تفسير سورة الحديد

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الحديد مدنية وقيل : مكية
وهي تسع وعشرون آية وأربع ركوعات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ سبح ﴾، جاء في مفتتح السور بلفظ الماضي، والمضارع، والمصدر، والأمر إشعار بأن الموجودات من الابتداء إلى الانتهاء مقدسة لذاته طوعا أو كرها وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ﴿ لله ﴾ : هذا الفعل عدى بنفسه، وباللام أيضا، ﴿ ما في السماوات والأرض ﴾ : من الموجودات، ولكن لا يفقهون تسبيحهم، ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ : فيستحق التسبيح،
﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾ : هو الخالق المتصرف، ﴿ يحيي ويميت ﴾، استئناف، أو حال، ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾
﴿ هو الأول ﴾ : فليس قلبه شيء، ﴿ والآخر١ : فليس بعده شيء يبقى بعد فناء الممكنات، ﴿ والظاهر ﴾ : الغالب من ظهر عليه إذا غلبه، أو ظاهر لأن جميع الكائنات دليل ذاته، ﴿ والباطن٢ الذي بطن كل شيء أي : علم باطنه أو باطن لأنه غير مدرك بالحس، وفي الحديث٣ " أنت الأول فليس قبلك شي، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء " وفي الترمذي٤ عد عليه الصلاة والسلام سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة سنة ثم قال :" والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط٥على الله ثم قرأ هو الأول والآخر " الآية، ﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾
١ أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا في قوله عز وجل هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء، والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني بالقرب علمه وقدرته، وهو فوق عرشه، وهو بكل شيء عليم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام مقدار كل يوم ألف عام، ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض من القطر، وما يخرج منها من النبات، وما ينزل من السماء من القطر، وما يعرج فيها يعني ما يصعد إلى السماء من الملائكة، وهو معكم أين ما كنتم يعني قدرته وسلطانه وعلمه معكم أين ما كنتم، والله بما تعملون بصير/١٢ در منثور..
٢ وفي كتاب العلو للذهبي روى بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا- والله أعلم- في قوله هو الأول والآخر والظاهر والباطن هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء، والباطن أقرب من كل شيء وإنما يعني بالقرب علمه وقدرته، وهو فوق عرشه، وهو بكل شيء عليم. رواه البيهقي بإسناد عنه انتهى/١٢..
٣ هذا في صحيح مسلم وغيره/١٢..
٤ "ضعيف" ضعفه الشيخ الألباني في " ضعيف الترمذي"..
٥ قال الترمذي: فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله في كل مكان، وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه/١٢..
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش١ : قد مر تفسيره في سورة الأعراف، وغيرها، ﴿ يعلم ما يلج في الأرض ﴾ : كالحب والقطر، ﴿ وما يخرج منها ﴾ : كالشجر والنبات، ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ : كالملك، والمطر، ﴿ وما يعرج فيها ﴾ : كالأرواح، والأعمال، والملك والأبخرة، ﴿ وهو معكم٢ أينما كنتم ﴾ : لا ينفك علمه عنكم، ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ : فيجازيكم عليه،
١ قال الشيخ عبد القادر في الغنية: وكونه عز وجل على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، بلا كيف، وفي رسالة النزول لابن تيمية قال أبو عمر الطلمنكي: قد أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله تعالى على عرشه بائن من جميع خلقه، وتعالى الله عن قول أهل الزيغ، وعما يقول الظالمون علوا كبيرا انتهى/١٢.
٢ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله:﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ قال: عالم بكم أينما كنتم وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان الثوري أنه سئل عن قوله:﴿وهو معكم﴾ قال: علمه/١٢ در منثور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة النزول: وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه وقد ذكر ابن عبد البر، وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد به، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك، ومقاتل بن حيان، والثوري، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وفي رسالة النزول أيضا فلفظة المعية ليست في لغة العرب، ولا شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالآخر كما في قوله:﴿محمد رسول الله والذين معه﴾[الفتح: ١١٩]، قوله:﴿أولئك مع المؤمنين﴾[النساء: ١٤٦] وقوله:﴿اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾[التوبة: ١١٩] وقوله:﴿وجاهدوا معكم﴾[الأنفال: ٧٥] ومثل هذا كثير، فامتنع أن يكون قوله وهو معكم يدل على أن ذاته مختلطة تكون بذوات الخلق، وأيضا فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكأن السياق يدل على أنه أراد أنه عالم به، وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر يبين أن لفظ المعية في اللغة، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد/١٢..

﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾، هو كالمقدمة للإعادة والإبداء فلذا كرره، ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ : فيحكم في خلقه ما يشاء،
﴿ يولج الليل في النهار ﴾ : فيطول النهار، ﴿ ويولج النهار في الليل ﴾ : فيطول الليل، ﴿ وهو عليم بذات الصدور١
١ ولما ذكر تسبيح العالمين، وما احتوى عليه من الملك والتصرف، وذكر لنفسه الصفات العلى، وختم بالعلم بخفيات الصدور، وأمر عباده بالإيمان والإنفاق في الخير، فقال: ﴿آمنوا بالله ورسوله﴾/ ١٢ وجيز..
﴿ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم ﴾ : الله تعالى، ﴿ مستخلفين فيه ﴾ أي : مستخلفين ممن كان قبلكم بتوريثه إياكم، أو جعلكم الله خلفاء في التصرف، وهو في الحقيقة لله تعالى، فلا تبخلوا١، ﴿ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ﴾ : فالإيمان، والإنفاق لا ينفعان إلا أنفسكم،
١ فيه تزهيد في المال إذ مصيره إلى الغير، وأنه ينتقل منكم كما انتقل من آبائكم قيل لأعرابي: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لله عندي/١٢ وجيز..
﴿ وما لكم ﴾، مبتدأ أو خبر، ﴿ لا تؤمنون بالله ﴾، حال، ﴿ والرسول يدعوكم ﴾، الواو للحال فهما حالان متداخلان يعني، أي عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم، ﴿ لتؤمنوا بربكم ﴾ أي : إلى هذا الأمر الجليل اليسير، ﴿ وقد أخذ ﴾ : الله ﴿ ميثاقكم ﴾ : حين أخرجكم من ظهر آدم أو بإقامة الحجج، ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ : بحجة ودليل، وعن بعض المفسرين الميثاق بيعة الرسول- عليه الصلاة والسلام، فإن الخطاب مع المؤمنين على سبيل التوبيخ،
﴿ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ﴾ : القرآن، ﴿ ليخرجكم ﴾ : الله، أو العبد، ﴿ من الظلمات ﴾ : الجهالات، ﴿ إلى النور ﴾ : العلم، ﴿ وإن الله بكم لرءوف رحيم ﴾
﴿ وما لكم ألا تنفقوا ﴾ : في أن لا تنفقوا الظاهر أن هذا خطاب للمؤمنين، والأول للكافرين، ﴿ في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ : هو يتصرف في كل شيء وحده فإنكم ميتون تاركون لأموالكم، ﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ﴾ : فتح مكة، ﴿ وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد ﴾ : بعد فتح مكة، ﴿ وقاتلوا ﴾ : فإنه كان الأمر قبل الفتح شديد، أو الناس في ريب في أمر الرسالة لكن بعد الفتح ظهر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وقلت الحاجة إلى الإنفاق، ﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ أي : وعد كلا من المنفقين من قبل ومن بعد الجنة، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ : فلا يضيع عنده عمل عامل.
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾ : من أنفق المال رجاء ثواب الله كمن يقرضه، وهو عام لكل إنفاق هو لله تعالى، ﴿ فيضاعفه له ﴾ : يعطي أجره أضعافا، وقراءة النصب على جواب الاستفهام، والرفع على العطف على يقرض، ﴿ وله أجر كريم ﴾ أي : وذلك الأجر المضموم إليه الإضعاف كريم محمود في نفسه يعني : كما أنه زائدة في الكم بالغ في الكيف، وهو جملة حالية،
﴿ يوم ترى ﴾ ظرف لله، أو ليضاعف، أو اذكر، ﴿ المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ : وذلك دليلهم إلى الجنة على قدر أعمالهم١، وأدناهم نورا من كان في إبهامه فيطفوا مرة، ويقد أخرى عبر عن جميع الجهات بالجهتين، وجملة يسعى حالية، ﴿ بشراكم اليوم ﴾ يقول الملائكة لهم ذلك، ﴿ جنات ﴾ أي : دخول جنات٢ ﴿ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ﴾،
١ هذا قول ابن مسعود- رضي الله عنه- والأحاديث الصحاح تدل على قلة النور وكثرته بحسب الأعمال/١٢ منه..
٢ قدرنا المضاف وهو دخول ليصح وقوعه خبر بشراكم/١٢ منه..
﴿ يوم يقول ﴾ بدل، ﴿ المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا ﴾ : انتظرونا، ﴿ نقتبس من نوركم ﴾ : نستضئ منه، ﴿ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا١ نورا ﴾، القائل المؤمنون، أو الملائكة أي : ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور، واطلبوا فيه نورا، فلا يستضيئون من نورهم كما لا يستضئ الأعمى ببصر البصير، ﴿ فضرب بينهم ﴾ : المؤمنين والمنافقين، ﴿ بسور ﴾ : حجاب، ﴿ له باب باطنه ﴾ : باطن السور أو الباب، ﴿ فيه الرحمة ﴾ : لأنه يلي الجنة، ﴿ وظاهره من قبله ﴾ من جهته، ﴿ العذاب ﴾ : فإنه يلي النار،
١ قيل: معناه ارجعوا خائفين، والتمسوا نورا، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم، وسخرية/١٢ منه..
﴿ ينادونهم ﴾ : المنافقون المؤمنين، ﴿ ألم نكن معكم ﴾ : في الدنيا نوافقكم في أعمالكم ؟ ﴿ قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم ﴾ : بالنفاق والمعاصي، ﴿ وتربصتم ﴾ : انتظرتم في شأن المؤمنين الدوائر، وعن بعض أخرتم التوبة، ﴿ وارتبتم ﴾ : في الدين، ﴿ وغرتكم الأماني ﴾ : أمنيتكم الباطلة غرتكم، ﴿ حتى جاء أمر الله ﴾ : الموت، ﴿ وغركم بالله الغرور ﴾ : الشيطان، فيقول : اعملوا فالله تعالى عفو،
﴿ فاليوم لا يؤخذ ﴾ : لا يقبل، ﴿ منكم فدية ﴾ : فداء، ﴿ ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي ﴾ : النار، ﴿ مولاكم ﴾ : أولى١بكم، أو النار ناصركم، فلا ناصر لكم، ﴿ وبئس المصير٢ : النار،
١ يعنى مولى مفعل من أولى أي: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى لكم/١٢منه..
٢ ولما أجمل، وفصل الوعد والوعيد، والبشارة والتهديد الشديد وهم على حالهم ولم يؤثر فيهم قال ﴿ألم يأن﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ ألم يأن١ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ﴾ أي : ألم يأت وقت الخشوع ؟ ﴿ وما نزل من الحق ﴾ : القرآن أي : عند ذكر الله، والموعظة وسماع القرآن، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة٢ من نزول القرآن، وعن بعض : مل الصحابة ملة، فقالوا : حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ [ يوسف : ٣ ] ثم ملوا، فقالوا : حدثنا، فنزل ﴿ الله نزل أحسن الحديث ﴾ [ الزمر : ٢٣ ]، ثم ملوا فقالوا حدثنا، فأنزل الله تعالى الآية، ﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ﴾ : كاليهود : والنصارى عطف على تخشع، أو نهي عن مماثلة أهل الكتاب، وفيه التفات، ﴿ فطال عليهم الأمد ﴾ : الزمان بينهم وبين أنبيائهم، ﴿ فقست قلوبهم ﴾ : مالوا إلى الدنيا، وأعرضوا عن مواعظ الله تعالى، ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ : خارجين من الدين،
١ من أنى الأمر يأني إذا جاء أناه أي: وقته/١٢..
٢ وفي بعض الروايات على رأس خمس عشرة سنة، وهذا دليل على أن السورة مدنية/١٢ منه..
﴿ اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها ﴾ : فلا تيأسوا من أن يلين القلوب بعد قسوتها قيل : تمثيل لإحياء الأموات، فيكون معناه الزجر والتحذير عن القساوة، ﴿ قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون١
١ ولما استبطأ خشوعهم حرضهم على ما هو سبب الخشوع، فقال:﴿إن المصدقين﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ إن المصدقين والمصدقات ﴾ : المتصدقين، وقراءة تخفيف الصاد معناه الذين صدقوا الله تعالى، ﴿ وأقرضوا الله ﴾، عطف على صلة الألف١ واللام، لأنه بمعنى إن الذين اصدقوا أو يكون نصب، والمتصدقات على التخصيص، فإن المصدقين عام للذكر والأنثى على التغليب كما إن أقرضوا عام كأنه قيل إن المصدقين، وأخص المتصدقات منهم، ولهذا قال- عليه الصلاة والسلام :" معشر النساء تصدقن " الحديث٢ فيكون والمتصدقات اعتراضا على سبيل الاستطراد فلا يلزم الفصل بين أجزاء الصلة بأجنبي، ولما لم يكن الإقراض غير ذلك التصدق قيل : وأقرضوا أي : بذلك التصدق، ولم يقل والمقرضين، ﴿ قرضا حسنا ﴾ : لوجه الله تعالى، ﴿ يضاعف ﴾ أي : ثواب القرض خبر إن، ﴿ لهم ولهم أجر كريم ﴾ : حسن،
١ قيل: إنه عطف على الصلة من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن حاصله أن الناس الذين تصدقوا وتصدقن وأقرضوا/١٢ منه..
٢ تتمته " فإني أريتكن أكثر أهل النار"/١٢ منه..
﴿ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ﴾ عن مجاهد كل مؤمن صديق، وعن الضحاك هم ثمانية نفر سبقوا إلى الإيلام أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة- رضي الله تعالى عنهم ﴿ والشهداء عند ربهم ﴾ أي : في جنات النعيم أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة، ثم تأوي إلى القناديل مبتدأ١ أو خبر، أو المراد المؤمنون كلهم٢ كالصديقين والشهداء عند الله تعالى، فيكون والشهداء عطفا على الصديقون، وفي الحديث " مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا هذه الآية " ويدل عليه قوله تعالى﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ [ النساء : ٦٩ ] ﴿ لهم أجرهم ﴾ أي : أجر كل منهم مقصور عليهم وكذا نورهم، أو المؤمنين مثل أجر الشهداء ونورهم لا يلزم منه المماثلة من جميع الجهات، ﴿ ونورهم ﴾ : الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، ﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ : ملازموها لا ينفكون عنها.
١ يعني منقطع عما قبله صرح بذلك ابن عباس- رضي الله عنهما- وكثيرون /١٢ وجيز..
٢ وهذا قول ابن مسعود، وجماعة من السلف/١٢ وجيز..
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ﴾ : ما هي إلا أمور خالية كملاعب الصبيان لا فائدة، ولا غاية تترتب عليها سوى إتعاب البدن، ﴿ ولهو ﴾ : تلهون به عما ينفعكم، ﴿ وزينة ﴾ : تتزينون بها، ﴿ وتفاخر بينكم ﴾ : يفتخر به بعضكم على بعض، ﴿ وتكاثر في الأموال والأولاد ﴾، مباهاة بكثرة الأموال والأولاد، ثم قرر ذلك بقوله :﴿ كمثل غيث ﴾، مستأنفة أي : مثله كمثله أو خبر بعد خبر أي : ما هي إلا كمثله، ﴿ أعجب الكفار١ : الزراع، أو الكافرون فإنهم أشد عجابا بخضرة الدنيا، ﴿ نباته ثم يهيج ﴾ : ييبس بعاهة، ﴿ فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ﴾ : هشيما متفتتا، ﴿ وفي الآخرة عذاب شديد ﴾ : فلا تنهمكوا في شهواتها، ﴿ ومغفرة من الله ورضوان٢ : فاطلبوا ما هو خير وأبقى، ﴿ وما الحياة الدنيا إلا٣ متاع الغرور ﴾ : كمتاع يدلس به على المشتري ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده،
١ المتبادر الكافرون، فإنهم أشد إعجابا بخضرة الدنيا لا الزراع/١٢ وجيز..
٢ لما حقر أمر الدنيا غاية التحقير عظم أمر الآخرة بعبارة وجيزة بليغة، فقال:" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"/ ١٢ وجيز..
٣ أي: لمن اطمئن بها، ولم يجعلها ذريعة إلى الآخرة، عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور ألهتك عن طلب الآخرة فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى: فنعم المتاع، ونعم الوسيلة/١٢ أبو السعود..
﴿ سابقوا١ : سارعوا مسارعة السابقين في المضمار، ﴿ إلى مغفرة ﴾ : موجباتها، ﴿ من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ﴾، قد مر في سورة آل عمران، ﴿ أعدت للذين آمنوا بالله ورسله٢ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ : فلا يجب عليه شيء، ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ : فارتقبوا فضل الله تعالى وإن جل،
١ ولما ذكر ما يئول إليه أمر الدنيا بين ما هو ثابت دائم، وأمر بالمسارعة إليه لئلا يفوت فقال: ﴿سابقوا إلى مغفرة﴾ الآية/١٢
ولما رغب عباده إلى مسارعة الطاعة، وحذرهم عن التكبر والبخل أعقبه بمنته على العباد بإرسال من علمهم طرق الرشادة، فقال:﴿ولقد أرسلنا﴾ الآية/١٢ وجيز..

٢ صفة لجنة دالة على أنها موجودة الآن، وتكرر ذلك في الكتاب والسنة فهو المذهب/١٢..
﴿ ما أصاب من مصيبة ﴾ : كالقحط، ﴿ في الأرض ﴾ : صفة لمصيبة، ﴿ ولا في أنفسكم ﴾ : كالأمراض، ﴿ إلا في كتاب ﴾ : في اللوح حال يعني مسطورا فيه، ﴿ من قبل أن نبرأها ﴾ : نخلق المصيبة أو الأرض والأنفس، ﴿ إن ذلك ﴾ : ثبته في كتاب، ﴿ على الله يسير ﴾
﴿ لكيلا تأسوا ﴾ أي : أعلمكم أنها مثبتة لئلا تحزنوا ﴿ على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ : الله من متاع الدنيا، فإن من علم أن كل ما قدر له لم يكن ليخطئه، وكل ما لم يقدر لم يكن ليصيبه ليس من شأنه الفزع والفرح، بل النظر إلى تقليبه الله تعالى ظهرا وبطنا إن رضى فله الرضاء، وإن سخط فله السخط، والمراد من الحزن الجزع، ومن الفرح ما يلهي عن الشكر ويفضي إلى البطر والأشر، ولذلك قال :﴿ والله لا يحب كل مختال ﴾ أي : متكبر، ﴿ فخور ﴾ : على الناس بمتاع الدنيا عن جعفر الصادق- رضي الله عنه- يا ابن آدم ما لك تتأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت،
﴿ الذين يبخلون ﴾، بدل من كل مختال فإن أكثرهم بخلاء، ﴿ ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول ﴾ : يعرض عن الإنفاق والطاعة ﴿ فإن الله هو الغني الحميد ﴾ : فإنه غني عنه، وعن إنفاقه وطاعته محمود في ذاته لا يضره كفر ولا ينفعه شكر،
﴿ لقد أرسلنا رسلنا١ بالبينات ﴾ : المعجزات، ﴿ وأنزلنا معهم الكتاب٢، جنس الكتاب، ﴿ والميزان ﴾ أي : العدل أو الميزان المعروف قيل : نزل جبريل- عليه السلام- بالميزان إلى نوح- عليه السلام-، وقال : مر قومك يزنوا به، ﴿ ليقوم الناس بالقسط ﴾ أي : ليتعاملوا بالعدل، ﴿ وأنزلنا ﴾ : أنشأنا، وأحدثنا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- ثلاثة أشياء نزلت مع آدم السندان والكلبتان والمطرقة٣، ﴿ الحديد فيه بأس شديد ﴾ : هو القتال به مع من عاند الحق، ﴿ منافع للناس ﴾ إذ هو آلة لأكثر الصنائع، ﴿ وليعلم الله ﴾، عطف على معنى فيه بأس شديد ومنافع فإنه حال يتضمن تعليلا أي : أنزلناه للبأس وللنفع وليعلم وقيل : عطف على ليقوم الناس، ﴿ من ينصره ﴾ أي : دينه، ﴿ ورسله ﴾ : باستعمال آلات الحرب مع أعداء الله تعالى، ﴿ بالغيب ﴾ : غائبا عن الله تعالى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- يبصرونه ولا ينصرونه، ﴿ إن الله قوي ﴾ : في أمره، ﴿ عزيز ﴾ : في ذاته لا يحتاج إلى نصرة ناصر.
١ ولا يحتاج إلى القول بأن الرسل الملائكة إلى الأنبياء فإنه خلاف قول السلف /١٢ وجيز..
٢ ومن وجوه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد أن المعاملة إما مع الخلق، وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم إما الأحباب، والمعاملة معهم بالسوية وهي بالميزان، أو مع الأعداء، والمعاملة معهم بالسيف والحديد، ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة جعله سهل الوجدان كثير الوجود، والذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود، وعند هذا يظهر أثر وجود الله، ورحمته على عبيده فإن كل ما كانت حاجتهم إليه أكثر جعل وجدانه أسهل، ولهذا قال بعض الحكماء: إن أعظم الأمور حاجة إليه هو الهواء لا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجدانا وهيأ أسباب التنفس والآية حتى إن الإنسان يتنفس دائما بمقتضى طبعه وبعد الهواء الماء وبعد الماء الطعام، وكل طعام كانت الحاجة إليه أشد كان وجدانه أسهل، وكلما كان وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل، ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله أشد من الحاجة إلى كل شيء فنرجو من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا قال الشاعر:
سبحان من خص العزيز بعزه *** والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي *** نفس فمحتاج إلى أنفاسه /١٢ كبير..

٣ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم/١٢ وجيز..
﴿ لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ : ولم يرسل بعدهما نبي إلا من ذريتهما١، ﴿ فمنهم ﴾ : من الذرية، ﴿ مهتد وكثير منهم فاسقون ﴾ : خارجون عن الطاعة،
١ ولذلك أفردهما بالذكر لأن الكتاب لهما، ونوح هو الأب الثاني، وإبراهيم هو جد العرب، وبه فخرهم /١٢ وجيز..
﴿ ثم قفينا على آثارهم ﴾ : آثار نوح وإبراهيم عليهما السلام، ومن عاصرهما، ﴿ برسلنا وقفينا ﴾ : هم، ﴿ بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ﴾ أي : عيسى، ﴿ رأفة ﴾ : رقة شديدة، ﴿ ورحمة ﴾ : كانوا متوادين رحماء، ﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾، منصوبة على شريطة التفسير أي : وابتدعوا رهبانية يعني جاءوا بالرياضة الشاقة، والانقطاع عن الناس من عند أنفسهم، ﴿ ما كتبنا ١ عليهم ﴾ : ما أمرناهم بها، ﴿ إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ : لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تعالى ﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾ : ذم بوجهين الابتداع في دين الله تعالى، وعدم القيام بما التزموا مما زعموا أنه قربة، ﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ : وهم الثابتون على دين عيسى- عليه السلام- والرهبانية، ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ : الذين غيروا دين عيسى عن ابن مسعود قال- عليه الصلاة والسلام٢ :" هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال " ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان، فقاتلوهم فهزم المؤمنون ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون : محمدا صلى الله عليه وسلم- فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية "، وفي رواية " فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم الذين آمنوا بي، وكثير منهم فاسقون الذين كذبوني "،
١ أخرج أبو داود، وأبو يعلى الضياء عن أنس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم" فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع، والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم [وذكره ابن كثير في "تفسيره" (٤/٣١٦)] وعزاه لأبي يعلي الموصلي]/١٢-١٢ در منثور..
٢ أخرج معنى هذا الحديث عبد بن حميد والحكيم والترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلي، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود ]وفي بعض طرقه داود بن المحبر وهو أحد الوضاعين للحديث. ولكن أسند أبو يعلي من طريق آخر فقوى الحديث من هذا الوجه، كذا قال ابن كثير في "تفسيره" (٤/٣١٦)]/١٢ در منثور..
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾، الخطاب لمؤمني أهل الكتاب، ﴿ وآمنوا برسوله ﴾ : محمد- عليه الصلاة والسلام ﴿ يؤتكم كفلين ﴾ : نصيبين، ﴿ من رحمته ﴾ : للإيمان بنبيكم، وللإيمان برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وذلك لمن بقي على دين عيسى- عليه السلام- ولم يغير، ﴿ ويجعل لكم نورا تمشون به ﴾ : على الصراط، ﴿ ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾ : وكثير من السلف على أن هذه الآية لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى في شأن هذه الأمة المرحومة، ففضلهم على أهل الكتاب بالنور والمغفرة،
﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ : الذين لم يؤمنوا، ﴿ ألا يقدرون على شيء من فضل الله ﴾ أي : يعطيكم الله تعالى نصيبين من رحمته، لأن يعلم الكافرون منهم أنه لا يتمكنون من نيل شيء من فضل الله تعالى، فلا مزيدة١، ﴿ وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾، وعلى التفسير الثاني معناه أعطيناكم يا أمة محمد كفلين من رحمته كما أعطى المؤمنون من أهل الكتاب أجرين ليعلم المؤمنون من أهل الكتاب أن فضل الله تعالى ليس بيد أحد، فلو أعطاهم أجرين لأجل إيمانين أعطى المؤمنين كفلين لأجل الأيمان الواحد بفضله قيل :" لا " غير مزيدة، والمعنى لئلا يعلم أهل الكتاب عجز المؤمنين ونقصانهم.
والحمد لله على كل حال.
١ نحو: ما منعك أن لا تسجد، وفي بعض القراءات "ليعلم" وفي بعضها "لئن يعلم"/١٢ وجيز..
Icon