ﰡ
قوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي ما يدخلُ فيها فيُستَرُ، كما يعلمُ ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ ؛ فيظهَرُ، وَيعلمُ، ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ ﴾، مِن مَلَكٍ ورزقٍ ومطر، ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ ؛ وما يصعَدُ إليها من الملائكةِ وأعمالِ العباد، ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ ؛ أي وهو أعلمُ بأقوالِكم وأفعالِكم وعزائِمكم في أيِّ موضعٍ كنتم، فليس يخلُو أحدٌ من علمِ الله وقُدرتهِ أينَما كان في الأرضِ أو في السَّماء أو في برٍّ أو في بحرٍ، ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾. وما بعدَ هذا :﴿ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾. ظاهرُ المعنى.
ويقال : إن الأموالَ التي في الدُّنيا لا تخلُو إمَّا أنْ تكون قد صارت إلينا فنحنُ خلفاؤُهم فيها، أو تصيرُ منَّا إلى غيرِنا فهم خلفاءنا فنحفَظُها، قَوُلهُ تَعَالَى :﴿ فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ ؛ أي لهم ثوابٌ عظيم في الآخرةِ.
قرأ العامَّةُ (أخَذ) بفتحِ الهمزة وفتحِ القاف، وقرأ أبو عمرٍو بضمِّها على ما لَمْ يسَمَّ فاعلهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ؛ يعني إنْ كُنتم مُصدِّقين كما تزعُمون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾ ؛ معناهُ : لا يستوِي منكم في الفَضلِ مَن أنفقَ مالَهُ وقاتلَ العدوَّ مِن قبلِ فتح مكَّة مع مَن أنفقَ من بعدُ وقاتلَ. قال الكلبيُّ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه) قِيْلَ : هذا أنَّهُ كان أوَّلَ مَن أنفقَ المالَ على رسولِ الله ﷺ في سبيلِ الله، وأوَّلَ مَن قاتلَ في الإسلامِ. وقال ابنُ مسعودٍ :(أوَّلُ مَنْ أظْهَرَ إسْلاَمَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النِّبيُّ ﷺ بأَنَّهُ أنْفَقَ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ).
قَالَ العلاءُ بن عمرٍو :" بَيْنَا النَّبيُّ ﷺ جَالِسٌ وَعِنْدَهُ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ، قَدْ خَلَّهَا علَىَ صَدْرهِ بخِلاَلٍ إذْ نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ : مَا لِي أرَى أبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ ؟ فَقَالَ : يَا جِبْرِيلُ إنَّهُ أنْفَقَ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ عَلَيَّ، قَالَ : فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ : يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ : أرَاضٍ أنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذا أمْ سَاخِطٌ ؟ فَقَالَ ﷺ :" يَا أبَا بَكْرٍ ؛ هَذا جِبْرِيلُ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَقُولُ لَكَ رَبُّكَ : أرَاضٍ أنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذا أمْ سَاخِطٌ ؟ " فَبَكَى أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَقَالَ أعَلَى رَبي أغْضَبُ؟! أنَا عَنْ رَبي رَاضٍ ".
وفي هذه الآيةِ دلالةٌ واضحة وحُجَّةٌ بَيِّنَةٌ على فضلِ أبي بكر وتَقديمِه على سائرِ الصَّحابة، كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال :(لاَ أُؤتَي برَجُلٍ فَضَّلَنِي عَلَى أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلاَّ جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ﴾ ؛ معناهُ : أولئكَ أعظمُ ثَواباً وأفضلُ درجةً عند اللهِ من الذين أنفَقُوا من بعدِ فتحِ مكَّة وقاتَلُوا بعدَهُ، وإنما فضَّلَ اللهُ المنفقِين والمقاتلين من قبلِ الفتحِ ؛ لأن الإنفاقَ والقتالَ في ذلك الوقتِ كان أشدَّ على النفسِ، وكانت الحاجةُ اليها أمَسُّ لقلَّة المسلمِين.
ثم بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ لِكِلاَ الفرِيقين الحسنَى وهو الجنةُ، إلاّ أنَّهم مُتفاوتون في الدَّرجَات فقال :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ ؛ أي وكِلاَ الفريقين وعدَ اللهُ الجنةَ، وقرأ ابنُ عامرٍ (وَكُلٌّ) بالرفعِ على الاستئنافِ على لُغة مَن يقولُ : زيدٌ ضرَبتُ. وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ ؛ أي عالِمٌ بما يعملهُ كلُّ واحدٍ منكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ فيه قراءَتان : مَن قرأ بالرفعِ فعلى العطفِ على ﴿ يُقْرِضُ ﴾ أو على الاستئنافِ على معنى فهو يضاعفُهُ، ومَن قرأ بنصب الفاء فعلى جواب الاستفهامِ بالفاء، وقولهُ تعالى :﴿ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ الأجرُ الكريم الذي يقعُ به النفعُ العظيم وهو الجنَّة.
وأرادَ بالنور القرآنَ، وَقِيْلَ : نورُ الإيمانِ والطاعةِ، تظهرُ لهم فيمشون فيه، قال ابنُ مسعودٍ :(يُؤتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْر أعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤتَى نُورَهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤتَى نُورَهُ كَالنَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤتَى نُورَهُ كَالرَّجُلِ الْقائِمِ، وَأدْنَاهُمْ نُوراً نُورُهُ عَلَى إبْهَامِهِ يُطْفِيءُ مَرَّةً وَيُوقَدُ أُخْرَى). وقال قتادةُ :(الْمُؤْمِنُ يُضِيءُ لَهُ نُورُهُ كَمَا بَيْنَ عَدَنَ وَصَنْعَاءَ وَدُونَ ذلِكَ، حَتَّى أنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِين مَنْ لاَ يُضِيءُ لَهُ نُورُهُ إلاَّ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾ قال الضحَّاكُ ومقاتل :(وَبأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمُ الَّتِي أُعْطُوهَا، فَكُتُبُهُمْ بأَيْمَانِهِمْ، وَنُورُهُمْ بَيْنَ أيْدِيهِمْ). وتقولُ لَهم الملائكةُ :﴿ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ ؛ يعني أنْهارَ اللَّبَنِ والخمرِ والعسلِ والماء، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ ؛ لا يَمُوتون ولا يُخرَجون منها، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
قرأ حمزةُ (أنْظِرُونَا) بقطع الألف وكسرِ الظاء ؛ أي أمهِلُونَا، وقال الزجَّاجُ :(مَعْنَاهُ : انْتَظِرُونَا أيْضاً)، وقال عمرُو بن كلثوم : أبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا وَأنْظِرْنَا نُخَبرْكَ الْيَقِينَاقال المفسِّرون : إذا كان يومُ القيامةِ، أعطَى اللهُ المؤمنين نُوراً على قدر أعمالهم يَمشُون به على الصِّراطِ، وأعطَى اللهُ المنافقِين نُوراً كذلكَ خديعةً لَهم فيما بينهم كذلك يَمشون، إذا بعثَ اللهُ ريحاً وظلمةً فانطفأَ نورُ المنافقِين، فعندَ ذلك يقولُ المؤمنون : ربَّنا أتْمِمْ لنا نُورَنا، مخافةَ أن يُسلَبَ كما سُلِبَ المنافِقُون.
ويقولُ : المنافِقُون حينئذٍ للمؤمنين : أنْظُرُونَا نَقتَبسْ من نُوركم، فيقولون لَهم : لا سبيلَ لكم إلى الاقتباسِ من نُورنا، فارجِعُوا وراءَكم فاطلُبوا هنالكَ لأنفُسِكم نُوراً، فيرجِعُون في طلب النُّور فلا يجدُون، فيقولُ لَهم الملائكةُ : ارجعوا إلى الموضعِ الذي أخَذنا منه النُّور فاطلُبوا نوراً، فإنَّ المؤمنين حَمَلُوا النورَ من الدُّنيا بإيمانِهم وطاعتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾ ؛ معناهُ : فيُميَّزُ بين المؤمنِين والمنافقين بأنْ يُضرَبَ بينهم بجدارٍ كبيرٍ يقالُ له السُّورُ، وهو الذي يكونُ عليه أصحابُ الأعرافِ، وهو حاجزٌ بين الجنَّة والنار. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّهُ بَابٌ ﴾ ؛ أي للسُّور بابٌ، ﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ﴾ ؛ وهي الجنَّة التي فيها المؤمنون، ﴿ وَظَاهِرُهُ ﴾ ؛ أي وخارجُ السُّور، ﴿ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ ؛ يعني جهنَّمَ والنارَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَارْتَبْتُمْ ﴾ ؛ أي شَكَكْتُمْ في توحيدِ الله وفي نُبوَّة مُحَمَّدٍ ﷺ، ﴿ وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ﴾ ؛ يعني : ما كانوا يتمنَّون من قتلِ مُحَمَّدٍ ﷺ وهلاكِ المسلمين، وغرَّتكُم أيضاً الأباطيلُ وطولُ الآمالِ، ﴿ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ ؛ يعني الموتَ والبعثَ، ﴿ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ ؛ أي وغَرَّكم الشيطانُ بحُكمِ اللهِ وإمهالهِ عن طاعة اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ ﴾ ؛ أي أولَى بكم وأحقُّ أن تكون مَسكَناً لكم قد ملَكَت أمرَكم، فهي أولَى بكم من كلِّ شيءٍ، وأنتم أولى بها، ومنه المولَى لأنه أولَى بعبيدهِ من غيره، ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ النارُ، قال قتادةُ :(مَا زَالُوا عَلَى خُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى قَذفَهُمُ اللهُ فِي النَّار).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ وهم اليهودُ والنصارى، وموضعُ ﴿ وَلاَ يَكُونُواْ ﴾ النصبَ عطفاً على قولهِ تعالى ﴿ أَن تَخْشَعَ ﴾ و ﴿ وَلاَ يَكُونُواْ ﴾، قال الأخفشُ :(وَإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ نَهْياً) وهذه زيادةٌ في وعظِ المؤمنين، معناهُ : ولا يَكُونوا في قَسَاوَةِ القلوب كالذين أُعطُوا التوراةَ والإنجيلَ من قبلِ المؤمنين، ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ ﴾ ؛ الزمانُ بينهم وبين أنبيائهم، ﴿ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(مَالُوا إلَى الدُّنْيَا وَأعْرَضُواْ عَنْ مَوَاعِظِ اللهِ، فَلَمْ تَلِنْ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ كَلاَمِ اللهِ تَعَالَى). وقوله تعالى :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ أي خارجون عن طاعةِ الله، وإنَّما قالَ ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ لأنه كان منهم مَن أسلمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ قال بعضُهم : تمامُ الكلامِ عند قولهِ ﴿ الصِّدِّيقُونَ ﴾، ثم ابتدأ فقالَ :﴿ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ وخبرهُ :﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ ؛ والشهداءُ على هذا القولِ يحتملُ أنَّ المرادَ بهم الأنبياءُ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ الذين يَشهَدُون يومَ القيامةِ لِمَن صدَّقَ بالتصديقِ وعلى مَن كذبَ بالتكذيب، ويحتملُ أنَّ المرادَ بهم الذين قُتِلُوا في سبيلِ الله.
وقال بعضُهم : وقوله ﴿ وَالشُّهَدَآءُ ﴾ عطفٌ على الصِّدِّيقِينَ ومعنى : الشُّهداء على سائرِ المؤمنين، ففي الحديثِ :" الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ " وقالَ ﷺ :" كُلُّ مُؤمِنٍ شَهِيدٌ " ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾.
وقولهُ تعالى ﴿ وَزِينَةٌ ﴾ أي منظرٌ حسَنٌ، والمعنى : إنما الحياةُ الدُّنيا لعبٌ ولَهوٌ كلعب الصبيان، وزينةٌ كزِينَةِ النِّسوانِ، ﴿ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ ﴾ كتكَاثُرِ الدُّهقان.
قال عليُّ بن أبي طالبٍ لعمَّار بن ياسرٍ :(لاَ تَحْزَنْ عَلَى الدُّنْيَا ؛ فَإنَّهَا سِتَّةُ أشْيَاءٍ : مَطْعُومٌ ؛ وَمَشْرُوبٌ ؛ وَمَلْبُوسٌ ؛ وَمَشْمُومٌ ؛ وَمَرْكُوبٌ ؛ وَمَنْكُوحٌ، فَأَكْبَرُ طَعَامِهَا الْعَسَلُ وَهُوَ بُزَاقُ ذُبَابَةٍ، وَأكْبَرُ شَرَابهَا الْمَاءُ وَفِيهِ يَسْتَوِي جَمِيعُ الْحَيْوَانَاتِ، وَأكْبَرُ مَلْبُوسِهَا الدِّيبَاجُ وَهُوَ نَسْجُ دُودَةٍ، وَأكْبَرُ مَشْمُومِهَا الْمِسْكُ وَهُوَ دَمُ فَأْرَةٍ أوْ ظَبْيَةٍ، وَأكْبَرُ مَرْكُوبهَا الْفَرَسُ وَعَلَيْهِ يُقْتَلُ الرِّجَالُ، وَأكْبَرُ مَنْكُوحِهَا النِّسَاءُ وَهُوَ مُبَالٌ فِي مُبَالٍ).
قَوْلُهُ تََعَالَى :﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ ؛ أي مثَلُ الدُّنيا كمثلِ مطَرٍ أعجبَ الزُّرَّاعَ نباتهُ، والكفرُ في اللغةِ هو التَّغطِيَةُ، وسُمِّي الكافرُ كافراً ؛ لأنه يُغَطِّي الحقَّ بالباطلِ، والزَّارعُ يُغَطِّي الحبَّ بالأرضِ.
والمعنى : كمَثَلِ غيثٍ أعجبَ الزُّرَّاعَ ما نبتَ من ذلك الغيثِ، ﴿ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ﴾ ؛ أي ثم يَبينُ فيصير مُصْفَرّاً بعدَ خُضرَتِهِ وريِّه، ﴿ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً ﴾ ؛ أي متَكَسِّراً مفَتَّتاً تحتَ أرجُلِ الدواب، كذلك الدُّنيا تزولُ وتفنَى، كما لا يبقَى هذا الزرعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾ ؛ أي عذابٌ شديد للكفَّار والمنافقِين، ومغفرةٌ من اللهِ ورضوانٌ للمؤمنين المطيعِين، وقولهُ تعالى :﴿ وَمَا الْحَيَاوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ ؛ هي في سُرعَةِ فَنائِها ونفَادِها مثل متاعِ البيت في سُرعةِ فنائه وفراغهِ وسقوطه وانكسارهِ.
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنَّهُ كان يقولُ في صفةِ الدنيا :(أمَّا مَاضِي فحَكَم، وَأمَّا مَا يُغْنِي فَأَمَانِيُّ وَغُرُورٌ). وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تكْثِرُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ ".
قرأ أبو عمرو (أتَاكُمْ) بالقصرِ ؛ أي جاءَكُم، واختارَهُ أبو عُبيد لقوله (فَاتَكُمْ) ولم يقل : أفَاتَكُمْ، وقرأ الباقون (آتَاكُمْ) بالمدِّ ؛ أي أعطَاكُم، واختارَهُ أبو حاتم، وكان الحسَنُ يقولُ لصاحب المال :(فِي مَالِهِ مُصِيبَتَانِ لَمْ يَسْمَعِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ بمِثْلِهَا : يُسْلَبُ عَنْ كُلِّهِ وَيُسْأَلُ عَنْ كُلِّهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ ؛ فيه ذمٌّ للفرحِ الذي يختالُ ويبطرُ بالمالِ والولدِ والولايةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ ؛ أي مَن يعرِضْ عن الإيمانِ وعن أداءِ الحقوق، فإنَّ اللهَ هو الغنيُّ عنه وعن إيمانهِ، وهو المحمودُ في أفعالهِ، قرأ نافعُ وابن عامر (فَإنَّ اللهَ الْغَنِيُّ)، وقرأ الباقون (هُوَ الْغَنِيُّ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ الإِبْرَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْكَلْبَتَيْنِ). وَقِيْلَ : المرادُ بإنزالِ الحديد أنه خلقَهُ اللهُ في الجبالِ والمعادن. وقوله تعالى ﴿ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ أي قوَّةٌ شديدةٌ، لا يُلَيِّنهُ إلاَّ النارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ يعني الفؤوسَ والسكاكينَ والإبرةَ وآلةَ الحرب وآلة الدفعِ يعني السِّلاحَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ﴾ ؛ أي وليعلَمَ اللهُ مَن ينصرُ دِينَهُ وينصرُ رسلَهُ بهذه الأسلحةِ، واللهُ سبحانه لم يزَلْ عَالِماً بمَن ينصرُ ومَن لا ينصرُ ؛ لأن عِلْمَ اللهِ لا يكون حَادِثاً، لأنَّ المرادَ بهذا العلمِ الإظهارُ والتمييز. وقوله تعالى ﴿ بِالْغَيْبِ ﴾ معناهُ : ولَمْ يَرَ اللهَ ولا أحكامَ الآخرة.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ ؛ فيه بيانُ أنه تعالَى لم يأمُرْ بالجهادِ عن ضَعْفٍ وعجزٍ، إنما أمَرَ به ليُثِيبنَا عليه. وما بعدَ هذا :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا ﴾ ؛ ليس بعطفٍ على ما قبلَهُ، وانتصابهُ بفعلٍ مُضمَرٍ يدلُّ عليه ما بعدَهُ، كأنه قالَ : وابتدَعُوا رهبانيةً ؛ أي جاءُوا بها من قِبَلِ أنفُسِهم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾ ؛ معناهُ : ما فرَضنَاها عليهم تلك الرهبانيَّة، بل هي غلُوُّهم في العبادِة من حملِ المشَاقِّ على أنفُسِهم، وهي الامتناعُ من المطعمِ والمشرب والملبَسِ والنِّكَاحِ والتعبُّدِ في الجبالِ، ما فَرضنَا عليهم ذلك إلاّ أنَّهم طلَبُوا بها رضوانَ اللهِ. وَقِيْلَ : معناها : ما فرَضنا عليهم إلاَّ اتباعَ ما أمرَ اللهُ.
قَوْلُهُ تعَالَى :﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ ؛ أي قصَّرُوا فيما ألزَمُوه أنفُسَهم ولم يحفَظُوها حقَّ الحفظِ، ويقالُ : إنه لَمَّا لم يُؤمِنوا بالنبيِّ ﷺ حين بُعث كانوا تاركين لطاعةِ الله تعالى غيرَ مُراعين لها فضيَّعوها وكفَرُوا بدينِ عيسى بن مريم، وتَهَوَّدوا وتنَصَّروا وتركوا الترهيب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ ؛ وهم الذين أقَامُوا على دينِ عيسى حتى أدرَكُوا مُحَمَّداً ﷺ فآمَنُوا به فأعطيناهم ثوابَهم، قال ﷺ :" مَنْ آمَنَ بي وَصَدَّقَنِي وَاتَّبَعَنِي فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رعَايَتِهَا، وَمَنْ لَمْ يَتَّبعْنِي فَأُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ " قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ؛ معناهُ : وكثيرٌ منهم خالَفُوا دينَ عيسى فقالوا هو ابنُ اللهِ أو نَحواً من هذا القولِ.
والرهبانيَّةُ في اللغة : خَصْلَةٌُ يظهرُ فيها معنى الرَّهْبَنَةِ، وذلك إمَّا في لبسهِ أو انفرادهِ عن الجماعة للعبادةِ، قال رسولُ الله ﷺ :" لاَ تُشَدِّدُواْ عَلَى أنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدُ اللهُ عَلَيْكُمْ، فَإنَّ قَوْماً شَدَّدُواْ عَلَى أنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ، ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ ".
وعن عروةَ قال :" دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ بَاذةُ الْهَيْبَةِ، فَسَأَلَتْهَا : مَا شَأْنُكِ ؟ فَقَالَتْ : زَوْجِي يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ، فَذكَرَتْ عَائِشَةُ ذلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍِ، فَقَالَ لَهُ :" يَا عُثْمَانَ إنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا، فَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ، فَوَاللهِ إنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ ؛ على الصِّراط، كما قا ل تعالى﴿ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾[التحريم : ٨] فهذا علامةُ المؤمنين في القيامةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ويجعَلْ لكم نُوراً بالإيمان في الدُّنيا، يعني الهدَى والبينات تَهتدون به إلى طاعةِ الله، ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ ؛ لمن ماتَ على التوبةِ، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾.