تفسير سورة الأحقاف

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾.
قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة. في أول سورة هود، وقدمنا الكلام على قوله تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم في أول سورة الزمر.
قوله تعالى :﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى ﴾.
صيغة الجمع في قوله : خلقنا للتعظيم.
وقوله : إلا بالحق أي خلقا متلبساً بالحق.
والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبساً بالحق أنه خلقهما لحكم باهرة، ولم يخلقهما باطلاً، ولا عبثاً، ولا لعباً، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبساً به، إقامة البرهان، على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم كقوله تعالى في البقرة ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ ﴾ [ البقرة : ١٦٣ ] ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله بعده :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ].
فتلبس خلقه للسماوات والأرض بالحق واضح جداً، من قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ إلى قوله ﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ] بعد قوله ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ البقرة : ١٦٣ ]، لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله هو أعظم الحق.
وكقوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٢ ]، لأن قوله :﴿ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ فيه معنى الإثبات من لا إله إلا الله.
وقوله ﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه.
وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع، على صحة معنى لا إله إلا الله، نفياً وإثباتاً، بخلقه للسماوات والأرض، وما بينهما في قوله ﴿ الَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً ﴾ الآية.
وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بأعظم الحق، الذي هو إقامة البرهان القاطع، على توحيده جل وعلا، ومن كثرة الآيات القرآنية، الدالة على إقامة هذا البرهان، القاطع المذكور، على توحيده جل وعلا، علم من استقراء القرآن، أن العلامة الفارقة من يستحق العبادة، وبين من لا يستحقها، هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره، فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء، فهو مخلوق محتاج، لا يصح أن يعبد بحال.
فالآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً كقوله تعالى في البقرة المذكورة آنفاً :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] الآية.
فقوله :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ يدل على أن المعبود هو الخالق وحده، وقوله تعالى :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء ﴾ [ الرعد : ١٦ ] الآية. يعني وخالق كل شيء هو المعبود وحده.
وقد أوضح تعالى هذا في سورة النحل، لأنه تعالى لما ذكر فيها البراهين القاطعة، على توحيده جل وعلا، في قوله ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ إلى قوله ﴿ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ أتبع ذلك بقوله ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ النحل : ٣ -١٧ ].
وذلك واضح جداً في أن من يخلق غيره هو المعبود وأن من لا يخلق شيئاً لا يصح أن يعبد.
ولهذا قال تعالى بعده قريباً منه ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ النحل : ٢٠ ]. وقال تعالى في الأعراف ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩١ ]. وقال تعالى في الحج ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ﴾ [ الحج : ٧٣ ] أي ومن لم يقدر أن يخلق شيئاً لا يصح أن يكون معبوداً بحال وقال تعالى :﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴾ [ الأعلى : ١ -٢ ] الآية.
ولما بين تعالى في أول سورة الفرقان، صفات من يستحق أن يعبد، ومن لا يستحق ذلك.
قال في صفات من يستحق العبادة :﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢ ].
وقال في صفات من لا يصح أن يعبد ﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الفرقان : ٣ ].
والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً وكل تلك الآيات تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق.
وقد بين جل وعلا أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وبينهما، خلقاً متلبساً به، تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وذلك في قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شيء عِلْمَا ﴾ [ الطلاق : ١٢ ].
فلام التعليل في قوله : لتعلموا متعلقة بقوله ﴿ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ الآية وبه تعلم أنه ما خلق السماوات السبع، والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن، إلا خلقاً متلبساً بالحق.
ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به، هو تكليف الخلق، وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول سورة هود :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ هود : ٧ ].
فلام التعليل في قوله : ليبلوكم متعلقة بقوله ﴿ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ وبه تعلم أنه ما خلقهما إلا خلقاً متلبساً بالحق.
ونظير ذلك قوله تعالى في أول الكهف ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٧ ]. وقوله تعالى في أول الملك :﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الملك : ٢ ].
ومما يوضح أنه ما خلق السماوات والأرض إلا خلقاً متلبساً بالحق، قوله تعالى في آخر الذاريات ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ -٥٧ ].
سواء قلنا : إن معنى إلا ليعبدون أي لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم، لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته، والخضوع له كما قال تعالى :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [ الأنعام : ٨٩ ]. وقال تعالى :﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٨ ].
أو قلنا : إن معنى إلا ليعبدون أي إلا ليقروا لي بالعبودية، ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي، لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعاً، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرهاً.
ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال.
وقد بين تعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقا متلبساً به، جزاء الناس بأعمالهم، كقوله تعالى في النجم ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ﴾ [ النجم : ٣١ ].
فقوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض ﴾ أي هو خالقها ومن فيهما ﴿ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ الآية.
ويوضح ذلك قوله تعالى في يونس ﴿ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٤ ].
ولما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، لا لحكمة تكليف وحساب وجزاء، هددهم بالويل من النار، بسبب ذلك الظن السييء، في قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ [ ص : ٢٧ ].
وقد نزه تعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثاً، لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ظنه، في قوله تعالى ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥-١١٦ ].
فقوله ( فتعالى الله ) أي تنزه وتعاظم، وتقدس، عن أن يكون خلقهم لا لحكمة تكليف وبعث، وحساب وجزاء.
وهذا الذي نزه تعالى عنه نفسه، نزهه عنه أولو الألباب، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ لآيات لأولي الألباب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ إلى قوله :﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٠-١٩١ ]، فقوله عنهم ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي تنزيهاً لك، عن أن تكون خلقت هذا الخلق، باطلاً لا لحكمة تكليف، وبعث وحساب وجزاء.
وقوله جل وعلا في آية الأحقاف هذه :﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً، ولا لعباً ولا عبثاً.
وهذا المفهوم جاء موضحاً في آيات من كتاب الله كقوله تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾، وقوله تعالى :{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُم
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
قد ذكرنا قريباً أن قوله :﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ يتضمن البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله. وأن العلامة الفارقة بين المعبود بحق ؛ وبين غيره هي كونه خالقاً ؛ وأول سورة الأحقاف هذه يزيد ذلك إيضاحاً ؛ لأنه ذكر من صفات المعبود بحق أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ؛ وذكر من المعبودات الأخرى التي عبادتها كفر ؛ مخلد في النار أنها لا تخلق شيئاً.
فقوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ أي هذه المعبودات التي تعبدونها من دون الله. أروني ماذا خلقوا من الأرض.
فقوله : أروني ؛ يراد بها التعجيز والمبالغة في عدم خلقهم شيئاً ؛ وعلى أن ﴿ مَا ﴾ استفهامية ؛ ﴿ وَذَا ﴾ موصولة.
فالمعنى أروني ما الذي خلقوه من الأرض ؛ وعلى أن ﴿ مَا ﴾ و ﴿ ذَا ﴾ بمنزلة كلمة واحدة يراد بها الاستفهام.
فالمعنى : أروني أي شيء خلقوه من الأرض ؟
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من لم يخلق شيئاً في الأرض ولم يكن له شرك في السماوات ؛ لا يصح أن يكون معبوداً بحال جاء موضحاً في آيات كثيرة. كقوله تعالى في فاطر ﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً ﴾ [ فاطر : ٤٠ ] الآية. وقوله في لقمان :﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾ [ لقمان : ١١ ] وقوله في سبأ ﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ ﴾ [ سبأ : ٢٢ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد قدمنا طرفاً منها قريباً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَآ ﴾، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢١ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً ﴾ الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الجاثية في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ ﴾ [ الجاثية : ١٠ ] الآية. وفي سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ﴾ [ مريم : ٨١ ].
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قرئت عليهم آيات هذا القرآن العظيم الذي هو الحق ادعوا أنها سحر مبين واضح.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من افترائهم على القرآن أنه سحر وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ساحر جاء موضحاً في آيات كثيرة. كقوله تعالى في سبأ ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ سبأ : ٤٣ ]. وقوله تعالى في الزخرف ﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ الزخرف : ٣٠ ]. وقوله تعالى :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ أَفَتَأْتُونَ السِّحْر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢ -٣ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ هود : ٧ ].
والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
قوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾.
أم هذه هي المنقطعة وقد قدمنا أنها تأتي بمعنى الإضراب.
وتأتي بمعنى همزة الإنكار.
وتأتي بمعناهما معاً وهو الظاهر في هذه الآية الكريمة.
فأم فيها على ذلك تفيد معنى الإضراب والإنكار معاً، فهو بمعنى دع هذا، واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه، أن محمداً افترى هذا القرآن، وقد كذبهم الله في هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ يونس : ٣٨ ] الآية. وقوله ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [ هود : ١٣ ] : وقوله تعالى ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [ يونس : ٣٧ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ أي إن كنت افتريت هذا القرآن على سبيل الفرض.
والتقدير : عاجلني الله بعقوبته الشديدة، وأنتم لا تملكون لي منه شيئاً، أي لا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على الافتراء.
فكيف أفتريه لكم، وأنتم لا تقدرون على دفع عذاب الله عني ؟
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٤- ٤٧ ].
فقوله تعالى في آية الحاقة هذه :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل ﴾ كقوله في آية الأحقاف ﴿ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ﴾.
وقوله في الحاقة :﴿ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ يوضح معنى قوله :﴿ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾، لأن معنى قوله :﴿ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾، أنهم لا يقدرون على أن يحجزوا عنه أي يدفعوا عنه عقاب الله له بالقتل، لو تقول عليه بعض الأقاويل.
وذلك هو معنى قوله :﴿ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ أي لا تقدرون على دفع عذابه عني.
ونظير ذلك في المعنى قوله تعالى :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ [ المائدة : ١٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ [ المائدة : ١٧ ].
وما تضمنته آية الأحقاف هذه وآية الحاقة المبينة لها من أنه لو افترى على الله أو تقول عليه عاجله بالعذاب، وأنه لا يقدر أحد على دفعه عنه. جاء معناه في بعض الآيات. كقوله تعالى في يونس :﴿ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [ يونس : ١٥ ] أي إني أخاف إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره. عذاب يوم عظيم.
وذكر الله تعالى مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخر كقوله عن صالح ﴿ قَالَ يا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّى وَءَاتَانِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ﴾ [ هود : ٦٣ ]. وقوله تعالى عن نوح :﴿ وَيا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ﴾ [ هود : ٣٠ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ ﴾.
الأظهر في قوله ﴿ بِدْعاً ﴾ أنه فعل بمعنى المفعول فهو بمعنى مبتدع، والمبتدع هو الذي أبدع على غير مثال سابق.
ومعنى الآية قل لهم يا نبي الله : ما كنت أول رسول أرسل إلي البشر، بل قد أرسل الله قبلي جميع الرسل إلى البشر، فلا وجه لاستبعادكم رسالتي، واستنكاركم إياها، لأن الله أرسل قبلي رسلاً كثيرة.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [ الروم : ٤٧ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ﴾ [ النساء : ١٦٣ ] الآية. وقوله تعالى ﴿ حم عسق كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ الشورى : ١ -٣ ] وقوله تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ فصلت : ٤٣ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [ آل عمران : ١٤٤ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [ الأنعام : ٣٤ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة. قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾.
التحقيق إن شاء الله، أن معنى الآية الكريمة، ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في دار الدنيا، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء.
وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة.
وما أدري ما يفعل بكم أيخسف بكم، أو تنزل عليكم حجارة من السماء، ونحو ذلك.
وهذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين.
وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ] الآية. وقوله تعالى آمراً له صلى الله عليه وسلم :﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ [ الغيب : ٥٠ ] الآية.
وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وأنس وغيرهما من أن المراد، ﴿ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ أي في الآخرة فهو خلاف التحقيق، كما سترى إيضاحه إن شاء الله.
فقد روي عن ابن عباس وأنس وقتادة والضحاك وعكرمة والحسن في أحد قوليه أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ فرح المشركون واليهود والمنافقون، وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله، من عند نفسه، لأخبره الذي بعثه بما يفعل به.
فنزلت ﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [ الفتح : ٢ ] فنسخت هذه الآية.
وقالت الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله، لقد بين لك الله ما يفعل بك فليت شعرنا هو ما فاعل بنا.
فنزلت ﴿ لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ [ الفتح : ٥ ] الآية، ونزلت :﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٤٧ ].
فالظاهر أن هذا كله خلاف التحقيق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجهل مصيره يوم القيامة لعصمته صلوات الله وسلامه عليه : وقد قال له الله تعالى ﴿ وللآخرة خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [ الضحى : ٤ -٥ ] وأن قوله :﴿ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ في أمور الدنيا كما قدمنا. فإن قيل : قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم العلاء الأنصارية ما يدل على أن قوله :﴿ مَا يُفْعَلُ بِي ﴾ أي في الآخرة فإن حديثها في قصة وفاة عثمان بن مظعون رضي الله عنه عندهم، ودخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، أنها قالت : رحمة الله عليك، أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل تعني عثمان بن مظعون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«وما يدريك أن الله أكرمه ؟ » فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي » الحديث.
فالجواب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله، فقد قال في تفسير هذه الآية الكريمة، بعد أن ساق حديث أم العلاء المذكور بالسند الذي رواه به أحمد رحمه الله انفرد به البخاري دون مسلم، وفي لفظ له «ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به »، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك ا ه. محل الغرض منه وهو الصواب إن شاء الله، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ﴾.
جواب الشرط في هذه الآية محذوف.
وأظهر الأقوال في تقديره إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به، وجحدتموه فأنتم ضلال ظالمون. وكون جزاء الشرط في هذه الآية كونهم ضالين ظالمين بينه قوله تعالى في آخر فصلت :﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٥٢ ]، وقوله في آية الأحقاف هذه ﴿ فَأمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
وقال أبو حيان في البحر : مفعولاً أرأيتم محذوفان لدلالة المعنى عليهما.
والتقدير : أرأيتم حالكم، إن كان كذا ألستم ظالمين.
فالأول حالكم، والثاني ألستم ظالمين، وجواب الشرط محذوف أي فقد ظلمتم.
ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً.
وبعض العلماء يقول : إن ﴿ أَرَءَيْتُمْ ﴾ بمعنى أخبروني. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إسرائيل عَلَى مِثْلِهِ ﴾.
التحقيق : إن شاء الله، أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف، وهو إطلاق المثل، على الذات نفسها، كقولهم : مثلك، لا يفعل هذا، يعنون لا ينبغي لك أنت أن تفعله.
وعلى هذا فالمعنى، وشهد شاهد من بني إسرائيل على أن هذا القرآن، وحي منزل حقاً من عند الله، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له.
ولذا قال تعالى ﴿ فَأمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ﴾.
ومما يوضح هذا، تكرر إطلاق المثل في القرآن مراداً به الذات كقوله تعالى ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] الآية.
فقوله : كمن مثله في الظلمات، أي كمن هو نفسه في الظلمات، وقوله تعالى ﴿ فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ ﴾ [ البقرة : ١٣٧ ] أي فإن آمنوا بما آمنتم به لا بشيء آخر مماثل له على التحقيق.
ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن عباس وابن مسعود ﴿ فَإِنْ ءامَنُواْ بِمَا آمنتم بِهِ ﴾ الآية.
القول بأن لفظة ما في الآية مصدرية، وأن المراد تشبيه الإيمان بالإيمان، أي فإن آمنوا بإيمان مثل إيمانكم فقد اهتدوا لا يخفى بعده.
والشاهد في الآية هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما قال الجمهور، وعليه فهذه الآية مدنية في سورة مكية.
وقيل : إن الشاهد موسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقيل غير ذلك.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾.
أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة، أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين لو كان خيراً ما سبقونا إليه، أنهم كفار مكة، وأن مرادهم أن فقراء المسلمين، وضعفاءهم كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم، أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير.
وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير لزعمهم أن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة.
وهذا المعنى الذي استظهرناه في هذه الآية الكريمة تدل له آيات كثيرة من كتاب الله، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
أما ادعاؤهم أن ما أعطوا من المال، والأولاد والجاه، في الدنيا دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة، وتكذيب الله لهم في ذلك، فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥ -٥٦ ]، وقوله تعالى ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾ [ مريم : ٧٧ -٧٩ ]. وقوله تعالى ﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [ سبأ : ٣٥ ] مع قوله ﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ﴾ [ سبأ : ٣٧ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ فصلت : ٥٠ ].
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ [ الكهف : ٣٦ ].
وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم، وزعمهم أنهم أحقر عند الله، من أن يصيبهم بخير، وإنما هم عليه لو كان خيراً لسبقهم إليه أصحاب الغنى، والجاه والولد، من الكفار فقد دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى في الأنعام :﴿ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ].
فهمزة الإنكار في قوله : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا، تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير.
وقد رد الله عليهم بقوله ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٥٣ -٥٤ ] الآية. وقوله تعالى في الأعراف :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤٨ -٤٩ ] وقوله تعالى في ص ﴿ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشْرَارِ أ َتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ﴾ [ ص : ٦٢ -٦٣ ].
فقد قال غير واحد : إن الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار هم ضعفاء المسلمين الذين كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا ويزعمون أنهم أحقر من أن ينالهم الله بخير ويدل له قوله ﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً ﴾ [ ص : ٦٣ ] وسيسخر ضعفاء المسلمين في الجنة من الكفار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم في النار، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ المصطفين : ٢٩-٣٦ ]. وقوله تعالى ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ البقرة : ٢١٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ١٩٤ -١٩٥ ] وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾ [ الزمر : ٢٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان أنواع الإنذار في القرآن في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ ﴾ [ الأعراف : ٢ ] الآية. وفي أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى ﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الكهف : ٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ﴾.
قرأ هذا الحرف، نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ﴿ حَسَنًا ﴾ بضم الحاء وسكون السين، وكذلك هو في مصاحفهم.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي : إحساناً بهمزة مكسورة وإسكان الحاء وألف بعد السين.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] وقال أبو حيان في البحر :
قيل ضمن ﴿ وَوَصَّيْنَا ﴾ معنى ألزمنا فيتعدى لاثنين فانتصب حسناً وإحساناً على المفعول الثاني لوصينا.
وقيل : التقدير إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان ويجوز أن يكون حسناً بمعنى إحسان فيكون مفعولاً له، أي ووصيناه بها لإحساننا إليهما فيكون الإحسان من الله تعالى.
وقيل : النصب على المصدر على تضمين معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً ا ه منه، وكلها له وجه.
قوله تعالى :﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ﴾.
قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر :﴿ كَرْهاً ﴾ بفتح الكاف في الموضعين.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي، وابن ذكوان، عن ابن عامر :﴿ كَرْهاً ﴾ بضم الكاف في الموضعين.
وهما لغتان كالضُّعف والضَّعف.
ومعنى حملته ﴿ كَرْهاً ﴾ أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة.
ومن المعلوم ما تلاقيه الحامل، من المشقة والضعف، إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها.
ومعنى وضعته كرهاً : أنها في حالة وضع الولد، تلاقي من ألم الطلق، وكربه مشقة شديدة، كما هو معلوم.
وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه، لا شك أنها يعظم حقها بها، ويتحتم برها، والإحسان إليها كما لا يخفى.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل، ودلت عليه آية أخرى، وهي قوله تعالى في لقمان :﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ ﴾ [ لقمان : ١٤ ] أي تهن به وهناً على وهن أي ضعفاً على ضعف، لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها، ازدادت ضعفاً على ضعف.
وقوله في آية الأحقاف هذه كرهاً في الموضعين مصدر منكر وهو حال أي حملته ذات كره ووضعته ذات كره، وإتيان المصدر المنكر حالاً كثير كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
وقال بعضهم : كرهاً في الموضعين نعت لمصدر، أي حملته حملاً ذا كره، ووضعته وضعاً ذا كره، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾.
هذه الآية الكريمة، ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل، ولكنها بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل، لأن هذه الآية الكريمة، من سورة الأحقاف، صرحت بأن أمد الحمل والفصال معاً، ثلاثون شهراً.
وقوله تعالى في لقمان :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [ لقمان : ١٤ ]. وقوله في البقرة ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] يبين أن أمد الفصال عامان وهما أربعة وعشرون شهراً، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر، فتعين كونها أمداً للحمل، وهي أقله، ولا خلاف في ذلك بين العلماء.
ودلالة هذه الآيات على أن ستة أشهر أمد للحمل هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة.
وقد أوضحنا الكلام عليها، في مباحث الحج، في سورة الحج، في مبحث أقوال أهل العلم، في حكم المبيت بمزدلفة، وأشرنا لهذا النوع، من البيان في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾، وفي ترجمة هذا الكتاب المبارك.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ [ ١٧ -١٨ ] الآية.
التحقيق إن شاء الله أن، ﴿ الَّذِي ﴾ في قوله :﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ﴾ بمعنى الذين، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبحث.
والدليل من القرآن على أن الذي، بمعنى الذين، وأن المراد به العموم، أن ﴿ الَّذِى ﴾ في قوله :﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ﴾ مبتدأ خبره قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾.
والإخبار عن لفظة الذي في قوله ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ﴾ القول بصيغة الجمع، صريح في أن المراد بالذي، العموم لا الإفراد. وخير ما يفسر به القرآن القرآن. وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ليس بصحيح، كما جزمت عائشة رضي الله عنها ببطلانه.
وفي نفس آية الأحقاف هذه دليل آخر واضح على بطلانه، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول، وهو قوله ﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ].
ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم وحسن إسلامه، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة، رضي الله عنهم.
وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق الذي وإرادة الذين، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
صيغة كل أو الجميع *** وقد تلا الذي التي الفروع
فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن، هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف. وقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ [ البقرة : ١٧ ] الآية. أي كمثل الذين استوقدوا بدليل قوله ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧ ] بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي ﴿ بِنُورِهِمْ ﴾ ﴿ وَتَرَكَهُمْ ﴾، والواو في ﴿ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ وقوله تعالى في البقرة أيضاً :﴿ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ] أي كالذين ينفقون بدليل قوله ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شيء مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾.
وقوله في الزمر :﴿ وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٣ ] وقوله في التوبة ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ﴾ [ التوبة : ٦٩ ] أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقول عديل بن الفرخ العجلي :
وبت أساقي القوم إخوتي الذي *** غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
وقول الراجز : يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد
* إلا الذي قاموا بإطراف المسد *
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾ كلمة تضجر. وقائل ذلك عاق لوالديه غير مجتنب نهى الله في قوله :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] الآية. وقوله ﴿ أَتَعِدَانِنِى ﴾ : فعل مضارع وعد، وحذف واوه في المضارع مطرد، كما ذكره في الخلاصة بقوله :
فا أمر أو مضارع من كوعد *** احذف وفي كعدة ذاك اطرد
والنون الأولى نون الرفع، والثانية نون الوقاية كما لا يخفى.
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي : أتعدانني بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة.
وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة.
وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة، والهمزة للإنكار.
وقوله ﴿ أَنْ أُخْرَجَ ﴾ أي أبعث من قبري حياً بعد الموت.
والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني يعني أتعداني الخروج من قبري حياً بعد الموت، والحال قد مضت القرون أي هلكت الأمم الأولى، ولم يحيي منهم أحد، ولم يرجع بعد أن مات.
وهما أي والداه يستغيثان الله أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث، ويقولان لولدهما : ويلك آمن. أي بالله وبالبعث بعد الموت.
والمراد بقولهما ويلك : حثة على الإيمان إن وعد الله حق، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث :﴿ مَا هَذَآ ﴾ إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت، ﴿ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾.
والأساطير جمع أسطورة. وقيل جمع إسطارة، ومراده بها ما سطره الأولون، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها.
وقوله ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ ترجع الإشارة فيه، إلى العاقين المكذبين، بالبعث المذكورين في قوله :﴿ والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾ الآية.
وقوله :﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ أي وجبت عليهم كلمة العذاب.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة يس في الكلام على قوله تعالى ﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ [ يس : ٧ ].
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:قوله تعالى :﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ [ ١٧ -١٨ ] الآية.
التحقيق إن شاء الله أن، ﴿ الَّذِي ﴾ في قوله :﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ﴾ بمعنى الذين، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبحث.
والدليل من القرآن على أن الذي، بمعنى الذين، وأن المراد به العموم، أن ﴿ الَّذِى ﴾ في قوله :﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ﴾ مبتدأ خبره قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾.
والإخبار عن لفظة الذي في قوله ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ﴾ القول بصيغة الجمع، صريح في أن المراد بالذي، العموم لا الإفراد. وخير ما يفسر به القرآن القرآن. وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ليس بصحيح، كما جزمت عائشة رضي الله عنها ببطلانه.
وفي نفس آية الأحقاف هذه دليل آخر واضح على بطلانه، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول، وهو قوله ﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ].
ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم وحسن إسلامه، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة، رضي الله عنهم.
وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق الذي وإرادة الذين، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
صيغة كل أو الجميع *** وقد تلا الذي التي الفروع
فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن، هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف. وقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ [ البقرة : ١٧ ] الآية. أي كمثل الذين استوقدوا بدليل قوله ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧ ] بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي ﴿ بِنُورِهِمْ ﴾ ﴿ وَتَرَكَهُمْ ﴾، والواو في ﴿ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ وقوله تعالى في البقرة أيضاً :﴿ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ] أي كالذين ينفقون بدليل قوله ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شيء مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾.
وقوله في الزمر :﴿ وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٣ ] وقوله في التوبة ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ﴾ [ التوبة : ٦٩ ] أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد

وقول عديل بن الفرخ العجلي :

وبت أساقي القوم إخوتي الذي *** غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
وقول الراجز : يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد
* إلا الذي قاموا بإطراف المسد *
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾ كلمة تضجر. وقائل ذلك عاق لوالديه غير مجتنب نهى الله في قوله :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] الآية. وقوله ﴿ أَتَعِدَانِنِى ﴾ : فعل مضارع وعد، وحذف واوه في المضارع مطرد، كما ذكره في الخلاصة بقوله :
فا أمر أو مضارع من كوعد *** احذف وفي كعدة ذاك اطرد
والنون الأولى نون الرفع، والثانية نون الوقاية كما لا يخفى.
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي : أتعدانني بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة.
وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة.
وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة، والهمزة للإنكار.
وقوله ﴿ أَنْ أُخْرَجَ ﴾ أي أبعث من قبري حياً بعد الموت.
والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني يعني أتعداني الخروج من قبري حياً بعد الموت، والحال قد مضت القرون أي هلكت الأمم الأولى، ولم يحيي منهم أحد، ولم يرجع بعد أن مات.
وهما أي والداه يستغيثان الله أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث، ويقولان لولدهما : ويلك آمن. أي بالله وبالبعث بعد الموت.
والمراد بقولهما ويلك : حثة على الإيمان إن وعد الله حق، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث :﴿ مَا هَذَآ ﴾ إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت، ﴿ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾.
والأساطير جمع أسطورة. وقيل جمع إسطارة، ومراده بها ما سطره الأولون، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها.
وقوله ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ ترجع الإشارة فيه، إلى العاقين المكذبين، بالبعث المذكورين في قوله :﴿ والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾ الآية.
وقوله :﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ أي وجبت عليهم كلمة العذاب.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة يس في الكلام على قوله تعالى ﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ [ يس : ٧ ].
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١ ].

قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾.
معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ﴾.
فقوله يعرضون على النار : قال بعض العلماء : معناه يباشرون حرها كقول العرب : عرضهم على السيف إذا قتلهم به، وهو معنى معروف في كلام العرب.
وقد ذكر تعالى مثل ما ذكر هنا في قوله :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ﴾ [ الأحقاف : ٣٤ ] وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب لقوله :﴿ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٣٤ ]. وقوله تعالى :﴿ وَحَاقَ بآل فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾ [ غافر : ٤٥ -٤٦ ] لأنه عرض عذاب.
وقال بعض العلماء : معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها، والكشف لهم عنها، حتى يروها كما قال تعالى :﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ﴾. وقال تعالى :﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ [ الفجر : ٢٣ ].
وقال بعض العلماء : في الكلام قلب، وهو مروي عن ابن عباس وغيره.
قالوا : والمعنى ويوم تعرض النار على الذين كفروا قالوا وهو كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض. يعنون عرضت الحوض على الناقة، ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً ﴾ [ الكهف : ١٠٠ ].
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له :
هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية، كقلب الفاعل مفعولاً، والمفعول فاعلاً، ونحو ذلك اختلف فيه علماء العربية، فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه، فأجازوا قلب المشبه مشبهاً به والمشبه به مشبهاً بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسراً لطيفاً كما هو المعروف عندهم في مبحث التشبيه المقلوب.
وأجازه كثير من علماء العربية.
والذي يظهر لنا أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها، إلا أنه يحفظ ما سمع منه، ولا يقاس عليه ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز :
ومنهل مغبرة أرجاؤه *** كأن لون أرضه سماؤه
أي كأن سماءه لون أرضه، وقول الآخر :
وبدا الصباح كأن غرته *** وجه الخليفة حين يمتدح
لأن أصل المراد تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح فقلب التشبيه ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه.
قالوا ومن أمثلته في القرآن ﴿ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ ﴾ [ القصص : ٧٦ ]، لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها، وقوله تعالى :﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبَآءُ ﴾ [ القصص : ٦٦ ] أي عموا عنها. ومن أمثلته في كلام العرب قول كعب بن زهير :
كأن أوب ذراعيها إذا عرقت *** وقد تلفع بالقور العساقيل
لأن معنى قوله : تلفع لبس اللفاع وهو اللحاف، والقور الحجارة العظام، والعساقيل : السراب.
والكلام مقلوب، لأن القور هي التي تلتحف بالعساقيل لا العكس كما أوضحه لبيد في معلقته بقوله :
فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى *** واجتاب أردية السراب إكامها
فصرح بأن الإكام التي هي الحجارة اجتابت أي لبست أردية السراب.
والأردية جمع رداء، وهذا النوع من القلب وإن أجازه بعضهم فلا ينبغي حمل الآية عليه، لأنه خلاف الظاهر، ولا دليل عليه يجب الرجوع إليه.
وظاهر الآية جار على الأسلوب العربي الفصيح، كما أوضحه أبو حيان في البحر المحيط.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ قرأه ابن كثير وابن عامر ﴿ أأذهبتم ﴾ بهمزتين وهما على أصولهما في ذلك.
فابن كثير يسهل الثانية بدون ألف إدخال بين الهمزتين.
وهشام يحققها ويسهلها مع ألف الإدخال. وابن ذكوان يحققها من غير إدخال.
وقرأه نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ﴾ بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام.
واعلم أن للعلماء كلاماً كثيراً في هذه الآية قائلين إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ونحو ذلك.
وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك خوفاً منه، أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾. والمفسرون يذكرون هنا آثاراً كثيرة في ذلك، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له :
التحقيق : إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم، لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم.
وإنما قلنا : إن هذا هو التحقيق، لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه والله تعالى يقول :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [ النساء : ٥٩ ] الآية.
أما كون الآية في الكفار فقد صرح الله تعالى به في قوله :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ﴾ الآية.
والقرآن والسنة الصحيحة، قد دلا على أن الكافر إن عمل عملاً صالحاً مطابقاً للشرع، مخلصاً فيه لله، كالكافر الذي يبر والديه، ويصل الرحم ويقري الضيف، وينفس عن المكروب، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق والعافية، ونحو ذلك ولا نصيب له في الآخرة.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : ١٥ -١٦ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ ﴾ [ الشورى : ٢٠ ].
وقد قيد تعالى هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته، في قوله تعالى :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٨ ].
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها » هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفي لفظ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته » ا ه.
فهذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه التصريح، بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً، وبمقتضى ذلك. يتعين تعييناً لا محيص عنه، أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر، لأنه لا يجزي بحسناته إلا في الدنيا خاصة.
وأما المؤمن الذي يجزي بحسناته في الدنيا والآخرة معاً، فلم يذهب طيباته في الدنيا، لأن حسناته مدخرة له في الآخرة، مع أن الله تعالى يثيبه بها في الدنيا كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا ًوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢ -٣ ] فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب ثوباً في الدنيا وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة.
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وعلى كل حال فالله جل وعلا أباح لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الطيبات في الحياة الدنيا، وأجاز لهم التمتع بها، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة، كما قال تعالى :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الحياة الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ].
فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.
ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة، يكون لهم أجر زائد على ذلك، لأن المؤمنين يؤجرون، بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد، كما هو معلوم.
والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا، لأنه يجزي في الدنيا فقط كالآيات المذكورة، وحديث أنس المذكور عند مسلم، قد قدمناها موضحة في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٩ ] وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ أي عذاب الهوان وهو الذل والصغار.
وقوله تعالى :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾، الباء في قوله : بما كنتم سببية، وما مصدرية أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض، وكونكم فاسقين.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون، وهو عذاب النار، جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [ الزمر : ٦٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ﴾ [ السجدة : ٢٠ ] الآية.
وقد قدمنا النتائج الوخيمة الناشئة عن التكبر في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكباراً متلبساً بغير الحق كقوله تعالى :﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه، وقوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ [ البقرة : ٧٩ ]، ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم، ونحو ذلك من الآيات، وهو أسلوب عربي نزل به القرآن.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ﴾.
أبهم جل وعلا في هذه الآية الكريمة أخا عاد ولم يعينه ولكنه بين في آيات أخرى، أنه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كقوله تعالى :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ [ الأعراف : ٦٥ وهود ١١ -٥٠ ] في سورة الأعراف وسورة هود وغير ذلك من المواضع.
قوله تعالى :﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن النبي هوداً نهى قومه أن يعبدوا غير الله، وأمرهم بعبادته تعالى وحده، وأنه خوفهم من عذاب الله، إن تمادوا في شركهم به.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية جاءا موضحين في آيات أخر.
أما الأول منهما ففي قوله تعالى :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلٍَه غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٦٥ وهود : ٥٠ ] في سورة الأعراف وسورة هود ونحو ذلك من الآيات.
وأما خوفه عليهم العذاب العظيم فقد ذكره في الشعراء في قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِين َوَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ١٣٢ -١٣٥ ] وهو يوم القيامة.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾.
ومعنى قوله تعالى :﴿ عَظِيمٍ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا ﴾، أي لتصرفنا عن عبادتها إلى عبادة الله وحده.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين :
أحدهما : إنكار عاد على هود أنه جاءهم، ليتركوا عبادة الأوثان، ويعبدوا الله وحده.
والثاني : أنهم قالوا له : ائتنا بما تعدنا من العذاب وعجله لنا إن كنت صادقاً فيما تقول، عناداً منهم وعتوا.
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف ﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧٠ ].
قوله تعالى :﴿ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبي الله هوداً قال لقومه، إنه يبلغهم ما أرسل به إليهم، لأنه ليس عليه إلا البلاغ، وهذا المعنى جاء مذكوراً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ [ الأعراف : ٦٧ -٦٨ ] وقوله تعالى في سورة هود :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ﴾ [ هود : ٥٧ ].
قوله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ﴾ [ فصلت : ١٦ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ﴾.
لفظة ﴿ إنٍ ﴾ في هذه الآية الكريمة فيها للمفسرين ثلاثة أوجه، يدل استقراء القرآن، على أن واحداً منها هو الحق، دون الاثنين الآخرين.
قال بعض العلماء : إن شرطية وجزاء الشرط محذوف، والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم وبغيتم.
وقال بعضهم : إن زائدة بعد ما الموصولة حملا لما الموصولة على ما النافية لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة إن كما هو معلوم.
كقول قتيلة بنت الحرث والنضر العبدرية :
أبلغ بها ميتاً بأن تحية ما إن نزل بها النجائب تخفقوا
وقول دريد بن الصمة في الخنساء :
ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالى أينق جرب
فإن زائدة بعد ما النافية في البيتين وهو كثير، وقد حملوا على ذلك ما الموصولة فقالوا : تزاد بعدها إن كآية الأحقاف هذه. وأنشد لذلك الأخفش :
يرجى المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب
أي يرجى المرء الشيء الذي لا يراه، وإن زائدة، وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما.
لأن الأول منهما فيه حذف وتقدير.
والثاني منهما فيه زيادة كلمة.
وكل ذلك لا يصار إليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
أما الوجه الثالث الذي هو الصواب إن شاء الله، فهو أن لفظة إن نافية بعد ما الموصولة أي ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام، وكثرة الأموال والأولاد، والعدد.
وإنما قلنا : إن القرآن يشهد لهذا القول لكثرة الآيات الدالة عليه، فإن الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشاً وقوة، وأكثر منهم عدداً، وأموالاً، وأولاداً، فلما كذبوا الرسل، أهلكهم الله ليخافوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم الله بسببه، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم، كقوله تعالى في المؤمن ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِي الأرض فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ غافر : ٨٢ ].
وقوله فيها أيضاً :﴿ أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِي الأرض فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [ غافر : ٢١ ] الآية.
وقوله تعالى في الروم :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ [ الروم : ٩ ] الآية.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الزخرف في السلام على قوله تعالى :﴿ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأولين ﴾ [ الزخرف : ٨ ].
قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الجاثية في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [ الجاثية : ١٠ ].
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين َقَالُواْ يا قَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ ٢٩ -٣٠ ].
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف، أنه صرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ ﴾ والنفر دون العشرة ﴿ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ ﴾ وأنهم لما حضروه، قال بعضهم لبعض ﴿ أَنصِتُواْ ﴾ أي اسكتوا مستمعين، وأنه لما قضى. أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته ﴿ وَلَّوْاْ ﴾ أي رجعوا إلى قومهم من الجن في حال كونهم منذرين أي مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله، ويجيبوا داعيه محمداً صلى الله عليه وسلم. وأخبروا قومهم، أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى، المنزل من بعد موسى يهدي إلى الحق، وهو ضد الباطل، وإلى طريق مستقيم، أي لا اعوجاج فيه. وقد دل القرآن العظيم أن استماع هؤلاء النفر من الجن، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله وقع ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أوحى الله ذلك إليه، كما قال تعالى في القصة بعينها، مع بيانها وبسطها، بتفصيل الأقوال التي قالتها الجن، بعد استماعهم القرآن العظيم :﴿ قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً ﴾ [ الجن : ١ -٢ ] إلى آخر الآيات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:قوله تعالى :﴿ يا قَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِي اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به، وبما جاء به، من الحق غفر الله له ذنوبه. وأجاره من العذاب الأليم، ومفهومها، أعني مفهوم مخالفتها، والمعروف بدليل الخطاب، أن من لم يجب داعي الله من الجن، ولم يؤمن به لم يغفر له، ولم يجره، من عذاب أليم، بل يعذبه ويدخله النار، وهذا المفهوم جاء مصرحاً به مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأملأن جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٩ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ] وقوله تعالى ﴿ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] : وقوله تعالى ﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٤ -٩٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
أما دخول المؤمنين، المجيبين داعي الله من الجن، الجنة فلم تتعرض له الآية الكريمة بإثبات ولا نفي، وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، وهي قوله تعالى في سورة الرحمن :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ -٤٧ ] وبه تعلم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم، قائلين إنه يفهم من هذه الآية، من أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة، وأن جزاء إيمانهم وإجابتهم داعي الله، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط، كما هو نص الآية، كله خلاف التحقيق.
وقد أوضحنا ذلك في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب » في الكلام على هذه الآية، من سورة الأحقاف فقلنا فيه ما نصه :
هذه الآية، يفهم من ظاهرها، أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه، وإجارته من عذاب أليم، لا دخوله الجنة.
وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، بظاهر هذه الآية، فقالوا إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة، مع أنه جاء في آية أخرى، ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ ]، لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس، بقوله ﴿ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٧ ].
ويستأنس لهذا بقوله تعالى ﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ [ الرحمان : ٥٦ ] فإنه يشير إلى أن في الجنة جناً يطمثون النساء كالإنس.
والجواب عن هذا، أن آية الأحقاف، نص فيها على الغفران، والإجارة من العذاب، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة، بنفي ولا إثبات، وآية الرحمان نص فيها على دخولهم الجنة، لأنه تعالى قال فيها :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ ].
وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم، فقوله :﴿ وَلِمَنْ خَافَ ﴾، يعم كل خائف مقام ربه، ثم صرح بشمول ذلك الجن والإنس معاً بقوله :﴿ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ١٣ – ١٦- ١٨ -٢١ -٢٣ ].
فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه، أي نعمه على الإنس والجن، فلا تعارض بين الآيتين، لأن إحداهما بينت ما لم تعرض له الأخرى.
ولو سلمنا أن قوله :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، يفهم منه عدم دخولهم الجنة، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم، وقوله :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ ﴿ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق.
والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول.
ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعي وجدناه معدوماً من أصله للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ولا ثالث.
ولا يدخل هذا المفهوم المدعي في شيء من أقسام المفهومين.
أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح.
وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح.
فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب، وليس داخلاً في واحد منهما.
فظهر عدم دخوله فيه أصلاً.
أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط، فلأن قوله :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب.
وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر، لا بالجملة قبله، كما قيل به.
وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور، فتقرير المعنى :﴿ أَجِيبُواْ دَاعِي اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ ﴾ إن تفعلوا ذلك يغفر لكم، فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر.
والجواب عن هذا : أن مفهوم الشرط عند القائل به، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته، فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم، أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم، وهو كذلك.
أما جزاء الشرط فلا مفهوم له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة، فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره.
كما لو قلت لشخص مثلاً : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت.
فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع، لأن قطع اليد مرتب أيضاً على السرقة كالغرم.
وكذلك الغفران، والإجارة من العذاب ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به.
فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض، ثم بين في موضع آخر، وهذا لا إشكال فيه.
وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه، أعني المسند إليه سواء كان لقباً أو كنية أو اسماً أو اسم جنس أو غير ذلك.
وقد أوضحنا اللقب غاية في المائدة.
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعي بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية سندان لا مسند إليهما بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يستند إلى الفعل إجماعاً ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية.
ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسنداً إليه، لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة كما عللوا به مفهوم الصفة.
وأجيب من جهة الجمهور : بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتخصيصه بالحكم، إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه.
مما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به إنما هو المسند إليه لا في المسند، لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالذكور.
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد والأوصاف أصلا، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية.
ولو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان، فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته، وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد، لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا.
والحكم بالمباين على المباين باطل، إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء.
وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي، إن كانت خارجية أو الذهني إن كانت حقيقية.
وأما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة.
وإنما يراعى فيه مطلق الماهية، ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب، فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به، وربما كان اعتباره كفرا كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى :﴿ محمد رسول الله ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول الله، فهذا كفر بإجماع المسلمين.
فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا، سواء كان اسم جنس، أو اسم عين، أو اسم جمع أو غير ذلك.
فقولك جاء زيد لا يفهم منه عدم مجيء عمرو.
وقولك : رأيت أسدا، لا يفهم منه عدم رؤيتك لغير الأسد.
والقول بالفرق، بين اسم الجنس، فيعتبر، واسم العين فلا يعتبر، لا يظهر.
فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية.
ولا يقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ولا يقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب، لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به، إلا أنه يقول :
لو لم يكن اللقب مختصاً بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة، كما علل به مفهوم الصفة لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه.
وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله :
أضعفها اللقب وهو ما أبى من دونه نظم الكلام العرب
وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون، على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين، وهو صريح قوله تعالى :﴿ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٩ ] وقوله تعالى :﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٤ -٩٥ ]، وقوله تعالى :﴿ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ في النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين.
والظاهر دخولهم الجنة كما بينا، والعلم عند الله تعالى. ا ه. منه بلفظه.

قوله تعالى :﴿ يا قَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِي اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به، وبما جاء به، من الحق غفر الله له ذنوبه. وأجاره من العذاب الأليم، ومفهومها، أعني مفهوم مخالفتها، والمعروف بدليل الخطاب، أن من لم يجب داعي الله من الجن، ولم يؤمن به لم يغفر له، ولم يجره، من عذاب أليم، بل يعذبه ويدخله النار، وهذا المفهوم جاء مصرحاً به مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأملأن جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٩ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ] وقوله تعالى ﴿ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] : وقوله تعالى ﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٤ -٩٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
أما دخول المؤمنين، المجيبين داعي الله من الجن، الجنة فلم تتعرض له الآية الكريمة بإثبات ولا نفي، وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، وهي قوله تعالى في سورة الرحمن :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ -٤٧ ] وبه تعلم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم، قائلين إنه يفهم من هذه الآية، من أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة، وأن جزاء إيمانهم وإجابتهم داعي الله، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط، كما هو نص الآية، كله خلاف التحقيق.
وقد أوضحنا ذلك في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب » في الكلام على هذه الآية، من سورة الأحقاف فقلنا فيه ما نصه :
هذه الآية، يفهم من ظاهرها، أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه، وإجارته من عذاب أليم، لا دخوله الجنة.
وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، بظاهر هذه الآية، فقالوا إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة، مع أنه جاء في آية أخرى، ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ ]، لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس، بقوله ﴿ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٧ ].
ويستأنس لهذا بقوله تعالى ﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ [ الرحمان : ٥٦ ] فإنه يشير إلى أن في الجنة جناً يطمثون النساء كالإنس.
والجواب عن هذا، أن آية الأحقاف، نص فيها على الغفران، والإجارة من العذاب، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة، بنفي ولا إثبات، وآية الرحمان نص فيها على دخولهم الجنة، لأنه تعالى قال فيها :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ ].
وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم، فقوله :﴿ وَلِمَنْ خَافَ ﴾، يعم كل خائف مقام ربه، ثم صرح بشمول ذلك الجن والإنس معاً بقوله :﴿ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ١٣ – ١٦- ١٨ -٢١ -٢٣ ].
فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه، أي نعمه على الإنس والجن، فلا تعارض بين الآيتين، لأن إحداهما بينت ما لم تعرض له الأخرى.
ولو سلمنا أن قوله :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، يفهم منه عدم دخولهم الجنة، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم، وقوله :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ ﴿ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق.
والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول.
ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعي وجدناه معدوماً من أصله للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ولا ثالث.
ولا يدخل هذا المفهوم المدعي في شيء من أقسام المفهومين.
أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح.
وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح.
فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب، وليس داخلاً في واحد منهما.
فظهر عدم دخوله فيه أصلاً.
أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط، فلأن قوله :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب.
وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر، لا بالجملة قبله، كما قيل به.
وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور، فتقرير المعنى :﴿ أَجِيبُواْ دَاعِي اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ ﴾ إن تفعلوا ذلك يغفر لكم، فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر.
والجواب عن هذا : أن مفهوم الشرط عند القائل به، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته، فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم، أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم، وهو كذلك.
أما جزاء الشرط فلا مفهوم له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة، فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره.
كما لو قلت لشخص مثلاً : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت.
فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع، لأن قطع اليد مرتب أيضاً على السرقة كالغرم.
وكذلك الغفران، والإجارة من العذاب ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به.
فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض، ثم بين في موضع آخر، وهذا لا إشكال فيه.
وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه، أعني المسند إليه سواء كان لقباً أو كنية أو اسماً أو اسم جنس أو غير ذلك.
وقد أوضحنا اللقب غاية في المائدة.
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعي بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية سندان لا مسند إليهما بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يستند إلى الفعل إجماعاً ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية.
ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسنداً إليه، لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة كما عللوا به مفهوم الصفة.
وأجيب من جهة الجمهور : بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتخصيصه بالحكم، إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه.
مما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به إنما هو المسند إليه لا في المسند، لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالذكور.
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد والأوصاف أصلا، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية.
ولو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان، فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته، وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد، لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا.
والحكم بالمباين على المباين باطل، إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء.
وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي، إن كانت خارجية أو الذهني إن كانت حقيقية.
وأما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة.
وإنما يراعى فيه مطلق الماهية، ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب، فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به، وربما كان اعتباره كفرا كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى :﴿ محمد رسول الله ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول الله، فهذا كفر بإجماع المسلمين.
فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا، سواء كان اسم جنس، أو اسم عين، أو اسم جمع أو غير ذلك.
فقولك جاء زيد لا يفهم منه عدم مجيء عمرو.
وقولك : رأيت أسدا، لا يفهم منه عدم رؤيتك لغير الأسد.
والقول بالفرق، بين اسم الجنس، فيعتبر، واسم العين فلا يعتبر، لا يظهر.
فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية.
ولا يقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ولا يقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب، لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به، إلا أنه يقول :
لو لم يكن اللقب مختصاً بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة، كما علل به مفهوم الصفة لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه.
وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله :
أضعفها اللقب وهو ما أبى من دونه نظم الكلام العرب
وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون، على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين، وهو صريح قوله تعالى :﴿ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٩ ] وقوله تعالى :﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٤ -٩٥ ]، وقوله تعالى :﴿ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ في النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين.
والظاهر دخولهم الجنة كما بينا، والعلم عند الله تعالى. ا ه. منه بلفظه.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَعْي بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيي الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية، وأنها من الآيات الدالة على البعث في البقرة والنحل والجاثية، وغير ذلك من المواضع وأحلنا على ذلك مراراً، والباء في قوله ﴿ بِقَادِرٍ ﴾ يسوغه أن النفي متناول لأن فما بعدها، فهو في معنى أليس الله بقادر ؟
ويوضح ذلك قوله بعد : بلى. مقرراً لقدرته على البعث وغيره.
قوله تعالى :﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾.
اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافاً كثيراً.
وأشهر الأقوال في ذلك أنهم خمسة، وهم الذين قدمنا ذكرهم في الأحزاب والشورى، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا أربعة فصار هو صلى الله عليه وسلم خامسهم.
واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن لفظة من، في قوله : من الرسل بيانية يظهر أنه خلاف التحقيق، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى :﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ﴾ [ القلم : ٤٨ ] الآية، فأمر الله جل وعلا نبيه في آية القلم هذه بالصبر، ونهاه عن أن يكون مثل يونس، لأنه هو صاحب الحوت وكقوله :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾ [ طه : ١١٥ ] فآية القلم، وآية طه المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾.
نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، أن يستعجل العذاب لقومه، أي يدعو الله عليهم بتعجيله لهم، فمفعول تستعجل محذوف تقديره العذاب، كما قاله القرطبي، وهو الظاهر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن طلب تعجيل العذاب لهم جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾ [ المزمل : ١١ ]. وقوله تعالى ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٧ ].
فإن قوله ﴿ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾، وقوله :﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ موضح لمعنى قوله ﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾.
والمراد بالآيات، نهيه صلى الله عليه وسلم عن طلب تعجيل العذاب لهم، لأنهم معذبون، لا محالة عند انتهاء المدة المحدودة للإمهال، كما يوضحه قوله تعالى ﴿ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ﴾ [ مريم : ٨٤ ]. وقوله تعالى ﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ] وقوله تعالى ﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ]. وقوله تعالى :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [ آل عمران : ١٩٦ -١٩٧ ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٦٩ -٧٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٤٥ ] وفي سورة قد أفلح المؤمنون في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ ﴾ [ المؤمنون : ١١٣ ].
وبينا في الكلام على آية قد أفلح المؤمنون وجه إزالة إشكال معروف في الآيات المذكورة.
قوله تعالى :﴿ بَلاَغٌ ﴾.
التحقيق إن شاء الله أن أصوب القولين في قوله :﴿ بَلاَغٌ ﴾ أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره، هذا بلاغ، أي هذا القرآن بلاغ من الله إلى خلقه.
ويدل لهذا قوله تعالى في سورة إبراهيم ﴿ هَذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٥٢ ]، وقوله في الأنبياء ﴿ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٦ ]، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
والبلاغ اسم مصدر، بمعنى التبليغ، وقد علم باستقراء اللغة العربية، أن الفعال يأتي كثيراً، بمعنى التفعيل، كبلغه بلاغاً : أي تبليغاً، وكلمه كلاماً، أي تكليماً، وطلقها طلاقاً، وسرحها سراحاً، وبينه بياناً.
كل ذلك بمعنى التفعيل، لأن فعل مضعفة العين، غير معتلة اللام ولا مهموزته قياس مصدرها التفعيل.
وما جاء منه على خلاف ذلك، يحفظ ولا يقاس عليه، كما هو معلوم في محله.
أما القول بأن المعنى وذلك اللبث بلاغ، فهو خلاف الظاهر كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
Icon