تفسير سورة النّمل

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة النمل من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
سورة النمل١
١ سورة النمل هي سورة رقم(٢٧) في ترتيب المصحف الشريف، وعدد آياتها ٩٣ آية، وهي سورة مكية، قاله ابن عباس فيما أورده السيوطي في(الدر المنثور ٦/٣٤٠) وعزاه لابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل. وقد ذكر القرطبي في تفسيره(٧/٥٠٣٥) الإجماع على أنها مكية كلها، وقد نزلت بعد سورة الشعراء كما هي في ترتيب المصحف، وقبل سورة القصص كذلك. الإتقان في علوم القرآن (١/٢٧)..

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ١ ﴾ :
تكلمنا كثيرا على هذه الحروف المقطعة في أوائل السور، وهنا( طس ) وهما حرفان من حروف المعجم، وهي تنطق هكذا( طاء ) و( سين ) لأنها أسماء حروف، وفرق بين اسم الحرف ومسماه، فكل من الأمي والمتعلم يتكلم بحروف يقول مثلا : كتب محمد الدرس. فإن طلبت من الأمي أن يتهجى هذه الحروف لا يستطيع لأنه لا يعرف اسم الحرف، وإن كان ينطق بمسماه، أما المتعلم فيقول : كاف تاء باء.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يعرف أسماء الحروف، فهي إذن من الله ؛ لذلك كانت مسألة توقيفية، فالحروف ( الم ) نطقنا بها في أول البقرة بأسماء الحروف ( ألف ) ( لام )( ميم )، أما في أول الانشراح فقلنا﴿ ألم نشرح لك صدرك١ ﴾( الشرح ) بمسميات الحروف نفسها، فنقول : ألم.
و﴿ تلك... ١ ﴾( النمل ) اسم إشارة للآيات الآتية خلال هذه السورة، وقلنا : إن الآيات لها معان متعددة، فقد تعني الآيات الكونية : كالشمس والقمر، ﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر... ٣٧ ﴾( فصلت ).
﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها... ٢١ ﴾( الروم ) وهذه الآيات الكونية هي التي تلفتنا إلى عظمة الخالق- عز وجل – وقدرته.
والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل، والتي تثبت صدق بلاغهم عن الله، والآيات بمعنى آيات القرآن الحاملة للأحكام، وهي المراد هنا﴿ تلك آيات القرآن وكتاب مبين ١ ﴾( النمل ).
وسبق أن قال تعالى :﴿ آلر تك آيات الكتاب وقرآن مبين١ ﴾( الحجر ) فمرة يقول﴿ وقرآن مبين ١ ﴾( الحجر ) ومرة﴿ وكتاب مبين ١ ﴾( النمل ) ويأتي بالكتاب ويعطف عليه القرآن، أو يأتي بالقرآن ويعطف عليه الكتاب، مع أنهما شيء واحد، فكيف إذن يعطف الشيء على نفسه ؟.
قالوا : إذا عطف الشيء على نفسه، فاعلم أنه لزيادة وصف الشيء، تقول : جاءني زيد الشاعر والخطيب والتاجر، فلكل صفة منها إضافة في ناحية من نواحي الموصوف، فهو القرآن لأنه يقرأ في الصدور، وهو نفسه الكتاب لأنه مكتوب في السطور، وهما معا نسميهم مرة القرآن ومرة الكتاب، أما الوصف فيجعل المغايرة موجودة.
ومعنى﴿ مبين١ ﴾( النمل ) بين واضح ومحيط بكل شيء من أقضية الحياة وحركتها من أوامر ونواه، كما قال سبحانه :﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء.... ٣٨ ﴾( الأنعام ).
وسبق أن حكينا ما حدث مع الإمام محمد عبده١ -رحمه الله- حينما كان في فرنسا، وسأله أحد المستشرقين : تقولون إن القرآن أحاط بكل شيء، فكم رغيفا في إردب القمح ؟ فدعا الإمام الخباز وسأله فقال : كذا وكذا، فقال المستشرق : أريدها من القرآن، قال الإمام : القرآن قال لنا :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ٧ ﴾( الأنبياء )
فهو كما قال تعالى :﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء.... ٣٨ ﴾( الأنعام ).
١ هو: الشيخ محمد عبده بن حسن خير الله من آل التركماني، مفتى الديار المصرية، ومن كبار رجال الإصلاح والتجديد في الإسلام، ولد في قرية شنرا من قرى الغربية بمصر (١٨٤٩م) نشأ في محلة نصر بالبحيرة، تولى منصب القضاء وتوفى بالإسكندرية (١٩٠٥)عن٥٦عاما، ودفن بالقاهرة. له مؤلفات كثيرة.(الأعلام للزركلي٦/٢٥٢)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ هدى وبشرى للمؤمنين ٢ ﴾ :
الهدى : يأتي بمعنيين : بمعنى الدلالة على طريق الخير، وبمعنى المعونة، فمن ناحية الدلالة هو دلالة للمؤمن وللكافر على حد سواء ؛ لأنه دل الجميع وأرشدهم، ثم تأتي هداية المعونة على حسب اتباعك لهداية الدلالة.
فمن أطاع الله وآمن به وأخذ بدلالته، فكأن الحق سبحانه يقول له : أنت استأمنتني على حركة حياتك وأطعتني في أمري ونهيي، فسوف أخفف عنك وأهون عليك أمر العبادة وأعينك عليها، وهذه هي هداية المعونة التي قال عنها :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم١٧ ﴾( محمد )
وكذلك الكافر الذي لم يأخذ بهداية الدلالة والإرشاد، واختار لنفسه طريقا آخر يعينه الله عليه، وييسر له ما سعى إليه من الكفر ؛ لذلك يختم الله على قلوب الكافرين حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر.
لكن الهداية هنا : أهي هداية دلالة، أم هداية معونة ؟.
نقول : هي هداية معونة، بدليل قوله تعالى بعدها﴿ وبشرى للمؤمنين ٢ ﴾( النمل ) فما كانوا مؤمنين إلا لأنهم مهديون، والبشرى لا تكون إلا للمؤمنين، إذن : هي معونة للمؤمنين بأن يزيدهم هداية إلى الطريق السوي، وإلى جنات النعيم﴿ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ٨ ﴾( التحريم ).
ولو أن الهداية هنا بمعنى الدلالة التي تأتي للمؤمن والكافر لكانت بشرى وإنذارا، لكن الآية﴿ وبشرى للمؤمنين٢ ﴾( النمل ) فتعين أن يكون المعنى هداية المعونة وهداية البشرى.
المؤمنون هم أصحاب عقيدة الإيمان، وهو أن تؤمن بقضية الحق الواحد الإله المختار الفاعل الذي له صفات الكمال، تؤمن بها حتى تصير عقيدة في نفسك ثابتة لا تتزعزع، والإيمان اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، فلا يكفي النطق باللسان، إنما لا بد من أداء تكاليف الإيمان ومطلوباته، وقمتها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، والحج.
فالصلاة دعوة من الله لخلقه، دعوة من الصانع للمصنوع، فربك يستدعيك إلى حضرته، وكيف بالصنعة إذا عرضت على صانعها كل يوم خمس مرات، ومع ذلك نرى من يقدم العمل على الصلاة، وإذا سمع النداء قال عندي أعمال ومشاغل، إياك أن تظن أن الصلاة تعطيل للمصالح، أو إضاعة للوقت ؛ لأنك في حركة حياتك مع نعم الله وفي الصلاة مع الله.
ونقيس هذه المسألة –ولله المثل الأعلى- لو أن أباك ناداك فلم تجبه، ماذا يفعل بك ؟ فلا يكن ربك أهون عليك من أبيك، ربك يناديك : الله أكبر يعني : أكبر من العمل، وأكبر من كل شيء يشغلك عن تلبية ندائه.
وفي الصلاة نأخذ شحنة إيمانية تقوينا على حركة حياتنا، كما لو ذهبنا ببطارية السيارة مثلا لجهاز الشحن أتقول : إنك عطلت البطارية ؟.
ولو حسبنا الوقت الذي تستغرقه الصلوات الخمس لوجدناه لا يتعدى ساعة من الأربع والعشرين ساعة، فلا تضن على نفسك بها لتلتقي بربك، وتقف بين يديه، وتعرض نفسك عليه، فيصلح فيك ما أفسدته حركة الحياة ويعطيك المدد والعون والشحنة الإيمانية التي تدفعك إلى حركة منسجمة مع الحياة والكون من حولك.
وإن كان مهندس الآلة يصلحها بشيء مادي، فربك- عز وجل- غيب، فيصلحك بالغيب، ومن حيث لا تدري أنت، لذلك كانت الصلاة في قمة مطلوبات الإيمان.
فإن كانت الصلاة لإصلاح النفس، فالزكاة لإصلاح المال ؛ لذلك تجد دائما أن الصلاة مقرونة بالزكاة في معظم الآيات، وإن كان المال نتيجة العمل، والعمل فرع الوقت، فإن الصلاة تأخذ الوقت، والزكاة تأخذ نتيجة الوقت، الزكاة تأخذ ٢، ٥% أما الصلاة فتأخذ الوقت نفسه يعني بنسبة ١٠٠%.
ومع ذلك لا نقول : إن الصلاة أضاعت الوقت، لأن الشحنة التي تأخذها في الصلاة تجعلك تنجز العمل الذي يستغرق عدة ساعات في نصف ساعة، فتعطيك بركة في الوقت.
وسبق أن قلنا : إن نداء الله أكبر يعني : أن لقاء الله أكبر من أي شيء يشغلك مهما رأيته كبيرا ؛ لأنه سبحانه واهب البركة، وواهب الطاقة، وإن كان العمل والسعي في مناكب الأرض مطلوبا، لكن الصلاة في وقتها أولى.
وحين نتأمل أطول الأوقات بين كل صلاتين نجد أنها من الصبح حتى الظهر، وهو الوقت المناسب للعمل، ومن العشاء حتى الصبح، وهو الوقت المناسب للنوم، وهكذا تنظم لنا الصلاة حياتنا، فمن صلاة الصبح إلى صلاة الظهر سبع ساعات هي ساعات العمل.
لو أن الأمة الإسلامية تمسكت بشرعها ومنهج ربها، وبعد هذه الساعات السبع التي تقضيها في عملك، أنت حر بعد صلاة الظهر، أما التخصيص الذي طرأ على حركة الحياة فقد اقتضى أن يأتي صلاة الظهر بل والعصر والناس ما يزالون في أعمالهم.
أما الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها بحجة امتداد الوقت بين الصلاتين، نعم الوقت ممتد، لكن لا يجوز ك تأخير الصلاة، ولبيان هذه المسألة نقول : هب أن غنيا مستطيع للحج، ولم يحج متى يأثم ؟
يأثم إذا ما غره طول الأمل، ثم عالجه الموت قبل أن يحج، فإن أمهله العمر حتى يحج، فقد سقط عنه هذا الفرض، لكن من يضمن له بالبقاء إلى أن يؤدي هذه الفريضة.
لذلك ورد في الحديث :" حجوا قبل ألا تحجوا " ١.
كذلك الحال في وقت الصلاة، فهو ممتد، لكن من يضمن لك امتداده ؛ لذلك تارك الصلاة يأثم في آخر لحظة من حياته، فإن ظل إلى أن يصلى فلا شيء عليه.
إذن : لا تتعلل بطول الوقت ؛ لأن طول الوقت جعله الله لحكمة، لا لنأخذه ذريعة لتأخير الصلاة عن وقتها، طول الوقت بين الصلوات جعل للنائم كي يستيقظ، أو للناسي كي يتذكر.
ثم يقول سبحانه﴿ وهم بالآخرة هم يوقنون٣ ﴾( النمل ).
فالآية جمعت أمر المؤمن كله، بداية من العقيدة والإيمان بالله، ثم الصلاة، فالزكاة وهما المطلبان العمليان بين إيمانين : الإيمان الأول بالله، والآخر أن يؤمن بالآخرة وبالجزاء والمرجع والمصير.
وقوله﴿ يوقنون٣ ﴾( النمل ) الإيقان : الحكم بثبات الشيء بدون توهم شك ؛ لذلك قلنا : إن العلم أن تعرف قضية واقعة وتقول، إنها صدق وتدلل عليها.
وقلنا : إن اليقين درجات : علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فمثلا حين أقول لك : إنني رأيت في أحد البلاد أصبع الموز نصف متر، وأن تثق بي ولا تكذبني، فهذا علم اليقين، فإن رأيته، فهذا عين اليقين، فإن أخذته وذهبت تقطعه مثلا، وتوزعه على الحاضرين فهذا حق اليقين. وهذه الدرجة لا يمكن أن يتسرب إليها شك.
لذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الحارث بن مالك الأنصاري : " كيف أصبحت " ؟ قال : أصبحت بالله مؤمنا حقا، قال " فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ " قال : عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومدرها ٢، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " عرفت فالزم " ٣.
والإمام علي- رضي الله عنه- يعطينا صفة اليقين في قوله : لو كشف عني الحجاب ما ازددت يقينا ؛ لأني صدقت بما قال الله، وليست عيني أصدق عندي من الله.
ومن هذا اليقين ما ذكرنا في قوله تعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل١ ﴾( الفيل ) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في هذا العام، فلم ير هذه الحادثة، فالمعنى : ألم تر، وعدل عن( تعلم ) إلى ( ترى ) ليقول للنبي صلى الله عليه وسلم أن إخبار الله لك أقوى صدقا من رؤية عينيك.
١ أخرجه الحاكم في"مستدركه على الصحيحين"(١/٤٤٨) من حديث الحارث بن سويد رضي الله عنه..
٢ المدر: قطع الطين اليابس، وهو الطين المتماسك.(لسان العرب- مادة: مدر)..
٣ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد(١/٥٧) وعزاه الطبراني في المجمع الكبير وقال:"فيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه"..
هؤلاء في مقابل الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ؛ لأن الحق-تبارك وتعالى- يعرض الشيء ومقابله لنجري نحن مقارنة بين المتقابلات، وفي هؤلاء يقول تعالى :﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة.... ٤ ﴾( النمل )، ولم ينف عنهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لماذا ؟ لأنهم أصلا لا يؤمنون بالله، ولا بالبعث والحساب، ولو علموا أنهم سيرجعون إلى الله لآمنوا به، ولقدموا العمل الصالح.
ومعنى﴿ زينا لهم أعمالهم... ٤ ﴾( النمل ) أن الذين لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالآخرة، ولا يؤدون مطلوبات الإيمان لا عذر لهم. ، اأننا حينما عرضنا الإيمان و مطلوباته عرضناه عرضا جيدا مستميلا مشوقا وزيناه لكم.
فالصلاة لقاء بينك وبين ربك يعبر عن دوام الولاء، ويعطيك شحنة إيمانية، والزكاة تؤمنك حين ضعفك وعدم قدرتك، فنأخذ منك وأنت غني لنعطيك إن حل بك الفقر، ولما نهيناك عن الكذب نهينا الناس جميعا أن يكذبوا عليك، ولما حذرناك من الرشوة قلنا للآخرين : لا تأكلوا ماله دون وجه حق... إلخ.
وهكذا شرحنا التكاليف وبينا الحكمة منها، وحببناها إليكم.
أو : يكون المعنى : زينا لهم أعمالهم التي يعملونها، فلما علم الله عشقهم للضلال وللانحراف ختم على قلوبهم، يقول تعالى :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا... ٨ ﴾( فاطر )
لكن من الذي زين لهم :﴿ فزين لهم الشيطان أعمالهم.... ٦٣ ﴾( النحل ) فالتزيين يأتي مرة من الشيطان، ومرة مجهول الفاعل، ومرة زين الله لهم.
ومن تزيين الله قوله تعالى في شأن فرعون : وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك... ٨٨ }( يونس ) فلما أعطاهم الله النعمة فتنوا بها.
وإبليس خلقه الله، وجعل له ذرية تتسلط على الناس، وتغويهم، وما ذلك إلا للاختيار ليرى من سيقف على هذه الأبواب، إذن : الحق –تبارك وتعالى- لم يجعل حواجز عن المعصية، وجعل لكم دوافع على الطاعة، فالمسألة منك أنت، فإن رأيتك ملت إلى شيء وأحببته أعنتك عليه.
والذي يموت عليه عزيز، أو المرأة التي يموت ولدها، فتظل حزينة عليه تكدر حياتها وحياة من حولها- ويا ليت هذا يفيد أو يعيد الميت –ونقول لمن يستقبل قضاء الله بهذا السخط : إن ربك حين يعلم أنك ألفت الحزن وعشقته وهو رب، فلا بد أن يعطيك مطلوبك، ويفتح عليك كل يوم بابا من أبوابه.
إذن : ينبغي على من يتعرض لمثل هذا البلاء أن يستقبله بالرضا، وأن يغلق باب الحزن، ولا يتركه مواربا.
ومن التزيين قوله سبحانه :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ٢٠ ﴾( الشورى )
ومعنى﴿ يعمهون٤ ﴾( النمل ) يتحيرون ويضطربون، لا يعرفون أين يذهبون ؟.
أي : العذاب السيئ، وهذا في الآخرة، فبالإضافة إلى ما حدث لهم من تقتيل في بدر، وهزيمة كسرت شوكتهم فلم ينته الأمر عند هذا الحد، إنما هناك خسارة أخرى في الآخرة﴿ وهم في الآخرة هم الأخسرون٥ ﴾( النمل )والأخسر مبالغة في الخسران، فلم يقل : خاسر إنما أخسر ؛ لأنه خسر النعيم ؛ لأنه لم يقدم صالحا في الدنيا، وليته ظل بلا نعيم وترك في حاله، إنما يأتيه العذاب الذي يسوؤه ؛ لذلك قال تعالى﴿ هم الأخسرون٥ ﴾( النمل ) لأنهم لم يدخلوا الجنة، وهذه خسارة، ثم هم في النار، وهذه خسارة أخرى.
يعني : هذه المسائل والقضايا إنما تأتيك من الله الحكيم العليم الذي يضع الشيء في نصابه وفي محله، فإن أثاب المحسن أو عاقب المسيء، فكل في محله، وهو سبحانه العليم بما يضع من الجزاءات على الحسنة وعلى السيئة.
ويقص علينا الحق سبحانه قصة موسى عليه السلام :
﴿ إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون٧ ﴾
ما زلنا قريبي عهد بذكر طرف من قصة موسى-عليه السلام- في سورة الشعراء، وهنا يعود السياق إليه مرة أخرى، لماذا ؟ لأن دعوة موسى-عليه السلام- أخذت حيزا كبيرا من القرآن الكريم، ذلك لأنهم أتبعوا أنبياءهم وعاندوهم حتى كثر الكلام عنهم.
وعجيب أنهم يفخرون بكثرة أنبيائهم، وهم لا يعلمون أنها تحسب عليهم لا لهم، فالنبي لا يأتي إلا عند شقوة أصحابه، وبنو إسرائيل كانوا من الضلال والعناد بحيث لا يكفيهم رسول واحد، بل يلزمهم ( كونسلتو ) من الأنبياء، فهم يعتبرونها مفخرة، وهي منقصة ومذمة.
أما تكرار قصة بني إسرائيل وموسى- عليه السلام- كثيرا في القرآن، فلأن القرآن لا يروي ( حدوتة )و، لا يذكر أحداثا للتأريخ لها، إنما يأتي من القصة بما يناسب موطن العبرة والتثبيت لفؤاد رسول الله :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك... ١٢٠ ﴾ ( هود )، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض في رحلة الدعوة لكثير من المصاعب والمشاق، ويحتاج لتسلية١ وتثبيت، فيأتي له ربه بلقطة معينة، ولكن لا يورد القصة كاملة، وهذا ليس عجزا-وحاشا لله- عن إيراد القصة كاملة مرة واحدة.
وقد أورد سبحانه قصة يوسف- عليه السلام- كاملة من الألف إلى الياء في صورة قصة محبوكة على أتم ما يكون الفن القصصي، ومع ذلك لم يأت لسيدنا يوسف عليه السلام ذكر-في غير هذه القصة- إلا في موضعين :
أحدهما : في سورة الأنعام :﴿ ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف... ٨٤ ﴾( الأنعام )
والآخر في سورة غافر :﴿ ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا... ٣٤ ﴾( غافر ).
إذن : ورود القصة في لقطات مختلفة متفرقة ليس عجزا عن إيرادها مستوفاة كاملة في سياق واحد، ولو فعل ذلك لكان التثبيت مرة واحدة.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا... ٧ ﴾( النمل )، وفي موضع آخر يقول :﴿ قال لأهله امكثوا إني آنست نارا... ٢٩ ﴾( القصص ) وفي هذه الآية إضافة جديدة ليست في الأولى.
أما قوله تعالى :﴿ فلما قضى موسى الأجل٢ وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا... ٢٩ ﴾( القصص ) أي : آنس في ذاته، أما في الآيتين السابقتين فيخبر بأنه آنس نارا، إذن : كل آية في موقف، وليس في الأمر تكرار، كما يتوهم البعض.
فموسى- عليه السلام –يسير بأهله في هذا الطريق الوعر ويحل عليه الظلام، ولا يعاد يرى الطريق فيقول لزوجته :﴿ إني آنست نارا.... ٧ ﴾( النمل ) يعني : سأذهب لاقتبس منها، ليهتدوا بها، أو ليستدفئوا بها.
وطبيعي أن تعارضه زوجته : كيف تتركني في هذا المكان الموحش وحدى، فيقول لها﴿ امكثوا إني آنست نارا... ٢٩ ﴾( القصص ) يعني : ابقي هنا مستريحة، وأنا الذي سأذهب، فلربما تعرضت لمخاطر فكوني أنت بعيدا عنها، إذن : هي مواقف جديدة استدعاها الحال، ليست تكرارا.
كذلك نجد اختلافا طبيعيا في قوله :﴿ لعلى آتيكم منها بخبر... ٢٩ ﴾( القصص ) وقوله :﴿ سآتيكم منها بخبر... ٧ ﴾( النمل ).
فالأولى﴿ لعلى... ٢٩ ﴾( القصص ) فيها رجاء ؛ لأنه مقبل على شيء يشك فيه، وغير متأكد منه، وهو في هذه الحالة صادق مع خواطر نفسه أمام شيء غائب عنه، فلما تأكد قال﴿ سآتيكم... ٧ ﴾( النمل ) على وجه اليقين٣.
وفي هذه المسألة قال مرة :﴿ لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة... ٢٩ ﴾( القصص ) وهنا قال :﴿ سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ٤ ٧ ﴾( النمل ).
ذلك لأنه لا يدري حينما يصل إلى النار، أيجدها مشتعلة لها لسان يقتبس منه شعلة، أم يجدها قد هدأت ولم يبق منها إلا جذوة، وهي القطعة المتوهجة مثل الفحم مثلا، فكل تكرار هنا له موضع، وله معنى، ويضيف شيئا جديدا إلى سياق القصة، فهو تكامل في اللقطات تأتي متفرقة حسب المراد من العبرة والتثبيت.
ومعنى﴿ لأهله... ٧ ﴾( النمل ) قالوا : إنها تعني جماعة بدليل قوله لهم﴿ امكثوا... ٢٩ ﴾( القصص ) فكانت زوجته، ومعه أيضا بعض الرعيان أو الخدم. والإنسان منا يحتاج لأشياء كثيرة تقتضي التعدد : فهذا يطبخ الطعام، وهذا للنظافة، وهذا لكي الملابس... الخ.
لكن هناك شيء واحد لا يستطيع أحد أن يقضيه لك إلا زوجتك، هي النسل والمعاشرة الزوجية، كما يمكن للزوجة وحدها أن تقوم لك بكل هذه الأعمال، إذن : فهي تغني عن الأهل كلهم، ونستطيع أن نقول : إنه لم يكن معه إلا زوجته.
وهذه شائعة في لغتنا : يقول الرجل : الجماعة أو جماعتي أو أهلي ويقصد زوجته، وفي هذا تقدير من الزوج لمكانة زوجته.
ومعنى﴿ آنست... ٧ ﴾( النمل ) آنس : يعني شعر وأحس بشيء يؤنسه ويطمئنه، وضده التوجس : أي شعر وأحس بشيء يخفيه، ومنه قوله تعالى في شأن موسى أيضا :﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى ٦٧ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ٦٨ ﴾( طه ).
١ سلاني من همى تسلية وأسلاني، أي: كشفه عني. انسلي عني الهم وتسلى بمعنى. أي: انكشف. وقال أبو زيد: معنى سلوت إذا نسى ذكره وذهل عنه.(لسان العرب- مادة: سلى)..
٢ أي الأجل الذي ضربه له شعيب لقاء إنكاحه ابنته، عندما قال:﴿إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على تأجرني ثماني حجج فإن أتمتت عشرا فمن عندك... ٢٧﴾'(القصص). قال ابن كثير في تفسيره (٣/٣٨٧):" قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأنقاهما "..
٣ ذكر أبو يحيى زكريا الأنصاري في كتابه"فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن"ص(٣٠٥):"فإن قلت: كيف قال هنا:﴿سآتيكم... ٧﴾(النمل)، وفي﴿لعلي آتيكم... ٢٩﴾(القصص)، وأحدها قطع، والآخر ترج، والقضية واحدة؟ قلت: قد يكون الراجي إذا قوى رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا، مع تجويزه عدم الجزم"..
٤ أي: لعلكم تستدفئون من البرد، يقال: اصطلي يصطلي إذا استدفأ.(تفسير القرطبي ٧/٥٠٣٨) قال الزجاج: جاء في التفسير أنهم كانوا في شتاء ؛ فلذلك احتاج إلى الاصطلاء. وصلى يده بالنار: سخنها. (لسان العرب-مادة: صلى)..
أي : جاء النار ف﴿ نودي... ٨ ﴾( النمل ) النداء : طلب إقبال، كما تقول : يا فلان، فيأتيك فتقول له ما تريد، فالنداء مثلا في قوله تعالى :﴿ يا موسى١١ ﴾( طه ) نداء( إنني أنا الله... ١٤ }( طه ) خطاب وإخبار.
لكن ما معنى﴿ نودي أن بورك من في النار ومن حولها.... ٨ ﴾( النمل ) ولم يقل : يا موسى فليس هنا نداء، قالوا : مجرد الخطاب هنا يراد به النداء ؛ لأنه ما دام يخاطبه فكأنه يناديه، ومثال ذلك قوله سبحانه :﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا... ٤٤ ﴾( الأعراف )فذكر الخطاب مباشرة دون نداء ؛ لأن النداء هنا مقدر معلوم من سياق الكلام، ومنه أيضا :﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ٤٨ ﴾( الأعراف )
ومنه أيضا :﴿ فناداها من تحتها ألا تحزني... ٢٤ ﴾( مريم ) فجعل الخطاب نفسه هو النداء.
وقوله :﴿ أن بورك من في النار ومن حولها... ٨ ﴾( النمل ) كلمة بورك لا تناسب النار ؛ لأن النار تحرق، وما دام قال﴿ بورك من في النار... ٨ ﴾( النمل ) فلا بد أن من في النار خلق لا يحرق، ولا تؤثر فيه النار، فمن هم الذين لا تؤثر فيهم النار، هم الملائكة١.
وقد رأى موسى –عليه السلام- مشهدا عجيبا، رأى النار تشتعل في فرع من الشجرة، فالنار تزداد، والفرع يزداد خضرة، فلا النار تحرق الخضرة ولا رطوبة الخضرة ومائيتها تطفيء النار٢، فمن يقدر على هذه المسألة ؟ لذلك قال بعدها :﴿ وسبحان الله رب العالمين ٨ ﴾( النمل )
ففي مثل هذا الموقف إياك أن تقول : كيف، بل نزه الله عن تصرفاتك أنت، فهذا عجيب لا يتصور بالنسبة لك، أما عند الله فأمر يسير.
وقد رأينا مثل هذه المعجزة في قصة إبراهيم- عليه السلام- حين نجاه ربه من النار، ولم يكن المقصود من هذه الحادثة نجاة إبراهيم فقط، فلو أن الله أراد نجاته فحسب لما أمكنهم منه، أو لأطفأ النار التي أوقدوها بسحابة ممطرة، أسباب كثيرة كانت ممكنة لنجاة سيدنا إبراهيم.
لكن الله تعالى أرادهم أن يمسكوا به، وأن يلقوه في النار، وهي على حال اشتعالها وتوهجها، ثم يلقونه في النار بأنفسهم، وهم يرون هذا كله عيانا، ثم لا تؤذيه النار، كأنه يقول لهم : أنا أريد أن أنجيه من النار، رغم قوة أسبابكم في إحراقه، فأنا خالق النار ومعطيها خاصية الإحراق، وهي مؤتمرة بأمري أقول لها : كوني بردا وسلاما تكون، فالمسألة ليست ناموسا وقاعدة تحكم الكون، إنما هي قيوميتي على خلقي.
إذن : ما رآه موسى- عليه السلام- من النار التي تشتعل في خضرة الشجرة أمر عجيب عندكم، وليس عجيبا عند من له طلاقة القدرة التي تخرق النواميس.
وبناء الفعل ﴿ بورك.... ٨ ﴾( النمل ) للمجهول تعني : أن الله تعالى هو الذي يبارك، فهذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله﴿ من في النار ومن حولها... ٨ ﴾( النمل ) يجوز أن يكون الملائكة، أو : بوركت الشجرة ذاتها لأنها لا تحرق، أو النار لأنها لا تنطفئ فهي مباركة.
وفي موضع آخر يوسع دائرة البركة، فيقول سبحانه :﴿ في البقعة المباركة من٣ الشجرة... ٣٠ ﴾( القصص )
١ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى﴿فلما جاءها نودي أن بورك من في النار... ٨﴾(النمل) يعني تبارك وتعالى نفسه، كان نور رب العالمين في الشجرة﴿ومن حولها... ٨﴾(النمل). يعني الملائكة. أورده السيوطي غي (الدر المنثور٦/٣٤١)..
٢ قال ابن كثير في تفسيره (٣/٣٥٦): "فلما أتاها ورأى منظرا هائلا عظيما حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لاتزداد النار إلا توقدا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارا، وإنما كانت نورا يتوهج"..
٣ أي: من ناحية الشجرة. وقيل: كانت شجرة العليق. وقيل: سمرة، وقيل: عوسج، ومنها كانت عصا موسى، ذكره الزمخشري. والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد.(القرطبي في تفسيره ٧/٥١٦٨)..
ثم يخاطب الحق سبحانه موسى :
﴿ يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ٩ ﴾
جاء هنا النداء على حقيقته بأداة ومنادى﴿ إنه أنا الله... ٩ ﴾( النمل ) هذا هو الأصل، وما دمت أنا الله فلا تتعجب مما ترى، وساعة تسمع من يكلمك دون أن ترى متكلما من جنسك، فلا تتعجب ولا تندهش.
ونلحظ أن هنا تفاصيل وأحداث لم تذكرها الآية هنا، وذكرت في موضع آخر في قوله تعالى :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى ١٧ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى١٨ ﴾( طه )
والأدب يقتضي أن يأتي الجواب على قدر السؤال، لكن موسى- عليه السلام- أراد أن يطيل أمد الأنس بالله والبقاء في حضرته تعالى، ولما أحس موسى أنه طال في هذا المقام أجمل، فقال﴿ ولي فيها مآرب أخرى ١٨ ﴾( طه ) فللعصا مهام أخرى كثيرة في حياته.
وهنا يقول سبحانه :﴿ وألق عصاك... ١٠ ﴾( النمل ) يعني : إن كانت العصا بالنسبة لك بهذه البساطة، وهذه مهمتها عندك فلها عندي مهمة أخرى، فانظر إلى مهمتها عندي، وإلى ما لا تعرفه عنها.
﴿ وألق عصاك... ١٠ ﴾( النمل ) فلما ألقى موسى عصاه وجدها ﴿ تهتز كأنها جان... ١٠ ﴾( النمل ) يعني : حية تسعى وتتحرك، والعجيب أنها لم تتحول إلى شيء من جنسها، فالعصا عود من خشب، كان فرعا في شجرة، فجنسه النبات ولما قطعت وجفت صارت جمادا، فلو عادت إلى النباتية يعني : إلى الجنس القريب منها واخضرت لكانت عجيبة.
أما الحق- تبارك وتعالى – فقد نقلها إلى جنس آخر إلى الحيوانية، وهذه قفزة كبيرة تدعو إلى الدهشة بل والخوف، خاصة وهي﴿ تهتز كأنها جان... ١٠ ﴾( النمل ) أي : تتحرك حركة سريعة هنا وهناك.
وطبيعي في نفسية موسى حين يرى العصا التي في يده على هذه الصورة أن يخاف ويضطرب﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى ٦٧ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ٧٨ ﴾( طه )
ومعنى﴿ الأعلى٦٨ ﴾( طه ) إشارة إلى أنه تعالى يعده لمهمة كبرى، وأن لهذه العصا دورا مع الخصوم، وسوف ينتصر عليهم، ويكون هو الأعلى. وحين تتبع اللقطات المختلفة لهذه القصة تجدها مرة( جان ) ومرة( حية )ومرة( ثعبان )، وهي كلها حالات للشيء الواحد، فالجان فرخ الثعبان، وله من خفة الحركة ما ليس للثعبان، والحية هي الثعبان الضخم.
وقوله تعالى﴿ ولي مدبرا... ١٠ ﴾( النمل ) يعني : انصرف عنها وأعطاها ظهره﴿ ولم يعقب... ١٠ ﴾( النمل ) نقول : فلان يعقب يعني : يدور على عقبه ويرجع، والمعنى أنه انصرف عنها ولم يرجع إليها ؛ لذلك ناداه ربه سبحانه وتعالى :﴿ يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون١٠ ﴾( النمل )
ونلحظ هنا نداءين اثنين يذكر فيهما، المنادى موسى- عليه السلام- وكأنهما تعويض للنداء السابق الذي نودي فيه بالخبر﴿ أن بورك من في النار ومن حولها... ٨ ﴾( النمل )
وعلة عدم الخوف ﴿ لا تخف... ١٠ ﴾( النمل ) ليعلمه أنه سيضطر إلى معركة، فليكن ثابت الجأش لا يخاف لأنه لا يحارب شخصا بمفرده، إنما جمعا من السحرة جمعوا من كل أنحاء البلاد، وسبق أن قال له :﴿ إنك أنت الأعلى ٦٨ ﴾( طه ) حتى لا ترهبه هذه الكثرة.
وهنا قال﴿ إني لا يخاف لدي المرسلون١٠ ﴾( النمل ) والمعنى : لا تخف، لأني أنا الذي أرسلتك، وأنا الذي أتولى حمايتك وتأييدك، كما قال الحق سبحانه في موضع آخر :
﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ١٧١ إنهم لهم المنصرون١٧٢ وإن جندنا لهم الغالبون١٧٣ ﴾( الصافات ).
فأنت معذور في الخوف، إن كنت بعيدا عني، فكيف وأنت في جواري وأنا معك، وها أنذا أخاطبك ؟
ولكن إلقاء العصا من موسى هذه المرة مجرد تجربة ( بروفة ) ليألف هذه المسألة ويأنس إليها، وتحدث له دربة ورياضة، فإذا ما أجرى هذه العملية أمام فرعون والسحرة أجراها بثقة وثبات ويقين من إمكانية انقلاب العصا إلى حية.
وبعد ذلك يأتي بآية تثبت منطقة التكليف في البشر حتى الرسل، والرسل أيضا مكلفون، وكل مكلف يصح أن يطيع أو أن يعصى، لكن الرسل معصومون من المعصية، أما موسى عليه السلام فله حادثة مخصوصة حين وكز الرجل فسقط ميتا، فقال :﴿ ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون١٤ ﴾( الشعراء )
وفي موضع آخر يحدد هذا الذنب :﴿ قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ٣٣ ﴾( القصص )
ونضع هذه القصة أمامنا لنفهم :
﴿ إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم١١ ﴾
إذن : فالاستثناء هنا من قوله تعالى﴿ إني لا يخاف لدي المرسلون١٠ ﴾( النمل ) استثنى من ذلك﴿ إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء... ١١ ﴾( النمل ).
وكأنه- عز وجل- يعرض بهذه الحادثة الخاصة بموسى عليه السلام :﴿ إلا من ظلم... ١١ ﴾( النمل ) أي : حين قتل القبطي١، لكن موسى –عليه السلام- اعترف بذنبه واستغفر ربه، فقال :﴿ رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له.... ١٦ ﴾( القصص )
ولا كلام لأحد بعد مغفرة الله عز وجل للمذنب ٢ ؛ لأنه بعد أن ظلم ﴿ ثم بدل حسنا بعد سوء... ١١ ﴾ ( النمل ) يعني : عمل عملا حسنا بعد الذنب الذي ارتكبه ﴿ فإني غفور رحيم ١١ ﴾( النمل )
١ القبطي هو المصري من أهل البلد التابع لفرعون وليس المقصود به النصراني المسيحي، فموسى قبل عيسى بأجيال كثيرة، وبينهما أنبياء ورسل كثيرون..
٢ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٠٤٣):"إذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة، وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه، ثم غفر له "..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ١٢ ﴾
هذه آية أخرى ومعجزة جديدة، قال عنها في موضع آخر :﴿ اسلك يدك في جيبك... ٣٢ ﴾( القصص )
فما الفرق بين : أدخل يدك، واسلك يدك ؟ قالوا : لأنه ساعة يدخل يده في جيبه يعني : في فتحة القميص، إن كانت فتحة القميص مفتوحة أدخل يده بسهولة فيسمى ( إدخال ).
فإن كانت مغلقة( فيها أزرار مثلا ) احتاج أن يسلك يده يعني : يدخلها برفق ويوسع لها مكانا، نقول : سلك الشيء يعني : أدخله بلطف ورفق، ومنه السلك الرفيع حين تدخله في شيء.
وساعة نسمع كلمة الجيب نجد أن لها معنى عرفيا بين الناس، ومعنى لغويا : فمعناها في اللغة فتحة القميص العليا، والتي تكون للرقبة، وهي في المعنى العرفي فتحة بداخل الثوب يضع فيها الإنسان نقوده، يقولون( جيب ) والعوام لهم عذر في ذلك ؛ لأنهم اضطروا إلى حفظ نقودهم داخل الثياب، حتى لا تكون ظاهرة، وربما سرقها منهم النشالون والأشقياء.
ولا يزال الفلاحون في الريف يجعلون الجيب في ( السديري ) الداخلي ؛ لذلك سمعنا الحاوي مثلا يقول- ليحنن الناس عليه- بارك الله فيمن يضع يده في جيبه –يعني : بارك الله في الذي يعطيني جنيها.
وقوله تعالى﴿ تخرج بيضاء من غير سوء... ١٢ ﴾( النمل ) أي : وأخرجها تخرج ناصعة منورة، ومعلوم أن موسى- عليه السلام- كان آدم اللون يعني : أسمر، فحين يرون لونه تغير إلى البياض، فربما قالوا : إن ذلك مرض كالبرص مثلا.
لذلك أزال الله هذا الظن بقوله :﴿ من غير سوء... ١٢ ﴾( النمل ) من غير مرض﴿ في تسع آيات إلى فرعون وقومه... ١٢ ﴾( النمل ) ليعلم موسى- عليه السلام- أن هذه الآية واحدة من تسع آيات أخرى يثبته الله بها أمام عدوه فرعون وقومه.
وهذه التسع هي : العصا ولها مهمتان : أن تتحول إلى حية أمام السحرة، وأن يضرب بها البحر أمام جيشه، حينما يهاجمه فرعون وجنوده.
ثم اليد، واثنتان هما الجدب، ونقص الثمرات في قوله تعالى :﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات... ١٣٠ ﴾( الأعراف ).
ثم : الطوفان، والجراد، والقمل١، والضفادع، والدم. هذه تسع آيات. تثبت موسى أمام فرعون وقومه. فهل أرسل موسى –عليه السلام- إلى فرعون خاصة ؟ لا، إنما أرسل إلى بني إسرائيل، لكنه أراد أن يقنع فرعون بأنه مرسل من عند الله حتى لا يحول بينه وبينهم، وجاءت مسألة دعوة فرعون إلى الإيمان بالله عرضا في أحداث القصة، فليست هي أساس دعوة موسى عليه السلام.
ومعنى﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين١٢ ﴾( النمل ) إشارة إلى أن الإنسان وإن كان كافرا خارجا عن طاعة الله إلا أن أصله من أصلاب مؤمنة، والمراد الإيمان الأول في آدم عليه السلام، وفي ذريته من بعده، لكنهم فسقوا أي : خرجوا من غشاء التكليف الذي يغلف حركة حياتهم، كما نقول : فسقت الرطبة : يعني خرجت من غلافها، كذلك فسق الإنسان أي : خرج عن حيز التكليف الصائن له.
١ القمل: حشرات صغيرة تؤذي الزرع وتضايق الناس.(القاموس القويم ٢/١٣٤). قال ابن منظور- في اللسان- مادة: قمل" القمل: صغار الذر والدبي. وقيل: هو الدبي الذي لا أجنحة له. وقال ابن السكيت: القمل شيء يقع في الزرع ليس بجراد فيأكل السنبلة وهي غضة قبل أن تخرج فيطول الزرع ولا سنبل له. قال الأزهري: وهذا هو الصحيح"..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فلما جاءتهم آياتنا مبصرة١ قالوا هذا سحر مبين ١٣ ﴾
الآيات : المعجزات التي تثبت صدق الرسول، والآيات تكون مبصرة بصيغة اسم المفعول، لكن كيف تكون هي المبصرة بصيغة اسم فاعل، وهذه المسألة عرفناها أخيرا، فكانوا منذ القدم عند اليونان والحضارات القديمة يظنون أن رؤية العين للأشياء تحدث من شعاع يخر ج من العين إلى الشيء المرئي، إلى أن جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ليثبت خطأ هذه النظرية ويقول بعكسها.
فالرؤية تتم بخروج شعاع من الشيء المرئي إلى العين، بدليل أننا لا نرى الشيء إن كان في الظلام، وأنت في النور، فإن كان الشيء في النور وأنت في الظلام تراه.
إذن : فكأن الآيات نفسها هي المبصرة ؛ لأنها هي التي ترسل الأشعة التي تسبب الرؤية. أو : أن الآيات من الوضوح كأنها تلح على الناس أن يروا وأن يتأملوا، فكأنها أبصر منهم للحقائق.
١ مبصرة: أي: واضحة بينة ظاهرة.(تفسير ابن كثير ٣/٣٥٧). وقال الجوهري: مبصرة: أي: مضيئة. وقال أبو إسحاق: معنى مبصرة تبصرهم أي تبين لهم. وقال الأخفش: إنها تبصرهم أي نجعلهم بصراء. (لسان العرب- مادة: بصر)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ١٤ ﴾
﴿ وجحدوا.... ١٤ ﴾( النمل ) أي : باللسان﴿ بها... ١٤ ﴾( النمل ) بالآيات ﴿ واستيقنتها أنفسهم... ١٤ ﴾( النمل ) إيمانا بها، إذن : المسألة عناد ولدد في الخصومة ؛ لذلك قال تعالى بعدها ﴿ ظلما وعلوا... ١٤ ﴾( النمل ) أي : استكبارا عن الحق﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ١٤ ﴾( النمل ) وترك عاقبتهم مبهمة لتعظيم شأنها وتهويلها.
ثم يترك قصة موسى مع فرعون وما كان من أمرها لمناسبة أخرى تحتاج إلى تثبيت آخر، وينتقل إلى قصة أخرى في موكب الأنبياء، فيها هي الأخرى مواطن للعبرة وللتثبيت :
﴿ ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ١٥ ﴾
وتسأل : لقد أعطى الله داود وسليمان-عليهما السلام- نعما كثيرة غير العلم، ألان لداود الحديد، وأعطى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وسخر له الريح والجن، وعلمه منطق الطير... إلخ ومع ذلك لم يمتن عليهما إلا بالعلم وهو منهج الدين ؟.
قالوا : لأن العلم هو النعمة الحقيقية التي يجب أن يفرح بها المؤمن، لا الملك ولا المال، ولا الدنيا كلها، فلم يعتد بشيء من هذا كله ؛ لذلك حمد الله على أن آتاه الله العلم ؛ لأنه النعمة التي يحتاج إليها كل الخلق، أما الملك أو الجاه أو تسخير الكون لخدمته، فيمكن للإنسان الاستغناء عنها.
والإمام علي- كرم الله وجهه- حينما نفي أبو ذر ؛ لأنه كان يتكلم عن المال وخطره والأبنية ومسائل الدنيا، فنفوه إلى الربذة حتى لا يثير فتنة، لكنه قبل أن يذهب مر بالإمام على كي يتوسط له ليعفو عنه، لكن الإمام عليا- رضي الله عنه- أراد ألا يتدخل في هذه المسألة حتى لا يقال : إن عليا سلط أبا ذر على معارضة أهل الدنيا ومهاجمتهم، فقال له : يا أبا ذر إنك قد غضبت لله فارج من غضبت له، فإن القوم خافوك على دنياهم وملكهم، وخفتهم أنت على دينك فاهرب بما خفتهم عليه- يعني : اهرب بدينك-واترك ما خافوك عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك١.
هكذا أزال الإمام هذا الإشكال، وأظهر أهمية العلم ومنهج الله بحيث لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، ولا يعيش بدونه، وبه ينال حياة أخرى رفيعة باقية، في حين يستطيع الإنسان أن يعيش بدون المال وبدون الملك.
ولذلك يبعث خليفة المسلمين إلى سيدنا جعفر الصادق : يا ابن بنت محمد صلى الله عليه وسلم ما لك لا تغشانا كما يغشانا الناس ؟ أي : تأتينا وتجالسنا وتسمر معنا، فقال : ليس عندي من الدنيا ما أخافك عليه- يعني : ليس عندي مال تصادره – وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له. وهذا نفس المنطق الذي تكلم به الإمام علي.
وقوله تعالى :﴿ وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ١٥ ﴾( النمل ) فالحمد هنا على نعمة العلم وحفظ منهج الله، وفي الآية مظهر من مظاهر أدب النبوة، حيث قالا﴿ فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ١٥ ﴾( النمل ) فكأن هناك من هم أفضل منا، وليس التفضيل حجرا علينا، وهذا من تواضعهما عليهما السلام.
١ أورد ابن الجوزي في صفة الصفوة (١/٣٠٣):"روى البخاري في أفراده من حديث زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فقلت لأبي ذر: ما أنزلك هنا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية ﴿الذين يكنزون الذهب والفضة... ٣٤﴾(التوبة)، فقال: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: فينا وفيهم. فكتب يشكوني إلى عثمان. فكتب عثمان: أقدم المدينة فقدمت فكثر الناس على كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكر ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل" فهذه الواقعة كانت في زمن خلافة عثمان بن عفان، وقد توفى أبو ذر في زمن عثمان. وهذا لا يمنع أن يكون أبو ذر قد استشار على ابن أبي طالب إذ لم يكن خليفة..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ١٦ ﴾
قوله سبحانه﴿ وورث سليمان داود... ١٦ ﴾( النمل ) أي : بقيت فيه النبوة وحمل المنهج، لا الملك لأن الأنبياء لا تورث كما جاء في الحديث الشريف :" نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " ١
وهذا يدل على أن سليمان جاء بعد داود، وقد ورث عنه النبوة مع أنهما متعاصران، بدليل قوله تعالى في موضع آخر :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت٢ فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين٧٨ ﴾( الأنبياء ).
إذن : كان سليمان مع داود في هذه الحكومة وفي العلم، لكن الحق سبحانه جعل العلم منازل، بدليل أنه قال :﴿ ففهمناها سليمان... ٧٩ ﴾( الأنبياء ) مع أن أباه موجود، وحكم في القضية بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم التي أكلت.
فلما خرجوا من عند داود سألهم سليمان عن حكم أبيه، فأخبروه بما قال، فقال سليمان : بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى يعود كما كان، وعندها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزرع زرعه٣.
والحق- تبارك وتعالى- يعطينا هذا المثل مع نبي وأبيه، لا مع نبيين مختلفين بعيدين، وفي هذا إشارة إلى أن حق الأبوة على سليمان لم يمنعه من مخالفة أبيه في الحكم ؛ لأن الله تعالى قال عنهما﴿ وكلا آتينا حكما وعلما... ٧٩ ﴾( الأنبياء ) فكل منهما يحكم على مقتضى علمه الذي منحه الله.
ومن هذه الحادثة أخذنا مشروعية الاستئناف والنقض في أحكام المحاكم، فقاضى الاستئناف حينما يعدل في حكم القاضي الابتدائي لا يعد هذا طعنا فيه، إنما كل منهما حكم بناء على علمه، وعلى ما توفر له من أدلة ووقائع، وربما فطن القاضي الثاني لما لم يفطن له القاضي الأول.
إذن :﴿ وورث سليمان داود.... ١٦ ﴾( النمل ) لا تعني أنه جاء بعده، إنما هما متعاصران، وورثه في العلم والنبوة والحكمة، لا في الملك والمال ؛ لأن الله تعالى يرد أن يكون الرسول بعيدا في رسالته وتبليغه عن الله عن أي نفع يجيء له، أو لذريته.
لذلك كان الفقراء من أهل النبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذون من زكاة المؤمنين، لكن أين هذا التشريع الحكيم مما يحدث الآن من الأحكام والرؤساء والمسئولين ممن يوالون أقاربهم، وينهبون البلاد من أجلهم ؟
﴿ وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير... ١٦ ﴾( النمل ) فالطير له منطق ولغة ؛ لأنه كما قال تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم... ٣٨ ﴾( الأنعام ) والآن ومع تقدم العلم يتحدث العلماء عن لغة للنمل، ولغة للنحل، ولغة للسمك... إلخ.
وهذه المخلوقات تتفاهم بلغاتها بدقة تفاهم غريزي، لكننا لا نفهم هذا المنطق، والحق- تبارك وتعالى- يعلمنا :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ٤٤ ﴾( الإسراء ) فإن قلت كمن قالوا : هو تسبيح دلالة لا منطق ولا مقال، نقول : طالما أن الله تعالى قال :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ٤٤ ﴾( الإسراء ) فلا بد أنه مقال وكلام، ولكن أنت لا تفهمه.
وعلماء اللغة يقولون : إن النطق خاص بالإنسان، أما ما تحدثه الحيوانات والطيور فأصوات تحدثها في كل وقت، مثل مواء القطة، ونباح الكلب، وخوار البقر ونقيق الضفادع، لكن هذه الأصوات لها معنى( فنونوة ) القطة حين تجوع غير( نونوتها ) حين تخاف.
إذن : فهي تعبر، لكننا لا نعرف هذه التعبيرات، كيف ونحن البشر لا يعرف بعضنا لغات بعض ؛ لأننا لم نتعلمها، واللغة ضرورة اجتماعية نتواضع عليها أي : نتفق أن هذا اللفظ يعني كذا، فإذا نطقت به أفهمك، وإن نطقت به تفهمني.
واللغة بنت الاستماع، فاللفظ الذي تسمعه تستطيع نطقه، والذي لم تسمعه لا تستطيع نطقه، حتى لو كان لفظا عربيا من لغتك، ولا تعرف أيضا معناه، فلو قلت لك :( إنما الحيزبون والدردبيس والطخا والنخالح والعصلبيص ) فلا شك أنك لا تعرف لهذا معنى لأننا لم نتواضع على معناه.
والطفل الذي نشأ في بيئة عربية يتكلم العربية ؛ لأنه سمعها ولا يتكلم الإنجليزية مثلا ؛ لأنه لم يسمعها، ولو وضعت نفس الطفل في بيئة إنجليزية لتكلم الإنجليزية ؛ لأن اللغة لا ترتبط بجنس ولا دم، اللغة سماع.
ومعنى﴿ وأوتينا من كل شيء... ١٦ ﴾( النمل ) أي : من النعم على الإطلاق، وبعد قليل سنسمع نفس هذه العبارة يقولها الهدهد عن ملكة سبأ﴿ وأوتيت من كل شيء... ٢٣ ﴾( النمل ) إذن : فهي مثله فيما يناسب أمثالها من الملوك لا في النبوة وحمل المنهج﴿ إن هذا لهو الفضل المبين ١٦ ﴾( النمل ) الفضل المحيط بكل الفضائل.
١ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٤٠٣٣)، وكذا مسلم في صحيحه(١٧٥٧) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركناه صدقة"..
٢ نفشت الغنم: انتشرت في المرعى بغير راع ولا ضابط. (القاموس القويم ٢/٢٧٩) قال ابن منظور في (اللسان –مادة: نفش):"نفشت الإبل والغنم: انتشرت ليلا فرعت، ولا يكون ذلك بالنهار، وخص بعضهم به دخول الغنم في الزرع"..
٣ ذكره ابن كثير في تفسيره(٣/١٨٦) عن ابن عباس..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ١٧ ﴾
حشروا : جمعوا من كل مكان، ومنه قوله تعالى :﴿ وابعث في المدائن حاشرين ٣٦ ﴾( الشعراء ) والحشر : جمع الناس للحساب يوم القيامة.
وسمي الحشر جمعا ؛ لأنك تجمع الناس من أماكن متفرقة في مكان واحد، حتى يضيق بعهم ويزدحم، وهذا معنى الحشر المتعارف عليه عندنا، نقول : نحشرهم على بعض.
ومعنى﴿ فهم يوزعون ١٧ ﴾( النمل ) يعني : يمنعون، ومنه قوله " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " يعني : أن السلطان والقوة والبطش تمنع ما لا يستطيع القرآن منعه ؛ ذلك لأنهم يستبعدون القيامة والعذاب، أما السلطان فرادع حاضر الآن.
لكن، مم يمنعون وهم في موقف الحشر أمام سليمان ؟ قالوا١ : يمنعون أن يسبق بعضهم بعضا إلى سليمان، إنما نمنعهم حتى يأتي المتأخر منهم، ويدخلون جميعا عليه مرة واحدة، وفي ذلك إحداث توازن بين الرعية كلها.
وقد حدثونا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من صفاته إذا جلس في مجلس توزعت نظراته وعينه على كل الجالسين حتى يسوي بينهم، ولا ينظر لأحد أكثر من الآخر٢، ولا يميز أحدا منهم على أحد، حتى لا يظن أحدهم أن النبي فضله على غيره.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يقرب إلا أهل الفضل والتقوى الذي يعرف منهم أنهم لا يستغلون هذه المكانة لنيل سلطة بين الناس ؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يوطن الأماكن وينهي عن ذلك٣ على خلاف ما نراه الآن من بعض المصلين الذين يضعون سجادة مثلا في الصف الأول يشغلون بها المكان، ثم يذهب ويقضي حاجاته، ويعود وقد امتلأ المسجد فيتخطى رقاب الناس ليصل إلى مكان في المقدمة، وهو ليس مكانه عند الله.
فالله تعالى قد وزع الأماكن على حسب الورود، فإتيانك إلى بيت الله أولا يعطيك ثواب الصف الأول، وإن صليت في الصف الأخير، وعدم توطين الأماكن ينشر الألفة بين الناس، ويزيل الفوارق ويساعد على التعارف، فكل صلاة أنت بجانب شخص جديد تتعرف عليه وتعرف أحواله.
لكن في ضوء هذا المعنى لمادة ( وزع ) كيف نفهم قوله تعالى :﴿ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي... ١٩ ﴾( النمل )
أوزعني هنا يعني : أقدرني وامنعني من الغفلة عن نعمتك، لأظل شاكرا لك.
١ قاله ابن عباس بنحوه: جعل على كل صنف منمهم وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك. أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٣٤٧) وعزاه لابن جرير الطبري..
٢ من أدب النبوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد يأخذ بيده فينزع يده حتى يكون الرجل الذي يرسله ولم يكن يرى ركبتيه أو ركبته خارجا عن ركبة جليسه، ولم يكن أحد يصافحه إلا أقبل عليه بوجهه ثم لم يصرفه عنه حتى يفرغ من كلامه. رواه البزار والطبراني في الأوسط وإسناد الطبراني حسن. مجمع الزوائد للهيثمي (٩/١٥)..
٣ أخرج أحمد في مسنده(٥/٤٤٧)، وابن ماجه في سننه (١٤٢٩)، وأبو داود في سننه(٨٦٢) من حديث عبد الرحمن بن شبل قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير "أما الإمام أحمد فقد أخرجه من حديث أبي سلمة الأنصاري..
الضمير في﴿ أتوا... ١٨ ﴾( النمل ) يعود على جنود سليمان من الإنس والجن والطير، أي : جاءوا جميعا صفا واحدا ومروا ﴿ على واد النمل... ١٨ ﴾( النمل ) يعني : قرية النمل١، وقوله﴿ على واد النمل... ١٨ ﴾( النمل ) يدل على أنهم جاءوا من أعلى الجبل، أو أنهم قطعوا الوادي كله، كما نقول : فلان أتى على الطعام كله.
عندها﴿ قالت النملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم... ١٨ ﴾( النمل ) لماذا هذا التحذير ؟ ﴿ لا يحطمنكم سليمان وجنوده... ١٨ ﴾( النمل ) ثم احتاطت النملة للأمر، فقالت ﴿ وهم لا يشعرون ١٨ ﴾( النمل ) فما كان سليمان وجنوده ليحطموا بيوت النمل عن قصد منهم.
والمعنى : حالة كونهم لا يشعرون بكم، وهذا من عدالة حكمها ومعرفتها بسليمان، وأنه ليس جبارا ولا عاتيا، إذن : فالنملة رأت عن بعد، ونطقت عن حق، وحكمت بعدل، لهذا كله تبسم سليمان ضاحكا.
وواضح في هذا القول ما تتميز به مملكة النمل من نظام يعرف فيه كل مهمته، ويؤديها على أكمل وجه، فهذه النملة لا بد أنها كانت تقوم بمهمة الحراسة وتقف في الدرك، ترقب الجو من حولها، وكأنها جندي الدورية اليقظ.
وسبق أن قلنا : لو أنك جلست في مكان، وتركت فيه بعض فضلات الطعام مثلا أو الحلوى لرأيت بعض النمل يدول حولها دون أن يقربها، ثم انصرفوا عنها، وبعد مدة ترى جماعة منهم جاءت وحملت هذه القطعة، وكأن الجماعة الأولى أفراد الاستطلاع الذين يكتشفون أماكن الطعام، ويقدرون كم نملة تستطيع حمل هذا الشيء.
بدليل أنك لو ضاعفت القطعة الملقاة لرأيت عدد النمل الذي جاء لحملها قد تضاعف هو أيضا، ولو قتلت النمل الأول الذي جاء للاستطلاع تلاحظ أن النمل امتنع عن هذا المكان، لماذا ؟ لأن النملة التي نجت من القتل ذهبت إلى مملكتها، وحذرتهم من هذا المكان.
وفي مملكة النمل عجائب وآيات، سبحان خالقها، وسبحان من هداها إلى هذه الهندسة المحكومة بالغريزة.
ومن عجائب النمل أنك ترى في عش النمل الحبوب مفلوقة إلى نصفين حتى لا تنبت، وتهدم عليهم عشهم، لكن حبة الكسبرة مثلا تنبت حتى لو انفلقت نصفين، حين ينبث كل نصف على حدة، لذلك لاحظوا أن النمل يفلق هذه الحبة بالذات إلى أربع أقسام.
كما لاحظ المهتمون بدراسة النمل وجود حبات بيضاء صغيرة مثل رأس الدبوس أمام أعشاش النمل، وبفحصها تبين أنها زريعة النبات التي تحمل خلايا الإنبات أخرجوها كي لا تنبت.
وصدق الله العظيم :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم... ٣٨ ﴾( الأنعام )
وقد سمى الله تعالى ما قالت النملة قولا ﴿ قالت نملة... ١٨ ﴾( النمل ) ولا بد أن هذا التحذير﴿ ادخلوا مساكنكم... ١٨ ﴾( النمل ) جاء قبل أن يأتي سليمان وجنوده، وهم على مشارف الوادي.
وكلمة﴿ مساكنكم... ١٨ ﴾( النمل ) تدل على أن لهم بيوتا ومساكن، ومجال معيشة، وكسب أرزاق، كما نقول ( بيلقطوا رزقهم ) من هنا ومن هناك ؛ لذلك تجده يتتبع مواضع الطعام والفضلات، ويدخل إليها من أضيق الأماكن، لكن نرى مثلا محلات الحلوى مليئة بالسكر الذي يعشقه النمل، ومع ذلك لا نجد في هذه المحلات نملة واحدة، لماذا ؟ لما تتبعوا هذه الظاهرة بالدراسة وجدوا أن النمل لا يدخل المكان إذا كان به سمسم، وهذه من عجائب النمل أيضا.
وقوله تعالى :﴿ لا يحطمنكم... ١٨ ﴾( النمل ) الحطم هو التكسير، ومنه قوله سبحانه عن النار :﴿ وما أدراك ما الحطمة ٥ ﴾( الهمزة ) لأنها تحطم ما يلقي فيها.
١ قال قتادة: ذكر لنا أنه واد بأرض الشام. وقال كعب: هو بالطائف.(قاله القرطبي في تفسيره ٧/٥٠٥١) وقال في موضع آخر:"قال كعب: مر سليمان عليه السلام بوادي السدي من أودية الطائف"..
تبسم سليمان- بالبسمة التي تتصل بالضحك : لماذا ؟ لأنه سمعها قبل أن يصل إليها، ولأنها رأت قبل أن يأتي المرئي، وقد تكلم البعض في هذه المسألة فقالوا : إن الريح نقلت إليه مقالة النملة، وهو ما يزال بعيدا عنها، وهذا الكلام يقبل لو أن المسألة ( ميكانيكا )إنما هي عمل رب وقدرة خالق منعم ينعم بما يشاء.
ونطق قائلا﴿ رب أوزعني... ١٩ ﴾( النمل ) أي : امنعني أن أغفل، أو أن أنسى هذه النعم، فأظل شاكرا حامدا لك على الدوام ؛ لأن هذه النعم فاقت ما أنعمت به على عامة الخلق، وفوق ما أنعمت به على إخواني من الأنبياء السابقين، وعلى كل ملوك الدنيا ؛ لأنه عليه السلام جمع بين الملك والنبوة، وإن كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه الملك فرفضه، وآثر أن يكون عبدا رسولا.
لذلك وجب على كل صاحب نعمة أن يستقبلها بحمد الله وشكره، وسبق أن قلنا في قوله تعالى :﴿ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ٨ ﴾( التكاثر ) أن حق النعمة أن تحمد المنعم عليها، فلا تسأل عنها يوم القيامة.
وما أشبه الحمد على النعمة بما يسمونه عندنا في الريف ( الرقوبة )، وهي بيضة تضعها ربة المنزل في مكان أمين يصلح عشا يبيض فيه الدجاج، فإذا رأت الدجاجة هذه البيضة جاءت فباضت عليها، وهكذا شكر الله وحمده على النعم هو النواة التي يتجمع عليها المزيد من نعم الله.
وقد شرح هذا المعنى في قوله سبحانه :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم... ٧ ﴾( إبراهيم ) ألا ترى أن من علم علما فعمل به أورثه الله علم ما لم يعلم ؟ لماذا ؟ لأنه مادام عمل بعلمه، فهو مؤتمن على العلم ؛ لذلك يزيده الله منه ويفتح له مغاليقه، على خلاف من علم علما ولم يعمل به، فإن الله يسلبه نور العلم، فيغلق عليه، وتصدأ ذاكرته، وينسى ما تعمله.
والحق- تبارك وتعالى- يقول﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه... ١٢ ﴾( لقمان ) أي : تعود عليه ثمرة شكره ؛ لأنه إن شكر الله بالحمد شكره الله بالزيادة ؛ لذلك من أسمائه تعالى( الشكور ).
وقوله :﴿ علي... ١٩ ﴾( النمل ) هذه خصوصية﴿ وعلى والدي... ١٩ ﴾( النمل ) لأنه ورث عنهما الملك والنبوة﴿ وأن أعمل صالحا ترضاه... ١٩ ﴾( النمل ) وهذا ثمن النعمة أن أؤدي خدمات الصلاح في المجتمع لأكون مؤتمنا على النعمة أهلا للمزيد منها.
والحق- تبارك وتعالى- يريد منا أن نوسع دائرة الصلاح ودائرة المعروف في المجتمع، ألا ترى إلى قوله سبحانه :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ٢٤٥ ﴾( البقرة )
فسمى الخير الذي تقدمه قرضا، مع أنه سبحانه واهب كل النعم، وذلك ليحنن قلوب العباد بعضهم على بعض ؛ لأنه تعالى خالقهم، وهو سبحانه المتكلف برزقهم.
ثم يقول :﴿ وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ١٩ ﴾( النمل ) وذكر الرحمة والفضل ؛ لأنهما وسيلة النجاة، وبهما ندخل الجنة، وبدونهما لن ينجو أحد، واقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا : ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " ١.
ويقول سبحانه في هذا المعنى :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا... ٥٨ ﴾( يونس ) فالمؤمن الحق لا يفرح بعمله، إنما يفرح إن نال فضل الله ورحمته، كأنه يقول لربه : لن أتكل يا رب على عملي، بل فضلك ورحمتك هما المتكل، لأنني لو قارنت العبادة التي كلفتني بها بما أسديت إلي من نعم وآلاء لقصرت عبادتي عن أداء حقك علي، فإن أكرمتني بالجنة فبفضلك.
والبعض يقولون : كيف يعاملنا ربنا بالفضل والزيادة، ويحرم علينا التعامل بالربا ؟ أليست الحسنة عنده بعشرة أمثالها أو يزيد ؟ نقول : نعم، لكن الزيادة هنا منه سبحانه وتعالى وليست من مساو، إنها زيادة رب لعبيد.
وقوله﴿ في عبادك الصالحين ١٩ ﴾( النمل ) دليل على تواضع سيدنا سليمان- عليه السلام- فمع مكانته ومنزلته يطلب أن يدخله الله في الصالحين، وأن يجعله في زمرتهم، فلم يجعل لنفسه ميزة ولا صدارة ولا ادعى خيرية على غيره من عباد الله، مع ما أعطاه الله من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده.
وأعطاه النبوة وحمله المنهج، فلم يورثه شيء من هذا غرورا ولا تعاليا، وها هو يطلب من ربه أن يكون ضمن عباده الصالحين، كما نقول( زقني مع الجماعة دول )، حين تكون السيارة مثلا كاملة العدد، وليس لي مقعد أجلس عليه.
من يقول هذا الكلام ؟ إنه سليمان بن داود –عليهما السلام- الذي آتاه الله ملكا، لا ينبغي لأحد من بعده، ومع ذلك كان يؤثر عبيده وجنوده على نفسه، وكان يأكل( الردة ) من الدقيق، ويترك النقي منه لرعيته.
إذن : لم ينتفع من هذا الملك بشيء، ولم يصنع لنفسه شيئا من مظاهر هذا الملك، إنما صنعه له ربه لأنه كان في عون عباد الله، فكان الله في عونه، وأنت حين تعين أخاك تعينه بقدرتك وإمكاناتك المحدودة، أمنا معونة الله تعالى فتأتي على قدرة قوته تعالى، وقدرته وإمكاناته التي لا حدود لها، إذن : فأنت الرابح في هذه الصفقة.
١ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٦٤٦٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٨١٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
مادة : فقد الفاء والقاف والدال، وكل ما يشتق منها تأتي بمعنى ضاع منه الشيء، ومنه قوله تعالى في قصة إخوة يوسف :﴿ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ٧١ ﴾( يوسف )، فإن جاءت بصيغة ( تفقد ) بالتضعيف دلت على أن الشيء موجود وأنا أبحث عنه في مظانه.
فمعنى﴿ تفقد الطير... ٢٠ ﴾( النمل ) أن الرئيس أو المهيمن على شيء لا بد له من متابعته، وسليمان- عليه السلام- ساعة جلس في مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر للحاضرين من مملكته، كأنه القائد يستعرض جنوده، وفي هذا إشارة إلى أنه- عليه السلام- مع أنه هذا ملكه ومسخر له ومنقاد لأمره، إلا أنه لم يتركه هملا دون متابعة.
لكن، لماذا تفقد الطير بالذات ؟ قالوا : لأنه أراد أن يقوم برحلة في الصحراء، والهدهد هو الخبير بهذه المسألة ؛ لأنه يعلم مجاملها، ويرى حتى الماء في باطن الأرض١، يقولون : كما يرى أحدكم الزيت في وعائه.
لذلك نرى أن من مميزات الهدهد أن الله تعالى جعل له منقارا طويلا ؛ لأنه لا يأكل مما على سطح الأرض، إنما ينبش بمنقاره ليخرج طعامه من تحت الأرض.
ألا تراه حين كلم سليمان في دقائق العقيدة والإيمان بالله يقول عن أهل سبأ :﴿ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء ٢ في السماوات والأرض... ٢٥ ﴾( النمل ) فاختار هذه المسألة بالذات ؛ لأنه الخبير بها ورزقه منها.
ولما لم يجد الهدهد في الحاضرين :﴿ فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان الغائبين٢٠ ﴾( النمل ) فساعة يستفهم الإنسان عن شيء يعلم حقيقته، فإنه لا يقصد الاستفهام، إنما هو يستعبد أن يتخلف الهدهد عن مجلسه.
لذلك قال﴿ ما لي لا أرى الهدهد... ٢٠ ﴾( النمل ) يعني : ربما هو موجود، لكني لا أراه لعلة عندي أنا، فلما دقق النظر وتأكد من خلو مكانه بين الطيور، قال﴿ أم كان من الغائبين ٢٠ ﴾( النمل ) إذن : لا بد من معاقبته :﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أولأ ذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين٢١ ﴾
١ أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: ذكر لنا أن سليمان أراد أن يأخذ مفازة فدعا بالهدهد وكان سيد الهداهد ليعلم مسافة الماء، وكان قد أعطى من البصر بذلك شيئا لم يعطه شيء من الطير، لقد ذكر لنا: أنه كان يبصر الماء في الأرض كما يبصر أحدكم الخيال من وراء الزجاجة، أورده السيوطي في الدر المنثور(٦/٣٤٩)..
٢ الخبأ: الشيء المخبوء. والخبء كل ما غاب، وكل شيء غائب مستور.(لسان العرب- مادة: خبأ)..
ومعاقبة المخالف أمر ضروري ؛ لأن أي مخالفة لا تقابل بالجزاء المناسب لا بد أن تثمر مخالفات أخرى متعددة أعظم منها، فحين نرى موظفا مقصرا في عمله لا يحاسبه أحد، فسوف نكون مثله، وتنتشر بيننا الفوضى والتكاسل واللامبالاة، وتحدث الطامة حينما يثاب المقصر ويرقى من لا يستحق.
لذلك توعد سليمان الهدهد :﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه... ٢١ ﴾( النمل ).
وقد تكلم العلماء في كيفية تعذيب الهدهد، فقالوا : بنتف ريشه الجميل الذي يزهو به بين الطيور، حتى يصير لحما ثم يسلط عليه النمل فليدغه١، أو بجعله مع غير بني جنسه، فلا يجد لها إلفا ولا مشابها له في حركته ونظامه، أو : أن يكلفه بخدمة أقرانه من الهداهد التي لم تخالف، أو : أجمعه مع أضداده، وبعض الطيور إذا اجتمعت تنافرت وتشاجرت، ونتف بعضها ريش بعض ؛ لأنهم أضداد ؛ لذلك قالوا : أضيق من السجن عشرة الأضداد.
والشاعر٢ يقول :
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
ثم رقى الأمر من العذاب الشديد إلى الذبح، وهذه المسألة أثار حولها المتمردون على منهج الله والذين يريدون أن يعدلوا على الله أحكامه، أثاروا إشكالا حول قوله تعالى في حد الزنا :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة... ٢ ﴾( النور ) أما الرجم فلم يرد فيه شيء، فمن أين أتيتم به ؟
نقول : أتينا به أيضا من كتاب الله، حيث قال سبحانه في جلد الأمة إن زنت وهي غير محصنة :﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب... ٢٥ ﴾( النساء ) فقالوا : وكيف ننصف حد الرجم ؟ وهذا القول منهم دليل على عدم فهمهم لأحكام الله.
فالمعنى﴿ فعليهن... ٢٥ ﴾( النساء ) أي : على الإماء الجواري ﴿ نصف ما على المحصنات... ٢٥ ﴾( النساء ) الحرائر، ولم يسكت إنما خصص التنصيف هنا بالجلد، فقال :﴿ من العذاب... ٢٥ ﴾( النساء ) فتجلد الأمة خمسين جلدة، وهذا التخصيص يدل على أن هناك عقوبة أخرى لا تنصف هي الرجم.
وينتهي تهديد سليمان للهدهد بقوله﴿ أو ليأتيني بسلطان مبين٢١ ﴾( النمل ) أي : حجة واضحة تبرر غيابه، فنفهم من الآية أن المرؤوس يجوز له أن يتصرف برأيه، دون أن يأخذ الإذن من رئيسه إن رأى مصلحة للجماعة لا تستدعي التأخير.
وعلى الرئيس عندها أن يقدر لمرؤوسيه اجتهاده، ويلتمس له عذرا، فلعله عنده حجة أحمده عليها بل وأكافئه ؛ لأن وقت فراغه منى كان في مصلحة عامة، كما نقول في العامية ( الغايب حجته معاه )
إذن : المرؤوس إن رأى خيرا يخدم الفكر العام، ووجد أن فرصته ضيقة يسمح له بالتصرف دون إذن، وفي الحرب العالمية الأولى تصرف أحد القادة الألمان تصرفا يخالف القواعد الحربية، لكنه كان سببا في النصر ؛ لذلك أعطوه وسام النصر ولم ينسوا أن يعاقبوه على مخالفة القواعد والقانون.
١ قال ابن عباس: قوله﴿لأعذبنه عذابا شديدا... ٢١﴾(النمل) يعني: نتف ريشه. وقال عبد الله بن شداد: نتف ريشه وتشميسه. قال ابن كثير في تفسيره(٣/٣٦٠):"وكذا قال غير واحد من السلف ؛ إنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل"..
٢ الشاعر هو: أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين، شاعر حكيم، وأحد مفاخر العربي الأدب، ولد بالكوفة (٣٠٣هـ)، ونشأ بالشام وتنبأ في بادية السماوة، ثم تاب ورجع عن دعواه. قتل ٣٥٤ هـ، بأن عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي.(الأعلام للزركلي ١/١١٥)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ٢٢ ﴾ :
معنى﴿ فمكث... ٢٢ ﴾( النمل ) أقام واستقر ﴿ غير بعيد... ٢٢ ﴾( النمل ) مدة يسيرة، فلم يتأخر كثيرا ؛ لأنه يعلم أنه تخلف عن مجلس سليمان، وذهب بدون إذنه ؛ لذلك تعجل العودة، وما إن وصل إليه إلا وبادره﴿ فقال... ٢٢ ﴾( النمل ) بالفاء الدالة على التعقيب ؛ لأنه رأى سليمان غاضبا متحفزا لمعاقبته.
لذلك بادره قبل أن ينطق، وقبل أن ينهره ﴿ أحطت بما لم تحط به... ٢٢ ﴾( النمل ) أي : عرفت ما لم تعرف – هذا الكلام موجه إلى سليمان الذي ملك الدنيا كلها، وسخر الله له كل شيء ؛ لذلك ذهل سليمان من مقالة الهدهد وتشوق إلى ما عنده من أخبار لا يعرفها هو.
ثم يستمر الهدهد :﴿ وجئتك من سبأ بنبأ يقين ٢٢ ﴾( النمل )
أولا : نقف عند جمال التعبير في سبأ ونبأ، فبينهما جناس ناقص، وهو من المحسنات البديعية في لغتنا، ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد، والجناس أن تتفق الكلمتان في الحروف، وتختلفا في المعنى، كما في قول الشاعر
رحلت عن الديار لكم أسير وقلبي في محبتكم أسير
وقول الآخر :
لم يقض من حقكم علي بغض الذي يجب
قلب متى ما جرت ذكراكم يجب
ومن الجناس التام في القرآن الكريم :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة... ٥٥ ﴾( الروم ).
فالتعبير القرآني ﴿ وجئتك من سبأ بنبأ... ٢٢ ﴾( النمل ) تعبير جميل لفظا، دقيق معنى، ألا تراه لو قال ( وجئتك من سبأ بخبر ) لاختل اللفظ والمعنى معا ؛ لأن الخبر يراد به مطلق الخبر، أما النبأ فلا تقال إلا للخبر العجيب الهام الملفت للنظر، كما في قوله تعالى :﴿ عم يتساءلون ١ عن النبأ العظيم٢ ﴾( النبأ )
والجناس لا يكون جميلا مؤثرا إلا إذا جاء طبيعيا غير متكلف، ومثال ذلك هذا الجناس الناقص في قوله تعالى :﴿ ويل لكل همزة١ لمزة١ ﴾( الهمزة ) فقد ورد اللفظ المناسب معبرا عن المعنى المراد دون تكلف، فالهمزة هو الذي يعيب القول. واللمزة : الذي يعيب بالفعل، فالقرآن لا يتصيد لفظا ليحدث جناسا، إنما يأتي الجناس فيه طبيعيا يقتضيه المعنى.
ومن ذلك في الحديث الشريف :" الخيل معقود بنواصيها الخير " ٢ فبين الخيل والخير جناس ناقص، محسنا للفظ، مؤديا للمعنى.
وقد يأتي المحسن البديعي مضطربا متكلفا، يتصيده صاحبه، كقول أحدهم ينحت الكلام نحتا فيأتي بسجع ركيك : في أثناء ما كنا نسير نزل المطر كأفواه القرب، فوقع رجل كان يحمل العنب.
ومعنى﴿ أحطت بما لم تحط به... ٢٢ ﴾( النمل ) الإحاطة : إدراك المعلوم من كل جوانبه، ومنه البحر المحيط لاتساعه، ويقول سبحانه :﴿ وكان الله بكل شيء محيطا١٢٦ ﴾( النساء ) ومنه : الحائط يجعلونه حول البستان ليحميه ويحدده، ومنه : يحتاط للأمر.
ومحيط الدائرة الذي يحيط بالمركز من كل ناحية إحاطة مستوية بأصناف الأقطار.
لكن أيعد قول الهدهد لسليمان﴿ أحطت بما لم تحط به... ٢٢ ﴾( النمل ) نقصا في سليمان عليه السلام ؟ لا، إنما يعد تكريما له ؛ لأن ربه-عز وجل- سخر له من يخدمه، وفرق بين أن تفعل أنت الشيء وبين أن يفعل لك، فحين يفعل لك، فهذه زيادة سيادة، وعلو مكانة.
كما أن الله تعالى يعلمنا ألا نكتم مواهب التابعين، وأن نعطي لهم الفرصة، ونفسح لهم المجال ليخرجوا مواهبهم، وأن يقول كل منهم ما عنده حتى لو لم نكن نعرفها ؛ لأنها خدمة لي.
أليس من الكرامة أن يحضر سليمان عرشه بلقيس وهو في مكانه ﴿ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك... ٤٠ ﴾( النمل ).
ونلحظ أن الهدهد لم يعرف سبأ ما هي، وهذا دليل على أن سليمان- عليه السلام- يعرف سبأ، وما فيها من ملك، إنما لا يعرف أنه بهذه الفخامة وهذه العظمة.
١ الهمزة: كثير الهمز واللمز والغمز واغتياب الناس وعيبهم.(القاموس القويم ٢/٣٠٧). وقيل: الهمز واللمز معناهما واحد. وقيل: الهمز في القفا والسر، واللمز: عيب في الوجه في العلانية..
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٢٨٤٩-٢٨٥٠-٢٨٥٢) من حديث ابن عمر وعروة بن الجعد وعروة البارقي، وكذا مسلم في صحيحه (١٨٧٣) من حديث عروة البارقي، ونحوه عن عروة بن الجعد..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم٢٣ ﴾ :
وقوله﴿ تملكهم... ٢٣ ﴾( النمل ) يعني : تحكمهم امرأة، ورأينا نساء كثيرات نابهات حكمن الدول في وجود الرجال.
ثم يذكر من صفاتها﴿ وأوتيت من كل شيء... ٢٣ ﴾( النمل ) وكأنها إشارة إلى ما سبق أن قاله سليمان عليه السلام﴿ وأوتينا من كل شيء... ١٦ ﴾( النمل ) فهي كذلك أوتيت من كل شيء بالنسبة لأقرانها، وإلا فسليمان أوتي من الملك ومن النبوة ما لم تؤته ملكة سبأ.
﴿ ولها عرش عظيم ٢٣ ﴾( النمل ) العرش مكان جلوس الملك، وكان العرش عادة يتوافق مع عظمة الملك، فمثلا ( شيخ الغفر ) أو العمدة أو المحافظ... إلخ لكل منهم كرسي يجلس عليه يناسب مكانته، إذن : العرش هو جلسة المتمكن الذي يتولى تدبير الأمور.
ووصف العرش بأنه عظيم مع أن هذا الوصف لعرش الله تعالى، فكيف ؟ قالوا : عظيم بالنسبة لأمثالها من الملوك، أما عرش الله فعظيم بالنسبة لكل الخلق عظمة مطلقة.
هكذا حدث الهدهد سليمان فيما يخص ملكة سبأ من حيث الملك الذي تشبه فيه سليمان كملك، ثم يحدثه بعد ذلك عن مسألة تتعلق بالنبوة والإيمان بالله، وهذه المسألة التي غار عليها سليمان، وثار من أجلها :
﴿ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ٢٤ ﴾ :
ذلك لأنه لما طاف حول قصر بلقيس وجد فيه كوة تدخل منها الشمس، كما نرى في معابد الفراعنة، ففي أحد هذه المعابد طاقات بعدد أيام السنة، بحيث تدخل الشمس في كل يوم من واحدة بعينها لا تدخل من الأخرى، وكذلك كان عند بلقيس مثل هذه الكوة تدخل منها الشمس فتتنبه لها وتستقبلها.
لذلك لما ذهب إليها بكتاب سليمان وقف على هذه الكوة وسدها بجناحه، فلم تدخل الشمس في موعدها كما اعتادت الملكة، فقامت حتى وصلت إلى هذه الكوة فرمى عندها الكتاب١.
فالهدهد- إذن- مؤمن عارف بقضية العقيدة والإيمان بالله يغار عليها ويستنكر مخالفتها ﴿ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله... ٢٤ ﴾( النمل ) فهو يعرف أن الله هو المعبود بحق، بل ويعلم أيضا قضية الشيطان، وأنه سبب الانصراف عن عبادة الله.
﴿ وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ٢٤ ﴾( النمل ) فالقضية عنده كاملة بكل تفاصيلها، ولا تتعجب من مقالة الهدهد واقرأ :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ٤٤ ﴾( الإسراء ).
إنها موعظة بليغة من واعظ متمكن يفهم عن الله، ويعلم منهجه ويدعو إليه، بل ويعز عليه ويحز في نسفه أن ينصرف العباد عن الله المنعم.
١ ذكر نحوه السيوطي في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (٦/٣٥٣) عن قتادة وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم..
﴿ ألا.... ٢٥ ﴾( النمل ) مكونة من أن، لا، وعند إدغامهما تقلب النون لاما فتصير : ألا، فالمعنى : وزين لهم الشيطان أعمالهم، لماذا ؟ لألا يسجدوا، فهنا حرف جر محذوف كما تقول : عجبت من أن يقدم علينا فلان، أو عجبت أن يقدم علينا فلان.
وفي قراءة أخرى١ :( ألا ) للحث والحض٢.
وقلنا : إنه اختار هذه الصفة بالذات﴿ الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض... ٢٥ ﴾( النمل ) لأنه خبير في هذه المسألة، حيث يرى الماء في باطن الأرض، كما يرى أحدكم الزيت في إنائه.
والمراد بالخبء في السماوات : المطر، والخبء في الأرض. النبات، ومنهما تأتي مقومات الحياة، فمن ماء المطر وخصوبة الأرض يأتي النبات، وعلى النبات يتغذى الحيوان، ويتغذى الإنسان.
بل إن الحق سبحانه﴿ يعلم ما تخفون وما تعلنون ٢٥ ﴾( النمل )، كما قال في آية أخرى :﴿ وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء٣٨ ﴾( إبراهيم )، وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله... ٢٩ ﴾( آل عمران ).
١ هي قراءة الزهري والكسائي وغيرهما، بمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا(ذكره القرطبي في تفسيره ٧/٥٠٦٨) قال الكسائي: ما كنت أسمع الأشياخ يقرءونها إلا بالتخفيف على نية الأمر..
٢ قال الزمخشري: فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟ قلت: هي واجبة فيهما جميعا؛ لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك.(ذكره القرطبي في تفسيره ٧/٥٠٦٩)..
لما تكلم عن عرش بلقيس قال﴿ ولها عرش عظيم٢٣ ﴾( النمل ) يعني : بالنسبة لأمثالها من الملوك ولأهل زمانها. فإذا عرف﴿ العرش العظيم٢٦ ﴾( النمل ) فإنه لا ينصرف إلا إلى عرشه تعالى، فله العظمة المطلقة عند كل الخلق.
﴿ قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين٢٧ ﴾
﴿ قال سننظر... ٢٧ ﴾( النمل ) والنظر محله العين، لكن هل يعرف الصدق والكذب بالعين ؟ لا، فالكلمة انتقلت من النظر بالعين إلى العلم بالحجة، فهي بمعنى نعلم، ونقول : هذا الأمر فيه نظر يعني : يحتاج إلى دراسة وتمحيص.
وفي الآية مظهر من مظاهر أدب سليمان- عليه السلام- وتلطفه مع رعيته١، فهو السيد المطاع، ومع ذلك يقول للهدهد :﴿ أصدقت أم كنت من الكاذبين ٢٧ ﴾( النمل ) والصدق يقابله الكذب، لكن سليمان –عليه السلام- يأبى عليه أدب النبوة أن يتهم أحد جنوده بالكذب فقال :﴿ أم كنت من الكاذبين ٢٧ ﴾( النمل )
يعني : حتى لو وقع منك الكذب فلست فذا فيه، فكثير من الخلق يكذبون، أو : من الكاذبين ميلا لهم وقربا منهم، مما يدل على أنه بإلهاماته كنبي يعرف أنه صادق، إنما ما دام الأمر محل نظر فلا بد أن نتأكد، ولن أجامل جنديا من جنودي.
١ قال القرطبي في تفسيره(٧/٥٠٧١):"في قوله:﴿أصدقت أم كنت من الكاذبين ٢٧﴾(النمل) دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه، وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد"..
هذا هو النظر الذي ارتآه سليمان ليتأكد من صدق الهدهد : أن يرسله بكتاب منه إلى هؤلاء القوم، وهنا مظهر من مظاهر الإيجاز البليغ في القرآن الكريم، فبعد أن قال سليمان﴿ سننظر... ٢٧ ﴾( النمل ) قال﴿ اذهب بكتابي هذا... ٢٨ ﴾( النمل )
فهل كان الكتاب معدا وجاهزا ؟ لا، إنما التقدير : قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، فكتب إليها كتابا فيه كذا وكذا ثم قال للهدهد :﴿ اذهب بكتابي هذا... ٢٨ ﴾( النمل ) وقد حذف هذا للعلم به من سياق القصة.
وقوله :﴿ ثم تول عنهم... ٢٨ ﴾( النمل ) يعني : ابتعد قليلا، وحاول أن تعرف ﴿ ماذا يرجعون٢٨ ﴾( النمل ) يعني : يراجع بعضهم بعضا، ويتناقشون فيما في الكتاب، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا٨٩ ﴾( طه )
والسياق يقتضي أن نقول : فذهب الهدهد بالكتاب، وألقاه عند بلقيس فقرأته واستشارت فيه أتباعها وخاصتها، ثم قال :﴿ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ٢٩ ﴾ :
نلاحظ هنا سرعة جواب الأمر﴿ اذهب.... ٢٨ ﴾( النمل ) فبعده مباشرة قالت ملكة سبأ :﴿ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ٢٩ ﴾( النمل ) وهذا يدل على أن أوامر سليمان كانت محوطة بالتنفيذ العاجل ؛ لذلك حذف السياق كل التفاصيل بين الأمر﴿ اذهب... ٢٨ ﴾( النمل ) والجواب﴿ قالت... ٢٩ ﴾( النمل ) هكذا على وجهه السرعة.
ومعنى﴿ الملأ.. ٢٩ ﴾( النمل ) هم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارون والخاصة ﴿ إني ألقي إلى كتاب كريم ٢٩ ﴾( النمل ) فوصفت الكتاب بأنه كريم١ إما لأنها سمعت عن سليمان- عليه السلام- وعظمة ملكه، أو : لأن الكتاب سطر على ورق راق وبخط جميل، وبعد ذلك هو ممهور بخاتمه الرسمي، مما يدل على أنه كتاب هام ينبغي دراسته وأخذ الرأي فيه٢.
١ وقد ورد في معنى كريم هنا أقوال وآثار، منها:
-حسن ما فيه: قاله قتادة، فيما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
-مختوم: قاله ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن مردويه.(أوردهما السيوطي في الدر المنثور٦/٣٥٣).

٢ قال القرطبي في تفسيره(٧/٥٠٧٤): "وصفته بأنه كريم، لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا، ولا ما يغير النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق، على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل".
.

إذن : فهي تعرف سليمان، وتعرف نبوته وصفاته، وأنه يكاتبهم باسم الله ويصدر في دعوتهم عن أوامر الله، وكان مجمل الكتاب بعد بسم الله الرحمن الرحيم :﴿ ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ٣١ ﴾
إنها برقية موجزة في أبلغ ما يكون الإيجاز ﴿ ألا تعلوا علي... ٣١ ﴾( النمل ) العلو هنا بمعنى الغطرسة والزهو الذي يعتاده الملوك خاصة، وهي مثله، ملكة لها عرش عظيم، وأوتيت من كل شيء وكونه يخاطبها بهذه اللهجة المختصرة البعيدة عن النقاش والجدال، هذا أمر يحتاج منها إلى نظر وإلى أناة.
لذلك بعد أن أخبرت مستشاريها بأمر الكتاب، وما ورد فيه طلبت منهم الرأي والمشورة :
﴿ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ٣٢ ﴾ :
سبق أن تكلمنا في معنى الفتوى، وأنها من الفتوة أي : القوة، وهي مثل : غني فلان أي : صار غنيا بذاته، وأغناه غيره أمده بالغنى، كذلك أفتاه يعني : أعطاه قوة في الحكم والحجة.
وقال :﴿ في أمري... ٣٢ ﴾( النمل ) مع أن الأمر خاص بالدولة كلها، لا بها وحدها ؛ لأنها رمز للدولة وللملك، وإن تعرض لها سليمان فسوف يخدش ملكها أولا، وينال من هيبتها قبل رعيتها.
﴿ ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ٣٢ ﴾( النمل ) يعني : لا أبت في أمر إلا في حضوركم، وبعد استشارتكم. وهذا يدل على أنها كانت تأخذ بمبدأ الشورى رغم ما كان لها من الملك والسيطرة والهيمنة.
فرد عليها الملأ من قومها :
﴿ قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد١ والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ٣٣ ﴾ :
يعني : نحن أصحاب قوة في أجسامنا، وأصحاب شجاعة وبأس أي جيوش فيها عدد وعدة﴿ والأمر إليك... ٣٣ ﴾( النمل ) أي : إن رأيت الحرب، فنحن على أهبة الاستعداد، فهم يعرضون عليها رأيهم دون أن يلزموها به، فهو رأي سياسي لا رأي حربي، فهي صاحبة قرار الحرب إن أرادت ﴿ فانظري ماذا تأمرين ٣٣ ﴾( النمل ) يعني : نحن على استعداد للسلم وللحرب، وننتظر أمرك.
١ قال قتادة: ذكر لنا أنه كان أولو مشورتها ثلاثمائة واثنى عشر رجلا، كل رجل منهم على عشرة آلاف من الرجال. أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. أورده السيوطي في الدر المنثور(٦/٣٥٧)، والقرطبي في تفسيره(٧/٥٠٧٧)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ٣٤ ﴾ :
وتعرض بلقيس رأيها﴿ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها... ٣٤ ﴾( النمل )، ذلك لأنهم يريدون ملكا، فينهبون كل ما يمرون به بل ويخربون ويفسدون لماذا ؟ لأنهم ساعة يصل الملك المغير لا يضمن النصر ؛ لذلك يخرب كل شيء، حتى إذا ما عرف أنه انتصر، وأن الأمور قد استقرت له يحافظ على الأشياء ولا يخربها.
﴿ وجعلوا أعزة أهلها أذلة.... ٣٤ ﴾( النمل ) لأن الملك يقوم على أنقاض ملك قديم، فيكون أصحاب العزة والسيادة هم أول من يبدأ بهم ؛ لأن الأمر أخذ من أيديهم، وسوف يسعون لاستعادته، ولا بد أن يكون عندهم غيط ولدد في الخصومة.
أما قوله تعالى :﴿ وكذلك يفعلون ٣٤ ﴾ ( النمل ) فللعماء فيه كلام : قالوا١ إنه من كلام بلقيس، وكأنه تذييل لكلامها السابق، لكن ماذا يضيف﴿ وكذلك يفعلون٣٤ ﴾( النمل ) بعد أن قالت﴿ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة... ٣٤ ﴾( النمل ).
فالرأي الصواب أن هذه العبارة من الحق٢ - سبحانه وتعالى- ليصدق على كلامها، وأنها أصابت في رأيها، كذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية، مما يدل على أن الحق سبحانه رب الخلق أجمعين، إذا سمع من عبد من عبيده كلمة حق يؤيده فيها، لا يتعصب ضده، ولا يهضمه حقه.
١ قاله ابن شجرة فيما نقله عنه القرطبي في تفسيره (٧/٥٠٨٧) وقال:" قيل: هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته"..
٢ قاله ابن عباس، قال: هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به. نقله القرطبي في تفسيره(٧/٥٠٧٨)، وذكر نحوه السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٥٧) وعزاه لابن أبي حاتم..
بعد أن ترك لها المستشارون الأمر والتدبير أخذت تعمل عقلها، وتستخدم فطنتها وخبرتها بحياة الملوك، فقالت : إن كان سليمان ملكا فسوف يطمع في خيرنا، وإن كان نبيا فلن يهتم بشيء منه، فقررت أن ترسل له هدية تناسب مكانته كملك ومكانتها هي أيضا، لتثبت له أنها على جانب كبير من الثراء والغني.
ولا بد أنها كانت ثمينة لتستميل الملك، أو كما نقول، أو كما نقول( تلوحه أو تلويه ).
﴿ وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ٣٥ ﴾( النمل ) فإن كان ملكا قبلها، وعرفنا أن علاجه في بعض الخراج والأموال تساق إليه كل عام، وإن كان نبيا فلن يقبل منها شيئا، وهذا رأي جميل من بلقيس يدل على فطنتها وذكائها وحصافتها، حيث جنبت قومها ويلات الحرب والمواجهة.
أي : فلما جاء رسول بلقيس إلى سليمان بالهدية﴿ قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم... ٣٦ ﴾( النمل ) فأي هدية هذه، وأنا أملك ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي١ ؟ ﴿ بل... ٣٦ ﴾( النمل ) يعني : اضرب عن الكلام السابق﴿ أنتم بهديتكم تفرحون٣٦ ﴾( النمل ).
أضاف الهدية إليهم، لا إليه هو، والإضافة تأتي إما بمعنى اللام مثل : قلم زيد يعني لزيد، أو : بمعنى من مثل : إردب قمح يعني : من قمح، أو : بمعنى في مثل : مكر الليل يعني : في الليل.
فقوله﴿ بهديتكم... ٣٦ ﴾( النمل ) إما أن يكون المراد : هدية لكم. أي : فأنتم تفرحون إن جاءتكم هدية من أحد، أو لأنني سأردها إليكم فتفرحوا بردها كمن يقول( بركة يا جامع ) أو : هدية منكم، أي : أنكم تفرحون إن أهديتم لي هدية فقبلتها منكم.
فهذه معان ثلاثة لقوله :﴿ بل أنتم بهديتكم تفرحون ٣٦ ﴾( النمل ).
١ أي: فما أعطاني من الإسلام والملك والنبوة خير مما أعطاكم، فلا أفرح بالمال.(قاله القرطبي في تفسيره٧/٥٠٨٤)..
نذكر أن الملكة قالت﴿ فناظرة بم يرجع المرسلون٣٥ ﴾( النمل ) فكأنه يستشعر نص ما قالت، وينطق عن إشراقات النبوة فيه، فيقول﴿ ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها... ٣٧ ﴾( النمل )
وهكذا دخلت المسألة في طور المواجهة ؛ لأن كلامنا كلام النبوة التي لا تقبل المساومة، لا كلام الملك الذي يسعى لحطام الدنيا.
﴿ ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون٣٧ ﴾( النمل ) وكأنه يكشف لهم عن قول ملكتهم :﴿ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة... ٣٤ ﴾( النمل ) وهذه أيضا من إشراقات النبوة.
ومعنى﴿ لا قبل لهم بها... ٣٧ ﴾( النمل ) تقول : لا قبل لي بكذا. يعني : لا أستطيع مقابلته، وأنا أضعف من أن أقابله، أو لا طاقة لي به﴿ ولنخرجنهم منها أذلة... ٣٧ ﴾( النمل ) لأنه سيسلب ملكهم، فبعد أن كانوا ملوكا صاروا عبيدا. ثم يزيد في حدته عليهم﴿ وهم صاغرون٣٧ ﴾( النمل ) لأنهم قد يقبلون حالة العبودية وعيشة الرعية، فزاد ﴿ وهم صاغرون٣٧ ﴾( النمل ) لأن الصغار لا يكون إلا بالقتل والأسر.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين٣٨ ﴾ :
الملأ : أشراف القوم وسادتهم وأصحاب الرأي فيهم ﴿ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين٣٨ ﴾( النمل ) هنا أيضا مظهر من إشراقات النبوة عند سليمان، فهو يعلم ما سيحدث عندهم حينما تعود إليهم هديتهم، وأنهم سيسارعون إلى الإسلام، فرد الهدية يعني أننا أصحاب كلمة ورسالة ومبدأ ندافع عنه لا أصحاب مصلحة.
ولما علم أنهم سيأتون مسلمين طلب من جنوده أن يأتوه بعرشها، وحدد زمن الإتيان بهذا العرش﴿ قبل أن يأتوني مسلمين٣٨ ﴾( النمل )
إذن : لا بد من الذهاب إلى مملكة سبأ وفك العرش، وحمله إلى مملكة سليمان، ثم إعادة تركيبه عنده، وهذه مهمة بالطبع فوق قدرة البشر ؛ لذلك لم يتكلم منهم أحد، حتى الجن العادي لم يعرض على سليمان استعداده بهذه المهمة :﴿ قال عفريت ١ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك٢ وإني عليه لقوي أمين٣٩ ﴾ :
والجن في القدرة والمهارة مثل الإنس، منهم القوي الماهر، ومنهم العيي الذي لا يجيد شيئا. نقول( لبخة ) وكلمة عفريت من تعفير التراب، وكانوا حينما يتسابقون في العدو بالخيل وغيرها، فمن يسبق منهم يثير الغبار في وجه الآخر فيعطله عن السبق. فقالوا : عفريت يعني عفر من وراءه. أو : المعنى أنه يعفر وجه من عارضه بالتراب فسمى عفريتا.
إذن : فالعفريت هو الخبيث الماكر من الجن، وصاحب القوة الخارقة فيهم، وهو الذي تعرض لهذه المهمة، وقال﴿ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك... ٣٩ ﴾( النمل ).
وهذا كلام مجمل ؛ لأن مقام سليمان بين رعيته للحكم أو للمدارسة سوف يستغرق وقتا : ساعة أو ساعتين مثلا، وقد تعهد العفريت أن يأتي بالعرش في هذا الوقت يعني : لن يؤخره إلى جلسة أخرى.
وقوله :﴿ وإني عليك لقوي أمين ٣٩ ﴾( النمل ) يدل على أن هذا العفريت يعلم فخامة هذا العرش وضخامته، وأنه شيء نفيس يستحق الاعتناء به، خاصة في عملية نقله ؛ لذلك قال من ناحية كبره وضخامته " فأنا عليه قوي " قادر على حمله، ومن ناحية نفاسته وفخامته، فأنا عليه أمين لن أبدد منه شيئا.
١ العفريت: هو النافذ في الأمر المبالغ فيه مع خبث ودهاء.(لسان العرب –مادة: عفر)..
٢ قال السدي وغيره: كان سليمان يجلس للقضاء والحكومات وللطعام من أول النهار إلى أن تزول الشمس.(تفسير ابن كثير ٣/٣٦٣)..
ثم تكلم آخر لم يحدده القرآن إلا بالوصف٣ :
﴿ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقر عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم٤٠ ﴾ :
الطرف : الجفن الأعلى للعين.
تكلم العلماء في هذه الآية : أولا : قالوا﴿ الكتاب... ٤٠ ﴾( النمل ) يراد به اللوح المحفوظ، يعلم الله تعالى بعض خلقه أسرارا من اللوح المحفوظ، أما الذي عنده علم من الكتاب فقالوا٤ : هو آصف بن برخيا، وكان رجلا صالحا أطلعه الله على أسرار الكون.
وقال آخرون٥ : بل هو سليمان عليه السلام، لما قال له العفريت﴿ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك... ٣٩ ﴾( النمل ) قال هو :﴿ أنا آتك به قبل أن يرتد إليك طرفك... ٤٠ ﴾( النمل ) لأنه لو كان شخصا آخر لكان له تفوق على سليمان في معرفة الكتاب.
لكن ردوا عليهم بأن من عظمة سليمان أن يعلم أحد رعيته هذا العلم، فمن عنده علم من الكتاب بحيث يأتي العرش قبل طرفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومسخر له، كما أن المزايا لا تقتضي الأفضلية، وليس شرطا في الملك أن يعرف كل شيء، وإلا لقلنا للملك : تعال أصلح لنا دورة المياه.
أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلام.
وفرق كبير في القدرات بين من يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه، وبين من يأتي به في طرفة عين، ونقل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة.
والزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا : فكلما زادت القوة قل الزمن، فمثلا حين تكلف الطفل الصغير بنقل شيء من مكانه إلى مكان ما، فإنه يذهب إليه ببطء ويحمله ببطء حتى يضعه في مكانه، أما الرجل فبيده وفي سرعة ينقله، وهذه المسألة نلاحظها في وسائل المواصلات، ففرق بين السفر بالسيارة، والسفر بالطائرة، والسفر بالصاروخ مثلا.
وهذه تكلمنا عنها في قصة " الإسراء والمعراج " فقد أسري برسوله الله صلى الله عليه وسلم بهذه السرعة ؛ لأن الله تعالى أسري به، ونقله من مكان إلى مكان ؛ لذلك جاءت الرحلة في سرعة فوق تصور البشر.
وما دام الزمن يتناسب مع القوة، فلا تنسب الحدث إلى رسول الله، إنما إلى الله، إلى قوة القوى التي لا تحتاج إلى زمن أصلا، فإن قلت : فلماذا استغرقت الرحلة ليلة وأخذت وقتا ؟ نقول : لأنه صلى الله عليه وسلم مر بأشياء، ورأى أشياء، وقال، وسأل، وسمع، فهو الذي شغل هذا الوقت، أما الإسراء نفسه فلا زمن له.
لذلك قبل أن يخبرنا –تبارك وتعالى – بهذه الحادثة العجيبة قال :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده... ١ ﴾( الإسراء ) أي : نزهه عن مشابهة غيره، كذلك مسألة نقل العرش في طرفة عين لا بد أن من فعلها فعلها بعون من الله وبعلم أطلعه الله عليه، فنقله بكن التي لا تحتاج وقتا ولا قوة، وما دام بإرادة الله وقوته وإلهامه فلا نقول إلا : آمين.
وفي قوله للجن :﴿ أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك... ٤٠ ﴾( النمل ) تحد لعفريت الجن، حتى لا يظن أنه أقوى من الإنسان، فإن أراد الله منحنى من القوة ما أتفوق عليك به، بل وأسخرك بها لخدمتي.
ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجن :﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب ٦ وقدور راسيات... ١٣ ﴾( سبأ ).
وليعلموا أنهم جهلاء، ظلوا يعلمون لسليمان وهو ميت ومتكئ على عصاه أمامهم، وهم مرعوبون خائفون منه.
والتحدي قد يكون بالعلو، وقد يكون بالدنو، كالذي قال لصاحبه : أنا دارس باريس دراسة دقيقة، وأستطيع أن أركب معك السيارة وأقول لك : أين نحن منها، وأمام أي محل، وأنا مغمض العينين، فقال الآخر : وأنا أستطيع أن أخبرك بذلك بدون أن أغمض عيني.
وقوله :﴿ فلما رآه... ٤٠ ﴾( النمل ) أي : العرش﴿ مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي... ٤٠ ﴾( النمل ) إما لأنه أقدره على الإتيان به بنفسه، أو سخر له من عنده علم من الكتاب، فأتاه به، فهذه أو ذلك فضل من الله.
﴿ ليبلوني... ٤٠ ﴾( النمل ) يختبرني﴿ أأشكر أم أكفر... ٤٠ ﴾( النمل ) يعني : أشكر الله فأوفق في هذا الاختبار ؟ أم أكفر بنعمة الله فأخفق فيه ؟ لأن الاختبار إنما يكون بنتيجته.
والشكر بأن ينسب النعمة إلى المنعم وألا يلهيه جمال النعمة عن جلال واهبها ومسديها، فيقول مثلا : إنما أوتيته على علم عندي.
وقوله :﴿ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه... ٤٠ ﴾( النمل ) أي : أن الله تعالى لا يزيده شكرنا شيئا، فله- سبحانه وتعالى- صفات الكمال المطلق قبل أن يشكره أحد، فمن يشكر فإنما يعود عليه، وهو ثمرة شكره.
﴿ ومن كفر... ٤٠ ﴾( النمل ) يعني : جحد النعمة ولم يشكر المنعم ﴿ فإن ربي غني... ٤٠ ﴾( النمل ) أي : عن شكره﴿ كريم٤٠ ﴾( النمل ) أي : يعطي عبده رغم ما كان منه من جحود وكفر بالنعمة ؛ لأن نعمه تعالى كثيرة لا تعد، وهذا من حلمه تعالى ورأفته بخلقه.
لذلك لما نتأمل قوله تعالى :﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها.... ٣٤ ﴾( إبراهيم ) وقد تكررت هذه العبارة بنصها في آيتين من كتاب الله، مما جعل البعض يرى فيها تكرارا لا فائدة منه، لكن لو نظرنا إلى عجز كل منهما لوجدناه مختلفا :
فالأولى تختتم بقوله تعالى :﴿ إن الإنسان لظلوم كفور٣٤ ﴾( إبراهيم ) والأخرى :﴿ إن الله لغفور رحيم١٨ ﴾( النحل ).
إذن : فهما متكاملتان، لكل منهما معناها الخاص، فالأولى تبين ظلم الإنسان حين يكفر بنعمة الله عليه ويجحدها، وتضيف الأخرى أن الله تعالى مع ذلك غفور لعبده رحيم به.
كما نلحظ في الآية :﴿ وإن تعدوا... ٣٤ ﴾( إبراهيم ) استخدم( إن ) الدالة على الشك ؛ لأن أحدا لا يجرؤ على عد نعم الله في الكون، فهي فوق الحصر ؛ لذلك لم يقدم على هذه المسألة أحد، مع أنهم بوسائلهم الحديثة أحصوا كل شي إلا نعم الله لم يتصد لإحصائها أحد في معهد أو جامعة ممن تخصصت في الإحصاء.
وهذا دليل على أنها مقطوع بالعجز عنها، كما لم نجد مثلا من تصدى لإحصاء عدد الرمل في الصحراء، كما نقف عند قوله سبحانه :﴿ نعمت الله... ٣٤ ﴾( إبراهيم ) ولم يقل : نعم الله، فالعجز عن الإحصاء أمام نعمة واحدة ؛ لأن تحتها نعم كثيرة لو تتبعتها لوجدتها فوق الحصر.
ثم لما جاءته بلقيس أراد أن يجري لها اختبار عقل، واختبار إيمان :
﴿ قال نكروا١ لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ٤١ ﴾ :
قوله :﴿ نكروا... ٤١ ﴾( النمل ) ضده عرفوا ؛ لأنه جاء بالعرش على هيئته كما كان عندها في سبأ، ولو رأته على حالته الأولى لقالت هو هو، ولم يظهر له ذكاؤها ؛ لذلك قال﴿ نكروا لها عرشها.... ٤١ ﴾( النمل ) يعني : غيروا بعض معالمه، ومنه شخص متنكر حين يغير ملامحه وزيه حتى لا يعرفه من حوله.
﴿ ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون٤١ ﴾( النمل ) تهتدي إيمانا إلى الإسلام، أو تهتدي عقليا إلى الجواب في مسألة العرش.
١ قال ابن عباس: نزع منه فصوصه ومرافقه. وقال مجاهد: أمر به فغير ما كان فيه أحمر جعل أصفر، وما كان أصفر جعل أحمر، وما كان أخضر جعل أحمر غير كل شيء عن حاله. وقال عكرمة: زادوا فيه ونقصوا. وقال قتادة: جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره وزادوا فيه ونقصوا.(تفسير ابن كثير ٣/٣٦٤)..
جاء السؤال بهذه الصيغة﴿ أهكذا عرشك... ٤٢ ﴾( النمل ) ليعمي عليها أمر العرش، وليختبر دقة ملاحظتها، فلو قال لها : أهذا عرشك ؟ لكان إيحاء لها بالجواب إنما﴿ أهكذا عرشك... ٤٢ ﴾( النمل ) كأنه يقول : ليس هذا عرشك، فلما نظرت إليه إجمالا عرفت أنه عرشها، فلما رأت ما فيه من تغيير وتنكير ظنت أنه غيره ؛ لذلك اختارت جوابا دبلوماسيا يحتمل هذه وهذه، فقالت ﴿ كأنه هو... ٤٢ ﴾( النمل ) وعندها فهم سليمان أنها على قدر كبير من الذكاء والفطنة وحصافة الرأي.
وكذلك كلام الساسة والدبلوماسيين تجده كلاما يصلح لكل الاحتمالات ولأي واقع بعده، فإذا جاء الأمر على خلاف ما قال لك يسبق بالقول : ألم أقل لك كذا وكذا.
ومن ذلك ما قاله معاوية بن أبي سفيان للأحنف بن قيس١ : يا أحنف لماذا لا تسب عليا على المنبر كما يسبه الناس ؟ فقال الأحنف : اعفني يا أمير المؤمنين، فقال معاوية : عزمت عليك إلا فعلت، فقال : أما وقد عزمت علي فسأصعد المنبر، ولكني سأقول للناس : إن أمر المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا، فقولوا معي : لعنة الله. عندها قال معاوية : لا يا أحنف، لا تقل شيئا.
لماذا ؟ لأن اللعن في هذه الحالة سيعود على من ؟ على معاوية أو على علي ؟.
وتحكى قصة الخياط الأعور الذي خاط لأحد الشعراء جبة، فجاءت وأحد الكمين أطول من الآخر، فلم يستطع لبسها، فلما سألوه عن عدم لبس الجبة الجديدة أخبرهم بما حدث من الخياط فقالوا : أهجه، فقال :
قلت شعرا ليس يدري *** أمديح أم هجاء
خاط لي عمرو قباء *** ليت عينيه سواء
فالكلام يحتمل المعنيين : الدعاء له، والدعاء عليه. هذا هو الرد الدبلوماسي الذي يهرب به صاحبه من المواجهة.
وكذلك قالت بلقيس جوابا دبلوماسيا ﴿ كأنه هو... ٤٢ ﴾( النمل )أما﴿ وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ٤٢ ﴾( النمل ) فيحتمل أن يكون امتدادا لقول بلقيس، يعني : أوتينا العلم من قبل هذه الحادثة، وعرفنا أنك نبي لما رددت إلينا الهدية، وقلت ما قلت، فلم نكن في حاجة إلى مثل هذه الحادثة لنعلم نبوتك.
ويحتمل أنها من كلام سليمان عليه السلام.
١ هو: أبو بحر، سيد تميم، وأحد العظماء الدهاة الفصحاء، يضرب به المثل في الحلم، ولد في البصرة (٣ق هـ)، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، شهد الفتوح في خراسان، واعتزل الفتنة يوم الجمل، ثم شهد صفين مع علي، توفي بالكوفة عام(٧٢هـ) عن ٦٩ عاما. (الأعلام للزركلي ١/٢٧٦)..
المعنى : صدها ما فعل سليمان من أحداث، وما أظهر لها من آيات، صدها عن الكفر الذي ألفته﴿ إنها كانت من قوم كافرين ٤٣ ﴾( النمل ) فصدها سليمان بما فعل عما كانت تعبد من دون الله.
الصرح : إما أن يكون القصر المشيد الفخم، وإما أن يكون البهو الكبير الذي يجلس فيه الملوك مثل : إيوان كسرى مثلا، فلما دخلت ﴿ حسبته لجة... ٤٤ ﴾( النمل ) ظنته ماء، والإنسان إذا رأى أمامه ماء أو بللا يرفع ثيابه بعملية آلية قسرية حتى لا يصيبه البلل ؛ لذلك كشفت بلقيس عن ساقيها يعني : رفعت ذيل ثوبها.
وهنا نبهها سليمان ﴿ إنه صرح ممرد من قوارير... ٤٤ ﴾( النمل ) يعني : ادخلي لا تخافي بللا، فهذا ليس لجة ماء، إنما صرح ممرد من قوارير يعني : مبني من الزجاج والبللور أو الكريستال، بحيث يتموج الماء، من تحته بما فيه من أسماك.
﴿ قالت رب إني ظلمت نفسي... ٤٤ ﴾( النمل ) بالكفر أولا، وبظن السوء في سليمان، وأنه يريد أن يغرقني في لجة الماء﴿ وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ٤٤ ﴾( النمل ) ويبدو أنها لم تنطق بكلمة الإسلام صريحة إلا هذه المرة، وأن القول السابق﴿ وكنا مسلمين ٤٢ ﴾( النمل ) كان من كلام سليمان عليه السلام.
وقولها﴿ وأسلمت مع سلمان... ٤٤ ﴾( النمل ) مثل قول السحرة فرعون لما رأوا المعجزة :﴿ آمنا برب هارون وموسى٧٠ ﴾( طه ) لأن الإيمان إنما يكون بالله والرسول دال على الله، لذلك قالت :﴿ وأسلمت مع سليمان... ٤٤ ﴾( النمل ) ولم تقل : أسلمت لسليمان، نعم لقد دانت له، واقتنعت بنبوته، لكن كبرياء الملك فيها جعلها لا تخضع له، وتعلن إسلامها لله مع سليمان ؛ لأنه السبب في ذلك، وكأنها تول له : لا تظن أني أسلمت لك، إنما أسلمت معك، إذن : أنا وأنت سواء، لا يتعالى أحد منا على الآخر، فكلانا عبد لله.
وقد دخل هذه القصة بعض الإسرائيليات، منها أن سليمان- عليه السلام- جعل الصرح على هذه الصورة لتكشف بلقيس عن ساقيها ؛ لأنه بلغه أنها مشعرة الساقين، إلى غير هذا من الافتراءات التي لا تليق بمقام النبوة١.
١ أورد ابن كثير في تفسيره(٣/٣٦٥) هذه القصة، وعزاه لمحمد بن كعب القرظي وابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي وابن جرير. وقد ذكرها الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه" الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير"(ص٣٤٨)..
ثم يأتي بنا الحق سبحانه إلى نبي آخر في موكب الأنبياء :
﴿ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون٤٥ ﴾ :
مرت بنا قصة نبي الله صالح- عليه السلام- مع قومه ثمود في سورة الشعراء، وأعيد ذكرها هنا ؛ لأن القرآن يقص على رسول الله من موكب الأنبياء ما يثبت به فؤاده، كلما تعرض لأحداث تزلزل الفؤاد، يعطيه الله النجم من القرآن بما يناسب الظروف التي يمر بها، وهذا ليس تكرارا للأحداث، إنما توزيع للقطات، بحيث إذا تجمعت تكاملت في بناء القصة.
وقوله سبحانه﴿ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا... ٤٥ ﴾( النمل ) لا بد أنه أرسل بشيء ما هو ؟ ﴿ أن اعبدوا الله... ٤٥ ﴾( النمل ) لذلك سميت( أن ) التفسيرية، كما في قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى... ٧ ﴾( القص ) ماذا ؟ ﴿ أن أرضعيه... ٧ ﴾( القصص )
وقد يأتي التفسير بجملة، كما في :﴿ فوسوس إليه الشيطان.... ١٢٠ ﴾( طه ) بأي شيء ؟ ﴿ قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ١٢٠ ﴾( طه )
فشرح الوسوسة وهي شيء عام بقوله :﴿ قال يا آدم... ١٢٠ ﴾( طه ) فرسالتنا إلى ثمود ملخصها ومؤداها ﴿ أن اعبدوا الله... ٤٥ ﴾( النمل ).
والعبادة كما ذكرنا أن نطيع الله بفعل ما أمر، وبترك ما نهى عنه وزجر، أما ما لم يرد فيه أمر ولا نهي فهو من المباحات إن شئت فعلتها، وإن شئت تركتها، وإذا ما استعرضنا حركة الأحياء والخلفاء في الأرض وجدنا أن ٥% من حركتهم تدخل فيها الشارع بافعل ولا تفعل، أما الباقي فهو مباح.
إذن : فالتكليف منوط بأشياء يجب أن تفعلها ؛ لأن فيها صلاح مجتمعك، أو أشياء يجب أن تتركها ؛ لأن فيها فساد مجتمعك.
فماذا كانت النتيجة ؟.
﴿ فإذا هم فريقان يختصمون٤٥ ﴾( النمل ).
والاختصام أن يقف فريق منهم ضد الآخر، والمراد أن فريقا منهم عبدوا الله وأطاعوا، والفريق الآخر عارض وكفر بالله.
وقد وقف عند هذه الآية بعض الذين يحبون أن يتهجموا على الإسلام وعلى أسلوب القرآن، وهم يفتقدون الملكة العربية التي تساعدهم على فهم كلام الله، وإن تعلموها فنفوسهم غير صافية لاستقبال كلام الله، وفيهم خبث وسوء نية.
واعتراضهم أن ﴿ فريقان... ٤٥ ﴾( النمل ) مثنى و﴿ يختصمون ٤٥ ﴾ ( النمل ) دالة على الجمع، فلماذا لم يقل : يختصمان ؟ وهذه لغة القرآن في مواضع عدة. ومنها قوله تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت أحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما... ٩ ﴾( الحجرات ) والقياس يقتضي أن يقول : اقتتلتا. لكن حين نتدبر المعنى نجد أن الطائفة جماعة مقابل جماعة أخرى، فإن حدث قتال حمل كل منهم السلاح، لا أن تتقدم الطائفة بسيف واحد، فهم في حال القتال جماعة.
لذلك قال( اقتتلوا ) بصيغة الجمع، أما في البداية وعند تقرير القتال فلكل طائفة منهما رأي واحد يعبر عنه قائدها، إذن : فهما في هذه الحالة مثنى.
كما أن الطائفة وإن كانت مفردة لفظا إلا أنها لا تطلق إلا على جماعة، فيقف كل واحد من الجماعة بسيفه في مواجهة آخر من الطائفة الأخرى.
وهنا أيضا﴿ فإذا هم فريقان... ٤٥ ﴾( النمل ) أي : مؤمنون وكافرون﴿ يختصمون٤٥ ﴾( النمل ) لأن كل فرد في هذه الجماعة يقف في مواجهة فرد من الجماعة الأخرى.
وفي موضع آخر، شرح لنا الحق- تبارك وتعالى- هذه المسألة، فقال سبحانه :﴿ فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم ١٩ يصهر به ما في بطونهم والجلود ٢٠ ولهم مقامع ١ من حديد٢١ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق٢٢ ﴾( الحج )
أما الفريق الآخر :﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ٢٣ وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد٢٤ ﴾( الحج ).
فبين لنا الحق- سبحانه- كل فريق منهما، وبين مصيره وجزاءه.
ونلحظ هنا﴿ فإذا... ٤٥ ﴾( النمل ) يسمونها الفجائية، ويمثلون لهم بقولهم : خرجت فإذا أسد بالباب، والمعنى : أنك فوجئت بشيء لم تكن تتوقعه، كذلك حدث من الكافرين من قوم ثمود حين قال لهم نبيهم﴿ أن اعبدوا الله... ٤٥ ﴾( النمل ) لكن يفاجئوننا بأنهم فريقان : مؤمنون وكافرون.
ومنطق العقل والحق والفطرة السليمة يقتضي أن يستقبلوا هذا الأمر بالطاعة والتسليم، ولا يختلفوا فيه هذا الاختلاف : فريق في الجنة وفريق في السعير﴿ إن الأبرار لفي نعيم ١٣ وإن الفجار لفي جحيم١٤ ﴾( الانفطار ).
وقالوا : إن الله تعالى لا يرسل الرسل إلا على فساد في المجتمع، الخالق عز وجل خلق في الإنسان النفس اللوامة التي ترده إلى رشده وتنهاه، والنفس المطمئنة التي اطمأنت بالإيمان، وأمنت الله على الحكم في أفعل ولا تفعل، والنفس الأمارة بالسوء، وهي التي لا تعرف معروفا، ولا تنكر منكرا، ولا تدعو صاحبها إلا إلى السوء.
والله –عز وجل- رب، ومن عادة الرب أن يتعهد المربي ليؤدي غايته على الوجه الأكمل، أرأيتم أبا يربي أبناءه إلا لغاية ؟ وما دام هو سبحانه ربي فلا يأمرني إلا لصالحي، وصالح مجتمعي، فلا شيء من طاعتنا يعود عليه بالنفع ولا شيء من معاصينا يعود عليه بالضرر ؛ لأنه سبحانه خلق الكون كله بصفات الكمال المطلق. إذن : كانت الفطرة السليمة تقتضي استقبال أوامر الله بالقبول والتسليم.
وهذه الخصومة تجمع المؤمنين في جهة ؛ لأنهم اتفقوا على الإيمان. والكافرين في جهة ؛ لأنهم اتفقوا على الكفر. لكن يمتاز المؤمنون بأن يظل وفاقهم إلى نهاية العمر، بل وعند لقاء الله تعالى في الجنة ؛ لأنهم اتفقوا في الدنيا في خطة العمل وفي الآخرة في غاية الجزاء، كما يقول تعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ٦٧ ﴾( الزخرف )
أما الكفار فسوف تقوم بينهم الخصومات يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض، والقرآن حين يصور تخاصم أهل النار يقول بعد أن ذكر نعيم أهل الجنة :
﴿ هذا وإن للطاغين لشر مآب٥٥ جهنم يصلونها فبئس المهاد ٥٦ هذا فليذوقوه حميم٢ وغساق ٥٧ وآخر من شكله أزواج٥٨ هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار ٥٩ قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار٦٠ قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ٦١ وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار ٦٢ اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار ٦٣ إن ذلك لحق تخاصم أهل النار٦٤ ﴾( ص )
إذن : فالخصومة في الدنيا بين مؤمن وكافر، أما في الآخرة فبين الكافرين بعضهم البعض، بين الذين أضلوا والذين أضلوا، بين الذين اتبعوا، والذين اتبعوا.
١ المقامع: جمع مقمعة، وهي خشبة أو حديدة يقمع بها الحيوان ليذل ويطيع. وقوله ﴿ولهم مقامع من حديد٢١﴾(الحج) أي: يضربون بها، كلما أرادوا الخروج من النار أعيدوا فيها بالضرب بالمقامع إذلالا لهم.(القاموس القويم ٢/١٣٤)..
٢ الحميم من ألفاظ الأضداد، يكون الماء البارد، ويكون الماء الحار. والحميم: العرق.(لسان العرب-مادة: حمم) والغساق: ما يغسق ويسيل من جلود أهل النار وصديدهم من قيح ونحوه.(اللسان –مادة: غسق)..
لما ذكرت قصة ثمود في الشعراء، لم تذكر شيئا عن استعجال السيئة، فما هي السيئة التي استعجلوها وربهم عز وجل يلومهم عليها ؟ هي قولهم :﴿ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٧٠ ﴾الأعراف )
وعجيب أمر هؤلاء القوم، ماذا يفعلون لو نزل بهم ؟ قالوا معا : حينما تأتنا السيئة نستغفر ونتوب يظنون أن الاستغفار والتوبة تقبل منهم في هذا الوقت.
والحق- تبارك وتعالى- يقول :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ١٨ ﴾( النساء )
فلماذا تستعجلون السيئة والعذاب، وكان عليكم أن تستعجلوا الحسنة، واستعجالكم السيئة يحول بينكم وبين الحسنة ؛ لأنها لن تقبل منكم ﴿ لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون٤٦ ﴾( النمل )
اطير : استعمل الطير، وهذه عملية كانوا يلجئون إليها عند قضاء مصالحهم أو عند سفرهم مثلا، فكان الواحد منهم يمسك بالطائر ثم يرسله، فإن طار ناحية اليمين تفاءل وأقبل على العمل، وإن طار ناحية الشمال تشاءم، وامتنع عما هو قادم عليه، يسمونها السانحات والبارحات١. فالمعنى : تشاءمنا منك، وممن اتبعك.
﴿ قال طائركم عند الله... ٤٧ ﴾( النمل ) يعني : قضاء مقضي عليكم، وليس للطير دخل في أقداركم، وما يجري عليكم من أحكام، فكيف تأخذون من حركته منطلقا لحركتكم ؟ إنما طائركم وما يقدر لكم من عند الله قضاء يقضيه.
وفي آية يس :﴿ قالوا طائركم معكم... ١٩ ﴾( يس ) يعني : تشاؤمكم هو كفركم الذي تمسكتم به.
لكن، لماذا جاء التشاؤم هنا، ونبيهم يدعوهم إلى الله ؟ قالوا : لأنه بمجرد أن جاءهم عارضوه، فأصابهم قحط شديد، وضنت عليهم السماء بالمطر فقالوا : هو الذي جر علينا القحط والخراب.
وقوله :﴿ بل أنتم قوم تفتنون ٤٧ ﴾( النمل ) الفتنة : إما بمعنى الاختبار والابتلاء، وإما بمعنى فتنة الذهب في النار.
١ السانح: ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك، والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك(لسان العرب- مادة: سنح)..
وهذه المسألة أيضا لقطة جديدة من القصة لم تذكر في الشعراء، وهكذا كل القصص القرآني لو تدبره الإنسان لوجده لقطات متفرقة، كل منها يضيف جديدا، ويعالج أمرا يناسب النجم القرآني الذي نزل فيه لتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرهط : اسم جمع، لا واحد له من لفظه، ودل على العدد من الثلاثة على العشرة، فمعنى﴿ تسعة رهط... ٤٨ ﴾( النمل ) كأنهم كانوا قبائل أو أسرا أو فصائل، قبيلة فلان وقبيلة فلان... إلخ.
﴿ يفسدون في الأرض... ٤٨ ﴾( النمل ) فلماذا قال بعدها :﴿ ولا يصلحون٤٨ ﴾( النمل ) ؟ قالوا : لأن الإنسان قد يفسد في شيء، ويصلح في آخر، كالذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وهؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم.
أما هؤلاء القوم، فكانوا أهل فساد محض لا يعرفون الصلاح، فإن رأوه عمدوا إليه فأفسدوه، فكأنهم مصرون على الإفساد، وللإفساد قوم ينتفعون به، لذلك يدافعون عنه ويعارضون في سبيله أهل الإصلاح والخير ؛ لأنهم يعطلون عليهم هذه المنفعة.
وقلنا : إن صاحب الدين والخلق والمبادئ في أي مصلحة تراه مكروها من هذه الفئة التي تنتفع من الفساد، يهاجمونه ويتتبعونه بالهمز واللمز، يقولون : حنبلي، وربما يهزأون به... إلخ ؛ لذلك لم يقف في وجه الرسل إلا هذه الطائفة المنتفعة بالفساد.
﴿ قالوا.... ٤٩ ﴾( النمل ) أي : الرهط﴿ تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله... ٤٩ ﴾( النمل ) انظر إلى هذه البجاحة وقلة العقل وتفاهة التفكير : إنهم يتعاهدون ويقسمون بالله أن يقتلوا رسول الله، وهذا دليل غبائهم، وكأن الحق –تبارك وتعالى- يجعل لهم منافذ يظهر منها حمقهم وقلة عقولهم.
ومعنى﴿ لنبيتنه... ٤٩ ﴾ ( النمل ) نبيته : نجعله ينام بالليل، والبيتوتة أن ينقطع الإنسان عن الحركة حال نومه، ثم يعاود الحركة بالاستيقاظ في الصباح، لكن هؤلاء يريدون أن يبيتوه بيتوتة لا قيام منها. والمعنى : نقتله.
فإذا ما جاء أولياء الدم يطالبوننا بدمه﴿ لنقولن لوليه... ٤٩ ﴾( النمل ) أي : ولي الدم من عصبته ورحمه﴿ ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ٤٩ ﴾( النمل ) أي : ما شهدنا مقتل أهله، فمن باب أولى ما شهدنا مقتله، ولا نعرف عنه شيئا.
هذا ما دبره القوم لنبي الله صالح- عليه السلام- يظنون أن الله يسلم رسوله، أو يمكنهم من قتله، فحاكوا هذه المؤامرة ولم يفتهم تجهيز الدفاع عن أنفسهم حين المساءلة، هذا مكرهم وتدبيرهم.
معنى﴿ ومكروا مكرا... ٥٠ ﴾( النمل ) أي : ما دبروه لقتل نبي الله ورسوله إليهم﴿ ومكرنا مكرا... ٥٠ ﴾( النمل ) وفرق بين مكر الله عز وجل ﴿ والله خير الماكرين ٥٤ ﴾( آل عمران ) وبين مكر الكافرين ﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله... ٤٣ ﴾( فاطر ).
إذن : حين تمكر بخير، فلا يعد مكرا، إنما إبطال لمكر العدو، فلا يجوز لك أن تتركه يدبر لك ويمكر بك، وأنت لا تتحرك ؛ لذلك قال تعالى ﴿ والله خير الماكرين ٣٠ ﴾( الأنفال ) لأنهم يمكرون بشر، ونحن نمكر لدفع هذا الشر لنصرة رسولنا، ونجاته من تدبيركم.
والمكر : مأخوذ من قولهم : شجرة ممكورة، وهذا في الشجر رفيع الساق المتسلق حين تلتف سيقانه وأغصانه، بعضها على بعض، فلا تستطيع أن تميزها من بعضها، فكل منها ممكور في الآخر مستتر فيه، وكذلك المكر أن تصنع شيئا تداريه عن الخصم.
وقوله تعالى :﴿ وهم لا يشعرون٥٠ ﴾( النمل ) أي : أنه مكر محبوك ومحكم، بحيث لا يدري به الممكور به، وإلا لا يكون مكرا.
وحين نتأمل :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله... ٤٣ ﴾( فاطر ) و﴿ والله خير الماكرين٥٤ ﴾( آل عمران ) نعلم أن المكر لا يمدح ولا يذم لذاته، إنما الغاية من ورائه، كما في قوله تعالى عن الظن :﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن... ١٢ ﴾( الحجرات ) فالظن منه الخير ومنه السيئ.
ونسم الآن تعبيرا جديدا يعبر عما يدور في المجتمع من انتشار المكر وسوء الظن، يقولون : الصراحة مكر القرن العشرين، فالذي يمكر بالناس يظن أنهم جميعا ماكرون فلا يصدق كلامهم، ويحتاط له حتى إن كان صدقا، فأصبح المكر وسوء الظن هو القاعدة، فإن صارحت الماكر لا يصدقك ويقول في نفسه : إنه يعمي علي أو يضللني.
أي : تأمل ما حاق بهم لما مكروا بنبي الله، واتفقوا على التبييت له وقتله، يروى أنهم لما دخلوا عليه أقلي على كل واحد منهم حجر لا يدري من أين أتاه، فهلكوا جميعا، فقد سخر الله له ملائكة تولت حمايته والدفاع عنه١.
أو : أن الله تعالى صنع له حيلة خرج بها وذهب إلى حضرموت، وهناك مات عليه السلام، فسميت حضرموت٢. وآخرون قالوا : بل ذهبوا ينتظرونه في سفح الجبل، واستتروا خلف صخرة ليوقعوا به فسقطت عليهم الصخرة فماتوا جميعا.
المهم، أن الله دمرهم بأي وسيلة من هذه﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو.... ٣١ ﴾( المدثر ) لقد أرادوا أن يقتلوه وأهله، فأهلكهم الله.
١ قال ابن عباس: أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة، فامتلأت بهم دار صالح، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فقتلتهم الملائكة رضخا بالحجارة، فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها.(تفسير القرطبي ٧/٥١٠٠)..
٢ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥١٠٢):"خرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح، فسميت حضرموت"..
قوله تعالى :﴿ فتلك بيوتهم خاوية... ٥٢ ﴾( النمل ) دليل على أن الله أهلكهم فلم يبق منهم أحدا، وتركت بيوتهم خاوية بسبب ظلمهم﴿ إن في ذلك لآية... ٥٢ ﴾( النمل ) عبرة وعظة﴿ لقوم يعلمون ٥٢ ﴾( النمل )
وفي مقابل إهلاك الكافرين :
﴿ وأنجينا الذين آمنوا١ وكانوا يتقون ٥٣ ﴾ :
فمن آمن واتقى من قوم صالح نجاه الله عز وجل من العذاب الذي نزل بقومهم قوم ثمود.
انتهى الكلام هنا عن قصة ثمود، وحين نقارن الأحداث هنا بما ورد في سورة الشعراء نجد أحداثا جديدة لم تذكر هناك، كما لم يذكر هنا شيئا عن قصة الناقة التي وردت هناك، مما يدل على تكامل لقطات القصة في السور المختلفة.
١ قيل: آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل، أما الباقون فد خرج بأبدانهم- في قول مقاتل وغيره- خراج مثل الحمص، وكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار من الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود..
ثم يقص علينا طرفا من قصة نبي آخر، وهو لوط عليه السلام :
﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ٥٤ ﴾ :
( لوطا ) جاءت منصوبة على أنها مفعول به، والتقدير : أرسلنا لوطا، كما قال سبحانه :﴿ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله... ٤٥ ﴾( النمل )
وقوله تعالى :﴿ إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ٥٤ ﴾( النمل ) فذكر الداء الذي استشرى فيهم، وفي سورة الشعراء قال سبحانه﴿ أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ما سبقكم بها من أحد من العالمين ٨٠ ﴾( الأعراف ) وهنا قال :﴿ وأنتم تبصرون ٥٤ ﴾( النمل ) أي : تتعالمون بها وتتجاهرون بها، فدل على أنهم أجمعوا عليها وارتضوها، وأنه لم يعد عندهم حياء من ممارستها.
أو : يكون المعنى : وأنتم تبصرون ما حل بأصحاب الفساد قبلكم من أقضية الله عليهم.
هذا بيان وتفصيل للداء والفاحشة التي انتشرت بينهم، ومعنى :﴿ بل أنتم قوم تجهلون ٥٥ ﴾( النمل ) الآية في ظاهرها أنها تتعارض مع﴿ وأنتم تبصرون ٥٤ ﴾( النمل ) لكن المعنى﴿ تجهلون٥٥ ﴾( النمل ) الجهل هنا ليس هو ضد العلم، إنما الجهل بمعنى السفه.
والبعض يظن أن الجهل ألا تعلم، لا إنما الأمية هي ألا تعلم، أما الجهل فأن تعلم قضية مخالفة للواقع ؛ لذلك الأمي أسهل في الإقناع ؛ لأنه خالي الذهن، أما الجاهل فلديه قضية خاطئة، فيستدعي الأمر أن تنزع منه قضية الباطل، ثم تدخل قضية الحق، فالجهل- إذن- أشق على الدعاة من الأمية.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ٥٦ ﴾ :
عجيب أمر هؤلاء، فعلة الإخراج عندهم وحيثيته ﴿ إنهم أناس يتطهرون ٥٦ ﴾( النمل ) سبحان الله، ومتى كان الطهر ذنبا وجريمة تستوجب أن يخرج صاحبها من بلده ؟ إنها نغمة نسمعها دائما من أهل الباطل في كل زمان ومكان حينما يهاجمون أهل الحق، ويسعون لإبعادهم من الساحة لتخلو لباطلهم.
ومن عدل الله تعالى أن يظهر في منطقهم دليل إدانتهم وخبث طباعهم، فكلمة﴿ يتطهرون٥٦ ﴾( النمل ) التي نطقوا بها تعني : أنهم أنفسهم أنجاس تزعجهم الطهارة، وما أحل الله من الطيبات، وكأن الحق تعالى يجعل في كلامهم منافذ لإدانتهم، وليحكموا بها على أنفسهم.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين ٥٧ ﴾
أي : من المهلكين مع قومها، فقد كانت تدل قومها على ضيفان لوط ؛ ليأتوا إليهم ليفعلوا معهم الفاحشة، لذلك أصابها من العذاب مثلما أصاب قومها.
أي : قبح هذا المطر، وإن أبهم المطر هنا فقد وضحه الحق- تبارك وتعالى- في آيات أخرى فقال : من طين، ومن سجيل، وهو الطين إذا حرق، فصار فخارا، وهذه الحجارة منظمة مسومة١ صنعها الله لهم بحساب دقيق، فلكل واحد منهم حجره المسمى باسمه، والذي لا يخطئه إلى غيره.
١ سوم الشيء: علمه بعلامة. والسومة: العلامة والسيمة والسيماء بكسر السين: العلامة. (القاموس القويم١/٣٣٧)..
نعرف أن الله تعالى يحمد على النعمة ؛ لكن هناك﴿ الحمد لله... ٥٩ ﴾( النمل ) جاءت بعد نقمة وعذاب وأخذ للمكذبين. قالوا١ : الخطاب هنا موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن جند الله هم الغالبون وأن العاقبة لهم ليطمئن رسول الله، كما أن تطهير الكون من المفسدين فيه، وحين تستريح منهم البلاد والعباد، هذه نعمة تستوجب﴿ الحمد لله... ٥٩ ﴾( النمل )
وفي إهلاك الكافرين والمكذبين عبرة ودرس لغيرهم، حتى لا يتورطوا في أسباب الهلاك، وهذه نعمة أخرى تستحق الحمد.
لذلك أمرنا ربنا- تبارك وتعالى- أن نحمده إن رأينا خيرا نزل بالأخيار، أو شرا حل بالأشرار. فالمعنى﴿ قل الحمد لله... ٥٩ ﴾( النمل ) أن الرسل انتصروا وغلبوا، وأن المفسدين انهزموا واندحروا.
ألا ترى قول أهل الجنة :﴿ حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ٧٣ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ٢ من الجنة حيث نشاء... ٧٤ ﴾( الزمر )
كذلك حيث نرى الشرير الذي شاع شره وكثر فساده حين ينزل به ما يستحق من عقاب الله جميعا ساعة نسمع خبره : الحمد لله، هكذا بعملية لا شعورية عند الجميع أن تلهج ألسنتهم بالحمد عند نزول النعمة على أصحابها، والنقمة على من يستحقها.
ويقول تعالى عن أهل الشر والفساد :﴿ ولد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ٤٢ فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ٤٣ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٤٤ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ٤٥ ﴾( الأنعام )
فبعد أن قطع الله دابر الظالمين قال : الحمد لله رب العالمين، ونلحظ هنا الفرق بين فتح لك، وفتح عليك ؛ فتح لك يعني : فتح في صالحك، ومنه :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ١ ﴾( الفتح ).
أما فتح عليهم يعني : بالسوء كناية فيهم، فمعنى﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء.. ٤٤ ﴾( الأنعام )
أعطاهم الخير ليهلكهم به، وهم في حال نعمة ومكانة، حتى إذا أخذهم الله كان أخذه أليما شديدا.
وفي قصة نوح عليه السلام :﴿ فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ٢٨ ﴾( المؤمنون ).
فحمد الله هنا على أمرين : الحمد لله لأنه أغرق الكافرين الظالمين وخلصنا منهم، والحمد لله لأنه نجى المؤمنين.
ثم يقول سبحانه :﴿ وسلام على عباده الذين اصطفى... ٥٩ ﴾( النمل ) وهم المؤمنون الذين نصرهم الله، وجعل العاقبة لهم، والسلام عليهم بعدما لاقوه من عنت الكفار وعنادهم، فالحمد لله الذي أهلك المفسدين، وأتى بالسلام على المهتدين.
ثم يطرح الحق سبحانه قضية، ويأتي بها في صورة سؤال واستفهام ؛ لتكون أبلغ في النفس من مجرد الإخبار بها :﴿ الله خير أما يشركون ٥٩ ﴾( النمل ).
ولو أن الآية قالت : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى لأن الله خير وما يشركون به شر لكان الكلام خبرا، والخبر في ذاته وبصرف النظر عن قائله يحتمل الصدق أو الكذب.
أما حين تعرض هذه القضية في صورة الاستفهام، فقد جعلت مخاطبك هو الذي ينطق بها، كما لو أنكر أحد الأصدقاء جميلك وأيديك عليه، فبدل أن تخبر أنت : فعلت لك كذا وكذا تدعه هو الذي يخبر فتقول : ألم أفعل لك كذا وكذا ؟ ولا يقول هذا إلا واثق ومعتقد أن الإجابة ستكون في صالحه.
فالمعنى :﴿ آلله خير أما يشركون ٥٩ ﴾( النمل ) قولوا لنا أنتم ونحن نرتضي حكمكم بعدما رأيتم وسمعتم من هذه القصة : آلله خير أم الذين أشركوا به خير ؟ ولا بد أن تأتي الإجابة : الله خير ؛ لذلك لما نزلت هذه الآية انفعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرع بالجواب :" بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم " ٣.
مما يدل على أن الانفعال بالقرآن واجب ونقصد الانفعال بمعانيه، لا الانفعال بالصوت والنغمات كالذي نسمعه من هؤلاء ( الذكيرة ) الذين يشجعون المقرئين بالصياح والضجيج الذي لا يتناسب وجلال الآيات، وهم مع ذلك لا يفهمون المعاني ولا يتأثرون بها، لدرجة أن منهم من يسمع آيات العذاب فيقول بأعلى صوته : اللهم زدنا.
وقد كان الكتبة من الصحابة ينفعلون بالآيات معنى، حتى إن أحدهم ليكمل الآية ويختمها بما يناسبها قبل أن تملى عليه، لماذا ؟ لأنهم فهموا عن الله وتأثروا بالمعنى، مما يدل على أن القرآن جاء موافقا للفطرة السليمة، ومن هذا التوافق قول أحد الصحابة٤ ﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين١٤ ﴾( المؤمنون ) فنزل بها القرآن كما قالها.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن سورة الرحمن " لقد قرأت سورة الرحمن على إخوانكم الجن، فكانوا أحسن استجابة منكم، فكانوا كلما قلت ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ١٣ ﴾( الرحمن )
قالوا : لا بشيء من نعمائك ربنا نكذب فلك الحمد٥.
إذن : حين نسمع كلام الله علينا أن ننفعل به، وأن نتجاوب معه تجاوبا واعيا، فعند آية التسبيح نسبح، وعند آية الحمد نحمد الله، وعند آية الدعاء نقول : آمين، هذه مواجيد انفعالية لسماع القرآن والتجاوب معه، لا أن نسمعه أو نهذه كهذ٦ الشعر.
١ قاله ابن عباس، وسفيان الثوري فيما نقله عنهما السيوطي في الدر المنثور (٦/٣٧٠)وقال النحاس: هذا أولى، لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلا ما لا يصح معناه إلا لغيره.(نقله القرطبي في تفسيره ٧/٥١٠٣)..
٢ بوأه: أسكنه، وبوأه في الأرض: مكن له فيها. وتبوأت المنزل: اتخذته سكنا.(القاموس القويم١/٨٨)..
٣ أورده القرطبي في تفسيره (٧/٥١٠٥) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية يقول: "بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم "، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٦/٣٧٠)وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة "أنه كان إذا قرأ "ولم يذكر رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم..
٤ هو: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: وافقت ربي ووافقني في أربع، نزلت هذه الآية ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين١٢﴾(المؤمنون)، قلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين ١٤﴾(المؤمنين) ذكره ابن كثير في تفسيره (٣/٢٤١) وعزاه لابن أبي حاتم..
٥ أورده السيوطي في"الدر المنثور("٧/٦٩٠) وعزاه للترمذي وابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه..
٦ الهذ (بالذال): سرعة القراءة. وفي حديث ابن عباس قال له رجل: قرأت المفصل الليلة، فقال: أهذا كهذ الشعر؟ أراد أتهذ القرآن هذا فتسرع فيه كما
تسرع في قراءة الشعر.(لسان العرب-مادة: هذذ)
تسرع في قراءة الشعر. (لسان العرب- مادة: هذذ)..

ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون ٦٠ ﴾ :
﴿ أمن... ٦٠ ﴾( النمل ) هذا استفهام آخر، وكأن الحق- تبارك وتعالى- بعد أن كتب الهزيمة على الكافرين والنصر للمؤمنين أراد أن يربب في النفس الإيمان بالله، وأن تأخذ من نصر الله تعالى للمؤمنين خميرة إيمانية، ومواجيد جديدة تظل شحنة قوية تدفعهم بحيث يكونون هم أنفسهم على استعداد للتصدي لأعداء الدعوة والمناهضين لها.
يقول سبحانه :
﴿ أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله... ٦٠ ﴾( النمل )
إذن : المسألة لا تقف عند معركة انتصر فيها المؤمنون على الكافرين، فهناك في خلق الله ما هو أعظم من ذلك، فلو سألتهم : من خلق السماوات والأرض يقولون : الله ولئن سألتهم : من خلقهم يقولون : الله، فهذه مسائل لا يستطيعون إنكارها، فكأن الحق –تبارك وتعالى- يقول لهم : آلله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء... أم ما تشركون ؟
وما دام أن الله تعالى ادعى مسألة الخلق لنفسه سبحانه، ولم يقم لهذه الدعوى منازع، فقد ثبتت له سبحانه إلى أن يدعيها غيره﴿ أإله مع الله... ٦٠ ﴾( النمل ) فإن كان هناك إله آخر خلق الخلق فأين هو : إما أنه لم يدر بهذه الدعوى، أو درى بها وجبن عن المواجهة، وفي كلتا الحالتين لا يصلح إلها، وإلا فليأت هو الآخر بخلق ومعجزات أعظم مما رأينا.
فإذا قال الله تعالى أنا الله، ولا إله غيري، والخلق كله بسمائه وأرضه صنعتي، ولم يوجد معارض، فقد ثبتت له القضية ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم... ١٨ ﴾( آ عمران )
فقضية الوحدانية شهد الله أولا بها لنفسه، ثم شهد بها الملائكة وأولو العلم من الخلق.
ويقول سبحانه في تأكد هذا المعنى :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا٤٢ ﴾( الإسراء )
أي : لاجتمع هؤلاء الآلهة، وثاروا على الإله الذي أخذ منهم ملكهم، وادعاه لنفسه، أو لذهبوا إليه ليتقربوا منه ويتوددوا إليه.
وقوله تعالى :﴿ وأنزل لكم من السماء ماء٦٠ ﴾( النمل ) السماء : كل ما علاك فأظلك، والماء معروف أنه ينزل من السحاب وهو مما علانا، أو أن الإنزال يعني إرادة الكون، وإرادة الكون في كائن تكون من السماء، ألا ترى قوله تعالى :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ٢٥ ﴾( الحديد ).
وقوله تعالى :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس... ٢٥ ﴾( الحديد ) ومعلوم أن الحديد يأتي من الأرض، لكن إرادة كونه تأتي من السماء.
ثم يقول سبحانه :﴿ فأنبتنا به حدائق ذات بهجة... ٦٠ ﴾( النمل ) للماء فوائد كثيرة في حياتنا، بل هو قوام الحياة ؛ لذلك اقتصرت الآية على ذكر الحدائق، لأنها قوام حياة الإنسان في الأكل والشرب.
فإن قلت : نحن نعتبر الآن الحدائق الجميلة من باب الكماليات، وليس بها مقومات حياتنا. نقول : نعم هي كذلك الآن، لكن في الماضي كانوا يسمون كل أرض زراعية محوطة بسور : حديقة، أو حائط.
وقال﴿ ذات بهجة... ٦٠ ﴾( النمل ) مع أنك لو نظرت إلى القمح مثلا وهو عصب القوت لوجدته أقل جمالا من الورد والياسمين والفل مثلا، وكأن ربك- عز وجل- يقول لك : لقد تكفلت بالكماليات وبالجماليات، فمن باب أولى أوفر لك الضروريات.
والحق- تبارك وتعالى- يريد أن يرتقي بذوق عباده وبمشاعرهم، واقرأ مثلا قوله تعالى :﴿ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه١.. ٩٩ ﴾( الأنعام ) يعني : قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في جمالها ومنظرها البديع، وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صنع الله.
ألا ترى أن الله تعالى أباح لك النظر إلى كل الثمار لتشاهد جمالها، ولم يبح لك الأكل إلا مما تملك ؟ لذلك قال :﴿ انظروا إلى ثمره... ٩٩ ﴾( الأنعام ) فإن لم تكونوا تملكونه، فكفاكم التمتع بالنظر إليه.
ومن هذا الارتقاء الجمالي قوله تعالى بعد أن حدثنا عن الضروريات في الأنعام :﴿ ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون٦ ﴾( النحل ).
وقال :﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة... ٨ ﴾( النحل ).
فأعطانا ربنا – عز وجل – ضروريات الحياة، وأعطانا كمالياتها وجمالياتها. وتأمل دقة الأسلوب في﴿ أمن خلق السماوات والأرض... ٦٠ ﴾( النمل ) فالضمير في ﴿ خلق ﴾ ضمير الغائب ( هو ) يعود على الله عز وجل، وكذلك في ( وأنزل ) أما في( فأنبتنا ) فقد عدل عن ضمير الغائب إلى الضمير المتكلم( نحن ) الدال على التعظيم، فلماذا ؟.
قالوا : لأن نعم الله فيها أشياء لا دخل للإنسان فيها كالخلق وإنزال المطر، ومثل هذه المسائل لا شبهة لاشتراك الإنسان فيها، هناك أشياء للإنسان دخل فيها كالزرع والإنبات، فهو الذي يحرث ويزرع ويسقي... الخ مما يوحي بأن الإنسان هو الذي ينبت النبات، فأراد سبحانه أن يزيل هذا التوهم، فنسب الإنبات صراحة إليه- عز وجل- ليزيل هذه الشبهة.
وربك- سبحانه وتعالى- يحترم فعلك، ويذكر لك سعيك، فيقول :﴿ أفرأيتم ما تحرثون ٦٣ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ٦٤ ﴾( الواقعة ) نعم لك عمل وسعى في هذه المسألة، لكنك استخدمت الأرض المخلوقة لله، وآلة الحديد المخلوقة لله، والبذور المخلوقة لله، والماء المخلوق لله، أما مسألة الإنبات نفسها فلا دخل لك بها، فلا تقل زرعت ؛ لأننا نحن الزارعون حقيقة، لكن قل : حرثت وسقيت.
لذلك تجد الرد في آخر الآية نافيا لأي شبهة في أن لك دخلا في مسألة الزرع :﴿ لو نشاء لجعلنه حطاما... ٦٥ ﴾( لواقعة ) وأكد الفعل بلام التوكيد لينفي هذه الشبهة.
على خلاف الكلام عن الماء، حيث لا شبهة لك فيه، فيأتي نفس الفعل، لكن بدون لام التوكيد :﴿ أفرأيتم الماء الذي تشربون ٦٨ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ٦٩ لو نشاء لجعلناه أجاجا٢ فلولا تشكرون ٨٠ ﴾( الواقعة ).
ومعنى :﴿ بل هم قوم يعدلون٦٠ ﴾( النمل ) العدل معلوم أنه صفة مدح فساعة تسمع﴿ بل هم قوم يعدلون٦٠ ﴾( النمل ) قد تظن أنها صفة طيبة فيهم، لكن لا بد في مثل هذا اللفظ من تدقيق ؛ لأنه يحمل معاني كثيرة. نقول : عدل في كذا يعني : أنصف، وعدل إلى كذا يعني : مال إليه، وعدل عن كذا : يعني : تركه وانصرف عنه، وعدل بكذا، يعني : سوى.
فالمعنى هنا ﴿ يعدلون ٦٠ ﴾( النمل ) عنه، ويا ليتهم يعدلون عنه فحسب، إنما يعدلون عنه إلى غيره، ويسوون به غيره، كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ١ ﴾( الأنعام )
أي : يسوونه سبحانه بغيره.
١ أينع الثمر يينع: أدرك ونضج وحان قطافه. (القاموس القويم ٢/٣٧٣)..
٢ الأجاج: الملح الشديد الملوحة. أج الماء يؤج: اشتدت ملوحته. (القاموس القويم ١/٧)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ امن يجعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ٦١ ﴾ :
لما تكلم الحق سبحانه في الآية السابقة عن السماوات والأرض أتى بأشياء مشتركة بينهما، فالسماء ينزل منها الماء، والأرض تستقبل الماء، وتنبت لنا الحدائق ذات البهجة.
أما في هذه الآية، فالكلام عن الأرض، لذلك ذكر لنا مسائل من خصوصيات الأرض، ﴿ أمن جعل الأرض قرارا... ٦١ ﴾( النمل ) معنى : قرارا أي استقرارا، حيث خلقها سبحانه على هيئة مريحة تصلح لأن يستقر عليها الإنسان.
﴿ وجعل خلالها أنهارا ٦١ ﴾( النمل ) الماء ينزل من السماء وينتفع به من سقط عليه مباشرة، أما ما ينزل على الجبال فيتجمع في الوديان وتصنع له السدود لينتفع الناس به عند القحط، ومن ماء المطر ما ينساب في مجار تسمي الأنهار.
وتستطيع أن تفرق بين النهر والقناة الصناعية، فالنهر ينساب الماء فيه من أعالي الجبال، ومن أماكن متفرقة تتتبع المنخفضات والسهل من الأرض الذي يستطيع الماء أن يشق مجراه فيه فتراه ملتويا متعرجا، يدور حول الجبال أو الصخور ليشق مجراه.
أما القناة الصناعية، فتراها على هيئة الاستقامة، إلا إذا اعترض طريق حفرها مثلا أحد أ صحاب النفوذ، فيحملهم على تغيير المسار والانحراف به ليتفادى المرور بأرضه.
وتستطيع أن تلاحظ هذه الظاهرة إذا تبولت في أرض رملية ونظرت إلى مجرى البول، فتراه يسير متعرجا حسب طبيعة الأرض التي يمر بها.
﴿ وجعل لها رواسي ٦١ ﴾( النمل ) الرواسي : هي الجبال الثابتة الراسية، وفي موضع آخر بين سبحانه الحكمة من هذه الجبال فقال :﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ١٥ ﴾( النحل )
فالحكمة من خلق الجبال تثبيت الأرض حتى لا تضطرب، ولو أنها خلقت على هيئة الثبات والاستقرار لما احتاجت إلى الجبال، إذن : هي مخلوقة على هيئة الحركة، ولا بد من مثقلات.
ولا تقتصر الحكمة من خلق الجبال على تثبيت الأرض، إنما لها مهمة أخرى في قوله تعالى :﴿ والجبال أرساها ٣٢ متاعا لكم ولأنعامكم ٣٣ ﴾( النازعات ).
فكيف تكون الجبال متاعا للإنسان وللحيوان ؟.
نعم، هي متاع ؛ لأنها مخزن مياه، حينما ينقطع المطر نجد المياه التي تساقطت على الجبال، إما في الأنهار، وإما في الشلالات، وخلف السدود بين الوديان، أو في العيون والآبار مما امتصته الأرض.
وكما أن الجبال هي مخازن للمياه، هي أيضا مخازن للخصوبة التي تمد الأرض الزراعية عاما بعد عام بقدر، بحيث تستمر خصوبة الأرض، وسبق أن تكلمنا عن ظاهرة التعرية التي تفتت الطبقة العليا من الصخور، فتنزل إلى الوديان مع ماء المطر، وتخلط بالتربة الزراعية فتزيد من خصوبتها.
ولولا صلابة الجبال وتماسك صخورها لتفتتت في عدة سنوات، ولفقدنا مصدر الخصوبة بعد ذلك، فهذه الظاهرة من علامات رحمة الله بخلقه ؛ لأنها تتناسب مع الزيادة السكانية بحيث كلما زاد السكان زادت الرقعة الخصبة الصالحة للزراعة.
وسبق أن قلنا : إنك حين تتأمل وضع الجبال مع الوديان تجد أن الجبل مثلث قاعدته إلى أسفل، وقمته إلى أعلى، أما الوديان فعلى عكس الجبال، فهي مثلث قاعدته إلى أعلى وقمته إلى أسفل، وهكذا نرى أن كل زيادة من طمي الجبل والغرين١ الذي يتفتت منه يزيد في مساحة الوادي، فتزداد الرقعة الخصبة كل عام مع زيادة السكان.
لذلك يقول تعالى عن الجبال :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها... ١٠ ﴾( فصلت ).
فجعل الجبال الرواسي هي مخازن القوت من طعام وشراب، ولك أن تتأمل نيل مصر وواديه، كيف تكون من الطمي الذي حملته المياه من أعالي الجبال في إفريقيا، ليكون هذه المنطقة الخصبة في مصر.
ثم يقو سبحانه :﴿ وجعل بين البحرين حاجزا٦١ ﴾( النمل ).
البحرين : أي العذب والمالح لأن الماء : منه العذب، ومنه المالح، ومن قدرته تعالى وحكمته أن يحجز بينهما، وإن كان الماء المالح هو مصدر الماء العذب، لذلك جعل الله تعالى مساحة السطح للماء المالح ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وكلما اتسع سطح الماء اتسع البخر الذي يكون السحاب، بحيث يسقط المطر الكافي لمعيشة أهل الأرض.
وما أجمل قول الشاعر المادح :
أهدى لمجلسه الكريم وإنما أهدى له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وما له فضل عليه لأنه من مائه
ولكي تعلم فضل الله علينا في إنزال المطر وتوفير الماء العذب، انظر إلى التكلفة والمشقة التي تعانيها لتقطير عدة سنتيمترات من الماء، في حين أنك لا تدري بعملية التقطير الواسعة التي تسقي البلاد والعباد في كل أنحاء الدنيا.
وقد مثلنا لمسألة اتساع رقعة البحر بكوب الماء إذا أرقته على الأرض، فإنه يجف في عدة دقائق، أما لو تركت الماء في الكوب لعدة أيام، فإنه لا ينقص منه إلا القليل.
ومن الماء العذب ما سلكه الله تعالى ينابيع في الأرض ليخرجه الإنسان إذا أعوزه الماء على السطح، أو سلكه ينابيع في الأرض بمعنى أن يسير العذب بجوار المالح، لا يختلط أحدهما بالآخر مع ما عرف عن الماء من خاصية الإستطراق.
وهذه من عجائب قدرة الله الخالق، فمن قعر البحر المالح تخرج عيون الماء العذب، لأن لكل منهما طريقا و مسلكا وشعيرات يسير فيها بحيث لا يبغى أحدهما على الآخر، كما قال تعالى :
﴿ مرج البحرين يلتقيان ١٩ بينهما برزخ لا يبغيان ٢٠ ﴾( الرحمن ).
وكما أن الماء العذب يتسرب إلى باطن الأرض ليكون الآبار والعيون، فكذلك الماء المالح يتسرب في باطن الأرض ليكون من تفاعلاته الأحجار الكريمة، كالمرمر، والمعادن كالحديد والمنجنيز والجرانيت... الخ.
وبعد أن ذكرنا لنا هذه الآيات الخاصة بالأرض جاء بهذا الاستفهام ﴿ أإله مع الله... ٦٠ ﴾( النمل ) يعني خلق هذه الأشياء ﴿ بل أكثرهم لا يعلمون.... ٦١ ﴾( النمل ) والذين لا يعلمون أعلمناهم، وقطعنا حجتهم بعدم العلم.
ولو نظرنا إلى الأرض لوجدنا فيها آيات أخرى غير أنها مستقر وسكن، فالأرض كثيفة، وفيها غبرة ليست صافية البياض ؛ ذلك لأن الله تعالى يريد لها أن تستقبل حرارة الشمس وضوءها ليستفيد منها النبات، ولو أن الأرض كانت شفافة تعكس الضوء والحرارة لما استفاد منها النبات ؛ لذلك نجد بعض المشروعات تنمو في الصيف، وأخرى في الشتاء.
ولما أجروا بعض التجارب على النبات، فوضعوه في مكان مظلم، ثم جعلوا ثقبا في ناحية بحيث يدخل الضوء وجدوا أن النبتة بما أودع الخالق فيها من غريزة تتجه ناحية الضوء لتأخذ حظها من النور والدفء، فسبحان الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.
ومن آيات الله في خلق الأرض أن جعلها على هيئة الحركة والدوران، لتأخذ كل مناطق حظها من الحرارة والبرودة، ويتنوع فيها المناخ بين صيف وشتاء، وخريف وربيع، إنها أدوار تتطلبها مقومات الحياة.
لذلك تجد علماء النبات يقسمون المناطق الزراعية على الأرض يقولون : هذا حزام القمح مثلا، وهذا حزام الموز، وهذا حزام البطاطس، فتجد كل حزام منها يصبح لنوع خاص من المزروعات يناسب سكان هذه المنطقة وبيئتها وجوها.
لذلك نجد أن كل نوع من المزروعات في مكانه المناسب لا تصيبه الآفات، أما حين ينقل إلى مكان غير مكانه، وبيئة غير بيئته لا بد أن يصاب.
وفي الأرض خاصية أخرى تتعلق بالإنسان تعلقا مباشرا، فمن خصائص الأرض وهي من الطين الذي خلق منه الإنسان، فهي في الحقيقة أمه الأولى –فإذا مات لا يسعه إلا أحضان أمه حين يتخلى عنه أقرب الناس إليه، وألصق الناس به، عندها تستقبله الأم وتحتويه وتستر عليه كل ما يسوؤه.
ومن خصائص الأرض أنها تمتص فضلات الإنسان والحيوان ومخلفاته وتحولها بقدرة الله إلى مخصب تزدهر به المزروعات، ويزيد به المحصول، وفي الريف يحملون روث الحيوانات ذا الرائحة الكريهة إلى الحقول، فإذا به ينبت فيه الوردة الجميلة الذكية التي يتشوق الإنسان لرائحتها.
إنها عجائب في الخلق، لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، أتذكرون المثل الذي يقول :( فلان يعمل من الفسيخ شربات ) هكذا قدرة الله التي تخلق الأضداد.
ألا ترون أن أفضل الفاكهة نأكها الآن من الجبل الأصفر بمصر وهي تروى بماء المجاري.
١ الغرين: الطين الذي يحمله السيل فيبقى على وجه الأرض رطبا أو يابسا. وقال الأصمعي: الغرين أن يجيء السيل فيثبت على الأرض، فإذا جف رأيت الطين رقيقا على وجه الأرض قد تشقق. (لسان العرب- مادة: غرن)..
وبعد أن حدثنا الحق- تبارك وتعالى- عن هذه المظاهر العامة التي يحتاجها كل الخلق في السماء والأرض والجبال والمطر... الخ يحدثنا سبحانه عن مسائل خاصة يحتاجها إنسان دون آخر، وفي وقت دون آخر، فيقول سبحانه :
﴿ أمن يجيب المضطر١ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ٦٢ ﴾
( يجيب ) الإجابة هي تحقيق المطلوب لداعيه، والمضطر : هو الذي استنفذ الأسباب، وأخذ بها فلم تجد معه، فليس أمامه إلا أن يترك الأسباب إلى المسبب سبحانه فيلجأ إليه ؛ ذلك لأن الخالق – عز وجل – قبل أن يخلق الإنسان خلق له مقومات حياته وضرورياتها وسخرها لخدمته.
لذلك جاء في الحديث القدسي :" يا بن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتك من أجلي فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له ".
ثم خلق الله لك الطاقة التي تستطيع أن تسخر بها هذه الأشياء وضمن لك القوت الضروري من ماء ونبات، فإن أردت أن ترفه حياتك فتحرك في الحياة بالأسباب المخلوقة لله، وبالطاقة الفاعلة فيك، وفكر كيف ترتقي وتثري حركة الحياة من حولك.
فالماء الذي ينساب في داخل البيت حين تفتح الصنبور، والضوء الذي ينبعث بمجرد أن تضغط على زر الكهرباء، والسيارة التي تنقلك في بضع دقائق... كلها ارتقاءات في حركة حياة الناس لما أعملوا عقولهم فيما أعطاهم الله من مادة وعقل وفكر أسباب، وهذه كلها يد الله الممدودة لعباده، والتي لا ينبغي لنا ردها.
فإذا ما حاولت ولم تفلح، ولم تثمر معك الأسباب، فعليك أن تلجأ مباشرة إلى المسبب سبحانه، لأنه خالقك والمتكفل بك.
واقرأ قوله تعالى :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما... ١٢ ﴾( يونس ) ويا ليته ساعة دعا ربه ولجأ إليه فاستجاب له يجعل له عند ربه رجعة، ويتوقع أن يصيبه الضر مرة أخرى ؛ لكن إن كشف الله عنه سرعان ما يعود كما كان.
﴿ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ١٢ ﴾( يونس )
﴿ أمن يجيب المضطر٦٢ ﴾( النمل ) فالمضطر إذن لا بد أن يجيبه الله، فمن قال : دعوت فلم يستجب لي. فاعلم أنه غير مضطر، فليست ضائقة تمر بالعبد تعد من قبيل الاضطرار، كالذي يدعو الله أن يسكن في مسكن أفضل مما هو فيه، أو براتب ودخل أوفر مما يأخذه... الخ، كلها مسائل لا اضطرار فيها، وربما علم الله أنها الأفضل لك، ولو زادك عن هذا القدر طغيت وتكبرت.
كما قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ٦ أن رآه استغنى ٧ ﴾( العلق ).
فلقد طلبت الخير من وجهة نظرك، وربك يعلم أنه لا خير فيه ﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا١١ ﴾( الإسراء ).
فربك يصحح لك هذا الخطأ في فهمك للمسائل فيقول لك : سأحقق لك الخير، لكن بطريقة أخرى أنسب من هذه، فلو أجبتك إلى ما تريد لحدث ما لا تحمد عقباه، وكأن الله- عز وجل- وهو ربنا والمتولي أمرنا يجعل على دعائنا( كنترول ) ولو كان الله سبحانه موظفا يلبي لكل منا طلبه ما استحق أن يكون إلها – حاشا لله.
فالإنسان من طبيعته العجلة والتسرع، فلا بد للرب أن يتدخل في أقدار عبده بما يصلحه، وأن يختار له ما يناسبه ؛ لأنه سبحانه الأعلم بعواقب الأشياء وبوقتها المناسب، ولكل شيء عنده تعالى موعد وميلاد.
واقرأ قول الله تعالى :﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم... ١١ ﴾( يونس ).
ألا ترى بعض الأمهات تحب الواحدة ولدها وتشفق عليه، فإن عصاها في شيء أو ضايقها تقول رافعة يديها إلى السماء ( إلهي أشرب نارك ) أو( إلهي أعمى ولا أشوفك ) فكيف لو أجاب الله هذه الحمقاء ؟.
إذن : من رحمته تعالى بنا أن يختار لنا ما يصلحنا من الدعاء، ويعافينا من الحمق والعجلة.
وقوله تعالى :﴿ ويكشف السوء٦٢ ﴾( النمل ) فكما أنه لا يجيب المضطر إلا الله لا يكشف السوء إلا الله، ولو كان هناك إله آخر يجيب المضطر ويكشف السوء لتوجه الناس إليه بالدعاء، لكن حينما يصاب المرء لا يقول إلا يا رب، ولا يجد غير الله يلجأ إليه لأنه لن يغش نفسه في حال الضائقة أو المصيبة التي ألمت به.
وقد مثلنا لذلك- ولله المثل الأعلى – بحلاق الصحة في الماضي، وكان يقوم بعمل الطبيب الآن، فلما أنشئت كلية الطب وتخرج فيها أحد أبناء القرية اتجهت الأنظار إليه، فكان الحلاق يذم في الطب والأطباء، وأنهم لا خبرة لديهم لتبقى له مكانته بين أهل القرية، لكن لما مرض ابن الحلاق ماذا فعل ؟ إن غش الناس فلن يغش نفسه : أخذ الولد في ظلام الليل ولفه في البطانية، وذهب به إلى ( الدكتور ) الجديد.
لذلك يقول كل مضطر وكل من أصابه سوء : يا رب يا رب حتى غير المؤمن لا بد أن يقولها، ولا بد أن يتجه بعينه وقلبه إلى السماء إلى الإله الحق، فالوقت جد لا مساومة فيه.
ويقول تعالى بعدها :﴿ ويجعلكم خلفاء الأرض... ٦٢ ﴾( النمل ) أي : يخلف بعضكم بعضا فيها، كما قال :﴿ ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم... ٥٥ ﴾( النور )
فهل يملك هذه المسائل إلا الله :﴿ أإله مع الله ٦٢ ﴾( النمل ) والاستفهام هنا ينكر وجود إله غير الله يفعل هذا﴿ قليلا ما تذكرون ٦٢ ﴾( النمل ) عني : لو تفكرتم وتذكرتم لعرفتم أنه لا إله إلا
الله.
١ قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود. وقال السدي: الذي لا حول له ولا قوة. وقال ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله.(ذكرها القرطبي في تفسيره ٧/٥١٠٧).
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون ٦٣ ﴾ :
هذه أيضا من الأمور الخاصة التي تخص بعض الناس دون بعض، وكانت قبل تقدم العلم، حيث كانت النجوم هي العلامات التي يهتدي بها الملاحون في البحر والمسافرون في البر﴿ وعلامات وبالنجم هم يهتدون ١٦ ﴾( النحل ).
وقد برع في علوم الفلك والنجوم وفي علوم البحر علماء من العرب وضعوا أسسا لهذه العلوم، لا عن علم عندهم، إنما عن مشاهدة لظواهر الكون، وتوفيق وهداية من الله عز وجل.
وحين نتأمل ارتقاءات الإنسان في الحياة نجد أنها نتيجة مشاهدة حدثت صدفة، أو حتى بطريق الخطأ، وإلا فكيف اهتدى الإنسان إلى تخمير العجين ليخرج الخبز على هذه الصورة وبهذا الطعم ؟ لذلك يسمون العجين : فطير وهو المبلط الذي لم يتخمر، وخمير وهو الذي تخمر وارتفع قليلا وتخلله الهواء.
وقد نقلوا هذا المعنى للرأي، يقولون : فلان رأيه فطير يعني : سطحى متعجل، وفكرة مختمرة يعني : مدروسة بتأن، ومنه الفطرة يعني الشيء حين يكون على طبيعته.
وربما اكتشفت إحدى النساء مسألة الخمير هذه نتيجة خطأ أو مصادفة حين عجنت العجين، وتأخرت في خبزه حتى خمر، فلما خبزته جاء على هذه الصورة المحببة إلينا، كذلك الأمر في اكتشاف البنسلين مثلا، والغواصات والبخار والعجلة... الخ.
وتأمل مثلا : لماذا نطبخ الملوخية ولا نطبخ النعناع، إنها –إذن- هداية الله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.
الحديد تعلمنا طرقه بعد إدخاله النار ليلين ؛ لأن الله تعالى علمها لنبيه داود عليه السلام حين قال ﴿ وألنا له الحديد١٠ ﴾( سبأ )
إذن : كثير من اكتشافات الكون وارتقاءاته تأتي بهداية الله، وكلما مر الزمن تكشف لنا أسرار الكون، كل في ميعاده وميلاده الذي أراده الله، إما أن يستنبطه الناس بمقدمات إذا جاء ميلاده، وإلا فيأتي ولو مصادفة.
واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء... ٢٥٥ ﴾ ( البقرة ) فحين يشاء الله يكشف لك الأشياء، وييسير لك أسبابها، فإذا لم تنتبه لها أراكها مصادفة، ومن وسائل إعلام الله لخلقه مثلا أهل البوادي، ترى الواحد منهم متكئا ينظر إلى السماء ويقول لك : السماء ستمطر بعد كم من الساعات، وليس في السماء سحاب ولا غيم يدل على المطر، لكنه عرفها بالاستقراء والتجربة.
ومن هذه الهداية الإلهية أن ترى البهائم العجماوات وهي تأكل بالغريزة، تأكل الحشيش الجاف، ولا تأكل مثلا النعناع الأخضر، أو الريحان مع أن رائحته جميلة، لماذا ؟.
لأنه جعل للرائحة الطيبة، لكن طعمه غير طيب، وإذا أكل الحيوان وشبع لا يمكن أن يأكل بعدها أبدا على خلاف الإنسان الذي يأكل حتى التخمة، ثم الحلو والبارد والساخن، ويقولون ( أرها الألوان تريك الأركان ). أي : أر معدتك ألوان الطعام وأصنافه، تريك الأركان الخالية فيها.
لذلك تجد راحة روث الحيوان أقل كراهية من رائحة فضلات الإنسان ؛ لأنها تأكل بالغريزة التي خلقها الله فيها، ونحن نأكل بالشهوة، وبلا نظام نلتزم به.
وقوله تعالى :﴿ ومن يرسل الرياح بشرا... ٦٣ ﴾( النمل ) أي : مبشرات بالمطر﴿ بين يدي رحمته... ٦٣ ﴾والمطر مظهر من مظاهر رحمة الله﴿ أإله مع الله... ٦٣ ﴾( النمل ) أي : لا إله إلا الله يهديكم في ظلمات البر والبحر، ولا إله إلا الله يرسل الرياح تبشركم بالمطر﴿ تعالى الله عما يشركون ٦٣ ﴾( النمل ) تنزه أن يكون له في كونه شريك.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين٦٤ ﴾ :
مسألة الخلق هذه لا يستطيعون إنكارها، وقد سألهم الله :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله... ٨٧ ﴾( الزخرف ).
وفي موضع آخر :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولون الله... ٢٥ ﴾( لقمان )
لأنهم لا يملكون إنكارها، وإن أنكروها فالرد جاهز : على من خلق أولا أن يرينا شيئا جديدا من خلقه.
ومعنى﴿ يبدأ الخلق٦٤ ﴾( النمل ) يعني : الخلق الأول من العدم﴿ ثم يعيده٦٤ ﴾( النمل ) لأن الذي خلقنا من عدم كتب علينا الموت، وأخبرنا بالغيب أننا سنبعث يوم القيامة، وسيعاد هذا الخلق مرة أخرى، فالذين لم يملكوا إنكار الخلق أنكروا البعث، فقالوا كما حكى القرآن :﴿ ق والقرآن المجيد ١ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ٢ أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ٣ ﴾( ق )
فاستبعدوا البعث بعد الموت، وتحلل الأجساد في التراب. وهذه القضية خاض فيها الفلاسفة بكلام طويل، وللرد عليهم نقول : أنتم في القوانين الوضعية تجعلون الثواب لمن أحسن، والعقوبة لمن قصر، وتجرمون بعض الأعمال بعينها، وتضعون لها العقوبة المناسبة، وفي القانون : لا عقوبة إلا بالتجريم، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإعلام.
ولم نر في القانون الوضعي جريمة تركت بلا عقوبة، فإذا كان البشر يضعون لمجتمعاتهم هذه القوانين التي تنظم حياتهم، أليس رب البشر أولى بقانون الثواب والعقاب ؟ وإذا كنت لا ترضى لنفسك أن يلفت المجرم من العقاب، فكيف ترضى ذلك لله ؟.
ثم ألا تعلم أن كثيرا من المجرمين يرتكبون جرائمهم في غفلة من القانون، أو يعمون على العدالة ويهربون من العقاب، ويفلتون من القوانين الوضعية في الدنيا، ولو تركنا هؤلاء بلا عقاب أيضا في الآخرة فهم إذن الفائزون، وسوف نشجع بذلك كل منحرف خارج عن القانون.
أما إن علم أن له ربا قيوما عليه، وإن عمى على قضاء الأرض فلن يعمى على قضاء السماء، وإن أفلت من عقاب الدنيا فلن يفلت أبدا من عقاب الآخرة- إن علم ذلك استقام.
لكن، ما وجه استبعادهم للبعث﴿ ذلك رجع بعيد٣ ﴾( ق ).
يقولون : هب إن إنسانا مات ودفن وتحلل جسده إلى عناصر امتصتها الأرض، ثم غرست شجرة في هذا المكان وتغذت على هذه العناصر، وأكل من ثمارها عدة أشخاص، وانتقلت جزئيات الميت إلى الثمار ثم إلى من أكل منها، فحين يبعث الخلق يوم القيامة فلأيهما تكون هذه الجزئيات : للأول أم للثاني ؟ إذا بعثتها للأول كانت نقصا في الثاني، وإن بعثتها للثاني كانت نقصا في الأول.
وهذا الكلام منهم على سبيل أن الشخص مادة فقط، لكن التشخيصات مادة و معنى. وهب أن شخصا بدينا يزن مثلا مائة كيلو أصابه مرض أهزله حتى قل وزنه إلى خمسين كيلو مثلا، ثم عولج وتحسنت صحته حتى عاد كحالته الأولى. فهل الجزئيات التي نقصت من وزنه هي نفسها التي دخلت فيه بالصحة والتغذية ؟ بالطبع لا، أتغيرت شخصيته بهذا النقص، أو بهذه الزيادة ؟ لا، بل هو هو.
إذن : للشخص جزئيات مختلفة التكوين، وله معنى وروح، ساعة تتجمع هذه الأشياء يأتي الشخص المراد.
لذلك يقول تعالى ردا على هؤلاء المتفلسفين :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ٤ ﴾( ق )
فلماذا تستبعدون الإعادة بعد الموت وقد أقررتم بالخلق الأول واعترفتم بأن الله هو الخالق، وأليست الإعادة من وجود أهون من الخلق بداية من العدم ؟ ثم إن الإعادة تحتاج إلى قدرة على الإبراز وإلى علم.
أما العلم، فالحق- تبارك وتعالى- يقول :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ٤ ﴾( ق ) يعني : يعلم وزنك، ويعلم جزئياتك، لا يغيب منها ذرة واحدة١.
أما القدرة، فقد آمنتم بها حين أقررتم بقدرته تعالى على الخلق من عدم، والإعادة أهون من الإنشاء الأول ﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه... ٢٧ ﴾( الروم ).
وإن كان الخالق –عز وجل- لا يقال في حقه هين وأهون، لكنها بعرفكم أنتم، وبما يقرب المسألة إلى أذهانكم.
وفي القدرة أيضا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ أفعيينا بالخلق الأول... ١٥ ﴾( ق )
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ومن يرزقكم من السماء والأرض... ٦٤ ﴾( النمل ).
الرزق : كل ما ينتفع به، وهو إما من السماء وإما من الأرض، وإما من التقائهما حين ينزل الماء من السماء، ويختلط بتربة الأرض فيخرج النبات.
﴿ أإله مع الله... ٦٤ ﴾( النمل ) يكرر نفس الاستفهام السابق لتأكيد أنه لا إله إلا الله يأتيكم بهذه النعم.
﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين٦٤ ﴾( النمل ) أي : هاتوا الدليل على وجود إله آخر يقول : أنا الذي بدأت الخلق، وأنا الذي أرزق من السماء والأرض، فإذا لم يأت من يقول هذا فقد ثبتت الدعوة لصاحبها حيث لم يقم معارض- ودعك من مسألة الإعادة هذه، يكفي أن يدعي الخلق ؛ لأن القادر على الخلق قادر على الإعادة، فلا يستحيل على الذي خلق من عدم أن يعيد من موجود.
لكن، ما مناسبة الكلام عن الرزق من السماء والأرض بعد مسألة الإعادة ؟ لا بد أن تكون هناك علاقة بينهما، فللرزق الذي يأتي عن طريق التقاء ماء السماء بتربة الأرض وهو النبات دورة مثل دورة الإنسان وإعادة كإعادته، حيث يتغذى الإنسان على نبات الأرض، ويأخذ منه حاجته من الطاقة والغذاء، وما تبقى منه يخرج على صورة فضلات تتحلل في الأرض، حتى ما تبقى منها في جسم الإنسان يتحلل بعد موته إلى عناصر الأرض.
فالوردة مثلا بعد نضارتها وطراوتها وجمالها حين تقطف تجف ويتبخر ماؤها، وكذلك اللون والرائحة في الأثير الجوي، وما تبقى منها من مادة جافة تتحلل في التربة، فإذا ما زرعنا وردة أخرى، فإنها تتغذى على ما في التربة من عناصر، وما في الأثير الجوي من لون ورائحة.
إذن : فعناصر التكوين في الكون لم تزد ولم تنقص منذ خلق الله الخلق، ولدورة النبات في الطبيعة بدء ونهاية وإعادة أشبه ما تكون بخلق الإنسان، ثم موته، ثم إعادته يوم القيامة.
وكأن الحق – تبارك وتعالى- يعطينا الدليل على الإعادة بما نراه من دورة النبات، دليلا بما نراه على الغيب الذي لا نراه.
١ قال ابن عباس: قوله تعالى:﴿قد علمنا ما تنقص الأرض منهم... ٤﴾(ق): ما تأكل الأرض من لحومهم وأشعارهم وعظامهم. وقال قتادة: يعني الموتى تأكلهم الأرض إذا ماتوا(الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ٧/٥٩٠)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ٦٥ ﴾
كما قال الحق سبحانه :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو... ٥٩ ﴾( الأنعام ).
والغيب : كل ما غاب عن إدراكك وحسك، لكن مرة يكون الغيب غيبا إضافيا يغيب عنك، ولا يغيب عن غيرك، فأنا لا أعرف مثلا ما في جيوبكم لكن أنتم تعرفون، والذي سرق منه شيء وأخفاه السارق، فالمسروق منه لا يعلم أين هو، لكن السارق يعلم.
وإما يكون الغيب غيبا مطلقا، وهو ما غاب عنا جميعا وهو قسمان : قسم يغيب عنا جميعا، لكن قد نكتشفه ككل الاكتشافات التي اهتدى إليها البشر. وهذه يكون لها مقدمات توصل إليها، وهذا غيب نصف إضافي ؛ لأنه غيب اليوم، لكن نراه مشهدا بعد ذلك، فلا يكون غيبا.
ومثال ذلك : تمرين الهندسة الذي نعطيه للأولاد بمقدمات ومعطيات، يعملون فيها عقولهم حتى يتوصلوا إلى الحل المطلوب، وهذا النوع يقول الله عنه :﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء... ٢٥٥ ﴾( البقرة )
فإذا شاء الله وجاء ميلاد هذا الغيب أطلعهم الله تعالى على المقدمات التي توصل إليه، إما بالبحث، وإما حتى مصادفة، وهذا يؤكده قوله تعالى :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ٥٣ ﴾( فصلت ).
ومن الغيب المطلق غيب حقيقي، لا يطلع عليه ولا يعلمه إلا الله فقد استقل سبحانه وتفرد بمعرفته. وهذا الغيب يقول تعالى عنه :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا٢٦ إلا من ارتضى من رسول... ٢٧ ﴾( الجن )
ومن هذا الغيب المطلق قضية القيامة﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله... ٦٥ ﴾( النمل ) فالقيامة لا يعلم وقتها إلا الله سبحانه، إلا أنه جعل لها مقدمات وعلامات تدل عليها وتنبئ بقربها.
قال عنها :﴿ أكاد أخفيها... ١٥ ﴾( طه ) البعض١ يظن أن ﴿ أخفيها... ١٥ ﴾( طه ) يعني : أداريها وأسترها، لكن المعنى ليس كذلك﴿ أخفيها... ١٥ ﴾( طه ) يعني : أزيل خفاءها٢، ففرق بين خفي الشيء وأخفاه : خفى الشي عني : ستره وداراه، أما أخفاه فيعني : أظهره، وهذه تسمى همزة الإزالة، مثل : أعجم الشيء يعني : أزال عجمته. ومنه المعجم الذي يوضح معاني المفردات.
وكما تكون الإزالة بالهمزة تكون بالتضعيف، نقول : مرض فلان يعني : أصابه المرض، ومرض فلانا يعني : عالجه وأزال مرضه، ومنه : قشر البرتقالة : يعني أزال قشرها.
فالمعنى﴿ أكاد أخفيها... ١٥ ﴾( طه ) أي : أكاد أظهرها، ألا ترى أن للساعة علامات كبرى وعلامات صغرى، نرى بعضها الآن، وتتكشف لنا مع الأيام علامة بعد أخرى.
لكن يظل للقيامة وقتها الذي لا يعلمه إلا الله ؛ لذلك يقول عنها :﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو... ١٨٧ ﴾( الأعراف )
والنبي صلى الله عليه وسلم يفتخر بأنه لا يعلم موعدها، فيقول حين سئل عنها : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " ٣.
فشرف لرسول الله ألا يعلم شيئا استأثر الله بعلمه، والقيامة غيب مطلق لم يعط الله مفاتحه لأحد حتى الرسل.
وقد يكرم الله تعالى بعض خلقه، ويطلعه على شيء من الغيب، ومن ذلك الغيبيات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون لها مقدمات توصل إليها، فلا بد أنها أتته في وحي القرآن، كما في قوله تعالى :﴿ آلم ١ غلبت الروم٢ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ٣ في بضع سنين... ٤ ﴾( الروم )
وكان الروم أقرب إلى الله ؛ لأنهم أهل كتاب، وكان الفرس كفارا يعبدون النار، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته يتمنون انتصار الروم على الفرس، فنزل الوحي على رسول الله يخبره﴿ غلبت الروم ٢ ﴾( الروم ) لكنهم في النهاية﴿ سيغلبون٣ ﴾( الروم ) ولولا أن الله تعالى حدد غلبهم ﴿ في بضع سنين... ٤ ﴾( الروم ) لكان انتصارهم دائما، لكن من يستطيع تحديد مصير معركة بين قوتين عظميين بعد بضع سنين إلا الله ؟.
ولأن انتصار الروم يفرح المؤمنين بالله، قال سبحانه :﴿ ويومئذ يفرح المؤمنون ٤ بنصر الله... ٥ ﴾( الروم )
وتشاء قدرة الله أن يأتي انتصار الروم على الفرس في نفس اليوم الذي انتصر فيه المؤمنون على الكافرين في بدر٤.
ومن الغيب الذي يفيض الله به على عبد من عباده ما حدث من الصديق أبي بكر- رضي الله عنه- وقد أعطى ابنته عائشة- رضي الله عنها- مالا، فلما حضرته الوفاة قال لها : هاتي ما عندك من المال، إنما هما أخواك وأختاك : أخواك هما محمد وعبد الرحمن، وأختاك : لا نعلم أن لعائشة أختا غير أسماء، فمن هي الأخرى ٥ ؟
كان الصديق قد تزوج من ابنة خالته ٦ وكانت حاملا، لكن الحق –تبارك وتعالى- تجلى عليه وألهمه أنها ستنجب بنتا تنضم إلى عائشة وأسماء٧.
وقوله تعالى :﴿ وما يشعرون أيان يبعثون٦٥ ﴾( النمل ) أي : كما أننا لا نشعر بالموت ولا نعرف ميعاده، كذلك لا نشعر بالبعث، ولا متى سنبعث.
١ قاله ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي حاتم وأورده السيوطي في الدر المنثور (٥/٥٦٣)قال: لا أظهر عليها أحدا غيري..
٢ أخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ورقاء قال: أقرأنيها سعيد بن جبير (أكاد أخفيها) (بفتح الألف). يقول: أظهرها.(الدر المنثور للسيوطي ٥/٥٦٣)..
٣ حديث متفق عليه. أخرجه مسلم في صحيحه(٨)، وكذا البخاري في صحيحه(٥٠) من حديث عمر بن الخطاب أن جبريل عليه السلام جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة رجل يسأله، ومما سأله قال:" أخبرني عن الساعة.. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم"..
٤ عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب المؤمنون بظهور الروم على فارس. أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص١٩٧..
٥ هي: أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق التيمية، تابعية، أمها حبيبة بنت خارجة وضعتها بعد موت أبي بكر، روى عنها جابر بن عبد الله الأنصاري.(الإصابة ٨/٢٧٦)..
٦ هي: حبيبة بنت خارجة بن زيد الخزرجية، زوج أبي بكر الصديق ووالدة أم كلثوم ابنته التي مات أبو بكر وهي حامل بها فقال: ذو بطن بنت خارجة ما أظنها إلا أنثى فكان كذلك. تزوجت إساف بن عتبة بن عمرو بعد وفاة أبي بكر. انظر الإصابة في تمييز الصحابة(٨/٤٨)..
٧ تزوج أبو بكر الصديق عدة نساء:
أم رومان بنت عامر بن عويمر الكناية، وأنجب منها: عائشة، عبد الرحمن، اسمها زينب بنت عبيد: كانت زوجة للحارث بن سخبرة أو لعبد الله بن الحارث وولدت له الطفيل ثم مات عنها وتزوجها حليفه أبو بكر الصديق. ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (الإصابة٨/٢٣٢)
حبيبة بنت خارجة، وأنجب منها: أم كلثوم، وتزوجت بعده.
قتيلة بنت عبد العزي قرشية من بني عامر بن لؤي، وهي والدة أسماء، وعبد الله. قال ابن حجر العسقلاني في الإصابة (٨/١٦٩):"إن كانت عاشت إلى الفتح فالظاهر أنها أسلمت"..

ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ٦٦ ﴾
معنى﴿ ادارك... ٦٦ ﴾( النمل ) أي : تدارك، يعني : توالى وتتابع الحديث عنها عند كل الرسل، ومنه قوله تعالى :﴿ حتى إذا اداركوا فيها... ٣٨ ﴾( الأعراف ) يعني : جمع بعضهم على بعض.
إذن : تتابع الإعلام بالآخرة عند كل رسل الله، فما منهم إلا وقد دعا إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، وأتى بالدليل عليه.
ومع متابعة التذكير بالآخرة قال الله عنهم ﴿ بل هم في شك منها... ٦٦ ﴾( النمل ) أي : من الآخرة، فلماذا ؟ يقول تعالى :﴿ بل هم منها عمون ٦٦ ﴾( النمل ) أي : عميت أبصارهم وبصائرهم عنها، فلم يهتدوا، ولو تفتحت عيونهم وقلوبهم آمنوا بها.
يقول تعالى :﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور٤٦ ﴾( الحج )
إذن : هناك شيء موجود بالفعل، لكني أغفلته، أو تغافلت عنه بإرادتي، فآيات البعث والقيامة موجودة ومتداركة، لكن الناس عموا عنها فلم يروها.
ومعنى﴿ عمون٦٦ ﴾( النمل ) جمع عم، وهو الذي عميت بصيرته عن دلائل القيامة الواضحة.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ٦٧ ﴾ :
يريدون أن يستدلوا بعدم بعث الآباء على عدم بعثهم، لكن من قال لهم : إن الآخرة ستأتي مع الدنيا، وما سميت الآخرة إلا لأنها تأتي آخرا بعد انقضاء الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ٦٨ ﴾
أي : من لدن آدم- عليه السلام- والناس يموتون والأنبياء تذكر بهذا اليوم الآخر، لكنه لم يحدث ﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين٦٨ ﴾( النمل ) أي : كذب وافتراء ونسج خيال كما في أساطير السابقين، لكن ما الدافع لهم لأن يتهموا الرسل في بلاغهم عن الله هذا الاتهام ؟.
قالوا : لأن نفس المرء عزيزة عليه، وكل مسرف على نفسه في المعاصي يريد أن يؤمن نفسه، وأن يريحها، وليس له راحة إلا أن يقول هذا الكلام كذب، أو يتمنى أن يكون كذبا، ولو اعترف بالقيامة وبالبعث والحساب فمصيبته عظيمة، فليس في جعبته إلا كفر بالله وعصيان لأوامره، فكيف إذن يعترف بالبعث ؟ فطبيعي أن يؤنس نفسه بتكذيب ما أخبر به الرسول.
لذلك نجد من هؤلاء من يقول في القدر : إذا كان الله قد كتب علي المعصية، فلماذا يعذبني بها ؟ والمنطق يقتضي أن يكملوا الصورة فيقولون : وإذا كتب على الطاعة، فلماذا يثيبني عليها ؟ فلماذا ذكرتم الشر وأغفلتم الخير ؟.
إذن : هؤلاء يريدون المنفذ الذي ينجون منه ويهربون به من عاقبة أعمالهم.
يدعوهم الله تعالى إلى السير في مناكب الأرض للنظر وللتأمل لا فيمن بعث، لأن البعث لم يأت بعد، ولكن للنظر في عاقبة الجرمين الذين كذبوا رسلهم فيما أتوا به، وكيف أن الله هزمهم ودحرهم وكتب النصر للرسل.
والبعث مما جاء به الرسل، فمن كذب الرسل كذب بالبعث مع أنه واقع لا شك فيه، لكن الحق- تبارك وتعالى- يخفيه لوقته، كما قال سبحانه :﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو... ١٨٧ ﴾( الأعراف ).
ثم يسلى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليخفف عنه ألم ما يلاقى في سبيل الدعوة، فيقول تعالى :
﴿ ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون ٧٠ ﴾ :
وقد خاطب الحق سبحانه رسوله بقوله :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ٦ ﴾( الكهف )
والمعنى : مهلك نفسك من الحزن، والبخع كما قلنا : المبالغة في الذبح بحيث توصله إلى البخاع١. والحق –تبارك وتعالى- يوضح أن مهمة الرسول البلاغ عن الله فقط، ولا عليه آمن من آمن، أو كفر من كفر، إنما حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وحرصه على نجاتها جعلاه يحزن ويألم إن شرد منه واحد من أمته، ألم يقل عنه ربه :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم١٢٨ ﴾( التوبة )
١ قال الزمخشري: هو من بخع الذبيحة إذا بالغ في ذبحها وهو أن يقطع عظم رقبتها ويبلغ بالذبح البخاع، بالباء، وهو العرق الذي في الصلب، والنخع، بالنون، دون ذلك، وهو أن يبلغ بالذبيحة النخاع، وهو الخيط الأبيض الذي يجري في الرقبة. قال ابن الأثير: هكذا ذكره الزمخشري في الكشاف وفي كتاب الفائق في غريب الحديث ولم أجده لغيره. (لسان العرب- مادة: بخع)..
ثم يقول الحق سبحانه عنهم :
﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ٧١ ﴾يقول المكذبون بالبعث ﴿ متى هذا الوعد... ٧١ ﴾( النمل ) أي : بالبعث﴿ إن كنتم صادقين٧١ ﴾( النمل ) في أن هناك بعثا.
وسموا إخبار الله لهم بالبعث وعدا، مع أنه في حقهم وعيد، وفرق بين وعد وأوعد : وعد للخير وأوعد للشر، لكن الله تعالى يطمس على ألسنتهم، وهم أهل الفصاحة فيقولون ﴿ متى هذا الوعد... ٧١ ﴾( النمل ) وهو بالنسبة لهم وعيد، لأن إيعاد المخالف لك بشر وعد لك بخير.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يقول : لقد وعدنا لأمرين : وعدنا رسلنا بالتأييد والنصرة، ووعدنا العالم كله بالبعث، فإذا كنا صادقين في الأولى وهي مشاهدة لكم ومحسة فخذوها مقدمة ودليلا على صدقنا في الأخرى، وقد عاينتم أن جميع الرسل انتصروا على مكذبيهم، إما بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب الهزيمة والانكسار.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون٧٢ ﴾ :
كلمة ﴿ عسى... ٧٢ ﴾( النمل ) تفيد الرجاء، لكنها من الله تفيد التحقيق، فلو قلت مثلا : عسى أن يعطيك فلان، لكان الرجاء ضعيفا، وأقوى منه لو قلت : عسى أن أعطيك لأني لا أملك فلانا، لكن أملك نفسي، وأقوى من ذلك أن أقول : عسى أن يعطيك الله لأن أسبابي أنا قد لا تمكني من الوفاء، أما إن قال الله تعالى عسى، فهي قمة التأكيد والتحقيق في الرجاء، وهي أعلى مراتبه وأبلغها.
ومعنى﴿ ردف لكم... ٧٢ ﴾( النمل ) أي : تبعكم وجاء بعدكم من أردفه إذا أركبه خلفه على الدابة، فهو خلفه مباشرة، وفعلا أصابهم ما يستعجلون، فلم يمر طويلا حتى حاقت بهم الهزيمة في بدر١، فصدقنا في الأولى حين قلنا :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾( القمر ) وقد عاينتم ذلك، فخذوه دليلا على الغيب الذي أخبرناكم به.
١ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥١١٤):"﴿بعض الذي تستعجلون٧٢﴾(النمل)، من العذاب، فكان ذلك يوم بدر، وقيل: عذاب القبر"..
ثم يقول رب العزة سبحانه :
﴿ وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ٧٣ ﴾
فمن فضله تعالى عليكم أن يؤخر القيامة لعل الناس يرعوون، وإلا لفاجأتهم من أول تكذيب، وهذا يبين أن الله تعالى يمهل الخلق ليزداد فيهم أهل الهدى والإيمان، ألا ترى أن المؤمنين برسول الله لم يأتوا جميعا مرة واحدة في وقت واحد، إنما على فترات زمنية واسعة.
لذلك قلنا : إن المسلمين الأوائل كانوا في معاركهم مع الكفر يألمون إن فاتهم قتل واحد من رؤوس الكفر وقادته مثل عكرمة وعمرو وخالد وغيرهم، ولو أطلعهم الله على الغيب لعلموا أن الله تعالى نجاهم من أيديهم ليدخرهم فيما بعد لنصرة الإسلام، وليكونوا قادة من قادته، وسيوفا من سيوفه المشهرة في وجوه الكافرين.
وقوله تعالى :﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون٧٣ ﴾( النمل ) دليل على أن البعض منهم يشكر.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ٧٤ ﴾ :
ولك أن تقول في هذه الآية : إذا كان الله تعالى يعلم ما تكن صدورهم وما تخفيه، فمن باب أولى يعلم ما يعلنون، فلماذا قال بعدها :﴿ وما يعلنون ٧٤ ﴾( النمل ) ؟.
نقول : لأن ما في الصدور غيب والله غيب، وقد يقول القائل : ما دام أن الله غيب فلا يعلم الغيب إلا الله. فنرد عليه بأن الله تعالى يعلم الغيب ويعلم العلن.
معنى﴿ غائبة... ٧٥ ﴾( النمل ) يعني : الشيء الغائب، ولحقت به التاء الدالة على المبالغة، كما نقول في المبالغة : راو وراوية، ونساب ونسابة، وعالم وعلامة، كذلك غائب وغائبة، مبالغة في خفائها.
و( من ) هنا يرى البعض أنها زائدة، لكن كلمة زائدة لا تليق بأسلوب القرآن الكريم وفصاحته، وننزه كلام الله عن الحشو واللغو الذي لا معنى له، والبعض تأدب مع القرآن فقال ( من ) هنا صلة، لكن صلة لأي شيء ؟.
إذن لا بد أن لها معنى لكي نوضحه نقول : إذا أردت أن تنفي وجود مال معك تقول : ما عندي مال، وهذا يعني أنه لا مال معك يعتد به، ولا يمنع أن يكون معك مثلا عدة قروش لا يقال لها مال، فإن أردت نفي المال على سبيل تأصيل العموم في النفس تقول : ما عندي من مال، يعني بداية مما يقال له مال مهما صغر، فمن هنا إذن ليست زائدة ولا صلة، إنما هي للغاية وتأصيل العموم في النفي.
فالمعنى﴿ وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين٧٥ ﴾( النمل ) أن الله تعالى يحيط علمه أزلا بكل شيء، مهما كان صغيرا لا يعتد به، واقرأ قوله تعالى :
﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ٥٩ ﴾( الأنعام ).
كما أن قدرته تعالى لا تقف عند حد العلم إنما ويسجله﴿ إلا في كتاب مبين ٧٥ ﴾( النمل ) أي في أم الكتاب الذي سجل الله فيه كل أحداث الكون، فإذا ما جاءت الأحداث نراها موافقة لما سجله الله عنها أزلا، فمثلا لما ذكر الحق- تبارك وتعالى- وسائل النقل والمواصلات في زمن نزول القرآن قال :﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ٨ ﴾( النحل ).
فلولا تذييل الآية بقوله تعالى :﴿ ويخلق ما لا تعلمون ٨ ﴾( النحل ) لكان فيها مأخذ على القرآن، وإلا فأين السيارة والطائرة والصاروخ في وسائل المواصلات ؟.
إذن : نستطيع الآن أن ندخل كل الوسائل الحديثة تحت﴿ ويخلق ما لا تعلمون ٨ ﴾( النحل ).
وسبق أن قلنا : إن من عظمة الحق- سبحانه وتعالى- ألا يعلم بشيء لا اختيار للعبد فيه، إنما بما فيه اختيار ويفضحه باختياره، كما حدث في مسألة تحويل القبلة :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها... ١٤٢ ﴾( البقرة ).
فيعلنها الله تعالى صراحة، ويسميهم سفهاء ؛ لأنهم يعادون الله ويعادون رسول الله، وبعد هذه الخصومة وهذا التجريح قالوا فعلا ما حكاه القرآن عنهم.
ولم نر منهم عاقلا يتأمل هذه الآية، ويقول : ما دام أن القرآن حكى عنا هذا فلن نقوله، وفي هذه الحالة يجوز لهم أن يتهموا القرآن وينالوا من صدقه ومن مكانة رسول الله، لكن لم يحدث وقالوا فعلا بعد نزول الآية :﴿ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها... ١٤٢ ﴾( البقرة ) يعني : تركوا التوجه إلى بيت المقدس وتوجهوا إلى مكة، قالوه مع ما لهم من عقل واختيار.
وهذه المسألة حدثت أيضا في شأن أبي لهب لما قال الله عنه :
﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ١ ما أغنى عنه ماله وما كسب ٢ سيصلى نارا ذات لهب ٣ ﴾( المسد )
لأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمعهم ليبلغهم دعوة الله، فقال له : تبا لك ألهذا جمعتنا١. وأبو لهب عم رسول الله، كحمزة والعباس ولم يكن رسول الله يدري مستقبل عمه، فلعله يؤمن كما آمن حمزة وصار أسد رسول الله، وكما آمن العباس بن عبد المطلب.
فلما نزلت﴿ تبت يدا... ١ ﴾( المسد ) كان بإمكانه أن يكذبها وأن يؤمن فينطق بالشهادتين ولو نفاقا، فله على ذلك قدرة، وله فيه اختيار، لكنه لم يفعل.
إذن : من عظمة كلام الله ومن وجوه الإعجاز فيه أن يحكم حكما على مختار كافر به، وهو قرآن يتلى علانية على رؤوس الأشهاد، ومع ذلك لا يستطيع التصدي له، ويبقى القرآن حجة الله على كل كافر ومعاند.
ولما نتأمل قوله تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ٩ ﴾( الحجر ) نرى أن الحق سبحانه أنزل القرآن وتولى حفظه بنفسه –سبحانه وتعالى- ولم يوكله إلى أحد، مع أن في القرآن أشياء وأحداثا لم توجد بعد، فكأن الله تعالى يحفظها على نفسه ويسجلها ويعلنها، لماذا ؟ لأنها ستحدث لا محالة.
فالحق سبحانه لا يخشى واقع الأشياء ألا تطاوعه ؛ لأنه مالكها، ألا ترى أن الإنسان يحفظ( الكمبيالة ) التي له، ولا يهتم بالتي عليه ؟ أما ربنا عز وجل فيحفظ لنا الأشياء وهي عليه سبحانه وتعالى.
واقرأ إن شئت :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾( القمر ) فالله يسجلها على نفسه ويحفظها ؛ لأنه القادر على الإنفاد، وفعلا هزم الجمع وولوا الأدبار وصدق الله.
١ عن ابن عباس قال: لما نزلت﴿وأنذر عشيرتك الأقربين ٢١٤﴾(الشعراء) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا (جبل بمكة) فاجتمعوا إليه، قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا؟ فنزلت هذه السورة ﴿تبت يدا أبي لهب وتب١﴾(المسد) " أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٢/١٨١) وأحمد في مسنده (١/٣٠٧) ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان (حديث ٣٥٥)، والبخاري في صحيحه أيضا (٨/٧٣٦- فتح الباري)..
فرق بين أن تخاطب خالي الذهن، وأن تخاطب من لديه فكرة مسبقة، فخالي الذهن يقبل منك، أما صاحب الفكرة المسبقة فيعارضك، كذلك جاء من الكفار ومن أهل الكتاب من يعارض كتاب الله وينكر ما جاء به، ومع أنهم أعداء الإسلام وكارهون له لكن إن سألتهم عما أخبر به القرآن يقولون : نعم نعرف هذا من كتبنا ﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ٨٩ ﴾( البقرة ).
لذلك سيدنا عبد الله بن سلام١ عندما نظر إلى رسول الله علم أنه الرسول الحق، فمالت نفسه إلى الإسلام وقال : والله إني لأعرف محمدا كمعرفتي بابني، ومعرفتي بمحمد أشد، وصدق الله حين قال عنهم :﴿ يعفرونه كما يعرفون أبناءهم... ١٤٦ ﴾( البقرة ).
علم عبد الله أن الإسلام هو الطريق الذي يوصله إلى الله والذي ينبغي لكل عاقل أن يتبعه، فلما أراد أن يسلم أحب أن يكسب الجولة بإعلان إسلامه وفضيحة المنافقين والكفار وأهل الكتاب، فقال : يا رسول الله لقد استشرفت نفسي للإسلام، وأخاف إن أسلمت أن يذمني اليهود ويفعلوا بي كذا وكذا. فاسألهم عني قبل أن أسلم، فسألهم رسول الله فقالوا : هو حبرنا وابن حبرنا... وكالو له الثناء والمديح، عندما قال عبد الله : أما وقد قلتم ما قلتم، فأشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا : بل هو شرنا وابن شرنا. وكالوا له عبارات السب والشتم٢.
١ هو أبو يوسف عبد الله بن سلام بن الحارث من ذرية يوسف النبي عليه السلام، كان من بني قينقاع، كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، أسلم أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقيل: تأخر إسلامه إلى سنة ثمان. كان أعلم بني إسرائيل ومن سادتهم. توفي بالمدينة عام ٤٣ للهجرة. (الإصابة في تمييز الصحابة ٤/٨١)..
٢ أخرجه البخاري في صحيحه(٨/١٦٥- فتح الباري) والبيهقي في دلائل النبوة (٢/٥٢٧-٥٢٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وفي بعض ألفاظ الحديث أنهم قالوا أولا: "ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا" وفي لفظ آخر:" خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا"..
ثم يصف الحق سبحانه القرآن فيقول :
﴿ وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين ٧٧ ﴾ :
معنى﴿ لهدى... ﴾( النمل ) أي : هداية دلالة وإرشاد، وهذه للؤمن وللكافر﴿ ورحمة ٧٧ ﴾( النمل ) للمؤمنين فقط، كما قال سبحانه :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين... ٨٢ ﴾( الإسراء ) وفرق بين الشفاء والرحمة ؛ لأن العطف هنا يقتضي المغايرة. الشفاء : من الداء الذي جاء القرآن ليعالجه، والرحمة ألا يعاودك هذا الداء مرة أخرى.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ٧٨ ﴾ :
قوله تعالى﴿ العزيز... ٧٨ ﴾( النمل ) أي : الذي يقهر ولا يقهر، ويغلب ولا يغلب، ولا يجار عليه، وهو مع ذلك في عزته ﴿ العليم ٧٨ ﴾( النمل ) فقد يكون عزيزا لا يغلب، لكن لا علم عنده، فالحق سبحانه عزيز عليم يضع العزة في مكانها، ويضع الذلة في مكانها.
كما قال سبحانه :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير... ٢٦ ﴾( آل عمران ).
وقد وقف العلماء عند قوله تعالى عن نفسه :﴿ بيدك الخير.. ٢٦ ﴾( آ عمران ) فاجتهد بعضهم فقال : التقدير : بيدك الخير والشر، وهذا التقدير يدل على عدم فهم لمعنى الآية فما عند الله خير في كل الأحوال ؛ لأن إيتاء الملك لمن ينصف في الرعية خير، ونزع الملك ممن يطغى به ويظلم خير أيضا ؛ لأن الله سلب منه أداة الطغيان حتى لا يتمادى، ففي كل خير.
وما دام من صفاته تعالى أنه عزيز عليم رحيم ذو فضل، فاطمئن أيها المؤمن بالله، وتوكل على الله.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فتوكل على الله إنك على الحق المبين ٧٩ ﴾ :
والتوكل : أن تستضعف نفسك في شيء تحاول أن تقضيه بقوة فلا تجدها عندك، والتوكل الحق لا يكون إلا على الله الحي الذي لا يموت، أما إن توكلت على بشر مثلك فقد يفاجئه الموت قبل أن يقضي لك حاجتك.
وقال﴿ إنك على الحق المبين ٧٩ ﴾( النمل ) أي : أنك تتوكل على الله وأنت على الحق وعلى الطاعة له عز وجل، لا على معصيته، وما دمت تتوكل على الله وأنت على حال الطاعة فلا بد أن يكون نصيرك ومعينك.
ثم يسلي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم كي لا يألم على من شردوا منه فلم يؤمنوا :
﴿ إنك لا تسمع الموتى ١ ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ٨٠ ﴾ :
والمعنى : لا تحزن يا محمد، ولا تهلك نفسك على هؤلاء الذين لم يؤمنوا من قومك، فما عليك إلا البلاغ. والبلاغ كلام له أداة استقبال في السامع هي الأذن، فإذا تعطلت هذه الأداة لن يسمعوا، وهؤلاء القوم تعطلت عندهم أداة السمع، فهم كالموتى والذين أصابهم الصمم، فآيات الله الكونية كثيرة من حولهم، لكن لا يرون ولا يسمعون.
وليت الأمر يقف بهم عند حد الصمم، إنما يولون مدبرين من سماع الدعوة، وهذه مبالغة منهم في الانصراف عن دعوة الحق ؛ لأنهم إن جلسوا فلن يسمعوا، فما بالك إذا ولوا مدبرين يجرون بعيدا، وكأن الواحد منهم يخاف أن يزول عنه الصمم وتلتقط أذنه نداء الله، فيستميله النداء، وعندها تكون مصيبته كبيرة- على حد زعمهم.
وهذا دليل على أنهم يعلمون أنه الحق، وأنهم لو صغوا إليه لاتبعوه، ألم يقولوا :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه... ٢٦ ﴾( فصلت ).
ذلك لأن للقرآن جلالا وجمالا يأسر الألباب ؛ لذلك نهوا عن سماعه، ودعوا إلى التشويش عليه، حتى لا ينفذ إلى القلوب.
١ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥١١٧): "قد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور، وبما روى في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه إلى غير ذلك، فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه" وقال أيضا في التذكرة له(ص١٦٤):" لا تعارض بينهما لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما أو في حال ما، فإن تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وجد المخصص، وقد وجد هنا ". أو أن المراد نفى الإسماع النافع لهم..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ٨١ ﴾
فرق بين سماع قالة الحق أو قضية الصدق، وأنت خالي الذهن، وبين أن تسمعها وأنت مشغول بنقيضها، فلكي يثمر السماع ينبغي أن تستقبل الدعوة بذهن خال ثم تبحث بعقلك الدعوة وما يناقضها، فما انجذبت إليه واطمأنت إليه نفسك فأدخله.
وهذه يسمونها – حتى في الماديات- نظرية الحيز أي : أن الحيز الواحد لا يتسع لشيئين في الوقت نفسه. وسبق أن مثلنا لذلك بالقارورة حين تملؤها بالماء لا بد أن يخرج منها الهواء أولا على شكل فقاعات ؛ لأن الماء أكثف من الهواء.
ومعنى :﴿ إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون٨١ ﴾( النمل ) ولقائل أن يقول : ما دام تسمع من يؤمن بآياتنا، فما فائدة السماع وهو مؤمن ؟ نقول : الآيات ثلاثة، مترتبة بعضها على بعض، فأولها : الآيات الكونية العقدية التي تشاهدها في الكون وتستدل بها على وجود إله خالق قادر فتسأل : من هذا الإله الخالق فيأتي دور الرسول الذي يبين لك ويحل لك هذا اللغز، ولا بد به من آيات تدل على صدقه في البلاغ عن الله هي المعجزة، فإن غفلنا عن الآيات الكونية ذكرنا بها الرسول، فقال : ومن آياته كذا وكذا.
فإذا آمنت بالآيات الكونية وبآيات المعجزات، فعليك أن تؤمن بآيات الأحكام التي جاءت بها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ٨٢ ﴾ :
كلمة﴿ وقع القول عليهم... ٨٢ ﴾( النمل ) أي : سقط كأنه وبطبيعته يسقط لا يحتاج لمن يجبره على السقوط، والسقوط ﴿ عليهم... ٨٢ ﴾( النمل ) كما في قوله تعالى﴿ فخر عليهم السقف من فوقهم... ٢٦ ﴾( النحل )
والوقوع هنا يدل على أنهم سيتعرضون لشدائد ومتاعب، وبتتبع هذه المادة( وقع ) في القرآن نجد أنها جاءت كلها في الشدائد إلا في موضع واحد١ هو قوله تعالى :﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله... ١٠٠ ﴾( النساء )
وما داموا لم يسمعوا للآيات، ولم يقبلوها، ولم يلتفتوا إلى منهج الله وصموا عنه آذانهم، فلم يسمعوا كلام أمثالهم من البشر فسوف نخرج لهم دابة تكلمهم.
﴿ أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم... ٨٢ ﴾( النمل ) وانظر إلى هذه الإهانة وهذا التوبيخ : أنتم لم تسمعوا كلام أمثالكم من البشر، ولم تفهموا من يخاطبكم بلغتكم، فاسمعوا الآن من الأدنى، وافهموا عنها، وفسروا قولها.
لكن ماذا ستقول الدابة لهم ؟ وما نوع كلامها ؟ :﴿ أن الناس كانوا بآيتنا لا يوقنون ٨٢ ﴾( النمل ) أي : بآياتنا السابقة لا يؤمنون، وها أنا ذا أكلمهم، وعلى الماهر فيهم أن يقول لي : كيف أكلمه.
وقد اختلف الناس في هذه الدابة ٢، وفي شكلها وأوصافها، وكيف يأتي القول من غير مألوف القول وهو الدابة ؟ لكن ما دام أن الله تعالى أخبر بها فهي حق، لا ينبغي معارضته، وعلينا أن نأخذ وقوع ما حدث به القرآن قبل أن يكون دليلا على صدقه فيما يحدث به فيما يكون.
١ وردت لفظة(وقع) في القرآن ٧مرات:
٥منها، بمعنى وقوع العذاب والشدة ونزولها: (الأعراف: ٧١، ١٣٤)،(يونس ٥١)،(النمل: ٨٢، ٨٥).
موضعان: أحدهما، ما ذكره فضيلة الشيخ. (النساء ١٠٠). والثاني، قوله تعالى:﴿فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ١١٨﴾(الأعراف)، أي: ثبت الحق..

٢ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥١١٩):"اختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا.
الأول: أنه فصيل ناقة صالح، وهو أصحها والله أعلم، لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة.
الثاني: روى أنها دابة مزغبة شعراء، ذات قوائم طولها ستون ذراعا.
الثالث: يقال إنها الجساسة، وهو قول عبد الله بن عمر.
الرابع: وروى عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين، وهي في السحاب وقوائمها في الأرض.
الخامس: وروى أنها جمعت من خلق كل حيوان.
قال القرطبي: قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه" أي: أنها فصيل ناقة صالح..

﴿ ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهو يوزعون ٨٣ ﴾ :
الفوج : هم الجماعة والزمرة من الناس. وأول من يجمع في هذا الموقف هم العتاة والجبابرة الذين تولوا تكذيب آيات الله، يحشرهم الله أولا أمام العامة يتقدمونهم ويسبقونهم إلى النار، كما قال سبحانه عن فرعون :﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار... ٩٨ ﴾( هود )
فكما تقدمهم في الضلال في الدنيا يتقدمهم إلى النار في الآخرة، وحين يرى الضالون إمامهم في الضلال يقدمهم ينقطع أملهم في النجاة، فربما تعلقوا به في هذا الموقف ينتظرونه أن يخلصهم، لكن كيف وهو يسبقهم إلى هذا المصير ؟.
ومعنى﴿ فهم يوزعون ٨٣ ﴾( النمل ) قلنا في معنى﴿ يوزعون ٨٣ ﴾( النمل ) أي : يمنعون، والمراد يمنعون أن يسبق أولهم آخرهم١ بحيث يدخلون جميعا، فالحق- تبارك وتعالى- يجمع أولهم على آخرهم ( ليشرفوا ) سويا في النار : التابع والمتبوع كلهم سواء في الذلة والمهانة، فربما حاول أحد العتاة أو الجبابرة أن يسبق حتى لا يراه تابعوه، فيفتضح أمره، فيؤخره الله ليفضحه على رؤوس الأشهاد.
١ هذا قول قتادة فيما نقله القرطبي في تفسيره(٧/٥١٢٣) وقول مجاهد فيما أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٣٨٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وهناك قول آخر: أي يساقون. قاله ابن زيد. وقال القرطبي: أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب..
في سورة الأعراف يورد الحق- تبارك وتعالى – مذكرة تفصيلية لهذا الموقف، ولهذا الحوار الذي يدور في عرصات القيامة، فيقول تعالى :
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ٣٧ قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون٣٨ وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون٣٩ ﴾( الأعراف ).
قوله﴿ ووقع... ٨٥ ﴾( النمل ) أي : وجب لهم العذاب ﴿ بما ظلموا... ٨٥ ﴾( النمل ) وكأنه شيء محسوس يسقط على رؤوسهم ﴿ فهم لا ينطقون ٨٥ ﴾( النمل ) فقد خرست ألسنتهم من هول ما رأوا، فلا يجدون كلاما ينطقون به.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ٨٦ ﴾
ينتقل السياق من الكلام عن الآخرة إلى آية كونية، وهذه سمة من سمات أسلوب القرآن الكريم، حيث يراوح بين الدعوة إلى الإيمان وبين بيان الآيات الكونية، فبعد أن حدثنا عن الآخرة ذكر هذه الآية الكونية، وكأنه يقول : لا عذر لمن يكذب بآيات الله ؛ لأن الآيات موجودة مشاهدة.
لذلك قال :﴿ ألم يروا.. ٨٦ ﴾( النمل ) أي : ألم يعلموا ويشاهدوا ﴿ أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه... ٨٦ ﴾( النمل ) أي : للنوم وللراحة ﴿ والنهار مبصرا.... ٨٦ ﴾( النمل ) أي : بما فيه من الأشعة والضوء الذي يسبب الرؤيا.
وسبق أن بينا دور العالم المسلم ابن الهيثم في تصحيح نظرية رؤية الأشياء، وكانوا يعتقدون أن الشيء يرى إذا خرج الشعاع من العين إليه، والصحيح أن الشعاع يخرج من الشيء المرئي إلى العين، فكأن الشعاع هو الذي يبصر، فهو سبب الرؤيا، ولولاه لا نرى الأشياء.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ٨٦ ﴾( النمل ) فربك- عز وجل- نظم لك حركة حياتك بليل تسكن فيه، وتخلد للراحة ونهار تسعى فيه وتبتغي من فضل الله كما قال تعالى :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون٧٣ ﴾( القصص ).
ولن تستقيم لنا حركة الحياة إلا إذا سرنا على هذا النظام الذي ارتضاه الله لنا، فإن قلب الناس هذه الطبيعة فسهروا حتى الفجر، فلا بد أن يلاقوا عاقبة هذه المخالفة في حركة حياتكم : تكاسلا وتراخيا وقلة في الإنتاج... إلخ.
والحق- تبارك وتعالى- يشرح لنا هذه القضية في موضع آخر :
﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا١ إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ٧١ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون٧٢ ﴾( القصص ).
ففي الكلام عن الليل قال :﴿ أفلا تسمعون ٧١ ﴾( القصص ) وعن النهار قال :﴿ أفلا تبصرون ٧٢ ﴾( القصص ) لماذا ؟ قالوا : لأن حاسة الإدراك في الليل هو السمع، وفي النهار البصر، وفي هذا إشارة إلى طبيعة كل منهما حتى لا نغيرها نحن، فنسهر الليل، وننام النهار.
وفي قوله تعالى﴿ ومن رحمته جعل لكم الليلة والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله... ٧٣ ﴾( القصص ) ما يسميه العلماء باللف والنشر٢، أي : لف المحكوم عليه هو الليل والنهار معا، ثم نشر حكم كل منهما على وجه الترتيب : لتسكنوا فيه وهي تقابل الليل، ولتبتغوا من فضله، وهي تقابل النهار.
إذن : بعد أن استدل الحق- تبارك وتعالى- بالموجود فعلا من آيتي الليل والنهار أراد أن يستدل بعدهما في﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا... ٧١ ﴾( القصص ) و﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا... ٧٢ ﴾( القصص ).
١ السرمد: الزمن الطويل أو الدائم.(القاموس القويم ١/٣١٢)..
٢ اللف والنشر: هو أن يذكر شيئان أو أشياء، إما تفصيلا بالنص على كل واحد أو إجمالا، بأن يؤتي بلفظ يشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد يرجع إلى واحد من المتقدم، ويفوض إلى عقل السامع رد كل واحد إلى ما يليق به، ومثل الإجمالي قوله تعالى:﴿وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى... ١١١﴾(البقرة) أي: وقالت اليهود: لن يدخل إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى.(راجع تفصيل هذا في البرهان في علوم القرآن للسيوطي ٣/٢٨٠)..
ثم يعود السياق مرة أخرى إلى الحديث عن القيامة :
﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء١ الله وكل أتوه داخرين ٨٧ ﴾ :
وكأن الله تعالى يقول لي : التفت إلى العبرة في الآيات الكونية، حيث ستنفعك في يوم آت هو يوم القيامة ﴿ يوم ينفخ في الصور... ٨٧ ﴾( النمل ) وهو البوق﴿ ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله... ٨٧ ﴾( النمل ) والفزع : الخوف الشديد الذي يأخذ كل من في السماوات، وكل من في الأرض ﴿ إلا من شاء الله... ٨٧ ﴾( النمل ) قالوا : هم الملائكة : إسرافيل الذي ينفخ في الصور، وجبريل، وميكائيل، وعزرائيل٢.
لذلك لما تكلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة الصعق هذه قال : " فأفيق من الصعقة فأجد أخي موسى ماسكا بالعرش " ٣ ذلك لأن موسى عليه السلام صعق في الدنيا مرة حين تجلى ربه للجبل، كما حكى القرآن :﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا... ١٤٣ ﴾( الأعراف ).
وما كان الله تعالى ليجمع على نبيه موسى عليه السلام صعقتين، لذلك لم يصعق صعقة الآخرة.
وقوله سبحانه :﴿ وكل أتوه داخرين٨٧ ﴾( النمل ) أي : صاغرين أذلاء، لا يتأبى على الله منهم أحد، حيث لا قدرة له على ذلك ؛ لأن القيامة أنهت الاختيار الذي كان لهم في الدنيا، وبه ملكهم الله شيئا من الملك :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء... ٢٦ ﴾( غافر )
في القيامة ينزع منك كل شيء تملكه وكل قدرة لك على ما تملك حتى جوارحك لا قدرة لك عليها، ولا إرادة لتنفعل لك، هي تبع إرادتك في الدنيا، وبها ترى وتسمع وتمشي وتبطش، أما في الآخرة فقد سلبت منك هذه الإرادة، بدليل أنها ستشهد عليك، وتحاجك يوم القيامة.
١ عن أبي هريرة في قوله ﴿ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله... ٨٧﴾(النمل) قال: هم الشهداء. أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٣٨٤) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير الطبري. قال القرطبي في تفسيره (٧/٥١٢٦): " وهو قول سعيد ابن جبير أنهم الشهداء متقلدوا السيوف حول العرش، وحديث أبي هريرة صححه القاضي أبو بكر بن العربي فليعول عليه، لأنه نص في التعيين وغيره اجتهاد، والله أعلم"..
٢ قاله مقاتل، وفيما أورده عنه القرطبي في تفسيره (٧/٥١٢٦)..
٣ أخرجه البخاري في صحيحه(٣٣٩٨)، وكذا مسلم في صحيحه(٢٣٧٤) بنحوه من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور"..
ثم ينتقل السياق بنا مرة أخرى إلى آية كونية :
﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير لما تفعلون٨٨ ﴾ :
قوله تعالى﴿ تحسبها جامدة... ٨٨ ﴾( النمل ) أي : تظنها ثابتة، وتحكم عليها بعدم الحركة ؛ لذلك نسميها الرواسي والأوتاد﴿ وهي تمر مر السحاب... ٨٨ ﴾( النمل ) أي : ليس الأمر كما تظن ؛ لأنها تتحرك وتمر كما يمر السحاب، لكنك لا تشعر بهذه الحركة ولا تلاحظها لأنك تتحرك معها بنفس حركتها.
وهب أننا في هذا المجلس، أنتم أمامي وأنا أمامكم، وكان هذا المسجد على رحاية أو عجلة تدور بنا، أيتغير وضعنا وموقفنا بالنسبة لبعضنا ؟.
إذن : لا تستطيع أن تلاحظ هذه الحركة إلا إذا كنت أنت خارج الشيء المتحرك، ألا ترى أنك حين تركب القطار مثلا ترى أن أعمدة التليفون هي التي تجري وأنت ثابت.
ولأن هذه الظاهرة عجيبة سيقف عندها الخلق يزيل الله عنهم هذا العجب، فيقول﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء... ٨٨ ﴾( النمل ) يعني : لا تتعجب، فالمسألة من صنع الله وهندسته وبديع خلقه، واختار هنا من صفاته تعالى :﴿ الذي أتقن كل شيء... ٨٨ ﴾( النمل ) يعني : كل خلق عنده بحساب دقيق متقن.
البعض١ فهم الآية على أن مر السحاب سيكون في الآخرة، واستدل بقوله تعالى :﴿ وتكون الجبال كالعهن المنفوش٥ ﴾ ( القارعة ).
وقد جانبه الصواب لأن معنى ﴿ كالعهن المنفوش٥ ﴾( القارعة ) أنها ستتفتت وتتناثر، لا أنها تمر، وتسير هذه واحدة، والأخرى أن الكلام هنا مبني على الظن﴿ تحسبها جامدة... ٨٨ ﴾( النمل ) وليس في القيامة ظن ؛ لأنها إذا قامت فكل أحداثها متيقنة.
ثم إن السحاب لا يتحرك بذاته، وليس له موتور يحركه، إنما يحركه الهواء، كذلك الجبال حركتها ليست ذاتية فيها، فلم نر جبلا تحرك من مكانه، فحركة الجبال تابعة لحركة الأرض ؛ لأنها أوتاد عليها، فحركة الوتد تابعة للموتود فيه.
لذلك لما تكلم الحق –سبحانه وتعالى- عن الجبال قال :﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد٢ بكم... ١٥ ﴾( النحل ).
ولو خلقت الأرض على هيئة السكون ما احتاجت لما يثبتها فلا بد أنها مخلوقة على هيئة الحركة.
في الماضي وقبل تطور العلم ما كانوا يعتقدون في المنجمين وعلماء الفلك الكفرة أنهم يعلمون الغيب، أما الآن وقد توصل العلماء إلى قوانين حركة الأرض وحركة الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية واستطاعوا حساب ذلك كله بدقة مكنتهم من معرفة ظاهرة الخسوف والكسوف مثلا ونوع كل منهما ووقته وفعلا تحدث الظاهرة في نفس الوقت الذي حددوه لا تتخلف.
واستطاعوا بحساب هذه الحركة أن يصعدوا إلى سطح القمر، وأن يطلقوا مركبات الفضاء ويسيروها بدقة حتى إن إحداها تلتحم بالأخرى في الفضاء الخارجي.
كل هذه الظواهر لو لم تكن مبنية على حقائق متيقنة لأدت إلى نتائج خاطئة وتخلفت.
ومن الأدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال، أن قوله تعالى ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء... ٨٨ ﴾( النمل ) امتنان من الله تعالى بصنعته، والله لا يمتن بصنعته يوم القيامة، إنما الامتنان علينا الآن ونحن في الدنيا٣.
١ قال القشيري: وهذا يوم القيامة.(نقله القرطبي في تفسيره ٧/٥١٢٧)..
٢ ماد يميد: تحرك واهتز. أي: لئلا تميد وتضطرب فالجبال العالية توازن البحار العميقة.(القاموس القويم ٢/٢٤٦)..
٣ قال الماوردي في تفسير الآية: أنها ضرب للمثل، وفيما ضرب له ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال، وهي آخذه يحظها من الزوال كالسحاب، قاله سهل بن عبد الله.
الثاني: أنه مثل ضربه الله للإيمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء.
الثالث: أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش.(نقله القرطبي في تفسيره ٧/٥١٢٨)..

لهذه الآية صلة لطيفة بما قبلها : فكما أن الآيات الكونية التي أخبر بها الحق- تبارك وتعالى- حقيقة واقعة، وتأكدت أنت من صدقها حيث شاهدتها بنفسك وأدركتها بحواسك، فكما أخبرناك بهذه الآيات نخبرك الآن بحقيقة أخرى ينبغي أن تصدقها، وأن تأخذ من صدق ما شاهدت دليلا على صدق ما غاب عنك، فربك يخبرك بأنه ﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها... ٨٩ ﴾( النمل ).
الحسنة : فعل الانفعال فيه يكون لمطلوب الله في العبادة، فإن فعلت الفعل على مراد الله تعالى كانت لك حسنة، والحسنة عند الله بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف على مقدار طاقة الفاعل من الإخلاص والتجرد لله في فعله.
والمعنى :﴿ من جاء بالحسنة... ٨٩ ﴾( النمل ) أي : في الدنيا﴿ فله خير منها... ٨٩ ﴾( النمل ) أي : ناشئ عنها في الآخرة.
ونسمع من البعض من يقول : إذا كان قولنا : لا إله إلا الله حسنة فالثواب عليها خير منها. وهذا القول ناتج عن فهم غير دقيق لمعنى الآية ؛ لأن الله تعالى الذي أقر به في الشهادة هو الذي يهبني هذا الثواب، فمن جاء بالحسنة له خير ناشئ من هذه الحسنة ومسبب عنها. كما لو قلت : مأمور المركز خير من وزير الداخلية : أي خير جاءنا من ناحيته، ووصل إلينا من طرفه، أليس هو صاحب قرار تعيينه ؟
ومن ذلك ما يقوله أصحاب الطريق والمجاذيب يقولون : محمد خير من ربه، وفي مثل هذه الأقوال لعب بأفكار الناس وإثارة لمشاعرهم، وربما تعرض للإيذاء، فكيف يقول هذه الكلمة ومحمد مرسل من عند الله ؟ وحين تمعن النظر في العبارة تجدها صحيحة، فمراد الرجل أن محمدا خير جاءنا من عند الله.
أو : يكون المعنى﴿ فله خير منها.... ٨٩ ﴾ ( النمل ) أن الجزاء على الحسنة خير من الحسنة ؛ لأنك تفعل الحسنة فعلا موقوتا، أما خيرها والثواب عليها، فسيظل لك خالدا بلا نهاية.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ومن جاء بالسيئة ١ فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ٩٠ ﴾ :
معنى﴿ فكبت... ٩٠ ﴾ ( النمل ) ألقيت بعنف، وخص الوجوه مع أن الأعضاء كلها ستكب ؛ لأنه أشرفها وأكرمها عند صاحبها، والوجه موضع العزة والشموخ، فالحق- تبارك وتعالى- يريد لهم الذلة والمهانة، وفي موضع آخر يبين أن كل الأعضاء ستكب في النار فيقول تعالى :﴿ فكبكبوا فيها هم والغاوون ٩٤ ﴾( الشعراء ).
وليس هذا المصير ظلما لهم، ولا افتراء عليهم﴿ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ٩٠ ﴾( النمل ) وكما يقول سبحانه :﴿ لا ظلم اليوم... ١٧ ﴾( غافر ) فلم نجامل صاحب الحسنة، ولم نظلم صاحب السيئة.
١ أي: بالشرك. قاله ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن. قال القرطبي في تفسيره(٧/٥١٣٠):"وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك في هذه الآية "..
فما دام أن الله تعالى أعطانا هذه المعلومات التي تلفتنا إلى قدرته في آياته الكونية، وذكرنا بالآخرة، وما فيها من الثواب والعقاب، فما عليك إلا أن تلتزم ( عرفت فالزم ) واعلم أن من أبلغك منهج الله سيسبقك إلى الالتزام به، فالشرع كما أمرك أمرني.
﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة... ٩١ ﴾( النمل ) فإن طلبت منكم شيئا من التكاليف فقد طالبت نفسي به أولا ؛ لأنني واثق بصدق تبليغي عن الله ؛ لذلك ألزمت نفسي به.
والعبادة كما قلنا : طاعة العابد للمعبود فيما أمر وفيها نهى ؛ لأن ربك خلقك من عدم، وأمدك من عدم، ونظم لك حركة حياتك، فإن كلفك اعلم أن التكليف من أجلك ولصالحك ؛ لأنه رب متول لتربيتك، فإن تركت بلا منهج، وبلا افعل ولا تفعل، كانت التربية ناقصة.
إذن : من تمام الربوبية أن يوجهني ربي كما نوجه نحن أولادنا الصغار ونربيهم، ومن تمام الربوبية أن توجد هذه الأوامر وهذه النواهي لمصلحة المربي، وما دام أن ربك قد وضعها لك فلا بد أن تطيعه.
لذلك نلحظ في هذه الآية﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة... ٩١ ﴾( النمل ) ولم يقل : أمرت أن أطيع الله ؛ لأن الألوهية تكليف، أما الربوبية فعطاء وتربية، فالآية تبين حيثية سماعك للحكم من الله، وهي أنه تعالى يربيك بهذه الأوامر وبهذه النواهي، وسوف تعود عليك ثمرة هذه التربية.
لذلك، الصديق أبو بكر حينما حدثوه عن الإسراء والمعراج لم يمرر المسألة على عقله، ولم يفكر في مدى صدقها، إنما قال عن رسول الله : " إن كان قال فقد صدق " ١ فالميزان عنده أن يقول رسول الله، ثم يعلل لذلك فيقول : إني لأصدقه في الخبر يأتي من السماء، فكيف لا أصدقه في هذه.
وقال تعالى :﴿ رب هذه البلدة... ٩١ ﴾( النمل ) أي : مكة وخصها بالذكر ؛ لأن فيها بيته﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا... ٩٦ ﴾( آل عمران ) ثم يذكر سبحانه وتعالى من صفات مكة ﴿ الذي حرمها... ٩١ ﴾( النمل ) فهي محرمة يحرم فيها القتال، وهذه وسيلة لحماية العالم من فساد الحروب وفساد الخلاف الذي يفضي بكل فريق لأن تأخذه العزة، فلا يجد حلا إلا في السيف.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يعطي لخلقه فرصة للمداراة وعذرا يستترون خلفه، فلا ينساقون خلف غرورهم، فحين تمنعهم من الحروب حرمة المكان في الحرم، وحرمة الزمان في الأشهر الحرم- لأن كل فعل لا بد له من زمان ومكان- حين يمنعه الشرع عن القتال فإن لأحدهم أن يقول : لم أمتنع عن ضعف. ولولا أن الله منعنى لفعلت وفعلت، ويستتر خلف ما شرع الله من منع القتال، إلى أن يذوق حلاوة السلام فتلين نفسه، وتتوق للمراجعة.
ولحرمة مكة كان الرجل يلاقى فيها قاتل أبيه، فلا يتعرض له احتراما لحرمة البيت، وقد اتسعت هذه الحرمة لتشمل أجناسا أخرى، فلا يعضد٢ شجرها، ولا يصاد صيدها.
ثم يقول تعالى :﴿ وله كل شيء... ٩١ ﴾( النمل ) لأن الله تعالى حين يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، ويصطفى من الأرض أمكنة، ومن الزمان، يريد أن يشيع الاصطفاء في كل شيء.
فالحق- تبارك وتعالى- لا يحابي أحدا، فحين يرسل رسولا يبلغ رسالته للناس كافة، فيعود نفعه على الجميع، وكذلك في تحريم المكان أو الزمان يعود نفعه على الجميع ؛ لذلك عطف على﴿ الذي حرمها... ٩١ ﴾( النمل ) فقال﴿ كل شيء... ٩١ ﴾( النمل ) فالتحريم جعل من أجل هؤلاء.
ثم يقول سبحانه :﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين٩١ ﴾( النمل ) أي : المنفذين لمنهج الله يعني : لا أعتقد عقائد أخبر بها ولا أنفذها، وقد قرن الله تعالى بين الإيمان والعمل الصالح ؛ لأن فائدة الإيمان أن تعمل به، كما قال تعالى :﴿ والعصر ١ إن الإنسان لفي خسر ٢ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... ٣ ﴾( العصر )
فالله تعالى يريد أن يعدي الإيمان والأحكام إلى أن تكون سلوكا عمليا في حركة الحياة.
١ أخرج البيهقي في دلائل النبوة (٢/٣٦١) من حديث عائشة أنها قالت:" لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسرى به في الليل إلى بيت المقدس قال أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: وتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح، قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق"..
٢ عضد الشجر يعضده، فهو معضود: قطعه بالمعضد. والعضيد: ما قطع من الشجر أي يضربونه ليسقط ورقه فيتخذوه علفا لإبلهم.(لسان العرب-مادة: عضد)..
أنت حين تقرأ في الحقيقة لا تقرأ إنما تسمع ربنا يتكلم، ومعنى﴿ وأن أتلو القرآن... ٩٢ ﴾( النمل ) يعني : استدم أنسك بالكتاب الذي كلفت به، ليدل على أنك من عشقك للتكليف، عشقت المكلف، فأحببت سماعه، وتلاوة القرآن في ذاتها لذة ومتعة.
فأنا سآخذ من تلاوته لذة، وأستديم البلاغ بالقرآن للناس، وبعد ذلك أنا نموذج أمام أمتي، كما قال سبحانه :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة... ٢١ ﴾( الأحزاب ).
يعني : شيء يقتدي به، وما دام أن الرسول قدوة، فكل مقام للرسول غير الرسالة من سار على قدم الرسول يأخذ منه، وكذلك مكان كل إنسان في التقوى، على قدر اعتباره واقتدائه بالأسوة، أما الرسالة فدعك منها ؛ لأنك لن تأخذها.
ومعنى﴿ اهتدى... ٩٢ ﴾( النمل ) أي : وصلته الدلالة واقتنع بها﴿ فإنما يهتدي لنفسه... ٩٢ ﴾( النمل ) لأن الله سيعطيه المعونة، ويزيده هداية وتوفيقا﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ١٧ ﴾( محمد ).
إذن : فالهداية والتقوى لا تنفع المشرع، إنما تنفع العبد الذي اهتدى.
ثم يذكر المقابل﴿ ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ٩٢ ﴾( النمل ) أنا لا يعنيني إلا أنني من المنذرين، وأنت إنما تضل على نفسك، وتتحمل عاقبة ضلالك.
وبعد أن أتممت ما خاطبك ربك به بأن تعبد رب هذه البلدة وكنت من المسلمين، وبعد أن تلوت القرآن، واستدمت الأنس واللذة بسماع الله يتكلم، ثم بلغته للناس، فإذا فعلت كل هذا احمد الله الذي وفقك إليه :
﴿ وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ٩٣ ﴾ :
أي : الحمد لله على نعمه وعلى ما هدانا، والحمد لله الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، والإنذار إليه.
والله سيريكم آياته في أنفسكم وفي غيركم، فتعرفون دلائل قدرته سبحانه ووحدانيته في أنفسكم، وفي السماوات والأرض.
﴿ وما ربك بغافل عما تعملون ٩٣ ﴾( النمل ).
بل هو شهيد على كل شيء.
Icon