تفسير سورة سورة الحديد من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الحديد مدنية وقيل : مكية
وهي تسع وعشرون آية وأربع ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ سبح ﴾، جاء في مفتتح السور بلفظ الماضي، والمضارع، والمصدر، والأمر إشعار بأن الموجودات من الابتداء إلى الانتهاء مقدسة لذاته طوعا أو كرها وإن من شيء إلا يسبح بحمده،
﴿ لله ﴾ : هذا الفعل عدى بنفسه، وباللام أيضا،
﴿ ما في السماوات والأرض ﴾ : من الموجودات، ولكن لا يفقهون تسبيحهم،
﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ : فيستحق التسبيح،
﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾ : هو الخالق المتصرف، ﴿ يحيي ويميت ﴾، استئناف، أو حال، ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾
﴿ هو الأول ﴾ : فليس قلبه شيء، ﴿ والآخر ﴾ : فليس بعده شيء يبقى بعد فناء الممكنات، ﴿ والظاهر ﴾ : الغالب من ظهر عليه إذا غلبه، أو ظاهر لأن جميع الكائنات دليل ذاته، ﴿ والباطن ﴾ الذي بطن كل شيء أي : علم باطنه أو باطن لأنه غير مدرك بالحس، وفي الحديث " أنت الأول فليس قبلك شي، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء " وفي الترمذي عد عليه الصلاة والسلام سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة سنة ثم قال :" والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطعلى الله ثم قرأ هو الأول والآخر " الآية، ﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ﴾ : قد مر تفسيره في سورة الأعراف، وغيرها، ﴿ يعلم ما يلج في الأرض ﴾ : كالحب والقطر، ﴿ وما يخرج منها ﴾ : كالشجر والنبات، ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ : كالملك، والمطر، ﴿ وما يعرج فيها ﴾ : كالأرواح، والأعمال، والملك والأبخرة، ﴿ وهو معكم أينما كنتم ﴾ : لا ينفك علمه عنكم، ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ : فيجازيكم عليه،
﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾، هو كالمقدمة للإعادة والإبداء فلذا كرره، ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ : فيحكم في خلقه ما يشاء،
﴿ يولج الليل في النهار ﴾ : فيطول النهار، ﴿ ويولج النهار في الليل ﴾ : فيطول الليل، ﴿ وهو عليم بذات الصدور ﴾
﴿ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم ﴾ : الله تعالى، ﴿ مستخلفين فيه ﴾ أي : مستخلفين ممن كان قبلكم بتوريثه إياكم، أو جعلكم الله خلفاء في التصرف، وهو في الحقيقة لله تعالى، فلا تبخلوا، ﴿ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ﴾ : فالإيمان، والإنفاق لا ينفعان إلا أنفسكم،
﴿ وما لكم ﴾، مبتدأ أو خبر، ﴿ لا تؤمنون بالله ﴾، حال، ﴿ والرسول يدعوكم ﴾، الواو للحال فهما حالان متداخلان يعني، أي عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم، ﴿ لتؤمنوا بربكم ﴾ أي : إلى هذا الأمر الجليل اليسير، ﴿ وقد أخذ ﴾ : الله ﴿ ميثاقكم ﴾ : حين أخرجكم من ظهر آدم أو بإقامة الحجج، ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ : بحجة ودليل، وعن بعض المفسرين الميثاق بيعة الرسول- عليه الصلاة والسلام، فإن الخطاب مع المؤمنين على سبيل التوبيخ،
﴿ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ﴾ : القرآن، ﴿ ليخرجكم ﴾ : الله، أو العبد، ﴿ من الظلمات ﴾ : الجهالات، ﴿ إلى النور ﴾ : العلم، ﴿ وإن الله بكم لرءوف رحيم ﴾
﴿ وما لكم ألا تنفقوا ﴾ : في أن لا تنفقوا الظاهر أن هذا خطاب للمؤمنين، والأول للكافرين، ﴿ في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ : هو يتصرف في كل شيء وحده فإنكم ميتون تاركون لأموالكم، ﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ﴾ : فتح مكة، ﴿ وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد ﴾ : بعد فتح مكة، ﴿ وقاتلوا ﴾ : فإنه كان الأمر قبل الفتح شديد، أو الناس في ريب في أمر الرسالة لكن بعد الفتح ظهر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وقلت الحاجة إلى الإنفاق، ﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ أي : وعد كلا من المنفقين من قبل ومن بعد الجنة، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ : فلا يضيع عنده عمل عامل.
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾ : من أنفق المال رجاء ثواب الله كمن يقرضه، وهو عام لكل إنفاق هو لله تعالى، ﴿ فيضاعفه له ﴾ : يعطي أجره أضعافا، وقراءة النصب على جواب الاستفهام، والرفع على العطف على يقرض، ﴿ وله أجر كريم ﴾ أي : وذلك الأجر المضموم إليه الإضعاف كريم محمود في نفسه يعني : كما أنه زائدة في الكم بالغ في الكيف، وهو جملة حالية،
﴿ يوم ترى ﴾ ظرف لله، أو ليضاعف، أو اذكر، ﴿ المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ : وذلك دليلهم إلى الجنة على قدر أعمالهم، وأدناهم نورا من كان في إبهامه فيطفوا مرة، ويقد أخرى عبر عن جميع الجهات بالجهتين، وجملة يسعى حالية، ﴿ بشراكم اليوم ﴾ يقول الملائكة لهم ذلك، ﴿ جنات ﴾ أي : دخول جنات ﴿ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ﴾،
﴿ يوم يقول ﴾ بدل، ﴿ المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا ﴾ : انتظرونا، ﴿ نقتبس من نوركم ﴾ : نستضئ منه، ﴿ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ﴾، القائل المؤمنون، أو الملائكة أي : ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور، واطلبوا فيه نورا، فلا يستضيئون من نورهم كما لا يستضئ الأعمى ببصر البصير، ﴿ فضرب بينهم ﴾ : المؤمنين والمنافقين، ﴿ بسور ﴾ : حجاب، ﴿ له باب باطنه ﴾ : باطن السور أو الباب، ﴿ فيه الرحمة ﴾ : لأنه يلي الجنة، ﴿ وظاهره من قبله ﴾ من جهته، ﴿ العذاب ﴾ : فإنه يلي النار،
﴿ ينادونهم ﴾ : المنافقون المؤمنين، ﴿ ألم نكن معكم ﴾ : في الدنيا نوافقكم في أعمالكم ؟ ﴿ قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم ﴾ : بالنفاق والمعاصي، ﴿ وتربصتم ﴾ : انتظرتم في شأن المؤمنين الدوائر، وعن بعض أخرتم التوبة، ﴿ وارتبتم ﴾ : في الدين، ﴿ وغرتكم الأماني ﴾ : أمنيتكم الباطلة غرتكم، ﴿ حتى جاء أمر الله ﴾ : الموت، ﴿ وغركم بالله الغرور ﴾ : الشيطان، فيقول : اعملوا فالله تعالى عفو،
﴿ فاليوم لا يؤخذ ﴾ : لا يقبل، ﴿ منكم فدية ﴾ : فداء، ﴿ ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي ﴾ : النار، ﴿ مولاكم ﴾ : أولىبكم، أو النار ناصركم، فلا ناصر لكم، ﴿ وبئس المصير ﴾ : النار،
﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ﴾ أي : ألم يأت وقت الخشوع ؟ ﴿ وما نزل من الحق ﴾ : القرآن أي : عند ذكر الله، والموعظة وسماع القرآن، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، وعن بعض : مل الصحابة ملة، فقالوا : حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ [ يوسف : ٣ ] ثم ملوا، فقالوا : حدثنا، فنزل ﴿ الله نزل أحسن الحديث ﴾ [ الزمر : ٢٣ ]، ثم ملوا فقالوا حدثنا، فأنزل الله تعالى الآية، ﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ﴾ : كاليهود : والنصارى عطف على تخشع، أو نهي عن مماثلة أهل الكتاب، وفيه التفات، ﴿ فطال عليهم الأمد ﴾ : الزمان بينهم وبين أنبيائهم، ﴿ فقست قلوبهم ﴾ : مالوا إلى الدنيا، وأعرضوا عن مواعظ الله تعالى، ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ : خارجين من الدين،
﴿ اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها ﴾ : فلا تيأسوا من أن يلين القلوب بعد قسوتها قيل : تمثيل لإحياء الأموات، فيكون معناه الزجر والتحذير عن القساوة، ﴿ قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ﴾
﴿ إن المصدقين والمصدقات ﴾ : المتصدقين، وقراءة تخفيف الصاد معناه الذين صدقوا الله تعالى، ﴿ وأقرضوا الله ﴾، عطف على صلة الألف واللام، لأنه بمعنى إن الذين اصدقوا أو يكون نصب، والمتصدقات على التخصيص، فإن المصدقين عام للذكر والأنثى على التغليب كما إن أقرضوا عام كأنه قيل إن المصدقين، وأخص المتصدقات منهم، ولهذا قال- عليه الصلاة والسلام :" معشر النساء تصدقن " الحديث فيكون والمتصدقات اعتراضا على سبيل الاستطراد فلا يلزم الفصل بين أجزاء الصلة بأجنبي، ولما لم يكن الإقراض غير ذلك التصدق قيل : وأقرضوا أي : بذلك التصدق، ولم يقل والمقرضين، ﴿ قرضا حسنا ﴾ : لوجه الله تعالى، ﴿ يضاعف ﴾ أي : ثواب القرض خبر إن، ﴿ لهم ولهم أجر كريم ﴾ : حسن،
﴿ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ﴾ عن مجاهد كل مؤمن صديق، وعن الضحاك هم ثمانية نفر سبقوا إلى الإيلام أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة- رضي الله تعالى عنهم ﴿ والشهداء عند ربهم ﴾ أي : في جنات النعيم أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة، ثم تأوي إلى القناديل مبتدأ أو خبر، أو المراد المؤمنون كلهم كالصديقين والشهداء عند الله تعالى، فيكون والشهداء عطفا على الصديقون، وفي الحديث " مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا هذه الآية " ويدل عليه قوله تعالى﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ [ النساء : ٦٩ ] ﴿ لهم أجرهم ﴾ أي : أجر كل منهم مقصور عليهم وكذا نورهم، أو المؤمنين مثل أجر الشهداء ونورهم لا يلزم منه المماثلة من جميع الجهات، ﴿ ونورهم ﴾ : الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، ﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ : ملازموها لا ينفكون عنها.
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ﴾ : ما هي إلا أمور خالية كملاعب الصبيان لا فائدة، ولا غاية تترتب عليها سوى إتعاب البدن، ﴿ ولهو ﴾ : تلهون به عما ينفعكم، ﴿ وزينة ﴾ : تتزينون بها، ﴿ وتفاخر بينكم ﴾ : يفتخر به بعضكم على بعض، ﴿ وتكاثر في الأموال والأولاد ﴾، مباهاة بكثرة الأموال والأولاد، ثم قرر ذلك بقوله :﴿ كمثل غيث ﴾، مستأنفة أي : مثله كمثله أو خبر بعد خبر أي : ما هي إلا كمثله، ﴿ أعجب الكفار ﴾ : الزراع، أو الكافرون فإنهم أشد عجابا بخضرة الدنيا، ﴿ نباته ثم يهيج ﴾ : ييبس بعاهة، ﴿ فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ﴾ : هشيما متفتتا، ﴿ وفي الآخرة عذاب شديد ﴾ : فلا تنهمكوا في شهواتها، ﴿ ومغفرة من الله ورضوان ﴾ : فاطلبوا ما هو خير وأبقى، ﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ : كمتاع يدلس به على المشتري ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده،
﴿ سابقوا ﴾ : سارعوا مسارعة السابقين في المضمار، ﴿ إلى مغفرة ﴾ : موجباتها، ﴿ من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ﴾، قد مر في سورة آل عمران، ﴿ أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ : فلا يجب عليه شيء، ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ : فارتقبوا فضل الله تعالى وإن جل،
﴿ ما أصاب من مصيبة ﴾ : كالقحط، ﴿ في الأرض ﴾ : صفة لمصيبة، ﴿ ولا في أنفسكم ﴾ : كالأمراض، ﴿ إلا في كتاب ﴾ : في اللوح حال يعني مسطورا فيه، ﴿ من قبل أن نبرأها ﴾ : نخلق المصيبة أو الأرض والأنفس، ﴿ إن ذلك ﴾ : ثبته في كتاب، ﴿ على الله يسير ﴾
﴿ لكيلا تأسوا ﴾ أي : أعلمكم أنها مثبتة لئلا تحزنوا ﴿ على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ : الله من متاع الدنيا، فإن من علم أن كل ما قدر له لم يكن ليخطئه، وكل ما لم يقدر لم يكن ليصيبه ليس من شأنه الفزع والفرح، بل النظر إلى تقليبه الله تعالى ظهرا وبطنا إن رضى فله الرضاء، وإن سخط فله السخط، والمراد من الحزن الجزع، ومن الفرح ما يلهي عن الشكر ويفضي إلى البطر والأشر، ولذلك قال :﴿ والله لا يحب كل مختال ﴾ أي : متكبر، ﴿ فخور ﴾ : على الناس بمتاع الدنيا عن جعفر الصادق- رضي الله عنه- يا ابن آدم ما لك تتأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت،
﴿ الذين يبخلون ﴾، بدل من كل مختال فإن أكثرهم بخلاء، ﴿ ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول ﴾ : يعرض عن الإنفاق والطاعة ﴿ فإن الله هو الغني الحميد ﴾ : فإنه غني عنه، وعن إنفاقه وطاعته محمود في ذاته لا يضره كفر ولا ينفعه شكر،
﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ﴾ : المعجزات، ﴿ وأنزلنا معهم الكتاب ﴾، جنس الكتاب، ﴿ والميزان ﴾ أي : العدل أو الميزان المعروف قيل : نزل جبريل- عليه السلام- بالميزان إلى نوح- عليه السلام-، وقال : مر قومك يزنوا به، ﴿ ليقوم الناس بالقسط ﴾ أي : ليتعاملوا بالعدل، ﴿ وأنزلنا ﴾ : أنشأنا، وأحدثنا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- ثلاثة أشياء نزلت مع آدم السندان والكلبتان والمطرقة، ﴿ الحديد فيه بأس شديد ﴾ : هو القتال به مع من عاند الحق، ﴿ منافع للناس ﴾ إذ هو آلة لأكثر الصنائع، ﴿ وليعلم الله ﴾، عطف على معنى فيه بأس شديد ومنافع فإنه حال يتضمن تعليلا أي : أنزلناه للبأس وللنفع وليعلم وقيل : عطف على ليقوم الناس، ﴿ من ينصره ﴾ أي : دينه، ﴿ ورسله ﴾ : باستعمال آلات الحرب مع أعداء الله تعالى، ﴿ بالغيب ﴾ : غائبا عن الله تعالى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- يبصرونه ولا ينصرونه، ﴿ إن الله قوي ﴾ : في أمره، ﴿ عزيز ﴾ : في ذاته لا يحتاج إلى نصرة ناصر.
﴿ لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ : ولم يرسل بعدهما نبي إلا من ذريتهما، ﴿ فمنهم ﴾ : من الذرية، ﴿ مهتد وكثير منهم فاسقون ﴾ : خارجون عن الطاعة،
﴿ ثم قفينا على آثارهم ﴾ : آثار نوح وإبراهيم عليهما السلام، ومن عاصرهما، ﴿ برسلنا وقفينا ﴾ : هم، ﴿ بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ﴾ أي : عيسى، ﴿ رأفة ﴾ : رقة شديدة، ﴿ ورحمة ﴾ : كانوا متوادين رحماء، ﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾، منصوبة على شريطة التفسير أي : وابتدعوا رهبانية يعني جاءوا بالرياضة الشاقة، والانقطاع عن الناس من عند أنفسهم، ﴿ ما كتبنا عليهم ﴾ : ما أمرناهم بها، ﴿ إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ : لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تعالى ﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾ : ذم بوجهين الابتداع في دين الله تعالى، وعدم القيام بما التزموا مما زعموا أنه قربة، ﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ : وهم الثابتون على دين عيسى- عليه السلام- والرهبانية، ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ : الذين غيروا دين عيسى عن ابن مسعود قال- عليه الصلاة والسلام :" هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال " ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان، فقاتلوهم فهزم المؤمنون ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون : محمدا صلى الله عليه وسلم- فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية "، وفي رواية " فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم الذين آمنوا بي، وكثير منهم فاسقون الذين كذبوني "،
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾، الخطاب لمؤمني أهل الكتاب، ﴿ وآمنوا برسوله ﴾ : محمد- عليه الصلاة والسلام ﴿ يؤتكم كفلين ﴾ : نصيبين، ﴿ من رحمته ﴾ : للإيمان بنبيكم، وللإيمان برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وذلك لمن بقي على دين عيسى- عليه السلام- ولم يغير، ﴿ ويجعل لكم نورا تمشون به ﴾ : على الصراط، ﴿ ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾ : وكثير من السلف على أن هذه الآية لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى في شأن هذه الأمة المرحومة، ففضلهم على أهل الكتاب بالنور والمغفرة،
﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ : الذين لم يؤمنوا، ﴿ ألا يقدرون على شيء من فضل الله ﴾ أي : يعطيكم الله تعالى نصيبين من رحمته، لأن يعلم الكافرون منهم أنه لا يتمكنون من نيل شيء من فضل الله تعالى، فلا مزيدة، ﴿ وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾، وعلى التفسير الثاني معناه أعطيناكم يا أمة محمد كفلين من رحمته كما أعطى المؤمنون من أهل الكتاب أجرين ليعلم المؤمنون من أهل الكتاب أن فضل الله تعالى ليس بيد أحد، فلو أعطاهم أجرين لأجل إيمانين أعطى المؤمنين كفلين لأجل الأيمان الواحد بفضله قيل :" لا " غير مزيدة، والمعنى لئلا يعلم أهل الكتاب عجز المؤمنين ونقصانهم.
والحمد لله على كل حال.