَةُ الزَّانِي الْحَبْسُ إِلَى الْمَمَاتِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، وَالْأَذَى بِالْكَلَامِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما
[النِّسَاءِ: ١٥، ١٦] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَجُعِلَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الثَّيِّبِ الرَّجْمَ وَحَدُّ الْبِكْرِ الْجَلْدَ وَالتَّغْرِيبَ، وَلْنَذْكُرْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ:
المسألة الْأُولَى: الْخَوَارِجُ أَنْكَرُوا الرَّجْمَ وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ [النِّسَاءِ: ٢٥] فَلَوْ وَجَبَ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ لَوَجَبَ نِصْفُ الرَّجْمِ عَلَى الرَّقِيقِ لَكِنَّ الرَّجْمَ لَا نِصْفَ لَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي مِنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ، وَلَمْ يَسْتَقْصِ فِي أَحْكَامِهَا كَمَا اسْتَقْصَى فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الزِّنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى نهى عن الزنا بقوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الْإِسْرَاءِ: ٣٢] ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ ثَانِيًا بِالنَّارِ كَمَا فِي كُلِّ الْمَعَاصِي، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَلْدَ ثَالِثًا ثُمَّ خَصَّ الْجَلْدَ بِوُجُوبِ إِحْضَارِ الْمُؤْمِنِينَ رَابِعًا، ثُمَّ خَصَّهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الرَّأْفَةِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ خَامِسًا، ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِالزِّنَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَسَادِسًا، لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ رَمَاهُ بِالْقَتْلِ وَالْكُفْرِ وَهُمَا أَعْظَمُ مِنْهُ، ثم قال سَابِعًا: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ثُمَّ ذَكَرَ ثَامِنًا مَنْ رَمَى زَوْجَتَهُ بِمَا يُوجِبُ التَّلَاعُنَ وَاسْتِحْقَاقَ غَضَبِ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ ذكر تاسعا أن الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّورِ: ٣]، ثُمَّ ذَكَرَ عَاشِرًا أَنَّ ثُبُوتَ الزِّنَا مَخْصُوصٌ بِالشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ فَمَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِقْصَاءِ أَحْكَامِ الزِّنَا قَلِيلًا وَكَثِيرًا لَا يَجُوزُ إِهْمَالُ مَا هُوَ أَجَلُّ أَحْكَامِهَا وَأَعْظَمُ آثَارِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجْمَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ أَعْظَمَ الْآثَارِ فَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْجَلْدِ عَلَى كُلِّ الزُّنَاةِ، وَإِيجَابُ الرَّجْمِ عَلَى الْبَعْضِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
لِأَنَّ الْكِتَابَ قَاطِعٌ فِي مَتْنِهِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ غَيْرُ قَاطِعٍ فِي مَتْنِهِ، وَالْمَقْطُوعُ رَاجِحٌ عَلَى الْمَظْنُونِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ من المجتهدين على وجوب رجم المحصن لما ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رَوَى الرَّجْمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ فِي آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ رَوَى خَبَرَ رَجْمِ مَاعِزٍ وَبَعْضُهُمْ خَبَرَ اللَّخْمِيَّةِ وَالْغَامِدِيَّةِ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّه لَأَثْبَتُّهُ فِي الْمُصْحَفِ. وَالْجَوَابُ: عَمَّا
305
احْتَجُّوا بِهِ أَوَّلًا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْجَلْدِ. فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قُلْنَا بَلْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّجْمَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ وَالْجَوَابُ:
عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ تَجَدُّدُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَسَبِ تَجَدُّدُ الْمَصَالِحِ/ فَلَعَلَّ الْمَصْلَحَةَ التي تقضي وُجُوبَ الرَّجْمِ حَدَثَتْ بَعْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ
نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْجَلْدِ وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّجْمِ وَلَا مُنَافَاةَ فَوَجَبَ الْجَمْعُ وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ»
وَثَالِثُهَا:
رَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ ثُمَّ أُخْبِرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ مُحْصَنًا فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ»
وَرَابِعُهَا:
رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَدَ شَرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ ثُمَّ رَجَمَهَا وَقَالَ جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّه وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُجْتَهِدِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قِصَّةُ الْعَسِيفِ
فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»
وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَلْدَ وَلَوْ وَجَبَ الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ قِصَّةَ مَاعِزٍ رُوِيَتْ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعَ الرَّجْمِ جَلْدٌ، وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ مُعْتَبَرًا مَعَ الرَّجْمِ لَجَلَدَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَوْ جَلَدَهُ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ الرَّجْمُ إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالنَّقْلِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَكَذَا فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا فَرَجَمَهَا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ وَلَوْ جَلَدَهَا لَنُقِلَ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّه تَعَالَى، وقد قرأنا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها الْبَتَّةَ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّه تَعَالَى هُوَ الرَّجْمُ وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ وَاجِبًا مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ أَمَّا الْجَوَابُ: عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةِ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ»
فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ
قَوْلِهِ: «يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»
وَأَمَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَدَ امْرَأَةً ثُمَّ رَجَمَهَا، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا عَلِمَ إِحْصَانَهَا فَجَلَدَهَا، ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ إِحْصَانَهَا رَجَمَهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ فِعْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ فِي حَدِّ الْبِكْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يُجْلَدُ، وَأَمَّا التَّغْرِيبُ فَمُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَقَالَ مَالِكٌ يُجْلَدُ الرَّجُلُ وَيَغَرَّبُ وَتُجْلَدُ الْمَرْأَةُ وَلَا تُغَرَّبُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه
حَدِيثُ عُبَادَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّه لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ»
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَيْهِ مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى/ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِوَلِيدَةٍ وَمِائَةِ شَاةٍ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ فَاقْضِ بَيْنَنَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّه أَمَّا الغنم والوليدة
306
فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَأَمَّا ابْنُكَ فَإِنَّ عَلَيْهِ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، ثم قال لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى نَفْيِ التَّغْرِيبِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِيجَابَ التَّغْرِيبِ يَقْتَضِي نَسْخَ الْآيَةِ وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ وَقَرَّرُوا النَّسْخَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَتَّبَ الْجَلْدَ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا بِالْفَاءِ وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْجَزَاءِ إِلَّا أَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ قَالُوا الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّه ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ وَفَسَّرُوا الشَّرْطَ بِالَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ إِنَّ وَالْجَزَاءَ بِالَّذِي دَخَلَ عليه حرف الفاء والجزاء اسم له يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ جَازَيْنَاهُ أَيْ كَافَأْنَاهُ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تُجْزِيكَ وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ»
أَيْ تَكْفِيكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: اجْتَزْتُ الْإِبِلَ بِالْعُشْبِ بِالْمَاءِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالْجَلْدِ إِذَا لَمْ يَجِبْ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ فَإِيجَابُ شَيْءٍ آخَرَ يَقْتَضِي نَسْخَ كَوْنِهِ كَافِيًا الثَّانِي: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَمَّا كان هو الجلد فقط كَانَ ذَلِكَ كَمَالَ الْحَدِّ فَلَوْ جَعَلْنَا النَّفْيَ مُعْتَبَرًا مَعَ الْجَلْدِ لَكَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ لَا كُلَّ الْحَدِّ فَيُفْضِي إِلَى نَسْخِ كَوْنِهِ كُلَّ الْحَدِّ الثَّالِثُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ الْجَلْدِ كَمَالَ الْحَدِّ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ رَدُّ الشَّهَادَةِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَعْضَ الْحَدِّ لَزَالَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَثَبَتَ أَنَّ إِيجَابَ التَّغْرِيبِ يَقْتَضِي نَسْخَ الْآيَةِ ثَانِيهَا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَوْ كَانَ النَّفْيُ مَشْرُوعًا مَعَ الْجَلْدِ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ تَوْقِيفُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَعْتَقِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ الْآيَةِ أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ كَمَالُ الْحَدِّ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ اشْتِهَارُهُ مِثْلَ اشْتِهَارِ الْآيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ النَّفْيِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بَلْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَثَالِثُهَا: مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَةِ: «إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِطَفِيرٍ»
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ»
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّفْيُ ثَابِتًا لَذَكَرَهُ مَعَ الْجَلْدِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُشْرَعَ التَّغْرِيبُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ أَوْ لَا يُشْرَعَ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِضْرَارُ بِالسَّيِّدِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّهُ
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِيعُوهَا وَلَوْ بَطَفِيرٍ»
وَلَوْ وَجَبَ نَفْيُهَا لَمَا جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّ الْمُكْنَةَ مِنْ تَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُشْتَرِي لَا تَبْقَى بِالنَّفْيِ وَلَا جَائِزَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَخَامِسُهَا: أَنَّ التَّغْرِيبَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الرَّجُلِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي الْجِنَايَةِ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهَا وَحْدَهَا أَوْ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَالْأَوَّلُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ مِنْ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ»
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ/ الشَّهْوَةَ غَالِبَةٌ فِي النِّسَاءِ، وَالِانْزِجَارُ بِالدِّينِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْخَوَاصِّ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ لِعَدَمِ الزِّنَا مِنَ النِّسَاءِ بِوُجُودِ الْحُفَّاظِ مِنَ الرِّجَالِ، وَحَيَائِهِنَّ مِنَ الْأَقَارِبِ. وَبِالتَّغْرِيبِ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مِنْ أَيْدِي الْقُرَبَاءِ وَالْحُفَّاظِ، ثُمَّ يَقِلُّ حَيَاؤُهَا لِبُعْدِهَا عَنْ مَعَارِفِهَا فَيَنْفَتِحُ عَلَيْهَا بَابُ الزِّنَا، فَرُبَّمَا كَانَتْ فَقِيرَةً فَيَشْتَدُّ فَقْرُهَا فِي السَّفَرِ، فَيَصِيرُ مَجْمُوعُ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ بَابِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهَا. وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ إِنَّا نُغَرِّبُهَا مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ، لِأَنَّ عُقُوبَةَ غَيْرِ الْجَانِي لَا تَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ:
١٦٤] وَسَادِسُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ، فَقَالَ عُمَرُ لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهَا أَحَدًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ الزِّنَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبِكْرَيْنِ إِذَا زَنَيَا يُجْلَدَانِ وَلَا يُنْفَيَانِ وَإِنَّ نَفْيَهُمَا مِنَ الْفِتْنَةِ،
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَمَةً لَهُ زَنَتْ فَجَلَدَهَا وَلَمْ يَنْفِهَا، وَلَوْ كَانَ النَّفْيُ مُعْتَبَرًا فِي حَدِّ الزِّنَا لَمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَسَابِعُهَا: مَا
رُوِيَ «أَنَّ شَيْخًا وُجِدَ عَلَى بَطْنِ جَارِيَةٍ يَحْنَثُ بِهَا فِي خَرِبَةٍ فَأُتِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اجْلِدُوهُ مِائَةً، فَقِيلَ إِنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا وخلوا
307
سَبِيلَهُ».
وَلَوْ كَانَ النَّفْيُ وَاجِبًا لَنَفَاهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَنْفِهِ لِأَنَّهُ كَانَ ضَعِيفًا عَاجِزًا عَنِ الْحَرَكَةِ، قُلْنَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَرَى لَهُ دَابَّةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يُنْفَى عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ كَانَ عَسَى يَضْعُفُ عَنِ الرُّكُوبِ، قُلْنَا مَنْ قَدَرَ عَلَى الزِّنَا كَيْفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ! وَثَامِنُهَا: أَنَّ التَّغْرِيبَ نَظِيرُ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ فَنَزَّلَهُمَا مَنْزِلَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا لَمْ يُشْرَعَ الْقَتْلُ فِي زِنَا الْبِكْرِ وَجَبَ أَنْ لَا يُشْرَعَ أَيْضًا نَظِيرُهُ وَهُوَ التَّغْرِيبُ.
وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا إِدْخَالُ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْجَلْدِ، فَأَمَّا أَنَّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَرْفُ فَإِنَّهُ يُسَمَّى جَزَاءً، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّه وَلَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِهِ، بَلْ هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
أَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: لَوْ كَانَ النَّفْيُ مَشْرُوعًا لَمَا كَانَ الْجَلْدُ كُلَّ الْحَدِّ، فَنَقُولُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ زَالَ أَمْرُهُ لِأَنَّ إِثْبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ لَا أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَقْتَضِيَ زَوَالَ عَدَمِهِ الَّذِي كَانَ، إِلَّا أَنَّ الزَّائِلَ هَاهُنَا لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، بَلِ الزَّائِلُ مَحْضُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْإِزَالَةِ لَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الزَّائِلَ مَحْضُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِيجَابَ الْجَلْدِ مَفْهُومٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إِيجَابِ التَّغْرِيبِ وَبَيْنَ إِيجَابِهِ مَعَ نَفْيِ التَّغْرِيبِ. وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ.
فَإِذَنْ إِيجَابُ الْجَلْدِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ الْبَتَّةَ لَا بِإِيجَابِ التَّغْرِيبِ وَلَا بِعَدَمِ إِيجَابِهِ، إِلَّا أَنَّ نَفْيَ التَّغْرِيبِ كَانَ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ نَظَرًا إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَإِذَا جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّغْرِيبِ، فَمَا أَزَالَ الْبَتَّةَ شَيْئًا مِنْ مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْجَلْدِ بَلْ أَزَالَ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ، فَأَمَّا كَوْنُ الْجَلْدِ وَحْدَهُ مُجْزِيًا، وَكَوْنُهُ وَحْدَهُ كَمَالَ الْحَدِّ. وَتَعَلَّقَ رَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ تَابِعٌ لِنَفْيِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ النَّفْيُ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ جَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْفُرُوضَ لَوْ كَانَتْ خَمْسًا لَتَوَقَّفَ عَلَى أَدَائِهَا الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ/ وَلَوْ زِيدَ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ لَتَوَقَّفَ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى أَدَاءِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فَكَذَا هَاهُنَا. أَمَّا لَوْ قَالَ اللَّه تَعَالَى الْجَلْدُ كَمَالُ الْحَدِّ وَعَلِمْنَا أَنَّهَا وَحْدَهَا مُتَعَلِّقُ رَدِّ الشَّهَادَةِ، فَلَا يُقْبَلُ هَاهُنَا فِي إِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ خَبَرُ الْوَاحِدِ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَوَاتِرٍ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ لَوَجَبَ فِي كُلِّ مَا خَصَّصَ آيَةً عَامَّةً أَنْ يَبْلُغَ فِي الِاشْتِهَارِ مَبْلَغَ تِلْكَ الْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ
قَوْلَهُ: «ثُمَّ بِيعُوهَا»
لَا يُفِيدُ التَّعْقِيبَ فَلَعَلَّهَا تُنْفَى ثُمَّ بَعْدَ النَّفْيِ تُبَاعُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الرَّابِعِ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا
رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَدَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَلَدَ وَغَرَّبَ
وَالْجَوَابُ: عَنِ الْخَامِسِ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي تَغْرِيبِ الْعَبْدِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُغَرَّبُ
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ»
وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّغْرِيبِ، وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ لِلْمَعَرَّةِ وَلَا مَعَرَّةَ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُنْقَلُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَهُ لِلسَّيِّدِ فَفِي نَفْيِهِ إِضْرَارٌ بِالسَّيِّدِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُغَرَّبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَلَا يُنْظَرُ إِلَى ضَرَرِ الْمَوْلَى كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ وَيُجْلَدُ الْعَبْدُ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ، وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ الْمَوْلَى فَعَلَى هَذَا كَمْ يُغَرَّبُ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ كَمَا يُجْلَدُ نِصْفَ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَالثَّانِي: يُغَرَّبُ سَنَةً لِأَنَّ التَّغْرِيبَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِيحَاشُ وَذَلِكَ مَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الطَّبْعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوِ الْعُنَّةِ وَالْجَوَابُ:
عَنِ السَّادِسِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَرَّبُ وَحْدَهَا بَلْ مَعَ مَحْرَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعِ الْمَحْرَمُ بِالْخُرُوجِ مَعَهَا أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ
308
الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ تُغَرَّبُ مَعَ النِّسَاءِ الثِّقَاتِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ مَعَهُنَّ. قَوْلُهُ التَّغْرِيبُ يَفْتَحُ عَلَيْهَا بَابَ الزِّنَا، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ أَكْثَرَ الزِّنَا بِالْإِلْفِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ، وَأَكْثَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَبْطُلُ بِالْغُرْبَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقَعُ فِي الْوَحْشَةِ وَالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِلزِّنَا وَالْجَوَابُ: عَنِ السَّابِعِ، أَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ يَقْدِرُ عَلَى الزِّنَا؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّامِنِ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِالتَّغْرِيبِ إِذَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ واللَّه أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يُفِيدُ الْحُكْمَ فِي كُلِّ الزُّنَاةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ فَقَالَ قَائِلُونَ لَفْظُ الزَّانِي يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لَبِسْتُ الثَّوْبَ أَوْ شَرِبْتُ الْمَاءَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْكِيدُهُ بِمَا يُؤَكَّدُ بِهِ الْجَمْعُ، فَلَا يُقَالُ جَاءَنِي الرَّجُلُ أَجْمَعُونَ وَثَالِثُهَا: لَا يُنْعَتُ بِنُعُوتِ الْجَمْعِ فَلَا يُقَالُ جَاءَنِي الرَّجُلُ الْفُقَرَاءُ، وَتَكَلَّمَ الْفَقِيهُ الْفُضَلَاءُ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّرْهَمُ الْبِيضُ وَالدِّينَارُ الصُّفْرُ، فَمَجَازٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ، وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ حَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدِّينَارُ الْأَصْفَرُ مَجَازًا، كَمَا أَنَّ الدَّنَانِيرَ الصُّفْرَ لَمَّا كَانَتْ/ حَقِيقَةً كَانَ الدَّنَانِيرُ الْأَصْفَرُ مَجَازًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ الزَّانِيَ جُزْئِيٌّ مِنْ هَذَا الزَّانِي، فَإِيجَابُ جَلْدِ هَذَا الزَّانِي إِيجَابُ جَلْدِ الزَّانِي، فَلَوْ كَانَ إِيجَابُ جَلْدِ الزَّانِي إِيجَابًا لِجَلْدِ كُلِّ زَانٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ إِيجَابُ جَلْدِ هَذَا الزَّانِي إِيجَابَ جَلْدِ كُلِّ زَانٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَطَلَ مَا قَالُوهُ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بِشَرْطِ الْعَرَاءِ عَنْ لَفْظِ التَّعْيِينِ، أَوْ يُقَالُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ وَإِنِ اقْتَضَى الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ التَّعْيِينِ يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا دَخْلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ، أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَخَامِسُهَا: أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ هُوَ الضَّحَّاكُ فَلَوْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِنَا الْإِنْسَانُ هُوَ كُلُّ الْإِنْسَانِ لَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَا يُقَالُ كُلُّ إِنْسَانٍ هُوَ الضَّحَّاكُ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَصْدُقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَشْخَاصِ النَّاسِ أَنَّهُ هُوَ الضَّحَّاكُ لَا غَيْرُ وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْرِ: ٢، ٣] وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ بِأَصْلِ الِاسْمِ، وَلَا لِتَعْرِيفِ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا لِتَعْرِيفِ بَعْضِ مَرَاتِبَ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ الْمَرَاتِبِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى تَعْرِيفِ الْكُلِّ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ مَجَازٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ رَأَيْتُ الْإِنْسَانَ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ يُشْكِلُ بِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ، فَإِنْ جَعَلْتَهَا هُنَاكَ لِلتَّأْكِيدِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، لَكِنَّهُ يُفِيدُهُ بِحَسَبِ الْقَرِينَةِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ يُفِيدُ كَوْنَ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا وَهَاهُنَا كَذَلِكَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الزِّنَا علة لوجوب الجد، فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ أَيْنَمَا تَحَقَّقَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الْجَلْدِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَعْلُولِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلَّ الزُّنَاةِ أَوِ الْبَعْضَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ، لَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَأْمُورٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِهِ واللَّه أعلم.
309
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِ الزِّنَا مُوجِبًا لِلرَّجْمِ تَارَةً وَالْجَلْدِ أُخْرَى، فَنَقُولُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الزِّنَا مُوجِبًا لِهَذَيْنَ الْحُكْمَيْنِ مَشْرُوطٌ بِالْعَقْلِ وَبِالْبُلُوغِ فَلَا يَجِبُ الرَّجْمُ وَالْحَدُّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَيْسَا مِنْ خَوَاصِّ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ بَلْ هُمَا مُعْتَبَرَانِ فِي كُلِّ الْعُقُوبَاتِ، أَمَّا كَوْنُهُمَا مُوجِبَيْنِ لِلرَّجْمِ فَلَا بُدَّ مَعَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ مِنْ أُمُورٍ أُخَرَ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْحُرِّيَّةُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرقيق لا يجب عليه الرَّجْمُ الْبَتَّةَ الشَّرْطُ الثَّانِي: التَّزَوُّجُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالْإِصَابَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ وَلَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ الشَّرْطُ/ الثَّالِثُ: الدُّخُولُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الثَّيِّبِ بِالثَّيِّبِ»
وَإِنَّمَا تَصِيرُ ثَيِّبًا بِالْوَطْءِ وَهَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:
لَا يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ أَصَابَ عَبْدٌ أَمَةً بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فِي حَالِ الْجُنُونِ وَالصِّغَرِ ثُمَّ كَمُلَ حَالُهُ فَزَنَى يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّحْلِيلُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ كَالْوَطْءِ فِي حَالِ الْكَمَالِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْكَمَالِ فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الأصح وهو ظاهر النص، وقول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا شُرِطَ أَكْمَلُ الْإِصَابَاتِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ الْإِصَابَةُ فِي حَالِ الْكَمَالِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ الْكَمَالُ فِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُهُ بِنَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مُعْتَبَرٌ فِي الطَّرَفَيْنِ حَتَّى لَوْ وَطِئَ الصَّبِيُّ بَالِغَةً حُرَّةً عَاقِلَةً فَإِنَّهُ لَا يُحْصِنُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه.
حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُفِيدُ الْإِحْصَانَ لأحد الوطئين فَلَا يُفِيدُ فِي الْآخَرِ كَوَطْءِ الْأَمَةِ.
حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَقْتَ النِّكَاحِ وَكَذَا عِنْدَ الدُّخُولِ الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْإِسْلَامُ لَيْسَ شَرْطًا فِي كَوْنِ الزِّنَا مُوجِبًا لِلرَّجْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه شَرْطٌ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَإِذَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ فَأَنْبِئُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ»
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّمِّيُّ كَذَلِكَ لِتَحْصُلَ التَّسْوِيَةُ وَثَانِيهَا:
حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً زَنَيَا
فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ بِذَلِكَ بِشَرِيعَتِهِ أَوْ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ بَيِّنٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَارَ شَرْعًا لَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ زِنَا الْكَافِرِ مِثْلُ زِنَا الْمُسْلِمِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ لأن الزنا محرم قبيح فيناسب الزَّجْرُ وَإِيجَابُ الرَّجْمِ يَصْلُحُ زَاجِرًا لَهُ وَلَا يَبْقَى إِلَّا التَّفَاوُتُ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ تَغْلِيظَ الْجِنَايَةِ فَلَا يُوجِبُ تَخْفِيفَهَا وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا يَجِبُ فِي الذِّمِّيِّ لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي الذِّمِّيِّ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْأَحْجَارِ عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَجِبُ إِلَّا بِجِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ، وَالْجِنَايَةُ تَعْظُمُ بِكُفْرَانِ النِّعَمِ فِي حَقِّ الْجَانِي عَقْلًا وَشَرْعًا، أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَكُلَّمَا كَانَتِ النِّعَمُ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ كَانَ كُفْرَانُهَا أَعْظَمَ وَأَقْبَحَ، وأما الشرح فَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ نِسَاءِ النبي صلى اللَّه عليه وسلم: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ/ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الَأَحْزَابِ: ٣٠] فَلَمَّا كَانَتْ نِعَمُ اللَّه تَعَالَى فِي
310
حَقِّهِنَّ أَكْثَرَ كَانَ الْعَذَابُ فِي حَقِّهِنَّ أَكْثَرَ، وَقَالَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الْإِسْرَاءِ: ٧٤، ٧٥] وَإِنَّمَا عَظُمَتْ مَعْصِيَتُهُ لِأَنَّ النِّعْمَةَ فِي حَقِّهِ أَعْظَمُ وَهِيَ نِعْمَةُ النُّبُوَّةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، فَكَانَتْ مَعْصِيَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمَ فَوَجَبَ أَنْ تكون عقوبته أشدو ثانيها: أَنَّ الذِّمِّيَّ لَمْ يَزْنِ بَعْدَ الْإِحْصَانِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بَيَانُ الْأَوَّلِ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَشْرَكَ باللَّه طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»
بَيَانُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُحْصَنًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى ثلاث»
وإذا كان مسلم كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّمِّيُّ كَذَلِكَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الْجِزْيَةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ»
وَثَالِثُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ إِحْصَانَ الْقَذْفِ يعتبر فيه الإسلام، فكان إِحْصَانُ الرَّجْمِ وَالْجَامِعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَمَالِ النعمة والجواب: عن الأول أنه خص عنه الثَّيِّبَ الْمُسْلِمَ فَكَذَا الثَّيِّبُ الذِّمِّيُّ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَدِيثِ زِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَنَقُولُ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ حَصَلَتْ بِكَسْبِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْخِدْمَةِ الزَّائِدَةِ، وَزِيَادَةُ الْخِدْمَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ الإحصان سَبَبًا لِلْعُذْرِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا تَكُونَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ، وَعَنِ الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُشْرِكٌ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْإِحْصَانَ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّزَوُّجُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّورِ:
٤٠] وَفِي التَّفْسِيرِ: فَإِذا أُحْصِنَّ [النِّسَاءِ: ٢٥] يَعْنِي فَإِذَا تَزَوَّجْنَ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الذِّمِّيُّ الثَّيِّبُ مُحْصَنٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَوَجَبَ رَجْمُهُ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ
رَتَّبَ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ فَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وَالْوَصْفُ قَائِمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لِدَفْعِ الْعَارِ كَرَامَةً لِلْمَقْذُوفِ، وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْكَرَامَةِ وَصِيَانَةِ الْعِرْضِ بِخِلَافِ مَا هَاهُنَا واللَّه أَعْلَمُ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَلْدِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُرْجَمُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ، وَثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ أَنَّ عَلَى الْإِمَاءِ نِصْفَ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، فَلَا جَرَمَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً، أَمَّا الْعَبْدُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ أَيْضًا خَمْسِينَ إِلَّا أَهْلَ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا عُمُومُ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمِائَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إِلَّا أَنَّهُ وَرَدَ النَّصُّ بِالتَّنْصِيفِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ، فَلَوْ قِسْنَا الْعَبْدَ عَلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَمَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جَلْدَةً وَإِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَعَلَيْهَا الْمِائَةُ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وذكروا أن قوله: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ تَزَوَّجْنَّ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: ٢٥].
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّه، الذِّمِّيُّ يُجْلَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه لَا يُجْلَدُ لَنَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: عُمُومُ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا زَنَتْ/ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا»
وَقَوْلُهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ، فَذَاكَ الرَّجْمُ إِنْ من كَانَ مِنْ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرْعِهِمْ فَلَمَّا فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ ذَلِكَ مِنْ شَرْعِهِ، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ المسألة تَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِيمَا يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الزِّنَا مِنْهُ، اعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، إِمَّا بِأَنْ يَرَاهُ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَنْ يُقِرَّ أَوْ بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، أَمَّا الوجه الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا إِذَا رَآهُ الْإِمَامُ قَالَ الْإِمَامُ محيي
311
السُّنَّةِ فِي كِتَابِ التَّهْذِيبِ لَا خِلَافَ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الْقَضَاءِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ حَقًّا وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ وَقْتَ كَذَا، وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوِ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَقَدْ سَمِعَهُ الْقَاضِي طَلَّقَهَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ شُهُودًا، وَهَلْ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ مِثْلَ أَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي أَقْرَضَهُ أو سمع المدعي عليه أقربه فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمُزَنِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّه، أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى ظَنٍّ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ وَهُوَ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ أَوْلَى، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ أَقْضِي بِعِلْمِي وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدَيْنِ وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَوْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ شَرْطٌ فِي الْقَضَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي الْمَالِ، أَمَّا فِي الْعُقُوبَاتِ فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ هَلْ يَحْكُمُ فِيهِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ يُرَتَّبُ عَلَى المال إن قلنا هناك لا يقضي فههنا أَوْلَى وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَبْنَى حُقُوقِ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي فِي بَلَدِ وِلَايَتِهِ وَزَمَانِ وِلَايَتِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِنْ حَصَلَ له العلم في بلد وِلَايَتِهِ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ وَإِلَّا فَلَا، فَنَقُولُ الْعِلْمُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِهَا واللَّه أَعْلَمُ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: الْإِقْرَارُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً يُوجِبُ الْحَدَّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ، وَقَالَ أَحْمَدُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ:
قِصَّةُ الْعَسِيفِ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنِ اعترفت فارجمها،
وذلك دليل عل أَنَّ الِاعْتِرَافَ مَرَّةً وَاحِدَةً كَافٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْضِ بِالظَّاهِرِ،
وَالْإِقْرَارُ مَرَّةً وَاحِدَةً يُوجِبُ الظُّهُورَ لَا سِيَّمَا هَاهُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّارِفَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا قَوِيٌّ، لِمَا أَنَّهُ سَبَبُ الْعَارِ فِي الْحَالِ وَالْأَلَمِ الشَّدِيدِ فِي الْمَآلِ، وَالصَّارِفُ عَنِ الْكَذِبِ أَيْضًا/ قَائِمٌ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الصَّارِفَيْنِ يَقْوَى الِانْصِرَافُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ صَادِقًا. وَإِذَا ظَهَرَ انْدَرَجَ تَحْتَ الْحَدِيثِ وَتَحْتَ الْآيَةِ، أَوْ نَقِيسُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قِصَّةُ مَاعِزٍ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ إِقَامَةِ حَدِّ اللَّه تَعَالَى بَعْدَ كَمَالِ الحجة لَا يَجُوزُ الثَّانِي:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّكَ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ»
وَلَوْ كَانَ الْوَاحِدُ مِثْلَ الْأَرْبَعِ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَغْوًا وَالثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أنه قال لماعز بعد ما أَقَرَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: «لَوْ أَقْرَرْتَ الرَّابِعَةَ لَرَجَمَكَ رَسُولُ اللَّه» وَالرَّابِعُ: عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: «كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقُولُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ مَاعِزٌ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مَا رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ قَاسُوا الْإِقْرَارَ عَلَى الشَّهَادَةِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا إِلَّا أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ فَكَذَا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ وَالْجَامِعُ السَّعْيُ فِي كِتْمَانِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الزِّنَا لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِأَرْبَعِ شَهَادَاتٍ أَوْ بِأَرْبَعِ أَيْمَانٍ فِي اللِّعَانِ فَجَازَ أَيْضًا أَنْ لَا يَثْبُتَ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبِهِ يُفَارِقُ سَائِرَ الْحُقُوقِ فَإِنَّهَا تَنْتَفِي بِيَمِينٍ وَاحِدٍ، فَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَثْبُتَ بِإِقْرَارٍ وَاحِدٍ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
312
حَكَمَ بِالشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي جَوَازَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ الْوَاحِدَةِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا مَرَّةً لَسَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، وَلَوْلَا أَنَّ الزِّنَا ثَبَتَ لَمَا سَقَطَ كَمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالزِّنَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الزِّنَا واللَّه أَعْلَمُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: الشَّهَادَةُ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ شَهَادَاتٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ١٥] وَالْكَلَامُ فِيهِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّورِ: ٤].
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا مَنْ هُوَ؟ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ هُوَ الْإِمَامُ، ثُمَّ احْتَجُّوا بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ نَصْبِ الْإِمَامِ، قَالُوا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى إِقَامَتَهُ إِلَّا الْإِمَامُ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ إِلَّا بِهِ، وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَكَانَ نَصْبُ الْإِمَامِ وَاجِبًا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: ٣٨] بَقِيَ هَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه السَّيِّدُ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَفَاطِمَةَ وَعَائِشَةَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّه لَا يَمْلِكُ، وَقَالَ مَالِكٌ يَحُدُّهُ المولى من الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ وَلَا يَقْطَعُهُ فِي السَّرِقَةِ وَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ/ فَلْيَجْلِدْهَا»
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ»
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ
قَوْلَهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
هُوَ كَقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ رَفْعُهُ إِلَى الْإِمَامِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ هُمُ الْأَئِمَّةُ، وَسَائِرُ النَّاسِ مُخَاطَبُونَ بِرَفْعِ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ فَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا
قَوْلُهُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا»
فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَلْدٍ حَدًّا، لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ، فَإِذَا عَزَّرْنَا فَقَدْ وَفَّيْنَا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ
قَوْلَهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ»
أَمْرٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى رَفْعِ الْوَاقِعَةِ إِلَى الْإِمَامِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تُرِكَ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ فَاجْلِدُوا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الظَّاهِرِ هُنَاكَ تَرْكُهُ هَاهُنَا، أَمَّا
قَوْلُهُ: «فَلْيَجْلِدْهَا»
الْمُرَادُ هُوَ التَّعْزِيرُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْجَلْدَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الزِّنَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلا الحدو ثانيها: أَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا مَلَكَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَسَيِّدُهُ بِهِ أَوْلَى لِأَنَّ تَعَلُّقَ السَّيِّدِ بِالْعَبْدِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ السُّلْطَانِ بِهِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى مَنْ عَقْدِ الْبَيْعَةِ، وَوِلَايَةُ السَّادَةِ عَلَى الْعَبِيدِ فَوْقَ وِلَايَةِ السُّلْطَانِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ لِلْأَمَةِ سَيِّدٌ وَأَبٌ فَإِنَّ وِلَايَةَ النكاح للسيد دون الأب، ثم إن الْأَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ مُقَدَّمًا عَلَى السُّلْطَانِ بِدَرَجَاتٍ فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى أَوْلَى وَثَالِثُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ التَّعْزِيرَ فَكَذَا الْحَدُّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ نَظِيرُ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّرًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْأَئِمَّةِ دُونَ عَامَّةِ النَّاسِ، فَالتَّقْدِيرُ فَاجْلِدُوا أَيُّهَا الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ كُلَّ وَاحِدٍ
313
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْمَحْدُودِينَ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَئِمَّةُ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ دُونَ الْمَوَالِي وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَى عَبْدِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيَقْطَعَهُ، فَلَوْ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَضْمِينِ الشُّهُودِ، لِأَنَّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِالشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا فَكَانَ يَصِيرُ حَاكِمَا لِنَفْسِهِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ اسْتِمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ وَلَا قَطْعَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَالِكَ رُبَّمَا لَا يَسْتَوْفِي الْحَدَّ بِكَمَالِهِ لِشَفَقَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِذَا كَانَ مُتَّهَمًا وَجَبَ أَنْ لَا يُفَوَّضَ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ فَاجْلِدُوا لَيْسَ بِصَرِيحِهِ خِطَابًا مَعَ الْإِمَامِ، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْإِمَامِ لَا يَتَوَلَّاهُ حَمَلْنَا ذَلِكَ الْخِطَابَ عَلَى الْإِمَامِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّاهُ لِأَنَّهُ عَيْنُ النِّزَاعِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي كِتَابِ «التَّهْذِيبِ» هَلْ يَجُوزُ لِلْمَوْلَى قَطْعُ يَدِ عَبْدِهِ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ لِمَا رُوِيَ/ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَطَعَ عَبْدًا لَهُ سَرَقَ وَكَمَا يَجْلِدُهُ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالثَّانِي: لَا بَلِ الْقَطْعُ إِلَى الْإِمَامِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ جِنْسَ الْجَلْدِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ وَلَا يَمْلِكُ جِنْسَ الْقَطْعِ، ثُمَّ قَالَ وَكُلُّ حَدٍّ يُقِيمُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ إِنَّمَا يُقِيمُهُ إِذَا ثَبَتَ بِاعْتِرَافِ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَهَلْ يَسْمَعُ الْمَوْلَى الشَّهَادَةَ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْمَعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْإِقَامَةَ بِالِاعْتِرَافِ فَيَمْلِكُ بِالْبَيِّنَةِ كَالْإِمَامِ وَالثَّانِي: لَا يَسْمَعُ بَلْ ذَاكَ إِلَى الْحُكَّامِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالتَّعْزِيرِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: إِذَا فُقِدَ الْإِمَامُ فَلَيْسَ لِآحَادِ النَّاسِ إِقَامَةُ هَذِهِ الْحُدُودِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُعَيِّنُوا وَاحِدًا مِنَ الصَّالِحِينَ لِيَقُومَ بِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْخَارِجِيُّ الْمُتَغَلِّبُ هَلْ لَهُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لأن إقامة الحد من جهة من لم يَلْزَمُنَا أَنْ نُزِيلَ وِلَايَتَهُ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ نُفَوِّضَ ذَلِكَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ.
الْبَحْثُ السَّادِسُ: فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الْحَدِّ، أَمَّا الْجَلْدُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْجَلْدُ، وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَلْدِ الشَّدِيدِ، وَالْجَلْدِ الْخَفِيفِ، وَالْجَلْدِ عَلَى كُلِّ الْأَعْضَاءِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُيُودِ، بَلْ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْآتِي بِالْجَلْدِ كَيْفَ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْعُهْدَةِ، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَفِي لَفْظِ الْجَلْدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ الْأَلَمُ إِلَى اللَّحْمِ، وَلِأَنَّ الْجَلْدَ ضَرْبُ الْجِلْدِ، يُقَالُ جَلَدَهُ كَقَوْلِكَ ظَهَرَهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبَطَنَهُ وَرَأَسَهُ، إِلَّا أَنَّا لَمَّا عَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالزَّجْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَلْدِ الْخَفِيفِ لَا جَرَمَ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ الْجَلْدِ عَلَى سَبِيلِ القياس ثم هنا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْمُحْصَنُ يُجْلَدُ مَعَ ثِيَابِهِ وَلَا يُجَرَّدُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِلُ الْأَلَمُ إِلَيْهِ، وَيُنْزَعُ مِنْ ثِيَابِهِ الْحَشْوُ والفرو. روي أن أبا عبيدة بن الجراح أُتِيَ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ قميصه، وقال ما ينبغي لجسدي هَذَا الْمُذْنِبِ أَنْ يُضْرَبَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا تَدَعُوهُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ فَضَرَبَهُ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَجْرِيدُهَا، بَلْ يُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ، وَيَلِي ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: لَا يُمَدُّ وَلَا يُرْبَطُ بَلْ يُتْرَكُ حَتَّى يَتَّقِيَ بِيَدَيْهِ، وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً. قَالَ أَبُو
314
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه: ضَرَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَرْأَةَ الْقَاذِفَةَ قَائِمَةً فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
المسألة الثَّالِثَةُ: يُضْرَبُ بِسَوْطٍ وَسَطٍ لَا جَدِيدٍ يَجْرَحُ وَلَا خَلِقٍ لَمْ يُؤْلِمْ، وَيُضْرَبُ ضَرْبًا بَيْنَ ضَرْبَيْنِ لَا شَدِيدٍ وَلَا وَاهٍ. رَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ قَالَ أُتِيَ عُمَرُ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ ثُمَّ جِيءَ بِسَوْطٍ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ أُرِيدُ أَلْيَنَ مِنْ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ فِيهِ لِينٌ، فَقَالَ أُرِيدُ أَشَدَّ مِنْ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ فَرَضِيَ بِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: تُفَرَّقُ السِّيَاطُ عَلَى أَعْضَائِهِ وَلَا يُجَمِّعُهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى/ أَنَّهُ يَتَّقِي الْمَهَالِكَ كَالوجه وَالْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَيَضْرِبُ عَلَى الرَّأْسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَضْرِبُ عَلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَى حُجَّةِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَضْرِبُ عَلَى الرَّأْسِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِيهِ.
وعن عمر أنه ضرب صبيغ ابن عُسَيْلٍ عَلَى رَأْسِهِ حِينَ سَأَلَ عَنِ الذَّارِيَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ عَلَى الوجه فَكَذَا الرَّأْسُ وَالْجَامِعُ الْحُكْمُ وَالْمَعْنَى. أَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الرَّأْسَ بِتَأْثِيرِ الضَّرْبِ كَالَّذِي يَلْحَقُ الْوَجْهَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوضِحَةَ وَسَائِرَ الشِّجَاجِ حُكْمُهَا فِي الرَّأْسِ وَالوجه وَاحِدٌ، وَفَارَقَا سَائِرَ الْبَدَنِ، لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيمَا سِوَى الرَّأْسِ وَالوجه إِنَّمَا يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ وَلَا يجب فيها أرش الموضحة والواقعة فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَوَجَبَ اسْتِوَاءُ الرَّأْسِ وَالوجه فِي وُجُوبِ صَوْنِهِمَا عَنِ الضَّرْبِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْ ضَرْبِ الوجه لِمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْبَصَرِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الرَّأْسِ، لِأَنَّ ضَرْبَ الرَّأْسِ يُظْلِمُ مِنْهُ الْبَصَرُ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ الْمَاءُ فِي الْعَيْنِ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الوجه وَالرَّأْسِ ثَابِتٌ، لِأَنَّ الضَّرْبَةَ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى الْوَجْهِ، فَعَظْمُ الْجَبْهَةِ رَقِيقٌ فَرُبَّمَا انْكَسَرَ بِخِلَافِ عَظْمِ الْقَفَا، فَإِنَّهُ فِي نِهَايَةِ الصَّلَابَةِ، وَأَيْضًا فَالْعَيْنُ فِي نِهَايَةِ اللَّطَافَةِ، فَالضَّرْبُ عَلَيْهَا يُورِثُ الْعَمَى، وَأَيْضًا فَالضَّرْبُ عَلَى الوجه يَكْسِرُ الْأَنْفَ لِأَنَّهُ مِنْ غُضْرُوفٍ لَطِيفٍ، وَيَكْسِرُ الْأَسْنَانَ لِأَنَّهَا عِظَامٌ لَطِيفَةٌ، وَيَقَعُ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَهُمَا لَحَمَانِ قَرِيبَانِ مِنَ الدِّمَاغِ، وَالضَّرْبَةُ عَلَيْهِمَا فِي نِهَايَةِ الْخَطَرِ لِسُرْعَةِ وُصُولِ ذَلِكَ الْأَثَرِ إِلَى جِرْمِ الدِّمَاغِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي الضَّرْبِ عَلَى الرَّأْسِ.
المسألة الْخَامِسَةُ: لَوْ فَرَّقَ سِيَاطَ الْحَدِّ تَفْرِيقًا لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّنْكِيلُ، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَ كُلَّ يَوْمٍ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ لَا يُحْسَبُ، وَإِنْ ضَرَبَ كُلَّ يَوْمٍ عِشْرِينَ أَوْ أَكْثَرَ يُحْسَبُ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُفَرِّقَ.
المسألة السَّادِسَةُ: إِنْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْحُبْلَى لَا يُقَامُ حَتَّى تَضَعَ،
رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: أن المرأة مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّه أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللَّه وَلَيَّهَا فَقَالَ أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُشَدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا،
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْدِيبُ دُونَ الْإِتْلَافِ.
المسألة السَّابِعَةُ: إِنْ وَجَبَ الْجَلْدُ عَلَى الْمَرِيضِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يُرْجَى زَوَالُهُ مِنْ صُدَاعٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ وِلَادَةٍ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَبْرَأَ، كَمَا لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ قَطْعٌ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ آخَرُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، كَالسُّلِّ وَالزَّمَانَةِ فَلَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُضْرَبُ بِالسِّيَاطِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مَوْتَهُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ سَوَاءٌ كَانَ زِنَاهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ فِي حَالِ الْمَرَضِ، بَلْ يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مائة شمراخ فيقول ذَلِكَ مَقَامَ مِائَةِ جَلْدَةٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: ٤٤] وَعِنْدَ/ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يُضْرَبُ بِالسِّيَاطِ، دَلِيلُنَا مَا
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مُقْعَدًا أَصَابَ امرأة فأمر
315
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَضَرَبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً،
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فَالْحَدُّ أَوْلَى بِذَلِكَ.
المسألة الثَّامِنَةُ: يُقَامُ الْحَدُّ فِي وَقْتِ اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ نُظِرَ إِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا يُقَامُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَتْلُهُ، وَقِيلَ إِنْ كَانَ الرَّجْمُ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَيُؤَخَّرُ إِلَى اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَزَوَالِ الْمَرَضِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُهُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ فِي خِلَالِ الرَّجْمِ وَقَدْ أَثَّرَ الرَّجْمُ فِي جِسْمِهِ فَتُعِينُ شِدَّةُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ عَلَى إِهْلَاكِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا لَمْ يَجُزْ إِقَامَتُهُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ كَمَا لَا يُقَامُ فِي الْمَرَضِ. أَمَّا الرَّجْمُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْضُرَ رَجْمَهُ وَأَنْ لَا يَحْضُرَ، وَكَذَا الشُّهُودُ لَا يَلْزَمُهُمُ الْحُضُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ ثَبَتَ الزِّنَا بِالْبَيِّنَةِ وجب على الشهود أن يبدءوا بِالرَّجْمِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَلَمْ يَحْضُرْ رَجْمَهُمَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: إِنْ ثَبَتَ الزِّنَا بِإِقْرَارِهِ فَمَتَى رَجَعَ تُرِكَ، وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّه رِوَايَتَانِ.
حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ:
أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا مَسَّتْهُ الْحِجَارَةُ وَهَرَبَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ».
المسألة الثَّالِثَةُ: يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ إِلَى صَدْرِهَا حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ ويرمى إِلَيْهَا، وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ، لِمَا
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي أَصَبْتُ فَاحِشَةً فَأَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِرَارًا، ثُمَّ سَأَلَ قَوْمَهُ، فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا فَأَمَرَنَا أَنْ نَرْجُمَهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلَا حَفَرْنَا لَهُ، قَالَ فَرَمَيْنَاهُ بِالْعِظَامِ وَالْمَدَرِ وَالْخَزَفِ، قَالَ فَاشْتَدَّ وَاشْتَدَدْنَا خَلْفَهُ حَتَّى أَتَى عُرْضَ الْحَرَّةِ وَانْتَصَبَ لَنَا فَرَمَيْنَاهُ بِجَلَامِيدِ الْحَرَّةِ حَتَّى سَكَنَ»
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ
أَنَّهُ قَالَ: «فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلَا حَفَرْنَا لَهُ»
وَلِأَنَّهُ هَرَبَ، وَلَوْ كَانَ فِي حُفْرَةٍ لَمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ.
المسألة الرَّابِعَةُ: إِذَا مَاتَ فِي الْحَدِّ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
أَمَّا الْمَبَاحِثُ الْعَقْلِيَّةُ: فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْبَدَنَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ كَثِيرَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِكُلِّ جُزْءٍ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يَقُومَ بِكُلِّ الْأَجْزَاءِ حَيَاةٌ وَاحِدَةٌ وَعِلْمٌ وَاحِدٌ وَقُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالثَّانِي مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْعَرَضِ الْوَاحِدِ بِالْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ فَتَعَيَّنَ/ الْأَوَّلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ حَيًّا عَلَى حِدَةٍ وَعَالِمًا عَلَى حِدَةٍ وَقَادِرًا عَلَى حِدَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الزَّانِي هُوَ الْفَرْجُ لَا الظَّهْرُ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ الْحَكِيمِ أَنْ يَأْمُرَ بِجَلْدِ الظَّهْرِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ حَالَ إِقْدَامِهِ عَلَى الزِّنَا عَجِيفًا نَحِيفًا ثُمَّ يَسْمَنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ إِيلَامُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الزَّائِدَةِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ بَرِيئَةً عَنْ فِعْلِ الزِّنَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ فَاعِلًا عَلَى حِدَةٍ وَحَيًّا عَلَى حِدَةٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ، بَلِ الْحَيَاةُ
316
وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ تَقُومُ بِالْجُزْءِ الْوَاحِدِ ثُمَّ تُوجِبُ حُكْمَ الْحَيِيَّةِ وَالْعَالِمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ لِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ حَيًّا وَاحِدًا عَالِمًا وَاحِدًا قَادِرًا وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الَّذِي هُوَ الْفَاعِلُ وَالْمُحَرِّكُ وَالْمُدْرِكُ شَيْءٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ. وَإِنَّمَا هُوَ مُدَبِّرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا يَزُولُ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا قَامَ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ بِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ عَالِمِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِالْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ يَقُومَ بِكُلِّ جُزْءٍ عَالِمِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَعُودَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِلْقَبِيحِ هُوَ ذَلِكَ الْمُبَايِنُ فَلِمَ يُضْرَبُ هَذَا الْجَسَدُ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ شَرْعَ الْحَدِّ يُفِيدُ الزَّجْرَ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: الرَّأْفَةُ الرِّقَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَقُرِئَ رَأَفَةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَآفَةٌ عَلَى فَعَالَةٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ لَا تَأْخُذَكُمْ رَأْفَةٌ بِأَنْ يُعَطَّلَ الْحَدُّ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى لَا تُعَطِّلُوا حُدُودَ اللَّه وَلَا تَتْرُكُوا إِقَامَتَهَا لِلشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَأْخُذَكُمْ رَأْفَةٌ بِأَنْ يُخَفَّفَ الْجَلْدُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَيُحْتَمَلُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ الْأَمْرُ بِنَفْسِ الْجَلْدِ، وَلَمْ يُذْكَرْ صِفَتُهُ، فَمَا يَعْقُبُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَيْهِ وَكَفَى بِرَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ حَيْثُ
قَالَ: «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»
وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ فِي دِينِ اللَّه عَلَى أَنَّ الدِّينَ إِذَا أَوْجَبَ أَمْرًا لَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْفَةِ فِي خِلَافِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهُوَ من باب التهييج والنهاب الْغَضَبِ للَّه تَعَالَى وَلِدِينِهِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَتْرُكُوا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْإِيمَانِ بِخِلَافِ مَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّأْفَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَكَمَ الْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا تُقَامَ تِلْكَ الْحُدُودُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُنْكِرًا لِلدِّينِ فَيَخْرُجُ عَنِ الْإِيمَانِ
فِي الْحَدِيثِ «يُؤْتَى بِوَالٍ نَقَصَ مِنَ الْحَدِّ سَوْطًا، فَيُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَاكَ؟ / فَيَقُولُ رَحْمَةً لِعِبَادِكَ، فَيُقَالُ لَهُ أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنِّي! فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَيُؤْتَى بِمَنْ زَادَ سَوْطًا فَيُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ لِيَنْتَهُوا عَنْ مَعَاصِيكَ، فَيَقُولُ أَنْتَ أَحْكَمُ بِهِ مِنِّي! فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ أَمْرٌ وَظَاهِرُهُ لِلْوُجُوبِ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا يُسْتَحَبُّ حُضُورُ الْجَمْعِ وَالْمَقْصُودُ إِعْلَانُ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الرَّدْعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ التُّهْمَةِ عَمَّنْ يَجْلِدُ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ الشُّهُودَ لِأَنَّهُ يَجِبُ حُضُورُهُمْ لِيُعْلَمَ بَقَاؤُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ الطَّائِفَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ.
وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الْحُجُرَاتِ: ٩] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ اثْنَانِ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التَّوْبَةِ: ١٢٢] وَكُلُّ ثَلَاثَةٍ
317
فِرْقَةٌ وَالْخَارِجُ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ، وَالِاحْتِيَاطُ يُوجِبُ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، قَالُوا الطَّائِفَةُ هِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُكَوِّنَ حَلَقَةً، كَأَنَّهَا الْجَمَاعَةُ الْحَافَّةُ حَوْلَ الشَّيْءِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَقَلُّ مَا لَا بُدَّ فِي حُصُولِهَا هُوَ الثَّلَاثَةُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ أَرْبَعَةٌ بِعَدَدِ شُهُودِ الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، لِأَنَّ الْعَشَرَةَ هِيَ الْعَدَدُ الْكَامِلُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: تَسْمِيَتُهُ عَذَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى عَذَابًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُعَاوَدَةَ كَمَا سُمِّيَ نَكَالًا لِذَلِكَ، وَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا بِهَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ عَظُمَ مَوْقِعُ حُضُورِهِمْ فِي الزَّجْرِ وَعَظُمَ مَوْقِعُ إِخْبَارِهِمْ عَمَّا شَاهَدُوا فَيَخَافُ الْمَجْلُودُ مِنْ حُضُورِهِمُ الشُّهْرَةَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى فِي الِانْزِجَارِ. واللَّه أعلم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣]
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
الحكم الثاني
قُرِئَ لَا يَنْكِحْ بِالْجَزْمِ عَنِ النَّهْيِ، وَقُرِئَ وَحَرَّمَ بِفَتْحِ الْحَاءِ ثُمَّ إِنَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٍ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ظَاهِرُهُ خَبَرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ هَذَا الظَّاهِرُ، لِأَنَّا نَرَى أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَنْكِحُ الْمُؤْمِنَةَ الْعَفِيفَةَ وَالزَّانِيَةَ قَدْ يَنْكِحُهَا الْمُؤْمِنُ الْعَفِيفُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَحِلُّ لَهُ/ التَّزَوُّجُ بِالْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ وَالْجَوَابُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ لِأَجْلِ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَحْسَنُهَا، مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَعَمُّ الْأَغْلَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاسِقَ الْخَبِيثَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الزِّنَا وَالْفِسْقُ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِ الصَّوَالِحِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِي فَاسِقَةٍ خَبِيثَةٍ مِثْلِهِ أَوْ فِي مُشْرِكَةٍ، وَالْفَاسِقَةُ الْخَبِيثَةُ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا الصُّلَحَاءُ مِنَ الرِّجَالِ وَيَنْفِرُونَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهَا مِنَ الْفَسَقَةِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ كَمَا يُقَالُ لَا يَفْعَلُ الْخَيْرَ إِلَّا الرَّجُلُ التَّقِيُّ، وَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ الْخَيْرِ مَنْ لَيْسَ بِتَقِيٍّ فَكَذَا هَاهُنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِكَاحَ الْمُؤْمِنِ الْمَمْدُوحِ عِنْدَ اللَّه الزَّانِيَةَ وَرَغْبَتَهُ فِيهَا، وَانْخِرَاطَهُ بِذَلِكَ فِي سِلْكِ الْفَسَقَةِ الْمُتَّسِمِينَ بِالزِّنَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْفُسَّاقِ وَحُضُورِ مَوَاضِعِ التُّهْمَةِ، وَالتَّسَبُّبِ لِسُوءِ الْمَقَالَةِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ. وَمُجَالَسَةُ الْخَاطِئِينَ كَمْ فِيهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِاقْتِرَافِ الْآثَامِ، فَكَيْفَ بِمُزَاوَجَةِ الزَّوَانِي وَالْفُجَّارِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ صَرْفَ الرَّغْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الزَّوَانِي وَتَرْكَ الرَّغْبَةِ فِي الصَّالِحَاتِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَرْغَبُ إِلَّا فِي الزَّانِيَةِ فَهَذَا الْحَصْرُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ هَذَا الْحَصْرِ حُرْمَةُ التَّزَوُّجِ بِالزَّانِيَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: الوجه الثَّانِي: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي وَفِي قَوْلِهِ: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ لِلْعُمُومِ ظَاهِرًا لَكِنَّهُ هَاهُنَا مَخْصُوصٌ بِالْأَقْوَامِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ،
قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَقَتَادَةُ، قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ وَفِيهِمْ فُقَرَاءُ لَيْسَ لَهُمْ أَمْوَالٌ وَلَا عَشَائِرُ، وَبِالْمَدِينَةِ نِسَاءٌ بَغَايَا يَكْرِينَ أَنْفُسَهُنَّ
318
وَهُنَّ يَوْمَئِذٍ أَخْصَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَامَةٌ عَلَى بَابِهَا كَعَلَامَةِ الْبَيْطَارِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فَرَغِبَ فِي كَسْبِهِنَّ نَاسٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا نَتَزَوَّجُ بِهِنَّ إِلَى أَنْ يُغْنِيَنَا اللَّه عَنْهُنَّ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أُولَئِكَ الزَّوَانِي لَا يَنْكِحُونَ إِلَّا تِلْكَ الزَّانِيَاتِ، وَتِلْكَ الزَّانِيَاتُ لَا يَنْكِحُهُنَّ إِلَّا أُولَئِكَ الزَّوَانِي وَحُرِّمَ نِكَاحُهُنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ قَوْلَهُ:
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ زَانِيًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْكِحَ إِلَّا زَانِيَةً وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَهَكَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا الوجه ذَكَرُوا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ بَاقٍ إِلَى الْآنِ حَتَّى يُحَرَّمَ عَلَى الزَّانِي والزاني وَالزَّانِيَةِ التَّزَوُّجُ بِالْعَفِيفَةِ وَالْعَفِيفِ وَبِالْعَكْسِ وَيُقَالُ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ. فَيَقُولُ كَمَا لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالزَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ إِذَا زَنَتْ تَحْتَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمْ من يفصل لأن في جملة من يَمْنَعُ مِنَ التَّزْوِيجِ مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ دَوَامِ النِّكَاحِ كَالْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخًا وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهِ، فَعَنِ الْجُبَّائِيِّ أَنَّ نَاسِخَهُ هُوَ الْإِجْمَاعُ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: ٣٢] قَالَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ الْحَاصِلُ عَقِيبَ الْخِلَافِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَالْإِجْمَاعُ فِي هَذِهِ المسألة مَسْبُوقٌ بِمُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ فَكَيْفَ يَصِحُّ؟
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ فَهُوَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنَ النِّكَاحِ مِنْ سَبَبٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، كَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَزْوِيجُهَا مِنَ الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ، وَنَقُولُ إِنَّ لِلزِّنَا تَأْثِيرًا فِي الْفُرْقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا يُتْبِعُهَا بِالْفُرْقَةِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَا يَجِبُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلِأَنَّ مِنْ حَقِّ الزِّنَا أَنْ يُورِثَ الْعَارَ وَيُؤَثِّرَ فِي الْفِرَاشِ فَفَارَقَ غَيْرَهُ. ثُمَّ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ هَذَا النَّسْخَ، بِأَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؟ فَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشَبَّهَهُ بِمَنْ سَرَقَ ثَمَرَ شَجَرَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وَآخِرُهُ نِكَاحٌ»
وَالْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. الوجه الرَّابِعُ: أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ عَلَى الْوَطْءِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ حِينَ يَزْنِي إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَكَذَا الزَّانِيَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي وحرم الزنا على المؤمنين على وهذا تَأْوِيلُ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ هَذَا التَّأْوِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا وَرَدَ النِّكَاحُ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ، وَلَمْ يَرِدِ الْبَتَّةَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا الزَّانِيَةَ فَالْإِشْكَالُ عَائِدٌ، لِأَنَّا نَرَى أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَطَأُ الْعَفِيفَةَ حِينَ يَتَزَوَّجُ بِهَا وَلَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا الزَّانِيَةَ حِينَ يَكُونُ وَطْؤُهُ زِنًا فَهَذَا الْكَلَامُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ في الْمَقَامِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ؟ وَالْجَوَابُ: الْكَلَامُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَرْغَبُ إِلَّا فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَرْغَبَ فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ غَيْرُ الزَّانِي فَلَا جَرَمَ بَيْنَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي.
319
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قُدِّمَتِ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهَاهُنَا بِالْعَكْسِ الْجَوَابُ: سَبَقَتْ تِلْكَ الْآيَةُ لِعُقُوبَتِهَا عَلَى جِنَايَتِهَا، وَالْمَرْأَةُ هِيَ الْمَادَّةُ فِي الزِّنَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِذِكْرِ النِّكَاحِ وَالرَّجُلُ أَصْلٌ فِيهِ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّاغِبُ والطالب.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
الحكم الثالث القذف
[في قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ] اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ رَمَوُا الْمُحْصَنَاتِ وَذِكْرُ الرَّمْيِ لَا يَدُلُّ عَلَى الزِّنَا، إِذْ قَدْ يَرْمِيهَا بِسَرِقَةٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ وَكُفْرٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَدُهَا: تَقَدُّمُ ذِكْرِ الزِّنَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ الْعَفَائِفُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ رميهن بضد العفاف وثانيها: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يَعْنِي عَلَى صِحَّةِ مَا رَمَوْهُنَّ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ مِنَ الشُّهُودِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ إِلَّا في الزنا ورابعها: انعقاد الإجماع أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَلْدُ بِالرَّمْيِ بِغَيْرِ الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّمْيِ وَالرَّامِي وَالْمَرْمِيِّ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي الرَّمْيِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: أَلْفَاظُ الْقَذْفِ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَتَعْرِيضٍ، فَالصَّرِيحُ أَنْ يَقُولَ يَا زَانِيَةُ أَوْ زَنَيْتِ أَوْ زَنَى قُبُلُكِ أَوْ دُبُرُكِ، وَلَوْ قَالَ زَنَى بَدَنُكِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ كَقَوْلِهِ: زَنَى يَدُكِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الزِّنَا مِنَ الْفَرْجِ فَلَا يَكُونُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ إِلَّا الْمَعُونَةُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ صَرِيحٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ. وَالْفَرْجُ آلَةٌ فِي الْفِعْلِ. أَمَّا الْكِنَايَاتُ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ يَا فَاسِقَةُ، يَا فَاجِرَةُ، يَا خَبِيثَةُ، يَا مُؤَاجَرَةُ، يَا ابْنَةَ الْحَرَامِ، أَوِ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يد لامس، والعكس فَهَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ، فَهَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ فَهُوَ قَذْفٌ لِأُمِّ الْمَقُولِ لَهُ وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ قَالَ عَنَيْتُ بِهِ نَبَطِيَّ الدَّارِ وَاللِّسَانِ، وَادَّعَتْ أُمُّ الْمَقُولِ لَهُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَذْفَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. أَمَّا التَّعْرِيضُ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ أَرَادَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلَالِ، أَمَّا أَنَا فَمَا زَنَيْتُ وَلَيْسَتْ أُمِّي زَانِيَةً، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ رَحِمَهُمُ اللَّه. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ الْحَدُّ فيه، وقال أحمد وإسحاق: هُوَ قَذْفٌ فِي حَالِ الْغَضَبِ دُونَ حَالِ الرِّضَا، لَنَا، أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ مُحْتَمَلٌ لِلْقَذْفِ وَلِغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ بِالشَّكِّ، وأيضا
فلقوله عليه السلام: «ادرءوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»
وَلِأَنَّ الْحُدُودَ شُرِّعَتْ عَلَى خِلَافِ النص النافي للضرر. الإيذاء الْحَاصِلُ بِالتَّصْرِيحِ فَوْقَ الْحَاصِلِ بِالتَّعْرِيضِ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِمَا رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
320
قَالَ: كَانَ عُمَرُ/ يَضْرِبُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: واللَّه مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي مُشَاوَرَةِ عُمَرَ الصَّحَابَةَ فِي حُكْمِ التَّعْرِيضِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا رَأْيًا وَاجْتِهَادًا.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَعَدُّدِ الْقَذْفِ اعْلَمْ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَقْذِفَ شَخْصًا وَاحِدًا مِرَارًا أَوْ يَقْذِفَ جَمَاعَةً، فَإِنْ قَذَفَ وَاحِدًا مِرَارًا نُظِرَ إِنْ كَانَ أَرَادَ بالكل زنية وَاحِدَةً بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتِ بِعَمْرٍو قَالَهُ مِرَارًا لَا يَجِبُ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَلَوْ أَنْشَأَ الثاني بعد ما حُدَّ لِلْأَوَّلِ عُزِّرَ لِلثَّانِي، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزَنَيَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْ قَالَ زَنَيْتِ بِزَيْدٍ، ثم قال زَنَيْتِ بِعَمْرٍو، فَهَلْ يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَدَّدُ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ وَلِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَقَعُ فِيهِ التَّدَاخُلُ كَالدُّيُونِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ يَتَدَاخَلُ فَلَا يَجِبُ فِيهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ كَحُدُودِ الزِّنَا، وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ مِرَارًا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِلِعَانٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ قُلْنَا يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ أَوْ لَا يَتَعَدَّدُ. أَمَّا إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً مَعْدُودِينَ نُظِرَ، إِنْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ.
أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْمِي الْمُحْصَنَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَلْدُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ قَاذِفَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ لَا يُجْلَدُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى قَاذِفِ جَمَاعَةِ الْمُحْصَنَاتِ أَكْثَرَ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ فَقَدْ خَالَفَ الْآيَةَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا، الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»
فَلَمْ يُوجِبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِلَالٍ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا مَعَ قَذْفِهِ لِامْرَأَتِهِ وَلِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ فَأُقِيمَ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَاتِ مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أَنَّ سَائِرَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ إِذَا وُجِدَ مِنْهُ مِرَارًا لَمْ يَجِبْ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَنْ زَنَى مِرَارًا أَوْ شَرِبَ مِرَارًا أَوْ سَرَقَ مِرَارًا فَكَذَا هَاهُنَا، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ دَفْعُ مَزِيدِ الضَّرَرِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَالَّذِينَ صِيغَةُ جَمْعٍ، وَقَوْلَهُ: الْمُحْصَناتِ صِيغَةُ جَمْعِ، وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ يُقَابَلُ الْفَرْدُ بِالْفَرْدِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كُلُّ مَنْ رَمَى مُحْصَنًا وَاحِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ وَجْهُ تَمَسُّكِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه بِالْآيَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ... فَاجْلِدُوهُمْ يَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ الْجَلْدِ عَلَى رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ وَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُنَاسِبًا فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ رَمْيَ الْمُحْصَنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هَذَا الْمُسَمَّى يُوجِبُ الْجَلْدَ إِذَا ثَبَتَ/ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قَذَفَ وَاحِدًا صَارَ ذَلِكَ الْقَذْفُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِذَا قَذَفَ الثَّانِيَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ الثَّانِي مُوجِبًا لِلْحَدِّ أَيْضًا، ثُمَّ مُوجِبُ الْقَذْفِ الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَجَبَ بِالْقَذْفِ الْأَوَّلِ وَإِيجَابُ الْوَاجِبِ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَدَّ بِالْقَذْفِ الثَّانِي حَدًّا ثَانِيًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُورَدَ عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ حُدُودُ الزِّنَا. لَكِنَّا نَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ هُنَاكَ بِهَذَا الدَّلِيلِ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ، وَعِنْدَ ظُهُورِ الْفَارِقِ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ.
321
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى هَذِهِ المسألة لِأَنَّ قَذْفَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَنَا فِي هذه المسألة تفصيل سيأتي إن شاء.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَفَاسِدٌ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْآدَمِيِّ. بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إِلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّ لَا تَتَدَاخَلُ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّهُ حَقُّ اللَّه تَعَالَى. هَذَا كُلُّهُ إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ عَلَى حِدَةٍ. أَمَّا إِذَا قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ أَنْتُمْ زُنَاةٌ أَوْ زَنَيْتُمْ، فَفِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي «الْجَدِيدِ» : يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَتَدَاخَلُ، وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَرَّةً فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ.
وَفِي «الْقَدِيمِ» لَا يَجِبُ لِلْكُلِّ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِمَفْهُومِ الْآيَةِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ يَكُونُ قَذْفًا لِأَبَوَيْهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: فِيمَا يُبِيحُ الْقَذْفَ: الْقَذْفُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَحْظُورٍ وَمُبَاحٍ وَوَاجِبٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ فَلَا يَجِبُ، وَهَلْ يُبَاحُ أَمْ لَا يُنْظَرُ إِنْ رَآهَا بِعَيْنِهِ تَزْنِي أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ عَلَى نَفْسِهَا وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا أَوْ سَمِعَ مِمَّنْ يَثِقُ بِقَوْلِهِ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، لَكِنَّهُ اسْتَفَاضَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا يَزْنِي بِفُلَانَةٍ، وَقَدْ رَآهُ الزَّوْجُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا أَوْ رَآهُ مَعَهَا فِي بَيْتٍ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْقَذْفُ لِتَأَكُّدِ التُّهْمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَسْتُرَ عَلَيْهَا.
لِمَا
رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ لِي امْرَأَةً لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قَالَ طَلِّقْهَا. قَالَ إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ فَأَمْسِكْهَا»
أَمَّا إِذَا سَمِعَهُ مِمَّنْ لا يوثق أَوِ اسْتَفَاضَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَلَكِنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرَهُ مَعَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَذْفُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُهُ مَنْ لَا يَكُونُ ثِقَةً فَيَنْتَشِرُ وَيَدْخُلُ بَيْتَهَا خَوْفًا مِنْ قَاصِدٍ أَوْ لِسَرِقَةٍ أَوْ لِطَلَبِ فُجُورٍ فَتَأْبَى المرأة قال اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النُّورِ: ١١] أَمَّا إِذَا كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، نُظِرَ فَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ أَوْ وَطِئَهَا لَكِنَّهَا أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ أَوْ لِأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِلْحَاقِ نَسَبِ الْغَيْرِ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ نَفْيِ نَسَبِهِ، لِمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّه فِي شَيْءٍ وَلَمْ يُدْخِلْهَا اللَّه جَنَّتَهُ»
فَلَمَّا حَرُمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ كَانَ الرَّجُلُ أَيْضًا كَذَلِكَ، أَمَّا إِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ أَتَتْ به الأكثر من ستة أشهر أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ/ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، أَوِ اسْتَبْرَأَهَا وَأَتَتْ بِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَا يَحِلُّ لَهُ الْقَذْفُ وَالنَّفْيُ وَإِنِ اتَّهَمَهَا بِالزِّنَا،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّه مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ»
فَإِنِ اسْتَبْرَأَهَا وَأَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ يُبَاحُ لَهُ الْقَذْفُ وَالنَّفْيُ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ لِأَنَّهَا قَدْ تَرَى الدَّمَ عَلَى الْحَبَلِ وَإِنْ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ لَا يُشْبِهُهُ بِأَنْ كَانَا أَبْيَضَيْنِ فَأَتَتْ بِهِ أَسْوَدَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُهَا بِالزِّنَا فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، لِمَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ حُمْرٌ، قَالَ فَهَلْ فِيهَا أَوْرَقُ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ فَلَعَلَّ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ»
وَإِنْ كَانَ يَتَّهِمُهَا بِزِنًا أَوْ يَتَّهِمُهَا بِرَجُلٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُشْبِهُهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ نَفْيُهُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا لِأَنَّ الْعِرْقَ يَنْزِعُ وَالثَّانِي: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَدْ تَأَكَّدَتْ بِالشُّبْهَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الرَّامِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: إِذَا قَذَفَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ امْرَأَتَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا وَلَا لِعَانَ، لَا فِي الْحَالِ ولا
322
بَعْدَ الْبُلُوغِ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ»
وَلَكِنْ يُعَزَّرَانِ لِلتَّأْدِيبِ إِنْ كَانَ لَهُمَا تَمْيِيزٌ، فَلَوْ لَمْ تَتَّفِقْ إِقَامَةُ التَّعْزِيرِ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى بَلَغَ، قَالَ الْقَفَّالُ يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ كَانَ لِلزَّجْرِ عَنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ وَقَدْ حَدَثَ زَاجِرٌ أَقْوَى وَهُوَ الْبُلُوغُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ مَعْلُومَةٌ وَقَذَفَ بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِالْكِنَايَةِ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ لِعَانُهُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِنَايَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَصِحُّ قَذْفُ الْأَخْرَسِ وَلَا لِعَانُهُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ مَنْ كَتَبَ أَوْ أَشَارَ إِلَى الْقَذْفِ فَقَدْ رَمَى الْمُحْصَنَةَ وَأَلْحَقَ الْعَارَ بِهَا فَوَجَبَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّا نَقِيسُ قَذْفَهُ وَلِعَانَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْكَامِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قَذَفَ الْعَبْدُ حُرًّا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَعُثْمَانُ الْقِنُّ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً،
رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يُجْلَدُ الْعَبْدُ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ»
وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَكُلُّهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ» وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبْدَ فِي الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ. وَمَدَارُ المسألة عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي إِيجَابِ الثَّمَانِينَ فَمَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدَّ إِلَى أَرْبَعِينَ فَطَرِيقُهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: ٢٥] فَنَصَّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْأَمَةِ فِي الزِّنَا نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ، ثُمَّ قَاسُوا الْعَبْدَ عَلَى الْأَمَةِ فِي تَنْصِيفِ حَدِّ الزِّنَا، ثُمَّ قَاسُوا تَنْصِيفَ حَدِّ قَذْفِ الْعَبْدِ عَلَى تَنْصِيفِ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهِ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهَذَا الْقِيَاسِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى دُخُولِ الْكَافِرِ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا مَانِعَ، فَالْيَهُودِيُّ إِذَا قَذَفَ الْمُسْلِمَ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ واللَّه أَعْلَمُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الْمَرْمِيِّ وَهِيَ الْمُحَصَنَةُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: اسْمُ الْإِحْصَانِ يَقَعُ عَلَى الْمُتَزَوِّجَةِ وَعَلَى الْعَفِيفَةِ وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الْأَنْبِيَاءِ: ٩١] وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَنْعِ الْفَرْجِ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ مَنَعَتْهُ إِلَّا مِنْ زَوْجِهَا، وَغَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ تَمْنَعُهُ كُلَّ أَحَدٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعَفَائِفِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ رَقِيقَةً، إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ خَمْسَةٌ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِفَّةُ مِنَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْإِسْلَامَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ»
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْحَرِيَّةَ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَاقِصُ الدَّرَجَةِ فَلَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ التَّعْيِيرُ بِالزِّنَا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْعِفَّةَ عَنِ الزِّنَا لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِتَكْذِيبِ الْقَاذِفِ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ زَانِيًا فَالْقَاذِفُ صَادِقٌ فِي الْقَذْفِ. وكذلك إذا كان المقذوف وطأ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الزِّنَا كَمَا فِيهِ شُبْهَةُ الْحِلِّ، فَكَمَا أَنَّ إِحْدَى الشُّبْهَتَيْنِ أَسْقَطَتِ الْحَدَّ عَنِ الْوَاطِئِ فَكَذَا الْأُخْرَى تُسْقِطُهُ عَنْ قَاذِفِهِ أَيْضًا، ثُمَّ نَقُولُ مَنْ قَذَفَ كَافِرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا، أَوْ مَنْ قَدْ رَمَى امْرَأَةً، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، حَتَّى لَوْ زَنَى فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَ حَالُهُ وَشَاخَ فِي الصَّلَاحِ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَنَى كَافِرٌ أَوْ رَقِيقٌ ثُمَّ أَسْلَمَ وَعُتِقَ وَصَلُحَ حَالُهُ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَنَى فِي حَالِ صِغَرِهِ أَوْ جُنُونِهِ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ أَفَاقَ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ يُحَدُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ
323
وَالْمَجْنُونِ لَا يَكُونُ زِنًا، وَلَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا فَقَبْلَ أَنْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ زَنَا الْمَقْذُوفُ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ لِأَنَّ صُدُورَ الزِّنَا يُورِثُ رِيبَةً فِي حَالِهِ فِيمَا مَضَى لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى كَرِيمٌ لَا يَهْتِكُ سِتْرَ عَبْدِهِ فِي أَوَّلِ مَا يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ، فَبِظُهُورِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِنْ قَبْلُ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا زَنَى فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَقَالَ واللَّه مَا زَنَيْتُ إِلَّا هَذِهِ، فَقَالَ عُمَرُ كَذَبْتَ إِنَّ اللَّه لَا يَفْضَحُ عَبْدَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: الزِّنَا الطَّارِئُ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنِ الْقَاذِفِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يَقَعُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ جَمْعٌ لِمُؤَنَّثٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ، بَلِ الْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْبَابِ بَيْنَ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: رَمْيُ غَيْرِ الْمُحْصَنَاتِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ بَلْ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مَعْرُوفًا بِمَا قُذِفَ بِهِ فَلَا حَدَّ هُنَاكَ وَلَا تَعْزِيرَ، فَهَذَا مَجْمُوعُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ فِي الْقَاذِفِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ أَحَدُهَا: جَلْدُ ثَمَانِينَ وَثَانِيهَا: بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ وَثَالِثُهَا: الْحُكْمُ بِفِسْقِهِ إِلَى أَنْ يَتُوبَ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا، فَقَالَ قَائِلُونَ قَدْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَزِمَهُ سِمَةُ الْفِسْقِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُحَدَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ إِنَّهُ غَيْرُ مَوْسُومٍ بِسِمَةِ الْفِسْقِ مَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الْحَدُّ. لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لَمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ إِذْ كَانَتْ سِمَةُ الْفِسْقِ مُبْطِلَةً لِشَهَادَةِ مَنْ وُسِمَ بِهَا، ثُمَّ احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَرَتُّبَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَجْمُوعِ الْقَذْفِ وَالْعَجْزِ عَنْ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ عَلَّقْنَا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الْقَذْفِ وَحْدَهُ قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّقًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْآيَةِ، وَأَيْضًا فَوُجُوبُ الْجَلْدِ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَكَلَّمْتِ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَتَتْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَمْ يُوجَدِ الْجَزَاءُ فَكَذَا هَاهُنَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَاذِفَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ بِمُجَرَّدِ قَذْفِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تُرَدَّ شَهَادَتُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ. بَيَانُ الْأَوَّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُجَرَّدَ قَذْفِهِ لَوْ أَوْجَبَ كَوْنَهُ كَاذِبًا لَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَتُهُ عَلَى الزِّنَا إِذْ قَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ بِكَذِبِهِ، وَالْحُكْمُ بِكَذِبِهِ فِي قَذْفِهِ حُكْمٌ بِبُطْلَانِ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ بِصِدْقِهِ فِي كَوْنِ الْمَقْذُوفِ زَانِيًا، وَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ بَيِّنَتِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ بِمُجَرَّدِ قَذْفِهِ الثَّانِي: أَنَّ قَاذِفَ امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا لَا يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ قَذْفِهِ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ إِيجَابُ اللِّعَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَلَمَا أُمِرَ بِأَنْ يَشْهَدَ باللَّه أَنَّهُ لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا مَعَ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِ. وَلَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم بعد ما لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ «اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ»
فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ هُوَ الْكَاذِبُ وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ كَاذِبًا الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تعالى: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النُّورِ: ١٣] فَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَطْ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْقَاذِفَ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ
324
شَهَادَتُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ كَانَ عَدْلًا ثِقَةً وَالصَّادِرُ عَنْهُ غَيْرُ مُعَارَضٍ، وَلَمَّا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى عَلَى عَدَالَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ»
أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحدو رابعها: مَا
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه: «يُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ»
فَأَخْبَرَ أَنَّ بطلان شهادته متعلق بوقوع الجلد به ذلك يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَذْفِ/ لَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّه زَعَمَ أَنَّ شُهُودَ الْقَذْفِ إِذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ قَدْ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ بِقَذْفِهِ وَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكَذِبِهِ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إِذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ مَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَتَّبَ عَلَى الْقَذْفِ مَعَ عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِالشُّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ أُمُورًا ثَلَاثَةً مَعْطُوفًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَحَرْفُ الْوَاوِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْضُهَا مُرَتَّبًا عَلَى الْبَعْضِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ رَدُّ الشَّهَادَةِ مُرَتَّبًا عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ رَدُّ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ أَوْ مَا أُقِيمَ واللَّه أَعْلَمُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ١٥] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: «يَا رَسُولَ اللَّه أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ نَعَمْ»
ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا هَلْ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ كَفِعْلِ الزِّنَا وَالثَّانِي: يَثْبُتُ بِخِلَافِ فِعْلِ الزِّنَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُغْمَضُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فَاحْتِيطَ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ وَالْإِقْرَارُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَلَا يُغْمَضُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: إِذَا شَهِدُوا عَلَى فِعْلِ الزِّنَا يَجِبُ أَنْ يَذْكُرُوا الزَّانِيَ وَمَنْ زَنَى بِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَرَاهُ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ فَيَظُنُّ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَيَجِبُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّا رَأَيْنَا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا دُخُولَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا مُطْلَقًا أَنَّهُ زَنَى لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَرَوْنَ الْمُفَاخَذَةَ زِنًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ إِنْسَانًا فَقَالَ زَنَيْتَ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يُسْتَفْسَرُ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُسْتَفْسَرَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَالشُّهُودِ وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ كَمَا فِي الْقَذْفِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيءَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِذَا شَهِدُوا مُتَفَرِّقِينَ لَا يَثْبُتُ وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِهِمْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِمَا بِهِ الِامْتِيَازُ، فَالْآتِي بِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ يَكُونُ عَامِلًا بِالنَّصِّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ الثَّانِي: كَلُّ حُكْمٍ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ إِذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ يَثْبُتُ إِذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ التُّهْمَةِ، وَعَنْ أَنْ يَتَلَقَّنَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِذَا وَقَعَتْ رِيبَةٌ لِلْقَاضِي فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ فَرَّقَهُمْ لِيَظْهَرَ عَلَى عَوْرَةٍ إِنْ كَانَتْ فِي شَهَادَتِهِمْ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَشْهَدُوا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ إِذَا اجْتَمَعُوا
325
عِنْدَ الْقَاضِي وَكَانَ يُقَدَّمُ وَاحِدٌ بَعْدَ آخَرَ وَيَشْهَدُ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، فَكَذَا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ. ثُمَّ كَانَ يَدْخُلُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ/ لَمَّا شَهِدَ فَقَدْ قَذَفَهُ وَلَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ الْقَذْفِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ حَدِّ الْقَذْفِ رَأْسًا، لِأَنَّ كُلَّ قَاذِفٍ لَا يُعْجِزُهُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنَ الْقَذْفِ الثَّانِي: مَا رُوِيَ «أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرْبَعَةٌ: أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعٌ وَنُفَيْعٌ وَقَالَ زِيَادٌ وَكَانَ رَابِعَهُمْ رَأَيْتُ إِسْتًا تَنْبُو وَنَفَسًا يَعْلُو وَرِجْلَاهَا عَلَى عَاتِقِهِ كَأُذُنَيْ حِمَارٍ، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَسْأَلْ هَلْ مَعَهُمْ شَاهِدٌ آخَرُ» فَلَوْ قُبِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهَادَةُ غَيْرِهِمْ لَتَوَقَّفَ، لِأَنَّ الْحُدُودَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ فِيهَا وَيُحْتَاطُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: لَوْ شَهِدَ عَلَى الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَا يَثْبُتُ الزِّنَا، وَهَلْ يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّا لَوْ حَدَدْنَا لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَأْمَنُ أن لا يوافقه صاحبه فيلزمه الحدو القول الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي المسألة الثَّالِثَةِ.
المسألة الْخَامِسَةُ: إِذَا قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا فَجَاءَ بِأَرْبَعَةِ فُسَّاقٍ فَشَهِدُوا عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ:
يُحَدُّونَ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وَهَذَا قَدْ أَتَى بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ. وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ وَجَدْتُ شَرَائِطَ شَهَادَةِ الزِّنَا مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ عِنْدَ الْقَاضِي، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ، فَكَمَا اعْتَبَرْنَا التُّهْمَةَ فِي نَفْيِ الْحَدِّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُمْ، وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُمْ غَيْرُ مَوْصُوفِينَ بِالشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَخَرَجُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا شَاهِدِينَ، فَبَقُوا مَحْضَ الْقَاذِفِينَ، وَهَاهُنَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَاجْلِدُوهُمْ هُوَ الْإِمَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي آيَةِ الزِّنَا، أَوِ الْمَالِكُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ يُنَصِّبُهُ النَّاسُ عِنْدَ فَقْدِ الْإِمَامِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: خُصَّ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ صُوَرٌ: أَحَدُهَا: الْوَالِدُ يَقْذِفُ وَلَدَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ نَوَافِلِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ الثَّانِيَةُ: الْقَاذِفُ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَالْوَاجِبُ جَلْدُ أَرْبَعِينَ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ فَحَدُّهُمْ حَدُّ الْعَبِيدِ الثَّالِثَةُ: مَنْ قَذَفَ رَقِيقَةً عَفِيفَةً أَوْ مَنْ زَنَتْ فِي قَدِيمِ الْأَيَّامِ ثُمَّ تَابَتْ فَهِيَ بِمُوجَبِ اللُّغَةِ مُحْصَنَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالُوا أَشَدُّ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ ضَرْبُ الزِّنَا، ثُمَّ ضَرْبُ شُرْبِ الْخَمْرِ، ثُمَّ ضَرْبُ الْقَاذِفِ، لِأَنَّ سَبَبَ عُقُوبَتِهِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، إِلَّا أَنَّهُ عُوقِبَ صِيَانَةً لِلْأَعْرَاضِ وَزَجْرًا عَنْ هَتْكِهَا.
326
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ حَدُّ الْقَذْفِ يُوَرَّثُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَقَبْلَ الْعَفْوِ يَثْبُتُ لِوَارِثِهِ حَدُّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ بِقَذْفِهِ التَّعْزِيرَ، فَإِنَّهُ يُوَرَّثُ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَنْشَأَ الْقَذْفَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ ثَبَتَ لِوَارِثِهِ طَلَبُ الْحَدِّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: حَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ هُوَ حَقُّ الْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ وَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِطَلَبِهِ وَيَحْلِفُ فِيهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ، وَإِذَا كَانَ حَقَّ الْآدَمِيِّ وَجَبَ أَنْ يُوَرَّثَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَمَنْ تَرَكَ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ»
حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْرُوثًا لَكَانَ لِلزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِيهِ نَصِيبٌ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِ وَالْوَثِيقَةِ فَلَا يُوَرَّثُ كَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ يَرِثُهُ كُلُّهُمْ إِلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَدِّ دَفْعُ الْعَارِ عَنِ النَّسَبِ، وَذَلِكَ لَا يَلْحَقُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ.
المسألة الْخَامِسَةُ: إِذَا قَذَفَ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ، أَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَالرَّجُلُ غَائِبٌ، فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الْمَقْذُوفِ وَيُخْبِرَهُ بِأَنَّ فُلَانًا قَذَفَكَ وَثَبَتَ لَكَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ لَهُ مَالٌ عَلَى آخَرَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ يَلْزَمُهُ إِعْلَامُهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَيْسًا لِيُخْبِرَهَا بِأَنَّ فُلَانًا قَذَفَهَا بِابْنِهِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ لِيَتَفَحَّصَ عَنْ زِنَاهَا» قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا رَمَى رَجُلٌ بِزِنًا أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ فَيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لأن اللَّه تعالى قال: وَلا تَجَسَّسُوا وَأَرَادَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاذِفُ مُعَيَّنًا، مِثْلَ إِنْ قَالَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ النَّاسُ يَقُولُونَ إِنَّ فَلَانًا زَنَى فَلَا يَبْعَثُ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ فَيَسْأَلُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنَّهُ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ رَحِمَهُمُ اللَّه لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إِذَا تَابَ، وَهَذِهِ المسألة مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا هَلْ عَادَ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ أَوِ اخْتُصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه يَرْجِعُ إِلَى الْكُلِّ، وَهَذِهِ المسألة قَدْ لَخَّصْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ»
وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، فَالتَّائِبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَافِرَ يَقْذِفُ فَيَتُوبُ عَنِ الْكُفْرِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْقَاذِفُ/ الْمُسْلِمُ إِذَا تَابَ عَنِ الْقَذْفِ وَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّ الْقَذْفَ مَعَ الْإِسْلَامِ أَهْوَنُ حَالًا مِنَ الْقَذْفِ مَعَ الْكُفْرِ، فَإِنْ قِيلَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَأْلَمُونَ بِسَبِّ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ شُهِرُوا بِعَدَاوَتِهِمْ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ بِالْبَاطِلِ، فَلَا يَلْحَقُ الْمَقْذُوفَ بِقَذْفِ الْكَافِرِ مِنَ الشَّيْنِ وَالشَّنَآنِ مَا يَلْحَقُهُ بِقَذْفِ مُسْلِمٍ مِثْلِهِ، فَشُدِّدَ عَلَى الْقَاذِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ زجرا عن إلحاق العار والشنآن، وأيضا فاتائب مِنَ الْكُفْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالتَّائِبُ مِنَ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، قُلْنَا هَذَا الْفَرْقُ مُلْغًى
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنْبِئْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ»
وَثَالِثُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ التَّائِبَ عَنِ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فَكَذَا التَّائِبُ عَنِ الْقَذْفِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ لَيْسَتْ أَكْبَرَ مِنْ نَفْسِ الزِّنَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه اللَّه يقبل شهادته إذ تَابَ قَبْلَ الْحَدِّ مَعَ أَنَّ الْحَدَّ حَقُّ الْمَقْذُوفِ فَلَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ. فَلَأَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ إِذَا تَابَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ وَقَدْ حَسُنَتْ حالته وزوال اسْمُ الْفِسْقِ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى وَخَامِسُهَا:
327
أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا اسْتِثْنَاءٌ مَذْكُورٌ عَقِيبَ جُمَلٍ فَوَجَبَ عَوْدُهُ إِلَيْهَا بِأَسْرِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا:
أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْجَمِيعِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ قوله: إن شاء الله [يوسف: ٩٩] يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ فِيهِ شَيْءٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا طَلَاقًا كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِهِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُجُوعِ قَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ صِحَّةُ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ بِحَرْفِهِ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، قُلْنَا هَذَا فَرْقٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّه جَازَ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا جَرَمَ جَازَ رُجُوعُهُ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ وَإِلَّا جَازَ دُخُولُهُ لِرَفْعِ بَعْضِ الْكَلَامِ فَوَجَبَ جَوَازُ رُجُوعِهِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ عَلَى هَذَا الوجه، حَتَّى يَقْتَضِيَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ بَعْضُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقَوْلُهُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ صَارَ الْجَمْعُ كَأَنَّهُ ذُكِرَ مَعًا لَا تَقَدُّمَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الاستثناء لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى الْبَاقِي إِذْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ تَقَدُّمٌ فِي الْمَعْنَى الْبَتَّةَ فَوَجَبَ رُجُوعُهُ إِلَى الْكُلِّ، وَنَظِيرُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٦] فَإِنَّ فَاءَ التَّعْقِيبِ مَا دَخَلَتْ عَلَى غَسْلِ الوجه بَلْ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ. فَكَذَا هَاهُنَا كَلِمَةُ إِلَّا مَا دَخَلَتْ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ بَلْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَجْمُوعِ، فَإِنْ قِيلَ الْوَاوُ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ لِلْجَمْعِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَنَظْمُهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَيَصِيرُ الْكُلُّ كَالْمَذْكُورِ مَعًا مِثْلَ آيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ الْكُلَّ أَمْرٌ/ وَاحِدٌ كَأَنَّهُ قَالَ فَاغْسِلُوا هَذِهِ الْأَعْضَاءَ فَإِنَّ الْكُلَّ قَدْ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ. وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا أَمْرٌ وَآخِرَهَا خَبَرٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظِمَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَكَانَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ فَيَخْتَصُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ، قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ بِمَجْمُوعِهِنَّ جَزَاءَ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَمَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ وَرُدُّوا شَهَادَتَهِمْ وَفَسِّقُوهُمْ، أَيْ فَاجْمَعُوا لَهُمُ الْجَلْدَ وَالرَّدَّ وَالْفِسْقَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَنِ الْقَذْفِ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّه يَغْفِرُ لَهُمْ فَيَنْقَلِبُونَ غَيْرَ مَجْلُودِينَ وَلَا مَرْدُودِينَ وَلَا مُفَسَّقِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي عَدَمِ قَبُولِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ كَوْنُهُ فَاسِقًا، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا وَكَوْنُهُ فَاسِقًا يُنَاسِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ إِلَّا كَوْنَهُ فَاسِقًا، وَدَلَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى زَوَالِ الْفِسْقِ فَقَدْ زَالَتِ الْعِلَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [البقرة: ١٦٠] وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ حَاصِلَةٌ لِهَؤُلَاءِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاءِ: ٤٣] وَصَارَ التَّيَمُّمُ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ، كَمَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَهَذَا الوجه ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، فَكَذَا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ طَرْدًا لِلْبَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِعُمُومِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ قائم
328
وَالْمُعَارِضَ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ يَكْفِي فِي تَصْحِيحِهِ تَعْلِيقُهُ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَخْرُجُ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا فَوَجَبَ تَعْلِيقُهُ بِالْجُمْلَةِ الواحدة فقطو ثالثها: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ رَجَعَ إِلَى كُلِّ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَوَجَبَ أَنَّهُ إِذَا تَابَ أَنْ لَا يُجْلَدَ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَقِيبَ الِاسْتِثْنَاءِ لَوْ رَجَعَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْمُسْتَثْنَى فَبِقَدْرِ مَا نَفَى مِنْ أَحَدِهِمَا أَثْبَتَ فِي الْآخَرِ فَيَنْجَبِرُ النَّاقِصُ بِالزَّائِدِ وَيَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ
الْأَخِيرَةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْجُمَلِ مُتَأَخِّرًا فِي التَّقْدِيرِ عَنِ الْبَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُهُ بِالْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تعليقه بالباقي، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي المسألة بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَحَدُهَا: مَا
رَوَى ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قصة هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ»
فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ أَنْ وُقُوعَ الْجَلْدِ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّوْبَةِ فِي قَبُولِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بعض إلا محدود فِي قَذْفٍ»
وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ وُجُودَ التَّوْبَةِ منه وثالثها: ما
روى عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ»
قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ»
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَإِذَا عَلِمَ الْمَحْدُودُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَمَا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا تَكُونُ عَبَثًا وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ»
وَهَاهُنَا قَدْ حَصَلَ الظُّهُورُ لِأَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ وَعِفَّتَهُ الْحَاصِلَةَ بِالتَّوْبَةِ تُفِيدُ ظَنَّ كَوْنِهِ صَادِقًا وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّهُ ضَرَبَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعٌ وَنُفَيْعٌ، ثم قال لَهُمْ مَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُ فأكذب نافع ونفيه أَنْفُسَهُمَا وَتَابَا وَكَانَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا. وَأَمَّا أَبُو بَكْرَةَ فَكَانَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ» وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ المسألة.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَذْفَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتِ التَّوْبَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ دَوَامِهِ كَمَا لَا تَمْنَعُ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ ضَارِبٌ وَبِأَنَّهُ رَامٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْقَذْفِ كَيْفَ تَكُونُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه التَّوْبَةُ مِنْهُ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ: كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ فَلَا أَعُودُ لِمِثْلِهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ كَذَبْتُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ صَادِقًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذَبْتُ كَذِبًا وَالْكَذِبُ مَعْصِيَةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَكُونُ تَوْبَةً عَنْ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى، بَلْ يَقُولُ الْقَاذِفُ بَاطِلًا نَدِمْتُ عَلَى مَا قُلْتُ وَرَجَعْتُ عَنْهُ وَلَا أَعُودُ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَصْلَحُوا فَقَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ عَلَيْهِ فِي حُسْنِ الْحَالِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ وَتَعُودَ وِلَايَتُهُ، ثُمَّ قَدَّرُوا تِلْكَ الْمُدَّةَ بِسَنَةٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْأَحْوَالُ وَالطِّبَاعُ كَمَا يُضْرَبُ لِلْعِنِّينِ أَجْلٌ سَنَةً، وَقَدْ عَلَّقَ الشَّرْعُ أَحْكَامًا بِالسَّنَةِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَغَيْرِهِمَا.
329
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا كَانَ فِي قَبُولِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ إِنَّمَا يَقْبَلُهُ خَوْفًا وَقَهْرًا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَصَارَ سَفِيهًا، وَلَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِلَهِيَّةِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَقَبِلَهُ. فَهُنَاكَ تَتَحَقَّقُ الرَّحْمَةُ وَالْإِحْسَانُ وباللَّه التوفيق.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
الحكم الرابع حكم اللعان
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ عَقَّبَهُ بِأَحْكَامِ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ، ثُمَّ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَبْحَاثٍ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ ابن عباس رحمهم اللَّه: «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ إِنْ دَخَلَ مِنَّا رَجُلٌ بَيْتَهُ فَوَجَدَ رَجُلًا عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ فَإِنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فَقَدْ قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَخَرَجَ، وَإِنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ، وَإِنْ قَالَ وَجَدْتُ فُلَانًا مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ ضُرِبَ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ. اللَّهُمَّ افْتَحْ.
وَكَانَ لِعَاصِمٍ هَذَا ابْنُ عَمٍّ يُقَالُ لَهُ عُوَيْمِرٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ فَأَتَى عُوَيْمِرٌ عَاصِمًا فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي خَوْلَةَ فَاسْتَرْجَعَ عَاصِمٌ وَأَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه مَا أَسْرَعَ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ذَاكَ؟ فَقَالَ أَخْبَرَنِي عُوَيْمِرٌ ابْنُ عَمِّي بِأَنَّهُ رَأَى شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ وَكَانَ عُوَيْمِرٌ وَخَوْلَةُ وَشَرِيكٌ كُلُّهُمْ بَنُو عَمِّ عَاصِمٍ فَدَعَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا وَقَالَ لِعُوَيْمِرٍ اتَّقِ اللَّه فِي زَوْجَتِكَ وَابْنَةِ عَمِّكَ وَلَا تَقْذِفْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه أُقْسِمُ باللَّه أَنِّي رَأَيْتُ شَرِيكًا عَلَى بَطْنِهَا وَأَنِّي مَا قَرَبْتُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَنَّهَا حُبْلَى مِنْ غَيْرِي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِي اللَّه وَلَا تُخْبِرِي إِلَّا بِمَا صَنَعْتِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ عُوَيْمِرًا رَجُلٌ غَيُورٌ وَإِنَّهُ رَأَى شَرِيكًا يُطِيلُ النَّظَرَ إِلَيَّ وَيَتَحَدَّثُ فَحَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ فَصَلَّى الْعَصْرَ/ ثم قال لِعُوَيْمِرٍ قُمْ وَقُلْ أَشْهَدُ باللَّه أَنَّ خَوْلَةَ لَزَانِيَةٌ وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثم قال فِي الثَّانِيَةِ قُلْ أَشْهَدُ باللَّه أَنِّي رَأَيْتُ شَرِيكًا عَلَى بَطْنِهَا وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثم قال فِي الثَّالِثَةِ قُلْ أَشْهَدُ باللَّه أَنَّهَا حُبْلَى مِنْ غَيْرِي وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثم قال فِي الرَّابِعَةِ قُلْ أَشْهَدُ باللَّه أَنَّهَا زَانِيَةٌ
330
وَأَنِّي مَا قَرَبْتُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِنِّي لمن الصادقين. ثم قال في الخامس قُلْ لَعْنَةُ اللَّه عَلَى عُوَيْمِرٍ يَعْنِي نَفْسَهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا قَالَ. ثم قال اقْعُدْ، وَقَالَ لِخَوْلَةَ قُومِي، فَقَامَتْ وَقَالَتْ أَشْهَدُ باللَّه مَا أَنَا بِزَانِيَةٍ وَإِنَّ زَوْجِي عُوَيْمِرًا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَقَالَتْ فِي الثَّانِيَةِ أَشْهَدُ باللَّه مَا رَأَى شَرِيكًا عَلَى بَطْنِي وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَقَالَتْ فِي الثَّالِثَةِ أَشْهَدُ باللَّه أَنِّي حُبْلَى مِنْهُ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَقَالَتْ فِي الرَّابِعَةِ أَشْهَدُ باللَّه أَنَّهُ مَا رَآنِي عَلَى فَاحِشَةٍ قَطُّ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَقَالَتْ فِي الْخَامِسَةِ غَضَبُ اللَّه عَلَى خَوْلَةَ إِنْ كَانَ عُوَيْمِرٌ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي قَوْلِهِ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا»
وَثَانِيهَا:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: «أَنَّ عَاصِمًا ذَاتَ يَوْمٍ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَتَمَامُ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ
وَثَالِثُهَا: مَا
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَمَّا نَزَلَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْأَنْصَارِ لَوْ وَجَدْتُ رَجُلًا عَلَى بَطْنِهَا فَإِنِّي إِنْ جِئْتُ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ يَكُونُ قَدْ قَضَى حَاجَتَهُ وَذَهَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه لَا تَلُمْهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّه واللَّه إِنِّي لَأَعْرِفُ أَنَّهَا مِنَ اللَّه وَأَنَّهَا حَقٌّ، وَلَكِنِّي عَجِبْتُ مِنْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّه يَأْبَى إِلَّا ذَلِكَ، قَالَ فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ يُقَالُ لَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ، فَقَالَ هِلَالٌ واللَّه يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي لَأَرَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِكَ مِمَّا أَخْبَرْتُكَ بِهِ واللَّه يَعْلَمُ أَنِّي لَصَادِقٌ وَمَا قَلْتُ إِلَّا حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِمَّا الْبَيِّنَةُ وَإِمَّا إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْكَ»
فَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ فَقَالُوا ابْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدٌ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَعَلَا جَسَدَهُ حُمْرَةٌ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبْشِرْ يَا هِلَالُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّه لَكَ فَرَجًا، قَالَ قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادْعُوهَا فَدُعِيَتْ فَكَذَّبَتْ هِلَالًا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ وَأَمَرَ بِالْمُلَاعَنَةِ فَشَهِدَ هِلَالٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّه إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ اتَّقِ اللَّه يَا هِلَالُ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ واللَّه لَا يُعَذِّبُنِي اللَّه عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد الخامسة، بم قال رَسُولُ اللَّه أَتَشْهَدِينَ فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّه أَنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَلَمَّا أَخَذَتْ فِي الْخَامِسَةِ قَالَ لَهَا اتَّقِي اللَّه فَإِنَّ الْخَامِسَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ، فَتَفَكَّرَتْ سَاعَةً وَهَمَّتْ بِالِاعْتِرَافِ ثُمَّ قَالَتْ واللَّه لَا أَفْضَحُ قَوْمِي وَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، ثم قال: انْظُرُوهَا إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُثَيْبِجَ أَصْهَبَ أَحْمَشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ/ جَاءَتْ بِهِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ أَوْرَقَ جَعْدًا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» قَالَ عِكْرِمَةُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرَ مِصْرَ مِنَ الْأَمْصَارِ وَلَا يَدْرِي مَنْ أَبُوهُ!.
الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ قُرِئَ وَلَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ جَمَاعَةٌ أَوْ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْأَنْفُسِ وَوَجْهُ مَنْ قَرَأَ أَرْبَعَ أَنْ يَنْصِبَ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ فِيهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ فَتَقْدِيرُهُ فَوَاجِبُ شَهَادَةِ أَحَدِهِمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، وَقُرِئَ أَنْ لَعْنَةُ اللَّه وَأَنْ غَضَبُ اللَّه عَلَى تَخْفِيفِ أَنْ وَرَفْعِ مَا بَعْدَهَا، وَقُرِئَ أَنْ غَضِبَ اللَّه عَلَى فِعْلِ الْغَضَبِ، وَقُرِئَ بِنَصْبِ الْخَامِسَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى وَيَشْهَدُ الْخَامِسَةَ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَالنَّظَرُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِأَطْرَافٍ:
331
الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: فِي مُوجِبِ اللِّعَانِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا رَمَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً وَالتَّعْزِيرُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً، كَمَا فِي رَمْيِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ مُوجِبُهُمَا غَيْرَ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمُخَلِّصِ فَفِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ لا يسقط الحد عن القذف إلا بإقرار المقذف أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى زِنَاهَا، وَفِي قَذْفِ الزوجة يقسط عَنْهُ الْحَدُّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ بِاللِّعَانِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّرْعُ اللِّعَانَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا مَعَرَّةَ عَلَيْهِ فِي زِنَا الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْأَوْلَى لَهُ سَتْرُهُ، أَمَّا إِذَا زَنَى بِزَوْجَتِهِ فَيَلْحَقُهُ الْعَارُ وَالنَّسَبُ الْفَاسِدُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَتَوْقِيفُهُ عَلَى الْبَيِّنَةِ كَالْمُعْتَذِرِ، فَلَا جَرَمَ خَصَّ الشَّرْعُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِاللِّعَانِ الثَّانِي: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُتَعَارَفِ مِنْ أَحْوَالِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُهَا بِالْقَذْفِ إِلَّا عَنْ حَقِيقَةٍ، فَإِذَا رَمَاهَا فَنَفْسُ الرَّمْيِ يَشْهَدُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا إِلَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْحَالِ لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فَضُمَّ إِلَيْهَا مَا يُقَوِّيهَا مِنَ الْأَيْمَانِ، كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ لَمَّا ضَعُفَتْ قَوِيَتْ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ يَتَقَوَّى بِالْيَمِينِ عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ كَانَ حَدُّ قَاذِفِ الأجنبيات والزوجات والجلد، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ «ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ لَكَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ كَانَ كَحَدِّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ إِلَّا أَنَّهُ نُسِخَ عَنِ الْأَزْوَاجِ الْجَلْدُ بِاللِّعَانِ،
وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْجَلْدَ وَأَنَّ اللَّه نَسَخَهُ بِاللِّعَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه إِذَا قَذَفَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْحَدُّ وَلَكِنَّ الْمُخَلِّصَ مِنْهُ بِاللِّعَانِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحَدُّ وَالْمُخَلِّصَ مِنْهُ بِالشُّهُودِ، فَإِذَا نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِلْقَذْفِ، فَإِذَا لَاعَنَ وَنَكَلَتْ عَنِ اللِّعَانِ يَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ/ اللَّه إِذَا نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ إِذَا نَكَلَتْ حُبِسَتْ حَتَّى لَا تُلَاعِنَ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي أول السورة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: ٤] يَعْنِي غَيْرَ الزَّوْجَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: ٤] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَزْوَاجِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ الْآيَةَ فَكَمَا أَنَّ مُقْتَضَى قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْإِتْيَانُ بِالشُّهُودِ أَوِ الْجَلَدُ فَكَذَا مُوجِبُ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ الْإِتْيَانُ بِاللِّعَانِ أَوِ الْحَدُّ وثانيها: قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ الدَّاخِلَانِ عَلَى الْعَذَابِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَوَجَبَ صَرْفُهُمَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ هُوَ الْحَدُّ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: ٢] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَدُّ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ من العذاب في قوله: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ هُوَ الْحَدُّ ثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَلَاعِنْ لَحُدَّتْ وَأَنَّهَا بِاللِّعَانِ دَفَعَتِ الْحَدَّ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْحَبْسُ. قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْمَعْهُودِ الْمَذْكُورِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْعَذَابُ بِمَعْنَى الْحَدِّ، وَأَيْضًا فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَدِّ لَا تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً. أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَبْسِ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَأَنَّ مِقْدَارَ الْحَبْسِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَبْسِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا تَقُولُ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ صَادِقًا فَحُدُّونِي وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَخَلُّونِي فَمَا بَالِي وَالْحَبْسُ وَلَيْسَ حَبْسِي فِي كِتَابِ اللَّه ولا سنة
332
رَسُولِهِ وَلَا الْإِجْمَاعِ وَلَا الْقِيَاسِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ قَذَفَهَا وَلَمْ يَأْتِ بِالْمُخْرِجِ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ شَهَادَةِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور: ٤] وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَخَامِسُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخَوْلَةَ: «فَالرَّجْمُ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَبِ اللَّه»
وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، أَمَّا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلِأَنَّهَا مَا فَعَلَتْ سِوَى أَنَّهَا تَرَكَتِ اللِّعَانَ، وَهَذَا التَّرْكُ لَيْسَ بَيِّنَةً على الزنا ولا إقرار مِنْهَا بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ رَجْمُهَا،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ» الْحَدِيثَ.
وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الرَّجْمُ إِذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً لَمْ يَجِبِ الْجَلْدُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَأَيْضًا فَالنُّكُولُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُ الْحَدِّ بِهِ كَاللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلزِّنَا وَلِغَيْرِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْجُمْهُورُ إِذَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ وَجَبَ اللِّعَانُ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه لَا يُلَاعِنُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْتُكِ تَزْنِي أَوْ يَنْفِي حَمْلًا لَهَا أَوْ وَلَدًا مِنْهَا، حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ بَيْنَ الْكُلِّ فَكَذَا فِي حَقِّ قَذْفِ الزَّوْجَةِ.
الطَّرَفُ الثَّانِي: الْمُلَاعِنُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه مَنْ صَحَّ يَمِينُهُ صَحَّ لِعَانُهُ، فَيَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَ الرَّقِيقَيْنِ وَالذِّمِّيَّيْنِ وَالْمَحْدُودَيْنِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا والمرأة ذمية، وقال أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَصِحُّ فِي صُورَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَى/ قَاذِفِهَا الْحَدُّ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا نَحْوَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الْفَاسِقَ وَالْأَعْمَى مَعَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ يَصِحُّ لِعَانُهُمَا، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ وَالْقِيَاسُ أَيْضًا ظَاهِرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْعَارِ عَنِ النَّفْسِ، وَدَفْعُ وَلَدِ الزِّنَا عَنِ النَّفْسِ، وَكَمَا يَحْتَاجُ غَيْرُ الْمَحْدُودِ إِلَيْهِ فَكَذَا الْمَحْدُودُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ وَالثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ لِعَانُ الْفَاسِقِ وَالْأَعْمَى، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَكَذَا الْقَوْلُ فِي غَيْرِهِمَا، وَالْجَامِعُ هُوَ الْحَاجَةُ إِلَى دَفْعِ عَارِ الزِّنَا، ووجه قول أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه النَّصُّ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّصُّ فَمَا
رَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ مُلَاعَنَةٌ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ»
أَمَّا الْمَعْنَى فَنَقُولُ أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَاذِفِ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: ٤] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنِ الْأَزْوَاجِ وَأُقِيمَ اللِّعَانُ مَقَامَهُ فَلَمَّا كَانَ اللِّعَانُ مَعَ الْأَزْوَاجِ قَائِمًا مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ لَمْ يَجِبِ اللِّعَانُ عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَالوجه فِيهِ أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى لِعَانَهُمَا شَهَادَةً كَمَا قَالَ:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٢] وَقَالَ: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ١٥] الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَمَرَهُمَا بِاللِّعَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً [النُّورِ: ٤] وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَحْدُودِ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ، إِمَّا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أو
333
لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ شَهَادَةً فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ يَمِينٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَأْتِي بِثَمَانِ شَهَادَاتٍ، لِأَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى وَالْفَاسِقِ وَلَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، فَإِنْ قِيلَ الْفَاسِقُ وَالْفَاسِقَةُ قَدْ يَتُوبَانِ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ قَدْ يُعْتَقُ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَكَّدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذلك بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عُتِقَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَالِ وَالْفَاسِقَ إِذَا تَابَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ أَلْزَمَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اللِّعَانُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. ثم قال بَعْدَ ذَلِكَ: وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ بِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ تَنَصَّفَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ لِرِقِّهِ، وَإِنْ لَاعَنَ وَلَمْ تُلَاعِنِ اخْتَلَفَ حَدُّهَا بِإِحْصَانِهَا وَعَدَمِ إِحْصَانِهَا وَحُرِّيَّتِهَا وَرِقِّهَا.
الطَّرَفُ الثَّالِثُ: الْأَحْكَامُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى اللِّعَانِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ دَرْءُ الْحَدِّ وَنَفْيُ الْوَلَدِ وَالْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَكُلُّهَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ/ وَلَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى لِعَانِهَا وَلَا إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِهِ كَانَ تَنْفِيذًا مِنْهُ لَا إِيقَاعًا لِلْفُرْقَةِ. فَلْنَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ:
لَا أَرَى مُلَاعَنَةَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ تَقْتَضِي شَيْئًا يُوجِبُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِفَرَاغِهِمَا مِنَ اللِّعَانِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَثَالِثُهَا: قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَزُفَرُ رَحِمَهُمُ اللَّه إِذَا فَرَغَا مِنَ اللِّعَانِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقِ الْحَاكِمُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه إِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا الْتَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعِنْ، حُجَّةُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ عَنِ الْفُرْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ الْفُرْقَةَ كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا إِشْعَارَ لَهَا بِالْفُرْقَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمًا فَإِذَا كَانَ كَاذِبًا وَالْمَرْأَةُ صَادِقَةً يَثْبُتُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَثَانِيهَا: لَوْ تَلَاعَنَا فِيمَا بَيْنَهُمَا لَمْ يُوجِبِ الْفُرْقَةَ فَكَذَا لَوْ تَلَاعَنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ الشُّهُودِ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِحْضَارِ الشُّهُودِ هُنَاكَ إِلَّا إِسْقَاطُ الْحَدِّ، فَكَذَا اللِّعَانُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ إِلَّا إِسْقَاطُ الحدو رابعها: إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فِي قَذْفِهِ إِيَّاهَا ثُمَّ حُدَّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فُرْقَةً فَكَذَا إذا لا عن لِأَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ دَرْءِ الْحَدِّ، قَالَ وَأَمَّا تَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ فَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَدَلِيلُهُ مَا رَوَى سَهْلُ بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَالثَّانِي: أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: رُوِيَ فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ أَنَّهُمَا لَمَّا فَرَغَا «قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّه إِنْ أَمْسَكْتُهَا، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا» فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ لَبَطَلَ قَوْلُهُ: «كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا» لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْفِيذُ الطَّلَاقِ إِنَّمَا يُمْكِنُ لَوْ لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَثَالِثُهَا: مَا قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِاللِّعَانِ اسْتَحَالَ التَّفْرِيقُ بَعْدَهَا وثانيها: قال
334
أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه خِلَافُ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ لَلَاعَنَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ وَذَلِكَ خِلَافُ الْآيَةِ لَأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ الْفُرْقَةَ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَمَا لَا يَثْبُتُ الْمَشْهُودُ بِهِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَرَابِعُهَا:
اللِّعَانُ تَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُدَّعِي مُدَّعَاهُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهَا زَنَتْ وَلَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ على زناها أو هي أقرت بذلك فذلك لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَكَذَا اللِّعَانُ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاثِ التَّفْرِيقِ إِمَّا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ، أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ وَزُفَرَ فَحُجَّتُهُ أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يُخَلَّيَا بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ قَدْ أَوْجَبَ الْفُرْقَةَ، أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فَلَهُ دَلِيلَانِ الْأَوَّلُ: قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ الْآيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِعَانِ الْمَرْأَةِ إِلَّا فِي دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَجِبُ بِاللِّعَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ وَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ الثَّانِي: أَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ وَحْدَهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِقَوْلِهِ فِي الْإِلْحَاقِ لَا بِقَوْلِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي لِعَانِهَا تُلْحِقُ الْوَلَدَ بِهِ وَنَحْنُ نَنْفِيهِ عَنْهُ فَيُعْتَبَرُ نَفْيُ الزَّوْجِ لَا إِلْحَاقُ الْمَرْأَةِ، وَلِهَذَا إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَمَا دَامَ يَبْقَى مُصِرًّا عَلَى اللِّعَانِ فَالْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِعَانَهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَقَعْ لَمْ يَنْتِفِ الْوَلَدُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»
فَمَا دَامَ يَبْقَى الْفِرَاشُ الْتَحَقَ بِهِ، فَلَمَّا انْتَفَى الْوَلَدُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ وَجَبَ أَنَّهُ يَزُولُ الْفِرَاشُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَحَكَمَ بِهَا وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ شَيْئًا آخَرَ، وَأَمَّا الْأَقْيِسَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فَمَدَارُهَا عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ يَمِينٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: اللِّعَانُ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِوُقُوعِ الْحُرْمَةِ. قُلْنَا بَيِّنَتُهُ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ مَقْبُولَةٌ وَنَفْيُ الْوَلَدِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ حِلْيَةِ النِّكَاحِ واللَّه أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالْحَسَنُ
الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَحُدَّ زَالَ تَحْرِيمُ الْعَقْدِ وَحَلَّتْ لَهُ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أُمُورٌ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمُلَاعِنِ بَعْدَ اللِّعَانِ «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا»
وَلَمْ يُقَلْ حَتَّى تُكَذِّبَ نَفْسَكَ وَلَوْ كَانَ الْإِكْذَابُ غَايَةً لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ لَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ بِالثَّلَاثِ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠]. وَثَانِيهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا يَجْتَمِعُ الْمُتَلَاعِنَانِ أَبَدًا، وَهَذَا قَدْ رُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ «مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُمَا إِذَا تَلَاعَنَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَقَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يُنْفَى عَنِ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ، وَحُكِيَ عَنْ/ بَعْضِ مَنْ شَذَّ أَنَّهُ لِلزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ، وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَنْتَفِي بِاللِّعَانِ كَالْمُتَوَاتِرَةِ فَلَا يُعَارِضُهَا هَذَا الْوَاحِدُ.
335
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَوْ أَتَى أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَكْثَرُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ تَعْمَلُ عَمَلَ الْكُلِّ إِذَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَالظَّاهِرُ مَعَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَدْرَأُ الْعَذَابَ عَنْ نَفْسِهَا إِلَّا بِتَمَامِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى، وَمَنْ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي كَيْفِيَّةِ اللِّعَانِ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهَا صَرِيحًا، فَالرَّجُلُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّه بِأَنْ يَقُولَ:
أَشْهَدُ باللَّه إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، ثُمَّ يَقُولُ مِنْ بَعْدُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّه إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، ثُمَّ الْمَرْأَةُ إِذَا أَرَادَتْ إِسْقَاطَ حَدِّ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا عَلَيْهَا أَنْ تُلَاعِنَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهَا إِلَّا هَذَا الْحُكْمُ الْوَاحِدُ، ثُمَّ هَاهُنَا فُرُوعٌ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ كَالشَّهَادَةِ فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يُقَامُ الرَّجُلُ حَتَّى يَشْهَدَ وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةٌ، وَتُقَامُ الْمَرْأَةُ حَتَّى تَشْهَدَ وَالرَّجُلُ قَاعِدٌ، وَيَأْمُرَ الْإِمَامُ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ وَيَقُولُ لَهُ إِنِّي أَخَافُ إِنْ لَمْ تَكُ صَادِقًا أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّه الثَّالِثُ: اللِّعَانُ بِمَكَّةَ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ وَبِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي مَسْجِدِهِ وَفِي غَيْرِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُعَظَّمَةِ وَلِعَانُ الْمُشْرِكِ كَغَيْرِهِ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ.
الطَّرَفُ الْخَامِسُ: فِي سَائِرِ الْفَوَائِدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ فِي أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ كُفْرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّامِيَ إِنْ صَدَقَ فَهِيَ زَانِيَةٌ، وَإِنْ كَذَبَ فَهُوَ قَاذِفٌ فَلَا بُدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ مِنْ وُقُوعِ الْكُفْرِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ يَكُونُ رِدَّةً فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ وَلَا لِعَانَ أَصْلًا، وَأَنْ تَكُونَ فُرْقَةَ الرِّدَّةِ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ تَوَارُثٌ الْبَتَّةَ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهَا بِلِعَانِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُقْتَلَ لَا أَنْ تُجْلَدَ أَوْ تُرْجَمَ، لِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ مُبَايِنَةٌ لِلْحَدِّ فِي الزِّنَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ وُقُوعَ الزِّنَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِبُ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذَا كَأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِفَسَادِ النِّكَاحِ حَتَّى يَكُونَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ الضراع أَوْ بِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الرَّمْيِ مِنْ قَبْلِ اللِّعَانِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَسَادُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَاذِفَ مُسْتَحِقٌّ لَلَعْنِ اللَّه تَعَالَى إِذَا كَانَ كَاذِبًا وَأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ، وَكَذَلِكَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ يَسْتَحِقَّانِ غَضَبَ اللَّه تَعَالَى وَعِقَابَهُ وَإِلَّا لَمْ يَحْسُنْ مِنْهُمَا أَنْ يَلْعَنَا أَنْفُسَهُمَا، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ رَبَّهُ أَنْ يَلْعَنَ الْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَقَدِ/ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَالْعِقَابُ يَكُونُ دَائِمًا كَالثَّوَابِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فَثَوَابُهُمَا أَيْضًا مُحْبَطٌ، فَلَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَتُوبَا أَنْ يَدْخُلَا الْجَنَّةَ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى طَاعَاتِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى خُلُودِ الْفُسَّاقِ فِي النَّارِ، قَالَ أَصْحَابُنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَهُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ بِفِسْقِهِ يُنَافِي كَوْنَهُ مَرْضِيًّا عَنْهُ لِجِهَةِ إِيمَانِهِ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَاهُ فَلَمْ نُسَلِّمْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مُسْتَحِقُّ الثَّوَابِ وَالْإِجْمَاعُ مَمْنُوعٌ.
المسألة الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا خُصَّتِ الْمُلَاعَنَةُ بِأَنْ تُخَمَّسَ بِغَضَبِ اللَّه تَغْلِيظًا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الْفُجُورِ وَمَنْبَعُهُ بِخُيَلَائِهَا وَأَطْمَاعِهَا وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُقَدَّمَةً فِي آيَةِ الجلد.
336
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ الرَّامِي لِلْمُحْصَنَاتِ وَالْأَزْوَاجِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بِاللِّعَانِ لِلْمَرْءِ سَبِيلًا إِلَى مُرَادِهِ، وَلَهَا سَبِيلًا إِلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَهُمَا السَّبِيلَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، فَلِأَجْلِ هَذَا بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ عِظَمَ نِعَمِهِ فِيمَا بَيَّنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفِيمَا أَمْهَلَ وَأَبْقَى وَمَكَّنَ مِنَ التَّوْبَةِ وَلَا شبهة في أن الْكَلَامِ حَذْفًا إِذْ لَا بُدَّ مِنْ جَوَابٍ إِلَّا أَنَّ تَرْكَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُكْتَنَهُ، وَرُبَّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ أَبْلَغُ من منطوق به.
[سورة النور (٢٤) : آية ١١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)
الْحُكْمُ الْخَامِسُ قِصَّةُ الإفك
الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَفْسِيرُهُ وَالثَّانِي: سَبَبُ نُزُولِهِ:
أَمَّا التَّفْسِيرُ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ حَكَى الْوَاقِعَةَ وَهُوَ قوله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ وَالْإِفْكُ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، وَقِيلَ هُوَ الْبُهْتَانُ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا تَشْعُرُ بِهِ حَتَّى يَفْجَأَكَ وَأَصْلُهُ الْإِفْكُ وَهُوَ الْقَلْبُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَأْفُوكٌ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا أُفِكَ بِهِ عَلَى عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْكَذِبَ بِكَوْنِهِ إِفْكًا لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِ عَائِشَةَ خِلَافُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كَوْنَهَا زَوْجَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْصُومِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَبْعُوثُونَ إِلَى الْكُفَّارِ لِيَدْعُوهُمْ/ وَيَسْتَعْطِفُوهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُمْ مَا يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُمْ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ تَكُونُ زَوْجَتُهُ مُسَافِحَةً مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةُ النَّبِيِّ كَافِرَةً كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فَاجِرَةً «١» وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَكَانَ الرَّسُولُ أَعْرَفَ النَّاسِ بِامْتِنَاعِهِ وَلَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَمَا ضَاقَ قَلْبُهُ، وَلَمَا سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ، أَمَّا كَوْنُهَا فَاجِرَةً فَمِنَ الْمُنَفِّرَاتِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرًا مَا كَانَ يَضِيقُ قَلْبُهُ مِنْ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الْحِجْرِ: ٩٧] فَكَانَ هَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِ عَائِشَةَ قَبْلَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ إِنَّمَا هُوَ الصَّوْنُ وَالْبُعْدُ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْفُجُورِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ إِحْسَانَ الظَّنِّ بِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَاذِفِينَ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ كَلَامَ الْعَدُوِّ الْمُفْتَرَى ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ، فَلِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْقَرَائِنِ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ. أَمَّا الْعُصْبَةُ فَقِيلَ إِنَّهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَكَذَلِكَ الْعِصَابَةُ وَاعْصَوْصَبُوا اجْتَمَعُوا، وَهُمْ عبد اللَّه بن أبي بن سَلُولَ رَأْسُ النِّفَاقِ، وَزَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ، وَحَسَّانُ بْنَ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جحش ومن ساعدهم.
(١) لعل امرأتي نوح ولوط عليهما السلام كانتا كذلك ومما يدل عليه وصف اللَّه تعالى لهما بالخيانة ومن معاني الخيانة هذا المعنى فلا يجوز العدول عن المعنى الظاهر إلى غيره بدون حاجة. ولا سيما إذا ضم إلى هذا قول اللَّه لنوح حين قال:
رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: ٤٥] إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: ٤٦] والأهل هم آل الشخص وقرابته الأدنون ولا يجوز صرف الأهل إلى غير ذلك بلا ضرورة واللَّه أعلم.
337
أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْكُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْكَذِبِ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّه كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ حُكِمِ لَهُ بِالْإِيمَانِ ظَاهِرًا وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَحَ حَالَ الْمَقْذُوفَةِ وَمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهَا بِقَوْلِهِ: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ مَعَ الْقَاذِفِينَ، بَلْ مَعَ مَنْ قَذَفُوهُ وَآذَوْهُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُشْكِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لم يتقدم ذكرهم الثاني: أَنَّ الْمَقْذُوفَيْنِ هُمَا عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ فَكَيْفَ تُحْمَلُ عَلَيْهِمَا صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ:
مِنْكُمْ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ كُلُّ مَنْ تَأَذَّى بِذَلِكَ الْكَذِبِ وَاغْتَمَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَذَّى بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَمِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَصِيرُ خَيْرًا لَهُمْ مَعَ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ فِي الْعَاجِلِ؟ قُلْنَا لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ الْغَمِّ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى فَاسْتَوْجَبُوا بِهِ الثَّوَابَ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ وُقُوعِ الظُّلْمِ بِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْلَا إِظْهَارُهُمْ لِلْإِفْكِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى التُّهْمَةُ كَامِنَةً فِي صُدُورِ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ الْإِظْهَارِ انْكَشَفَ كَذِبُ الْقَوْمِ عَلَى مَرِّ الدَّهْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ صَارَ خَيْرًا لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ شَرَفِهِمْ وَبَيَانِ فَضْلِهِمْ مِنْ حَيْثُ نَزَلَتْ ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ وَشَهِدَ اللَّه تَعَالَى بِكَذِبِ الْقَاذِفِينَ وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْإِفْكِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَ وَالذَّمَّ وَهَذَا غَايَةُ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ وَرَابِعُهَا: صَيْرُورَتُهَا بِحَالِ تَعَلُّقِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِقَدْحِهَا وَمَدْحِهَا فَإِنَّ اللَّه/ تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ إِفْكًا وَبَالَغَ فِي شَرْحِهِ فَكُلُّ مَنْ يَشُكُّ فِيهِ كَانَ كَافِرًا قَطْعًا وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْقَاذِفِينَ وَجَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى خَيْرًا لَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَارَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ فَصَارَ مَقْطَعَةً لَهُمْ عَنْ إِدَامَةِ هَذَا الْإِفْكِ وَثَانِيهَا: صَارَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ كَانَ هَذَا الذِّكْرُ عُقُوبَةً مُعَجَّلَةً كَالْكَفَّارَةِ وَثَالِثُهَا: صَارَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ تَابَ بَعْضُهُمْ عِنْدَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِالْكَافِ، وَلَمَّا وَصَفَ أَهْلَ الْإِفْكِ جَعَلَ الْخِطَابَ بِالْهَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْسَ مَا اكْتَسَبُوهُ لَا يَكُونُ عُقُوبَةً، فَالْمُرَادُ لَهُمْ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنَ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالْمَذَمَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ قَدْرَ الْعِقَابِ يَكُونُ مِثْلَ قَدْرِ الْخَوْضِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قُرِئَ كِبْرُهُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَهُوَ عِظَمُهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قَالَ الضَّحَّاكُ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ حَسَّانٌ وَمِسْطَحٌ فَجَلَدَهُمَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّه عُذْرَهَا. وَجَلَدَ مَعَهُمَا امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ،
وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ذَكَرَتْ حَسَّانًا وَقَالَتْ: «أَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ؟ فَقَالَتْ إِذَا سَمِعْتُ شِعْرَهُ فِي مَدْحِ الرَّسُولِ رَجَوْتُ لَهُ الْجَنَّةَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه يُؤَيِّدُ حَسَّانًا بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي شِعْرِهِ»
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى»
وَلَعَلَّ اللَّه جَعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ ذَهَابَ بَصَرِهِ، وَالْأَقْرَبُ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَبْدُ اللَّه بْنُ أبي بن سَلُولَ فَإِنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا يَطْلُبُ مَا يَكُونُ قَدْحًا فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَغَيْرُهُ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِيمَا كَانَ يَأْتِي، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ إِضَافَةِ الْكِبْرِ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مُبْتَدِئًا بِذَلِكَ الْقَوْلِ، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ مِثْلُ مَا حَصَلَ لِكُلِّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
وَقِيلَ سَبَبُ تِلْكَ الْإِضَافَةِ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي إِشَاعَةِ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ.
338
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أَيْ عِقَابُ مَا اكْتَسَبَ، وَلَوْ كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ عِقَابًا لَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُمْ صَارَ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُحَابَطَةِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَادَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا سَبَبُ النُّزُولِ
فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُقْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ كُلُّهُمْ رَوَوْا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ اسْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، قَالَتْ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي/ غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَخَرَجَ فِيهَا اسْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ فَحُمِلْتُ فِي هَوْدَجٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرُبَ مِنَ الْمَدِينَةِ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ آذَنَ بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي وَأَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلَيْ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ وَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي طَلَبُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونَنِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ لِخِفَّتِي، فَإِنِّي كُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَظَنُّوا أَنِّي فِي الْهَوْدَجِ وَذَهَبُوا بِالْبَعِيرِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ لَمْ أَجِدْ فِي الْمَكَانِ أَحَدًا فَجَلَسْتُ وَقُلْتُ لَعَلَّهُمْ يَعُودُونَ فِي طَلَبِي فَنِمْتُ، وَقَدْ كَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ يَمْكُثُ فِي الْعَسْكَرِ يَتَتَبَّعُ أَمْتِعَةَ النَّاسِ فَيَحْمِلُهُ إِلَى الْمَنْزِلِ الْآخَرِ لِئَلَّا يَذْهَبَ مِنْهُمْ شَيْءٌ فَلَمَّا رَآنِي عَرَفَنِي، وَقَالَ مَا خَلَّفَكِ عَنِ النَّاسِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَنَزَلَ وَتَنَحَّى حَتَّى رَكِبْتُ، ثُمَّ قَادَ الْبَعِيرَ وَافْتَقَدَنِي النَّاسُ حِينَ نَزَلُوا وَمَاجَ النَّاسُ فِي ذِكْرِي، فَبَيْنَا النَّاسُ كَذَلِكَ إِذْ هَجَمْتُ عَلَيْهِمْ فَتَكَلَّمَ النَّاسُ وَخَاضُوا فِي حَدِيثِي، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَحِقَنِي وَجَعٌ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا عَهِدْتُهُ مِنَ اللُّطْفِ الَّذِي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ فَذَاكَ الَّذِي يُرِيبُنِي، وَلَا أَشْعُرُ بَعْدُ بِمَا جَرَى حَتَّى نَقِهْتُ فَخَرَجْتُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ لِمُهِمٍّ لَنَا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أَمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ وَقُلْتُ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا! فَقَالَتْ وَمَا بَلَغَكِ الْخَبَرُ! فَقُلْتُ وَمَا هُوَ فقال [ت] أَشْهَدُ أَنَّكِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ، ثُمَّ أَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَرَجَعْتُ أَبْكِي، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ كَيْفَ تِيكُمْ، فَقُلْتُ ائْذَنْ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوِيَّ فَأَذِنَ لِي فَجِئْتُ أَبَوِيَّ وَقُلْتُ لِأُمِّي يَا أُمَّهْ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عليك فو اللَّه لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ أَلَمْ تَكُونِي عَلِمْتِ مَا قِيلَ حَتَّى الْآنَ؟ فَأَقْبَلْتُ أَبْكِي فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي فَدَخَلَ عَلَيَّ أَبِي وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ لِأُمِّي مَا يُبْكِيهَا؟ قَالَتْ لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ مَا قِيلَ فِيهَا حَتَّى الْآنَ فَأَقْبَلَ يَبْكِي ثم قال اسْكُتِي يَا بُنَيَّةُ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَاسْتَشَارَهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ فَقَالَ أُسَامَةُ يَا رَسُولَ اللَّه هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّه عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُكَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ وَسَأَلَهَا عَنْ أَمْرِي قَالَتْ بِرَيْرَةُ يَا رَسُولَ اللَّه وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا حَتَّى تَأْتِيَ الدَّاجِنَ فَتَأْكُلَهُ، قَالَتْ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي يَعْنِي عبد اللَّه بن أبي فو اللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ أَعْذُرُكَ يَا رَسُولَ اللَّه مِنْهُ
339
إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مَنِ الْخَزْرَجِ فَمَا أَمَرْتَنَا فَعَلْنَاهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ/ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ كَذَبْتَ واللَّه لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّه لَنَقْتُلَنَّهُ وَإِنَّكَ لَمُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، قَالَتْ
وَمَكَثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ وَلَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحِي اللَّه إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْئًا، ثم قال: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّه وَتُوبِي إليه، فإن العبد إذا تاب اللَّه عليه قالت فما قَضَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، فَاضَ دَمْعِي ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّه، فَقَالَ واللَّه مَا أَدْرِي ما أقول، فقلت لأمي أجنبي عَنِّي رَسُولَ اللَّه فَقَالَتْ واللَّه لَا أَدْرِي مَا أَقُولُ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ مَا أَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرًا إِنِّي واللَّه لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي وَإِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ واللَّه يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونِي واللَّه لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ أَذْكُرِ اسْمَهُ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ [يُوسُفَ: ١٨] قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ وَاضْطَجَعْتُ على فراشي، وأنا واللَّه تَعَالَى يُبَرِّئُنِي وَلَكِنْ واللَّه مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى فَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّه فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّه فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يبرئني اللَّه بها.
قالت فو اللَّه مَا قَامَ رَسُولُ اللَّه مِنْ مَجْلِسِهِ وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه الْوَحْيَ عَلَى نَبِيِّهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ عَنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ، فَسُجِّيَ بِثَوْبٍ وَوُضِعَتْ وسادة تحت رأسه فو اللَّه مَا فَرَغْتُ وَلَا بَالَيْتُ لِعِلْمِي بِبَرَاءَتِي، وَأَمَّا أبواي فو اللَّه مَا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسَيْ أَبَوَيَّ سَتَخْرُجَانِ فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِتَحْقِيقِ مَا قَالَ النَّاسُ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَا واللَّه لَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّه. فَقُلْتُ بِحَمْدِ اللَّه لَا بِحَمْدِكَ وَلَا بِحَمْدِ أَصْحَابِكَ، فَقَالَتْ أُمِّي قَوْمِي إِلَيْهِ، فَقَلْتُ واللَّه لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ أَحَدًا إِلَّا اللَّه أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، فَأَنْزَلَ اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الْعَشْرَ آيَاتٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ واللَّه لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ بَعْدَ هَذَا وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ، فأنزل اللَّه تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النُّورِ: ٢٢] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى واللَّه إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّه لِي فَرَجَّعَ النَّفَقَةَ عَلَى مِسْطَحٍ قَالَتْ فَلَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ فَلَمَّا نَزَلَ ضَرَبَ عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ وَمِسْطَحًا وحمنة وحسان الحد».
[سورة النور (٢٤) : آية ١٢]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِصَّةَ وَذَكَرَ حَالَ الْمَقْذُوفَيْنِ وَالْقَاذِفِينَ عَقَّبَهَا بِمَا يَلِيقُ بها من الآداب والزواجر، هي أنواع:
النوع الأول
340
وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْآدَابِ الَّتِي كَانَ يَلْزَمُهُمُ الْإِتْيَانُ بِهَا، وَ (لَوْلَا) مَعْنَاهُ هَلَّا وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ إِذَا كَانَ يَلِيهِ الْفِعْلُ كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي [الْمُنَافِقُونَ: ١٠] وَقَوْلِهِ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يُونُسَ: ٩٨] فَأَمَّا إِذَا وَلِيَهُ الِاسْمُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ: ٣١] وَقَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النور: ١٠] والمراد كان الواجب على المؤمنين إذا سَمِعُوا قَوْلَ الْقَاذِفِ أَنْ يُكَذِّبُوهُ وَيَشْتَغِلُوا بِإِحْسَانِ الظَّنِّ وَلَا يُسْرِعُوا إِلَى التُّهْمَةِ فِيمَنْ عَرَفُوا فِيهِ الطَّهَارَةَ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلَّا قِيلَ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَنْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ خَيْرًا وَقُلْتُمْ فَلِمَ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَعَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الظَّاهِرِ؟ الْجَوَابُ: لِيُبَالِغَ فِي التَّوْبِيخِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَفِي التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْإِيمَانِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُظَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَّا خَيْرًا، لِأَنَّ دِينَهُ يَحْكُمُ بِكَوْنِ الْمَعْصِيَةِ مَنْشَأً لِلضَّرَرِ وَعَقْلِهِ يَهْدِيهِ إِلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الضَّرَرِ، وَهَذَا يُوجِبُ حصول الظن باحترازه عن العصية، فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْمُقْتَضَى لِلِاحْتِرَازِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي مُقَابَلَتِهِ رَاجِحٌ يُسَاوِيهِ فِي الْقُوَّةِ وَجَبَ إِحْسَانُ الظَّنِّ، وَحَرُمَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّعْنِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بِأَنْفُسِهِمْ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنْ يَظُنَّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١١] وَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٥٤] وَقَوْلُهُ:
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّورِ: ٦١] وَمَعْنَاهُ أَيْ بِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ كَأَنْفُسِكُمْ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لِأُمِّ أَيُّوبَ أَمَا تَرَيْنَ مَا يُقَالُ؟ فَقَالَتْ لَوْ كُنْتَ بَدَلَ صَفْوَانَ أَكُنْتَ تَظُنُّ بِحَرَمِ رَسُولِ اللَّه سُوءًا؟ قَالَ لَا، قَالَتْ وَلَوْ كُنْتُ بَدَلَ عَائِشَةَ مَا خُنْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَائِشَةُ خَيْرٌ مِنِّي وَصَفْوَانُ خَيْرٌ مِنْكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ذَلِكَ مُعَاتَبَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إِذِ الْمُؤْمِنُ لَا يَفْجُرُ بِأُمِّهِ وَلَا الْأُمُّ بِابْنِهَا وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهَا مِنَ الْأُمُورِ فَإِذَا جَرَى عَلَى أَحَدِهِمْ مَكْرُوهٌ فَكَأَنَّهُ جَرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تواصلهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا وجع بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى وَجِعَ كُلُّهُ»
وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ وهل يحل لمن يسمح مَا لَا يَعْرِفُهُ/ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ؟
الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ، لَكِنَّهُ يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْ قَوْلِ الْقَاذِفِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى أَمَارَةٍ وَلَا عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ لِأَنَّ كَوْنَهَا زَوْجَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْصُومِ عَنْ جَمِيعِ الْمُنَفِّرَاتِ كَالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ كَذِبًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ خَيْرًا، وَيُوجِبَ أَنْ يَكُونَ عُقُودُ الْمُسْلِمِينَ وَتَصَرُّفَاتُهُمْ مَحْمُولَةً عَلَى الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَاعْتَرَفَا بِالتَّزْوِيجِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَكْذِيبُهُمَا بَلْ يَجِبُ تَصْدِيقُهُمَا وَزَعَمَ مَالِكٌ أَنَّهُ يَحُدُّهُمَا إِنْ لَمْ يُقِيمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّكَاحِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا قَالَ أَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِيمَنْ بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ إِنَّهُ يُخَالِفُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَجُوزُ وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إِذَا بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إِنَّا نَجْعَلُ الْمِائَةَ بِالْمِائَةِ وَالْفَضْلَ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ منه ريبة توجب التوقف عنها أوردها، قال
341
تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النَّجْمِ: ٢٨].
[سورة النور (٢٤) : آية ١٣]
لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣)
النوع الثاني وَهَذَا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ، وَالْمَعْنَى هَلَّا أَتَوْا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى مُعَايَنَتِهِمْ فِيمَا رَمَوْهَا بِهِ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ أَيْ فَحِينَ لَمْ يُقِيمُوا بَيِّنَةً عَلَى مَا قَالُوا، فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّه أَيْ فِي حُكْمِهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إِذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُمْ كَاذِبِينَ فَلِمَ جَزَمَ بِكَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الَّذِينَ رَمَوْا عَائِشَةَ خَاصَّةً وَهُمْ كَانُوا عِنْدَ اللَّه كَاذِبِينَ الثَّانِي: الْمُرَادُ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّه فِي حُكْمِ الْكَاذِبِينَ فَإِنَّ الْكَاذِبَ يَجِبُ زَجْرُهُ عَنِ الْكَذِبِ، وَالْقَاذِفُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِالشُّهُودِ فَإِنَّهُ يَجِبُ زَجْرُهُ فَلَمَّا كَانَ شَأْنُهُ شَأْنَ الْكَاذِبِ فِي الزَّجْرِ لَا جَرَمَ أُطْلِقَ عليه لفظ الكاذب مجازا.
[سورة النور (٢٤) : آية ١٤]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤)
النوع الثالث وَهَذَا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ أَيْضًا، وَلَوْلَا هَاهُنَا لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَيُقَالُ أَفَاضَ فِي الْحَدِيثِ وَانْدَفَعَ وَخَاضَ، وَفِي الْمَعْنَى وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَلَوْلَا أَنِّي قَضَيْتُ أَنْ أَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِضُرُوبِ النِّعَمِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِمْهَالُ لِلتَّوْبَةِ، وَأَنْ أَتَرَحَّمَ عَلَيْكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ لَعَاجَلْتُكُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى مَا خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ وَالثَّانِي: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، فَيَكُونُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْخِطَابُ لِلْقَذَفَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَهَذَا الْفَضْلُ هُوَ حُكْمُ اللَّه تَعَالَى مِنْ تَأْخِيرِهِ الْعَذَابَ وَحُكْمِهِ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ لِمَنْ تَابَ.
[سورة النور (٢٤) : آية ١٥]
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
النوع الرابع وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الزَّوَاجِرِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إذ ظرف لمسكم أو لأفضتم وَمَعْنَى تَلَقَّوْنَهُ يَأْخُذُهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يُقَالُ تَلَقَّى الْقَوْلَ وَتَلَقَّنَهُ وَتَلَقَّفَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: ٣٧] وَقُرِئَ على الأصل تتلقونه واتلقونه بِإِدْغَامِ الذَّالِ فِي التَّاءِ وَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ لَقِيَهُ بِمَعْنَى لَفِقَهُ وَتُلْقُونَهُ مِنْ إِلْقَائِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بعض وتلقونه، وتألقونه من الولق والألف وَهُوَ الْكَذِبُ، وَتَلِقُونَهُ مَحْكِيَّةٌ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ سُفْيَانَ: سَمِعْتُ أُمِّي تَقْرَأُ إِذْ تَثَقَّفُونَهُ، وَكَانَ أَبُوهَا يَقْرَأُ بِحَرْفِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِارْتِكَابِ ثَلَاثَةِ آثَامٍ وَعَلَّقَ مَسَّ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ بِهَا أَحَدُهَا: تَلَقِّي الْإِفْكِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ لَهُ مَا وَرَاءَكَ؟
فَيُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ الْإِفْكِ حَتَّى شَاعَ وَاشْتَهَرَ فَلَمْ يَبْقَ بَيْتٌ وَلَا نَادٍ إِلَّا طَارَ فِيهِ، فَكَأَنَّهُمْ سَعَوْا فِي إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ
وَذَلِكَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ فَأَمَّا الَّذِي لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ كَالْإِخْبَارِ عَمَّا عُلِمَ كَذِبُهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الْإِسْرَاءِ: ٣٦] فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: بِأَفْواهِكُمْ وَالْقَوْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَعْلُومَ يَكُونُ عِلْمُهُ فِي الْقَلْبِ فَيُتَرْجَمُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ وَهَذَا الْإِفْكُ لَيْسَ إِلَّا قَوْلًا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ عِلْمٌ بِهِ، كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٧] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَصْغِرُونَ ذَلِكَ وهو من عَظِيمٌ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ الثَّانِي: نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً عَلَى أَنَّ عِظَمَ الْمَعْصِيَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِظَنِّ فَاعِلِهَا وَحُسْبَانِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِعِظَمِهَا مِنْ حَيْثُ جَهْلِ كَوْنِهَا عَظِيمًا، / الثَّالِثُ: الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ أَنْ يَسْتَعْظِمَ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يَأْمَنُ أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقِيلَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ.
[سورة النور (٢٤) : آية ١٦]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦)
النوع الخامس [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا] وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآدَابِ، أَيْ هَلَّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُقْتَضَى لِكَوْنِهِمْ تَارِكِينَ لِهَذَا الْفِعْلِ قَائِمٌ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالدِّينُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَنُّ كَوْنِهِمْ تَارِكِينَ لِلْمَعْصِيَةِ أَقْوَى مِنْ ظَنِّ كَوْنِهِمْ فَاعِلِينَ لَهَا، فَلَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ لَكَانَ قَدْ رَجَّحَ الْمَرْجُوحَ عَلَى الرَّاجِحِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيذَاءَ الرَّسُولِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلَّعْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سَبَبٌ لِإِيذَاءِ عَائِشَةَ وَإِيذَاءِ أَبَوَيْهَا وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ عُرِفَ إِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا جِنَايَةَ عُرِفَ صُدُورُهَا عَنْهُمْ، وَذَلِكَ حَرَامٌ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ إِقْدَامٌ على ما يجوز أن يكون سبا لِلضَّرَرِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي التَّبَاعُدَ عَنْهُ لِأَنَّ الْقَاذِفَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ صَادِقًا لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى صِدْقِهِ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لِأَنَّهُ أَشَاعَ الْفَاحِشَةَ، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ كَاذِبًا فَإِنَّهُ فيه يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي صَرِيحُ الْعَقْلِ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»
وَسَادِسُهَا: أَنَّ فِي إِظْهَارِ مَحَاسِنِ النَّاسِ وَسَتْرِ مَقَابِحِهِمْ تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ اللَّه تَعَالَى،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّه»
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ الْقَذْفَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ الْفَصْلُ بَيْنَ لَوْلَا وَبَيْنَ قُلْتُمْ بِالظَّرْفِ؟ قُلْنَا الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْتَرِزُوا أَوَّلَ مَا سَمِعُوا بِالْإِفْكِ عَنِ التَّكَلُّمِ بِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَلِيقُ سُبْحَانَكَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعَجُّبُ مِنْ عِظَمِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ لِأَنَّهُ يُسَبَّحُ اللَّه عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَجِيبِ مِنْ صَانِعِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةُ نَبِيِّهِ فَاجِرَةً الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عن أن يرضى
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ لَا يُعَاقِبَ هَؤُلَاءِ الْقَذَفَةَ الظَّلَمَةَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ أُوجِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَوْنِهِ كَذِبًا قَطْعًا؟
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ بُهْتَانًا، لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّسُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاجِرَةً الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا جَزَمُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا ظَانِّينَ لَهُ بِالْقَلْبِ كَانَ إِخْبَارُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْجَزْمِ كَذِبًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون: ١].
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
النوع السادس [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] وَهَذَا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ، وَالْمَعْنَى يَعِظُكُمُ اللَّه بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ الَّتِي بِهَا تَعْرِفُونَ عِظَمَ هَذَا الذَّنَبِ وَأَنَّ فِيهِ الْحَدَّ وَالنَّكَالَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، لِكَيْ لَا تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ أَبَدًا وَأَبَدُهُمْ مَا دَامُوا أَحْيَاءً مُكَلَّفِينَ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ ذَلِكَ مَنْ قَالَ وَمَنْ سَمِعَ فَلَمْ يُنْكِرْ، لِأَنَّ حَالَهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنْ فَعَلَا مَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ ذَنْبًا، فَبَيَّنَ أَنَّ الْغَرَضَ بِمَا عَرَّفَهُمْ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقَذْفِ مِنَ الْإِيمَانِ وَعَلَى أَنَّ فِعْلَ الْقَذْفِ لَا يَبْقَى مَعَهُ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابُ: هذا معارض بقوله:
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور: ١١] أَيْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى التَّهْيِيجِ فِي الِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ جَمِيعِ مَنْ وَعَظَهُ مُجَانَبَةَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُطِيعُ، فَمِنْ هَذَا الوجه تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ كُلِّهِمُ الطَّاعَةَ وَإِنْ عَصَوْا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا مَعْنَاهُ لِكَيْ لَا تَعُودُوا لِمِثْلِهِ وَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِرَادَةِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا.
المسألة الثَّالِثَةُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى اللَّه تَعَالَى وَاعِظًا لِقَوْلِهِ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا؟ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُعَلِّمًا لِقَوْلِهِ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: ١، ٢].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ مَا بِهِ يَعْرِفُ الْمَرْءُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ عَلِيمًا حَكِيمًا يُؤَثِّرُ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَهُ وَيَجِبُ أَنْ يُطَاعَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا لَا يَجِبُ قَبُولُ تَكْلِيفِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يَنْبَغِي، وَلِأَنَّ/ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَطَاعَهُ فَقَدْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَطَاعَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلطَّاعَةِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ حَكِيمًا فَقَدْ يَأْمُرُهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِذَا أَطَاعَهُ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ يُعَذِّبُ الْمُطِيعَ وَقَدْ يُثِيبُ الْعَاصِيَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلطَّاعَةِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَنْبَغِي وَلَا يُهْمِلُ جَزَاءَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَلِهَذَا ذَكَرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي بِمَا لَا يَنْبَغِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِقُبْحِ الْقَبِيحِ وَعَالِمًا بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ فَيَكُونُ الْعَلِيمُ دَاخِلًا فِي الْحَكِيمِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْحَكِيمِ مُغْنِيًا عَنْهُ. هَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَالْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ فَقَطْ، فَذِكْرُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ يَكُونُ تَكْرَارًا مَحْضًا الْجَوَابُ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى التَّأْكِيدِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ قَبُولُ بَيَانِ اللَّه تَعَالَى لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ عَالِمًا حَكِيمًا، وَالْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ الْقَبَائِحَ فَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقًا لِلْقَبَائِحِ لَمَا جَازَ الِاعْتِمَادُ على وعده ووعيده والجواب: الحكم عِنْدَنَا هُوَ الْعَلِيمُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ لَا اعْتِمَادَ عَلَى قَوْلِهِ الْبَتَّةَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قالت المعتزلة قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أَيْ لِأَجْلِكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَكُمُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ نَفْسَ ذَوَاتِهِمْ بَلِ الْغَرَضُ حُصُولَ انْتِفَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَعَلَ بِهِمْ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لكان ذلك غرضا.
[سورة النور (٢٤) : آية ١٩]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩)
النوع السابع اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا عَلَى أَهْلِ الْإِفْكِ وَمَا عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ آدَابِ الدِّينِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ لِيُعْلَمَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ فَقَدْ شَارَكَ فِي هَذَا الذَّمِّ كَمَا شَارَكَ فِيهِ مَنْ فَعَلَهُ وَمَنْ لَمْ يُنْكِرْهُ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ أَهْلَ الْأَفْكِ كَمَا عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ فِيمَا أَظْهَرُوهُ، فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ بِمَا أَسَرُّوهُ مِنْ مَحَبَّةِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَوُجُوبِ كَفِّ الجوارح والقول عما يضربهم، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: مَعْنَى الْإِشَاعَةِ الِانْتِشَارُ يُقَالُ فِي هَذَا الْعَقَارِ سَهْمٌ شَائِعٌ إِذَا كَانَ فِي الْجَمِيعِ وَلَمْ يَكُنْ مُنْفَصِلًا، وَشَاعَ الْحَدِيثُ إِذَا ظَهَرَ فِي الْعَامَّةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَذْفِ عَائِشَةَ إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِقَذَفَةِ عَائِشَةَ قوله تعالى فِي: الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُ صِيغَةُ جَمْعٍ وَلَوْ أَرَادَ عَائِشَةَ وَحْدَهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ خَصَّصُوهُ بِقَذَفَةِ عَائِشَةَ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَعَى فِي إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ قَالُوا مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّه أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ أَيْ الزِّنَا فِي الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ فِي عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ.
345
المسألة الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ قَوْمًا يَضْرِبُونَ صُدُورَهُمْ ضَرْبًا يَسْمَعُهُ أَهْلُ النَّارِ، وَهُمُ الْهَمَّازُونَ اللَّمَّازُونَ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيَهْتِكُونَ سُتُورَهُمْ وَيُشِيعُونَ فِيهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ مَا لَيْسَ فِيهِمْ»
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ عَوْرَةَ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا سَتَرَهُ اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا صَفْقَتَهُ أَقَالَ اللَّه عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ عَوْرَتَهُ سَتَرَ اللَّه عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ»
وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه وَيُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ»
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ».
المسألة الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْحَدُّ وَاللَّعْنُ وَالْعَدَاوَةُ مِنَ اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ، ضَرَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّه بن أبي وحسان ومسطح، وَقَعَدَ صَفْوَانُ لِحَسَّانَ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ فَكَفَّ بَصَرَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ عَنَى بِهِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنْ يَغُمُّوا رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ أَرَادَ غَمَّ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَعَذَابُهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَا كَانُوا يَتْعَبُونَ فِيهِ وَيُنْفِقُونَ لِمُقَاتَلَةِ أَوْلِيَائِهِمْ مَعَ أَعْدَائِهِمْ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الَّذِينَ يُحِبُّونَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ يُحِبُّونَ ذَلِكَ فَأَوْعَدَهُمُ اللَّه تَعَالَى الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا عَلَى يَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُجَاهَدَةِ لِقَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: ٧٣] وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَذَابِ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِإِفْكِهِمْ وَهُوَ الْحَدُّ وَاللَّعْنُ وَالذَّمُّ. فَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي الْقَبْرِ عَذَابُهُ، وَفِي الْقِيَامَةِ عَذَابُ النَّارِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَهُوَ حَسَنُ الْمَوْقِعِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ مَحَبَّةَ الْقَلْبِ كَامِنَةٌ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا إِلَّا بِالْأَمَارَاتِ، أَمَّا اللَّه سُبْحَانَهُ فَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَصَارَ هَذَا الذِّكْرُ نِهَايَةً فِي الزَّجْرِ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ إِشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وَإِنْ بَالَغَ فِي إِخْفَاءِ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ الَّذِي أَخْفَاهُ كَعِلْمِهِ بِالَّذِي أَظْهَرَهُ وَيَعْلَمُ قَدْرَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
المسألة الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الذَّنْبِ الْعَظِيمِ عَظِيمٌ، وَأَنَّ إِرَادَةَ الْفِسْقِ فِسْقٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِمَحَبَّةِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ.
المسألة السَّادِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَاذِفٍ لَمْ يَتُبْ مِنْ قَذْفِهِ فَلَا ثَوَابَ لَهُ مِنْ حَيْثُ اسْتَحَقَّ هَذَا الْعَذَابَ الدَّائِمَ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ، فَمِنْ هَذَا الوجه تَدُلُّ عَلَى مَا نَقُولُهُ فِي الْوَعِيدِ، وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى مَسْأَلَةِ الْمُحَابَطَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
المسألة السَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى بَالَغَ فِي ذَمِّ مَنْ أَحَبَّ إِشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَمَا كَانَ مُشِيعُ الْفَاحِشَةِ إِلَّا هُوَ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الذَّمَّ عَلَى إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ تِلْكَ الْإِشَاعَةَ وَغَيْرَهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْهَا، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُصَابَةُ بِالْفُجُورِ لَا تُسْتَنْطَقُ، لِأَنَّ استنطاقها إشاعة للفاحشة وذلك ممنوع منه.
346

[سورة النور (٢٤) : آية ٢٠]

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
النوع الثامن وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَلَكْتُمْ أَوْ لَعَذَّبَكُمُ اللَّه وَاسْتَأْصَلَكُمْ لَكِنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْخِطَابُ لِحَسَّانَ وَمِسْطَحٍ وَحَمْنَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ عَامًّا والثاني: جوابه في قوله:
ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النُّورِ: ٢١] وَالثَّالِثُ: جَوَابُهُ لَكَانَتِ الْفَاحِشَةُ تَشِيعُ فَتَعْظُمُ الْمَضَرَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [النور: ٢١] كَالْمُنْفَصِلِ مِنَ الْأَوَّلِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَوَّلِ، خُصُوصًا وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ كَلَامٌ آخَرُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْلَا إِنْعَامُهُ بِأَنْ بَقِيَ وَأَمْهَلَ وَمَكَّنَ مِنَ التَّلَافِي لَهَلَكُوا، لَكِنَّهُ لِرَأْفَتِهِ لَا يَدَعُ مَا هُوَ لِلْعَبْدِ أَصْلَحُ وإن جنى على نفسه.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
النوع التَّاسِعُ قُرِئَ خُطُوَاتِ بِضَمِّ الطَّاءِ وَسُكُونِهَا، وَالْخُطُوَاتِ جَمْعُ خُطْوَةٍ وَهُوَ مِنْ خَطَا الرَّجُلُ يَخْطُو خَطْوًا، فَإِذَا أَرَدْتَ الْوَاحِدَةَ قُلْتَ خَطْوَةٌ مَفْتُوحَةَ الْأَوَّلِ، وَالْجَمْعُ يُفْتَحُ أَوَّلُهُ وَيَضُمُّ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ السِّيرَةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَّبِعُوا آثَارَ الشَّيْطَانِ وَلَا تَسْلُكُوا مَسَالِكَهُ فِي الْإِصْغَاءِ إِلَى الْإِفْكِ وَالتَّلَقِّي لَهُ وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، واللَّه تَعَالَى وَإِنْ خَصَّ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ نَهْيٌ لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ الْمُكَلَّفِينَ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْكُفَّارَ لَكَانُوا قَدِ اتَّبَعُوهُ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا عَلَى أَهْلِ الْإِفْكِ مِنَ الْوَعِيدِ أَدَّبَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، بِأَنْ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِيَتَشَدَّدُوا فِي تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، لِئَلَّا يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْفَحْشَاءِ وَالْفَاحِشَةُ ما أفرط قيحه، وَالْمُنْكَرُ مَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ فَتَنْفِرُ عَنْهُ وَلَا تَرْتَضِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً فَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مَا زَكَّى بِالتَّشْدِيدِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّكِيَّ مَنْ بَلَغَ فِي طَاعَةِ اللَّه مَبْلَغَ الرِّضَا وَمِنْهُ يُقَالُ زَكَى الزَّرْعُ، فَإِذَا بَلَغَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ إِلَى مَا يَرْضَاهُ اللَّه تَعَالَى سُمِّيَ زَكِيًّا، وَلَا يُقَالُ زَكِيٌّ إِلَّا إِذَا وُجِدَ زَكِيًّا، كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ الْهُدَى هَدَاهُ اللَّه تَعَالَى مُطْلَقًا، بَلْ يُقَالُ هُدَاهُ اللَّه فَلَمْ يَهْتَدِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ فَقَالُوا التَّزْكِيَةَ كَالتَّسْوِيدِ وَالتَّحْمِيرِ فَكَمَا أَنَّ التَّسْوِيدَ تَحْصِيلُ السَّوَادِ، فَكَذَا التَّزْكِيَةُ تَحْصِيلُ الزَّكَاءِ فِي الْمَحَلِّ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَاهُنَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُ التَّزْكِيَةِ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ وَالثَّانِي: حَمْلُهَا عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِ الْعَبْدِ زَكِيًّا، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْوَجْهَانِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ نقيم الدلالة
الْعَقْلِيَّةَ عَلَى بُطْلَانِهِمَا أَيْضًا أَمَّا الوجه الْأَوَّلُ: فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ اللُّطْفِ هَلْ يُرَجِّحُ الدَّاعِيَ أَوْ لَا يُرَجِّحُهُ فَإِنْ لَمْ يُرَجِّحْهُ الْبَتَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهِ تَعَلُّقٌ فَلَا يَكُونُ لُطْفًا، وَإِنْ رَجَّحَهُ فَنَقُولُ الْمُرَجَّحُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا إِلَى حَدِّ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ التَّرْجِيحِ إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ وُقُوعُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ أَوْ يُمْكِنَ أَوْ يَجِبَ، فَإِنِ امْتَنَعَ كَانَ مَانِعًا لَا دَاعِيًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَلْيُفْرَضْ تَارَةً وَاقِعًا وَأُخْرَى غَيْرَ وَاقِعٍ، فَامْتِيَازُ وَقْتِ الْوُقُوعِ عَنْ وَقْتِ اللَّاوُقُوعِ، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى انْضِمَامِ قَيْدٍ إِلَيْهِ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، فَإِنْ تَوَقَّفَ كَانَ الْمُرَجَّحُ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْحَاصِلُ بَعْدَ انْضِمَامِ هَذَا الْقَيْدِ، فَلَا يَكُونُ الْحَاصِلُ أَوَّلًا مُرَجَّحًا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ كَانَ اخْتِصَاصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ بِالْوُقُوعِ وَالْآخَرِ بِاللَّاوُقُوعِ تَرْجِيحًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا إِنَّ اللُّطْفَ مُرَجِّحًا مُوجِبًا كَانَ فَاعِلُ اللُّطْفِ فَاعِلًا لِلْمَلْطُوفِ فِيهِ، فَكَانَ تَعَالَى فَاعِلًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ عَلَّقَ التَّزْكِيَةَ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَفِعْلُ اللُّطْفِ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَّقَ التَّزْكِيَةَ عَلَى الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَخَلْقُ/ الْأَلْطَافِ وَاجِبٌ فَلَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَأَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ زَكِيًّا فَذَلِكَ واجب لأنه لو يُحْكَمْ بِهِ لَكَانَ كَذِبًا وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ؟ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ نَصٌّ فِي الْبَابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَقْوَالَكُمْ فِي الْقَذْفِ وَأَقْوَالَكُمْ فِي إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ، عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ مَحَبَّةِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ أَوْ مِنْ كَرَاهِيَتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ معصيته.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٢]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَدَّبَ أَهْلَ الْإِفْكِ وَمَنْ سَمِعَ كَلَامَهُمْ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَكَذَلِكَ أَدَّبَ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ أَبَدًا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ كَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَرَابَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ قُومُوا فَلَسْتُمْ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْكُمْ وَلَا يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَقَالَ مِسْطَحٌ أَنْشُدُكَ اللَّه وَالْإِسْلَامَ وَأَنْشُدُكَ الْقُرَابَةَ وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تُحْوِجَنَا إِلَى أَحَدٍ، فَمَا كَانَ لَنَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ ذَنْبٍ، فَقَالَ لِمِسْطَحٍ إِنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ فَقَدْ ضَحِكْتَ! فَقَالَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِ حَصَانٍ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، وَقَالَ انْطَلِقُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَلْ لَكُمْ عُذْرًا وَلَا فَرَجًا، فَخَرَجُوا لَا يدرون أين يذهبون وأن يَتَوَجَّهُونَ مِنَ الْأَرْضِ، فَبَعَثَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا يَنْهَاكَ فِيهِ أَنْ تُخْرِجَهُمْ فَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ وَسَرَّهُ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عَلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُغْفَرَ لِي، وَقَدْ تَجَاوَزْتُ عَمَّا كَانَ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى بَيْتِهِ وَأَرْسَلَ إِلَى مِسْطَحٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ قَبِلْتُ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُ بِكُمْ مَا فَعَلْتُ إِذْ سَخِطَ اللَّه عَلَيْكُمْ، أَمَّا إِذَا عَفَا عَنْكُمْ فَمَرْحَبًا بِكُمْ، وَجَعَلَ لَهُ مِثْلَيْ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْتَلِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنِ ائْتَلَى إِذَا حَلَفَ، افْتَعَلَ مِنَ الْأَلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى لَا يَحْلِفُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ هَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: / أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَهُمْ أَرَادُوا الْمَنْعَ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْإِعْطَاءِ، فَهَذَا الْمُتَأَوِّلُ قَدْ
348
أَقَامَ النَّفْيَ مَكَانَ الْإِيجَابِ وَجَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَأْمُورًا بِهِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ افْتَعَلْتُ مَكَانَ أَفْعَلْتُ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ مَكَانَ فَعَّلْتُ، وَهُنَا آلَيْتُ مِنَ الْأَلِيَّةِ افْتَعَلْتُ. فَلَا يُقَالُ أَفْعَلْتُ كَمَا لَا يُقَالُ مِنْ أَلْزَمْتُ الْتَزَمْتُ وَمِنْ أَعْطَيْتُ اعْتَطَيْتُ، ثم قال فِي يَأْتَلِ إِنَّ أَصْلَهُ يَأْتَلِي ذَهَبَتِ الْيَاءُ لِلْجَزْمِ لِأَنَّهُ نَهْيٌ وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ مَا آلَوْتُ فُلَانًا نُصْحًا، وَلَمْ آلُ فِي أَمْرِي جُهْدًا، أَيْ مَا قَصَّرْتُ وَلَا يَأْلُ وَلَا يَأْتَلِ وَاحِدًا، فَالْمُرَادُ لَا تُقَصِّرُوا فِي أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَيُوجَدُ كَثِيرًا افْتَعَلْتُ مَكَانَ فَعَلْتُ تَقُولُ كَسَبْتُ وَاكْتَسَبْتُ وَصَنَعْتُ وَاصْطَنَعْتُ وَرَضِيتُ وَارْتَضَيْتُ، فَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الصَّحِيحُ دُونَ الْأَوَّلِ، وَيُرْوَى هَذَا التَّأْوِيلُ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. أَجَابَ الزَّجَّاجُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِأَنْ لَا تُخْذَفُ فِي الْيَمِينِ كَثِيرًا قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا [الْبَقَرَةِ: ٢٢٤] يَعْنِي أَنْ لَا تَبَرُّوا، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّه أَبْرَحُ قَاعِدًا وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي إِلَيْكِ وَأَوْصَالِي
أَيْ لَا أَبْرَحُ، وَأَجَابُوا عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي، أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ فَسَّرُوا اللَّفْظَةَ بِالْيَمِينِ وَقَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ فَكَيْفَ الْكُلُّ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَلَا يَتَأَلَّ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أُولُوا الْفَضْلِ أَبُو بَكْرٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ أَفْضَلَ النَّاسِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الدِّينِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لَهُ، وَالْمَدْحُ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِالدُّنْيَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَالسَّعَةِ تَكْرِيرًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْفَضْلَ فِي الدِّينِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الدَّرَجَاتِ فِي الدِّينِ لَمْ يَكُنْ هُوَ صَاحِبَ الْفَضْلِ لِأَنَّ الْمُسَاوِيَ لَا يَكُونُ فَاضِلًا، فَلَمَّا أَثْبَتَ اللَّه تَعَالَى لَهُ الْفَضْلَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ الْخُلُقِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَإِنْ قِيلَ نَمْنَعُ إِجْمَاعَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَبِي بَكْرٍ، قُلْنَا كُلُّ مَنْ طَالَعَ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَالْأَحَادِيثِ عَلِمَ أَنَّ اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَبِي بَكْرٍ بَالِغٌ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، فَلَوْ جَازَ مَنْعُهُ لَجَازَ مَنْعُ كُلِّ مُتَوَاتِرٍ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ إِمَّا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٌّ، فَإِذَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ عَلِيًّا تَعَيَّنَتِ الْآيَةُ لِأَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَلِيًّا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يَتَعَلَّقُ بِابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ فَيَكُونُ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الْبَيْنِ سَمِجًا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أُولِي السَّعَةِ، وَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أُولِي السَّعَةِ فِي الدُّنْيَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ قَطْعًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ عَجِيبَةٍ دَالَّةٍ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ فِي الدِّينِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَنَّى عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَالْوَاحِدُ إِذَا كُنِّيَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ دَلَّ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ/ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: ٩]، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: ١] فَانْظُرْ إِلَى الشَّخْصِ الَّذِي كَنَّاهُ اللَّه سُبْحَانَهُ مَعَ جَلَالِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَيْفَ يَكُونُ عُلُوُّ شَأْنِهِ! وَثَانِيهَا: وَصَفَهُ بِأَنَّهُ صَاحِبُ الْفَضْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِذَلِكَ بِشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، وَالْفَضْلُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِفْضَالُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَمَا كَانَ فَاضِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ مُفَضَّلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِفْضَالَ إِفَادَةُ مَا يَنْبَغِي لَا لِعِوَضٍ، فَمَنْ يَهَبُ السِّكِّينَ لِمَنْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ لَا يُسَمَّى مُفَضَّلًا لِأَنَّهُ أَعْطَى مَا لَا يَنْبَغِي، وَمَنْ أَعْطَى لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ عِوَضًا إِمَّا مَالِيًّا أَوْ مَدْحًا أَوْ ثَنَاءً فَهُوَ مُسْتَفِيضٌ واللَّه تَعَالَى قَدْ وَصَفَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ
349
نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى
[اللَّيْلِ: ١٧- ٢٠] وَقَالَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَانِ: ٩، ١٠] فِعَلِيٌّ أَعْطَى لِلْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ، وَأَبُو بَكْرٍ مَا أَعْطَى إِلَّا لِوَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، فَدَرَجَةُ أَبِي بَكْرٍ أَعْلَى فَكَانَتْ عَطِيَّتُهُ فِي الْإِفْضَالِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ فَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّمْيِيزِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَيَّزَهُ عَنْ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَةِ كَوْنِهِ أُولِي الْفَضْلِ، وَالصِّفَةُ الَّتِي بِهَا يَقَعُ الِامْتِيَازُ يَسْتَحِيلُ حُصُولُهَا فِي الْغَيْرِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ مُمَيِّزَةً لَهُ بِعَيْنِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ خَاصَّةٌ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ الْبَتَّةَ وَخَامِسُهَا: أَمْكَنَ حَمْلُ الْفَضْلِ عَلَى طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى وَخِدْمَتِهِ وَقَوْلُهُ: وَالسَّعَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِلتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه وَهُمَا مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدِّيقِينَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّه مَعَهُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَلِأَجْلِ اتِّصَافِهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ قَالَ لَهُ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: ٤٠] وَسَادِسُهَا: إِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مَوْصُوفًا بِالسَّعَةِ لَوْ كَانَ جَوَّادًا بَذُولًا،
وَلَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ»
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَقَدْ كَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ جَوَّادًا بَذُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ جُودِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ بُكْرَةَ الْيَوْمِ جَاءَ بِعُثْمَانَ بْنُ عَفَّانَ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمُوا عَلَى يَدِهِ، وَكَانَ جُودُهُ فِي التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الدِّينِ وَالْبَذْلِ بِالدُّنْيَا كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ، فَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَةِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ إِسْلَامِ عَلِيٍّ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَكِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا حِينَ أَسْلَمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَغَلَ بِالدَّعْوَةِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ النَّاسِ اشْتِغَالًا بِالدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَجَلَّ الْمَرَاتِبِ فِي الدِّينِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ
وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِأَبِي بَكْرٍ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ يَدْعُو إِلَى اللَّه، فَيَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَيْضًا وَسَابِعُهَا: أَنَّ الظُّلْمَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشُدُّ مَضَاضَةً عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
وَأَيْضًا فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى غَيْرِهِ فَإِذَا قَابَلَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِالْإِسَاءَةِ كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِمَّا إِذَا صَدَرَتِ الْإِسَاءَةُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَالْجِهَتَانِ كَانَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فِي حَقِّ مِسْطَحٍ ثُمَّ إِنَّهُ آذَى أَبَا بَكْرٍ بِهَذَا النوع مِنَ الْإِيذَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ، فَانْظُرْ أَيْنَ مَبْلَغُ ذَلِكَ الضَّرَرِ فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَقْطَعَ عَنْهُ بِرَّهُ وَأَنْ يَرْجِعَ مَعَهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَصْعَبُ مِنْ مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذَا مُجَاهَدَةٌ مَعَ النَّفْسِ وَذَلِكَ مُجَاهَدَةٌ مَعَ الْكَافِرِ وَمُجَاهَدَةُ النَّفْسِ أَشَقُّ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»
وَثَامِنُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بِذَلِكَ لَقَّبَهُ بِأُولِي الْفَضْلِ وَأُولِي السَّعَةِ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُقَابِلَ إِسَاءَتَهُ بِشَيْءٍ وَأَنْتَ أَوْسَعُ قَلْبًا مِنْ أَنْ تُقِيمَ لِلدُّنْيَا وَزْنًا، فَلَا يَلِيقُ بِفَضْلِكَ وَسَعَةِ قَلْبِكَ أَنْ تَقْطَعَ بِرَّكَ عَنْهُ بِسَبَبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْفَضْلِ وَالْعُلُوِّ فِي الدِّينِ وَتَاسِعُهَا: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يُفِيدَانِ الْعُمُومَ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْفَضْلِ وَالسَّعَةِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْفَضْلِ وَكُلَّ السَّعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الْعَالَمُ يَعْنِي قَدْ بَلَغَ فِي الْفَضْلِ
350
إِلَى أَنْ صَارَ كَأَنَّهُ كُلُّ الْعَالَمِ وَمَا عداه كالعدم، وهذا وأيضا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وَفِيهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا: أَنَّ الْعَفْوَ قَرِينَةُ التَّقْوَى وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْوَى فِي الْعَفْوِ كَانَ أَقْوَى فِي التَّقْوَى، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١٣] وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَفْوَ وَالتَّقْوَى مُتَلَازِمَانِ فَلِهَذَا السَّبَبِ اجْتَمَعَا فِيهِ، أَمَّا التَّقْوَى فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [اللَّيْلِ: ١٧] وَأَمَّا الْعَفْوُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وحادي عاشرها: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [الْمَائِدَةِ: ١٣] وَقَالَ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فَمِنْ هَذَا الوجه يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ حَتَّى فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَثَانِيَ عَشَرَهَا: قَوْلُهُ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَهُ بِكِنَايَةِ الْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ غُفْرَانَهُ لَهُ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ فَلَمَّا حَصَلَ الشَّرْطُ مِنْهُ وَجَبَ تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ فِي مُسْتَقْبَلِ عُمُرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مِنْ هَذَا الوجه ثَانِيَ اثْنَيْنِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْحِ: ٢] وَدَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّ إِمَامَتَهُ لَوْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ لَمَا كَانَ مَغْفُورًا لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَدَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِ بِشَارَةِ الْعَشَرَةِ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَثَالِثَ عَشَرَهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْغَفُورُ مُبَالَغَةٌ فِي الْغُفْرَانِ، فَعَظَّمَ أَبَا بَكْرٍ حَيْثُ خَاطَبَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الدل عَلَى التَّعْظِيمِ، وَعَظَّمَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ وَصَفَهُ بِمُبَالَغَةِ الْغُفْرَانِ، وَالْعَظِيمُ إِذَا عَظَّمَ نَفْسَهُ ثُمَّ عَظَّمَ مُخَاطِبَهُ فَالْعَظَمَةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُ لِأَجْلِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ التَّعْظِيمِ، وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: ١] وَجَبَ أَنْ تَكُونَ/ الْعَطِيَّةُ عَظِيمَةً، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ثَانِيَ اثْنَيْنِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ أَيْضًا وَرَابِعَ عَشَرَهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لما وصفه بأنه أولوا الْفَضْلِ وَالسَّعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْمَمْدُوحَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَوْ كَانَ عَاصِيًا لَكَانَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: ١٤] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْمَعَاصِي فَقَوْلُهُ: يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غُفْرَانَ مَعْصِيَةٍ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي لَا تَكُونُ لَا يُمْكِنُ غُفْرَانُهَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ واللَّه أَعْلَمُ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لِأَجْلِ تَعْظِيمِكُمْ هَؤُلَاءِ الْقَذَفَةَ الْعُصَاةَ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْآيَةِ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنْ قَبِلْتَ هَؤُلَاءِ الْعُصَاةَ فَأَنَا أَيْضًا أَقْبَلُهُمْ وَإِنْ رَدَدْتَهُمْ، فَأَنَا أَيْضًا أَرُدُّهُمْ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ مَرْتَبَةَ الشَّفَاعَةِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ واللَّه أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ:
هَذِهِ الْآيَةُ تَقْدَحُ فِي فَضِيلَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ هَذَا الْحَلِفِ فَدَلَّ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ قُلْنَا الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: ٤٨] وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطَاعَهُمْ بَلْ دَلَّتِ الْأَخْبَارُ الظَّاهِرَةُ عَلَى صُدُورِ هَذَا الْحَلِفِ مِنْهُ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى قَوْلِكُمْ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَلِفُ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ كَانَ مَعْصِيَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنَ التَّفَضُّلِ قَدْ يَحْسُنُ خُصُوصًا فِيمَنْ يُسِيءُ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ أَوْ فِي حَقِّ مَنْ يَتَّخِذُهُ ذَرِيعَةً إِلَى الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُقَالُ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً لَمَا جَازَ أَنْ يَنْهَى اللَّه عَنْهُ بقوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ نَهْيَ زَجْرٍ وَتَحْرِيمٍ بَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِ
351
الْأَوْلَى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ اللَّائِقُ بِفَضْلِكَ وَسَعَةِ هِمَّتِكَ أَنْ لَا تَقْطَعَ هَذَا فَكَانَ هَذَا إِرْشَادًا إِلَى الْأَوْلَى لَا مَنْعًا عَنِ الْمُحَرَّمِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِسْطَحٌ لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا لِأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَذَفَ كَمَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَدَّهُ وَأَنَّهُ تَابَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ تَارِكًا لِلنُّكْرِ وَمِظْهِرًا لِلرِّضَا، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فَهُوَ ذَنْبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْمُحَابَطَةِ وَقَالُوا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّه بَعْدَ أَنْ أَتَى بِالْقَذْفِ، وَهَذِهِ صِفَةُ مَدْحٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ كَوْنِهِ مُهَاجِرًا لَمْ يُحْبَطْ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقَذْفِ.
المسألة الْخَامِسَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِسْطَحًا كَانَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ وَثَبَتَ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّه نَظَرَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»
فَكَيْفَ/ صَدَرَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَدْرِيًّا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ مِنَ الْمَعَاصِي فَيَأْمُرُ بِهَا أَوْ يُقِيمُهَا لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّكْلِيفَ كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِمْ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لَاقْتَضَى زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يُحَدَّ مِسْطَحٌ عَلَى مَا فَعَلَ وَيُلْعَنُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ علم توبتهم وإنابتهم قال افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَأَعْطَيْتُكُمُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ فِي الْجَنَّةِ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُوَافُونَ بِالطَّاعَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ لِعِلْمِي بِأَنَّكُمْ تَمُوتُونَ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ فَذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الْوَقْتِ وَأَرَادَ الْعَاقِبَةَ.
المسألة السَّادِسَةُ: الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ عَنِ الْمُسِيءِ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ لَكَفَى، أَلَا ترى إل قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النُّورِ: ٢٢] فَعَلَّقَ الْغُفْرَانَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرًا لِمُتَنَصِّلٍ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا فَلَا يَرِدُ عَلَى حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَفْوُ»
وَعَنْهُ أَيْضًا: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّه أَجْرٌ فَلْيَقُمْ فَلَا يَقُومُ إِلَّا أَهْلُ الْعَفْوِ، ثُمَّ تَلَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه»
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا: «لَا يَكُونُ الْعَبْدُ ذَا فَضْلٍ حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ».
المسألة السَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْخَيْرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ دَاعِيَةً لِلْخَيْرِ لَا صَارِفَةً عَنْهُ.
المسألة الثَّامِنَةُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها أنا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ يَأْتِي بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ وَاحْتَجَّ ذَلِكَ الْقَائِلُ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بِالْحِنْثِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ»
وَأَمَّا دَلِيلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [الْمَائِدَةِ: ٨٩] فَكَفَّارَتُهُ وَقَوْلُهُ:
352
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ [الْمَائِدَةِ: ٨٩] وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْحَانِثِ فِي الْخَيْرِ وَغَيْرِهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَيُّوبَ حِينَ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يَضْرِبَهَا وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: ٤٤] وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ وَأَمَرَهُ اللَّه بِضَرْبٍ لَا يَبْلُغُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا كَفَّارَتُهَا لَمَا أُمِرَ بِضَرْبِهَا بَلْ كَانَ يَحْنَثُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»
أَمَّا الْجَوَابُ: عَمَّا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَمْرَ الْكَفَّارَةِ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا لِأَنَّ حُكْمَهُ كَانَ مَعْلُومًا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَالْجَوَابُ: عَمَّا ذَكَرَهُ ثَانِيًا
فِي قَوْلِهِ: «وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ»
فَمَعْنَاهُ تَكْفِيرُ الذَّنْبِ لَا الْكَفَّارَةُ/ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ فَأَمَرَهُ هَاهُنَا بِالْحِنْثِ وَالتَّوْبَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ ذَنْبَهُ الَّذِي ارْتَكَبَهُ بِالْحَلِفِ.
المسألة التَّاسِعَةُ: رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فَضَلْتُ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ خِصَالٍ تَزَوَّجَنِي رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا دُونَ غَيْرِي، وَأَبَوَايَ مُهَاجِرَانِ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصُورَتِي فِي حَرِيرَةٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِي، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ مَعَهُ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ وَأَنَا مَعَهُ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَتَزَوَّجَنِي فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ، وَقُبِضَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُسَاوِنِي غَيْرِي فِيهِ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَرَّأَ اللَّه أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةٍ: بَرَّأَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلِسَانِ الشَّاهِدِ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَبَرَّأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ بِالْحَجَرِ الَّذِي ذَهَبَ بِثَوْبِهِ، وَبَرَّأَ مَرْيَمَ بِإِنْطَاقِ وَلَدِهَا، وَبَرَّأَ عَائِشَةَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْعِظَامِ فِي كِتَابِهِ الْمُعْجِزِ الْمَتْلُوِّ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ عَائِشَةَ جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَجِيءُ الْآنَ فَيُثْنِي عَلَيَّ، فَخَبَّرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مَا أَرْجِعُ حَتَّى تَأْذَنَ لِي، فَأَذِنَتْ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَعُوذُ باللَّه مِنَ النَّارِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مالك وَالنَّارَ قَدْ أَعَاذَكِ اللَّه مِنْهَا، وَأَنْزَلَ بَرَاءَتَكِ تقرأ في المساجد وطيبك فقال: الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النُّورِ: ٢٦] كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُحِبَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا طَيِّبًا وَأُنْزِلَ بِسَبَبِكِ التَّيَمُّمُ فَقَالَ: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النِّسَاءِ: ٤٣] وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَزَيْنَبَ تَفَاخَرَتَا، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: أَنَا الَّتِي أَنْزَلَ رَبِّي تَزْوِيجِي، وَقَالَتْ عَائِشَةُ أَنَا الَّتِي بَرَّأَنِي رَبِّي حِينَ حَمَلَنِي ابْنُ الْمُعَطَّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَقَالَتْ لَهَا زَيْنَبُ: مَا قُلْتِ حِينَ رَكِبْتِيهَا؟ قَالَتْ قُلْتُ: حَسْبِيَ اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَتْ قُلْتِ كَلِمَةَ المؤمنين.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ هَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصُ؟ أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَقَالُوا الصِّيغَةُ عَامَّةٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِجْرَائِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ فِيهِ قَذَفَةُ عَائِشَةَ وَقَذَفَةُ غيرها، ومن الناس من خالف فيه ذكر وُجُوهًا: أَحَدُهَا:
أَنَّ الْمُرَادَ قَذَفَةُ عَائِشَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ: «رُمِيتُ وَأَنَا غَافِلَةٌ وَإِنَّمَا بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدِي إِذْ
353
أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ فَقَالَ أَبْشِرِي وَقَرَأَ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ جُمْلَةُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُنَّ لِشَرَفِهِنَّ خُصِّصْنَ بِأَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ فَهَذَا الْوَعِيدُ لَاحِقٌ بِهِ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ قَاذِفَ سَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [النُّورِ: ٤- ٥] وَأَمَّا الْقَاذِفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِثْنَاءَ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا [الْأَحْزَابِ: ٦١]، الثَّانِي: أَنَّ قَاذِفَ سَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ لَا يَكْفُرُ، وَالْقَاذِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَكْفُرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَذَلِكَ صِفَةُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فُصِّلَتْ: ١٩] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ يَكُونُ عَذَابَ الْكُفْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِقَابَ هَذَا الْقَاذِفِ عِقَابُ الْكُفْرِ، وَعِقَابَ قَذْفِهِ سَائِرَ الْمُحْصَنَاتِ لَا يَكُونُ عِقَابَ الْكُفْرِ الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَكَانَ يُسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَسُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِلَّا مَنْ خَاضَ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ، أَجَابَ الْأُصُولِيُّونَ عَنْهُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الذَّنْبَ سَوَاءٌ كَانَ كُفْرًا أَوْ فِسْقًا، فَإِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ صَارَ مَغْفُورًا فَزَالَ السؤال، ومن الناس ذَكَرَ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا خَرَجَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرَةً قَذَفَهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالُوا إِنَّمَا خَرَجَتْ لِتَفْجُرَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَنْ يَرْمِي الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: كَوْنُهُمْ مَلْعُونِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِاللَّعْنِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْقَذَفَةِ وَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي الْآخِرَةِ وَالْمَلْعُونُ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْمُحَابَطَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ وَثَانِيهَا: وقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فُصِّلَتْ: ٢١] وَعِنْدَنَا الْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّه تَعَالَى فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَكَلَامًا، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلَا جَرَمَ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ فِي هَذِهِ/ الْجَوَارِحِ هَذَا الْكَلَامَ، وَعِنْدَهُمُ الْمُتَكَلِّمُ فَاعِلُ الْكَلَامِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَضَافَهَا إِلَى الْجَوَارِحِ تَوَسُّعًا الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَبْنِي هَذِهِ الْجَوَارِحَ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيُلْجِئُهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ وَتُخْبِرَ عَنْهُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهَا تَفْعَلُ الشَّهَادَةَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ نَفْسَ دِينِهِمْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ دِينَهُمْ هُوَ عَمَلُهُمْ. بَلِ الْمُرَادُ جَزَاءُ عَمَلِهِمْ، وَالدِّينُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ مُسْتَعْمَلٌ كَقَوْلِهِمْ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَقِيلَ الدِّينُ هُوَ الْحِسَابُ كَقَوْلِهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيِ الْحِسَابُ الصَّحِيحُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْحَقَّ أَيْ أَنَّ الَّذِي نُوَفِّيهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنَّهُ الْحَقُّ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ هُوَ الْبَاطِلُ، وَقُرِئَ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ صِفَةً لِلدِّينِ وَهُوَ الْجَزَاءُ وَبِالرَّفْعِ صِفَةً للَّه.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْحَقِّ لِأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ الْحَقُّ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ لِأَنَّهُ الْحَقُّ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَمَعْنَى الْمُبِينُ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا
354
لِأَنَّ الْمُحِقَّ فِيمَا يُخَاطِبُ بِهِ هُوَ الْمُبِينُ مِنْ حَيْثُ يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ بِكَلَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحَقُّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَمَعْنَاهُ الْمَوْجُودُ، لِأَنَّ نَقِيضَهُ الْبَاطِلُ وَهُوَ الْمَعْدُومُ، وَمَعْنَى الْمُبِينِ الْمُظْهِرُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بِقُدْرَتِهِ ظَهَرَ وُجُودُ الْمُمْكِنَاتِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِ حَقًّا أَنَّهُ الْمَوْجُودُ لِذَاتِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُبِينًا أَنَّهُ الْمُعْطِي وجود غيره.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٦]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
اعْلَمْ أَنَّ الْخَبِيثَاتِ يَقَعُ عَلَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ الْقَذْفُ الْوَاقِعُ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَيَقَعُ أَيْضًا عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَالذَّمِّ وَاللَّعْنِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ لَا نَفْسَ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، بَلِ الْمُرَادُ مَضْمُونُ الْكَلِمَةِ، وَيَقَعُ أَيْضًا عَلَى الزَّوَانِي مِنَ النِّسَاءِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمَلَةٌ، فَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْقَذْفِ الْوَاقِعِ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ كَانَ الْمَعْنَى الْخَبِيثَاتُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ لِلْخَبِيثَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ، وَبِالْعَكْسِ وَالطَّيِّبَاتُ مِنْ قَوْلِ مُنْكِرِي الْإِفْكِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ وبالعكس، وإن حلمناها عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَالذَّمِّ وَاللَّعْنِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الذَّمَّ وَاللَّعْنَ مُعَدَّانِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنْهُمْ مُعَرَّضُونَ لِلَّعْنِ وَالذَّمِّ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الطَّيِّبَاتِ وَأُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الطَّيِّبِينَ وَأَنَّهُمْ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُ الْخَبِيثُونَ مِنْ خَبِيثَاتِ الْكَلِمَاتِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ حَمَلْنَاهُ عَلَى الزَّوَانِي فَالْمَعْنَى الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَبِالْعَكْسِ، عَلَى مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: / الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النُّورِ: ٣] وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الرَّمْيِ الْوَاقِعِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْخَبِيثَاتِ وَالْخَبِيثِينَ لَا بِالطَّيِّبَاتِ وَالطَّيِّبِينَ، كَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الوجه يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْعَفِيفُ بِالزَّانِيَةِ وَالْجَوَابُ: مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وقوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ يَعْنِي الطَّيِّبَاتِ وَالطَّيِّبِينَ مِمَّا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الْإِفْكِ، سِوَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْكَلِمَاتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ الطَّيِّبُونَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُهُ الْخَبِيثُونَ، وَمَتَى حَمَلَ أُولَئِكَ عَلَى هَذَا الوجه كَانَ لَفْظُهُ كَمَعْنَاهُ فِي أَنَّهُ جَمَعَ، وَمَتَى حَمَلْتَهُ عَلَى عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ وَهُمَا اثْنَانِ فَكَيْفَ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ؟ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الرَّمْيَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِعَائِشَةَ وَصَفْوَانَ فَبَرَّأَ اللَّه تَعَالَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنِ التُّهْمَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُلُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَرَّأَهُنَّ مِنْ هَذَا الْإِفْكِ. لَكِنْ لَا يَقْدَحُ فِيهِنَّ أَحَدٌ كَمَا أَقْدَمُوا عَلَى عَائِشَةَ، وَنَزَّهَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ عَنْ أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ وَهَذَا أَبْيَنُ كَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا أَحَدَ أَطْيَبُ وَلَا أَطْهَرُ مِنَ الرَّسُولِ، فَأَزْوَاجُهُ إِذَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُنَّ إِلَّا طَيِّبَاتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يَعْنِي بَرَاءَةً مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مَقْطُوعًا بِهِ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ أَزْوَاجَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَّ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِشَرْطِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَالتَّوْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّا إِنَّمَا نَحْتَاجُ إِلَى الشَّرْطِ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ فَلَا وَجْهَ لِطَلَبِ الشَّرْطِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا تَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ بِخِلَافِ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَهَا بِسَبَبِ حَرْبِ يَوْمِ الْجَمَلِ فَإِنَّهُمْ يَرَدُّونَ بِذَلِكَ نَصَّ الْقُرْآنِ فَإِنْ قِيلَ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِغْرَاءٌ لَهَا بِالْقَبِيحِ. قُلْنَا أَلَيْسَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِغْرَاءً لَهُ بِالْقَبِيحِ، وَكَذَا الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ فَكَذَا هَاهُنَا، واللَّه أَعْلَمُ تَمَّتْ قصة أهل الإفك.

[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
الحكم السادس في الاستئذان
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَدَلَ عَمَّا يَتَّصِلُ بِالرَّمْيِ وَالْقَذْفِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنَ الْحُكْمِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ إِنَّمَا وَجَدُوا السَّبِيلَ إِلَى بُهْتَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ اتَّفَقَتِ الْخَلْوَةُ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا طَرِيقُ التُّهْمَةِ، فَأَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَرْءُ بَيْتَ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ، لِأَنَّ فِي الدُّخُولِ لَا عَلَى هَذَا الوجه وُقُوعُ التُّهْمَةِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَضَرَّةِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الِاسْتِئْنَاسُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأُنْسِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَةِ الْمُجَالَسَةِ، قال تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب: ٥٣]، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالسَّلَامِ فَكَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْنَاسِ فَلِمَ جَاءَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، إِنَّمَا هُوَ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا فَأَخْطَأَ الْكَاتِبُ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا لَكُمْ وَالتَّسْلِيمُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالدُّمُورِ، وَهُوَ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدَّمَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ كَأَنَّ صَاحِبَهُ دَامِرٌ لِعِظَمِ مَا ارْتَكَبَ،
وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ سَبَقَتْ عَيْنُهُ اسْتِئْذَانَهُ فَقَدْ دَمَرَ،
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الطَّعْنَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ وَيَقْتَضِي صِحَّةَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُنْقَلُ بِالتَّوَاتُرِ وَفَتْحُ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ يُطْرِقُ الشَّكَّ إِلَى كُلِّ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْنِسُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّلَامَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِئْنَاسِ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه: حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْذِنُوا، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَثَالِثُهَا: أَنْ تُجْرِيَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ. ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِئْنَاسِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا بِالْإِذْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَأْذَنُوا وَسَلَّمُوا أَنِسَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَلَوْ دَخَلُوا بِغَيْرِ إِذْنٍ لَاسْتَوْحَشُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الثَّانِي: تَفْسِيرُ الِاسْتِئْنَاسِ بِالِاسْتِعْلَامِ وَالِاسْتِكْشَافِ اسْتِفْعَالٌ مِنْ آنَسَ الشَّيْءَ إِذَا أَبْصَرَهُ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَسْتَعْلِمُوا وَتَسْتَكْشِفُوا الْحَالَ هَلْ يُرَادُ دُخُولُكُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ اسْتَأْنِسْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، وَاسْتَأْنَسْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَيْ تَعَرَّفْتُ وَاسْتَعْلَمْتُ، فَإِنْ قِيلَ وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْأُنْسِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَهُ السَّلَامُ كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ»

قُلْنَا الْمُسْتَأْذِنُ رُبَّمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا فِي الْمَنْزِلِ فَلَا مَعْنَى لِسَلَامِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَسْتَعْلِمَ بِالِاسْتِئْذَانِ هَلْ هُنَاكَ مَنْ يَأْذَنُ، فَإِذَا أُذِنَ وَدَخَلَ صَارَ مُوَاجِهًا لَهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اشْتِقَاقُ الِاسْتِئْنَاسِ/ مِنَ الْإِنْسِ وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّفَ هَلْ ثَمَّ إِنْسَانٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى السَّلَامِ وَالرَّابِعُ: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ السَّلَامِ وَلَكِنَّ الْوَاوَ لا توجب
356
التَّرْتِيبَ، فَتَقْدِيمُ الِاسْتِئْنَاسِ عَلَى السَّلَامِ فِي اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ تَقْدِيمَهُ عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحُكْمُ فِي إِيجَابِ تَقْدِيمِ الِاسْتِئْذَانِ؟ وَالْجَوَابُ: تِلْكَ الْحِكْمَةُ هِيَ الَّتِي نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي لِأَجْلِهِ حُرِّمَ الدُّخُولُ إِلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ هُوَ كَوْنُ الْبُيُوتِ مَسْكُونَةً، إِذْ لَا يَأْمَنُ مَنْ يَهْجُمُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ عَوْرَةٍ، أَوْ عَلَى مَا لَا يُحِبُّ الْقَوْمُ أَنْ يَعْرِفَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْعِلَلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِرِضَاهُ وَإِلَّا أَشْبَهَ الْغَصْبَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِئْذَانُ؟ الْجَوَابُ:
اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَأَلِجُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِامْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةُ «قُومِي إِلَى هَذَا فَعَلِّمِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ قَوْلِي لَهُ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَسَمِعَهَا الرَّجُلُ فَقَالَهَا، فَقَالَ ادْخُلْ فَدَخَلَ وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أَشْيَاءَ وَكَانَ يُجِيبُ، فَقَالَ هَلْ فِي الْعِلْمِ مَا لَا تَعْلَمُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لقد آتاني اللَّه خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّه، وَتَلَا إِنَّ اللَّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إِلَى آخِرِهِ»
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِهِ حَيِيتُمْ صَبَاحًا وَحَيِيتُمْ مَسَاءً، ثُمَّ يَدْخُلُ فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي لِحَافٍ واحد، فصدق اللَّه تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَعَلَّمَ الْأَحْسَنَ وَالْأَجْمَلَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا هُوَ التَّنَحْنُحُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَنَحْوُهُ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَمْ عَدَدُ الِاسْتِئْذَانِ الْجَوَابُ:
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ بِالْأُولَى يَسْتَنْصِتُونَ، وَبِالثَّانِيَةِ يَسْتَصْلِحُونَ، وَبِالثَّالِثَةِ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ»
وَعَنْ جُنْدُبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ»
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا، فَقُلْنَا لَهُ مَا أَفْزَعَكَ؟ فَقَالَ أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلْتُ قَدْ جِئْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ فَقَالَ لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ لَأُعَاقِبَنَّكَ. فَقَالَ أُبَيٌّ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ فَشَهِدَ لَهُ»
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي مُوسَى إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ قَتَادَةَ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثَةٌ: الْأُولَى يُسْمِعُ الْحَيَّ، وَالثَّانِي لِيَتَأَهَّبُوا وَالثَّالِثُ إِنْ شَاءُوا أَذِنُوا، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْآدَابِ، لِأَنَّ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ/ رُبَّمَا مَنَعَهُمْ بَعْضُ الْأَشْغَالِ مِنَ الْإِذْنِ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ رُبَّمَا كَانَ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُ أَوْ يَقْتَضِي الْمَنْعَ أَوْ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ، فَإِذَا لَمْ يُجَبْ فِي الثَّالِثَةِ يَسْتَدِلُّ بِعَدَمِ الْإِذْنِ عَلَى مَانِعٍ ثَابِتٍ، وَرُبَّمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ قُرْبِهِ مِنَ الْبَابِ فَلِذَلِكَ يُسَنُّ لَهُ الرُّجُوعُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ يَجِبُ فِي الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا، أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّصِلًا، بَلْ يَكُونُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى وَقْتٌ، فَأَمَّا قَرْعُ الْبَابِ بِعُنْفٍ وَالصِّيَاحُ بِصَاحِبِ الدَّارِ، فَذَاكَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِيذَاءَ وَالْإِيحَاشَ، وَكَفَى بِقِصَّةِ بَنِي أَسَدٍ زَاجِرَةٌ وَمَا نَزَلَ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْحُجُرَاتِ: ٤].
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ يَقِفُ عَلَى الْبَابِ الْجَوَابُ:
رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْبَابَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا تَسْتَأْذِنْ وَأَنْتَ مُسْتَقْبِلُ الْبَابِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَتَى
357
بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ،
وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ سُتُورٌ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) لِلْغَايَةِ وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا فَقَوْلُهُ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا يَقْتَضِي جَوَازَ الدُّخُولِ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ إِذْنٌ فَمَا قَوْلُكُمْ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْغَايَةَ الِاسْتِئْنَاسَ لَا الِاسْتِئْذَانَ، وَالِاسْتِئْنَاسُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْإِذْنُ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَمَّا عَلِمْنَا بِالنَّصِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوءُهُ، وَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْإِذْنِ، عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِذْنُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ كَافِيًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ فَحَظَرَ الدُّخُولَ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ بِإِبَاحَةِ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَإِنْ قِيلَ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَهَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا؟ قُلْنَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ»
وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِذْنَ مَحْذُوفٌ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ الدُّعَاءَ إِذْنٌ إِذَا جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ ثَانٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ مَنْ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ لَهُ بِإِبَاحَةِ الدُّخُولِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ.
السُّؤَالُ السَّابِعُ: مَا حُكْمُ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى دَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فَهِيَ هَدَرٌ، وَتَمَسَّكَ بِمَا
رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: «اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ قَبْلَ النَّظَرِ»
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنِ/ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بغير إذنهم ففقؤوا عَيْنَهُ فَقَدْ هُدِرَتْ عَيْنُهُ»
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: هَذَا الْخَبَرُ يُرَدُّ لِوُرُودِهِ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ كَانَ ضَامِنًا وَكَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إِنْ كَانَ عَامِدًا وَالْأَرْشُ إِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّاخِلَ قَدِ اطَّلَعَ وَزَادَ عَلَى الِاطِّلَاعِ، فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ: مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ وَنَظَرَ إِلَى حَرَمِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَمُونِعَ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ فِي حَالِ الْمُمَانَعَةِ فَهِيَ هَدَرٌ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا النَّظَرُ وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ مُمَانَعَةٌ وَلَا نَهْيٌ، ثُمَّ جَاءَ إِنْسَانٌ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَهَذَا جَانٍ يَلْزَمُهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ لظاهر قوله تعالى: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَةِ: ٤٥] وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ فِي هَذِهِ المسألة ضَعِيفٌ، لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ مُسْتَحَقَّةً، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَلْزَمِ الْقِصَاصُ، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّ مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ إِنْسَانٍ لَمْ تَكُنْ عَيْنُهُ مُسْتَحَقَّةً؟ وَهَذَا أَوَّلُ المسألة.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَوْ دَخَلَ لَمْ يَجُزْ فَقْءُ عَيْنِهِ، فَكَذَا إِذَا نَظَرَ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ عَلِمَ الْقَوْمُ دُخُولَهُ عَلَيْهِمْ فَاحْتَرَزُوا عَنْهُ وَتَسَتَّرُوا، فَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فَقَدْ لَا يَكُونُونَ عَالِمِينَ بِذَلِكَ فَيَطَّلِعُ مِنْهُمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْعُدُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يُبَالِغَ هَاهُنَا فِي الزَّجْرِ حَسْمًا لِبَابِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَرَدُّ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ غَيْرُ جَائِزٍ.
السُّؤَالُ الثَّامِنُ: لَمَّا بَيَّنْتُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَهَلْ يَكْفِي الْإِذْنُ كَيْفَ كَانَ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنٍ مَخْصُوصٍ؟
358
الْجَوَابُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَبُولَ الْإِذْنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْآذِنُ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْإِذْنِ صِفَاتُ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ قَبُولُ أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ فِي الْهَدَايَا وَنَحْوِهَا.
السُّؤَالُ التَّاسِعُ: هَلْ يُعْتَبَرُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى الْمَحَارِمِ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَعَمْ أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً»
وَسَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي، فَقَالَ إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عليها رأيت ما يسوؤك، وَقَالَ عَطَاءٌ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي وَمَنْ أُنْفِقُ عَلَيْهَا؟ قَالَ نَعَمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النُّورِ: ٥٩] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ إِلَّا أَنَّهُ أَيْسَرُ لِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى شَعْرِهَا وَصَدْرِهَا وَسَاقِهَا وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْهُجُومِ عَلَى الْغَيْرِ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ رُبَّمَا كَانَ مُنْكَشِفَ الْأَعْضَاءِ فَهَذَا دَخَلَ فِيهِ الْكُلُّ إِلَّا الزَّوْجَاتِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِأَمْرٍ يَكْرَهُ إِطْلَاعَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ فِي الْكُلِّ، حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ إِلَّا بِإِذْنٍ.
السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: إِذَا عَرَضَ أَمْرُ فِي دَارٍ مِنْ حَرِيقٍ أَوْ هُجُومِ سَارِقٍ أَوْ ظُهُورِ مُنْكَرٍ فَهَلْ يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ؟
الْجَوَابُ: كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى بِالدَّلِيلِ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَأَمَّا السَّلَامُ فَهُوَ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، وَأَمَانٌ لِلْقَوْمِ وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَجْلَبَةٌ لِلْمَوَدَّةِ وَنَافٍ لِلْحِقْدِ وَالضَّغِينَةِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ الْحَمْدُ للَّه، فَحَمِدَ اللَّه بِإِذْنِ اللَّه، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ اذْهَبْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ مَلَأٌ مِنْهُمْ جُلُوسٌ فَقُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ»
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيَنْصَحُ لَهُ بِالْغَيْبِ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَشْهَدُ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ»
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ يُسَلَّ الْغِلُّ مِنْ صُدُورِكُمْ فَأَفْشَوُا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فَالْمَعْنَى فِيهِ ظَاهِرٌ، إِذِ الْمُرَادُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَوْلَى لَكُمْ مِنَ الْهُجُومِ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ لِكَيْ تَتَذَكَّرُوا هَذَا التَّأْدِيبَ فَتَتَمَسَّكُوا بِهِ، ثم قال: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَيْ فِي الْبُيُوتِ أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوها لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَحْوَالٌ مَكْتُومَةٌ يُكْرَهُ إِطْلَاعُ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا، ثم قال: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا يَكُونُ الدُّخُولُ قَدْ يَكْرَهُهُ صَاحِبُ الدَّارِ فَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى الْبَابِ قَدْ يَكْرَهُهُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْأَوْلَى وَالْأَزْكَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِزَالَةً لِلْإِيحَاشِ وَالْإِيذَاءِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حُكْمَ الدُّورِ الْمَسْكُونَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الدُّورِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَسْكُونَةٍ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَّا بِإِذْنٍ زَائِلٌ عَنْهَا وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة، كالاستكان مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَإِيوَاءِ الرِّحَالِ وَالسِّلَعِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ،
يُرْوَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ اللَّه قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ آيَةً فِي الِاسْتِئْذَانِ وَإِنَّا نَخْتَلِفُ فِي تِجَارَتِنَا فَنَنْزِلُ هَذِهِ الْخَانَاتِ، أَفَلَا نَدْخُلُهَا إِلَّا بِإِذْنٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهَا الْخَرِبَاتُ يُتَبَرَّزُ فِيهَا وَالْمَتَاعُ التَّبَرُّزُ وَثَالِثُهَا:
359
الْأَسْوَاقُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا الْحَمَّامَاتُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْجَمِيعِ تَحْتَ الْآيَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْكُلِّ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ مَأْذُونٌ بِدُخُولِهَا مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مَغْصُوبَةً، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلدَّاخِلِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْخَانَاتِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِدُخُولِ الدَّاخِلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ فَهُوَ وَعِيدٌ لِلَّذِينِ يَدْخُلُونَ الْخَرِبَاتِ وَالدُّورَ الخالية من أهل الريبة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
الحكم السابع حكم النظر
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَلْزَمُهُ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ وَيَحْفَظُ الْفَرْجَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ كَالْفُرُوعِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُؤْمِنُونَ مَأْمُورُونَ بِهَا ابْتِدَاءً، وَالْكُفَّارُ مَأْمُورُونَ قَبْلَهَا بِمَا تَصِيرُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ تَابِعَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهَا، لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَمَكَّنُ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ مَنْ دُونِ مُقَدِّمَةٍ، وَالْكَافِرَ لَا يَتَمَكَّنُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَةِ مَنْ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ التَّكَالِيفِ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ الرِّجَالَ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ، وَأَمَرَ النِّسَاءَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ الرِّجَالَ وَزَادَ فِيهِنَّ أَنْ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ الْأَكْثَرُونَ (مِنْ) هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ وَالْمُرَادُ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا يَحْرُمُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ، وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ مَزِيدَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الْأَعْرَافِ: ٨٥] فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الْحَاقَّةِ: ٤٧] وَأَبَاهُ سِيبَوَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ دَخَلَتْ فِي غَضِّ الْبَصَرِ دُونَ حِفْظِ الْفَرْجِ؟ قُلْنَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّظَرِ أَوْسَعُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحَارِمَ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شُعُورِهِنَّ وَصُدُورِهِنَّ وَكَذَا الْجَوَارِي الْمُسْتَعْرِضَاتُ، وَأَمَّا أَمْرُ الْفَرْجِ فَمُضَيَّقٌ، وَكَفَاكَ فَرْقًا أَنْ أُبِيحَ النَّظَرُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ وَحُظِرَ الْجِمَاعُ إِلَّا مَا استثنى
360
مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أَيْ يُنْقِصُوا مِنْ نَظَرِهِمْ فَالْبَصَرُ إِذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ مَغْضُوضٌ مَمْنُوعٌ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا مِنْ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ وَلَا هِيَ لِلتَّبْعِيضِ بَلْ هِيَ مِنْ صِلَةِ الْغَضِّ يُقَالُ غَضَضْتُ مِنْ فُلَانٍ إِذَا نَقَصْتُ مِنْ قَدْرِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَوْرَاتِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، فَأَمَّا الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إِلَّا عَوْرَتَهُ وَعَوْرَتُهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَالسُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الرُّكْبَةُ عَوْرَةُ، وَقَالَ مَالِكٌ الْفَخْذُ لَيْسَتْ بِعَوْرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا عَوْرَةٌ مَا
رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ فَخْذِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَطِّ فَخْذَكَ فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ»
وَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «لَا تُبْرِزْ فَخْذَكَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فَخْذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ»
فَإِنْ كَانَ فِي نَظَرِهِ إِلَى وَجْهِهِ أَوْ سَائِرِ بَدَنِهِ شَهْوَةٌ أَوْ خَوْفُ فِتْنَةٍ بِأَنْ كَانَ أَمْرَدَ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ مُضَاجَعَةُ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَانِبٍ مِنَ الْفِرَاشِ، لِمَا
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ»
وَتُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الوجه إِلَّا لِوَلَدِهِ شَفَقَةً، وَتُسْتَحَبُّ الْمُصَافَحَةُ لِمَا
رَوَى أَنَسٌ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّه الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ لَا، قَالَ أَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ لَا، قَالَ أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ نَعَمْ»
أَمَّا عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَكَعَوْرَةِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، فَلَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَعِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ الْمُضَاجَعَةُ. وَالْمَرْأَةُ الذِّمِّيَّةُ هَلْ يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى بَدَنِ الْمُسْلِمَةِ، قِيلَ يَجُوزُ كَالْمُسْلِمَةِ مَعَ الْمُسْلِمَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فِي الدِّينِ واللَّه تَعَالَى يَقُولُ:
أَوْ نِسائِهِنَّ وَلَيْسَتِ الذِّمِّيَّةُ مِنْ نِسَائِنَا، أَمَّا عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ فَالْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ، أَوْ مُسْتَمْتَعَةً، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا الوجه وَالْكَفَّيْنِ، لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى إِبْرَازِ الوجه فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَى إِخْرَاجِ/ الْكَفِّ لِلْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَنَعْنِي بِالْكَفِّ ظَهْرَهَا وَبَطْنَهَا إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَقِيلَ ظَهْرُ الْكَفِّ عَوْرَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ. أَمَّا قَوْلُهُ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ «١» لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ وَلَا فِيهِ فِتْنَةٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فِتْنَةٌ وَلَا غَرَضَ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فِتْنَةٌ وَغَرَضٌ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِغَيْرِ غَرَضٍ وَإِنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا بَغْتَةً يَغُضُّ بَصَرَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَقِيلَ يَجُوزُ مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ فِتْنَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَرِّرَ النَّظَرَ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاءِ:
٣٦]
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ»
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي»
وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْأُولَى لَا يُمْكِنْ فَوَقَعَ عَفْوًا قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ وَلَا فتنة فيه فذاك أمور: أحدها: بأن
(١) اعلم أن القسمة في هذه المسألة رباعية لا ثلاثية والقسم الذي تركه المؤلف في الإجمال ذكره عند التفصيل لكنه أهمل القسم الثاني ذكره هنا فلعل السقط في الموضعين من الناسخ.
361
يُرِيدَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَيَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا،
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِلْخِطْبَةِ»
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «خَطَبْتُ امْرَأَةً فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَظَرْتَ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ لَا، قَالَ فَانْظُرْ فَإِنَّهَا أَحْرَى أَنْ يَدُومَ بَيْنَكُمَا «١» »
فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا لِلشَّهْوَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الْأَحْزَابِ: ٥٢] وَلَا يُعْجِبُهُ حُسْنُهُنَّ إِلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ وُجُوهِهِنَّ وَثَانِيهَا: إِذَا أَرَادَ شِرَاءَ جَارِيَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنْهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا مُتَأَمِّلًا حَتَّى يَعْرِفَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَرَابِعُهَا: يَنْظُرُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ الوجه لأن المعرفة تحصل أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا لِلشَّهْوَةِ فَذَاكَ مَحْظُورٌ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ «٢» »
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي»
وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ النَّظْرَةُ تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ، وَرُبَّ شَهْوَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلًا. أَمَّا الْكَلَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إِلَى بَدَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَقَدِ اسْتَثْنَوْا مِنْهُ صُوَرًا إِحْدَاهَا: يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ الْأَمِينِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا لِلْمُعَالَجَةِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْخَتَّانِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فَرْجِ الْمَخْتُونِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. وَثَانِيَتُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِ الزَّانِيَيْنِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَكَذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى/ فَرْجِهَا لِتَحَمُّلِ شَهَادَةِ الْوِلَادَةِ، وَإِلَى ثَدْيِ الْمُرْضِعَةِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، لِأَنَّ الزِّنَا مَنْدُوبٌ إِلَى سَتْرِهِ، وَفِي الْوِلَادَةِ وَالرَّضَاعِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَظَرِ الرِّجَالِ لِلشَّهَادَةِ وَثَالِثَتُهَا: لَوْ وَقَعَتْ فِي غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَدَنِهَا لِيُخَلِّصَهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَجْنَبِيَّةُ أَمَةً فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَوْرَتُهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ عَوْرَتُهَا مَا لَا يَبِينُ لِلْمِهْنَةِ فَخَرَجَ مِنْهُ أَنَّ رَأْسَهَا وَسَاعِدَيْهَا وَسَاقَيْهَا وَنَحْرَهَا وَصَدْرَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَفِي ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَمَا فَوْقَ سَاعِدَيْهَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَلَا يَجُوزُ لَمْسُهَا وَلَا لَهَا لَمْسُهُ بِحَالٍ لَا لِحِجَامَةٍ وَلَا اكْتِحَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّ اللَّمْسَ أَقْوَى مِنَ النَّظَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِنْزَالَ بِاللَّمْسِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَبِالنَّظَرِ لَا يُفْطِرُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ مِنَ الْأَمَةِ مَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ فَعَوْرَتُهَا مَعَهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ عَوْرَتُهَا مَا لَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فَأَمَّا سَائِرُ التَّفَاصِيلِ فَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسْتَمْتَعَةً كَالزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا حَتَّى إِلَى فَرْجِهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْفَرْجِ وَكَذَا إِلَى فَرْجِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ
يُرْوَى أَنَّهُ يُورِثُ الطَّمْسَ،
وَقِيلَ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مَرْهُونَةً. فَإِنْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً أَوْ وَثَنِيَّةً أَوْ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ مُتَزَوِّجَةً أَوْ مُكَاتَبَةً فَهِيَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ،
رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ جَارِيَتَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ»
وَأَمَّا عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ [فَفِيهِ] نَظَرٌ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنْهَا فَعَوْرَتُهُ مَعَهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَقِيلَ جَمِيعُ بَدَنِهِ إِلَّا الوجه وَالْكَفَّيْنِ كَهِيَ مَعَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، لِأَنَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ فِي ذَاتِهِ عَوْرَةٌ بدليل أنه لا تصح
(١) احفظ هذا الحديث
برواية أخرى بلفظ «فإنه أحرى أن يؤدم بينكما»
أي تكون بينكما معيشة.
(٢) احفظ لهذا الحديث تتمة وهي
«وزناهما النظر».
362
صَلَاتُهَا مَكْشُوفَةَ الْبَدَنِ وَبَدَنُ الرَّجُلِ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا قَصْدُ النَّظَرِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَلَا تَكْرِيرُ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ لِمَا
رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: «أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةُ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: احْتَجِبَا مِنْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام أفعميا وإن أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ»
وَإِنْ كَانَ مَحْرَمًا لَهَا فَعَوْرَتُهُ مَعَهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا أَوْ سَيِّدَهَا الَّذِي يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا فَلَهَا أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ النَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ كَهُوَ مَعَهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْلِسَ عَارِيًا فِي بَيْتٍ خَالٍ وَلَهُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، لِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: «اللَّه أَحَقُّ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْهُ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْغَائِطِ، وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ»
واللَّه أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: سُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ قوله: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فقال أبصار الرؤوس عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَبْصَارُ الْقُلُوبِ عَمَّا سِوَى اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قوله: يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، مِنَ الزِّنَا إِلَّا الَّتِي في النور: يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَيْهَا أَحَدٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حِفْظُهَا عَنْ سَائِرِ مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ مِنَ الزِّنَا وَالْمَسِّ وَالنَّظَرِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ حَظْرَ النَّظَرِ فَالْمَسُّ وَالْوَطْءُ أَيْضًا مُرَادَانِ بِالْآيَةِ، إِذْ هُمَا أَغْلَظُ مِنَ النَّظَرِ، فَلَوْ نَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ لَكَانَ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ مَا يُوجِبُ حَظْرَ الْوَطْءِ وَالْمَسِّ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] اقْتَضَى حَظْرَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ السَّبِّ وَالضَّرْبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ [النُّورِ: ٣٠] أَيْ تَمَسُّكُهُمْ بِذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ وَأَطْهَرُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مَا يُزَكَّوْنَ بِهِ وَيَسْتَحِقُّونَ الثَّنَاءَ وَالْمَدْحَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ فِي الْخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا أَرَادَهُ مِنْ تَزْكِيَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْكَافِرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فَالْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قُدِّمَ غَضُّ الْأَبْصَارِ عَلَى حِفْظِ الْفُرُوجِ، قُلْنَا لِأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَا وَرَائِدُ الْفُجُورِ وَالْبَلْوَى فِيهِ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ، وَلَا يَكَادُ يُقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَاسِ مِنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها فَمِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا النِّسَاءُ فِي الْأَغْلَبِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الْأَغْلَبِ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُبْدِيَ زِينَتَهُ حُلِيًّا وَلِبَاسًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِزِينَتِهِنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّينَةَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَحَاسِنِ الْخَلْقِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّه تَعَالَى وَعَلَى سَائِرِ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ فَضْلِ لِبَاسٍ أَوْ حُلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ اسْمِ الزينة عل الْخِلْقَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ فِي الْخِلْقَةِ إِنَّهَا مِنْ زِينَتِهَا. وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَا تَكْتَسِبُهُ مِنْ كُحْلٍ وَخِضَابٍ وَغَيْرِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْخِلْقَةَ دَاخِلَةٌ فِي الزِّينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ النِّسَاءِ يَنْفَرِدْنَ بِخِلْقَتِهِنَّ عن سائر
363
مَا يُعَدُّ زِينَةً، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْخِلْقَةِ وَفَّيْنَا الْعُمُومَ حَقَّهُ، وَلَا يُمْنَعُ دُخُولُ مَا عَدَا الْخِلْقَةَ فِيهِ أَيْضًا الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ مَا يَعُمُّ الْخِلْقَةَ وَغَيْرَهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُنَّ مِنْ إِظْهَارِ مَحَاسِنِ خِلْقَتِهِنَّ بِأَنْ أَوْجَبَ سَتْرَهَا بِالْخِمَارِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الزِّينَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا سِوَى الْخِلْقَةِ فَقَدْ حَصَرُوهُ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: الْأَصْبَاغُ كَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ بِالْوَسْمَةِ فِي حَاجِبَيْهَا وَالْغَمْرَةِ فِي خَدَّيْهَا وَالْحِنَّاءِ فِي كَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا وَثَانِيهَا: الْحُلِىُّ كَالْخَاتَمِ وَالسُّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَالدُّمْلُجِ وَالْقِلَادَةِ وَالْإِكْلِيلِ وَالْوِشَاحِ وَالْقُرْطِ.
وَثَالِثُهَا: الثِّيَابُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَافِ: ٣١] وَأَرَادَ الثِّيَابَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الزِّينَةَ عَلَى الْخِلْقَةِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا مَا يُظْهِرُهُ الْإِنْسَانُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ الوجه وَالْكَفَّانِ، وَفِي الرَّجُلِ الْأَطْرَافُ مِنَ الوجه وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَأُمِرُوا بِسَتْرِ مَا لَا تُؤَدِّي/ الضَّرُورَةُ إِلَى كَشْفِهِ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي كَشْفِ مَا اعْتِيدَ كَشْفُهُ وَأَدَّتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ إِذْ كَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ حَنِيفِيَّةً سَهْلَةً سَمْحَةً، وَلَمَّا كَانَ ظُهُورُ الوجه وَالْكَفَّيْنِ كَالضَّرُورِيِّ لَا جَرَمَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، أَمَّا الْقَدَمُ فَلَيْسَ ظُهُورُهُ بِضَرُورِيٍّ فَلَا جَرَمَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنَ الْعَوْرَةِ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ عَوْرَةٌ كَظَهْرِ الْقَدَمِ، وَفِي صَوْتِهَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، لِأَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَرْوِينَ الْأَخْبَارَ لِلرِّجَالِ، وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الزِّينَةَ عَلَى مَا عَدَا الْخِلْقَةَ فَقَالُوا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الزِّينَةَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهَا حَالَمَا لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِأَعْضَاءِ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّه سُبْحَانَهُ النَّظَرَ إِلَيْهَا حَالَ اتِّصَالِهَا بِبَدَنِ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى أَعْضَاءِ الْمَرْأَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَى زِينَةِ وَجْهِهَا مِنَ الْوَشْمَةِ وَالْغَمْرَةِ وَزِينَةِ بَدَنِهَا مِنَ الْخِضَابِ وَالْخَوَاتِيمِ وَكَذَا الثِّيَابُ، وَالسَّبَبُ فِي تَجْوِيزِ النَّظَرِ إِلَيْهَا أَنَّ تَسَتُّرَهَا فِيهِ حَرَجٌ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُنَاوَلَةِ الْأَشْيَاءِ بِيَدَيْهَا وَالْحَاجَةِ إِلَى كَشْفِ وَجْهِهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْمُحَاكَمَةِ وَالنِّكَاحِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى تَخْصِيصِ قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمَةَ مَالٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ فَالْخُمُرُ وَاحِدُهَا خِمَارٌ، وَهِيَ الْمَقَانِعُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نِسَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّ يَشْدُدْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، وَإِنَّ جُيُوبَهُنَّ كَانَتْ مِنْ قُدَّامُ فَكَانَ يَنْكَشِفُ نُحُورُهُنَّ وَقَلَائِدُهُنَّ، فَأُمِرْنَ أَنْ يَضْرِبْنَ مَقَانِعَهُنَّ عَلَى الْجُيُوبِ لِيَتَغَطَّى بِذَلِكَ أَعْنَاقُهُنَّ وَنُحُورُهُنَّ وَمَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ شَعْرٍ وَزِينَةٍ مِنَ الْحُلِيِّ فِي الْأُذُنِ وَالنَّحْرِ وَمَوْضِعِ الْعُقْدَةِ مِنْهَا، وَفِي لَفْظِ الضَّرْبِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِلْقَاءِ، وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا «مَا رَأَيْتُ خَيْرًا مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ، لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَى مِرْطِهَا فَصَدَعَتْ مِنْهُ صَدْعَةً فَاخْتَمَرَتْ فَأَصْبَحْنَ على رؤوسهن الْغِرْبَانُ» وَقُرِئَ جُيُوبِهِنَّ بِكَسْرِ الْجِيمِ لِأَجْلِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي مُطْلَقِ الزِّينَةِ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي نَهَاهُنَّ عَنْ إِبْدَائِهَا لِلْأَجَانِبِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الزِّينَةَ الْخَفِيَّةَ يَجِبُ إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْكُلِّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ صُورَةً أَحَدُهَا: أَزْوَاجُهُنَّ وَثَانِيهَا: آبَاؤُهُنَّ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنْ جِهَةِ الذُّكْرَانِ وَالْإِنَاثِ كَآبَاءِ الْآبَاءِ وَآبَاءِ
364
الْأُمَّهَاتِ وَثَالِثُهَا: آبَاءُ أَزْوَاجِهِنَّ وَرَابِعُهَا وَخَامِسُهَا: أَبْنَاؤُهُنَّ وَأَبْنَاءُ بُعُولَتِهِنَّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا مِنَ الذَّكَرَانِ وَالْإِنَاثِ كَبَنِي الْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنَاتِ وَسَادِسُهَا: إِخْوَانُهُنَّ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَبِ أَوْ مِنَ الْأُمِّ أَوْ مِنْهُمَا وَسَابِعُهَا: بَنُو إِخْوَانِهِنَّ وَثَامِنُهَا: بَنُو أَخَوَاتِهِنَّ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَحَارِمُ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَفَيَحِلُّ لِذَوِي الْمَحْرَمِ فِي الْمَمْلُوكَةِ وَالْكَافِرَةِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي الْمُؤْمِنَةِ؟ الْجَوَابُ: إِذَا مَلَكَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ مِنْ مَحَارِمِهِ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا لَا عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، بَلْ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى مَزِيَّةِ الْمِلْكِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ الْقَوْلُ فِي الْعَمِّ وَالْخَالِ؟ الْجَوَابُ: الْقَوْلُ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا الرَّضَاعُ وَهُوَ كَالنَّسَبِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الْأَحْزَابِ: ٥٥] الْآيَةَ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا الْبُعُولَةُ وَلَا أبناءهم وَقَدْ ذُكِرُوا هَاهُنَا، وَقَدْ يُذْكَرُ الْبَعْضُ لِيُنَبِّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُمَا اللَّه لئلا يصفهما العم عند ابنه الخال كَذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ سَائِرَ الْقَرَابَاتِ تُشَارِكُ الْأَبَ وَالِابْنَ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ إِلَّا الْعَمَّ وَالْخَالَ وَأَبْنَاءَهُمَا، فَإِذَا رَآهَا الْأَبُ فَرُبَّمَا وَصَفَهَا لِابْنِهِ وَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَيَقْرُبُ تَصَوُّرُهُ لَهَا بِالْوَصْفِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الدَّلَالَاتِ الْبَلِيغَةِ عَلَى وجوب الاحتياط عليهن فِي التَّسَتُّرِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا السَّبَبُ فِي إِبَاحَةِ نَظَرِ هَؤُلَاءِ إِلَى زِينَةِ الْمَرْأَةِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِالْحَاجَةِ إِلَى مُدَاخَلَتِهِنَّ وَمُخَالَطَتِهِنَّ وَلِقِلَّةِ تَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ بِجِهَاتِهِنَّ، وَلِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنَ النَّفْرَةِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْغَرَائِبِ، وَتَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إِلَى صُحْبَتِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ وَلِلنُّزُولِ وَالرُّكُوبِ وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ نِسائِهِنَّ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:
الْمُرَادُ وَالنِّسَاءُ اللَّاتِي هُنَّ عَلَى دِينِهِنَّ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَيْسَ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَتَجَرَّدَ بَيْنَ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا تُبْدِي لِلْكَافِرَةِ إِلَّا مَا تُبْدِي لِلْأَجَانِبِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْ يَمْنَعَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ مَعَ الْمُؤْمِنَاتِ وَثَانِيهِمَا:
الْمُرَادُ بِنِسَائِهِنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَقَوْلُ السَّلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَوْلَى وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَشْمَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ، وَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِنَّ فِي أَنْ يُظْهِرْنَ لِعَبِيدِهِنَّ مِنْ زِينَتِهِنَّ مَا يُظْهِرْنَ لِذَوِي مَحَارِمِهِنَّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَبِمَا
رَوَى أَنَسٌ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا وَعَلَيْهَا ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهَا، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ»
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَحْتَجِبْنَ عَنْ مُكَاتَبِهِنَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَتْ لِذَكْوَانَ:
«إِنَّكَ إِذَا وَضَعْتَنِي فِي الْقَبْرِ وَخَرَجْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: كَانَتْ تَمْتَشِطُ وَالْعَبْدُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْظُرُ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»

وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ السَّفَرُ بِهَا لَمْ/ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى شَعْرِهَا كَالْحُرِّ الْأَجْنَبِيِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ مِلْكَهَا
365
لِلْعَبْدِ لَا يُحَلِّلُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الملك إذ ملك النساء للرجل لَيْسَ كَمِلْكِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهَا لَا تَسْتَبِيحُ بِمِلْكِ الْعَبْدِ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ التَّمَتُّعِ كَمَا يَمْلِكُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْأَمَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَوْلَاتِهِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ عَارِضٌ كَمَنَ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِنَّ فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةً كَانَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجَانِبِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ الْإِمَاءُ فَإِنْ قِيلَ الْإِمَاءُ دَخَلْنَ فِي قَوْلِهِ: نِسائِهِنَّ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْإِعَادَةِ؟ قُلْنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنَى بِنِسَائِهِنَّ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ مَنْ فِي صُحْبَتِهِنَّ مِنَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا أَحْوَالَ الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فَجَازَ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرِّجَالَ مَخْصُوصُونَ بِذَلِكَ إِذْ كَانُوا ذَوِي الْمَحَارِمِ أَوْ غَيْرَ ذَاتِ الْمَحَارِمِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَاءَ بِقَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ النِّسَاءِ إِذْ كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ نِسائِهِنَّ يَقْتَضِي الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ كَقَوْلِهِ: شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٢] عَلَى الْأَحْرَارِ لِإِضَافَتِهِمْ إِلَيْنَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَوْ نِسائِهِنَّ عَلَى الْحَرَائِرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِنَّ الْإِمَاءَ فَأَبَاحَ لَهُنَّ مِثْلَ مَا أَبَاحَ فِي الْحَرَائِرِ وَحَادِيَ عَشَرَهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قِيلَ هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَكُمْ لِيَنَالُوا مِنْ فَضْلِ طَعَامِكُمْ، وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّهُمْ بُلْهٌ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيْئًا، أَوْ شُيُوخٌ صُلَحَاءُ إِذَا كَانُوا مَعَهُنَّ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَصِيَّ وَالْعِنِّينِ وَمَنْ شَاكَلَهُمَا قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إِرْبَةٌ فِي نَفْسِ الْجِمَاعِ وَيَكُونُ لَهُ إِرْبَةٌ قَوِيَّةٌ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ التَّمَتُّعِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ. فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ عَلَى مَنِ الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا إِرْبَةَ لَهُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ التَّمَتُّعِ، إِمَّا لِفَقْدِ الشَّهْوَةِ، وَإِمَّا لِفَقْدِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ بِهِمُ الْفَاقَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَعْتُوهُ وَالْأَبْلَهُ وَالصَّبِيُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشَّيْخُ، وَسَائِرُ مَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْكُلِّ فِي ذَلِكَ،
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ فَأَقْبَلَ عَلَى أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه إِنْ فَتَحَ اللَّه لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ دَلَلْتُكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ» فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا»
فَأَبَاحَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُخُولَ الْمُخَنَّثِ عَلَيْهِنَّ حِينَ ظَنَّ «١» أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَأَوْصَافَهُنَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَةِ فَحَجَبَهُ، وَفِي الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: اسْتِبَاحَةُ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مَعَهُمَا وَالثَّانِي: تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِمَا وَالثَّالِثَةُ: تَحْرِيمُهَا عَلَى الْخَصِيِّ دُونَ الْمَجْبُوبِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْإِرْبَةُ الْفِعْلَةُ مِنَ الْأَرَبِ كَالْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ مِنَ الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ وَالْأَرَبُ/ الْحَاجَةُ وَالْوُلُوعُ بِالشَّيْءِ وَالشَّهْوَةُ لَهُ، وَالْإِرْبَةُ الْحَاجَةُ فِي النِّسَاءِ، وَالْإِرْبَةُ الْعَقْلُ وَمِنْهُ الْأَرِيبُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: فِي غَيْرِ قِرَاءَتَانِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ غَيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْحَالِ يَعْنِي أَوِ التَّابِعَيْنِ عَاجِزِينَ عَنْهُنَّ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِالْخَفْضِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ وَثَانِيَ عَشَرَهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الطِّفْلُ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ لَكِنَّهُ وُضِعَ هَاهُنَا مَوْضِعَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْجِنْسَ، وَيُبَيِّنُ ما بعده أنه
(١) في المطبعة الأميرية «حتى ظن» وهو تصنيف لأن المعنى لا يستقيم بها.
366
يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الْحَجِّ: ٥].
المسألة الثَّانِيَةُ: الظُّهُورُ عَلَى الشَّيْءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْعِلْمُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الْكَهْفِ: ٢٠] أَيُ إِنْ يَشْعُرُوا بِكُمْ وَالثَّانِي: الْغَلَبَةُ لَهُ وَالصَّوْلَةُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: ١٤] فَعَلَى الوجه الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَتَصَوَّرُوا عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَمْ يَدْرُوا مَا هِيَ مِنَ الصِّغَرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَعَلَى الثَّانِي الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يُطِيقُوا إِتْيَانَ النِّسَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَتَنَبَّهْ لِصِغَرِهِ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ فَلَا عَوْرَةَ لِلنِّسَاءِ مَعَهُ، وَإِنْ تَنَبَّهَ لِصِغَرِهِ وَلِمُرَاهَقَتِهِ لَزِمَ أَنْ تَسْتُرَ عَنْهُ الْمَرْأَةُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا، وَفِي لُزُومِ سَتْرِ مَا سِوَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الْقَلَمَ غَيْرُ جَارٍ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: يَلْزَمُ كَالرَّجُلِ لِأَنَّهُ يَشْتَهِي وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَشْتَهِيهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَاسْمُ الطِّفْلِ شَامِلٌ لَهُ إِلَى أَنْ يَحْتَلِمَ، وَأَمَّا الشَّيْخُ إِنْ بَقِيَتْ لَهُ شَهْوَةٌ فَهُوَ كَالشَّابِّ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَهْوَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزِّينَةَ الْبَاطِنَةَ مَعَهُ مُبَاحَةٌ وَالْعَوْرَةَ مَعَهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ مَعَهُ عَوْرَةٌ إِلَّا الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ، وَهَاهُنَا آخِرُ الصُّوَرِ الَّتِي اسْتَثْنَاهَا اللَّه تَعَالَى، قَالَ الْحَسَنُ هَؤُلَاءِ وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي جَوَازِ رُؤْيَةِ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ فَهُمْ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ، فَأَوَّلُهُمُ الزَّوْجُ وَلَهُ حُرْمَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهَا، وَالْحُرْمَةُ الثَّانِيَةُ لِلِابْنِ وَالْأَبِ وَالْأَخِ وَالْجَدِّ وَأَبِي الزَّوْجِ وَكُلِّ ذِي مَحْرَمٍ وَالرَّضَاعِ كَالنَّسَبِ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الشَّعْرِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالذِّرَاعِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَالْحُرْمَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ لِلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَكَذَا مَمْلُوكُ الْمَرْأَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَقُومَ الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ بَيْنَ يَدَيْ هَؤُلَاءِ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ صَفِيقٍ بِغَيْرِ مِلْحَفَةٍ، وَلَا يَحِلُّ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَرَوْا مِنْهَا شَعْرًا وَلَا بَشَرًا وَالسِّتْرُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَفْضَلُ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّابَّةِ أَنْ تَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ الْغَرِيبِ حَتَّى تَلْبَسَ الْجِلْبَابَ، فَهَذَا ضَبْطُ هَؤُلَاءِ الْمَرَاتِبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمُرُّ بِالنَّاسِ وَتَضْرِبُ بِرِجْلِهَا لِيُسْمَعَ قَعْقَعَةُ خَلْخَالِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النِّسَاءِ إِذَا سَمِعَ صَوْتُ الْخَلْخَالِ يَصِيرُ ذَلِكَ دَاعِيَةً لَهُ زَائِدَةً فِي مُشَاهَدَتِهِنَّ، وَقَدْ عَلَّلَ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي لِأَجْلِهِ نُهِيَ عَنْهُ أَنْ يُعْلَمَ زِينَتُهُنَّ مِنَ/ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى:
لَمَّا نَهَى عَنِ اسْتِمَاعِ الصَّوْتِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الزِّينَةِ فَلَأَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِظْهَارِ الزِّينَةِ أَوْلَى الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ رَفْعِ صَوْتِهَا بِالْكَلَامِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْأَجَانِبُ إِذْ كَانَ صَوْتُهَا أَقْرَبَ إِلَى الْفِتْنَةِ مِنْ صَوْتِ خَلْخَالِهَا، وَلِذَلِكَ كَرِهُوا أَذَانَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ الثَّالِثَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى حَظْرِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا بِشَهْوَةٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْفِتْنَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي التَّوْبَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَكَالِيفَ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ بَابٍ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَلَى مُرَاعَاتِهَا وَإِنْ ضَبَطَ نَفْسَهُ وَاجْتَهَدَ، وَلَا يَنْفَكُّ مِنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ وَصَّى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَتَأْمِيلِ الْفَلَاحِ إِذَا تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا تُوبُوا مِمَّا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَعَلَّكُمْ تَسْعَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّتِ التَّوْبَةُ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَمَا مَعْنَى
367
هَذِهِ التَّوْبَةِ؟ قُلْنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ عَنْهُ لَزِمَهُ كُلَّمَا ذَكَرَهُ أَنْ يُجَدِّدَ عَنْهُ التَّوْبَةَ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى نَدَمِهِ إِلَى أَنْ يلقى ربه.
المسألة الثانية: قرئ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً لِوُقُوعِهَا قَبْلَ الْأَلِفِ، فَلَمَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ الساكنين اتَّبَعَتْ حَرَكَتُهَا حَرَكَةَ مَا قَبْلَهَا واللَّه أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ لَعَلَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: ٢١] واللَّه أعلم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٢]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
الْحُكْمُ الثَّامِنُ مَا يَتَعَلَّقُ بالنكاح
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مِنْ قَبْلُ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ وَحِفْظِ الْفُرُوجِ بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَحِلُّ، فَبَيَّنَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ طَرِيقَ الْحِلِّ فَقَالَ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْأَيَامَى وَالْيَتَامَى أَصْلُهُمَا أَيَايِمُ وَيَتَايِمُ فَقُلِبَا، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْأَيِّمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ ذَكَرٍ لَا أُنْثَى مَعَهُ وَكُلُّ أُنْثَى لَا ذَكَرَ مَعَهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رواية الضحاك، تقول: زوجوا أياماكم بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُمُوا أَتَأَيَّمُ
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: ٣٢] أَمْرٌ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَزْوِيجُ مَوْلَاتِهِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ النِّكَاحُ إِلَّا بِوَلِيٍّ، إِمَّا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى الْوَلِيِّ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْمُوَلِّيَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُوَلِّيَةَ لَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَفَوَّتَتْ عَلَى الْوَلِيِّ التَّمَكُّنَ مِنْ أَدَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِمَّا لِتَطَابُقِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْحَدِيثِ وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ»
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنِ اقْتَضَتْ بِظَاهِرِهَا الْإِيجَابَ إِلَّا أَنَّهُ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْإِيجَابُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِفِعْلِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ السَّلَفِ مُسْتَفِيضًا شَائِعًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَجَدْنَا عَصْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرَ الْأَعْصَارِ بَعْدَهُ قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ أَيَامَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَلَمْ يُنْكِرُوا عَدَمَ تَزْوِيجِهِنَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ وَثَانِيهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْأَيِّمَ الثَّيِّبَ لَوْ أَبَتِ التَّزَوُّجَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ وَثَالِثُهَا: اتِّفَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَيَامَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْجَمِيعِ بَلْ نَدْبٌ فِي الْجَمِيعِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْمَ الْأَيَامَى يَنْتَظِمُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهُوَ فِي الرِّجَالِ مَا أُرِيدَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْتُهُ تَخْصِيصَاتٌ تَطَرَّقَتْ إِلَى الْآيَةِ وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى حُجَّةً، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا إِذَا الْتَمَسَتِ الْمَرْأَةُ الْأَيِّمُ مِنَ الْوَلِيِّ التَّزْوِيجَ وَجَبَ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ وَجْهُ الْكَلَامِ.
368
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، الْآيَةُ تَقْتَضِي جَوَازَ تَزْوِيجِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِدُونِ رِضَاهَا، لِأَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ يَدُلَّانِ عَلَى أَمْرِ الْوَلِيِّ بِتَزْوِيجِهَا، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ الثَّيِّبَ الْكَبِيرَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا لَكَانَ جَائِزًا لَهُ تَزْوِيجُهَا أَيْضًا بِغَيْرِ رِضَاهَا، لِعُمُومِ الْآيَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى لَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ شَامِلًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَقَدْ أُضْمِرَ فِي الرِّجَالِ تَزْوِيجُهُمْ بِإِذْنِهِمْ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ فِي النِّسَاءِ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باستثمار الْبِكْرِ
بِقَوْلِهِ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»
وَذَلِكَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا وَالْجَوَابُ:
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ وَهُوَ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَيِّمَ مِنَ الرِّجَالِ يَتَوَلَّى أَمْرَ نَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَعَهُّدُ أَمْرِهِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ احْتِيَاجَهَا إِلَى مَنْ يُصْلِحُ أَمْرَهَا فِي التَّزْوِيجِ أَظْهَرُ، وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْأَيَامَى وَإِنْ تَنَاوَلَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، فَإِذَا أُطْلِقَ لَمْ يَتَنَاوَلْ إِلَّا النِّسَاءَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ إِذَا قُيِّدَ وَأَمَّا الثَّانِي: فَفِي تَخْصِيصِ الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه الْعَمُّ وَالْأَخُ يَلِيَانِ تَزْوِيجِ الْبِنْتِ الصَّغِيرَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، النَّاسُ فِي النِّكَاحِ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ تَتُوقُ نَفْسُهُ فِي النِّكَاحِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ إِنْ وَجَدَ أُهْبَةَ النِّكَاحِ سَوَاءٌ كَانَ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَنْكِحَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةَ النِّكَاحِ يَكْسِرُ شَهْوَتَهُ لِمَا
رَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ، أَمَّا الَّذِي لَا تَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ بِهِ مِنْ كِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ، لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّهِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ النِّكَاحُ،
لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَخَلَّى لِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: النِّكَاحُ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٩] مَدَحَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَوْنِهِ حَصُورًا وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِنَّ، وَلَا يُقَالُ هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُنَّ، لِأَنَّ مَدْحَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكُونُ عَيْبًا غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَدْحٌ فِي حَقِّ يَحْيَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْهُدَى عَلَى الْأُصُولِ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا غَيْرُ جَائِزٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْفُرُوعِ وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَفْضَلَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ»

وَيَتَمَسَّكُ أَيْضًا بِمَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَحَبُّ الْمُبَاحَاتِ إِلَى اللَّه تَعَالَى النِّكَاحُ»
وَيُحْمَلُ الْأَحَبُّ عَلَى الْأَصْلَحِ فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا يَقَعَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ كَوْنِهِ أَحَبَّ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاحًا، وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْمَنْدُوبُ مَا تَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ فَتَكُونُ الْعِبَادَةُ أَفْضَلَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَالْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ أَفْضَلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَالِاشْتِغَالُ بِالْمَقْصُودِ أَوْلَى وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ التَّسَرِّي وَالنِّكَاحِ ثُمَّ التَّسَرِّي
369
مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَمُسَاوِي الْمَرْجُوحِ مَرْجُوحٌ، فَالنِّكَاحُ مَرْجُوحٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ التَّسَرِّي وَالنِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٣] وَذَكَرَ كَلِمَةَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَمَارَةُ التَّسَاوِي، كَقَوْلِ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ كُلِ الرُّمَّانَ أَوِ التُّفَّاحَ، وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِوَاءُ فَالتَّسَرِّي مَرْجُوحٌ، وَمُسَاوِي الْمَرْجُوحِ مَرْجُوحٌ، فَالنِّكَاحُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا وَسَادِسُهَا: أَنَّ النَّافِلَةَ أَشَقُّ فَتَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا بَيَانُ أَنَّهَا أَشَقُّ أَنَّ مَيْلَ الطِّبَاعِ إِلَى النِّكَاحِ أَكْثَرُ، وَلَوْلَا تَرْغِيبُ الشَّرْعِ لَمَا رَغَبَ أَحَدٌ فِي النَّوَافِلِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا أَشَقُّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ ثَوَابًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا»
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: «أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ»
وَسَابِعُهَا: لَوْ كَانَ النِّكَاحُ مُسَاوِيًا لِلنَّوَافِلِ فِي الثَّوَابِ مَعَ/ أَنَّ النَّوَافِلَ أَشَقُّ مِنْهُ لَمَا كَانَتِ النَّوَافِلُ مَشْرُوعَةً. لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ طَرِيقَانِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وكانا في الإفضاء إلى المقصود سببين وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا وَالْآخَرُ سَهْلًا، فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ يَسْتَقْبِحُونَ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِالطَّرِيقِ الشَّاقِّ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنَ الطَّرِيقِ السَّهْلِ، وَلَمَّا كَانَتِ النَّوَافِلُ مَشْرُوعَةً عَلِمْنَا أَنَّهَا أَفْضَلُ وَثَامِنُهَا: لَوْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالنِّكَاحِ أَوْلَى مِنَ النَّافِلَةِ لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْحِرَاثَةِ وَالزِّرَاعَةِ أَوْلَى مِنَ النَّافِلَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْجَامِعُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِبَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ وَمُحَصِّلًا لِنِظَامِهِ وَتَاسِعُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ وَاجِبُ الْعِبَادَةِ عَلَى وَاجِبِ النِّكَاحِ، فَيُقَدَّمُ مَنْدُوبُهَا عَلَى مَنْدُوبِهِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَعَاشِرُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ اشْتِغَالٌ بِتَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الدُّنْيَا، وَالنَّافِلَةَ قَطْعُ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَإِقْبَالٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»
فَرَجَّحَ الصَّلَاةَ عَلَى النِّكَاحِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ صَوْنَ النَّفْسِ عَنِ الزِّنَا فَيَكُونُ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَالنَّافِلَةُ جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْعَدْلَ وَالْعَدْلُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَعَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً»
الثَّالِثُ: النِّكَاحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»
وَقَالَ فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّهَا خَيْرُ مَوْضُوعٍ: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْتَكْثِرْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْتَقْلِلْ»
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ أَفْضَلَ.
المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: ٣٢] وَإِنْ كَانَتْ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَيَامَى بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَكِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شُرُوطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٤].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْكُمْ فَقَدْ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُمُ الْأَحْرَارُ لِيَنْفَصِلَ الْحُرُّ مِنَ الْعَبْدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ يَكُونُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمَأْمُورِ مِنَ الْوَلَدِ أَوِ الْقَرِيبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْإِضَافَةُ تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: ظَاهِرٌ أَنَّهُ أَيْضًا أَمْرٌ لِلسَّادَةِ بِتَزْوِيجِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا كَانُوا صَالِحِينَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِتَزْوِيجِ الْأَيَامَى فِي بَابِ الْوُجُوبِ، لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِبَاحَةٌ أَوْ تَرْغِيبٌ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَلَا، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَزْوِيجِ الْأَيَامَى بِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ الْتِزَامَ مُؤْنَةٍ وَتَعْطِيلَ خِدْمَةٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى السَّيِّدِ وَفِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ اسْتِفَادَةُ مَهْرٍ وَسُقُوطُ نَفَقَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ عَلَى المولى.
370
المسألة الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا خَصَّ الصَّالِحِينَ بِالذِّكْرِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لِيُحَصِّنَ دِينَهُمْ وَيَحْفَظَ عَلَيْهِمْ صَلَاحَهُمُ الثَّانِي: لِأَنَّ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَرِقَّاءِ هُمُ الَّذِينَ مَوَالِيهِمْ يُشْفِقُونَ عَلَيْهِمْ [وَ] يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةَ/ الْأَوْلَادِ فِي الْمَوَدَّةِ، فَكَانُوا مَظَنَّةً لِلتَّوْصِيَةِ بِشَأْنِهِمْ وَالِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَتَقَبُّلِ الْوَصِيَّةِ فِيهِمْ، وَأَمَّا الْمُفْسِدُونَ مِنْهُمْ فَحَالُهُمْ عِنْدَ مَوَالِيهِمْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الصَّلَاحَ لِأَمْرِ النِّكَاحِ حَتَّى يَقُومَ الْعَبْدُ بِمَا يَلْزَمُ لَهَا، وَتَقُومُ الْأَمَةُ بِمَا يَلْزَمُ لِلزَّوْجِ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الصَّلَاحَ فِي نَفْسِ النِّكَاحِ بِأَنْ لَا تَكُونَ صَغِيرَةً فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى النِّكَاحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْمَوْلَى تَزْوِيجَهُ، لَكِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ جَازَ أَنْ يَتَوَلَّى تَزْوِيجَ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ تَوَلِّيهِ بِإِذْنِهِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ نَفْسُ السَّيِّدِ، فَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمَوْلَى يَتَوَلَّى تَزْوِيجَهُنَّ خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ مَنْ لا يجوز النكاح إلى بِوَلِيٍّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: الْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ وَعْدًا مِنَ اللَّه تَعَالَى بِإِغْنَاءِ مَنْ يَتَزَوَّجُ. بَلِ الْمَعْنَى لَا تَنْظُرُوا إِلَى فَقْرِ مَنْ يَخْطُبُ إِلَيْكُمْ أَوْ فَقَرِ مَنْ تُرِيدُونَ تَزْوِيجَهَا فَفِي فَضْلِ اللَّه مَا يُغْنِيهِمْ، وَالْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَلَيْسَ فِي الْفَقْرِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي النِّكَاحِ، فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ قُصِدَ بِهِ وَعْدُ الْغِنَى حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ خُلْفٌ، وَرُوِيَ عَنْ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ وَعْدًا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّه فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ يُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْتَمِسُوا الرزق بالنكاح،
وشكا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَاجَةَ فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِالْبَاءَةِ»
وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ مُطَرِّفٍ: تَزَوَّجُوا فَإِنَّهُ أَوْسَعُ لَكُمْ فِي رِزْقِكُمْ وَأَوْسَعُ لَكُمْ فِي أَخْلَاقِكُمْ وَيَزِيدُ فِي مُرُوءَتِكُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَرَى مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَيَتَزَوَّجُ فَيَصِيرُ فَقِيرًا؟
قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَةِ: ٢٨] الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَثَانِيهَا:
أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كان عاما إلا أنه يَكُونَ الْمُرَادُ الْغِنَى بِالْعَفَافِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وُقُوعَ الْغِنَى بِمِلْكِ الْبُضْعِ وَالِاسْتِغْنَاءَ بِهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ يُمَلَّكَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ فَتَقْتَضِي الْآيَةُ بَيَانَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يكون فقيرا وقد يكون غنيا، فإن ذل ذَلِكَ عَلَى الْمِلْكِ ثَبَتَ أَنَّهُمَا يُمَلَّكَانِ، وَلَكِنِ الْمُفَسِّرُونَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى الْأَحْرَارِ خَاصَّةً. فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَيَامَى، أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْغِنَى بِالْعَفَافِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ سَاقِطٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْإِفْضَالِ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ تَنْقَطِعُ قُدْرَتُهُ عَلَى الْإِفْضَالِ دُونَهُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلِيمٌ بِمَقَادِيرِ مَا يُصْلِحُهُمْ مِنَ الإفضال والرزق.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٣]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
371
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ تَزْوِيجَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَلْيَسْتَعْفِفِ أَيْ وَلْيَجْتَهِدْ فِي الْعِفَّةِ، كَأَنَّ الْمُسْتَعْفِفَ طَالِبٌ مِنْ نَفْسِهِ الْعَفَافَ وَحَامِلُهَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَجِدُونَ نِكاحاً فَالْمَعْنَى لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، يُقَالُ لَا يَجِدُ الْمَرْءُ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ [النساء: ٩٢] وَالْمُرَادُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، وَيُقَالُ فِي أَحَدِنَا هُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا، إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنِّكَاحِ مَا يُنْكَحُ بِهِ مِنَ الْمَالِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَطْلُبِ التَّعَفُّفَ، وَلْيَنْتَظِرْ أَنْ يُغْنِيَهُ اللَّه مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ يَصِلْ إِلَى بُغْيَتِهِ مِنَ النِّكَاحِ، فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيَسَ مِلْكُ الْيَمِينِ يَقُومُ مَقَامَ نَفْسِ النِّكَاحِ؟ قُلْنَا لَكِنَّ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، فَبِأَنْ لَا يَجِدَ ثَمَنَ الْجَارِيَةِ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ.
الْحُكْمُ التَّاسِعُ فِي الْكِتَابَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً، وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مَعَ الرِّقِّ، رَغَّبَهُمْ فِي أَنْ يُكَاتِبُوهُمْ إِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ، لِيَصِيرُوا أَحْرَارًا فَيَتَصَرَّفُوا فِي أَنْفُسِهِمْ كَالْأَحْرَارِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ فَكَاتِبُوهُمْ، كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْكِتَابُ وَالْكِتَابَةُ كَالْعِتَابِ وَالْعِتَابَةِ، وَفِي اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْكِتَابَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْكَتْبِ وَهُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَضُمُّ النُّجُومَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَضُمُّ مَالَهُ إِلَى مَالِهِ وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ وَمَعْنَاهُ كَتَبْتُ لَكَ عَلَى نَفْسِي أَنْ تَعْتِقَ مِنِّي إِذَا وَفَّيْتَ بِالْمَالِ، وَكَتَبْتُ لِي عَلَى نَفْسِكَ أَنْ تَفِيَ لِي بِذَلِكَ، أَوْ كَتَبْتُ لِي كِتَابًا عَلَيْكَ بِالْوَفَاءِ بِالْمَالِ وَكَتَبْتُ عَلَى الْعِتْقِ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَثَالِثُهَا: إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ التَّأْجِيلِ بِالْمَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَى مَالٍ هُوَ فِي يَدِ الْعَبْدِ حِينَ يُكَاتَبُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ لِسَيِّدِهِ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ مَا كَانَتْ يَدُ السَّيِّدِ غَيْرَ/ مَقْبُوضَةٍ عَنْ كَسْبِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَقَعَ هَذَا الْعَقْدُ حَالًا وَلَكِنَّهُ يفع مُؤَجَّلًا لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِاكْتِسَابِ وَغَيْرِهِ حِينَ ما انفبضت يَدُ السَّيِّدِ عَنْهُ، ثُمَّ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ الْمُؤَجَّلُ كتاب، فسمى لهذا المعنى هذا العقد كتاب لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَجَلِ، قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْدِ: ٣٨].
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: الْكِتَابَةُ أَنْ يَقُولَ لِمَمْلُوكِهِ كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا وَيُسَمِّي مَالًا مَعْلُومًا يُؤَدِّيهِ فِي نَجْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَيُبَيِّنُ عَدَدَ النُّجُومِ وَمَا يُؤَدِّي فِي كُلِّ نَجْمٍ، وَيَقُولُ إِذَا أَدَّيْتَ ذلك المال فأنت حر، أو ينوي ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَيَقُولُ الْعَبْدُ قَبِلْتُ، وَفِي هَذَا الضبط أبحاث.
372
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ لم يقل بلسانه أو يَنْوِ بِقَلْبِهِ إِذَا أَدَّيْتَ ذَلِكَ الْمَالَ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم اللَّه حِلَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكاتِبُوهُمْ خَالٍ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ الْكِتَابَةُ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ، وَإِذَا صَحَّتِ الْكِتَابَةُ وَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ لِلْإِجْمَاعِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ فَهُوَ مِلْكُ السَّيِّدِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ، بَلْ قوله كاتبتك كتابة في العت ق فلا بد من لفظ العت ق أَوْ نِيَّتِهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَتَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ مِلْكٌ يُؤَدِّيهِ فِي الْحَالِ، وَإِذَا عُقِدَ حَالًّا تَوَجَّهَتِ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْمَحَلِّ لَا يَصِحُّ بِخِلَافٍ مَا لَوْ أَسْلَمَ إِلَى مُعْسِرٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ حِينَ الْعَقْدِ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِلْكٌ فِي الْبَاطِنِ، فَالْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ عَنْ أَدَائِهِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكاتِبُوهُمْ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ وَالْمُؤَجَّلَةَ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَدَلًا عَنِ الرَّقَبَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَثْمَانِ السِّلَعِ الْمَبِيعَةِ فَيَجُوزُ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَأَيْضًا أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْعِتْقِ مُعَلَّقًا عَلَى مَالٍ حَالٍّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ مِثْلَهُ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْعِتْقِ فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطِ الْأَدَاءِ وَفِي الْآخَرِ مُعَجَّلٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه:
لَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ، رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ غَضِبَ عَلَى عَبْدِهِ، فَقَالَ: لَأُضَيِّقَنَّ الْأَمْرَ عَلَيْكَ، وَلَأُكَاتِبَنَّكَ عَلَى نَجْمَيْنِ، وَلَوْ جَازَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَكَاتَبَهُ عَلَى الْأَقَلِّ، لِأَنَّ التَّضْيِيقَ فِيهِ أَشَدُّ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا التَّنْجِيمَ لِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، وَمِنْ شَرْطِ الْإِرْفَاقِ التَّنْجِيمُ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمُ الْأَدَاءُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَكاتِبُوهُمْ لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ.
المسألة الرَّابِعَةُ: تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمَمْلُوكِ عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةً، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا، فَإِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا تَصِحُّ كِتَابَتُهُ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ/ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِابْتِغَاءُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: تَجُوزُ كِتَابَةُ الصَّبِيِّ وَيَقْبَلُ عَنْهُ الْمَوْلَى.
المسألة الْخَامِسَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مُكَلَّفًا مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ لَا تَصِحُّ كِتَابَتُهُ كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَكاتِبُوهُمْ خطاب فلا يتناول غير العاقل، وعن أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه تَصِحُّ كِتَابَةُ الصَّبِيِّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
المسألة السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَكاتِبُوهُمْ أَمْرُ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ هُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُكَاتِبَ مَمْلُوكَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ إِذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا، وَلَوْ كَانَ بِدُونِ قِيمَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَهَذَا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعَطَاءٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْأَثَرِ. أَمَّا الْآيَةُ فَظَاهِرُ قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ لأنه وَهُوَ لِلْإِيجَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي غُلَامٍ لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى يُقَالُ لَهُ صُبَيْحٌ سَأَلَ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَنَزَلَتِ
373
الْآيَةُ فَكَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا، وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ أن عمر أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَنَسًا أَنْ يُكَاتِبَ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَأَبَى، فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدُّرَّةَ وَضَرَبَهُ وَقَالَ: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَحَلَفَ عَلَيْهِ لَيُكَاتِبَنَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَكَانَ ضَرْبُهُ بِالدُّرَّةِ ظُلْمًا، وَمَا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ أمر استجاب وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ»
وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ أَنْ يَطْلُبَ الْكِتَابَةَ أَوْ يَطْلُبَ بَيْعَهُ مِمَّنْ يُعْتِقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ، فَكَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ فَكَذَا الْكِتَابَةُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُعَاوَضَاتِ أَجْمَعَ وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِمَالِهِ؟ قُلْنَا إذا ورد الشرع به أن يجوز كما إذا علق عَتَقَهُ عَلَى مَالٍ يَكْتَسِبُهُ فَيُؤَدِّيهِ أَوْ يُؤَدِّي عَنْهُ صَارَ سَبَبًا لِعِتْقِهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَسْتَفِيدُ الْعَبْدُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ مَا لَا يَمْلِكُهُ؟ لَوْلَا الْكِتَابَةُ؟ قُلْنَا نَعَمْ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ الزَّكَاةَ، وَلَمْ يُكَاتِبْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَإِذَا صَارَ مُكَاتَبًا حَلَّ لَهُ وَإِذَا دَفَعَ إِلَى مَوْلَاهُ حَلَّ لَهُ، سَوَاءٌ أَدَّى فَعَتَقَ أَوْ عَجَزَ فَعَادَ إِلَى الرِّقِّ، وَيَسْتَفِيدُ أَيْضًا أَنَّ الْكِتَابَةَ تَبْعَثُهُ عَلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْكَسْبِ، فَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، وَيَسْتَفِيدُ الْمَوْلَى الثَّوَابَ لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ فلا ثَوَابٌ، وَيَسْتَفِيدُ أَيْضًا الْوَلَاءُ لِأَنَّهُ لَوْ عُتِقَ من قبل غيره لم يكن له وأذلاء وَإِذَا عُتِقَ بِالْكِتَابَةِ فَالْوَلَاءُ لَهُ، فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِجَوَازِ الْكِتَابَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَوَائِدِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فَذَكَرُوا فِي الْخَيْرِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً، فَلَا تَدَعُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ»
وَثَانِيهَا: قَالَ عَطَاءٌ الْخَيْرُ/ الْمَالُ وَتَلَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً أَيْ تَرَكَ مَالًا، قَالَ وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَالِثُهَا: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ إذا صلى وقال النخعي وفاء وصدقا قال الْحَسَنُ صَلَاحًا فِي الدِّينِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْأَمَانَةُ وَالْقُوَّةُ عَلَى الْكَسْبِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكِتَابَةِ قَلَّمَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِمَا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَسُوبًا يُحَصِّلُ الْمَالَ وَيَكُونُ أَمِينًا يَصْرِفُهُ فِي نُجُومِهِ وَلَا يُضَيِّعُهُ فَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَا يستجب أَنْ يُكَاتِبَهُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَالِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِذَا قَالُوا فُلَانٌ فِيهِ خَيْرٌ إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الصَّلَاحَ فِي الدِّينِ وَلَوْ أَرَادَ الْمَالَ لَقَالَ إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ خَيْرًا، لأنه إنما يُقَالُ فِيهِ مَالٌ الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ لَا مَالَ لَهُ بَلِ الْمَالُ لِسَيِّدِهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَعُودُ عَلَى كِتَابَتِهِ بِالتَّمَامِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَهُوَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْكَسْبِ وَيُوثَقَ بِهِ بِحِفْظِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعُودُ عَلَى كِتَابَتِهِ بِالتَّمَامِ وَدَخَلَ فِيهِ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَيْرَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَهُ بِالْكَسْبِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي تَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْمَوْلَى يَحُطُّ عَنْهُ جزءا من مال الكتابة أو يدفع إليه جُزْءًا مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخِيَارَ لَهُ وَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَحُطَّ قَدْرًا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَحُطُّ رُبْعَ الْمَالِ،
رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَاتَبَ غلاما لَهُ رُبْعَ مُكَاتَبَتِهِ، وَقَالَ إِنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُنَا بِذَلِكَ
وَيَقُولُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّه تَعَالَى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالسُّبُعُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
374
رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ بِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَوَضَعَ عَنْهُ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ فَجَاءَ بِنَجْمِهِ فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاسْتَعِنْ بِهِ عَلَى أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ لَوْ تَرَكْتُهُ إِلَى آخِرِ نَجْمٍ؟ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لا أدرك ذلك ثم قرأ هذه الآية، وكان ابن عمر يؤخره إلى آخر النجوم مخافة أن يعجز. وثانيها: المراد وآتوهم سَهْمَهُمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ في قوله: وَفِي الرِّقابِ وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ لِغَيْرِ السَّادَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَدْفَعَ صَدَقَتَهُ الْمَفْرُوضَةَ إِلَى مُكَاتَبِ نَفْسِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلسَّادَةِ وَالنَّاسِ أَنْ يُعِينُوا الْمُكَاتَبَ عَلَى كِتَابَتِهِ بِمَا يُمْكِنُهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَالْمُقَاتِلِينَ وَالنَّخَعِيُّ
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَعَانَ مُكَاتَبًا عَلَى فَكِّ رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّه تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ»،
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْظَمْتَ المسألة، أَعْتَقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ، فَقَالَ أَلَيْسَا وَاحِدًا؟ فَقَالَ لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا»
قَالُوا وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِإِعْطَائِهِ/ مِنْ مَالِ اللَّه تَعَالَى وَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فَهُوَ مَا كَانَ سَبِيلُهُ الصَّدَقَةَ وَصَرْفُهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ:
مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ هُوَ الَّذِي قَدْ صَحَّ مِلْكُهُ لِلْمَالِكِ وَأُمِرَ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَالْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ صَحِيحٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا آتَاهُ اللَّه فَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ فِي يَدِهِ وَيُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَمَا سَقَطَ عَقِيبَ الْعَقْدِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ عَلَيْهِ يَدُ مِلْكٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الصِّفَةَ بِأَنَّهُ مِنْ مَالِ اللَّه الَّذِي آتَاهُ، فَإِنْ قِيلَ هَاهُنَا وَجْهَانِ يَقْدَحَانِ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَيْفَ يَحِلُّ لِمَوْلَاهُ إِذَا كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَكاتِبُوهُمْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمُخَاطَبُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى السَّادَاتِ، وَفِي الثانية سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ أَنَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِمَوْلَاهُ وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَقِفِ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ النُّجُومِ وَعَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي كَانَ لِلْمَوْلَى مَا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِسَبَبِ الصَّدَقَةِ، وَلَكِنْ بِسَبَبِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ كَمَنِ اشْتَرَى الصَّدَقَةَ مِنَ الْفَقِيرِ أَوْ وَرِثَهَا مِنْهُ. يَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ»
وَالْجَوَابُ:
عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ الْخِطَابُ لِقَوْمٍ ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ لَفْظِهِ خطابا لغيرهم، كقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [البقرة: ٢٣١] فَالْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ ثُمَّ خَاطَبَ الْأَوْلِيَاءَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ وقوله: مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ وَالْقَائِلُونَ غَيْرُ الْمُبَرَّئِينَ فَكَذَا هَاهُنَا قَالَ لِلسَّادَةِ فَكاتِبُوهُمْ وَقَالَ لِغَيْرِهِمْ وَآتُوهُمْ أَوْ قَالَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى إِيتَاءُ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ أَنْ يحط عنه جزءا من مال الكتابة أو يَدْفَعَ إِلَيْهِ جُزْءًا مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَقِيلَ عَلَيْهِ إِنَّ قَوْلَهُ:
فَكاتِبُوهُمْ وَقَوْلَهُ: وَآتُوهُمْ أَمْرَانِ وَرَدَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِمَ جُعِلَتِ الْأُولَى نَدْبًا وَالثَّانِيَ إِيجَابًا؟ وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ وَآتُوهُمْ لَيْسَ خِطَابًا مَعَ الْمَوَالِي بَلْ مَعَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ حَيْثُ السنة والقياس، أما السنة فما
روى عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ»
فَلَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَسَقَطَ عَنْهُ بِقَدْرِهِ،
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
375
رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ يَا عَائِشَةُ إِنِّي قَدْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعْيَتْنِي وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ جَمِيعًا وَيَكُونُ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَأَبَوْا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ مِنْهَا ابْتَاعِي وَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا مَا قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا وَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُؤَدِّيَ عَنْهَا كِتَابَتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَذَكَرَتْهُ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّه النُّكْرَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَطَّ عَنْهَا بَعْضُ كِتَابَتِهَا فَثَبَتَ قَوْلُنَا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الْإِيتَاءُ وَاجِبًا لَكَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ مُوجِبًا/ لَهُ وَمُسْقِطًا لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِتَنَافِي الْإِسْقَاطِ وَالْإِيجَابِ الثَّانِي: لَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُضَعَ عَنْهُ بَلْ كَانَ يَسْقُطُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ كَمَنْ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ دَيْنٌ ثُمَّ حَصَلَ لِذَلِكَ الْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْرُ الْإِيتَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ بِأَلْفَيْنِ فَيُعْتَقُ إِذَا أَدَّى ثَلَاثَةَ آلَافٍ. وَالْكِتَابَةُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَدَاءَ جَمِيعِهَا مَشْرُوطٌ فَلَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ بَعْضِهَا،
وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ»
وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا صَارَتِ الْكِتَابَةُ مَجْهُولَةً لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ مَجْهُولٌ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إِلَّا شَيْئًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ واللَّه أَعْلَمُ.
الْحُكْمُ الْعَاشِرُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الزِّنَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَزْوِيجِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَكِتَابَتِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْمَنْعِ مِنْ إِكْرَاهِ الْإِمَاءِ عَلَى الْفُجُورِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَانَ لِعَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ سِتُّ جَوَارٍ مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَأَرْوَى وَقُتَيْلَةُ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ وَضَرَبَ عَلَيْهِنَّ ضَرَائِبَ فَشَكَتِ [ا] ثَنَتَانِ مِنْهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت الْآيَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ أَسَرَ رَجُلًا فَرَاوَدَ الْأَسِيرُ جَارِيَةَ عَبْدِ اللَّه وَكَانَتِ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً فَامْتَنَعَتِ الْجَارِيَةُ لِإِسْلَامِهَا وَأَكْرَهَهَا ابْنُ أُبَيٍّ عَلَى ذَلِكَ، رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنَ الْأَسِيرِ فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ فَنَزَلَتْ وَثَالِثُهَا:
رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: «جَاءَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ جَارِيَةٌ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ تُسَمَّى مُعَاذَةُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه هَذِهِ لِأَيْتَامِ فُلَانٍ أَفَلَا نَأْمُرُهَا بِالزِّنَا فَيُصِيبُونَ مِنْ مَنَافِعِهَا؟
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا فَأَعَادَ الْكَلَامَ»
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه «جَاءَتْ جَارِيَةٌ لِبَعْضِ النَّاسِ فَقَالَتْ إِنَّ سَيِّدِي يُكْرِهُنِي عَلَى الْبِغَاءِ» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْإِكْرَاهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مَتَى حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِمَا يَقْتَضِي تَلَفَ النَّفْسِ فَأَمَّا بِالْيَسِيرِ مِنَ الْخَوْفِ فَلَا تَصِيرُ مُكْرَهَةً، فَحَالُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا كَحَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالنَّصُّ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْإِمَاءِ إِلَّا أَنَّ حَالَ الْحَرَائِرِ كَذَلِكَ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلْمَمْلُوكِ فَتًى وَلِلْمَمْلُوكَةِ فَتَاةٌ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ
376
[الْكَهْفِ: ٦٢] وَقَالَ: تُراوِدُ فَتاها [يُوسُفَ: ٣٠] وَقَالَ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النِّسَاءِ: ٢٥] وفي الحديث/ «ليقل أحدكم فتاتي وَلَا يَقُلْ عَبْدِي وَأَمَتِي».
المسألة الرَّابِعَةُ: الْبِغَاءُ الزِّنَا يُقَالُ بَغَتْ تَبْغِي بِغَاءً فَهِيَ بَغِيٌّ.
المسألة الْخَامِسَةُ: الَّذِي نَقُولُ بِهِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ إِنَّ عَلَى الشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ إِنْ لِلشَّرْطِ وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ مَا يَنْتَفِي الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَمَجْمُوعُ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ النَّقْلِيَّتَيْنِ، يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ إِنَّ عَلَى الشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ الْمَنْعَ مِنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبِغَاءِ عَلَى إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ بِكَلِمَةِ إِنْ فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَزِمَ أَنْ لَا يَنْتَفِيَ الْمَنْعُ مِنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا لَمْ تُوجَدْ إِرَادَةُ التَّحَصُّنِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ سَوَاءٌ وُجِدَتْ إِرَادَةُ التَّحَصُّنِ أَوْ لَمْ تُوجَدْ فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا حَاصِلٌ وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ وَلَكِنَّهُ فَسَدَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ تُوجَدُ إِرَادَةُ التَّحَصُّنِ فِي حَقِّهَا لَمْ تَكُنْ كَارِهَةً لِلزِّنَا، وَحَالُ كَوْنِهَا غَيْرَ كَارِهَةٍ لِلزِّنَا يَمْتَنِعُ إِكْرَاهُهَا عَلَى الزِّنَا فَامْتَنَعَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ وَذَاتِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ ذَكَرَ فِيهِ جَوَابًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ الْحَالِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَالْكَلَامُ الْوَارِدُ عَلَى سَبِيلِ الْغَالِبِ لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومُ الْخِطَابِ كَمَا أَنَّ الْخُلْعَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الشِّقَاقِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ وُقُوعَ الْخُلْعِ فِي حَالَةِ الشِّقَاقِ لَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٩] مَفْهُومٌ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النِّسَاءِ: ١٠١] وَالْقَصْرُ لَا يَخْتَصُّ بِحَالِ الْخَوْفِ وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَجْرَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْغَالِبِ، فكذا هاهنا وَالْجَوَابُ: الثَّالِثُ مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِأَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي وَرَدَتِ الْآيَةُ فِيهَا كَانَتْ كَذَلِكَ على ما رويناه أَنَّ جَارِيَةَ عَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ أَسْلَمَتْ وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ طَلَبًا لِلْعَفَافِ فَأَكْرَهَهَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ، نَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الْبَقَرَةِ: ٢٣] أَيْ وَإِذَا كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ.
المسألة السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ مِنْ إِكْرَاهِهِنَّ عَلَى الزِّنَا فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ إِكْرَاهَهُنَّ عَلَى النِّكَاحِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا زَوَّجَهَا بَلْ لَهُ أَنْ يكرهها على ذلك وهذه الدلالة دَلِيلِ الْخِطَابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أَيْ تَعَفُّفًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يَعْنِي كسبهن وأولادهن.
أما قوله: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ [بَيَانٌ] أَنَّهُ تَعَالَى غَفُورٌ رَحِيمٌ لِلْمُكْرِهِ أَوْ لِلْمُكْرَهَةِ لَا جَرَمَ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِنَّ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ أَزَالَ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عُذْرٌ لِلْمُكْرَهَةِ، أَمَّا الْمُكْرِهُ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِيمَا فَعَلَ الثَّانِي: الْمُرَادُ فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ بِالْمُكْرِهِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلَى التَّفْسِيرِ/ الْأَوَّلِ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي يحتاج إليه.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أَيْ مُفَصِّلَاتٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مُبَيِّنَاتٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ
عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ كَمَا قَالَ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٥] أَوْ تَكُونُ مِنْ بَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ: قَدْ بَيَّنَ «١» الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ بِالْمَثَلِ مَا ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمَثَلًا أَيْ شَبَهًا مِنْ حَالِهِمْ بِحَالِكُمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، يَعْنِي بَيَّنَّا لَكُمْ مَا أَحْلَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ لِتَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَجَعَلْنَا ذَلِكَ مَثَلًا لَكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِذَا شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَعِيدُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ فِعْلِ الْمَعَاصِي وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ مَوْعِظَةٌ لِلْكُلِّ، لَكِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذكرناها في قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وهاهنا آخر الكلام في الأحكام.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
الْقَوْلُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَثَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ أَنَّ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء.
أَمَّا الْمَثَلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ النُّورِ عَلَى اللَّه تَعَالَى
اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ النُّورِ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْفَائِضَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجُدْرَانِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ إِنْ كَانَتْ عِبَارَةً عَنِ الْجِسْمِ كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ دَالًّا عَلَى حُدُوثِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عرضا فمتى ثَبَتَ حُدُوثُ جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِهِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحُلُولَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنَّا سَوَاءٌ قُلْنَا النُّورُ جِسْمٌ أَوْ أَمْرٌ حَالٌّ فِي الْجِسْمِ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ جِسْمًا فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مُنْقَسِمٌ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا فِيهِ، فَالْحَالُّ فِي الْمُنْقَسِمِ مُنْقَسِمٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالنُّورُ مُنْقَسِمٌ وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى تَحَقُّقِ أَجْزَائِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ فَهُوَ فِي تَحَقُّقِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مُحْدَثٌ بِغَيْرِهِ، فَالنُّورُ مُحْدَثٌ فَلَا يَكُونُ إِلَهًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَحْسُوسَ لَوْ كَانَ هُوَ اللَّه لَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ هَذَا النُّورُ لِامْتِنَاعِ الزَّوَالِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَحْسُوسَ يَقَعُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ. وَذَلِكَ
(١) يروي المثل: قد وضح الصبح لذي عينين. [.....]
378
عَلَى اللَّه مُحَالٌ وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ لَوْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً لَكَانَتْ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَحَرِّكَةً أَوْ سَاكِنَةً، لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ مُتَحَرِّكَةً لِأَنَّ الْحَرَكَةَ مَعْنَاهَا الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَالْحَرَكَةُ مَسْبُوقَةٌ بِالْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ الْأَوَّلِ. وَالْأَزَلِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْغَيْرِ فَالْحَرَكَةُ الْأَزَلِيَّةُ مُحَالٌ. وَلَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةً لِأَنَّ السُّكُونَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَكَانَ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ لَكِنَّ السُّكُونَ جَائِزُ الزَّوَالِ، لِأَنَّا نَرَى الْأَنْوَارَ تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْأَنْوَارِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ النُّورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ كَيْفِيَّةً قَائِمَةً بِالْجِسْمِ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّا قَدْ نَعْقِلُ الْجِسْمَ جِسْمًا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِهِ نَيِّرًا وَلِأَنَّ الْجِسْمَ قَدْ يَسْتَنِيرُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُظْلِمًا فَثَبَتَ الثَّانِي لَكِنَّ الْكَيْفِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِالْجِسْمِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْجِسْمِ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْمَانَوِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ سُبْحَانَهُ هُوَ النُّورُ الْأَعْظَمُ. وَأَمَّا الْمُجَسِّمَةُ الْمُعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ الْقُرْآنِ فَيُحْتَجُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَلَوْ كَانَ نُورًا لَبَطَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْوَارَ كُلَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ ذَاتُهُ نَفْسَ النُّورِ بَلِ النُّورُ مُضَافٌ إِلَيْهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ:
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ نُورٌ. وقوله: مَثَلُ نُورِهِ يقتضي أن لا أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ فِي ذَاتِهِ نُورًا وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ، قُلْنَا نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُكَ زَيْدٌ/ كَرَمٌ وَجُودٌ، ثُمَّ تَقُولُ يُنْعِشُ النَّاسَ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا تَنَاقُضَ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: ١] وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَاهِيَّةَ النُّورِ مَجْعُولَةٌ للَّه تَعَالَى فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ نُورًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ النُّورَ سَبَبٌ لِلظُّهُورِ وَالْهِدَايَةُ لَمَّا شَارَكَتِ النُّورَ فِي هذا النُّورَ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ النُّورِ عَلَى الْهِدَايَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧].
وَقَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً [الْأَنْعَامِ: ١٢٢] وَقَالَ: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشُّورَى: ٥٢] فَقَوْلُهُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ ذو نور السموات وَالْأَرْضِ وَالنُّورُ هُوَ الْهِدَايَةُ وَلَا تَحْصُلُ إِلَّا لأهل السموات، والحاصل أن المراد اللَّه هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ رَضِيَ اللَّه عنهم وثانيها: المراد أنه مدبر السموات وَالْأَرْضِ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَحُجَّةٍ نَيِّرَةٍ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ كَمَا يُوصَفُ الرَّئِيسُ الْعَالِمُ بِأَنَّهُ نُورُ الْبَلَدِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُدَبِّرَهُمْ تَدْبِيرًا حَسَنًا فَهُوَ لَهُمْ كَالنُّورِ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ إِلَى مَسَالِكِ الطُّرُقِ، قَالَ جَرِيرٌ:
وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وَغَيْثٌ وَعِصْمَةٌ
وَهَذَا اخْتِيَارُ الْأَصَمِّ وَالزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: المراد ناظم السموات وَالْأَرْضِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَحْسَنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِالنُّورِ عَلَى النِّظَامِ، يُقَالُ مَا أَرَى لِهَذَا الأمر نورا ورابعها: معناه منور السموات وَالْأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَاءِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْضِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالثَّانِي: مُنَوِّرُهَا بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَزَيَّنَ الْأَرْضَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ الْغَزَالِيَّ رَحِمَهُ اللَّه صَنَّفَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكِتَابَ الْمُسَمَّى بِمِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّه نُورٌ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ لَيْسَ النُّورُ إِلَّا هُوَ، وَأَنَا أَنْقُلُ مُحَصِّلَ مَا ذَكَرَهُ
379
مَعَ زَوَائِدَ كَثِيرَةٍ تُقَوِّي كَلَامَهُ ثُمَّ نَنْظُرُ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْصَافِ فَقَالَ: اسْمُ النُّورِ إِنَّمَا وُضِعَ لِلْكَيْفِيَّةِ الْفَائِضَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ، فَيُقَالُ اسْتَنَارَتِ الْأَرْضُ وَوَقَعَ نُورُ الشَّمْسِ عَلَى الثَّوْبِ وَنُورُ السِّرَاجِ عَلَى الْحَائِطِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ إِنَّمَا اخْتُصَّتْ بِالْفَضِيلَةِ وَالشَّرَفِ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّاتِ تَصِيرُ بِسَبَبِهَا ظَاهِرَةً مُنْجَلِيَةً، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَمَا يَتَوَقَّفُ إِدْرَاكُ هَذِهِ الْمَرْئِيَّاتِ عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَنِيرَةً فَكَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ إِذِ الْمَرْئِيَّاتُ بَعْدَ اسْتِنَارَتِهَا لَا تَكُونُ ظَاهِرَةً فِي حَقِّ الْعُمْيَانِ فَقَدْ سَاوَى الرُّوحُ الْبَاصِرَةُ النُّورَ الظَّاهِرَةَ فِي كَوْنِهِ رُكْنًا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلظُّهُورِ، ثُمَّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الرُّوحَ الْبَاصِرَةَ هِيَ الْمُدْرِكَةُ وَبِهَا الْإِدْرَاكُ، وَأَمَّا النُّورُ الْخَارِجُ فَلَيْسَ بِمُدْرِكٍ ولا به الإدراك بل عند الْإِدْرَاكُ، فَكَانَ وَصْفُ الْإِظْهَارِ بِالنُّورِ الْبَاصِرِ أَحَقَّ مِنْهُ بِالنُّورِ الْمُبْصَرِ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقُوا/ اسْمَ النُّورِ عَلَى نُورِ الْعَيْنِ الْمُبْصِرَةِ فَقَالُوا فِي الْخُفَّاشِ إِنَّ نُورَ عَيْنِهِ ضَعِيفٌ، وَفِي الْأَعْمَشِ إِنَّهُ ضَعُفَ نُورُ بَصَرِهِ. وَفِي الْأَعْمَى إِنَّهُ فَقَدَ نُورَ الْبَصَرِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ لِلْإِنْسَانِ بَصَرًا وَبَصِيرَةً فَالْبَصَرُ هُوَ الْعَيْنُ الظَّاهِرَةُ الْمُدْرِكَةُ لِلْأَضْوَاءِ وَالْأَلْوَانِ، وَالْبَصِيرَةُ هِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ يَقْتَضِي ظُهُورَ الْمُدْرَكِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ نُورٌ إِلَّا أَنَّهُمْ عَدَّدُوا لِنُورِ الْعَيْنِ عُيُوبًا لَمْ يَحْصُلْ شيء منها في نور العقلي، وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذَكَرَ مِنْهَا سَبْعَةً، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا عِشْرِينَ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَلَا تُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا وَلَا تُدْرِكُ آلَتَهَا، أَمَّا أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَلَا تُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا فَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ وَإِدْرَاكَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ لَيْسَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُبْصَرَةِ بِالْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ، وَأَمَّا آلَتُهَا فَهِيَ الْعَيْنُ، وَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ بِالْعَيْنِ لَا تُدْرِكُ الْعَيْنَ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّهَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَتُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا وَتُدْرِكُ آلَتَهَا فِي الْإِدْرَاكِ وَهِيَ الْقَلْبُ وَالدِّمَاغُ، فَثَبَتَ أَنَّ نُورَ الْعَقْلِ أَكْمَلُ مِنْ نُورِ الْبَصَرِ الثَّانِي: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَالْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تُدْرِكُهَا، وَمُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَهُوَ الْقَلْبُ أَشْرَفُ مِنْ مُدْرِكِ الْجُزْئِيَّاتِ، أَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ فَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَوْ أَدْرَكَتْ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَهِيَ مَا أَدْرَكَتِ الْكُلَّ لِأَنَّ الْكُلَّ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ والمستقبل، وأما أن القوة العاقلة تدرك الكيات فَلِأَنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمَايِزَةٌ بِخُصُوصِيَّاتِهَا، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَالْإِنْسَانِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ إِنْسَانِيَّةٌ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْمُشَخَّصَاتِ فَقَدْ عَقَلْنَا الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، وَأَمَّا أَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيَّاتِ أَشْرَفُ فَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيَّاتِ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ، وَإِدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ وَاجِبُ التَّغَيُّرِ، وَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيِّ يَتَضَمَّنُ إِدْرَاكَ الْجُزْئِيَّاتِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَهُ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْمَاهِيَّةِ ثَبَتَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا وَلَا يَنْعَكِسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ الثَّالِثُ: الْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ غَيْرُ مُنْتِجٍ وَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ مُنْتِجٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ أَشْرَفَ، أَمَّا كَوْنُ الْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ غَيْرَ مُنْتِجٍ فَلِأَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِحْسَاسُ سَبَبًا لِحُصُولِ إِحْسَاسٍ آخَرَ لَهُ، بَلْ لَوِ اسْتَعْمَلَ لَهُ الْحِسَّ مَرَّةً أُخْرَى لَأَحَسَّ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِنْتَاجَ الْإِحْسَاسِ لِإِحْسَاسٍ آخَرَ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ مُنْتِجٌ فَلِأَنَّا إِذَا عَقَلْنَا أُمُورًا ثُمَّ رَكَّبْنَاهَا فِي عُقُولِنَا تَوَسَّلْنَا بِتَرْكِيبِهَا إِلَى اكْتِسَابِ عُلُومٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا كُلُّ تَعَقُّلٍ حَاصِلٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ تَعَقُّلٍ آخَرَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ الرَّابِعُ: الْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ لَا يَتَّسِعُ لِلْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ وَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ، يَتَّسِعُ لَهَا
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أَشْرَفَ. أَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ لَا يَتَّسِعُ لَهَا فَلِأَنَّ الْبَصَرَ إِذَا تَوَالَى عَلَيْهِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ عَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهَا، فَأَدْرَكَ لَوْنًا كَأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنَ اخْتِلَاطِ تِلْكَ الْأَلْوَانِ [وَ] السَّمْعُ إِذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ كَلِمَاتٌ كَثِيرَةٌ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ وَلَمْ يَحْصُلِ التَّمْيِيزُ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ مُتَّسِعٌ لَهَا فَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تَحْصِيلُهُ لِلْعُلُومِ أَكْثَرَ كَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى كَسْبِ الْجَدِيدِ أَسْهَلَ، وَبِالْعَكْسِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ الإدراك
380
الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ الْخَامِسُ: الْقُوَّةُ الْحِسِّيَّةُ إِذَا/ أَدْرَكَتِ الْمَحْسُوسَاتِ الْقَوِيَّةَ فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَعْجِزُ عَنْ إِدْرَاكِ الضَّعِيفَةِ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ الصَّوْتَ الشَّدِيدَ فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ الصَّوْتَ الضَّعِيفَ وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَشْغَلُهَا مَعْقُولٌ عَنْ مَعْقُولٍ السَّادِسُ: الْقُوَى الْحِسِّيَّةُ تَضْعُفُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، وَتَضْعُفُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَفْكَارِ الَّتِي هِيَ موجبا لِاسْتِيلَاءِ النَّفْسِ عَلَى الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِخَرَابِ الْبَدَنِ، وَالْقُوَى الْعَقْلِيَّةُ تَقْوَى بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ وَتَقْوَى عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَفْكَارِ الْمُوجِبَةِ لِخَرَابِ الْبَدَنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِغْنَاءِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَنْ هَذِهِ الْآلَاتِ وَاحْتِيَاجِ الْقُوَى الْحِسِّيَّةِ إِلَيْهَا السَّابِعُ: الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ لَا تُدْرِكُ الْمَرْئِيَّ مَعَ الْقُرْبِ الْقَرِيبِ وَلَا مَعَ الْبُعْدِ الْبَعِيدِ، وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا بِحَسَبِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَإِنَّهَا تَتَرَقَّى إِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ وَتَنْزِلُ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى فِي أَقَلِّ مِنْ لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ تُدْرِكُ ذَاتَ اللَّه وَصِفَاتِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَالْجِهَةِ فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَشْرَفَ الثَّامِنُ:
الْقُوَّةُ الْحِسِّيَّةُ لَا تُدْرِكُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا ظَوَاهِرِهَا فَإِذَا أَدْرَكَتِ الْإِنْسَانَ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَدْرَكَتِ الْإِنْسَانَ لِأَنَّهَا مَا أَدْرَكَتْ إِلَّا السَّطْحَ الظَّاهِرَ مِنْ جِسْمِهِ، وَإِلَّا اللَّوْنَ الْقَائِمَ بِذَلِكَ السَّطْحِ، وَبِالِاتِّفَاقِ فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ السَّطْحِ وَاللَّوْنِ فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ عَاجِزَةٌ عَنِ النُّفُوذِ فِي الْبَاطِنِ، أَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّ بَاطِنَ الْأَشْيَاءِ وَظَاهِرَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّهَا تُدْرِكُ الْبَوَاطِنَ وَالظَّوَاهِرَ وَتَغُوصُ فِيهَا وَفِي أَجْزَائِهَا، فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ نُورًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، أَمَّا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظَّاهِرِ نُورٌ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنِ ظُلْمَةٌ، فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ أَشْرَفَ مِنَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ التَّاسِعُ: أَنَّ مُدْرِكَ القوة العاقلة هو اللَّه تعالى وجميع أفعاله، وَمُدْرِكَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ هُوَ الْأَلْوَانُ وَالْأَشْكَالُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ شَرَفِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ إِلَى شَرَفِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ كَنِسْبَةِ شَرَفِ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى إِلَى شَرَفِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ الْعَاشِرُ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ تُدْرِكُ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمَاهِيَّاتِ الَّتِي هِيَ مَعْرُوضَاتُ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَوَّلَ حِكَمِهِ أَنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَذَلِكَ مَسْبُوقٌ لَا مَحَالَةَ بِتَصَوُّرِ مُسَمَّى الْوُجُودِ وَمُسَمَّى الْعَدَمِ فَكَأَنَّهُ بِهَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَإِنَّهَا لَا تُدْرِكُ إِلَّا الْأَضْوَاءَ وَالْأَلْوَانَ وَهُمَا مِنْ أَخَسِّ عَوَارِضِ الْأَجْسَامِ وَالْأَجْسَامُ أَخَسُّ مِنَ الْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَكَانَ مُتَعَلِّقُ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ أَخَسَّ الْمَوْجُودَاتِ. وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ فَهُوَ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ أَشْرَفَ. الْحَادِي عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ تَقْوَى عَلَى تَوْحِيدِ الْكَثِيرِ وَتَكْثِيرِ الْوَاحِدِ، وَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ لَا تَقْوَى عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تَقْوَى عَلَى تَوْحِيدِ الْكَثِيرِ، فَذَاكَ لِأَنَّهَا تَضُمُّ الْجِنْسَ إِلَى الْفَصْلِ فَيَحْدُثُ مِنْهُمَا طَبِيعَةٌ نَوْعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا تَقْوَى عَلَى تَكْثِيرِ الْوَاحِدِ فَلِأَنَّهَا تَأْخُذُ الْإِنْسَانَ وَهِيَ مَاهِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَتُقَسِّمُهَا إِلَى مَفْهُومَاتِهَا وَإِلَى عَوَارِضِهَا اللَّازِمَةِ وَعَوَارِضِهَا الْمُفَارِقَةِ، ثُمَّ تُقَسِّمُ مُقَوِّمَاتِهِ إِلَى الْجِنْسِ وَجِنْسِ الْجِنْسِ، وَالْفَصْلِ وَفَصْلِ الْفَصْلِ، وَجِنْسِ الْفَصْلِ وَفَصْلِ الْجِنْسِ، / إِلَى سَائِرِ الْأَجْزَاءِ الْمُقَوِّمَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ مِنَ الْأَجْنَاسِ وَلَا مِنَ الْفُصُولِ، ثُمَّ لَا تزال تأتي بهذا لتقسيم فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حَتَّى تَنْتَهِيَ مِنْ تِلْكَ الْمُرَكَّبَاتِ إِلَى الْبَسَائِطِ الْحَقِيقِيَّةِ، ثُمَّ تُعْتَبَرُ فِي الْعَوَارِضِ اللَّازِمَةِ أَنَّ تِلْكَ الْعَوَارِضَ مُفْرَدَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ وَلَازِمَةٌ بِوَسَائِطَ أَوْ بِوَسَطٍ، أَوْ بِغَيْرِ وَسَطٍ، فَالْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ كَأَنَّهَا نَفَذَتْ فِي أَعْمَاقِ الْمَاهِيَّاتِ وَتَغَلْغَلَتْ فِيهَا وَمَيَّزَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَأَنْزَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْمَكَانِ اللَّائِقِ بِهِ. فَأَمَّا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَلَا تَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِ الْمَاهِيَّاتِ، بَلْ لَا تَرَى إِلَّا أَمْرًا وَاحِدًا وَلَا تَدْرِي مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ أَشْرَفُ الثَّانِي عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ تَقْوَى عَلَى إِدْرَاكَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْقُوَّةُ الْحَاسَّةُ لَا تَقْوَى عَلَى ذَلِكَ: بَيَانُ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَوَسَّلَ بِالْمَعَارِفِ الْحَاضِرَةِ إِلَى اسْتِنْتَاجِ الْمَجْهُولَاتِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَجْعَلُ تِلْكَ
381
النَّتَائِجَ مُقَدِّمَاتٍ فِي نَتَائِجَ أُخْرَى لَا إِلَى نِهَايَةٍ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْقُوَّةَ الْحَاسَّةَ لَا تَقْوَى عَلَى الِاسْتِنْتَاجِ أَصْلًا الثَّانِي:
أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تَقْوَى عَلَى تَعَقُّلِ مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ وَلَا نِهَايَةَ لَهَا الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَعْقِلَ نَفْسَهَا، وَأَنْ تَعْقِلَ أَنَّهَا عَقَلَتْ وَكَذَا إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ الرَّابِعُ: النَّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَهِيَ مَعْقُولَةٌ لَا مَحْسُوسَةٌ فَظَهَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ أَشْرَفُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الْإِنْسَانُ بِقُوَّتِهِ الْعَاقِلَةِ يُشَارِكُ اللَّه تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَبِقُوَّتِهِ الْحَاسَّةِ يُشَارِكُ الْبَهَائِمَ، وَالنِّسْبَةُ مُعْتَبَرَةٌ فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ أَشْرَفَ الرَّابِعَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ غَنِيَّةٌ فِي إِدْرَاكِهَا الْعَقْلِيِّ عَنْ وُجُودِ الْمَعْقُولِ فِي الْخَارِجِ، وَالْقُوَّةُ الْحَاسَّةُ مُحْتَاجَةٌ فِي إِدْرَاكِهَا الْحِسِّيِّ إِلَى وُجُودِ الْمَحْسُوسِ فِي الْخَارِجِ، وَالْغَنِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْمُحْتَاجِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ الْخَارِجِيَّةُ مُمْكِنَةٌ لِذَوَاتِهَا وَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِيجَادُ عَلَى سَبِيلِ الْإِتْقَانِ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعِلْمِ، فَإِذَنْ وُجُودُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْخَارِجِ تَابِعٌ لِلْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ، وَأَمَّا الْإِحْسَاسُ بِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَابِعٌ لِوُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ، فَإِذَنِ الْقُوَّةُ الْحَسَّاسَةُ تَبَعٌ لِتَبَعِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ السَّادِسَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ فِي الْعَقْلِ إِلَى الْآلَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوِ اخْتَلَّتْ حَوَاسُّهُ الْخَمْسُ، فَإِنَّهُ يَعْقِلُ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسَاوِيَةَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ. وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْحَسَّاسَةُ فَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى آلَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالْغَنِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْمُحْتَاجِ، السَّابِعَ عَشَرَ: الْإِدْرَاكُ الْبَصَرِيُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلشَّيْءِ الَّذِي فِي الْجِهَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ بَلْ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُقَابِلَ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ، وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ عَنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: الْعَرْضُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَابِلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَكَانِ، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْجِسْمِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلٌ الثَّانِي: رُؤْيَةُ الوجه فِي الْمِرْآةِ، فَإِنَّ الشُّعَاعَ يَخْرُجُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْمِرْآةِ، ثُمَّ يَرْتَدُّ مِنْهَا إِلَى الوجه فَيَصِيرُ الوجه مَرْئِيًّا، وَهُوَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ كَالْمُقَابِلِ لِنَفْسِهِ. الثَّالِثُ:
رُؤْيَةُ الْإِنْسَانِ قَفَاهُ إِذَا جَعَلَ إِحْدَى الْمِرْآتَيْنِ مُحَاذِيَةً لِوَجْهِهِ وَالْأُخْرَى لِقَفَاهُ. وَالرَّابِعُ: رُؤْيَةُ مَا لَا يُقَابَلُ بِسَبَبِ انْعِطَافِ الشُّعَاعِ فِي الرُّطُوبَاتِ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْمَنَاظِرِ «١» وَأَمَّا/ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّهَا مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْجِهَاتِ، فَإِنَّهَا تَعْقِلُ الْجِهَةَ وَالْجِهَةُ لَيْسَتْ فِي الْجِهَةِ، وَلِذَلِكَ تَعْقِلُ أَنَّ الشَّيْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْجِهَةِ، وَهَذَا التَّرْدِيدُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ تَعَقُّلِ مَعْنَى قَوْلِنَا لَيْسَ فِي الْجِهَةِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ تَعْجِزُ عِنْدَ الْحِجَابِ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّهَا لَا يَحْجُبُهَا شَيْءٌ أصلا فكانت أشرف. التاسع عشر: القوة العاملة كَالْأَمِيرِ، وَالْحَاسَّةُ كَالْخَادِمِ وَالْأَمِيرُ أَشْرَفُ مِنَ الْخَادِمِ، وَتَقْرِيرُ [الْفَرْقِ بَيْنَ] الْإِمَارَةِ وَالْخِدْمَةِ مَشْهُورٌ. الْعِشْرُونَ: الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ قَدْ تَغْلَطُ كَثِيرًا فَإِنَّهَا قَدْ تُدْرِكُ الْمُتَحَرِّكَ سَاكِنًا وَبِالْعَكْسِ، كَالْجَالِسِ فِي السَّفِينَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ السَّفِينَةَ الْمُتَحَرِّكَةَ سَاكِنَةً وَالشَّطَّ السَّاكِنَ مُتَحَرِّكًا، وَلَوْلَا الْعَقْلُ لَمَا تَمَيَّزَ خَطَأُ الْبَصَرِ عَنْ صَوَابِهِ، وَالْعَقْلُ حَاكِمٌ وَالْحِسُّ مَحْكُومٌ، فثبت بما ذكرنا أن الإدراك العقل أَشْرَفُ مِنَ الْإِدْرَاكِ الْبَصَرِيِّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ يَقْتَضِي الظُّهُورَ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ خَوَاصِّ النُّورِ، فَكَانَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أَوْلَى بِكَوْنِهِ نُورًا مِنَ الْإِدْرَاكِ الْبَصَرِيِّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَنْوَارُ الْعَقْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبُ الْحُصُولِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ التَّعَقُّلَاتُ الْفِطْرِيَّةُ وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ مُكْتَسَبًا وَهِيَ التَّعَقُّلَاتُ النَّظَرِيَّةُ أَمَّا الْفِطْرِيَّةُ فَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ لَوَازِمِ جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ حَالَ الطُّفُولِيَّةِ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا الْبَتَّةَ فَهَذِهِ الْأَنْوَارُ الْفِطْرِيَّةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ وَأَمَّا النَّظَرِيَّاتُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِطْرَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ قَدْ يَعْتَرِيهَا الزَّيْغُ فِي الْأَكْثَرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ هَادٍ مُرْشِدٍ وَلَا مُرْشِدَ فوق كلام اللَّه تعالى وفوق
(١) يريد بالمناظر المرايا. وهو من مباحث العلوم الطبيعية في الضوء والانعكاس الضوئي.
382
إِرْشَادِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ مَنْزِلَةُ آيَاتِ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَيْنِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ إِذْ بِهِ يَتِمُّ الْإِبْصَارُ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يُسَمَّى الْقُرْآنُ نُورًا كَمَا يُسَمَّى نُورُ الشَّمْسِ نُورًا، فَنُورُ الْقُرْآنِ يُشْبِهُ نُورَ الشَّمْسِ وَنُورُ الْعَقْلِ يُشْبِهُ نُورَ الْعَيْنِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التَّغَابُنِ: ٨] وَقَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاءِ: ١٧٤] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاءِ: ١٧٤] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيَانَ الرَّسُولِ أَقْوَى مِنْ نُورِ الشَّمْسِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ الْقُدْسِيَّةُ أَعْظَمَ فِي النُّورَانِيَّةِ مِنَ الشَّمْسِ، وَكَمَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ تُفِيدُ النُّورَ لِغَيْرِهِ وَلَا تَسْتَفِيدُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَا نَفْسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفِيدُ الْأَنْوَارَ الْعَقْلِيَّةَ لِسَائِرِ الْأَنْفُسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا تَسْتَفِيدُ الْأَنْوَارَ الْعَقْلِيَّةَ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَنْفُسِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى الشَّمْسَ بِأَنَّهَا سِرَاجٌ حَيْثُ قَالَ:
وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفُرْقَانِ: ٦١] وَوَصَفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سِرَاجٌ مُنِيرٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ ثَبَتَ بِالشَّوَاهِدِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ الْأَنْوَارَ الْحَاصِلَةَ فِي أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْأَنْوَارِ الْحَاصِلَةِ فِي أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: ٢] وَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وقال: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:
١٠٢] وقال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: ٤، ٥] وَالْوَحْيُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا جَعَلْنَا أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمَ اسْتِنَارَةً مِنَ الشَّمْسِ فَأَرْوَاحُ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي هِيَ كَالْمَعَادِنِ لِأَنْوَارِ عُقُولِ الْأَنْبِيَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْوَارِ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْمُسَبَّبِ. ثُمَّ نَقُولُ ثَبَتَ أَيْضًا بِالشَّوَاهِدِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّمَاوِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ فَبَعْضُهَا مُسْتَفِيدَةٌ وَبَعْضُهَا/ مُفِيدَةٌ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: ٢١] وَإِذَا كَانَ هُوَ مُطَاعُ الْمَلَائِكَةِ فَالْمُطِيعُونَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا تَحْتَ أَمْرِهِ وَقَالَ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: ١٦٤] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْمُفِيدُ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ نُورًا مِنَ الْمُسْتَفِيدِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَلِمَرَاتِبِ الْأَنْوَارِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ مِثَالٌ وَهُوَ أَنَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَمَرِ ثُمَّ دَخَلَ فِي كُوَّةِ بَيْتٍ وَوَقَعَ عَلَى مِرْآةٍ مَنْصُوبَةٍ عَلَى حَائِطٍ ثُمَّ انْعَكَسَ مِنْهَا إِلَى حَائِطٍ آخَرَ نُصِبَ عَلَيْهِ مِرْآةٌ أُخْرَى ثُمَّ انْعَكَسَ مِنْهَا إِلَى طَسْتٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْمَاءِ مَوْضُوعٍ عَلَى الْأَرْضِ انْعَكَسَ مِنْهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ فَالنُّورُ الْأَعْظَمُ فِي الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ الْمَعْدِنُ، وَثَانِيًا فِي الْقَمَرِ، وَثَالِثًا مَا وَصَلَ إِلَى الْمِرْآةِ الْأُولَى، وَرَابِعًا مَا وَصَلَ إِلَى الْمِرْآةِ الثَّانِيَةِ، وَخَامِسًا مَا وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ، وَسَادِسًا مَا وَصَلَ إِلَى السَّقْفِ، وَكُلَّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَنْبَعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَقْوَى مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ فَكَذَا الْأَنْوَارُ السَّمَاوِيَّةُ لَمَّا كَانَتْ مُرَتَّبَةً لَا جَرَمَ كَانَ نُورُ الْمُفِيدِ أَشَدَّ إِشْرَاقًا مِنْ نُورِ الْمُسْتَفِيدِ، ثُمَّ تِلْكَ الْأَنْوَارُ لَا تَزَالُ تَكُونُ مُتَرَقِّيَةً حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى النُّورِ الْأَعْظَمِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَرْوَاحِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّه الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النَّبَأِ: ٣٨] ثُمَّ نَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ الْحِسِّيَّةَ إِنْ كَانَتْ سُفْلِيَّةً كَانَتْ كَأَنْوَارِ النِّيرَانِ أَوْ عُلْوِيَّةً كَانَتْ كَأَنْوَارِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَكَذَا الْأَنْوَارُ الْعَقْلِيَّةُ سفلية كانت كالأرواح السفلية التي للأنبياء أَوْ عُلْوِيَّةً كَالْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّهَا بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةٌ لِذَوَاتِهَا وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ يَسْتَحِقُّ الْعَدَمَ مِنْ ذَاتِهِ وَالْوُجُودَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْعَدَمُ هُوَ الظُّلْمَةُ الْحَاصِلَةُ وَالْوُجُودُ هُوَ النُّورُ، فَكُلُّ ما سوى اللَّه مظلم لذاته مستنير بإنارة اللَّه تَعَالَى وَكَذَا جَمِيعُ مَعَارِفِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَاصِلٌ مِنْ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهَا بِالْوُجُودِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي ظُلُمَاتِ الْعَدَمِ وَأَفَاضَ عَلَيْهَا أَنْوَارَ الْمَعَارِفِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ، فَلَا ظُهُورَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِإِظْهَارِهِ، وَخَاصَّةُ النُّورِ إِعْطَاءُ الْإِظْهَارِ وَالتَّجَلِّي وَالِانْكِشَافِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ النُّورَ الْمُطْلَقَ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَأَنَّ إِطْلَاقَ النُّورِ عَلَى
383
غَيْرِهِ مَجَازٌ إِذْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه، فإنه من حيث هو هو ظلمة محضة لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، بَلِ الْأَنْوَارُ إِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ فَهِيَ ظُلُمَاتٌ، لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مُمْكِنَاتٌ، وَالْمُمْكِنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعْدُومٌ، وَالْمَعْدُومُ مُظْلِمٌ. فَالنُّورُ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ ظُلْمَةٌ، فَأَمَّا إِذَا الْتُفِتَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ أَفَاضَ عَلَيْهَا نُورَ الْوُجُودِ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَتْ أَنْوَارًا. فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ النُّورُ. وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَلَيْسَ بِنُورٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّه تَكَلَّمَ بَعْدَ هَذَا فِي أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سبحانه لم أضاف النور إلى السموات والأرض؟ وأجاب فقال قد عرفت أن السموات وَالْأَرْضَ مَشْحُونَةٌ بِالْأَنْوَارِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْحِسِّيَّةِ، أَمَّا الحسية فما يشاهد في السموات مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا يُشَاهَدُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَشِعَّةِ الْمُنْبَسِطَةِ عَلَى سُطُوحِ الْأَجْسَامِ حَتَّى ظَهَرَتْ بِهِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَلْوَانِ ظُهُورٌ بَلْ وُجُودٌ، وَأَمَّا الْأَنْوَارُ الْعَقْلِيَّةُ فَالْعَالَمُ الْأَعْلَى مَشْحُونٌ بِهَا وَهِيَ جَوَاهِرُ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَالَمُ الْأَسْفَلُ/ مَشْحُونٌ بِهَا وَهِيَ الْقُوَى النَّبَاتِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَبِالنُّورِ الْإِنْسَانِيِّ السُّفْلِيِّ ظَهَرَ نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهر نِظَامِ عَالَمِ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: ٥٥] وَقَالَ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النَّمْلِ: ٦٢] فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ مَشْحُونٌ بِالْأَنْوَارِ الظَّاهِرَةِ الْبَصَرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، ثُمَّ عَرَفْتَ أَنَّ السُّفْلِيَّةَ فَائِضَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَيَضَانَ النُّورِ مِنَ السِّرَاجِ فَإِنَّ السِّرَاجَ هُوَ الرُّوحُ النَّبَوِيُّ، ثُمَّ إِنَّ الْأَنْوَارَ النَّبَوِيَّةَ الْقُدْسِيَّةَ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ اقْتِبَاسَ السِّرَاجِ مِنَ النُّورِ، وَإِنَّ الْعُلْوِيَّاتِ مُقْتَبِسَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّ بَيْنَهَا تَرْتِيبًا فِي الْمَقَامَاتِ، ثُمَّ تَرْتَقِي جُمْلَتُهَا إِلَى نُورِ الْأَنْوَارِ وَمَعْدِنِهَا وَمَنْبَعِهَا الْأَوَّلِ، وَأَنَّ
ذَلِكَ هُوَ اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِذَنِ الْكُلُّ نُورُهُ فَلِهَذَا قَالَ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: فَإِذَا كَانَ اللَّه النُّورَ فَلِمَ احْتِيجَ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى الْبُرْهَانِ؟ أَجَابَ فَقَالَ إِنَّ مَعْنَى كونه نور السموات وَالْأَرْضِ مَعْرُوفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّورِ الظَّاهِرِ الْبَصَرِيِّ، فَإِذَا رَأَيْتَ خُضْرَةَ الرَّبِيعِ فِي ضِيَاءِ النَّهَارِ فَلَسْتَ تَشُكُّ فِي أَنَّكَ تَرَى الْأَلْوَانَ فَرُبَّمَا ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَا تَرَى مَعَ الْأَلْوَانِ غَيْرَهَا، فَإِنَّكَ تَقُولُ لَسْتُ أَرَى مَعَ الْخُضْرَةِ غَيْرَ الْخُضْرَةِ إِلَّا أَنَّكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ تُدْرِكُ تَفْرِقَةً ضَرُورِيَّةً بَيْنَ اللَّوْنِ حَالَ وُقُوعِ الضَّوْءِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ تَعْرِفُ أَنَّ النُّورَ مَعْنًى غَيْرُ اللَّوْنِ يُدْرَكُ مَعَ الْأَلْوَانِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِشِدَّةِ اتِّحَادِهِ بِهِ لَا يُدْرَكُ وَلِشِدَّةِ ظُهُورِهِ يَخْتَفِي وَقَدْ يَكُونُ الظُّهُورُ سَبَبَ الْخَفَاءِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا ظَهَرَ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبَصَرِ بِالنُّورِ الظَّاهِرِ فَقَدْ ظَهَرَ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ باللَّه وَنُورُهُ حَاصِلٌ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا يفارقه، ولكن بقي هاهنا تَفَاوُتٌ وَهُوَ أَنَّ النُّورَ الظَّاهِرَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَغِيبَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُحْجَبَ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ اللَّوْنِ، وَأَمَّا النُّورُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ كُلُّ شَيْءٍ لَا يُتَصَوَّرُ غَيْبَتُهُ بَلْ يَسْتَحِيلُ تَغَيُّرُهُ فَيَبْقَى مَعَ الْأَشْيَاءِ دَائِمًا، فَانْقَطَعَ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّفْرِقَةِ، وَلَوْ تُصُوِّرَتْ غَيْبَتُهُ لَانْهَدَمَتِ السموات وَالْأَرْضُ وَلَأُدْرِكَ عِنْدَهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ مَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا تَسَاوَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لَا بَعْضَ الْأَشْيَاءِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ارْتَفَعَتِ التَّفْرِقَةُ وَخَفِيَ الطَّرِيقُ، إِذِ الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِالْأَضْدَادِ فَمَا لَا ضِدَّ لَهُ وَلَا تَغَيُّرَ لَهُ بِتَشَابُهِ أَحْوَالِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى وَيَكُونُ خَفَاؤُهُ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ، فَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَفَى عَنِ الْخَلْقِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَاحْتَجَبَ عَنْهُمْ بِإِشْرَاقِ نُورِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّه كَلَامٌ مُسْتَطَابٌ وَلَكِنْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ بَعْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ نُورًا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْعَالَمِ
384
وَأَنَّهُ خَالِقٌ لِلْقُوَى الدَّرَّاكَةِ، وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ قولنا معنى كونه نور السموات والأرض أنه هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ مَا قَالَهُ وَبَيْنَ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَعْنَى واللَّه أَعْلَمُ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ للَّه سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ/ وَظُلْمَةٍ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ مَا أَدْرَكَ بَصَرُهُ»
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سَبْعُمِائَةٍ وَفِي بَعْضِهَا سَبْعُونَ أَلْفًا، فَأَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَجَلٍّ فِي ذَاتِهِ لِذَاتِهِ كَانَ الْحِجَابُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَحْجُوبِ لَا مَحَالَةَ وَالْمَحْجُوبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا، إِمَّا بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَإِمَّا بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ نُورٍ فَقَطْ، أَوْ بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ ظُلْمَةٍ فَقَطْ، أَمَّا الْمَحْجُوبُونَ بِالظُّلْمَةِ الْمَحْضَةِ فَهُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ إِلَى حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ خَاطِرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِوُجُودِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَى وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَمْ لَا؟
وَذَلِكَ لِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مُظْلِمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِيرًا مِنْ حَيْثُ اسْتَفَادَ النُّورَ مِنْ حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، فَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَصَارَ ذَلِكَ الِاشْتِغَالُ حَائِلًا لَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى جَانِبِ النُّورِ كَانَ حِجَابُهُ مَحْضَ الظُّلْمَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ أَنْوَاعُ الِاشْتِغَالِ بِالْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ خَارِجَةً عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ فَكَذَا أَنْوَاعُ الْحُجُبِ الظُّلْمَانِيَّةِ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَحْجُوبُونَ بِالْحُجُبِ الْمَمْزُوجَةِ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهَا أَنَّهَا غَنِيَّةٌ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، أَوْ يَعْتَقِدَ فِيهَا أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ، فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا غَنِيَّةٌ فَهَذَا حِجَابٌ مَمْزُوجٌ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ أَمَّا النُّورُ: فَلِأَنَّهُ تَصَوَّرَ مَاهِيَّةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ النُّورِ وَأَمَّا الظُّلْمَةُ: فَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ حُصُولَ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَهَذَا ظُلْمَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا حِجَابٌ مَمْزُوجٌ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَصْنَافُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُمْكِنَ غَنِيٌّ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ يَقُولُ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا طَبَائِعُهَا أَوْ حَرَكَاتُهَا أَوِ اجْتِمَاعُهَا وَافْتِرَاقُهَا أَوْ نِسْبَتُهَا إِلَى حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ أَوْ إِلَى مُحَرِّكَاتِهَا وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا القسم.
القسم الثاني: الْحُجُبُ النُّورَانِيَّةُ الْمَحْضَةُ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَلَا نِهَايَةَ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلِمَرَاتِبِهَا، فَالْعَبْدُ لَا يَزَالُ يَكُونُ مُتَرَقِّيًا فِيهَا فَإِنْ وَصَلَ إِلَى دَرَجَةٍ وَبَقِيَ فِيهَا كَانَ اسْتِغْرَاقُهُ فِي مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الدَّرَجَةِ حِجَابًا لَهُ عَنِ التَّرَقِّي إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ كَانَ الْعَبْدُ أَبَدًا فِي السَّيْرِ وَالِانْتِقَالِ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ الْمَخْصُوصَةُ فَهِيَ مُحْتَجِبَةٌ عَنِ الْكُلِّ فَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى كَيْفِيَّةِ مَرَاتِبِ الْحَجْبِ، وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا حَصَرَهَا فِي سَبْعِينَ أَلْفًا تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا فَإِنَّهَا لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي الحقيقة.
385
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي شَرْحِ كَيْفِيَّةِ التَّمْثِيلِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّشْبِيهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: المشبه والمشبه به، واختلف الناس هاهنا في أن المشبه أي شي هُوَ؟
وَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنَصَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ/ مِنَ الْهُدَى الَّتِي هِيَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هِدَايَةَ اللَّه تَعَالَى قَدْ بَلَغَتْ فِي الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَصَارَتْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمِشْكَاةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا زُجَاجَةٌ صَافِيَةٌ. وَفِي الزُّجَاجَةِ مِصْبَاحٌ يَتَّقِدُ بِزَيْتٍ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الصَّفَاءِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ شَبَّهَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، قُلْنَا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَصِفَ الضَّوْءَ الْكَامِلَ الَّذِي يَلُوحُ وَسَطَ الظُّلْمَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَوْهَامِ الْخَلْقِ وَخَيَالَاتِهِمْ إِنَّمَا هُوَ الشُّبُهَاتُ الَّتِي هِيَ كَالظُّلُمَاتِ وَهِدَايَةُ اللَّه تَعَالَى فِيمَا بَيْنَهَا كَالضَّوْءِ الْكَامِلِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا بَيْنَ الظُّلُمَاتِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ لِأَنَّ ضَوْءَهَا إِذَا ظَهَرَ امْتَلَأَ الْعَالَمُ مِنَ النُّورِ الْخَالِصِ، وَإِذَا غَابَ امْتَلَأَ الْعَالَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ فَلَا جَرَمَ كَانَ ذلك المثل هاهنا أَلْيَقَ وَأَوْفَقَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي اعْتَبَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الْمِثَالِ مِمَّا تُوجِبُ كَمَالَ الضَّوْءِ فَأَوَّلُهَا:
الْمِصْبَاحُ لِأَنَّ الْمِصْبَاحَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمِشْكَاةِ تَفَرَّقَتْ أَشِعَّتُهُ، أَمَّا إِذَا وُضِعَ فِي الْمِشْكَاةِ اجْتَمَعَتْ أَشِعَّتُهُ فَكَانَتْ أَكْثَرَ إِنَارَةً، وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِصْبَاحَ إِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ صَغِيرٍ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ ضَوْئِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَظْهَرُ فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمِصْبَاحَ إِذَا كَانَ فِي زُجَاجَةٍ صَافِيَةٍ فَإِنَّ الْأَشِعَّةَ الْمُنْفَصِلَةَ عَنِ الْمِصْبَاحِ تَنْعَكِسُ مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِ الزُّجَاجَةِ إِلَى الْبَعْضِ لِمَا فِي الزُّجَاجَةِ مِنَ الصَّفَاءِ وَالشَّفَافِيَّةِ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يَزْدَادُ الضَّوْءُ وَالنُّورُ، وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ إِذَا وَقَعَ عَلَى الزُّجَاجَةِ الصَّافِيَةِ تَضَاعَفَ الضَّوْءُ الظَّاهِرُ حَتَّى أَنَّهُ يَظْهَرُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّوْءِ، فَإِنِ انْعَكَسَتْ تِلْكَ الْأَشِعَّةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَوَانِبِ الزُّجَاجَةِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ كَثُرَتِ الْأَنْوَارُ وَالْأَضْوَاءُ وَبَلَغَتِ النِّهَايَةَ الْمُمْكِنَةَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ ضَوْءَ الْمِصْبَاحِ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ مَا يَتَّقِدُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الدُّهْنُ صَافِيًا خَالِصًا كَانَتْ حَالَتُهُ بِخِلَافِ حَالَتِهِ إِذَا كَانَ كَدِرًا وَلَيْسَ فِي الْأَدْهَانِ الَّتِي تُوقِدُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنَ الصَّفَاءِ مِثْلَ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الزَّيْتِ فَرُبَّمَا يَبْلُغُ فِي الصَّفَاءِ وَالرِّقَّةِ مَبْلَغَ الْمَاءِ مَعَ زِيَادَةِ بَيَاضٍ فِيهِ وَشُعَاعٍ يَتَرَدَّدُ فِي أَجْزَائِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الزَّيْتَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ شَجَرَتِهِ، فَإِذَا كَانَتْ لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ بَارِزَةً لِلشَّمْسِ فِي كُلِّ حَالَاتِهَا يَكُونُ زَيْتُونُهَا أَشَدَّ نُضْجًا، فَكَانَ زَيْتُهُ أَكْثَرَ صَفَاءً وَأَقْرَبَ إِلَى أَنْ يَتَمَيَّزَ صَفْوُهُ مِنْ كَدَرِهِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الشَّمْسِ تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ وَتَعَاوَنَتْ صَارَ ذَلِكَ الضَّوْءُ خَالِصًا كَامِلًا فَيَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ مَثَلًا لِهِدَايَةِ اللَّه تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّورِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ الْقُرْآنُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ [الْمَائِدَةِ: ١٥] وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَثَالِثُهَا:
أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ الْمُرْشِدُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِهِ: وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَابِ: ٤٦] وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ دَاخِلَانِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ إِنْزَالَ الْكُتُبِ وَبِعْثَةَ الرُّسُلِ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُتُبِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى:
٥٢] وَقَالَ فِي صِفَةِ الرُّسُلِ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ:
١٦٥] وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ/ اللَّه تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ نُورٌ وَالْكُفْرَ بِأَنَّهُ ظُلْمَةٌ، فَقَالَ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: ٢٢] وقال تَعَالَى: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ حَمَلَ الْهُدَى عَلَى الِاهْتِدَاءِ،
386
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ أَنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ قَدْ بَلَغَ فِي الصَّفَاءِ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَالِامْتِيَازِ عَنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ مَبْلَغَ السِّرَاجِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أُبَيٌّ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ، وَهَكَذَا كَانَ يَقْرَأُ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَخَامِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَهُوَ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ أَنْوَارٌ، وَمَرَاتِبُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا: الْقُوَّةُ الْحَسَّاسَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَتَلَقَّى مَا تُورِدُهُ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ وَكَأَنَّهَا أَصْلُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، وَأَوَّلُهُ إِذْ بِهِ يَصِيرُ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَهُوَ مَوْجُودٌ لِلصَّبِيِّ الرَّضِيعِ وَثَانِيهَا: الْقُوَّةُ الْخَيَالِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تَسْتَثْبِتُ مَا أَوْرَدَهُ الْحَوَاسُّ وَتَحْفَظُهُ مَخْزُونًا عِنْدَهَا لِتَعْرِضَهُ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي فَوْقَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُدْرِكَةُ لِلْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ وَرَابِعُهَا: الْقُوَّةُ الْفِكْرِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفا فستنتج مِنْ تَأْلِيفِهَا عِلْمًا بِمَجْهُولٍ وَخَامِسُهَا: الْقُوَّةُ الْقُدْسِيَّةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ، وَتَتَجَلَّى فِيهَا لَوَائِحُ الْغَيْبِ وَأَسْرَارُ الْمَلَكُوتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشُّورَى: ٥٢] وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقُوَى فَهِيَ بِجُمْلَتِهَا أَنْوَارٌ، إِذْ بِهَا تَظْهَرُ أَصْنَافُ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّ هَذِهِ المراتب الخمسة يمكن تشبيهها بالأمور الحسنة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى وَهِيَ: الْمِشْكَاةُ وَالزُّجَاجَةُ وَالْمِصْبَاحُ وَالشَّجَرَةُ وَالزَّيْتُ. أَمَّا الرُّوحُ الْحَسَّاسُ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى خَاصِّيَّتِهِ وَجَدْتَ أَنْوَارَهُ خَارِجَةً مِنْ عِدَّةِ أَثْقُبٍ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمِنْخَرَيْنِ وَأَوْفَقُ مِثَالٍ لَهُ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَامِ الْمِشْكَاةُ وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الرُّوحُ الْخَيَالِيُّ فَنَجِدُ لَهُ خَوَاصَّ ثَلَاثَةً: الْأُولَى: أَنَّهُ مِنْ طِينَةِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ الْكَثِيفِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَخَيَّلَ ذُو قَدْرٍ وَشَكْلٍ وَحَيِّزٍ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ أَنْ تُحْجَبَ عَنِ الْأَنْوَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي هِيَ التَّعَقُّلَاتُ الْكُلِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا الْخَيَالَ الْكَثِيفَ إِذَا صَفَا وَرَقَّ وَهُذِّبَ صَارَ مُوَازِنًا لِلْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ وَمُؤَدِّيًا لِأَنْوَارِهَا وَغَيْرَ حَائِلٍ عَنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُعَبِّرَ يَسْتَدِلُّ بِالصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، كَمَا يَسْتَدِلُّ بِالشَّمْسِ عَلَى الْمَلِكِ، وَبِالْقَمَرِ عَلَى الْوَزِيرِ، وَبِمَنْ يَخْتِمُ فُرُوجَ النَّاسِ وَأَفْوَاهَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مُؤَذِّنٌ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الصُّبْحِ وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ الْخَيَالَ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ جِدًّا لِيَضْبِطَ بِهَا الْمَعَارِفَ الْعَقْلِيَّةَ وَلَا تَضْطَرِبَ، فَنِعْمَ الْمِثَالَاتُ الْخَيَالِيَّةُ الْجَالِبَةُ لِلْمَعَارِفِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنْتَ لَا تَجِدُ شَيْئًا فِي الْأَجْسَامِ يُشْبِهُ الْخَيَالَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا الزُّجَاجَةُ، فَإِنَّهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ جَوْهَرٍ كَثِيفٍ وَلَكِنْ صَفَا وَرَقَّ حَتَّى صَارَ لَا يَحْجُبُ نُورَ الْمِصْبَاحِ بَلْ يُؤَدِّيهِ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ عَلَى الِانْطِفَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَهِيَ الْقَوِيَّةُ عَلَى إِدْرَاكِ الْمَاهِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَعَارِفِ/ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ وَجْهُ تَمْثِيلِهِ بِالْمِصْبَاحِ، وَقَدْ عَرَفْتَ هَذَا حَيْثُ بَيَّنَّا كَوْنَ الْأَنْبِيَاءِ سُرُجًا مُنِيرَةً وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ الْقُوَّةُ الْفِكْرِيَّةُ فَمِنْ خَوَاصِّهَا أَنَّهَا تَأْخُذُ مَاهِيَّةً واحدة، ثم تقسيمها إِلَى قِسْمَيْنِ كَقَوْلِنَا الْمَوْجُودُ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، ثُمَّ تَجْعَلُ كُلَّ قِسْمٍ مَرَّةً أُخْرَى قِسْمَيْنِ وَهَكَذَا إِلَى أَنْ تَكْثُرَ الشُّعَبُ بِالتَّقْسِيمَاتِ العقلية، ثم تقضي بالآخرة إلى نتائج وَهِيَ ثَمَرَاتُهَا، ثُمَّ تَعُودُ فَتَجْعَلُ تِلْكَ الثَّمَرَاتِ بُذُورًا لِأَمْثَالِهَا حَتَّى تَتَأَدَّى إِلَى ثَمَرَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مِثَالُهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الشَّجَرَةَ، وَإِذَا كَانَتْ ثِمَارُهَا مَادَّةً لِتَزَايُدِ أَنْوَارِ الْمَعَارِفِ وَنَبَاتِهَا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يُمَثَّلَ بِشَجَرَةِ السَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ، بَلْ بِشَجَرَةِ الزَّيْتُونِ خَاصَّةً، لِأَنَّ لُبَّ ثَمَرَتِهَا هُوَ الزَّيْتُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْمَصَابِيحِ، وَلَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَدْهَانِ خَاصِّيَّةُ زِيَادَةِ الْإِشْرَاقِ وَقِلَّةِ الدُّخَانِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَاشِيَةُ الَّتِي يَكْثُرُ دَرُّهَا وَنَسْلُهَا وَالشَّجَرَةُ الَّتِي تَكْثُرُ ثَمَرَتُهَا تُسَمَّى مُبَارَكَةً فَالَّذِي لَا يَتَنَاهَى إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى شَجَرَةً مُبَارَكَةً، وَإِذَا كَانَتْ شُعَبُ الْأَفْكَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ مُجَرَّدَةً عَنْ لَوَاحِقِ الْأَجْسَامِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تكون
387
لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ الْقُوَّةُ الْقُدْسِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَهِيَ فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ وَالصَّفَاءِ
، فَإِنَّ الْقُوَّةَ الْفِكْرِيَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيمٍ وَتَنْبِيهٍ وَإِلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْقِسْمِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ بِكَمَالِهِ وَصَفَائِهِ وَشِدَّةِ اسْتِعْدَادِهِ بِأَنَّهُ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فَهَذَا الْمِثَالُ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقِسْمِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَنْوَارُ مُرَتَّبَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَالْحِسُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْخَيَالِ وَالْخَيَالُ كَالْمُقَدَّمَةِ لِلْعَقْلِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَكُونَ الْمِشْكَاةُ كَالظَّرْفِ لِلزُّجَاجَةِ الَّتِي هِيَ كَالظَّرْفِ لِلْمِصْبَاحِ وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فَإِنَّهُ نَزَّلَ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ الْخَمْسَةَ عَلَى مَرَاتِبِ إِدْرَاكَاتِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَقَالَ لَا شَكَّ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ قَابِلَةٌ لِلْمَعَارِفِ الْكُلِّيَّةِ وَالْإِدْرَاكَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فَهُنَاكَ تُسَمَّى عَقْلًا هَيُولِيًّا وَهِيَ الْمِشْكَاةُ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ: يَحْصُلُ فِيهَا الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ الَّتِي يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِتَرْكِيبَاتِهَا إِلَى اكْتِسَابِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ أَمْكِنَةَ الِانْتِقَالِ إِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً فَهِيَ الشَّجَرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ الزَّيْتُ، وَإِنْ كَانَتْ شَدِيدَةَ الْقُوَّةِ جِدًّا فَهِيَ الزُّجَاجَةُ الَّتِي تَكُونُ كَأَنَّهَا الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي النِّهَايَةِ الْقُصْوَى وَهِيَ النَّفْسُ الْقُدْسِيَّةُ الَّتِي لِلْأَنْبِيَاءِ فَهِيَ الَّتِي يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ: يُكْتَسَبُ مِنَ الْعُلُومِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ حَاضِرَةً بِالْفِعْلِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ بِحَيْثُ مَتَى شَاءَ صَاحِبُهَا اسْتِحْضَارَهَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَهَذَا يُسَمَّى عَقْلًا بِالْفِعْلِ وَهَذَا الْمِصْبَاحُ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَارِفُ الضَّرُورِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ حَاصِلَةً بِالْفِعْلِ وَيَكُونُ صَاحِبُهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَهَذَا يُسَمَّى عَقْلًا مُسْتَفَادًا وَهُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ لِأَنَّ الْمَلَكَةَ نُورٌ وَحُصُولُ مَا عَلَيْهِ الْمَلَكَةُ نُورٌ آخَرُ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ جَوْهَرٍ رُوحَانِيٍّ يُسَمَّى بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَهُوَ مُدَبِّرُ مَا تَحْتَ كُرَةِ الْقَمَرِ وَهُوَ النَّارُ وَسَابِعُهَا: قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الصَّدْرَ بِالْمِشْكَاةِ وَالْقَلْبَ/ بِالزُّجَاجَةِ وَالْمَعْرِفَةَ بِالْمِصْبَاحِ، وَهَذَا الْمِصْبَاحُ إِنَّمَا تَوَقَّدَ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ وَهِيَ إِلْهَامَاتُ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: ٢] وَقَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَإِنَّمَا شَبَّهَ الْمَلَائِكَةَ بِالشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ لِأَنَّهَا رُوحَانِيَّةٌ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ لِكَثْرَةِ عُلُومِهَا وَشِدَّةِ إِطِّلَاعِهَا عَلَى أَسْرَارِ مَلَكُوتِ اللَّه تعالى والظاهر هاهنا أَنَّ الْمُشَبَّهَ غَيْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَثَامِنُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ مَثَلُ نُورِهِ أَيْ مَثَلُ نُورِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، فَالْمِشْكَاةُ نَظِيرُ صُلْبِ عَبْدِ اللَّه وَالزُّجَاجَةُ نَظِيرُ جَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمِصْبَاحُ نَظِيرُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ أَوْ نَظِيرُ النُّبُوَّةِ فِي قَلْبِهِ وَتَاسِعُهَا: قَالَ قَوْمٌ الْمِشْكَاةُ نَظِيرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالزُّجَاجَةُ نَظِيرُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمِصْبَاحُ نَظِيرُ جَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّجَرَةُ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ وَعَاشِرُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مَثَلُ نُورِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَ يَقْرَأُهَا مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ أَيْ مَثَلُ هُدَاهُ وَبَيَانِهِ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّا لَمَّا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بأنه هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ فَإِذَا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: مَثَلُ نُورِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَثَلُ هُدَاهُ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِمَا قبله.
388
الْفَصْلُ الرَّابِعُ- فِي بَقِيَّةِ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ فِي الْجِدَارِ غَيْرُ النَّافِذَةِ، هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أُخَرَ:
أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الْمِشْكَاةُ الْقَائِمُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقِنْدِيلِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْفَتِيلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْقُرَظِيِّ وَالثَّانِي: قَالَ الزجاج هي هاهنا قَصَبَةُ الْقِنْدِيلِ مِنَ الزُّجَاجَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِيهَا الْفَتِيلَةُ الثَّالِثُ:
قَالَ الضَّحَّاكُ إِنَّهَا الْحَلْقَةُ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْقِنْدِيلُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ.
المسألة الثَّانِيَةُ: زَعَمُوا أَنَّ الْمِشْكَاةَ هِيَ الْكُوَّةُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ الْمِشْكَاةُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِثْلُهَا الْمِشْكَاةُ وَهِيَ الدَّقِيقُ الصَّغِيرُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالتَّقْدِيرُ مَثَلُ نُورِهِ كَمِصْبَاحٍ فِي مِشْكَاةٍ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَعْدِنًا لِلنُّورِ وَمَنْبَعًا لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْمِصْبَاحُ لَا الْمِشْكَاةُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: الْمِصْبَاحُ السِّرَاجُ وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّوْءِ وَمِنْهُ الصُّبْحُ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قُرِئَ زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ بِالضَّمِّ والفتح والكسر، أما دري فقرىء بِضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا، أَمَّا الضَّمُّ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: ضَمُّ الدَّالِ وَتَشْدِيدُ الرَّاءِ وَالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُشْبِهُ الدُّرَّ لِصَفَائِهِ وَلَمَعَانِهِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّكُمْ لَتَرَوْنَ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ»
الثَّانِي: / أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ وَهُوَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَحْنٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ وَهَذَا أَضْعَفُ اللُّغَاتِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّوْءِ وَالتَّلَأْلُؤِ وَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الدُّرِّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ فَعِيلٌ مِنَ الدَّرْءِ بِمَعْنَى الدَّفْعِ وَأَنَّهُ صِفَةٌ وَأَنَّهُ فِي الصِّفَةِ مِثْلُ الْمَرِيءِ فِي الِاسْمِ وَالثَّالِثُ: ضَمُّ الدَّالِ وَتَخْفِيفُ الرَّاءِ وَالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ، أَمَّا الكسر ففيه وجهان: الأول: دريء بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ وَالْهَمْزِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ فَعِيلٌ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ كَالسِّكِّيرِ وَالْفِسِّيقِ فكان ضوأه يَدْفَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ لَمَعَانِهِ الثَّانِي: بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا مَدٍّ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ خُلَيْدٍ وَعُتْبَةَ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ نَافِعٍ، أَمَّا الْفَتْحُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ:
بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ وَالْهَمْزِ عَنِ الْأَعْمَشِ الثَّانِي: بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ الثَّالِثُ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مَهْمُوزًا مِنْ غَيْرِ مَدٍّ وَلَا يَاءٍ عَنْ عَاصِمٍ الرَّابِعُ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَبِيَاءٍ خَفِيفَةٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: توقد الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ تَوَقَّدَ بِالْفَتَحَاتِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ تَشْدِيدِ الْقَافِ بِوَزْنِ تَفَعَّلُ وَعَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَضُمُّ الدَّالَ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يَوَقَّدُ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتِ بِنُقْطَتَيْنِ وَالْوَاوِ وَالْقَافِ وَتَشْدِيدِهَا وَرَفْعِ الدَّالِ قَالَ وَحَذْفُ التَّاءِ لِاجْتِمَاعِ حَرْفَيْنِ زَائِدَيْنِ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْقَافِ مُخَفَّفَةً وَرَفْعِ الدَّالِ وَعَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّاءِ، وَعَنْ عَاصِمٍ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّاءِ، وَعَنْ طَلْحَةَ تُوقِدُ بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِهَا.
المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أَيْ ضَخْمٌ مُضِيءٌ وَدَرَارِيُّ النُّجُومِ عِظَامُهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
389
الْمُرَادَ بِهِ كَوْكَبٌ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْمُضِيئَةِ كَالزُّهْرَةِ وَالْمُشْتَرِي وَالثَّوَابِتِ الَّتِي فِي الْعِظَمِ الْأَوَّلِ.
المسألة السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أَيْ مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ أَيْ كَثِيرَةِ الْبَرَكَةِ وَالنَّفْعِ، وَقِيلَ هِيَ أَوَّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ بَعْدَ الطُّوفَانِ وَقَدْ بَارَكَ فِيهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا، مِنْهُمُ الْخَلِيلُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ زَيْتُونُ الشَّامِ، لِأَنَّهَا هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ فَلِهَذَا جَعَلَ اللَّه هَذِهِ شَجَرَةً مُبَارَكَةً.
المسألة الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى وَصْفِ الشَّجَرَةِ بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ إِنَّهَا شَجَرَةُ الزَّيْتِ مِنَ الْجَنَّةِ إِذْ لَوْ كَانَتْ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا إِمَّا شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِمَا شَاهَدُوهُ وَهُمْ مَا شَاهَدُوا شَجَرَةَ الْجَنَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ فِي الشَّامِ لِأَنَّ الشَّامَ وَسَطُ الدُّنْيَا فَلَا يُوصَفُ شَجَرُهَا بِأَنَّهَا شَرْقِيَّةٌ أَوْ غَرْبِيَّةٌ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَنْ قَالَ الْأَرْضُ كُرَةٌ لَمْ يُثْبِتِ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مَوْضِعَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ بَلْ لِكُلِّ بَلَدٍ مَشْرِقٌ وَمَغْرِبٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلِأَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ الزَّيْتَ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي/ غَيْرِ الشَّامِ كَوُجُودِهِ فِيهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا شَجَرَةٌ تَلْتَفُّ بِهَا الْأَشْجَارُ فَلَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ شَجَرَةٌ يَلْتَفُّ بِهَا وَرَقُهَا الْتِفَافًا شَدِيدًا فَلَا تَصِلُ الشَّمْسُ إِلَيْهَا سَوَاءً كَانَتِ الشَّمْسُ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً، وَلَيْسَ فِي الشَّجَرِ مَا يُورِقُ غُصْنُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ مِثْلُ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ صَفَاءُ الزَّيْتِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِكَمَالِ نُضْجِ الزَّيْتُونِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْعَادَةِ بِوُصُولِ أَثَرِ الشَّمْسِ إِلَيْهِ لَا بِعَدَمِ وُصُولِهِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ الشَّجَرَةُ الَّتِي تَبْرُزُ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ أَوْ صَحْرَاءَ وَاسِعَةٍ فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَيْهَا حَالَتَيِ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، قَالَا وَمَعْنَاهُ لَا شَرْقِيَّةٌ وَحْدَهَا وَلَا غَرْبِيَّةٌ وَحْدَهَا وَلَكِنَّهَا شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ لَا مُسَافِرٌ وَلَا مُقِيمٌ إِذَا كَانَ يُسَافِرُ وَيُقِيمُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ مَتَى كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَ زَيْتُهَا فِي نِهَايَةِ الصَّفَاءِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَقْصُودُ التَّمْثِيلِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَخَامِسُهَا: الْمِشْكَاةُ صَدْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ وَالْمِصْبَاحُ مَا فِي قَلْبِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ، تُوقَدُ من شجرة مباركة، يعني واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ فَالشَّجَرَةُ هِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ أَيْ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَلَا قِبَلَ الْمَغْرِبِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَلْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ.
المسألة التَّاسِعَةُ: وَصَفَ اللَّه تَعَالَى زَيْتَهَا بِأَنَّهُ يَكَادُ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ لِأَنَّ الزَّيْتَ إِذَا كَانَ خَالِصًا صَافِيًا ثُمَّ رُؤِيَ مِنْ بَعِيدٍ يُرَى كَأَنَّ لَهُ شُعَاعًا، فَإِذَا مسه النار ازداد ضوأ عَلَى ضَوْءٍ، كَذَلِكَ يَكَادُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَعْمَلُ بِالْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ ازْدَادَ نُورًا عَلَى نُورٍ وَهُدًى عَلَى هُدًى، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَعْرِفُ الْحَقَّ قَبْلَ أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّه»
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ الْمُرَادُ مِنَ الزَّيْتِ نُورُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَكَادُ نُورُهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ يَكَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَةَ:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
المسألة الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: نُورٌ عَلى نُورٍ الْمُرَادُ تَرَادُفُ هَذِهِ الْأَنْوَارِ وَاجْتِمَاعُهَا، قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ:
الْمُؤْمِنُ بَيْنَ أَرْبَعِ خِلَالٍ إِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِنِ ابْتُلِيَ صَبَرَ وَإِنْ قَالَ صَدَقَ وَإِنْ حَكَمَ عَدَلَ، فَهُوَ فِي سَائِرِ النَّاسِ كَالرَّجُلِ الْحَيِّ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ الْأَمْوَاتِ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ النُّورِ، كَلَامُهُ نُورٌ وَعَمَلُهُ نُورٌ وَمَدْخَلُهُ نُورٌ وَمَخْرَجُهُ
390
نُورٌ وَمَصِيرُهُ إِلَى النُّورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الرَّبِيعُ سَأَلْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنْ مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ فَقَالَ سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ جَهِلَ فَمِنْ قِبَلِهِ أَتَى وَإِلَّا فَالْأَدِلَّةُ وَاضِحَةٌ وَلَوْ نَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا، قَالَ أَصْحَابُنَا هَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحُ مَذْهَبِنَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ/ بَيَّنَ أَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلَ بَلَغَتْ فِي الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، قَالَ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي وُضُوحُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ لَا يَكْفِي وَلَا يَنْفَعُ مَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّه الْإِيمَانَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَهْدِي اللَّهُ إِيضَاحُ الْأَدِلَّةِ وَالْبَيَانَاتِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا النُّورَ عَلَى إِيضَاحِ الْأَدِلَّةِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُ الْهُدَى عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِلَّا لَخَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ الْفَائِدَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُ الْهُدَى هاهنا عَلَى خَلْقِ الْعِلْمِ أَجَابَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ مَحْمُولٌ عَلَى زِيَادَاتِ الْهُدَى الَّذِي هُوَ كَالضِّدِّ لِلْخِذْلَانِ الْحَاصِلِ لِلضَّالِّ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَهْدِي لِنُورِهِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ مَنْ يَشَاءُ وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ [الْحَدِيدِ: ١٢] وَزَيَّفَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ هُوَ فِي ذِكْرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْهُدَى دَخَلَ الْكُلُّ فِيهِ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الزِّيَادَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا الْبَعْضُ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ أَصْلًا إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَلَمَّا زَيَّفَ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ، قَالَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى هَدَى بِذَلِكَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وَهُمُ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ حَدُّ التَّكْلِيفِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ أَضْعَفُ مِنَ الْجَوَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ وُضُوحِهَا لَا تَكْفِي، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَالْمُرَادُ لِلْمُكَلَّفِينَ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ النَّبِيُّ وَمَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فَقَالُوا إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نِعْمَةً عَظِيمَةً لَوْ أَمْكَنَهُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَمَا تَمَكَّنُوا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَذَلِكَ كَالْوَعِيدِ لِمَنْ لَا يَعْتَبِرُ وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي أَمْثَالِهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّتِهِ فَيَعْرِفُ وُضُوحَهَا وَبُعْدَهَا عَنِ الشُّبُهَاتِ.
بحمد اللَّه تم الجزء الثالث والعشرون، ويليه الجزء الرابع والعشرون وأوله تفسير قول اللَّه تَعَالَى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ
أعان اللَّه على إكماله، بحق محمد صلى اللَّه عليه وسلم
391
الجزء الرابع والعشرون

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

[تتمة سورة النور]
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ إلى قوله لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ يَقْتَضِي محذوفا يكون فيها وذكروا فيه وجوه: أَحَدُهَا:
أَنَّ التَّقْدِيرَ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، اعْتَرَضَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْمِصْبَاحِ الْمِثْلُ وَكَوْنُ الْمِصْبَاحِ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه لَا يَزِيدُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ الْمِصْبَاحَ إِنَارَةً وَإِضَاءَةً الثَّانِي: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيهِ وُجُوهٌ تقتضي كونه واحدا كقوله: كَمِشْكاةٍ وقوله: فِيها مِصْباحٌ وقوله: فِي زُجاجَةٍ وَقَوْلِهِ: كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النُّورِ:
٣٥] وَلَفْظُ الْبُيُوتِ جَمْعٌ وَلَا يَصِحُّ كَوْنُ هَذَا الْوَاحِدِ فِي كُلِّ الْبُيُوتِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمِصْبَاحَ الْمَوْضُوعَ فِي الزُّجَاجَةِ الصَّافِيَةِ إِذَا كَانَ فِي الْمَسَاجِدِ كَانَ أَعْظَمَ وَأَضْخَمَ فَكَانَ أَضْوَأَ، فَكَانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ بِالْمِثْلِ هُوَ الَّذِي لَهُ هَذَا الْوَصْفُ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلٌّ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي زُجَاجَةٍ تَتَوَقَّدُ مِنَ الزَّيْتِ، وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ ضَوْأَهَا يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْبُيُوتِ بِاللَّيَالِي عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ الَّذِي يَصْلُحُ لِخِدْمَتِي رَجُلٌ يَرْجِعُ إِلَى عِلْمٍ وَكِفَايَةٍ وَقَنَاعَةٍ يَلْتَزِمُ بَيْتَهُ لَكَانَ وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فَالْمُرَادُ النوع فَكَذَا مَا ذَكَرَهُ اللَّه سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: التَّقْدِيرُ تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ/ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [النُّورِ: ٣٤] أَيْ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ خَلَوُا الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْبُيُوتُ الْمَسَاجِدُ، وَقَدِ اقْتَصَّ اللَّه أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَكَرَ أَمَاكِنَهُمْ فَسَمَّاهَا مَحَارِيبَ «١» بِقَوْلِهِ:
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: ٢١] وكُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧] فَيَقُولُ: ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات، وَأَنْزَلْنَا أَقَاصِيصَ مَنْ بُعِثَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ ورابعها: قول
(١) ومن تسمية اللَّه تعالى للمساجد محاريب قوله تعالى في سورة سبأ [١٣] يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ الآية.
395
الْجُبَّائِيِّ إِنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ وَالتَّقْدِيرُ صَلُّوا فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَخَامِسُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ إِنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الْآيَةِ بَلْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ قَالَ يُسَبِّحُ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ رِجَالٌ صِفَتُهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [النور: ٣٤] المراد منه خَلَا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ لِتَعَلُّقِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا ابْتِغَاءً لِلدُّنْيَا فَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِوَصْفِ هَذِهِ الْبُيُوتِ لِأَنَّهَا بُيُوتٌ أَذِنَ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مُنْقَطِعَةً عَنْ تِلْكَ الْآيَةِ بِمَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: ٣٥] وَأَمَّا قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ فَقِيلَ الْإِضْمَارُ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ أَيْضًا لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِ يَصِيرُ الْمَعْنَى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا تَكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ تَحَمُّلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أولى من تحمل مثل ذَلِكَ النُّقْصَانِ؟ قُلْنَا الزِّيَادَةُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ كَثِيرَةٌ فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا أَوْلَى.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ الْمَسَاجِدُ وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي بُيُوتٍ قَالَ هِيَ الْبُيُوتُ كُلُّهَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْبُيُوتِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَذِنَ أَنْ تُرْفَعَ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالصَّلَاةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمَسَاجِدِ ثُمَّ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَسَاجِدُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعُ مَسَاجِدَ الْكَعْبَةُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ بَنَاهُ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ عليهما الصلاة والسلام، ومسجد بَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدُ قُبَاءَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى بَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْحَسَنِ هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ يُسْرَجُ فِيهِ عَشَرَةُ آلَافِ قِنْدِيلٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ جَمِيعُ الْمَسَاجِدِ وَالْأَوَّلُ ضعيف لأنه تخصيص بلا دليل فالأول حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّه فِي الْأَرْضِ وَهِيَ تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تُرْفَعَ عَلَى أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْ رَفْعِهَا بِنَاؤُهَا لِقَوْلِهِ: بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النَّازِعَاتِ: ٢٧، ٢٨] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
[الْبَقَرَةِ: ١٢٧] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هِيَ الْمَسَاجِدُ أَمَرَ اللَّه أَنْ تُبْنَى وَثَانِيهَا: تُرْفَعُ أَيْ تُعَظَّمُ وَتُطَهَّرُ عَنِ الْأَنْجَاسِ وَعَنِ اللَّغْوِ مِنَ الْأَقْوَالِ عَنِ الزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ظَاهِرُهُ أَنَّهَا كَانَتْ بُيُوتًا قَبْلَ الرَّفْعِ فَأَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ.
المسألة الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ ذِكْرٍ وَالثَّانِي: أَنْ يُتْلَى فِيهَا كِتَابُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّالِثُ: لَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا بِمَا لَا يَنْبَغِي وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِعُمُومِ اللَّفْظِ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُسَبِّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْقَوْلُ مُمْتَدًّا إِلَى آخِرِ الظُّرُوفِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، ثم قال الزَّجَّاجُ رِجالٌ مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ يُسَبِّحُ؟ فَقِيلَ يُسَبِّحُ رِجَالٌ.
المسألة السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّسْبِيحِ فَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ
396
حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَقَالَ كَانَتَا وَاجِبَتَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ ثُمَّ زِيدَ فِيهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّسْبِيحِ الَّذِي هُوَ تَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَفِعْلِهِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ قَدْ عَطَفَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ قَالَ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَهَذَا الوجه أَظْهَرُ.
المسألة السَّابِعَةُ: الْآصَالُ جمل أصل والأصل جميع أَصِيلٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ وَإِنَّمَا وُجِدَ الْغُدُوُّ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ وَالْأَصِيلُ اسْمُ جَمْعٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِالْغُدُوِّ أَيْ بِأَوْقَاتِ الْغُدُوِّ أَيْ بِالْغَدَوَاتِ وَقُرِئَ وَالْإِيصَالِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْأَصِيلِ يُقَالُ آصَلَ كَأَعْتَمَ وَأَظْهَرَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّه إِنَّ صَلَاةَ الضُّحَى لَفِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى مَذْكُورَةٌ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى الْمَسْجِدِ يُؤْثِرُهُ عَلَى مَا سِوَاهُ إِلَّا وَلَهُ عِنْدَ اللَّه نُزُلٌ يعد له فِي الْجَنَّةِ»
وَفِي رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ لِيُعَلِّمَ خيرا أو ليتعلمه كما كَمَثَلِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّه يَرْجِعُ غَانِمًا».
المسألة الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَفَى كَوْنَهُمْ تُجَّارًا وَبَاعَةً أَصْلًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَثْبَتَهُمْ تُجَّارًا وَبَاعَةً وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا شَاغِلٌ مِنْ ضُرُوبِ مَنَافِعِ التِّجَارَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ الْحَسَنُ أَمَا واللَّه إِنْ كَانُوا لَيَتَّجِرُونَ، وَلَكِنْ إِذَا جَاءَتْ فَرَائِضُ اللَّه لَمْ يُلْهِهِمْ عَنْهَا شَيْءٌ فَقَامُوا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَعَنْ سَالِمٍ نَظَرَ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ تَرَكُوا بِيَاعَاتِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا لَا تُلْهِيهِ التِّجَارَةُ عَنْ كَيْتَ وَكَيْتَ إِلَّا وَهُوَ تَاجِرٌ، وَإِنِ احْتَمَلَ الوجه الأول وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا قَالَ: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ دَخَلَ فِيهِ الْبَيْعُ فَلِمَ أَعَادَ ذِكْرَ الْبَيْعِ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التجارة جنس يدخل تحت أَنْوَاعُ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إِلَّا أَنَّهُ/ سُبْحَانَهُ خَصَّ الْبَيْعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ فِي الْإِلْهَاءِ أَدْخَلَ، لِأَنَّ الرِّبْحَ الْحَاصِلَ فِي الْبَيْعِ يَقِينٌ نَاجِزٌ، وَالرِّبْحَ الْحَاصِلَ فِي الشِّرَاءِ شَكٌّ مُسْتَقْبَلٌ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَبْدِيلَ الْعَرْضِ بِالنَّقْدِ، وَالشِّرَاءِ بِالْعَكْسِ وَالرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ النَّقْدِ أَكْثَرَ مِنَ الْعَكْسِ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ:
التِّجَارَةُ لِأَهْلِ الْجَلَبِ، يُقَالُ: اتَّجَرَ فُلَانٌ فِي كَذَا إِذَا جَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ عَلَى يَدَيْهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ الرِّجَالَ بِالذِّكْرِ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ النِّسَاءَ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ التِّجَارَاتِ أَوِ الْجَمَاعَاتِ.
المسألة التَّاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَالدَّعَوَاتُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الصَّلَوَاتُ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِقامِ الصَّلاةِ؟ قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمُرَادُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ إِقَامَتُهَا لِمَوَاقِيتِهَا وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِقامِ الصَّلاةِ تَفْسِيرًا لِذِكْرِ اللَّه فَهُمْ يَذْكُرُونَ اللَّه قَبْلَ الصَّلَاةِ وَفِي الصَّلَاةِ.
المسألة الْعَاشِرَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣] فِي قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أَنَّ إِقَامَ الصَّلَاةِ هُوَ الْقِيَامُ بِحَقِّهَا عَلَى شُرُوطِهَا، وَالوجه فِي حَذْفِ الْهَاءِ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، يُقَالُ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ إِقَامَةً وَكَانَ الْأَصْلُ إِقْوَامًا، وَلَكِنْ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا فَاجْتَمَعَ أَلِفَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَبَقِيَ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ إِقَامًا،
397
فَأُدْخِلَتِ الْهَاءُ عِوَضًا مِنَ الْمَحْذُوفِ وَقَامَتِ الْإِضَافَةُ هاهنا فِي التَّعْوِيضِ مَقَامَ الْهَاءِ الْمَحْذُوفَةِ، قَالَ وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ فِيهِ النَّقْلَ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ إِلَى التَّعْرِيفِ أَقْرَبَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّرْعِ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمُرَادُ مِنَ الزَّكَاةِ طَاعَةُ اللَّه تَعَالَى وَالْإِخْلَاصُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَمَ: ٥٥] وَقَوْلِهِ: ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [النُّورِ: ٢١] وَقَوْلِهِ: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: ١٠٣] وَهَذَا ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الزَّكَاةَ بِالْإِيتَاءِ، وَهَذَا لَا يُحْمَلُ إِلَّا عَلَى مَا يُعْطَى مِنْ حُقُوقِ الْمَالِ.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ وَإِنْ تَعَبَّدُوا بِذِكْرِ اللَّه وَالطَّاعَاتِ فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَوْصُوفُونَ بِالْوَجَلِ وَالْخَوْفِ فَقَالَ: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ وَذَلِكَ الْخَوْفُ إِنَّمَا كَانَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا اللَّه حَقَّ عِبَادَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِتَقَلُّبِ القوب وَالْأَبْصَارِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُلُوبَ تَضْطَرِبُ مِنَ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ وَتَشْخَصُ الْأَبْصَارُ لِقَوْلِهِ: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَابِ: ١٠] الثَّانِي: أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهَا فَتَفْقَهُ الْقُلُوبُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَطْبُوعًا عَلَيْهَا لَا تَفْقَهُ وَتُبْصِرُ الْأَبْصَارُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَا تُبْصِرُ، فَكَأَنَّهُمُ انْقَلَبُوا مِنَ الشَّكِّ إِلَى الظَّنِّ، وَمِنَ الظَّنِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِنَ الْيَقِينِ إِلَى الْمُعَايَنَةِ، لِقَوْلِهِ:
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ/ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: ٤٧] وَقَوْلِهِ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: ٢٢]، الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُلُوبَ تَتَقَلَّبُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ طَمَعًا في النجابة وَحَذَرًا مِنَ الْهَلَاكِ وَالْأَبْصَارَ تَنْقَلِبُ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يُؤْمَرُ بِهِمْ، أَمِنْ نَاحِيَةِ الْيَمِينِ أَمْ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ؟ وَمِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يُعْطُونَ كِتَابَهُمْ أَمِنْ قِبَلِ الْأَيْمَانِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الشَّمَائِلِ؟ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يَرْضَوْنَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمُ الْبَتَّةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَهْلَ الْعِقَابِ لَا يَرْجُونَ الْعَفْوَ، لَكِنَّا بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْمَذْهَبِ غَيْرَ مَرَّةٍ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقُلُوبَ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا فَتَبْلُغُ الْحَنَاجِرَ، وَالْأَبْصَارُ تَصِيرُ زُرْقًا، قَالَ الضَّحَّاكُ: يُحْشَرُ الْكَافِرُ وَبَصَرُهُ حَدِيدٌ وَتَزْرَقُّ عَيْنَاهُ ثُمَّ يَعْمَى، وَيَتَقَلَّبُ الْقَلْبُ مِنَ الْخَوْفِ حَيْثُ لَا يَجِدُ مُخَلِّصًا حَتَّى يَقَعَ فِي الْحَنْجَرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ [غَافِرٍ: ١٨]، الْخَامِسُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ الْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْقُلُوبِ والأبصار تغير هيئاتهما بِسَبَبِ مَا يَنَالُهَا مِنَ الْعَذَابِ، فَتَكُونُ مَرَّةً بِهَيْئَةِ مَا أُنْضِجَ بِالنَّارِ وَمَرَّةً بِهَيْئَةِ مَا احْتَرَقَ، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَقَلُّبَهَا عَلَى جَمْرِ جَهَنَّمَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: ١١٠].
المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا أَيْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّه وَيُثِيبَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ مَا عَمِلُوا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ الْحَسَنَاتُ أَجْمَعُ، وَهِيَ الطَّاعَاتُ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْأَحْسَنَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهِمْ بَلْ يَغْفِرُهَا لَهُمْ. الثَّانِي:
أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْزِيهِمْ جَزَاءَ أَحْسَنِ مَا عَمِلُوا عَلَى الْوَاحِدِ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَاتُ مِنْهُمْ مُكَفِّرَةً لِمَعَاصِيهِمْ وَإِنَّمَا يَجْزِيهِمُ اللَّه تَعَالَى بِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْإِحْبَاطِ وَالْمُوَازَنَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ بِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ
398
اسْتِحْقَاقِهِمْ بَلْ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْآيَاتِ مِنَ التَّضْعِيفِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِفِعْلِ الطَّاعَةِ أَثَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ الْجَزَاءَ عَنِ الْفَضْلِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ عِنْدَكُمُ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى رَبِّهِ شَيْئًا، قُلْنَا نَحْنُ نُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ لَكِنْ بِالْوَعْدِ فَذَاكَ الْقَدْرُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ هُوَ الْفَضْلُ ثم قال: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ نَبَّهَ بِهِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ جُودِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ وَسَعَةِ إِحْسَانِهِ، فَكَانَ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الطَّاعَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُونَ فِي نِهَايَةِ الْخَوْفِ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يُعْطِيهِمُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ عَلَى طَاعَاتِهِمْ، وَيَزِيدُهُمُ الْفَضْلَ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ فِي مقابلة خوفهم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِ، وَأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ فِي النُّورِ وَبِسَبَبِهِ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ فَائِزًا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ فِي أَشَدِّ الْخُسْرَانِ، وَفِي الدُّنْيَا فِي أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الظُّلُمَاتِ، وَضَرَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَثَلًا، أَمَّا الْمَثَلُ الدَّالُّ عَلَى خَيْبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: السَّرَابُ مَا يَتَرَاءَى لِلْعَيْنِ وَقْتَ الضُّحَى الْأَكْبَرِ فِي الْفَلَوَاتِ شَبِيهَ الْمَاءِ الْجَارِي وَلَيْسَ بِمَاءٍ وَلَكِنَّ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ بِعِيدٍ يَظُنُّهُ مَاءً جَارِيًا يُقَالُ سَرَبَ الْمَاءُ يَسْرُبُ سُرُوبًا إِذَا جَرَى فَهُوَ سَارِبٌ، أَمَّا الْآلُ فَهُوَ مَا يَتَرَاءَى لِلْعَيْنِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَيَرَى النَّاظِرُ الصَّغِيرَ كَبِيرًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخَلِيلِ أَنَّ الْآلَ وَالسَّرَابَ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْقِيعَةُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ قَاعٍ مِثْلُ جَارِ وَجِيرَةٍ وَالْقَاعُ الْمُنْبَسِطُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْقِيعَةُ بِمَعْنَى الْقَاعِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ الظَّمْآنُ: قَدْ يُخَفَّفُ هَمْزُهُ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْعَطَشِ، ثُمَّ وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْكَافِرُ إِنْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ فَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَوَابًا، مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ ثَوَابًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْإِثْمِ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِقَابًا مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَوَابًا، فَكَيْفَ كَانَ فَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا وَافَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يَجِدِ الثَّوَابَ بَلْ وَجَدَ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ وَتَنَاهَى غَمُّهُ، فَيُشْبِهُ حَالُهُ حَالَ الظَّمْآنِ الَّذِي تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ إِلَى الْمَاءِ فَإِذَا شَاهَدَ السَّرَابَ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ وَيَرْجُو بِهِ النَّجَاةَ وَيَقْوَى طَمَعُهُ فَإِذَا جَاءَهُ وَأَيِسَ مِمَّا كَانَ يَرْجُوهُ فَيَعْظُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمِثَالُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، قَالَ مُجَاهِدٌ السَّرَابُ عَمَلُ الْكَافِرِ وَإِتْيَانُهُ إِيَّاهُ مَوْتُهُ وَمُفَارَقَةُ الدُّنْيَا فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ شَيْئًا وَقَوْلُهُ: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً مُنَاقِضٌ لَهُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا نَافِعًا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ مَا عَمِلَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ الثَّانِي: / حَتَّى إِذَا جَاءَهُ أَيْ جَاءَ مَوْضِعَ السَّرَابِ لَمْ يَجِدِ السَّرَابَ شَيْئًا فَاكْتَفَى بِذِكْرِ السَّرَابِ عَنْ ذِكْرِ مَوْضِعِهِ الثَّالِثُ: الْكِنَايَةُ لِلسَّرَابِ لِأَنَّ السَّرَابَ يُرَى مِنْ بَعِيدٍ بِسَبَبِ الْكَثَافَةِ كَأَنَّهُ ضَبَابٌ وَهَبَاءٌ وَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ رَقَّ وَانْتَثَرَ وَصَارَ كَالْهَوَاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أَيْ وَجَدَ عِقَابَ اللَّه الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ الْكَافِرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَتَغَيَّرَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ظَنِّ النَّفْعِ الْعَظِيمِ إِلَى تَيَقُّنِ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، أَوْ وَجَدَ زَبَانِيَةَ اللَّه عِنْدَهُ يَأْخُذُونَهُ فَيُقْبِلُونَ بِهِ إِلَى جَهَنَّمَ فَيَسْقُونَهُ
399
الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الْغَاشِيَةِ: ٣]، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الْكَهْفِ: ١٠٤]، وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الْفُرْقَانِ: ٢٣] وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ قَدْ تَعَبَّدَ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَالْتَمَسَ الدِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ كَفَرَ فِي الْإِسْلَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فَذَاكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْحِسَابُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعْنَاهُ لَا يَشْغَلُهُ مُحَاسَبَةُ وَاحِدٍ عَنْ آخَرٍ كَنَحْنُ، وَلَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ كَمَا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي فَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وفي لفظة (أو) هاهنا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ إِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَمِثْلُهَا السَّرَابُ وَإِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً فَهِيَ الظُّلُمَاتُ وَثَانِيهَا: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ إِمَّا كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَثَالِثُهَا: الْآيَةُ الْأُولَى فِي ذِكْرِ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَحَصَّلُونَ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي ذِكْرِ عَقَائِدِهِمْ فَإِنَّهَا تشبه الظلمات كما قال: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: ٢٥٧] أَيْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: ٤٠] وَأَمَّا الْبَحْرُ اللُّجِّيُّ فَهُوَ ذُو اللُّجَّةِ الَّتِي هِيَ مُعْظَمُ الْمَاءِ الْغَمْرِ الْبَعِيدِ الْقَعْرِ، وَفِي اللُّجِّيِّ لُغَتَانِ كَسْرُ اللَّامِ وَضَمُّهَا، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْمِثْلِ فَهُوَ أَنَّ الْبَحْرَ اللُّجِّيَّ يَكُونُ قَعْرُهُ مُظْلِمًا جِدًّا بِسَبَبِ غُمُورَةِ الْمَاءِ، فَإِذَا تَرَادَفَتْ عَلَيْهِ الْأَمْوَاجُ ازْدَادَتِ الظُّلْمَةُ فَإِذَا كَانَ فَوْقَ الْأَمْوَاجِ سَحَابٌ بَلَغَتِ الظُّلْمَةُ النِّهَايَةَ الْقُصْوَى، فَالْوَاقِعُ فِي قَعْرِ هَذَا الْبَحْرِ اللُّجِّيِّ يَكُونُ فِي نِهَايَةِ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ فِي الْيَدِ أَنَّهَا مِنْ أَقْرَبِ مَا يَرَاهَا وَمِنْ أَبْعَدِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَرَاهَا فَقَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكَدْ يَراها وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا البلوغ تِلْكَ الظُّلْمَةِ إِلَى أَقْصَى النِّهَايَاتِ ثُمَّ شَبَّهَ بِهِ الْكَافِرَ فِي اعْتِقَادِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْمُؤْمِنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّورِ: ٣٥] وَفِي قَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الْحَدِيدِ: ١٢] وَلِهَذَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْكَافِرُ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ الظُّلَمِ كَلَامُهُ وَعَمَلُهُ وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ وَمَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الظُّلُمَاتِ ظُلْمَةَ الْبَحْرِ وَظُلْمَةَ الْأَمْوَاجِ وَظُلْمَةَ السَّحَابِ وَكَذَا الْكَافِرُ لَهُ ظُلُمَاتٌ ثَلَاثَةٌ ظُلْمَةُ الِاعْتِقَادِ وَظُلْمَةُ الْقَوْلِ وَظُلْمَةُ الْقَوْلِ وَظُلْمَةُ الْعَمَلِ عَنِ الْحَسَنِ وَثَانِيهَا: شَبَّهُوا قَلْبَهُ وَبَصَرَهُ وَسَمْعَهُ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَافِرَ لَا يدري أنه وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ يدري، فهذه المراتب الثالث تُشْبِهُ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ متراكمة فكذا الكفار لِشِدَّةِ إِصْرَارِهِ عَلَى كُفْرِهِ، قَدْ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ/ الضَّلَالَاتُ حَتَّى أَنَّ أَظْهَرَ الدَّلَائِلِ إِذَا ذُكِرَتْ عِنْدَهُ لَا يَفْهَمُهَا وَخَامِسُهَا: قَلْبٌ مُظْلِمٌ فِي صَدْرٍ مُظْلِمٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ (سَحَابٍ) وَقَرَأَ (ظُلُمَاتٍ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُماتٍ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ سَحابٌ ظُلُماتٌ كَمَا يُقَالُ سَحَابُ رَحْمَةٍ وَسَحَابُ عَذَابٍ عَلَى الْإِضَافَةِ وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ سَحابٌ ظُلُماتٌ كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَتَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: سَحابٌ ثُمَّ ابْتَدَأَ ظُلُماتٌ أَيْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَادَ نَفْيُهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتُهُ نَفْيٌ فَقَوْلُهُ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَةِ: ٧١] نَفْيٌ فِي اللَّفْظِ وَلَكِنَّهُ إِثْبَاتٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا»
إِثْبَاتٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ نَفْيٌ فِي المعنى لأنه لم يكفر فكذا هاهنا قَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها
400
مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَآهَا وَالثَّانِي: أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها مَعْنَاهُ لَمْ يُقَارِبِ الْوُقُوعَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي لَمْ يُقَارِبِ الْوُقُوعَ لَمْ يَقَعْ أَيْضًا وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُرَى فِيهِ شَيْءٌ فَكَيْفَ مَعَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ الْمُبَالَغَةُ فِي جَهَالَةِ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا لَمْ تُوجَدِ الرُّؤْيَةُ الْبَتَّةَ مَعَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ هِدَايَةَ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ عَقَّبَهَا بِأَنْ قَالَ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَلَمَّا وَصَفَ ضَلَالَةَ الْكَافِرِ بِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الظُّلْمَةِ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ ظُهُورَ الدَّلَائِلِ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانَ وَظُلْمَةُ الطَّرِيقِ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْكُلَّ مَرْبُوطٌ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالْأَلْطَافِ فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أَيْ لَا يَهْتَدِي فَيَتَحَيَّرُ وَيُحْتَمَلُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أَيْ مَخْلَصًا فِي الْآخِرَةِ وَفَوْزًا بِالثَّوَابِ فَما لَهُ مِنْ نُورٍ والكلام عليه تزييفا وتقريرا معلوم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ أَنْوَارَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَظُلُمَاتِ قُلُوبِ الْجَاهِلِينَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ:
فَالنوع الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الآية [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَلَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لَا/ تَتَنَاوَلُهُ الرُّؤْيَةُ بِالْبَصَرِ وَيَتَنَاوَلُهُ الْعِلْمُ بِالْقَلْبِ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ اسْتِفْهَامًا فَالْمُرَادُ التَّقْرِيرُ وَالْبَيَانُ، فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْظِيمِهِ بِأَنَّ مَنْ فِي السموات يُسَبِّحُ لَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْبِيحِ دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ مَوْصُوفًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهَا تَنْطِقُ بِالتَّسْبِيحِ وَتَتَكَلَّمُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَفِي حَقِّ الْبَاقِينَ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْقِسْمَ الثَّانِي مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ مَنْ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا لَا يُسَبِّحُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْمُكَلَّفُونَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَبِّحُ أَيْضًا بِهَذَا الْمَعْنَى كَالْكُفَّارِ، أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يقال إن من في السموات وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِاللِّسَانِ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَبِّحُ بِاللِّسَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَبِّحُ عَلَى سَبِيلِ الدَّلَالَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّ أَجْسَامَهَا وَصِفَاتِهَا دَالَّةٌ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ تَنْزِيهًا عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّعِ. فَإِنْ قِيلَ فَالتَّسْبِيحُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا وجه تخصيصه هاهنا بِالْعُقَلَاءِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ خِلْقَةَ الْعُقَلَاءِ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ الْعَجَائِبَ وَالْغَرَائِبَ فِي خَلْقِهِمْ أَكْثَرُ وَهِيَ الْعَقْلُ وَالنُّطْقُ وَالْفَهْمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ السموات وَأَهْلَ الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَقَرُّوا فِي الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
401
وَهُوَ الطَّيْرُ يُسَبِّحُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِعْطَاءَ الْجِرْمِ الثَّقِيلِ الْقُوَّةَ الَّتِي بِهَا يَقْوَى عَلَى الْوُقُوفِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ صَافَّةً بَاسِطَةً أَجْنِحَتَهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَةِ الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ سُبْحَانَهُ وَجَعْلِ طَيَرَانِهَا سُجُودًا مِنْهَا لَهُ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّسْبِيحِ دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى التَّنْزِيهِ لَا النُّطْقُ اللِّسَانِيُّ.
أَمَّا قَوْلُهُ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ اللَّه صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قَالُوا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ عَلَى لَفْظِ كُلٌّ أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ رَاجِعَةً عَلَى ذِكْرِ اللَّه يَعْنِي قَدْ عَلِمَ كُلُّ مُسَبِّحٍ وَكُلُّ مُصَلٍّ صَلَاةَ اللَّه الَّتِي كَلَّفَهُ إِيَّاهَا وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ اسْتِئْنَافٌ
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ لِي: أَتَدْرِي مَا تَقُولُ هَذِهِ الْعَصَافِيرُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ طُلُوعِهَا؟ قَالَ لَا، قَالَ فَإِنَّهُنَّ يُقَدِّسْنَ رَبَّهُنَّ وَيَسْأَلْنَهُ قُوتَ يَوْمِهِنَّ.
وَاسْتَبْعَدَ الْمُتَكَلِّمُونَ ذَلِكَ فَقَالُوا الطَّيْرُ لَوْ كَانَتْ عَارِفَةً باللَّه تَعَالَى لَكَانَتْ كَالْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ كَلَامَنَا وَإِشَارَتَنَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا أَشَدُّ نُقْصَانًا مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي/ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأُمُورَ فَبِأَنْ يَمْتَنِعَ ذَلِكَ فِيهَا أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَعْرِفُ اللَّه تَعَالَى اسْتَحَالَ كَوْنُهَا مُسَبِّحَةً لَهُ بِالنُّطْقِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُسَبِّحُ اللَّه إِلَّا بِلِسَانِ الْحَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَلْهَمَ الطُّيُورُ وَسَائِرَ الْحَشَرَاتِ أَعْمَالًا لَطِيفَةً يَعْجَزُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْهِمَهَا مَعْرِفَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَبَيَانُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْهَمَهَا الْأَعْمَالَ اللَّطِيفَةَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: احْتِيَالُهَا فِي كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ فَتَأَمَّلْ فِي الْعَنْكَبُوتِ كَيْفَ يَأْتِي بِالْحِيَلِ اللَّطِيفَةِ فِي اصْطِيَادِ الذُّبَابِ، وَيُقَالُ إِنَّ الدُّبَّ يَسْتَلْقِي فِي مَمَرِّ الثَّوْرِ فَإِذَا أَرَامَ نَطْحَهُ شَبَّثَ ذِرَاعَيْهِ بقرينه وَلَا يَزَالُ يَنْهَشُ مَا بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يُثْخِنَهُ، وَأَنَّهُ يَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَأْخُذُ الْعَصَا وَيَضْرِبُ الْإِنْسَانَ حَتَّى يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مَاتَ فَيَتْرُكُهُ وَرُبَّمَا عاود يتشممه ويتجسس نَفَسَهُ وَيَصْعَدُ الشَّجَرَ أَخَفَّ صُعُودٍ وَيُهَشِّمُ الْجَوْزَ بَيْنَ كَفَّيْهِ تَعْرِيضًا بِالْوَاحِدَةِ وَصَدْمَةً بِالْأُخْرَى ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَذَرُ قِشْرَهُ وَيَسْتَفُّ لُبَّهُ، وَيُحْكَى عَنِ الْفَأْرِ فِي سَرِقَتِهِ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ. وَثَانِيهَا: أمر النحل ومالها مِنَ الرِّيَاسَةِ وَبِنَاءِ الْبُيُوتِ الْمُسَدَّسَةِ الَّتِي لَا بتمكن مِنْ بِنَائِهَا أَفَاضِلُ الْمُهَنْدِسِينَ وَثَالِثُهَا: انْتِقَالُ الْكَرَاكِيِّ مِنْ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْعَالَمِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ طَلَبًا لِمَا يُوَافِقُهَا مِنَ الْأَهْوِيَةِ، وَيُقَالُ إِنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْخَيْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَعْرِفُ صَوْتَ الْفَرَسِ الَّذِي قَابَلَهُ وَقْتًا مَا وَالْكِلَابُ تَتَصَايَحُ بِالْعَيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لَهَا، وَالْفَهْدُ إِذَا سُقِيَ أَوْ شَرِبَ مِنَ الدَّوَاءِ الْمَعْرُوفِ بِخَانِقِ الْفَهْدِ عَمَدَ إِلَى زِبْلِ الْإِنْسَانِ فَأَكَلَهُ، وَالتَّمَاسِيحُ تَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا لِطَائِرٍ يَقَعُ عَلَيْهَا كَالْعَقْعَقِ وَيُنَظِّفُ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهَا، وَعَلَى رَأْسِ ذَلِكَ الطَّيْرِ كَالشَّوْكِ فَإِذَا هَمَّ التِّمْسَاحُ بِالْتِقَامِ ذَلِكَ الطَّيْرَ تَأَذَّى مِنْ ذَلِكَ الشَّوْكِ فَيَفْتَحُ فَاهُ فَيَخْرُجُ الطَّائِرُ، وَالسُّلَحْفَاةُ تَتَنَاوَلُ بَعْدَ أَكْلِ الْحَيَّةِ صَعْتَرًا جَبَلِيًّا ثُمَّ تَعُودُ وَقَدْ عُوفِيَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَحَكَى بَعْضُ الثِّقَاتِ الْمُجَرِّبِينَ لِلصَّيْدِ أَنَّهُ شَاهَدَ الْحُبَارَى تُقَاتِلُ الْأَفْعَى وَتَنْهَزِمُ عَنْهُ إِلَى بَقْلَةٍ تَتَنَاوَلُ مِنْهَا ثُمَّ تَعُودُ وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ دَأْبُهُ فَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ قَاعِدًا فِي كُنٍّ غَائِرٍ فِعْلَ الْقَنَصَةِ وَكَانَتِ الْبَقْلَةُ قَرِيبَةً مِنْ مَكْمَنِهِ فَلَمَّا اشْتَغَلَ الْحُبَارَى بِالْأَفْعَى قَلَعَ الْبَقْلَةَ فَعَادَتِ الْحُبَارَى إِلَى مَنْبَتِهَا فَفَقَدَتْهُ وَأَخَذَتْ تَدُورُ حَوْلَ مَنْبَتِهَا دَوَرَانًا مُتَتَابِعًا حَتَّى خَرَّ مَيِّتًا فَعَلِمَ الشَّيْخُ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَالَجُ بِأَكْلِهَا مِنَ اللَّسْعَةِ، وَتِلْكَ الْبَقْلَةُ كَانَتْ هِيَ الْجِرْجِيرُ الْبَرِّيُّ، وَأَمَّا ابْنُ عِرْسٍ فَيَسْتَظْهِرُ فِي قِتَالِ
402
الْحَيَّةِ بِأَكْلِ السَّذَابِ فَإِنَّ النَّكْهَةَ السَّذَابِيَّةَ مِمَّا تَنْفِرُ مِنْهَا الْأَفْعَى وَالْكِلَابُ إِذَا دَوَّدَتْ بُطُونُهَا أَكَلَتْ سُنْبُلَ الْقَمْحِ، وَإِذَا جَرَحَتِ اللَّقَالِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا دَاوَتْ جِرَاحَهَا بِالصَّعْتَرِ الْجَبَلِيِّ وَرَابِعُهَا: الْقَنَافِذُ قَدْ تُحِسُّ بِالشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ قَبْلَ الْهُبُوبِ فَتُغَيِّرُ الْمَدْخَلَ إِلَى جُحْرِهَا وَكَانَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ رَجُلٌ قَدْ أَثْرَى بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ يُنْذِرُ بِالرِّيَاحِ قَبْلَ هُبُوبِهَا وَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِإِنْذَارِهِ وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ قُنْفُذًا فِي دَارِهِ يَفْعَلُ الصَّنِيعَ الْمَذْكُورَ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ، وَالْخُطَّافُ صَانِعٌ جَيِّدٌ فِي اتِّخَاذِ الْعُشِّ مِنَ الطِّينِ وَقِطَعِ الْخَشَبِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ الطِّينُ ابْتَلَّ وَتَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ لِيَحْمِلَ جَنَاحَاهُ قَدْرًا مِنَ الطِّينِ، وَإِذَا أَفْرَخَ بَالَغَ فِي تَعَهُّدِ الْفِرَاخِ وَيَأْخُذُ ذَرْقَهَا بِمِنْقَارِهِ وَيَرْمِيهَا عَنِ الْعُشِّ، ثُمَّ يُعَلِّمُهَا إِلْقَاءَ الذَّرْقِ نَحْوَ طَرَفِ الْعُشِّ، وَإِذَا دَنَا الصَّائِدُ مِنْ مَكَانِ فِرَاخِ الْقَبَجَةِ ظَهَرَتْ لَهُ الْقَبَجَةُ وَقَرُبَتْ مِنْهُ مُطَمِّعَةً لَهُ/ لِيَتْبَعَهَا ثُمَّ تَذْهَبُ إِلَى جَانِبٍ آخَرَ سِوَى جَانِبِ فِرَاخِهَا، وَنَاقِرُ الْخَشَبِ قَلَّمَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ بَلْ عَلَى الشَّجَرِ يَنْقُرُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ دُودًا، وَالْغَرَانِيقُ تَصْعَدُ فِي الْجَوِّ جِدًّا عِنْدَ الطَّيَرَانِ فَإِنْ حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ ضَبَابٌ أَوْ سَحَابٌ أَحْدَثَتْ عَنْ أَجْنِحَتِهَا حَفِيفًا مَسْمُوعًا يَلْزَمُ بِهِ بَعْضُهَا بَعْضًا، فإذا نامت على جبل فإنها تضع رؤوسها تَحْتَ أَجْنِحَتِهَا إِلَّا الْقَائِدُ فَإِنَّهُ يَنَامُ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ فَيُسْرِعُ انْتِبَاهُهُ، وَإِذَا سَمِعَ حَرَسًا صَاحَ، وَحَالُ النَّمْلِ فِي الذَّهَابِ إِلَى مَوَاضِعِهَا عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ يَحْفَظُ بَعْضُهَا بَعْضًا أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ طَبَائِعِ الْحَيَوَانِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَكْيَاسَ مِنَ الْعُقَلَاءِ يَعْجِزُونَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا مُلْهَمَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى بِمَعْرِفَتِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ عَارِفَةٍ بِسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي يَعْرِفُهَا النَّاسُ؟ وللَّه دَرُّ شِهَابِ الْإِسْلَامِ السَّمْعَانِيِّ حَيْثُ قَالَ: جَلَّ جَنَابُ الْجَلَالِ عَنْ أَنْ يُوزَنَ بِمِيزَانِ الِاعْتِزَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فَهُوَ مَعَ وَجَازَتِهِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَامِ عِلْمِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ وَالْمُمْكِنُ وَالْمُحْدَثُ لَا يُوجَدَانِ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ جَمِيعُ الْأَجْرَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَقْوَالُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ تَامَّةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصِيرِ الْكُلِّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْوُجُودَ يَبْدَأُ مِنَ الْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ نَازِلًا إِلَى الْأَخَسِّ فَالْأَخَسِّ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنَ الْأَخَسِّ فَالْأَخَسِّ مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ جِسْمًا ثُمَّ يُصَيِّرُهُ مَوْصُوفًا بِالنَّبَاتِيَّةِ ثُمَّ الْحَيَوَانِيَّةِ ثُمَّ الْإِنْسَانِيَّةِ ثُمَّ الْمَلَكِيَّةِ ثُمَّ يَنْتَهِي إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَالِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والثاني هو قوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدَّلَائِلِ [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ بِعَيْنِ عَقْلِكَ وَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ وَالْإِزْجَاءُ السَّوْقُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَمِنْهُ الْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ الَّتِي يُزْجِيهَا كُلُّ أَحَدٍ وَإِزْجَاءُ السَّيْرِ فِي الْإِبِلِ الرِّفْقُ بِهَا حَتَّى تَسِيرَ شَيْئًا فَشَيْئًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، قال الفراء
403
(بَيْنَ) لَا يَصْلُحُ إِلَّا مُضَافًا إِلَى اسْمَيْنِ فَمَا زَادَ، وَإِنَّمَا قَالَ بَيْنَهُ لِأَنَّ السَّحَابَ وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَالْوَاحِدُ سَحَابَةٌ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرَّعْدِ: ١٢] وَالتَّأْلِيفُ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ أَيْ يَجْمَعُ بَيْنَ قِطَعِ السَّحَابِ فَيَجْعَلُهَا سَحَابًا وَاحِدًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أَيْ مُجْتَمِعًا، وَالرَّكْمُ جَمْعُكَ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ حَتَّى تَجْعَلَهُ مَرْكُومًا، وَالْوَدْقُ: الْمَطَرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْقَطْرُ، وَعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ: الْمَاءُ.
مِنْ خِلالِهِ مِنْ (شُقُوقِهِ وَمَخَارِقِهِ) «١» جَمْعُ خَلَلٍ كَجِبَالٍ فِي جَمْعِ جَبَلٍ، وَقُرِئَ مِنْ خَلَلِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يُزْجِي سَحاباً يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنْشِئُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُغَيِّرَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ لَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى الوجه الْأَوَّلِ يَكُونُ نَفْسُ السَّحَابِ مُحْدَثًا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُؤَلِّفُ بَيْنَ أَجْزَائِهِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمُحْدِثُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الصِّفَاتُ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ سَحَابًا، وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ دَلَالَةً عَلَى وُجُودِهَا مُتَقَدِّمًا مُتَفَرِّقًا إِذِ التَّأْلِيفُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ مَوْجُودَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُهُ رُكَامًا، وَذَلِكَ بِتَرَكُّبٍ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ، وَهَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ السَّحَابَ إِنَّمَا يَحْمِلُ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَاءِ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِهِ وَدَلَالَةِ مُلْكِهِ وَاقْتِدَارِهِ، قَالَ أَهْلُ الطَّبَائِعِ إِنَّ تَكَوُّنَ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالطَّلِّ وَالصَّقِيعِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَكُونُ مِنْ تَكَاثُفِ الْبُخَارِ وَفِي الْأَقَلِّ مِنْ تَكَاثُفِ الْهَوَاءِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْبُخَارُ الصَّاعِدُ إِنْ كَانَ قَلِيلًا وَكَانَ فِي الْهَوَاءِ مِنَ الْحَرَارَةِ مَا يُحَلِّلُ ذَلِكَ الْبُخَارَ فَحِينَئِذٍ يَنْحَلُّ وَيَنْقَلِبُ هَوَاءً. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْبُخَارُ كَثِيرًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الْهَوَاءِ مِنَ الْحَرَارَةِ مَا يُحَلِّلُ ذَلِكَ الْبُخَارَ فَتِلْكَ الْأَبْخِرَةُ الْمُتَصَاعِدَةُ إِمَّا أَنْ تَبْلُغَ فِي صُعُودِهَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ مِنَ الْهَوَاءِ أَوْ لَا تَبْلُغَ فَإِنْ بَلَغَتْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَرَدُ هُنَاكَ قَوِيًّا أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَرَدُ هُنَاكَ قَوِيًّا تَكَاثَفَ ذَلِكَ الْبُخَارُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْبَرَدِ، وَاجْتَمَعَ وَتَقَاطَرَ فَالْبُخَارُ الْمُجْتَمِعُ هُوَ السَّحَابُ، وَالْمُتَقَاطِرُ هُوَ الْمَطَرُ، وَالدِّيمَةُ وَالْوَابِلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْغُيُومِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْبَرَدُ شَدِيدًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَصِلَ الْبَرَدُ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْبُخَارِيَّةِ قَبْلَ اجتماعها وانحلالها جبات كِبَارًا أَوْ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الوجه الْأَوَّلِ نَزَلَ ثَلْجًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الوجه الثَّانِي نَزَلَ بَرْدًا، وَأَمَّا إِذَا لم تبلغ الأبخرة إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً أَوْ تَكُونَ قَلِيلَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَهِيَ قَدْ تَنْعَقِدُ سَحَابًا مَاطِرًا وَقَدْ لَا تَنْعَقِدُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَذَاكَ لِأَحَدِ أَسْبَابٍ خَمْسَةٍ: أَحَدُهَا: إِذَا مَنَعَ هُبُوبُ الرِّيَاحِ عَنْ تَصَاعُدِ تِلْكَ الْأَبْخِرَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ الرِّيَاحُ ضَاغِطَةً إِيَّاهَا إِلَى الِاجْتِمَاعِ بِسَبَبِ وُقُوفِ جِبَالٍ قُدَّامَ الرِّيحِ. وَثَالِثُهَا: / أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ رِيَاحٌ مُتَقَابِلَةٌ مُتَصَادِمَةٌ فَتَمْنَعُ صُعُودَ الْأَبْخِرَةِ حِينَئِذٍ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَعْرِضَ لِلْجُزْءِ الْمُتَقَدِّمِ وُقُوفٌ لِثِقَلِهِ وَبُطْءِ حَرَكَتِهِ، ثم يلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة العدد وَخَامِسُهَا: لِشِدَّةِ بَرْدِ الْهَوَاءِ الْقَرِيبِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَدْ نُشَاهِدُ الْبُخَارَ يَصْعَدُ فِي بَعْضِ الْجِبَالِ صُعُودًا يَسِيرًا حَتَّى كَأَنَّهُ مِكَبَّةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى وَهْدَةٍ، وَيَكُونُ النَّاظِرُ إِلَيْهَا فَوْقَ تِلْكَ الْغَمَامَةِ وَالَّذِينَ يَكُونُونَ تَحْتَ الْغَمَامَةِ يُمْطَرُونَ وَالَّذِينَ يَكُونُونَ فَوْقَهَا يَكُونُونَ فِي الشَّمْسِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَبْخِرَةُ الْقَلِيلَةُ الِارْتِفَاعِ قَلِيلَةً لَطِيفَةً فَإِذَا ضَرَبَهَا بَرْدُ اللَّيْلِ كَثَّفَهَا وَعَقَدَهَا مَاءً مَحْسُوسًا فَنَزَلَ نُزُولًا مُتَفَرِّقًا لَا يُحِسُّ بِهِ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْمُدْ كَانَ طَلًّا، وَإِنْ جَمَدَ كَانَ صَقِيعًا، وَنِسْبَةُ الصَّقِيعِ إِلَى الطَّلِّ نِسْبَةُ الثَّلْجِ إِلَى الْمَطَرِ، وَأَمَّا تَكَوُّنُ السَّحَابِ مِنَ انْقِبَاضِ الْهَوَاءِ فَذَلِكَ عند ما يَبْرُدُ الْهَوَاءُ وَيَنْقَبِضُ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ مِنْهُ الْأَقْسَامُ الْمَذْكُورَةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَمَّا دَلَّلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَتَوَسَّلْنَا بِذَلِكَ إِلَى كَوْنِهِ قَادِرًا مُخْتَارًا يمكنه إيجاد
(١) في الكشاف (فتوقه ومخارجه) ٣/ ٧٠ ط. دار الفكر.
404
الْأَجْسَامِ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ أَجْزَاءَ السَّحَابِ دُفْعَةً لَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَلَكِنَّ الْأَجْسَامَ بِالِاتِّفَاقِ مُمْكِنَةٌ فِي ذَوَاتِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُؤَثِّرٍ. ثُمَّ إِنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ، فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ وَاللَّطَافَةِ وَالْكَثَافَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ، فَإِذَا كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقًا لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ وَتِلْكَ الطَّبَائِعُ مُؤَثِّرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَخَالِقُ السَّبَبِ خَالِقُ الْمُسَبَّبِ، فَكَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُزْجِي سَحَابًا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الطَّبَائِعَ الْمُحَرِّكَةَ لِتِلْكَ الْأَبْخِرَةِ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى جَوِّ الْهَوَاءِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَبْخِرَةَ إِذَا تَرَادَفَتْ فِي صُعُودِهَا وَالْتَصَقَ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا رُكَامًا، فَثَبَتَ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا مِنْ بَرَدٍ خَلَقَهَا اللَّه تَعَالَى كَذَلِكَ، ثُمَّ يُنَزِّلُ مِنْهَا مَا شَاءَ وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: جِبَالٌ مِنْ بَرَدٍ فِي السَّمَاءِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّ السماء هو الغيم المرتفع على رؤوس النَّاسِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسُمُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مِنْ هَذَا الْغَيْمِ الَّذِي هُوَ سَمَاءٌ الْبَرَدَ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مِنْ جِبالٍ السَّحَابَ الْعِظَامَ لِأَنَّهَا إِذَا عَظُمَتْ أَشْبَهَتِ الْجِبَالَ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَمْلِكُ جِبَالًا مِنْ مَالٍ وَوُصِفَتْ بِذَلِكَ تَوَسُّعًا وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْبَرَدَ مَاءٌ جَامِدٌ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِي السَّحَابِ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا سَمَّى اللَّه ذَلِكَ الْغَيْمَ جِبَالًا، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهَا مِنَ الْبَرَدِ، وَكُلُّ جِسْمٍ شَدِيدٍ مُتَحَجِّرٍ فَهُوَ مِنَ الْجِبَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٨٤] وَمِنْهُ فُلَانٌ مَجْبُولٌ عَلَى كَذَا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ السَّمَاءَ اسْمٌ لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَخْصُوصِ، فَجَعْلُهُ اسْمًا لِلسَّحَابِ بِطَرِيقَةِ الِاشْتِقَاقِ مَجَازٌ، وَكَمَا يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّه الْمَاءَ فِي السَّحَابِ ثُمَّ يُنْزِلُهُ بَرَدًا، فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي/ السَّمَاءِ جِبَالٌ مِنْ بَرَدٍ، وَإِذَا صَحَّ فِي الْقُدْرَةِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الظَّاهِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَمِنَ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّه بَعْضَ تِلْكَ الْجِبَالِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالثَّالِثَةُ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ جِنْسَ تِلْكَ الْجِبَالِ جِنْسُ الْبَرَدِ، ثم قال وَمَفْعُولُ الْإِنْزَالِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فالظاهر أنه راجح إِلَى الْبَرَدِ، وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَدْ يَضُرُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ وَيَصْرِفُهُ، أَيْ يَصْرِفُ ضَرَرَهُ عَمَّنْ يَشَاءُ بِأَنْ لَا يَسْقُطَ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْبَرَدَ عَلَى الْحَجَرِ وَجَعَلَ نُزُولَهُ جَارِيًا مَجْرَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَذَلِكَ بِعِيدٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قُرِئَ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ عَلَى الْإِدْغَامِ وَقُرِئَ (بُرُقِهِ) جَمْعُ بُرْقَةٍ وَهِيَ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ وَبُرُقِهِ بِضَمَّتَيْنِ لِلْإِتْبَاعِ كَمَا قِيلَ فِي جَمْعِ فُعْلَةٍ فُعُلَاتٍ كَظُلُمَاتٍ، وَ (سَنَاءُ بَرْقِهِ) عَلَى الْمَدِّ وَالْمَقْصُورُ بِمَعْنَى الضَّوْءِ وَالْمَمْدُودُ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ مِنْ قولك سنى للمرتفع ويَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ كَقَوْلِهِ: وَلا
405
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
[الْبَقَرَةِ: ١٩٥] عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ.
المسألة الثَّانِيَةُ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَكُونُ صِفَتُهُ ذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَارًا عَظِيمَةً خَالِصَةً، وَالنَّارُ ضِدُّ الْمَاءِ وَالْبَرَدِ فَظُهُورُهُ مِنَ الْبَرَدِ يَقْتَضِي ظُهُورَ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةِ قَادِرٍ حَكِيمٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ إِلَى الدَّارِ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ ذَاهِبًا مَعَهُ إِلَى الدَّارِ، فَالْمُنْكِرُونَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فَقِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا تَعَاقُبُهُمَا وَمَجِيءُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: ٦٢] وَمِنْهَا وُلُوجُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَأَخْذُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ. وَمِنْهَا تَغَيُّرُ أَحْوَالِهِمَا فِي الْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ تَعَالَى مَعَانِيَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ فِي الْإِنْعَامِ وَالِاعْتِبَارِ أَوْلَى وَأَقْوَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ فَالْمَعْنَى أَنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلَالَةً لِمَنْ يَرْجِعُ إِلَى بَصِيرَةٍ، فَمِنْ هَذَا الوجه يَدُلُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَتَفَكَّرَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيَدُلَّ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ التقليد.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِأَحْوَالِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَثَانِيًا بِالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ اسْتَدَلَّ ثَالِثًا بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مِنَ الْمَاءِ؟ أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمْ أَعْظَمُ الْحَيَوَانَاتِ عَدَدًا وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ، وَأَمَّا الْجِنُّ فَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّارِ، وَخَلَقَ اللَّه آدَمَ مِنَ التُّرَابِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] وَخَلَقَ عِيسَى مِنَ الرِّيحِ لِقَوْلِهِ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيمِ: ١٢] وَأَيْضًا نَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُتَوَلِّدٌ لَا عَنِ النُّطْفَةِ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ ماءٍ صِلَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ صِلَةِ خَلَقَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْمَاءِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَاءُ عَلَى مَا
يُرْوَى «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى جَوْهَرَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْهَيْبَةِ فَصَارَتْ مَاءً ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ خَلَقَ النَّارَ وَالْهَوَاءَ وَالنُّورَ»،
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَكَانَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَاءُ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ عَلَى هَذَا الوجه وَثَالِثُهَا:
أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّابَّةِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَمَسْكَنُهُمْ هُنَاكَ فَيَخْرُجُ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ جِدًّا مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ كَوْنُهُمْ مَخْلُوقِينَ مِنَ الْمَاءِ، إِمَّا لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ النُّطْفَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَا تَعِيشُ إِلَّا بِالْمَاءِ لَا جَرَمَ أَطْلَقَ لَفْظَ الْكُلِّ تَنْزِيلًا لِلْغَالِبِ مَنْزِلَةَ الْكُلِّ.
406
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ نَكَّرَ الْمَاءَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ماءٍ وَجَاءَ مُعَرَّفًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٠] وَالْجَوَابُ: إنما جاء هاهنا مُنَكَّرًا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْمَاءِ يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الدَّابَّةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مُعَرَّفًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وهاهنا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْجِنْسَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْ فَلِمَ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا لَا يَعْقِلُ مَعَ مَنْ يَعْقِلُ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ فَغَلَبَ/ اللَّفْظُ اللَّائِقُ بِمَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ جَعْلَ الشَّرِيفِ أَصْلًا وَالْخَسِيسِ تَبَعًا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَيُقَالُ فِي الْكَلَامِ: مَنِ الْمُقْبِلَانِ؟ لِرَجُلٍ وَبَعِيرٍ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ سَمَّى الزَّحْفَ عَلَى الْبَطْنِ مَشْيًا؟ وَيُبَيِّنُ صِحَّةَ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَحْبُو وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ يَمْشِي وَإِنْ زَحَفَ عَلَى حَدِّ مَا تَزْحَفُ الْحَيَّةُ وَالْجَوَابُ: هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا قَالُوا فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَمِرِّ قَدْ مَشَى هَذَا الْأَمْرُ، وَيُقَالُ فُلَانٌ لَا يَتَمَشَّى لَهُ أَمْرٌ أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ (لِذَلِكَ) «١» الزَّاحِفِ مَعَ الْمَاشِينَ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْقِسْمَةَ لِأَنَّا نَجِدُ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ من أربع مثال الْعَنَاكِبِ وَالْعَقَارِبِ وَالرُّتَيْلَاتِ بَلْ مِثْلُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رِجْلًا الَّذِي يُسَمَّى دَخَّالُ الْأُذُنِ وَالْجَوَابُ: الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ كَالنَّادِرِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلِأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ مَا لَهُ قَوَائِمُ كَثِيرَةٌ فَاعْتِمَادُهُ إِذَا مَشَى عَلَى أَرْبَعِ جِهَاتِهِ لَا غَيْرَ فَكَأَنَّهُ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: لم جاءت الأجناس الثابثة عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ؟ وَالْجَوَابُ: قَدْ قَدَّمَ مَا هُوَ (أَعْجَبُ) «٢» وَهُوَ الْمَاشِي بِغَيْرِ آلَةِ مَشْيٍ من أجل أَوْ قَوَائِمَ ثُمَّ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ثُمَّ الْمَاشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا اخْتَلَفَتْ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْمَشْيِ فَكَذَا هِيَ مختلفة بحسب أمور أخر، فلنذكر هاهنا بَعْضَ التَّقْسِيمَاتِ:
التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ: الْحَيَوَانَاتُ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي أَعْضَاءٍ وَقَدْ تَتَبَايَنُ بِأَعْضَاءٍ، أَمَّا الشَّرِكَةُ فَمِثْلُ اشْتِرَاكِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ فِي أَنَّ لَهُمَا لَحْمًا وَعَصَبًا وَعَظْمًا، وَأَمَّا التَّبَايُنُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ أَوْ فِي صِفَتِهِ، أَمَّا التَّبَايُنُ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْعُضْوُ حَاصِلًا لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ حَاصِلَةً لِلثَّانِي كَالْفَرَسِ وَالْإِنْسَانِ، فَإِنَّ الْفَرَسَ لَهُ ذَنَبٌ وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ لَهُ ذَنَبٌ وَلَكِنَّ أَجْزَاءَ الذَّنَبِ لَيْسَتْ إِلَّا الْعَظْمَ وَالْعَصَبَ وَاللَّحْمَ وَالْجِلْدَ وَالشَّعْرَ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لِلْإِنْسَانِ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْعُضْوُ حَاصِلًا لِلثَّانِي لَا بِذَاتِهِ وَلَا بِأَجْزَائِهِ مِثْلُ أَنَّ لِلسُّلَحْفَاةِ صَدَفًا يُحِيطُ بِهِ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ ذَلِكَ وَكَذَا لِلسَّمَكِ فُلُوسٌ وَلِلْقُنْفُذِ شَوْكٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا لِلْإِنْسَانِ وَأَمَّا التَّبَايُنُ فِي صِفَةِ الْعُضْوِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْكَمِّيَّةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ أَوِ الْوَضْعِ أَوِ الْفِعْلِ أَوِ الِانْفِعَالِ، أَمَّا الَّذِي فِي الْكَمِّ، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمِقْدَارِ مِثْلَ أَنَّ عَيْنَ الْبُومِ كَبِيرَةٌ وَعَيْنَ الْعُقَابِ صَغِيرَةٌ أَوْ بِالْعَدَدِ مِثْلَ أَنَّ أرجل
(١) في الكشاف للزمخشري (لذكر) ٣/ ٧١ ط. دار الفكر.
(٢) في الكشاف للزمخشري (أعرق في القدرة) ٣/ ٧١ ط. دار الفكر.
407
ضَرْبٍ مِنَ الْعَنَاكِبِ سِتَّةٌ وَأَرْجُلَ ضَرْبٍ آخَرَ ثَمَانِيَةٌ أَوْ عَشْرَةٌ، وَالَّذِي فِي الْكَيْفِ فَكَاخْتِلَافِهَا فِي الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالصَّلَابَةِ وَاللِّينِ، وَالَّذِي فِي الْوَضْعِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِ وَضْعِ ثَدْيِ الْفِيلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الصَّدْرِ وَثَدْيِ الْفَرَسِ فَإِنَّهُ عِنْدَ السُّرَّةِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي الْفِعْلِ فَمِثْلُ كَوْنِ أُذُنِ الْفِيلِ صَالِحًا لِلذَّبِّ مَعَ كَوْنِهِ آلَةً لِلسَّمْعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ وَكَوْنِ/ أَنْفِهِ آلَةً لِلْقَبْضِ دُونَ أَنْفِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي الِانْفِعَالِ فَمِثْلُ كَوْنِ عَيْنِ الْخُفَّاشِ سَرِيعَةَ التَّحَيُّرِ فِي الضَّوْءِ وَعَيْنُ الْخُطَّافِ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
التَّقْسِيمُ الثَّانِي: الْحَيَوَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَائِيًّا بِمَعْنَى أَنَّ مَسْكَنَهُ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْمَاءُ أَوْ أَرْضِيًّا أَوْ يَكُونُ مَائِيًّا ثُمَّ يَصِيرُ أَرْضِيًّا، أَمَّا الْحَيَوَانَاتُ الْمَائِيَّةُ فَتَغَيُّرُ أَحْوَالِهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانُهُ وَغِذَاؤُهُ وَنَفَسُهُ مَائِيًّا فَلَهُ بَدَلُ التَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ التَّنَشُّقُ الْمَائِيُّ فَهُوَ يَقْبَلُ الْمَاءَ إِلَى بَاطِنِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ وَلَا يَعِيشُ إِذَا فَارَقَهُ، وَالسَّمَكُ كُلُّهُ كَذَلِكَ وَمِنْهُ مَا مَكَانُهُ وَغِذَاؤُهُ مَائِيٌّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَفَّسُ مِنَ الْهَوَاءِ مِثْلُ السُّلَحْفَاةِ الْمَائِيَّةِ، وَمِنْهُ مَا مَكَانُهُ وَغِذَاؤُهُ مَائِيٌّ وَلَيْسَ يَتَنَفَّسُ وَلَا يَسْتَنْشِقُ مِثْلُ أَصْنَافٍ مِنَ الصَّدَفِ لَا تَظْهَرُ لِلْهَوَاءِ وَلَا تَسْتَدْخِلُ الْمَاءَ إِلَى بَاطِنِهَا الوجه الثَّانِي:
الْحَيَوَانَاتُ الْمَائِيَّةُ بَعْضُهَا مَأْوَاهَا مِيَاهُ الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ وَبَعْضُهَا مِيَاهُ الْبَطَائِحِ مِثْلُ الضَّفَادِعِ وَبَعْضُهَا مَأْوَاهَا مِيَاهُ الْبَحْرِ الوجه الثَّالِثُ: مِنْهَا لُجِّيَّةٌ وَمِنْهَا شَطِّيَّةٌ وَمِنْهَا طِينِيَّةٌ وَمِنْهَا صَخْرِيَّةٌ الوجه الرَّابِعُ: الْحَيَوَانُ الْمُنْتَقِلُ فِي الْمَاءِ مِنْهُ مَا يَعْتَمِدُ فِي غَوْصِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَفِي السِّبَاحَةِ عَلَى أَجْنِحَتِهِ كَالسَّمَكِ وَمِنْهُ مَا يَعْتَمِدُ فِي السِّبَاحَةِ عَلَى رِجْلَيْهِ كَالضِّفْدَعِ وَمِنْهُ مَا يَمْشِي فِي قَعْرِ الْمَاءِ كَالسَّرَطَانِ وَمِنْهُ مَا يَزْحَفُ مِثْلَ ضَرْبٍ مِنَ السَّمَكِ لَا جَنَاحَ لَهُ وَكَالدُّودِ، أَمَّا الْحَيَوَانَاتُ الْبَرِّيَّةُ فَتُغَيِّرُ أَحْوَالَهَا أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنْهَا مَا يَتَنَفَّسُ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ كَالْفَمِ وَالْخَيْشُومِ وَمِنْهَا مَا لَا يَتَنَفَّسُ كَذَلِكَ بَلْ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ مِنْ مَسَامِّهِ مِثْلَ الزُّنْبُورِ وَالنَّحْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْأَرْضِيَّةَ مِنْهَا مَا لَهُ مَأْوًى مَعْلُومٌ، وَمِنْهَا مَا مَأْوَاهُ كَيْفَ اتُّفِقَ إِلَّا أَنْ يَلِدَ فَيُقِيمُ لِلْحَضَانَةِ وَاللَّوَاتِي لَهَا مَأْوَى فَبَعْضُهَا مَأْوَاهُ شَقٌّ وَبَعْضُهَا حُفَرٌ وَبَعْضُهَا مَأْوَاهُ قُلَّةٌ رَابِيَةٌ وَبَعْضُهَا مَأْوَاهُ وَجْهُ الْأَرْضِ الثَّالِثُ: الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ كُلُّ طَائِرٍ مِنْهُ ذُو جَنَاحٍ فَإِنَّهُ يَمْشِي بِرِجْلَيْهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا مَشْيُهُ صَعْبٌ عَلَيْهِ كَالْخُطَّافِ الْكَبِيرِ الْأَسْوَدِ وَالْخُفَّاشِ. وَأَمَّا الَّذِي جَنَاحُهُ جِلْدٌ أَوْ غِشَاءٌ فَقَدْ يَكُونُ عَدِيمَ الرِّجْلِ كَضَرْبٍ مِنَ الْحَيَّاتِ الْحَبَشِيَّةِ يَطِيرُ الرَّابِعُ: الطَّيْرُ يَخْتَلِفُ فَبَعْضُهَا يَتَعَايَشُ مَعًا كَالْكَرَاكِيِّ وَبَعْضُهَا يُؤْثِرُ التَّفَرُّدَ كَالْعُقَابِ وَجَمِيعِ الْجَوَارِحِ الَّتِي تَتَنَازَعُ عَلَى الطُّعْمِ لِاحْتِيَاجِهَا إِلَى الِاحْتِيَالِ لِتَصِيدَ وَمُنَافَسَتِهَا فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَايَشُ زَوْجًا وَيَكُونُ مَعًا كَالْقَطَا، وَمِنْهُ مَا يَجْتَمِعُ تَارَةً وَيَنْفَرِدُ أُخْرَى وَالْحَيَوَانَاتُ الْمُنْفَرِدَةُ قَدْ تَكُونُ مَدَنِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ بَرِّيَّةً صِرْفَةً وَقَدْ تَكُونُ بُسْتَانِيَّةً وَالْإِنْسَانُ مِنْ بَيْنِ الْحَيَوَانِ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ وَحْدَهُ فَإِنَّ أَسْبَابَ حَيَاتِهِ وَمَعِيشَتِهِ تَلْتَئِمُ بِالْمُشَارَكَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَالنَّحْلُ وَالنَّمْلُ وَبَعْضُ الْغَرَانِيقِ يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ النَّحْلَ وَالْكَرَاكِيَّ تُطِيعُ رَئِيسًا وَاحِدًا وَالنَّمْلَ لَهُ اجْتِمَاعٌ وَلَا رَئِيسَ الْخَامِسُ: الطَّيْرُ مِنْهُ آكِلُ لحم ومنه لا قط حَبٍّ وَمِنْهُ آكِلُ عُشْبٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الطَّيْرِ طَعْمٌ مُعَيَّنٌ كَالنَّحْلِ فَإِنَّ غِذَاءَهُ زَهْرٌ وَالْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّ غِذَاءَهُ الذُّبَابُ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ مُتَّفِقُ الطَّعْمِ أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحَيَوَانُ الَّذِي يَكُونُ تَارَةً مَائِيًّا، وَأُخْرَى بَرِّيًّا فَيُقَالُ إِنَّهُ حَيَوَانٌ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ وَيَعِيشُ فِيهِ ثُمَّ إِنَّهُ يَبْرُزُ إِلَى الْبَرِّ وَيَبْقَى فِيهِ.
التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ: الْحَيَوَانُ مِنْهُ مَا هُوَ إِنْسِيٌّ بِالطَّبْعِ كَالْإِنْسَانِ وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْسِيٌّ بِالْمَوْلِدِ كَالْهِرَّةِ وَالْفَرَسِ وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْسِيٌّ بِالْقَسْرِ كَالْفَهْدِ وَمِنْهُ مَا لَا يَأْنَسُ كَالنَّمِرِ وَالْمُسْتَأْنَسُ بِالْقَسْرِ مِنْهُ مَا يُسْرِعُ اسْتِئْنَاسُهُ وَيَبْقَى مُسْتَأْنَسًا كَالْفِيلِ وَمِنْهُ مَا يُبْطِئُ كَالْأَسَدِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ صِنْفٌ إِنْسِيٌّ وَصِنْفٌ وَحْشِيٌّ حَتَّى مِنَ النَّاسِ.
408
التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ: مِنَ الْحَيَوَانِ مَا هُوَ مُصَوِّتٌ وَمِنْهُ مَا لَا صَوْتَ لَهُ وَكُلُّ مُصَوِّتٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ عِنْدَ الِاغْتِلَامِ وَحَرَكَةِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ أَشَدَّ تَصْوِيتًا إِلَّا الْإِنْسَانُ، وَأَيْضًا لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ شَبَقٌ يَشْتَدُّ كُلَّ وَقْتٍ كَالدِّيكِ وَمِنْهُ عَفِيفٌ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ.
التَّقْسِيمُ الْخَامِسُ: بِحَسَبِ الْأَخْلَاقِ بَعْضُ الْحَيَوَانَاتِ هَادِئُ الطَّبْعِ قَلِيلُ الْغَضَبِ مِثْلُ الْبَقَرَةِ وَبَعْضُهُ شَدِيدُ الْجَهْلِ حَادُّ الْغَضَبِ كَالْخِنْزِيرِ الْبَرِّيِّ وَبَعْضُهَا حَلِيمٌ خَدُوعٌ كَالْبَعِيرِ وَبَعْضُهَا رَدِيءُ الْحَرَكَاتِ مُغْتَالٌ كَالْحَيَّةِ وَبَعْضُهَا جَرِيءٌ قَوِيٌّ شَهْمٌ كَبِيرُ النَّفْسِ كَرِيمُ الطَّبْعِ كَالْأَسَدِ وَمِنْهَا قَوِيٌّ مُغْتَالٌ وَحْشِيٌّ كَالذِّئْبِ وَبَعْضُهَا مُحْتَالٌ مَكَّارٌ رَدِيءُ الْحَرَكَاتِ كَالثَّعْلَبِ وَبَعْضُهَا غَضُوبٌ شَدِيدُ الْغَضَبِ سَفِيهٌ إِلَّا أَنَّهُ مَلِقٌ مُتَوَدِّدٌ كَالْكَلْبِ وَبَعْضُهَا شَدِيدُ الْكَيْسِ مُسْتَأْنَسٌ كَالْفِيلِ وَالْقِرْدِ وَبَعْضُهَا حَسُودٌ مُتَبَاهٍ بِجَمَالِهِ كَالطَّاوُوسِ وَبَعْضُهَا شَدِيدُ التَّحَفُّظِ كَالْجَمَلِ وَالْحِمَارِ.
التَّقْسِيمُ السَّادِسُ: مِنَ الْحَيَوَانِ مَا تَنَاسُلُهُ بِأَنْ تَلِدَ أُنْثَاهُ حَيَوَانًا وَبَعْضُهَا مَا تَنَاسُلُهُ بِأَنْ تَلِدَ أُنْثَاهُ دُودًا كَالنَّحْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّهَا تَلِدُ دُودًا، ثُمَّ إِنَّ أَعْضَاءَهُ تُسْتَكْمَلُ بَعْدُ وَبَعْضُهَا تَنَاسُلُهُ بِأَنْ تَبِيضَ أُنْثَاهُ بَيْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِأَحْوَالِ أَصْغَرِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِتَرْكِيبِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ فَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ بِأَعْضَائِهَا وَقُوَاهَا وَمَقَادِيرِ أَبْدَانِهَا وَأَعْمَارِهَا وَأَخْلَاقِهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ قَاهِرٍ حَكِيمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْجَاحِدُونَ. وَأَحْسَنُ كَلَامٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْكُلِّ وَالْعَالِمُ بِالْكُلِّ فَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَيُّ عَقْلٍ يَقِفُ عَلَيْهَا وَأَيُّ خَاطِرٍ يَصِلُ إِلَى ذَرَّةٍ مِنْ أَسْرَارِهَا، بَلْ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ وَلَا دَافِعٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ الْأَدِلَّةِ وَالْعِبَرِ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ كَالْمُشْتَمِلِ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَاسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْجَوَابُ: أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ يَهْدِي مَنْ بَلَغَهُ حَدُّ التَّكْلِيفِ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ أَطَاعَهُ وَاسْتَحَقَّ الثَّوَابَ فَيَهْدِيهِ إِلَى الْجَنَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ، وَجَوَابُنَا عَنْ هَذَا الْجَوَابِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ واللَّه أعلم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ أَتْبَعَهُ بِذَمِّ قَوْمٍ اعْتَرَفُوا بِالدِّينِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهُ بِقُلُوبِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بِشْرٍ الْمُنَافِقِ وَكَانَ قَدْ خَاصَمَ يَهُودِيًّا فِي أَرْضٍ وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَجُرُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ الْمُنَافِقُ يَجُرُّهُ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَيَقُولُ إِنَّ محمدا
409
يَحِيفُ عَلَيْنَا وَقَدْ مَضَتْ قِصَّتُهُمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ،
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي الْمُغِيرَةِ بْنِ وَائِلٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَرْضٌ فَتَقَاسَمَا فَوَقَعَ إِلَى عَلِيٍّ مِنْهَا مَا لَا يُصِيبُهُ الْمَاءُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَقَالَ المغيرة بمعني أَرْضَكَ فَبَاعَهَا إِيَّاهُ وَتَقَابَضَا فَقِيلَ لِلْمُغِيرَةِ أَخَذْتَ سَبْخَةً لَا يَنَالُهَا الْمَاءُ. فَقَالَ لِعَلِيٍّ اقْبِضْ أَرْضَكَ فَإِنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا إِنْ رَضِيتُهَا وَلَمْ أَرْضَهَا فَلَا يَنَالُهَا الْمَاءُ فَقَالَ عَلِيٌّ بَلِ اشْتَرَيْتَهَا وَرَضِيتَهَا وَقَبَضْتَهَا وَعَرَفْتَ حَالَهَا لَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ، وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يُخَاصِمَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ أَمَّا مُحَمَّدٌ فَلَسْتُ آتِيهِ وَلَا أُحَاكِمُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُبْغِضُنِي وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَحِيفَ عَلَيَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَقَالَ الْحَسَنُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا إِلَى قَوْلِهِ: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ إِذْ لَوْ كَانَ بِهِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَنْفِيَ كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَدْ فَعَلُوا مَا هُوَ إِيمَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ كُلِّهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا، ثُمَّ حَكَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمُ التَّوَلِّيَ/ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ فِي جَمِيعِهِمْ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى مِنْهُمْ هُوَ الْبَعْضُ؟ قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا لَا إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَأَيْضًا فَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ يَصِحُّ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَيْ يَرْجِعُ هَذَا الْفَرِيقُ إِلَى الْبَاقِينَ مِنْهُمْ فَيُظْهِرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الرُّجُوعَ عَمَّا أَظْهَرُوهُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَهَذَا تَرْكٌ لِلرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعْرِضُونَ مَتَى عَرَفُوا الْحَقَّ لِغَيْرِهِمْ أَوْ شَكُّوا فَأَمَّا إِذَا عَرَفُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ عَدَلُوا عَنِ الْإِعْرَاضِ بَلْ سَارَعُوا إِلَى الْحُكْمِ وَأَذْعَنُوا بِبَذْلِ الرِّضَا، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِهِمُ اتِّبَاعُ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ النَّفْعَ الْمُعَجَّلَ، وَذَلِكَ أَيْضًا نِفَاقٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَلِمَةُ (أَمْ) لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَالْجَوَابُ: اللَّفْظُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا [وَأَنْدَى الْعَالِمِينَ بُطُونَ رَاحِ «١» ]
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَوْ خَافُوا أَنْ يَحِيفَ اللَّه عَلَيْهِمْ فقد ارتابوا في الدين وإذا ارْتَابُوا فَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَالْكُلُّ وَاحِدٌ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّعْدِيدِ؟ الْجَوَابُ: قَوْلُهُ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إِشَارَةٌ إِلَى النِّفَاقِ وَقَوْلُهُ: أَمِ ارْتابُوا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَدَثَ هَذَا الشَّكُّ وَالرَّيْبُ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْإِسْلَامِ فِي الْقَلْبِ، وَقَوْلُهُ: أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي حُبِّ الدُّنْيَا إِلَى حَيْثُ يَتْرُكُونَ الدِّينَ بِسَبَبِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مُتَغَايِرَةٌ وَلَكِنَّهَا مُتَلَازِمَةٌ فَكَيْفَ أَدْخَلَ عَلَيْهَا كَلِمَةَ (أَمْ) ؟ الْجَوَابُ:
الْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَكَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُوَ النِّفَاقُ، وَكَانَ فِيهَا شَكٌّ وَارْتِيَابٌ، وَكَانُوا يَخَافُونَ الْحَيْفَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الظُّلْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] إِذِ الْمَرْءُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ أَوْ ظَالِمًا لِغَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْأَقْسَامِ كَوْنَهُمْ خَائِفِينَ مِنَ الْحَيْفِ، أَبْطَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ لَا يَخَافُونَ أن يحيف
(١) معناه إثبات أنهم كذلك، ولو كان الاستفهام على حقيقته لكان ذما لهم.
410
الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِأَمَانَتِهِ وَصِيَانَتِهِ وَإِنَّمَا هُمْ ظَالِمُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَظْلِمُوا مَنْ لَهُ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَهُ جُحُودٌ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْبَوْنَ المحاكمة إليه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى قَوْلَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا قَالُوهُ وَمَا فَعَلُوهُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَمَا يَجِبُ أَنْ يَسْلُكَهُ الْمُؤْمِنُونَ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّفْعِ، وَالنَّصْبُ أَقْوَى لِأَنَّ أَوْلَى الِاسْمَيْنِ بِكَوْنِهِ اسما لكان أو غلهما في التعريف وأَنْ يَقُولُوا أَوْغَلُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلتَّنْكِيرِ بِخِلَافِ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ وَطَرِيقَتُهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّه وَرَسُولِهِ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَيَكُونُ إِتْيَانُهُمْ إِلَيْهِ وَانْقِيَادُهُمْ لَهُ سَمْعًا وَطَاعَةً، وَمَعْنَى سَمِعْنا أَجَبْنَا عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ قَبِلَ وَأَجَابَ، ثم قال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ فِيمَا سَاءَهُ وَسَرَّهُ وَيَخْشَ اللَّهَ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ فِي الْمَاضِي وَيَتَّقْهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَازِهَا حَاوِيَةٌ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
فَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ حَلَفَ باللَّه/ فَقَدْ أَجْهَدَ فِي الْيَمِينِ، ثم قال لَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى كَرَاهِيَةَ الْمُنَافِقِينَ لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّه، فَقَالُوا واللَّه لَئِنْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَنِسَائِنَا لَخَرَجْنَا، وَإِنْ أَمَرْتَنَا بِالْجِهَادِ جَاهَدْنَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ:
قُلْ لَا تُقْسِمُوا
وَلَوْ كَانَ قَسَمُهُمْ كَمَا يَجِبُ لَمْ يَجُزِ النَّهْيُ عَنْهُ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى الْقِيَامِ بِالْبِرِّ وَالْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذلك أَنَّ قَسَمَهُمْ كَانَ لِنِفَاقِهِمْ وَأَنَّ بَاطِنَهُمْ خِلَافُ ظَاهِرِهِمْ، وَمَنْ نَوَى الْغَدْرَ لَا الْوَفَاءَ فَقَسَمُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا قَبِيحًا.
أَمَّا قَوْلُهُ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
فَهُوَ إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْمَطْلُوبُ مِنْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ لَا أَيْمَانٌ كَاذِبَةٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَمْثَلُ مِنْ قَسَمِكُمْ بِمَا لَا تَصْدُقُونَ فِيهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ دَعُوا الْقَسَمَ وَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ وَعَلَيْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَتَمَسَّكُوا بِهَا. وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى أَطِيعُوا طَاعَةَ (اللَّه) «١»
(١) لفظ (اللَّه) غير مثبت في الكشاف للزمخشري حيث إن الكلام منقول عنه. ٣/ ٧٣ ط. دار الفكر.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
أَيْ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ سَرَائِرِكُمْ، وَإِنَّهُ فَاضِحُكُمْ لَا مَحَالَةَ وَمُجَازِيكُمْ عَلَى نِفَاقِكُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَ الْكَلَامَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَبْكِيتِهِمْ فَإِنْ تَوَلَّوْا يَعْنِي إِنْ تَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَإِنَّمَا عَلَى الرَّسُولِ مَا حُمِّلَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا أَيْ تُصِيبُوا الْحَقَّ وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُ فَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَالْبَلَاغُ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ، وَالْمُبِينُ الْوَاضِحُ، وَالْمُوَضِّحُ لِمَا بِكُمْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ فَعَلَيْهِ إثم ما حمل من المعصية.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٥]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ] اعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ النَّظْمِ بَلِّغْ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَأَطِيعُوهُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَقَدْ وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَجْعَلَهُمُ الْخُلَفَاءَ وَالْغَالِبِينَ وَالْمَالِكِينَ كَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا مَنْ قَبْلَهُمْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَغَيْرَهُمَا، وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمْ وَتَمْكِينُهُ ذَلِكَ هُوَ أَنْ يُؤَيِّدَهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالْإِعْزَازِ وَيُبَدِّلَهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ أَمْنًا بِأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُوهُمْ وَيَأْمَنُوا بِذَلِكَ شَرَّهُمْ، فَيَعْبُدُونَنِي آمِنِينَ لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَلَا يَخَافُونَ وَمَنْ كَفَرَ أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْوَعْدِ وَارْتَدَّ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فَلْنُشِرْ إِلَى مَعَاقِدِهَا:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ لِأَنَّ الْوَعْدَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ وَالْمَوْصُوفُ بِالنوع مَوْصُوفٌ بِالْجِنْسِ، وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلِكٌ مُطَاعٌ وَالْمَلِكُ الْمُطَاعُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ وَعْدَ أَوْلِيَائِهِ وَوَعِيدَ أَعْدَائِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا خِلَافًا لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَعْلَمُهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِخْبَارًا عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ وَقَعَ الْمُخْبَرُ مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ... وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وَقَدْ فَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ وَصُدُورُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ قَالَ يَعْبُدُونَنِي، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلٌ بِالْغَرَضِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لِكَيْ يَعْبُدُونِي وَقَالُوا أَيْضًا الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْعِبَادَةَ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْغَرَضِ.
412
المسألة الْخَامِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّرِيكِ لِقَوْلِهِ: لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِلَهِ الثَّانِي، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ كَوْكَبًا كَمَا تَقَوَّلَهُ الصَّابِئَةُ أَوْ صَنَمًا كَمَا تَقَوَّلَهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ.
المسألة السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الغيب في قوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ... وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمُخْبَرُ مُوَافِقًا لِلْخَبَرِ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ مُعْجِزٌ، وَالْمُعْجِزُ دَلِيلُ الصِّدْقِ فَدَلَّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المسألة السَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْعَمَلَ الصالح عن الإيمان والمعطوف عَلَيْهِ.
المسألة الثَّامِنَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِمَامَةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَأَنْ يُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمُ الْمَرْضِيَّ وَأَنْ يُبَدِّلَهُمْ بَعْدَ الْخَوْفِ أَمْنًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْوَعْدِ بَعْدَ الرَّسُولِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَنِ الْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِخْلَافِ طَرِيقَةُ الْإِمَامَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْدَ الرَّسُولِ الِاسْتِخْلَافُ الَّذِي هَذَا وَصْفُهُ إِنَّمَا كَانَ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ لِأَنَّ فِي أَيَّامِهِمْ كَانَتِ الْفُتُوحُ الْعَظِيمَةُ وَحَصَلَ التَّمْكِينُ وَظُهُورُ الدِّينِ وَالْأَمْنِ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِجِهَادِ الْكُفَّارِ لِاشْتِغَالِهِ بِمُحَارَبَةِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ بِهَذَا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ قِيلَ الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي حُصُولَ الْخِلَافَةِ لِكُلِّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ نَزَلْنَا عَنْهُ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسْكِنُهُمُ الْأَرْضَ وَيُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خِلَافَةُ اللَّه تَعَالَى وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَاسْتِخْلَافُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا كَذَلِكَ نَزَلْنَا عنه، لكن هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافَةِ رَسُولِ اللَّه لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ أَتْرُكُكُمْ كَمَا تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللَّه.
نَزَلْنَا عَنْهُ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْوَاحِدُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] وَقَالَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: ٥٥] نَزَلْنَا عَنْهُ، وَلَكِنْ نَحْمِلُهُ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْإِثْنَى عَشَرَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخِطَابِ بَعْضُهُمْ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق فالذكور هاهنا فِي مَعْرِضِ الْبِشَارَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَالَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ كَانُوا خُلَفَاءَ تَارَةً بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَتَارَةً بِسَبَبِ الْإِمَامَةِ وَالْخِلَافَةُ حَاصِلَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا بِالتَّعْيِينِ وَلَكِنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَالْأَمْرِ بِالِاخْتِيَارِ فَلَا يَمْتَنِعُ فِي هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَخْلِفُهُمْ وَأَنَّ الرَّسُولَ اسْتَخْلَفَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الوجه قَالُوا فِي أَبِي بَكْرٍ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّه، فَالَّذِي قِيلَ إِنَّهُ
413
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أُرِيدَ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ وَإِذَا قِيلَ اسْتَخْلَفَ فَالْمُرَادُ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ وَالْأَمْرِ وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازٌ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ كَانَ مَعَ الْحَاضِرِينَ وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مَا كَانُوا حَاضِرِينَ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمُ الْقُوَّةَ وَالشَّوْكَةَ وَالنَّفَاذَ فِي الْعَالَمِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِ فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ إِمَامَةِ الْأَئِمَّةِ/ الْأَرْبَعَةِ وَبَطَلَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ الطَّاعِنِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ الطَّاعِنِينَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْنَ الْقَسَمُ الْمُتَلَقَّى بِاللَّامِ وَالنُّونِ فِي لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ، قُلْنَا: هُوَ محذوف تقديره: وعدهم اللَّه [وأقسم] «١» لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أَوْ نَزَلَ وَعْدُ اللَّه فِي تَحَقُّقِهِ مَنْزِلَةَ الْقَسَمِ فَتُلُقِّيَ بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ كَأَنَّهُ قَالَ أَقْسَمَ اللَّه لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي كَمَا اسْتَخْلَفَ هَارُونَ وَيُوشَعَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمُ اسْتِخْلَافًا كَاسْتِخْلَافِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقُرِئَ كَمَا اسْتُخْلِفَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُثَبِّتُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ ويعقوب وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ ومن الْإِبْدَالِ بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النِّسَاءِ: ٥٦].
أَمَّا قَوْلُهُ: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ عَنَاهُمْ لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى إِلَى الشِّرْكِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى مَعْنَى: وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ للَّه لَيَفْعَلَنَّ بِهِمْ كَيْتَ وَكَيْتَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا عَلَى طَرِيقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أَيْ جَحَدَ حَقَّ هَذِهِ النِّعَمِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي العاصون.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
أَمَّا تَفْسِيرُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَفْظَةِ لَعَلَّ وَلَفْظَةِ الرَّحْمَةِ، فَالْكُلُّ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فَالْمَعْنَى لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ كَفَرُوا سَابِقِينَ فَائِقِينَ حَتَّى يُعْجِزُونَنِي عَنْ إِدْرَاكِهِمْ. وَقُرِئَ لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَفِيهِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هُمَا الْمَفْعُولَانِ، وَالْمَعْنَى لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا/ أَحَدًا يُعْجِزُ اللَّه فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَطْمَعُوا هُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتقدم ذكره في قوله: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور: ٥٤] وَالْمَعْنَى: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ وَلَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الأول.
(١) زيادة من الكشاف ٣/ ٧٤ ط. دار الفكر.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَقَالَ صَاحِبُ [الْكَشَّافِ] : النَّظْمُ لَا يَحْتِمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفِيٌ وَهَذَا إِيجَابٌ، فَهُوَ إِذَنْ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ عَلَى مُضْمَرٍ قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ بَلْ هُمْ مَقْهُورُونَ وَمَأْوَاهُمُ النار.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قال القاضي: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الرِّجَالَ فَالْمُرَادُ بِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يُغَلَّبُ عَلَى التَّأْنِيثِ فإذا لم يميز فيدخل تحت قوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الْكُلُّ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي النِّسَاءِ بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي بَابِ حِفْظِ الْعَوْرَةِ أَشَدُّ حَالًا مِنَ الرِّجَالِ، فَهَذَا الْحُكْمُ لَمَّا ثَبَتَ فِي الرِّجَالِ فَثُبُوتُهُ فِي النِّسَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا أَنَّا نُثْبِتُ حُرْمَةَ الضَّرْبِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى حُرْمَةِ التَّأْفِيفِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَدْخُلُ فِيهِ الْبَالِغُونَ وَالصِّغَارُ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ الصِّغَارُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْكَبِيرَ مِنَ الْمَمَالِيكِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنَ الْمَالِكِ إِلَّا إلى ما يجوز للحر أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ قَوْلُهُ: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ يَنْظُرَ عَبْدُهَا إِلَى قُرْطِهَا وَشَعْرِهَا وَشَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ الْبَالِغُ مِنَ الْمَمَالِيكِ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَعْرِ مَالِكَتِهِ وَمَا شَاكَلَهُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ عَبِيدِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَطْفَالِ مِنَ الْأَحْرَارِ بِإِبَاحَةِ مَا حَظَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَبْلُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النُّورِ: ٢٧] فَإِنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَجَوَّزَ دُخُولَهُمْ مَعَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَدُخُولَ الْمَوَالِي عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَطُوفُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا عَدَا الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْبَالِغِينَ فِي الِاسْتِئْذَانِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَأَلْحَقَهُمْ بِمَنْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ إِذَا كَانُوا بَالِغِينَ فَغَيْرُ
415
مُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وإن أريد الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُمْ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَنَا بأن نأمرهم بذلك ونبعثهم عليه كَمَا أَمَرْنَا بِأَمْرِ الصَّبِيِّ، وَقَدْ عَقَلَ الصَّلَاةَ أَنْ يَفْعَلَهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّكْلِيفِ لَهُمْ، لَكِنَّهُ تَكْلِيفٌ لَنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَنَا وَلَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَوَجِّهًا عَلَى الْمَوْلَى كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: لِيَخَفْكَ أَهْلُكَ وَوَلَدُكَ، فَظَاهِرُ الْأَمْرِ لَهُمْ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ لَهُ بِفِعْلِ مَا يَخَافُونَ عِنْدَهُ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ غُلَامًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى عُمَرَ لِيَدْعُوهُ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فِي الْبَيْتِ فَدَفَعَ الْبَابَ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ عُمَرُ فَعَادَ وَرَدَّ الْبَابَ/ وَقَامَ مِنْ خَلْفِهِ وَحَرَّكَهُ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ فَقَالَ الْغُلَامُ اللَّهُمَّ أَيْقِظْهُ لِي وَدَفَعَ الْبَابَ ثُمَّ نَادَاهُ فَاسْتَيْقَظَ وَجَلَسَ وَدَخَلَ الْغُلَامُ فَانْكَشَفَ مِنْ عُمَرَ شَيْءٌ وَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ الْغُلَامَ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّ اللَّه نَهَى أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَخَدَمَنَا أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ ثُمَّ انْطَلَقَ مَعَهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَحَمِدَ اللَّه تَعَالَى عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا ذَاكَ يَا عُمَرُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلَ الْغُلَامُ فَتَعَجَّبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صُنْعِهِ وَتَعَرَّفَ اسْمَهُ وَمَدَحَهُ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّه يُحِبُّ الْحَلِيمَ الحي الْعَفِيفَ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْبَذِيءَ الْجَرِيءَ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ»
فَهَذِهِ الْآيَةُ إِحْدَى الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ بِسَبَبِ عُمَرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي مَرْثَدٍ قَالَتْ إِنَّا لَنَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَلَعَلَّهُمَا يَكُونَانِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ دَخَلَ عَلَيْهَا غُلَامٌ لَهَا كَبِيرٌ فِي وَقْتٍ كَرِهَتْ دُخُولَهُ فِيهِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنَّ خَدَمَنَا وَغِلْمَانَنَا يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي حَالٍ نَكْرَهُهَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ قَوْلُهُ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ عَنَى بِهِ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ صِيغَةُ الذُّكُورِ لَا صِيغَةُ الْإِنَاثِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هِيَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ إِثْبَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فِي النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ الذُّكُورِ عَلَى أَحْوَالِهِ فَقَدْ يَكْرَهُ أَيْضًا اطِّلَاعَ النِّسَاءِ عَلَيْهَا وَلَكِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي النِّسَاءِ بِالْقِيَاسِ لَا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
المسألة السَّادِسَةُ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَى الْإِيجَابِ وَهَذَا أَوْلَى، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ الْحُلْمَ بِالسُّكُونِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ بُلُوغٌ وَاخْتَلَفُوا إِذَا بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَحْتَلِمْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَكُونُ الْغُلَامُ بَالِغًا حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَسْتَكْمِلَهَا وَفِي الْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمُ اللَّه فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حَدَّ الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ إِذَا لَمْ يَحْتَلِمْ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَهَا وَبَيْنَ مَنْ قَصَرَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْكَلَامُ يُبْطِلُ التَّقْدِيرَ أَيْضًا بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً
416
أَجَابَ بِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكُلُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى طَرِيقِ الْعَادَاتِ فَقَدْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ، وَقَدْ وَجَدْنَا مَنْ بَلَغَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى/ الْمُعْتَادِ جَائِزَةٌ كَالنُّقْصَانِ مِنْهُ فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الزِّيَادَةَ كَالنُّقْصَانِ، وَهِيَ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلْغُلَامِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِكْمَالِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالدُّخُولِ فِي التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ اعْتَرَضَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ هَذَا الْخَبَرُ مُضْطَرِبٌ لِأَنَّ أُحُدًا كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَالْخَنْدَقَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ فَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ؟ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ فِي الْقِتَالِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبُلُوغِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرُدُّ الْبَالِغَ لِضَعْفِهِ وَيُؤْذِنُ غَيْرَ الْبَالِغِ لِقُوَّتِهِ وَلِطَاقَتِهِ حَمْلَ السِّلَاحِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا سَأَلَهُ عَنِ الِاحْتِلَامِ وَالسِّنِّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْإِنْبَاتِ هَلْ يَكُونُ بُلُوغًا، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مَا جَعَلُوهُ بُلُوغًا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه جَعَلَهُ بُلُوغًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْبَاتُ بُلُوغًا إِذَا لَمْ يَحْتَلِمْ كَمَا نَفَى كَوْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بُلُوغًا وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى مَا
رَوَى عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ أَنْبَتَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَاسْتِحْيَاءِ مَنْ لَمْ يُنْبِتْ قَالَ فَنَظَرُوا إِلَيَّ فَلَمْ أَكُنْ قَدْ أَنْبَتُّ فَاسْتَبَقَانِي
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الشَّرْعِ بِهِ وَبِمِثْلِهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَطِيَّةَ هَذَا مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَا سِيَّمَا مَعَ اعْتِرَاضِهِ عَلَى الْآيَةِ، وَالْخَبَرُ فِي نَفْيِ الْبُلُوغِ إِلَّا بِالِاحْتِلَامِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مُخْتَلِفُ الْأَلْفَاظِ فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى، وَفِي بَعْضِهَا مَنِ اخْضَرَّ عِذَارُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْحَالَ إِلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ بُلُوغُهُ وَلَا يَكُونُ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى إِلَّا وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ، فَجَعْلُ الْإِنْبَاتِ وَجَرْيِ الْمُوسَى عَلَيْهِ كِنَايَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ السِّنِّ وَهِيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَكْثَرَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْبَاتَ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ فَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِذَاكَ لَا لِلْبُلُوغِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مَرْدُودَةٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سُئِلَ عَنْ غُلَامٍ فَقَالَ هَلِ اخْضَرَّ عِذَارُهُ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كَالْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: وَيُرْوَى عَنْ قَوْمٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا فِي الْبُلُوغِ أَنْ يَبْلُغَ الْإِنْسَانُ فِي طُولِهِ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ،
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ فَقَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيُقْتَصُّ لَهُ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ،
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أُتِيَ أَبُو بَكْرٍ بِغُلَامٍ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ فَشُبِرَ فَنَقَصَ أُنْمُلَةً فَخَلَّى عَنْهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَخَذَ بِهِ الْفَرَزْدَقُ فِي قَوْلِهِ:
مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ وَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الْأَشْبَارِ
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ دُونَ الْبُلُوغِ وَيَكُونُ طَوِيلًا، وَفَوْقَ الْبُلُوغِ وَيَكُونُ قَصِيرًا فَلَا عِبْرَةَ بِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَقَدْ عَقَلَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ الشَّرَائِعِ وَيُنْهَى عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ فَإِنَّ اللَّه أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ»
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ نُعَلِّمُ الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ إِذَا عَرَفَ يَمِينَهُ
417
مِنْ شِمَالِهِ،
وَعَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الصِّبْيَانَ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، فَقِيلَ لَهُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لغير وقتها فقال خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَنَاهَوْا عَنْهَا،
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ عَشْرَ سِنِينَ كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، ثم قال أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَلِيَعْتَادَهُ وَيَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ فَيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَقَلَّ نُفُورًا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ يُجَنَّبُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيُنْهَى عَنْ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ لَصَعُبَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ بَعْدَ الْكِبَرِ، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التَّحْرِيمِ: ٦] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ فِي الْحِلْمِ حَلَمَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ اللَّامِ، يَحْلُمُ حِلْمًا بِضَمِّ اللَّامِ، وَمِنَ الْحُلُمِ حَلُمَ بِضَمِّ اللَّامِ، يَحْلِمُ حِلْمًا بِكَسْرِ اللَّامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: ثَلاثَ مَرَّاتٍ يَعْنِي ثَلَاثَ أَوْقَاتٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَهُنَّ بِالْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا قِيلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مَرَّةً فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ يَكْفِيهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ بَيَّنَ الْأَوْقَاتَ فَقَالَ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ، يَعْنِي الْغَالِبُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَجَرِّدًا عَنِ الثِّيَابِ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ثَلاثُ عَوْراتٍ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: ثَلَاثَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَكَأَنَّهُ قَالَ فِي أَوْقَاتِ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ لَكُمْ، فَلَمَّا حَذَفَ الْمُضَافَ أَعْرَبَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ بِإِعْرَابِهِ وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِالرَّفْعِ أَيْ: هِيَ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ فَارْتَفَعَ لِأَنَّهُ خَبَرُ مبتدأ محذوف، قال القفال فكأن الْمَعْنَى ثَلَاثَ انْكِشَافَاتٍ وَالْمُرَادُ وَقْتَ الِانْكِشَافِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْعَوْرَةُ الْخَلَلُ وَمِنْهُ اعْوَرَّ الْفَارِسُ وَاعَوَرَّ الْمَكَانُ وَالْأَعْوَرُ الْمُخْتَلُّ الْعَيْنِ، فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ عَوْرَةً، لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلُّ حِفْظُهُمْ وَتَسَتُّرُهُمْ فِيهَا.
المسألة الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ اعْتِبَارُ الْعِلَلِ فِي الْأَحْكَامِ إِذَا أَمْكَنَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ وَالثَّانِي: بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ مَا عَدَاهَا بِأَنَّهُ لَيْسَ ذَاكَ إِلَّا لِعِلَّةِ التَّكَشُّفِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ وُقُوعُ التَّكَشُّفِ فِيهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَوْقَاتَ.
المسألة الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّورِ: ٢٧] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَصَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْآيَةُ الْأُولَى أُرِيدَ بِهَا الْمُكَلَّفُ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ آمَنَ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ فِيمَنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ فَقِيلَ فِيهِ إِنَّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يَدْخُلُ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ. فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى النَّسْخِ، لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الْأُولَى مِنَ الْمُخَاطَبِينَ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَصْلًا، فَإِنْ قِيلَ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَدْ بَلَغَ
418
فَالنَّسْخُ لَازِمٌ، قُلْنَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا، لأن قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ لَا يَدْخُلُ إِلَّا مَنْ يَمْلِكُ الْبُيُوتَ لِحَقِّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، فَلَا يَجِبُ النَّسْخُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَأَمَّا إِنْ حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى صِغَارِ الْمَمَالِيكِ فَالْقَوْلُ فِيهِ أَبْيَنُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَمْ يَصِرْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ مَنْسُوخٌ.
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّه تَرَكَهُنَّ النَّاسُ وَلَا أَرَى أَحَدًا يَعْمَلُ بِهِنَّ، قَالَ عَطَاءٌ حَفِظْتُ اثْنَتَيْنِ وَنَسِيتُ واحدة، وقرأ هذه الآية وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الْحُجُرَاتِ:
١٣] وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ الْآيَةَ الثَّالِثَةَ قوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى [النِّسَاءِ: ٨] الْآيَةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَتَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ؟
الْجَوَابُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ فِي الصِّغَارِ خَاصَّةً، فَمُبَاحٌ لَهُمُ الدُّخُولُ لِلْخِدْمَةِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَمُبَاحٌ لَنَا تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ إِبَاحَةُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ لَهُمْ؟ الْجَوَابُ: لَا وَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْعَادَةُ أَنْ لَا تُكْشَفَ الْعَوْرَةُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، فَمَتَى كَشَفَتِ الْمَرْأَةُ عَوْرَتَهَا مَعَ ظَنِّ دُخُولِ الْخَدَمِ إِلَيْهَا فَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ التَّكْلِيفُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ أَيْضًا إِذَا ظَنَّ أَنَّ هُنَاكَ كَشْفَ عَوْرَةٍ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ لِلْبَالِغِ مِنَ الْمَمَالِيكِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ؟ قُلْنَا مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَخْرَجَ الشَّعْرَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَوْرَةً لِحَقِّ الْمِلْكِ، كَمَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَوْرَةً لِحَقِّ الرَّحِمِ، إِذِ الْعَوْرَةُ تَنْقَسِمُ فَفِيهِ مَا يَكُونُ عَوْرَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَفِيهِ مَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِالْإِضَافَةِ فيكون عورة مع الأجنبي غير عورة عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَتَقُولُونَ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْخَدَمِ دُونَ غَيْرِهِمْ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ/ وَفِي قَوْلِهِ:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِالصِّغَارِ دُونَ الْبَالِغِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَعْدُ فَقَالَ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ والمراد من تجدد منه البلوغ يجب أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَقَدَّمَ بُلُوغُهُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ مَنْ خَدَمَ فِي حَالِ الصِّغَرِ، فَإِذَا بَلَغَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَأْذِنَ وَيُفَارِقُ حَالُهُ حَالَ مَنْ لَمْ يَخْدِمْ وَلَمْ يُمَلَّكْ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا حَظَرَ عَلَى الْبَالِغِينَ الدُّخُولَ إِلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ فَكَذَلِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ إِذَا بَلَغُوا وَإِنْ تَقَدَّمَتْ لَهُمْ خِدْمَةٌ أَوْ ثَبَتَ فِيهِمْ مِلْكٌ لَهُنَّ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَمْلُوكِ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ أَوْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ؟ وَالْأَجْنَبِيُّ أَيْضًا لَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى فَنَعَمْ، إِمَّا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور: ٢٧] أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَمْلُوكِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ لِعُمُومِ الْآيَةِ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا مَحَلُّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ؟ الْجَوَابُ: إِذَا رُفِعَتْ ثَلاثُ عَوْراتٍ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ
419
الرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِ، وَالْمَعْنَى هُنَّ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ مَخْصُوصَةٌ بِالِاسْتِئْذَانِ، وَإِذَا نُصِبَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحَلٌّ، وَكَانَ كَلَامًا مُقَرَّرًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ خَاصَّةً.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ إِنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَقَوْلِكَ فِي الْكَلَامِ إِنَّمَا هُمْ خَدَمُكُمْ وَطَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، وَالطَّوَّافُونَ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ وَالتَّرَدُّدَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الطَّوَافِ، وَالْمَعْنَى يَطُوفُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
السُّؤَالُ السَّابِعُ: بِمَ ارْتَفَعَ بَعْضُكُمْ؟ الْجَوَابُ: بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ عَلى بَعْضٍ عَلَى مَعْنَى طَائِفٌ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ طَوَّافُونَ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: امْرَأَةٌ قَاعِدٌ إِذَا قَعَدَتْ عَنِ الْحَيْضِ وَالْجَمْعُ قَوَاعِدُ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْقُعُودَ قُلْتَ قَاعِدَةٌ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْقَوَاعِدُ هُنَّ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ وَالْوَلَدِ مِنَ الْكِبَرِ وَلَا مَطْمَعَ لَهُنَّ فِي الْأَزْوَاجِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَبَرَ قُعُودُهُنَّ عَنِ الْحَيْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقَطِعُ وَالرَّغْبَةُ فِيهِنَّ بَاقِيَةٌ، فَالْمُرَادُ قُعُودُهُنَّ عَنْ حَالِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا بَلَغْنَ فِي السِّنِّ بِحَيْثُ لَا يَرْغَبُ فِيهِنَّ الرِّجَالُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النِّسَاءِ: لَا يَرْجُونَ كَقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧].
المسألة الثَّالِثَةُ: لَا شُبْهَةَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ أَجْمَعَ لِمَا فِيهِ مِنْ كَشْفِ كُلِّ عَوْرَةٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالثِّيَابِ هاهنا الْجِلْبَابُ وَالْبُرُدُ وَالْقِنَاعُ الَّذِي فَوْقَ الْخِمَارِ، وَرُوِيَ/ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ أَنْ يَضَعْنَ جَلَابِيبَهُنَّ وَعَنِ السُّدِّيِّ عَنْ شيوخه (أن يضعن خمرهن رؤوسهن) وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ (أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ)، وَإِنَّمَا خَصَّهُنَّ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُنَّ، وَقَدْ بَلَغْنَ هَذَا الْمَبْلَغَ فَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِنَّ خِلَافُ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُنَّ وَضْعُ الثِّيَابِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الْمَظِنَّةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ الْمَظِنَّةِ يَلْزَمُهُنَّ أَنْ لَا يَضَعْنَ ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الشَّابَّةِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: حَقِيقَةُ التَّبَرُّجِ تَكَلُّفُ إِظْهَارِ مَا يَجِبُ إِخْفَاؤُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ سَفِينَةٌ بَارِجٌ لَا غطاء عليها، والبرج سِعَةُ الْعَيْنِ الَّتِي يُرَى بَيَاضُهَا مُحِيطًا بِسَوَادِهَا كُلِّهِ، لَا يَغِيبُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ بِأَنْ تَنْكَشِفَ الْمَرْأَةُ لِلرِّجَالِ بِإِبْدَاءِ زِينَتِهَا وإظهار محاسنها.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
420
[في قَوْلُهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ إلى قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ فَقَالَ/ ابْنُ زَيْدٍ:
الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ وَلَا إِثْمَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، وَقَالَ الْحَسَنُ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَضَعَ اللَّه الْجِهَادَ عَنْهُ وَكَانَ أَعْمَى وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: أَنْ تَأْكُلُوا فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رُفِعَ الْحَرَجُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَحْظَرُونَ الْأَكْلَ مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَفِي هَذِهِ الْمَنَازِلِ، فاللَّه تَعَالَى رَفَعَ ذَلِكَ الْحَظْرَ وَأَزَالَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ لِأَيِّ سَبَبٍ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ الْحَظْرَ، أَمَّا فِي حَقِّ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مَعَ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ الطَّعَامَ الْجَيِّدَ فَلَا يَأْخُذُهُ، وَلَا مَعَ الْأَعْرَجِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجُلُوسِ فَإِلَى أَنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً يَأْكُلُ غَيْرُهُ لُقْمَتَيْنِ، وَكَذَا الْمَرِيضُ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كَمَا يَأْكُلُ الصَّحِيحُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ (عَلَى) بِمَعْنَى فِي يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي مُوَاكَلَةٍ هَؤُلَاءِ حَرَجٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعُمْيَانَ وَالْعُرْجَانَ وَالْمَرْضَى تَرَكُوا مُوَاكَلَةَ الْأَصِحَّاءِ، أَمَّا الْأَعْمَى فَقَالَ إِنِّي لَا أَرَى شَيْئًا فَرُبَّمَا آخُذُ الْأَجْوَدَ وَأَتْرُكُ الْأَرْدَأَ، وَأَمَّا الْأَعْرَجُ وَالْمَرِيضُ فَخَافَا أَنْ يُفْسِدَا الطَّعَامَ عَلَى الْأَصِحَّاءِ لِأُمُورٍ تَعْتَرِي الْمَرْضَى، وَلِأَجْلِ أَنَّ الْأَصِحَّاءَ يَتَكَرَّهُونَ مِنْهُمْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمَرِيضَ رُبَّمَا حَمَلَهُ الشَّرَهُ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ نَظَرُهُ وَقَلْبُهُ بِلُقْمَةِ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ احْتَرَزُوا عَنْ مُوَاكَلَةِ الْأَصِحَّاءِ، فاللَّه تَعَالَى أَطْلَقَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ وَكَانُوا يُسَلِّمُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غَائِبُونَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنِ الزَّمْنَى فِي أَكْلِهِمْ مِنْ بَيْتِ مَنْ يَدْفَعُ إِلَيْهِمُ الْمِفْتَاحَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَرَابِعُهَا: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غازيا وخلف بن مَالِكِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمَّا رَجَعَ وَجَدَهُ مَجْهُودًا فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ تَحَرَّجْتُ أَنْ آكُلَ مِنْ طَعَامِكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ فَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَذْهَبُونَ بِالضُّعَفَاءِ وَذَوِي الْعَاهَاتِ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ فَيُطْعِمُونَهُمْ مِنْهَا، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النِّسَاءِ: ٢٩] أَيْ بَيْعًا فَعِنْدَ ذَلِكَ امْتَنَعَ النَّاسُ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُهُمْ مِنْ طَعَامِ بَعْضٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ فِي أَنْفُسِهَا قَزَازَةٌ وَكَانَتْ لَا تَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ إِذَا اسْتَغْنَوْا، قَالَ السُّدِّيُّ كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أَبِيهِ أَوْ بَيْتَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ فَتُتْحِفُهُ الْمَرْأَةُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ فَيَتَحَرَّجُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ رَبُّ الْبَيْتِ. فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الرُّخْصَةَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ الضِّيقُ وَمَعْنَاهُ فِي الدِّينِ الْإِثْمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ لِلنَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْأَكْلَ مُبَاحٌ وَلَكِنْ لَا يَجْمُلُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا النَّسْخِ قَوْلُهُ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَابِ: ٥٣] وَكَانَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَهُنَّ الْآبَاءُ وَالْإِخْوَةُ
421
وَالْأَخَوَاتُ، فَعَمَّ بِالنَّهْيِ عَنْ دُخُولِ بُيُوتِهِنَّ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ وَفِي الْأَكْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَذِنَ تَعَالَى فِي هَذَا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَمْنَعُونَ قَرَابَاتِهِمْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ حَضَرُوا أَوْ غَابُوا، فَجَازَ أَنْ يُرَخِّصَ فِي ذَلِكَ، قُلْنَا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى لَأَنَّ غَيْرَهُمْ كَهُمْ فِي ذَلِكَ الثَّانِي:
قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى مِنْ قَبْلُ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَظَرَهُ هُنَاكَ، قَالَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى أَهْلِ الْبُيُوتِ فَقَالَ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: ٢٧] وَفِي بُيُوتِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، بَلْ أَمَرَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ الْإِبَاحَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَا إِثْبَاتُ الْإِبَاحَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ بِأَكْلِ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَالْعَادَةُ كَالْإِذْنِ فِي ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَصَّهُمُ اللَّه بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ فِي الْأَغْلَبِ تُوجَدُ فِيهِمْ وَلِذَلِكَ ضَمَّ إِلَيْهِمُ الصَّدِيقَ، وَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَجْلِ حُصُولِ الرِّضَا فِيهَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ الْإِنْسَانِ طَعَامَهُ فِي بَيْتِهِ؟ وَجَوَابُهُ الْمُرَادُ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِكُمْ وَعِيَالِكُمْ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَرْأَةِ كَبَيْتِ الزَّوْجِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرَادَ بُيُوتَ أَوْلَادِهِمْ فَنَسَبَ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ إِلَى الْآبَاءِ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُ وَالِدِهِ وَمَالُهُ كَمَالِهِ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَّدَ الْأَقَارِبَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْلَادَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ هُوَ الْقَرَابَةُ كَانَ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ أَوْلَى وَثَانِيهَا: بُيُوتُ الْآبَاءِ وَثَالِثُهَا: بُيُوتُ الْأُمَّهَاتِ وَرَابِعُهَا: بُيُوتُ الْإِخْوَانِ وَخَامِسُهَا: بُيُوتُ الْأَخَوَاتِ وَسَادِسُهَا: بُيُوتُ الْأَعْمَامِ وَسَابِعُهَا: بُيُوتُ الْعَمَّاتِ وَثَامِنُهَا: بُيُوتُ الْأَخْوَالِ وَتَاسِعُهَا: بُيُوتُ الْخَالَاتِ وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وَقُرِئَ مِفْتَاحَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَكِيلُ الرَّجُلِ وَقَيِّمُهُ فِي ضَيْعَتِهِ وَمَاشِيَتِهِ، لَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِ/ ضَيْعَتِهِ، وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ مَاشِيَتِهِ، وَمِلْكُ الْمَفَاتِحِ كَوْنُهَا فِي يَدِهِ وَفِي حِفْظِهِ الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ: يُرِيدُ الزَّمْنَى الَّذِينَ كَانُوا يَحْرُسُونَ لِلْغُزَاةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بُيُوتُ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ قَالَ الْفَضْلُ الْمَفَاتِحُ وَاحِدُهَا مَفْتَحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَوَاحِدُ الْمَفَاتِيحِ مِفْتَحٌ بِالْكَسْرِ الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: أَوْ صَدِيقِكُمْ وَالْمَعْنَى أَوْ بُيُوتِ أَصْدِقَائِكُمْ، وَالصَّدِيقُ يكون واحدا وجمعا، وكذلك الخليط والقطين والعدو وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ وَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ أَصْدِقَائِهِ وَقَدْ (أَخْرَجُوا) «١» سِلَالًا مِنْ تَحْتِ سَرِيرِهِ فِيهَا الْخَبِيصُ وَأَطَايِبُ الْأَطْعِمَةِ وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَيْهَا يَأْكُلُونَ، فَتَهَلَّلَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ سُرُورًا وَضَحِكَ وَقَالَ هَكَذَا وَجَدْنَاهُمْ يُرِيدُ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الصَّدِيقُ أَكْثَرُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ بَلْ بِالْأَصْدِقَاءِ، فقالوا مالنا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، وَحُكِيَ أَنَّ أَخًا لِلرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ فِي اللَّه دَخَلَ منزله في حال غيبة فَانْبَسَطَ إِلَى جَارِيَتِهِ حَتَّى قَدَّمَتْ إِلَيْهِ مَا أَكَلَ، فَلَمَّا عَادَ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَلِسُرُورِهِ بِذَلِكَ قال إن صدقت فأنت حرة.
(١) في الكشاف (استلوا) ٣/ ٧٧ ط. دار الفكر.
422
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِإِبَاحَةِ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَدُخُولِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مَالُهُ مُحْرَزًا مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَدِيقِهِ، قُلْنَا مَنْ أَرَادَ سَرِقَةَ مَالِهِ لَا يَكُونُ صَدِيقًا لَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي بَنِي لَيْثِ بْنِ عَمْرٍو وَهُمْ حَيٌّ مِنْ كِنَانَةَ، كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ يَمْكُثُ يَوْمَهُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُؤَاكِلُهُ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا، وَرُبَّمَا كَانَتْ مَعَهُ الْإِبِلُ الْحُفَّلُ فَلَا يَشْرَبُ مِنْ أَلْبَانِهَا حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُشَارِبُهُ، فَأَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَكَلَ وَحْدَهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ رَحِمَهُمَا اللَّه: كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا نَزَلَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَيْفٌ لَمْ يَأْكُلْ إِلَّا وَضَيْفُهُ مَعَهُ، فَرَخَّصَ اللَّه لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا كَيْفَ شَاءُوا مُجْتَمِعِينَ وَمُتَفَرِّقِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا لِيَأْكُلُوا طَعَامًا عَزَلُوا لِلْأَعْمَى طَعَامًا عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لِلزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ، فَبَيَّنَ اللَّه لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ فُرَادَى خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ الْجَمْعِيَّةِ مَا يُنَفِّرُ أَوْ يُؤْذِي، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وأَشْتاتاً جَمْعُ شَتٍّ وَشَتَّى جَمْعُ شَتِيتٍ وَشَتَّانَ تَثْنِيَةُ شَتٍّ قَالَهُ الْمُفَضَّلُ وَقِيلَ الشَّتُّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّفَرُّقِ ثُمَّ يُوصَفُ بِهِ وَيُجْمَعُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَنْفُسَ الْمُسْلِمِينَ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عَلَى مِثَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٩] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فَعَلَى نَفْسِهِ لِيَقُلِ السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ قِبَلِ رَبِّنَا، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّه وَعَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا. قَالَ قَتَادَةُ:
وَحُدِّثْنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَهْلُ الذِّمَّةِ/ فَلْيَقُلِ السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَقَوْلُهُ تَحِيَّةً نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَحَيُّوا تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّه، أَيْ مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّه بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ مَعْنَاهُ اسْمُ اللَّه عَلَيْكُمْ وَقَوْلُهُ: مُبارَكَةً طَيِّبَةً قَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى الْبَرَكَةِ فِيهِ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّه سُبْحَانَهُ أَنَّ السَّلَامَ مُبَارَكٌ ثَابِتٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ اللَّه فِيهِ أَكْثَرَ خَيْرَهُ وَأَجْزَلَ أَجْرَهُ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ يُفَصِّلُ اللَّه شَرَائِعَهُ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لِتَفْهَمُوا عَنِ اللَّه أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ،
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي فِي شَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ وَلَا قَالَ لِي فِي شَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ، وَكُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى يَدَيْهِ فَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ ثَلَاثَ خِصَالٍ تَنْتَفِعُ بِهِنَّ؟ قُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه بَلَى، فَقَالَ مَنْ لَقِيتَ مِنْ أُمَّتِي فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ يَطُلْ عُمْرُكَ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وَصَلِّ صَلَاةَ الضحى فإنها صلاة [الأبرار] «١» الأوابين».
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
(١) زيادة من الكشاف ٣/ ٧٨ ط. دار الفكر.
423
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قُرِئَ عَلَى أَمْرٍ جَمِيعٍ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ الْجَامِعَ هُوَ الْأَمْرُ الْمُوجِبُ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ فَوُصِفَ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ نَحْوُ مُقَاتَلَةِ عَدُوٍّ أَوْ تَشَاوُرٍ فِي خَطْبٍ مُهِمٍّ أَوِ الْأَمْرِ الَّذِي يَعُمُّ ضَرَرُهُ وَنَفْعُهُ وَفِي قَوْلِهِ: إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ إِشَارَةً إِلَى أنه خطب جليل لا بد لرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْبَابِ التَّجَارِبِ وَالْآرَاءِ لِيَسْتَعِينَ بِتَجَارِبِهِمْ فَمُفَارَقَةُ أَحَدِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى قَلْبِهِ وَثَانِيهَا: عَنِ الضَّحَّاكِ فِي أَمْرٍ جَامِعٍ الْجُمُعَةُ وَالْأَعْيَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ تَكُونُ فِيهِ الْخُطْبَةُ وَثَالِثُهَا: عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهِ
قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَرِّضُ فِي خُطْبَتِهِ بِالْمُنَافِقِينَ وَيَعِيبُهُمْ فَيَنْظُرُ الْمُنَافِقُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا لَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ انْسَلُّوا وَخَرَجُوا وَلَمْ يُصَلُّوا، وَإِنْ أَبْصَرَهُمْ أَحَدٌ ثَبَتُوا وَصَلُّوا خَوْفًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَخْرُجُ الْمُؤْمِنُ لِحَاجَتِهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَهُمُ الرَّسُولَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَكُونُوا كَامِلِي الْإِيمَانِ وَإِنْ تَرَكُوا الِاسْتِئْذَانَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرْضٍ للَّه تَعَالَى وَاجْتِنَابِ مُحَرَّمٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْجَوَابُ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ وَأَيْضًا فَالْمُنَافِقُونَ إِنَّمَا تَرَكُوا الِاسْتِئْذَانَ اسْتِخْفَافًا وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ الْمَعْنَى تَعْظِيمًا لَكَ وَرِعَايَةً لِلْأَدَبِ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ يَعْمَلُونَ بِمُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَأْذَنَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ لَهُ انطلق فو اللَّه مَا أَنْتَ بِمُنَافِقٍ يُرِيدُ أَنْ يُسْمِعَ الْمُنَافِقِينَ ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ قَالُوا مَا بَالُ مُحَمَّدٍ إِذَا اسْتَأْذَنَهُ أَصْحَابُهُ أَذِنَ لَهُمْ، وإذا استأذناه لم يأذن لنا فو اللَّه مَا نَرَاهُ يَعْدِلُ،
وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ، ثم قال يَا أَبَا حَفْصٍ لَا تَنْسَنَا مِنْ صَالِحِ دُعَائِكَ،
وَفِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْهُمْ وَإِنْ أَذِنَ، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يَدُلُّ عَلَى الذَّنْبِ وَرُبَّمَا ذُكِرَ عِنْدَ بَعْضِ الرُّخَصِ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ مُقَابَلَةً عَلَى تَمَسُّكِهِمْ بِآدَابِ اللَّه تَعَالَى فِي الِاسْتِئْذَانِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ قَتَادَةُ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٣].
المسألة الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوَّضَ إِلَى رَسُولِهِ بَعْضَ أَمْرِ الدِّينِ لِيَجْتَهِدَ فِيهِ بِرَأْيِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ففيه وجوه: أحدها: وهو اختيار
424
الْمُبَرِّدِ وَالْقَفَّالِ، وَلَا تَجْعَلُوا أَمْرَهُ إِيَّاكُمْ وَدُعَاءَهُ لَكُمْ كَمَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ إِذْ كَانَ/ أَمْرُهُ فَرْضًا لَازِمًا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَقِيبَ هَذَا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَثَانِيهَا: لَا تُنَادُوهُ كَمَا يُنَادِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا يَا مُحَمَّدُ، وَلَكِنْ قُولُوا يَا رَسُولَ اللَّه يَا نَبِيَّ اللَّه، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَثَالِثُهَا: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فِي دُعَائِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: ٣] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَابِعُهَا:
احْذَرُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ إِذَا أَسْخَطْتُمُوهُ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُوجِبٌ لَيْسَ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَالوجه الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى نَظْمِ الْآيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَالْمَعْنَى يَتَسَلَّلُونَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَنَظِيرُ تَسَلَّلَ تَدَرَّجَ وَتَدَخَّلَ، وَاللِّوَاذُ: الْمُلَاوَذَةُ وَهِيَ أَنْ يَلُوذَ هَذَا بِذَاكَ وَذَاكَ بِهَذَا، يَعْنِي يَتَسَلَّلُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ (عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ) «١» وَاسْتِتَارِ بعضهم ببعض، و (لواذا) حَالٌ أَيْ مُلَاوِذِينَ وَقِيلَ كَانَ بَعْضُهُمْ يَلُوذُ بِالرَّجُلِ إِذَا اسْتَأْذَنَ فَيُؤْذَنُ لَهُ فَيَنْطَلِقُ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ مَعَهُ، وَقُرِئَ لِواذاً بِالْفَتْحِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ تُثْقِلُ عَلَيْهِمْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَلُوذُونَ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَثَانِيهَا:
قَالَ مُجَاهِدٌ يَتَسَلَّلُونَ مِنَ الصَّفِّ فِي الْقِتَالِ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هَذَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَرَابِعُهَا: يَتَسَلَّلُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ كِتَابِهِ وَعَنْ ذِكْرِهِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ بِالْمُجَازَاةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ الْأَخْفَشُ (عَنْ) صِلَةٌ وَالْمَعْنَى يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ يُعْرِضُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَيَمِيلُونَ عَنْ سُنَّتِهِ فَدَخَلَتْ (عَنْ) لِتَضْمِينِ الْمُخَالَفَةِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّسُولِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّه تَعَالَى لَكِنَّ الْقَصْدَ هُوَ الرَّسُولُ فَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْكِنَايَةُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهَا للَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ يَلِيهِ، وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ رُجُوعُهَا إِلَى مَا يَلِيهَا دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنْ نَقُولَ: تَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ وَمُخَالِفُ الْأَمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ فَتَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَلَا مَعْنًى لِلْوُجُوبِ إِلَّا ذَلِكَ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ، لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَاهُ، وَالْمُخَالَفَةُ ضِدُّ الْمُوَافَقَةِ فَكَانَتْ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِخْلَالِ بِمُقْتَضَاهُ فَثَبَتَ أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ مُخَالِفَ الْأَمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَأَمَرَ مُخَالِفَ هَذَا الْأَمْرِ بِالْحَذَرِ عَنِ الْعِقَابِ، وَالْأَمْرُ بِالْحَذَرِ عَنِ الْعِقَابِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى لِنُزُولِ الْعِقَابِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُخَالِفَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى أَوْ أَمْرِ رَسُولِهِ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ مَا يَقْتَضِي نُزُولَ الْعَذَابِ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ قَوْلُهُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَاهُ وَمُخَالَفَتُهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِخْلَالِ بِمُقْتَضَاهُ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ/ إِنَّا نُفَسِّرُ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ بِتَفْسِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ عَلَى الوجه الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَوِ اقْتَضَاهُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، وَأَنْتَ تَأْتِي بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَانَ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ الثَّانِي:
(١) في الكشاف (في الخفية على سبيل الملاوذة) ٣/ ٧٩ ط. دار الفكر.
425
أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ حَقًّا وَاجِبَ الْقَبُولِ فَمُخَالَفَتُهُ تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ إِنْكَارِ كَوْنِهِ حَقًّا وَاجِبَ الْقَبُولِ، سَلَّمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُقْتَضَاهُ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ أُخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ لَكَانَ تَرْكُ الْمَنْدُوبِ لَا مَحَالَةَ مُخَالَفَةٌ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَى مَا بَيَّنْتُمُوهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، سَلَّمْنَا أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ مُخَالِفَ الْأَمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ؟ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ مَنْ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ بِالْحَذَرِ بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْحَذَرِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِفَ عَنِ الْأَمْرِ يَلْزَمُهُ الْحَذَرُ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ مُخَالِفَ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَذَرُ؟ فَإِنْ قُلْتَ لَفْظَةُ (عَنْ) صِلَةٌ زَائِدَةٌ فَنَقُولُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ لَا سِيَّمَا فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يَكُونَ زَائِدًا، سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مُخَالِفَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى مَأْمُورٌ بِالْحَذَرِ عَنِ الْعَذَابِ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَذَرُ عَنِ الْعَذَابِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ؟ وَهَذَا أَوَّلُ المسألة، فَإِنْ قُلْتَ هَبْ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَذَرِ لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَدُلَّ عَلَى حُسْنِ الْحَذَرِ، وَحُسْنُ الْحَذَرِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِنُزُولِ الْعَذَابِ قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُسْنَ الْحَذَرِ مَشْرُوطٌ بِقِيَامِ الْمُقْتَضِي لِنُزُولِ الْعَذَابِ بَلِ الْحَذَرُ يَحْسُنُ عِنْدَ احْتِمَالِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَلِهَذَا يَحْسُنُ الِاحْتِيَاطُ وَعِنْدَنَا مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ قَائِمٌ لِأَنَّ هَذِهِ المسألة احْتِمَالِيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ، سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُودِ مَا يَقْتَضِي نُزُولَ الْعِقَابِ، لَكِنْ لَا فِي كُلِّ أَمْرٍ بَلْ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَنْ أَمْرِهِ لا يفيد إلا أمرا واحدا، وعند ما أَنَّ أَمْرًا وَاحِدًا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ كَذَلِكَ؟
سَلَّمْنَا أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِهِ يُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَعَوْدُهُ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: قَوْلُهُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَاهُ؟ قُلْنَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ السَّيِّدِ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ مُوَافِقٌ لِلسَّيِّدِ وَيَجْرِي عَلَى وَفْقِ أَمْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَا وَافَقَهُ بَلْ خَالَفَهُ، وَحُسْنُ هَذَا الْإِطْلَاقِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَاهُ، قَوْلُهُ الْمُوَافَقَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ عَلَى الوجه الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ، قُلْنَا لَمَّا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ، فَنَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ هُوَ الْفِعْلُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: افْعَلْ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْفِعْلُ لَمْ يُوجَدْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، فَلَا تُوجَدُ الْمُوَافَقَةُ فَوَجَبَ حُصُولُ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَاسِطَةٌ قَوْلُهُ: الْمُوَافَقَةُ عِبَارَةٌ عَنِ اعْتِقَادِ كَوْنِ ذَلِكَ/ الْأَمْرِ حَقًّا وَاجِبَ الْقَبُولِ، قُلْنَا هَذَا لَا يَكُونُ مُوَافَقَةً لِلْأَمْرِ بَلْ يَكُونُ مُوَافَقَةً لِلدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ حَقٌّ، فَإِنَّ مُوَافَقَةَ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يَقْتَضِي تَقْرِيرَ مُقْتَضَاهُ، فَإِذَا دَلَّ عَلَى حَقِّيَّةِ الشَّيْءِ كَانَ الِاعْتِرَافُ بِحَقِّيَّتِهِ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ، أَمَّا الْأَمْرُ فَلَمَّا اقْتَضَى دُخُولَ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ كَانَتْ مُوَافَقَتُهُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُقَرِّرُ ذَلِكَ الدُّخُولَ وَإِدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ فَكَانَتْ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ مُقْتَضَاهُ. قَوْلُهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ مُخَالِفًا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ، قُلْنَا هَذَا الْإِلْزَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورًا بِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، قَوْلُهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَلْيَحْذَرِ أَمْرًا بِالْحَذَرِ عَنِ الْمُخَالِفِ لَا أَمْرًا لِلْمُخَالِفِ بِالْحَذَرِ؟ قُلْنَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَارَ التَّقْدِيرُ فَلْيَحْذَرِ الْمُتَسَلِّلُونَ لِوَاذًا عَنِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَحِينَئِذٍ يَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ضَائِعًا لِأَنَّ الْحَذَرَ لَيْسَ فِعْلًا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. قَوْلُهُ كَلِمَةُ (عَنْ) لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ،
426
قُلْنَا ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهَا فِي المسألة الْأُولَى. قَوْلُهُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ قَوْلَهُ: فَلْيَحْذَرِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَذَرِ عَنِ الْعِقَابِ؟ قُلْنَا لَا نَدَّعِي وُجُوبَ الْحَذَرِ، وَلَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنْ جَوَازِ الْحَذَرِ، وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعِقَابِ. قَوْلُهُ لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُخَالِفٍ لِلْأَمْرِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ نُزُولَ الْعِقَابِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِهِ، فَيَلْزَمُ عُمُومُهُ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ. قَوْلُهُ هَبْ أَنَّ أَمْرَ اللَّه أَوْ أَمْرَ رَسُولِهِ لِلْوُجُوبِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ واللَّه أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَمْرِ الْقَوْلِيِّ وَبَيْنَ الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ، كَمَا يُقَالُ أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنْ أَمْرِهِ يَتَنَاوَلُ قَوْلَ الرَّسُولِ وَفِعْلَهُ وَطَرِيقَتَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْنَا، وَهَذِهِ المسألة مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ عَنْ أَمْرِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى اللَّه تَعَالَى فَالْبَحْثُ سَاقِطٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَالْمُرَادُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ تُوجِبُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُرَادُ بالفتنة العقوبة في الدنيا، والعذاب الْأَلِيمِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا رَدَّدَ اللَّه تَعَالَى حَالَ ذَلِكَ الْمُخَالِفِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ دُونِ عِقَابِ الدُّنْيَا وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَوْرَدَهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّرْدِيدِ، ثم قال الْحَسَنُ: الْفِتْنَةُ هِيَ ظُهُورُ نِفَاقِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْقَتْلُ. وَقِيلَ: الزَّلَازِلُ وَالْأَهْوَالُ، وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَذَاكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا/ وَعَلَى مَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَاقْتِدَارِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِيمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ بِثَوَابٍ أَوْ بِعِقَابٍ، وَعِلْمِهِ بِمَا يُخْفِيهِ وَيُعْلِنُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَالزَّجْرِ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أَدْخَلَ (قَدْ) لِتَوْكِيدِ عِلْمِهِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الدِّينِ وَالنِّفَاقِ. وَيَرْجِعُ تَوْكِيدُ الْعِلْمِ إِلَى تَوْكِيدِ الْوَعِيدِ: وَذَلِكَ لِأَنَّ قَدْ إِذَا أُدْخِلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ كَانَتْ بِمَعْنَى رُبَّمَا، فَوَافَقَتْ رُبَّمَا فِي خُرُوجِهَا إِلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ. كَمَا في قوله الشَّاعِرِ:
فَإِنْ يُمْسِ مَهْجُورَ الْفِنَاءِ فَرُبَّمَا أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الْوُفُودِ وُفُودٌ
وَالْخِطَابُ وَالْغَيْبَةُ فِي قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا لِلْمُنَافِقِينَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ عَامًّا وَيَرْجِعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى حَيْثُ لَا حُكْمَ إِلَّا لَهُ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ واللَّه أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
427
Icon