تفسير سورة الحديد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة الحديد
مدنية، وفيها آيات مكية، وهي تسع وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله :﴿ فسبح باسم ربك العظيم( ٧٤ ) ﴾ [ الواقعة : ٩٦ ] مع قوله :﴿ سبح لله ﴾ أي : سبحه اقتداء بأهل السموات والأرض فقد سبحه من فيها، وقال الثعالبي : قوله تعالى :﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ أي : سبحه باسمه الأعظم، وهو ما افتتح به السورة من قوله :﴿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن ﴾ وقد قال ابن عباس : اسم الله الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد. ه.

قال تعالى : بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾*﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾*﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾*﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾*﴿ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾*﴿ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
قلت : وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر ؛ استيفاء لهذه المادة، فقال هنا :﴿ سَبَّحَ ﴾ وفي الجمعة :﴿ يُسَبِّحُ ﴾ [ الجمعة : ١ ] و﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾ [ الأعلى : ١ ] و﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى ﴾ [ الإسراء : ١ ]. وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة، وبنفسه أخرى في قوله :﴿ وَسَبِّحُوهُ ﴾ [ الأحزاب : ٤٢ ]، وأصله : التعدي بنفسه ؛ لأنّ معنى سبَّحته : بعّدته من السوء، من : سَبَح : إذا ذهب وبَعُد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ونصحت له، وإما أن يراد ب " سبَّح لله " : اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً. قاله النسفي.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ سَبَّح لله ﴾ أي : نَزَّه اللّهَ عما لا يليق بجلاله، اعتقاداً، أو قولاً وعملاً، مَن استقر ﴿ في السماوات والأرض ﴾ مِن الملائكة والجن والإنس والجمادات، بلسان الحال والمقال، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم، الواجب الوجود، المتصف بالكمال، المنزَّه عن النقائص، وهو المراد بقوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ] قيل : إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع. ه. ﴿ وهو العزيزُ ﴾ المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً، ﴿ الحكيمُ ﴾ في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري : تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في سموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي

﴿ له مُلك السماواتِ والأرض ﴾ أي : التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات. قال الورتجبي : ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة ! لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته، وليس لقدرته نهاية، ولا لإرادته منتهى. ه. ﴿ يُحيي ويميت ﴾ استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك، أي : هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء، ﴿ وهو على كل شيءٍ ﴾ من الأشياء، التي من جملتها الإحياء والإماتة ﴿ قدير ﴾ لا يعجزه شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري : تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في سموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي

﴿ وهو الأولُ ﴾ القديم قبل كل شيء، ﴿ والآخرُ ﴾ الذي يَبقى بعد فناء كل شيء، ﴿ والظاهرُ ﴾ الذي ظهر بكل شيء، ﴿ والباطنُ ﴾ الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء، وقد جاء في الحديث :" اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء " ١. قال الطيبي : فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي : الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء ؛ إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه، يُنجي ملتجئاً له. ه. وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ﴿ وهو بكل شيءٍ عليم ﴾ لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري : تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في سموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي


١ أخرجه مسلم في الذكر حديث ٦١..
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام ﴾ من أيام الدنيا، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار، وتعليماً للتأني، ﴿ ثم استوى ﴾ أي : استولى ﴿ على العرش ﴾ حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته، ﴿ يعلم ما يَلِجُ في الأرض ﴾ ما يدخل فيها، من البذر، والقطر، والكنوز، والأموات، ﴿ وما يخرج منها ﴾ من النبات وغيره، ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ من الملائكة والأمطار، ﴿ وما يعرجُ فيها ﴾ من الملائكة والأموات والأعمال، ﴿ وهو معكم أينما كنتم ﴾ بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه، انظر الإشارة. ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ فيُجازي كلاًّ بعمله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري : تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في سموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي

﴿ له مُلك السماوات والأرضِ ﴾ تكرير للتأكيد، وتمهيد لقوله :﴿ وإِلى الله تُرجع الأمورُ ﴾ أي : إليه وحده لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً ترجع جميع الأمور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري : تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في سموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي

﴿ يُولج الليلَ في النهار ﴾ يُدخل الليل في النهار، بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار، ﴿ ويُولج النهارَ في الليل ﴾ بأن ينقص من النهار ويزيد الليل، ﴿ وهو عليم بذات الصدور ﴾ أي : بمكنونها اللازمة لها من الهواجس والخواطر، بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم وخواطرهم، بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها على جوارحهم، أو بحقائق الصدور من صلاحها وفسادها، كَنّى بها عن القلوب. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري : تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في سموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي

ولما ذكر تعالى تسبيح العالم له، وما احتوى عليه من الملك والتصرف، وما وصف به نفسه من الصفات العلى، وختمها بالعلم بخفيات الصدور، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان ؛ فقال :
*﴿ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾*﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾*﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾*﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾*﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ آمِنوا بالله ورسوله ﴾ أي : دُوموا على إيمانكم، إن كان خطاباً للمؤمنين، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره ؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة، أو : أَحْدِثوا الإيمان، إن كان خطاباً للكفار، ﴿ وأَنفِقوا ﴾ أي : تصدّقوا، فيشمل الزكاة وغيرها، ﴿ مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ أي : جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له، أو : جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه، وسينقله منكم إلى غيركم، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به، ﴿ فالذين آمنوا ﴾ بالله ورسوله ﴿ منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير ﴾ لا يُقادر قدره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقياء، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير : سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي : تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.

﴿ وما لكم لا تؤمنون بالله ﴾ هو حال، أي : أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين، وهو توبيخ على ترك الإيمان حسبما أُمروا به، بإنكار أن يكون لهم عذر مّا في الجملة، ﴿ والرسولُ يدعوكم ﴾ ويُنبهكم عليه، ويُقيم لكم الحجج على ذلك، ﴿ لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ﴾ قبل ذلك عليكم ميثاقه في عالم الذر، على الإقرار بالربوبية، والتصديق بالداعي، بعد أن رَكّب فيكم العقول، فلم يبق لكم عذر في ترك الإيمان، أو : أخذ ميثاقه بنصب الأدلة والتمكين من النظر، فانظروا واعتبروا وآمنوا، ﴿ إِن كنتم مؤمنين ﴾ بأخذ هذا الميثاق، أو : بموجبٍ ما، فإنَّ هذا موجب لا موجب وراءه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقياء، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير : سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي : تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.

﴿ هو الذي يُنَزِّلُ على عبده ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ آيات بيناتٍ ﴾ واضحاتٍ، يعني القرآن، ﴿ ليُخرجَكم ﴾ أي : الله تعالى، أو العبد ﴿ من الظلمات ﴾ أي : من ظلمات الكفر والمعاصي والغفلة، إلى نور الإيمان والتوبة واليقظة، ﴿ وإنَّ الله بكم لرؤوف رحيم ﴾ حيث يهديكم إلى سعادة الدارين، بإرسال الرسول، وتنزيل الآيات، بعد نصب الحُجج العقلية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقياء، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير : سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي : تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ثم وبَّخهم على ترك الإنفاق، بعد توبيخهم على ترك الإيمان، على ترتيب قوله :﴿ آمِنوا ﴾ و﴿ أنفِقوا ﴾ فقال :﴿ وما لكم ألاَّ تُنفقوا في سبيل الله ﴾ أي : أيّ شيء حصل لكم في ألاّ تنفقوا فيما هو قُربة إلى الله تعالى، وهو له حقيقة، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف ؟ ﴿ ولله ميراثُ السماوات والأرض ﴾ يرث كل شيء فيهما، لا يبقى لأحد شيء من ذلك، وإذا كان كذلك فأيّ عذر لكم في ترك إنفاقه ﴿ في سبيل الله ﴾ والله مُهلككم، فوارث أموالكم ؟ فتقديمها لله أولى، وهي أبلغ آية في الحث على الصدقة. وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار في " لله " لزيادة التقرير، وتربية المهابة.
ثم بيّن التفاوت بين المنفِقين منهم باعتبار الزمان، فقال :﴿ لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتلَ ﴾ مع مَن أنفق بعد الفتح وقاتل، حذفه لدلالة ما بعده عليه من قوله :﴿ أولئك أعظم درجة. . . ﴾ الخ، والمراد : فتح مكة، أي : لا يستوي مَن أنفق قبل عز الإسلام وظهوره، مع مَن أنفق بعد ذلك، ﴿ أولئك ﴾ الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :" لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، ولا نِصفه " ١، فهم ﴿ أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلَوا ﴾ لأنّ مَن أنفق وقت الحاجة والاضطرار، أعظم ممن أنفق في حال السعة والبسط، ﴿ وكُلاًّ ﴾ أي : كل واحد من الفريقين ﴿ وَعَدَ اللّهُ الحسنى ﴾ وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ الشامي بالرفع، مبتدأ، أي : وعده الله الحسنى، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ فيُجازيكم على قدر أعمالكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقياء، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير : سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي : تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.


١ أخرجه البخاري في فضائل الصحابة حديث ٣٦٧٣، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٢١..
﴿ من ذا الذي يُقْرِضُ اللّهَ قرضاً حسناً ﴾ هو ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين، أي : مَن ذا الذي يُنفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه مثل ذلك وأكثر، فإنه كمن يُقرضه. وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات، ﴿ فيُضاعِفه له ﴾ أي : يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً أضعافاً كثيرة من فضله، ﴿ وله أجرٌ كريمٌ ﴾ وذلك الأجر المضموم إليه الأَضعاف كريمٌ في نفسه، حقيقٌ بأن يُتنافس فيه وإن لم يُضاعف، فكيف وقد ضُوعف أضعافاً كثيرة ! ومن نصب فعلى جواب الاستفهام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقياء، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير : سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي : تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ثم ذكر ثمرة الإيمان، الذي أمر به، فقال :
﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾*﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾*﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾*﴿ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله : واذكر ﴿ يومَ ترى ﴾ أو : لهم أجر كبير ﴿ يومَ ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهم ﴾ وهو نور الإيمان في الدنيا، يكون هناك حسيّاً يسعى ﴿ بين أيديهم وبأَيمانهم ﴾ وقيل : هو القرآن، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم مَن يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم كالرجل القائم، وأدناهم نوراً مَنْ نوره على إبهام رجله، يطفأ تارة ويلمع تارة١.
قلت : ومنهم مَن نُوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم مَن نوره كالشمس الضاحية، يُضيء خمسمائة عام، كما في أحاديث أخرى، وذلك على قدر إيمانهم وعرفانهم. قال الحسن : يستضيئون به على الصراط، وهم متفاوتون في السرعة، قال أبو نصر الهمداني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سبعة أنواع : الصدِّيقون، والعلماء، والبُدلاء، والشهداء، والحُجاج، والمطيعون، والعاصون، فالصدِّيقون يمرُّون كالبرق، والعلماء، أي : العاملون، كالريح العاصف، والبدلاء كالطير في ساعة، والشهداء كالجواد المسرع، يمرُّون في نصف يوم، والحجاج يمرُّون يومٍ كامل، والمطيعون في شهر، والعاصون يضعون أقدامهم على الصراط، وأوزارهم على ظهرهم، فيعثرون، فتقصد جهنم أن تحرقهم، فترى نور الإيمان في قلوبهم، فتقول : جز يا مؤمن، فإنَّ نورك قد أطفا لهبي. ه. قلت : الصدِّيقون على قسمين، أما أهل الاقتداء، الدالُّون على الله، المسلِّكون، فتقرب الغُرف لهم، فيركبونها، ويمرُّون، وأما الأفراد فيطيرون كالبرق. والله تعالى أعلم.
وقال مقاتل : يكون هذا النور لهم دليلاً إلى الجنة، وتخصيص الجهتين لأنّ السعداء يُؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ﴿ من بين أيديهم وعن إيمانهم ﴾ كما أنَّ الأشقياء يؤتون صحائفهم من شمائلهم ووراء ظهورهم، فجَعَل النور في الجهتين إشعاراً لهم بأنهم بحسناتهم وبصحائفهم البيض أفلحوا.
وتقول لهم الملائكة :﴿ بُشراكم اليومَ جناتٌ ﴾ أي : دخول جنات ؛ لأنّ البشارة تقع بالأجداث دون الجُثث، ﴿ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول، يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم : بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري : قوله تعالى :﴿ يسعى نورهم... ﴾ الخ ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور ؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم :" المؤمن ينظر بنور الله " ٢، وقال تعالى :﴿ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ]. وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. هـ. قال الورتجبي : ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل : ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فالتمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح، قالوا : بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.


١ أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٤٧٨، والطبري في تفسيره ٢٧/٢٢٣..
﴿ يومَ ﴾ بدل من " يوم ترى " ﴿ يقول المنافقون والمنافقاتُ للذين آمنوا انظرونا ﴾ أي : انتظرونا ؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، ويبقى المنافقون في ظلمة، فيقولون للمؤمنين : قفوا في سيركم لنستضيء بنوركم. وقرأ حمزة :" أَنظِرونا "، من الإنظار، وهو التأخير، أي : أَمهِلوا علينا. وقال الفراء : تقول العرب : أنظرني، أي : انتظرني، فتتفق القراءتان. وقيل : من النظر، أي : التفتوا إلينا وأَبْصِرونا ﴿ نَقتبس مِن نوركم ﴾ لأنَّ نورهم بين أيديهم، فيُقال طرداً لهم وتهكُّماً بهم من جهة المؤمنين أو الملائكة :﴿ ارجعوا وراءكم ﴾ أي : إلى الموقف، إلى حيث أُعطينا هذا النور ﴿ فالتمِسوا نوراً ﴾ فإنّا هناك اقتبسناه، أو : التفتوا وراءكم، فيلتفتون فيُحال بينهم، ﴿ فضُرِبَ ﴾ حينئذ ﴿ بينهم ﴾ بين الفريقين ﴿ بسُورٍ ﴾ بحائطٍ حائل بين شق الجنة وشق النار، ﴿ له باب ﴾ يلي المنافقين، ليروا ما فيه من المؤمنون من الأنوار والرحمة، فيزدادون حسرة، ﴿ باطِنُه ﴾ أي : باطن ذلك السور، وهو الجهة التي تلي المؤمنين ﴿ فيه الرحمةُ وظاهرهُ ﴾ الذي يلي المنافقين ﴿ مِن قِبَلِه العذابُ ﴾ أي : العذاب حاصل من قِبَلِه. فالعذاب : مبتدأ، و﴿ مِن قِبَلِه ﴾ : خبر، أي : ظاهر السور تليه جهنم أو الظلمة، فيقابله العذاب، فهم بين النار والسور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول، يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم : بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري : قوله تعالى :﴿ يسعى نورهم... ﴾ الخ ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور ؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم :" المؤمن ينظر بنور الله " ٢، وقال تعالى :﴿ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ]. وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. هـ. قال الورتجبي : ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل : ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فالتمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح، قالوا : بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.

﴿ يُنادونهم ﴾ أي : ينادي المنافقون المؤمنين :﴿ ألم نكن معكم ﴾ في الدنيا ؟ يريدون موافقتهم لهم في الظاهر، ﴿ قالوا ﴾ أي : المؤمنون :﴿ بلى ﴾ كنتم معنا في الظاهر ﴿ ولكنكم فتنتم أنفسَكم ﴾ أي : محنتموها وأهلكتموها بالنفاق والكفر، ﴿ وتربصتم ﴾ بالمؤمنين الدوائر، ﴿ وارتبتم ﴾ في أمر الدين ﴿ وغرتكم الأمانيُّ ﴾ الفارغة، التي من جملتها أطماعكم في انتكاس الإسلام، أو : طول الأمل وامتداد الأعمار ﴿ حتى جاء أمرُ الله ﴾ ؛ الموت، ﴿ وغرَّكم بالله ﴾ الكريم ﴿ الغَرُورُ ﴾ أي : الشيطان بأنَّ الله غفور كريم لا يعذبكم، أو : بأنه لا بعث ولا حساب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول، يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم : بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري : قوله تعالى :﴿ يسعى نورهم... ﴾ الخ ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور ؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم :" المؤمن ينظر بنور الله " ٢، وقال تعالى :﴿ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ]. وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. هـ. قال الورتجبي : ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل : ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فالتمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح، قالوا : بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.

﴿ فاليومَ لا يُؤخذ منكم فديةٌ ﴾ فداء ﴿ ولا من الذين كفروا ﴾ جهراً، ﴿ مأواكم النارُ ﴾ أي : مرجعكم، لا تبرحون عنها أبداً ﴿ هي مولاكم ﴾ أي : المتصرفة فيكم تصرُّف المولى في ملكه، أو : هي أولى بكم، وحقيقة مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، أو : ناصركم، على طريق١ :
" تحيةٌ بينهم ضَرْبٌ وجِيعُ " ***. . .
فيكون تهكُّماً بهم، ﴿ وبئس المصيرُ ﴾ أي : النار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول، يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم : بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري : قوله تعالى :﴿ يسعى نورهم... ﴾ الخ ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور ؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم :" المؤمن ينظر بنور الله " ٢، وقال تعالى :﴿ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ]. وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. هـ. قال الورتجبي : ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل : ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فالتمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح، قالوا : بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.


١ صدر البيت:
وخيل قد دلفت لها بخيل ***...
والبيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ص١٤٩، وخزانة الأدب ٩/٢٥٢، وشرح أبيات سيبويه ٢/٢٠٠، والكتاب ٣/٥٠، ونوادر أبي زيد ص١٥٠، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١/٣٤٥، والخصائص ١/٣٦٨، وشرح المفصل ٢/٨٠، والمقتضب ٢/٢٠..

ثم وبخهم على التقعد عن النهوض إليه، فقال :
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾*﴿ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
قلت :﴿ ألم يأن ﴾ : مجزوم بحذف الياء، من : أَنَى يأنِي، كمَضَى يمضي : إذا حان وقرب. و﴿ أن تخشع ﴾ : فاعل. و﴿ لا يكونوا ﴾ : عطف على " تخشع "، وقرأ رويس عن يعقوب بالخطاب، فيكون التفاتاً ؛ للاعتناء بالتحذير، أو نهياً.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ألم يَأْنِ ﴾ ألم يحضر، أو يقرب ﴿ للذين آمنوا أن تخشع قُلوبُهم لذكر الله ﴾ أو : ألم يجيء وقت خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى، وتطمئن به، ويسارعون إلى طاعته، بالامتثال لأوامره والاجتناب لنواهيه. قيل : كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا وأصابوا الرزق والنعمة، ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وبه تعلم أنَّ الشدة هي عين الرخاء، وأنَّ الجلال هو الجمال، وأين هو حبيبك ثَمَّ هو عدوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنه : استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وعن أبي بكر رضي الله عنه : إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديداً، فنظر إليهم فقال :" هكذا كنا حتى قست قلوبنا ". قلت : مراده بالقسوة : التصلُّب والتثبُّت للواردات، وذلك أنَّ القلب في البدايات يكون رطباً مغلوباً للأحوال والواردات، يتأثر بأدنى شيء، فإذا استمر مع الأنوار والواردات ؛ استأنس بها وتصلّب واشتد، فلا تؤثر فيه الواردات، فيكون مالكاً للأحوال، لا مملوكاً، وهذا أمر ذَوقْي، يرتفع البكاء عن العارفين، ويظهر على الصالحين والطالبين. وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل، كان صاعداً لجارية، فسمع قارئاً يقرأها، فقال : قد آن الخشوع والرجوع، فتاب.
والمراد بذكر الله ذكر اسمه تعالى على أي لفظ كان، كقوله :﴿ إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ. . . ﴾ [ الأنفال : ٢ ] الآية، أو : القرآن، فيكون قوله :﴿ وما نَزَلَ من الحق ﴾ عطف تفسير، أو لتغاير العنوانين، فإنه ذِكْرٌ وموعظة، كما أنه حقٌّ نازل من السماء. والمراد بالخشوع : الإنابة والخضوع، ومتابعة الأمر والنهي. ﴿ ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبلُ ﴾ أي : اليهود والنصارى، ﴿ فطال عليهم الأمدُ ﴾ الزمن بينهم وبين أنبيائهم، ﴿ فقست قلوبُهم ﴾ باتباع الشهوات، وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمِعوا التوراة خشعوا له، ورقَّت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلب عليهم الجفاء والقسوة، واختلفوا.
قال ابن مسعود : إن بني إسرائيل لمّا طال عليهم الأمد قست قلوبُهم، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم، استحلته أنفُسِهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا : اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم، وإلاَّ فاقتلوهم. ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم، [ وقالوا ] : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإلاَّ قتلتموه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة، وجعلها في قرن، وعلقها في عنقه، ثم لبس عليه ثيابه، وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومئ إلى صدره، وقال : آمنتُ بهذا - يعني المعلَّق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة. ه.
قال تعالى :﴿ وكثيرُ منهم فاسقون ﴾ خارجون عن دينهم، رافضون لما في الكتابين، أي : وقليل منهم مؤمنون، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. وقال ابن عطية : الإشارة بقوله :﴿ أوتوا الكتاب ﴾ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، ولذلك قال :﴿ من قبل ﴾، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي، وقوله :﴿ فطال عليهم الأمدُ ﴾ قيل : أمد الحياة، وقيل : أمد انتظار القيامة. ه. وقال مقاتل :﴿ الأمد ﴾ هنا : الأمل، أي : لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم. ه. قيل : إن الصحابة ملُّوا ملالة، فقالوا : حدِّثنا، فنزل :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [ يوسف : ٣ ]، وبعد مدة قالوا : لو ذَكَّرتَنا، فنزلت هذه السورة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور، فيغيب الذاكر في المذكور، وهو الفناء، والخشوع لسماع ما نزل من الحق : أن يسمعه من الحق، لا من الخلق، وهو أقصى درجات المقربين. ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية ؛ لأنه طال بهم الأمل، وتنافسوا في الرئاسة، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة، حتى قست قلوبهم، وخرجوا عن الإرادة بالكلية، قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة ؛ فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان، وموجِبُ القسوة : انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ، ويقال : موجب القسوة أوله خطرة، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً، وبعد ذلك طبع ودين. هـ. وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير، كما قال الشاعر :
إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ
اعلموا أن الله يُحيي أرض القلوب بالعلم والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والجهل، قد بيَّنَّا الآيات لمَن يتدبّر ويعقل.

وهذه الآية ﴿ اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتها ﴾ قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يُحييها كما يُحيي الغيثُ الأرض، وفيه إرشاد إلى أنَّ طريق زوال القسوة ليس إلاَّ الالتجاء إلى الله، ونفى الحول والقوة ؛ لأنه تعالى القادر وحده على ذلك، كما أنه وحده يُحيي الأرض، ﴿ قد بيّنا لكم الآيات ﴾ التي من جملتها هذه الآية، ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور، فيغيب الذاكر في المذكور، وهو الفناء، والخشوع لسماع ما نزل من الحق : أن يسمعه من الحق، لا من الخلق، وهو أقصى درجات المقربين. ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية ؛ لأنه طال بهم الأمل، وتنافسوا في الرئاسة، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة، حتى قست قلوبهم، وخرجوا عن الإرادة بالكلية، قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة ؛ فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان، وموجِبُ القسوة : انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ، ويقال : موجب القسوة أوله خطرة، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً، وبعد ذلك طبع ودين. هـ. وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير، كما قال الشاعر :
إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ
اعلموا أن الله يُحيي أرض القلوب بالعلم والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والجهل، قد بيَّنَّا الآيات لمَن يتدبّر ويعقل.

ثم رغب في الصدقة، فقال :
﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾*﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾.
قلت :﴿ المصدقين ﴾ مَن قرأ بالتشديد فيهما فاسم فاعل، من : تصدّق، أدغمت التاء في الصاد، ومَن قرأ بتخفيف الصاد فاسم فاعل صدّق. و﴿ أقرضوا ﴾ : عطف على الصلة، أي : إن الذين تصدّقوا وأقرضوا.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنَّ المصدِّقين والمصدِّقات ﴾ أي : المتصدقين بأموالهم والمتصدقات أو : المصدقين بالله ورسوله والمصدقات، ﴿ وأقرضوا اللّهَ قرضاً حسناً ﴾ وهو أن تتصدّق من كسبٍ طيبٍ، بقلب طيب، ﴿ يُضاعف لهم ﴾ بأضعاف كثيرة إلى سبعمائة، ﴿ ولهم أجرٌ كريمٌ ﴾ الجنة وما فيها.
وقد ورد في الصدقات أحاديث، منها : أنها تدفع سبعين باباً من السوء١، وتزيد البركة في العمر٢. رُوي أن شابّاً وشابة دخلا على سليمان عليه السلام فعقد لهما النكاح، وخرجا من عنده مسرورين، وحضر ملك الموت، فقال : لا تعجب من سرورهما، فقد أُمرت أن أقبض روح هذا الشاب بعد خمسة أيام، فجعل سليمانُ يراعي حالَ الشاب، حتى ذهبت ستة أيام، ثم خمسة أشهر، فعجب من ذلك، فدخل عليه ملك الموت، فسأله عن ذلك، فقال : إني أُمرت أن أقبض روحه كما ذكرتُ لك، فلما خرج من عندك لقيه سائل، فدفع له درهماً، فدعا له بالبقاء، فأُمرت بتأخير الأمر عنه ببركة صدقته. ه. وانظر عند قوله :﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [ الرعد : ٣٨ ]، ومثله قضية الرجل الذي آذى جيرانَه، فدعا موسى عليه السلام عليه، ثم تصدَّق صبيحة اليوم برغيف، فنزل الثعبان، فلقيته الصدقة فسقط ميتاً على حزمة حطبه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنَّ المصدّقين والمصدّقات، وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله - ومَن كان في الله تلفه كان على الله خَلَفَه - وأقرضوا الله قرضاً حسناً، أي : قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه، وحصروه في حضرة الله، يُضاعف لهم أنوارهم وأسرارهم، ولهم أجر كريم، شهود الذات الأقدس، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون ﴾ فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد، قال الورتجبي : هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله، والانقياد بين يدي أمره ونهيه، فأولئك هم الصدّيقون ؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته، مطروحون في بحر وصلته، يَحْيون بجماله، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله، وبفناء الكون في عظمة الله، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله، يشهدون لهم وعليهم ؛ لِصدق الفراسة ؛ لأنهم أمناء الله، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة. هـ.
وقال القشيري : الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال : هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء : الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم : ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.


١ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٤/٢٧٤، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣/١٠٩..
٢ أخرجه بنحوه أحمد في المسند ٣/٥٠٢، بلفظ: "الصدقة تمنع ميتة السوء". والهيثمي في مجمع الزوائد ٣/١١٠، بلفظ: "صدقة المسلم تزيد في العمر"..
﴿ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون ﴾ المبالغون في التصديق، أو الصدق، وهو أولى ؛ لأنّ وزن المبالغة لا يساغ من غير الثلاثي في الأكثر إلا نادراً، كمسّيك من أمسك. ﴿ و ﴾ هم أيضاً ﴿ الشهداءُ عند ربهم ﴾ وظاهره : أن كل مَن آمن بالله ورسله ينال درجة الصدّيقين، الذين درجتهم دون درجة الأنبياء، وفوق درجة الخواص، وأنَّ كل مَن آمن ينال درجة الشهداء، وليس كذلك، فينبغي حمل قوله :﴿ آمَنوا ﴾ على خصوص إيمان وكماله، وهم الذين لم يشكّوا في الرسل حين أخبَروهم، ولم يتوقفوا ساعة، أي : سبقوا إلى الإيمان، واستشهدوا في سبيل الله. وسيأتي في الإشارة حقيقة الصدّيق. وقيل : كل مَن آمن بالله ورسله مطلق الإيمان فهو صدّيق وشهيد، أي : ملحق بهما، وإن لم يتساووا في النعيم، كقوله :﴿ وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيِنَ وَالصِّدِّيقِينَ. . . ﴾ [ النساء : ٦٩ ].
والحاصل على هذه العبارة : الترغيب في الإيمان والحث عليه، وهو وارد في كلام العرب في مبالغة التشبيه، تقول : فلان هو حاتم بعينه، إذا شابهه في الجود، ويؤيد هذا حديث البراء بن عازب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مؤمنو أمتي شهداء " ١ قال مجاهد :( كل مؤمن صدّيق وشهيد )٢، أي : على ما تقدّم، وإنما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرَ الشهداء السبعة٣ تشريفاً على رتب الشهداء غيرهم، ألا ترى أنَّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً بتشريف ينفرد به، وقال بعضهم : معنى الشهداء هنا : أنهم يشهدون على الأمم. قال ابن عباس ومسروق والضحاك : الكلام تام في قوله :" الصدّيقون "، وقوله :" الشهداء " استئناف كلام، أي : والشهداء حاضرون عند ربهم، أو : والشهداء ﴿ لهم أجرهم ونورهم ﴾ عند ربهم، قال أبو حيان : والظاهر : أن " الشهداء " مبتدأ، خبره ما بعده. ه.
قلت : الظاهر : أنَّ الآية متصلة، فكل مؤمن حقيقي صدّيق وشهيد، أي : يلحق بهم، وقوله :﴿ لهم أجرهم ونورهم ﴾ أي : لهم أجر الصدّيقين ونورهم، على التشبيه، ولا يبلغ المشبَّه درجة المشبَّه به. وإذا قيّدنا الإيمان بالسبق، فالمعنى لهم أجرهم كامل ونورهم تام، ويؤيد عدم التقييد : ذكر ضده عقبه، كما هو عادة التنزيل، بقوله :﴿ والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنَّ المصدّقين والمصدّقات، وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله - ومَن كان في الله تلفه كان على الله خَلَفَه - وأقرضوا الله قرضاً حسناً، أي : قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه، وحصروه في حضرة الله، يُضاعف لهم أنوارهم وأسرارهم، ولهم أجر كريم، شهود الذات الأقدس، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون ﴾ فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد، قال الورتجبي : هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله، والانقياد بين يدي أمره ونهيه، فأولئك هم الصدّيقون ؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته، مطروحون في بحر وصلته، يَحْيون بجماله، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله، وبفناء الكون في عظمة الله، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله، يشهدون لهم وعليهم ؛ لِصدق الفراسة ؛ لأنهم أمناء الله، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة. هـ.
وقال القشيري : الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال : هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء : الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم : ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.


١ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦/٩٧٦، وابن كثير في تفسيره ٨/٤٨..
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦/٢٥٦..
٣ لفظ الحديث: "الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد". أخرجه أبو داود في الجنائز حديث ٣١١١، وابن ماجه في الجهاد حديث ٢٨٠٣، ومالك في الجنائز حديث ٣٦..
ولما كان الزهد في هذا المقام ؛ ذكر تحقير الدنيا ؛ ليقع الزهد فيها، فقال :
﴿ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾*﴿ سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ ﴾ كلعب الصبيان، ﴿ وَلَهوٌ ﴾ كلهو الفتيان، ﴿ وزِينَةٌ ﴾ كزينة النسوان، ﴿ وتفاخر بينكم ﴾ كتفاخر الأقران، ﴿ وتكاثرٌ ﴾ كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - ﴿ في الأموال والأولاد ﴾ أي : مباهاة بهما. والتكاثر : الاستكثار، والحاصل : أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الاضمحلال، ولذلك قال :﴿ كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ ﴾ أي : الحُرّاث، من : كَفَرَ الحبَ : ستره، ويقال : كفرت الغمامُ النجومَ : سترتها، أي : أعجب الزراع ﴿ نباتُه ﴾ أي : النبات الحاصل منه، ﴿ ثم يَهيجُ ﴾ أي : يجف بعد خضرته ونضارته، ﴿ فتراه مُصْفراً ﴾ بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً، وإنما لم يقل : ثم تراه ؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه. ﴿ ثم يكون حُطاماً ﴾ متفتتاً متكسراً، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي، وأعجب به حُرّاثه، أو : الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج، واصفرّ وصار حطاماً.
وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا، والجري عليها، وأمّا ما كان منها في طاعة الله، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد، وتُعين الطاعات، فلا يدخل في هذا المثل، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً، حَسن المنظر والهيئة، ثم يأخذ في النقص والهرم، ثم يموت، ويضمحل أمره، وتصير الأموال لغيره. قال القشيري : الدنيا حقيرة، وأحقرُ منها قَدْراً : طالبُها، وأقلُّ منها خَطَراً : المُزاحِم فيها، فما هي إلاّ جيفة، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر، وأخسُّهم مَن يبخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا. ه.
﴿ وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ ﴾ لمَن أعرض عن الله، ﴿ ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ ﴾ لمَن أقبل على الله، وزهد فيما سواه. والحاصل : أنّ الدنيا ليست إلاَّ محقراتٍ من الأمور، وهي اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، وأمّا الآخرة ؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام، وهي العذاب الشديد، والمغفرة، والرضوان من الله الحميد. والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع، خبر بعد خبر، ﴿ وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور ﴾ لمَن ركن إليها، واعتمد عليها، ومتاع الغرور : هو الذي يظهر ما حسن منه، ويبطن ما قبح، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها، ويغفلون عن الاستعداد، والعمر يفنى من يدهم في البطالة، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين. قال ذو النون : يا معشر المريدين ؛ لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإنّ الزاد منها، والمَقيل في غيرها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد شبّه بعضُ الحكماء الدنيا بسبعة أشياء، شبّهها بالماء المالح، يغرق ولا يروي، ويضر ولا ينفع، وشبهها بظل الغمام، يغر ويخذل، وشبهها بالبرق الخاطف في سرعة الذهاب والإضرار، وبسحاب الصيف، يضر ولا ينفع، وبزهر الربيع، يغر بزهرته، ثم يصفر فتراه هَشيماً، بأحلام النائم، يرى السرورَ في منامه، فإذا استيقظ لم يجد في يديه شيئاً إلاّ الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الرعاف، يغر ويقتل. هـ. قال حفيده : فتأملت هذه الحروف سبعين سنة، ثم زِدتُ فيها حرفاً واحداً فشبهتها بالغول التي تهلك مَن أجابها، وتترك مَن أعرض عنها. هـ. وفي كتاب قطب العارفين، لسيدي عبد الرحمان اللجائي، قال : فأول درجة الذاهبين إلى الله تعالى : بغض الدنيا، التي هي ظلمة القلوب، وحجاب لوائح الغيوب، والحاجزة بين المحب والمحبوب، فبقدر رفضها يستعد للسفر، ويصح للقلوب النظر، فإن كانت الدنيا من قلب العبد مرفوضة، حتى لا تعدل عنده جناح بعوضة، فقد وضع قدمه في أول درجة من درجات المريدين، فينظر العبد بعد ذلك ما قدّمت دنياه، ويقبل على أخراه. هـ.
وذكر القشيري في إشارة الآية : أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر، فقال بعد كلام : وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية، والموافقات الطبيعية، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية، مثل الزهد، والورع، والتوكُّل والتقيُّيد بها، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية، والمنازلات الغيبية، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته، والبقاء بلاهوتيته الجامع. هـ. إلاّ أنه قدّم السر على الروح، والمعهود العكس، فانظره.
قوله :﴿ سابِقوا... ﴾ الآية، فيه إغراء على النهوض إلى الله، وسرعة السير إلى الحق تعالى، التنافس في السبق، كما قال الشاعر :
السباقَ السباقَ قولاً وفعلاً حَذّر النفسَ حسرةَ المسبوق
حُكي عن أبي خالد القيرواني، وكان من العُبّاد، المجتهدين : أنه رأى خيلاً يسابقَ بها، فتقدمها فَرَسان، ثم تقدم أحدهما الآخر، ثم جدّ الثاني حتى سبق الأول، فتخلّل أبو خالد، حتى وصلَ إلى الفرس السابق، فجعل يُقبّله، ويقول : بارك الله فيك، صبرت فظفرت، ثم سقط مغشيّاً. هـ. قال الورتجبي : دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع، يعني في قوله :﴿ سارِعوا ﴾ ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق، وقد دخل الكل في مظنة الخطاب ؛ لأنّ الكل قد وقعوا في بحار الذنوب، حين لم يعرفوه حقّ معرفته، فدعاهم إلى التطهير برحمته من الغرور بأنهم عرفوه. هـ. أي : دعاهم إلى التطهير من الاغترار بمعرفته، وهي لم تحصل. والله تعالى أعلم.

ولمَّا حقَّر الدنيا، وصغّ أمرها، وعظّم أمر الآخرة، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك، وهي المغفرة والرضوان، فقال :﴿ سابِقوا ﴾ بالأعمال الصالحة ﴿ إِلى مغفرة من ربكم ﴾ أو : سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، ﴿ وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض ﴾ أي : كعرض سبع سموات، وسبع أرضين، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى، وذَكَر العرض دون الطول ؛ لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط، وهذا تقريب لأفهام العرب، وإلاَّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات ! ﴿ أُعِدَّتْ ﴾ تلك الجنة ﴿ للذين آمنوا بالله ورسله ﴾ وهو دليل أنها مخلوقة، ﴿ ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء ﴾ وهم المؤمنون، وفيه دليل أنه
" لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " ١ كما في الحديث :﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ وبذلك يؤتي من شاء ذلك الفضل، الذي لا غاية وراءه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد شبّه بعضُ الحكماء الدنيا بسبعة أشياء، شبّهها بالماء المالح، يغرق ولا يروي، ويضر ولا ينفع، وشبهها بظل الغمام، يغر ويخذل، وشبهها بالبرق الخاطف في سرعة الذهاب والإضرار، وبسحاب الصيف، يضر ولا ينفع، وبزهر الربيع، يغر بزهرته، ثم يصفر فتراه هَشيماً، بأحلام النائم، يرى السرورَ في منامه، فإذا استيقظ لم يجد في يديه شيئاً إلاّ الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الرعاف، يغر ويقتل. هـ. قال حفيده : فتأملت هذه الحروف سبعين سنة، ثم زِدتُ فيها حرفاً واحداً فشبهتها بالغول التي تهلك مَن أجابها، وتترك مَن أعرض عنها. هـ. وفي كتاب قطب العارفين، لسيدي عبد الرحمان اللجائي، قال : فأول درجة الذاهبين إلى الله تعالى : بغض الدنيا، التي هي ظلمة القلوب، وحجاب لوائح الغيوب، والحاجزة بين المحب والمحبوب، فبقدر رفضها يستعد للسفر، ويصح للقلوب النظر، فإن كانت الدنيا من قلب العبد مرفوضة، حتى لا تعدل عنده جناح بعوضة، فقد وضع قدمه في أول درجة من درجات المريدين، فينظر العبد بعد ذلك ما قدّمت دنياه، ويقبل على أخراه. هـ.
وذكر القشيري في إشارة الآية : أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر، فقال بعد كلام : وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية، والموافقات الطبيعية، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية، مثل الزهد، والورع، والتوكُّل والتقيُّيد بها، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية، والمنازلات الغيبية، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته، والبقاء بلاهوتيته الجامع. هـ. إلاّ أنه قدّم السر على الروح، والمعهود العكس، فانظره.
قوله :﴿ سابِقوا... ﴾ الآية، فيه إغراء على النهوض إلى الله، وسرعة السير إلى الحق تعالى، التنافس في السبق، كما قال الشاعر :
السباقَ السباقَ قولاً وفعلاً حَذّر النفسَ حسرةَ المسبوق
حُكي عن أبي خالد القيرواني، وكان من العُبّاد، المجتهدين : أنه رأى خيلاً يسابقَ بها، فتقدمها فَرَسان، ثم تقدم أحدهما الآخر، ثم جدّ الثاني حتى سبق الأول، فتخلّل أبو خالد، حتى وصلَ إلى الفرس السابق، فجعل يُقبّله، ويقول : بارك الله فيك، صبرت فظفرت، ثم سقط مغشيّاً. هـ. قال الورتجبي : دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع، يعني في قوله :﴿ سارِعوا ﴾ ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق، وقد دخل الكل في مظنة الخطاب ؛ لأنّ الكل قد وقعوا في بحار الذنوب، حين لم يعرفوه حقّ معرفته، فدعاهم إلى التطهير برحمته من الغرور بأنهم عرفوه. هـ. أي : دعاهم إلى التطهير من الاغترار بمعرفته، وهي لم تحصل. والله تعالى أعلم.


١ أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٤٦٧، ومسلم في المنافقين حديث ٧٨..
ثم سلى عباده عما يصيبهم، ومن جملة ذلك : الاغترار بالدنيا، فقال :
﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾*﴿ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾*﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾.
قلت :﴿ في الأرض ﴾ : نعت لمصيبة، أي : كائنة في الأرض، و( في كتاب ) : حال.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ﴾ من الجدب وآفات الزروع والفواكه، ﴿ ولا في أنفُسِكُم ﴾ من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد ﴿ إِلاَّ ﴾ مكتوب ﴿ في كتابٍ ﴾ اللوح ﴿ من قبل أن نبرأها ﴾ أي : مِن قبل أن تخلق الأنفس أو المصائب، ﴿ إِنّ ذلك على الله يسير ﴾ أي : إن إثباتها في اللوح سهل على قدرته كلحظة، وكما كُتبت المصائب، كُتبت المسرات والمواهب، وقد يدلّ عليها قوله تعالى :﴿ لِكَيْلا تأسَوا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية، من غلبة الطبع، والميل إلى الحظوظ النفسانية، ولا في أنفسكم ؛ ولا في باطن أنفسكم، مما يُصيب القلبَ من الأمراض، كالعجب والرياء والكبر والحسد، وغيرها، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات، أو الكرامات، أو الكشوفات، إلاَّ في كتاب سابق، وهو العلم القديم، والقضاء المحتوم، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه، ومَن انتكبته نكس على عقبيه، أو وقف عن سيره، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين، عبودية وأدباً، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم. فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول. قال القشيري : هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل، ومَن لم يتغير بالمضار، ولا يَسُرُّه الوجد، كما لا يُحْزِنْه العَدَم، فهو سَيِّد وقته. هـ. قلت : وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم :١
لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا
ثم قال : ويُقال : إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان. هـ. وقال الورتجبي عن الواسطي : العارف مستهلك في كُنه المعروف، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى، قال الله تعالى :﴿ لِكَيلا تأسوا... ﴾ الآية. هـ. قلت : وإليه أشار في الحِكَم بقوله :" ما تجده القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان "، وقال ابن الفارض، في شأن الخمرة إذا دخلت القلب :
وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرئٍ أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام :" يا داود، قُل للصدِّيقين : بي فليفرحوا، وبذكري فليتنعموا ". واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب، ولا ينقص بتركه، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله، وقد قال صلى الله عليه وسلم للسائل :" ما لك، لو لم تأتها لأتتك " ٢، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن، ويزيد بالطلب وينقص بتركه، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان : قسم مكتوب مطلقاً، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد، وهو الأرزاق والآجال، وقسم معلّق بفعل العبد، وهو الثواب والعقاب. هـ.
قلت : في تفريقه نظر، والحق : التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ﴿ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴾ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يترتب عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.
قوله تعالى :﴿ والله لا يُحب كل مختال فخور ﴾ قال القشيري : لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. ﴿ الذين يبخلون ﴾ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء ؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.

أي : أخبرناكم بذلك لِكيلا تحزنوا ﴿ على ما فاتكم ﴾ من الدنيا حزناً يقنطكم، ﴿ ولا تفرحوا ﴾ فرح المختال الفخور ﴿ بما آتاكم ﴾ من الدنيا وسعتها، ومن العافية وصحتها، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الكل مقدر، يفوت ما قدر فواته، ويأتي ما قدّر إتيانه، لا محالة، لا يعظم جزعه على ما فات، ولا فرحه بما هو آت، ومع هذا كل ما ينزل بالنفس من المصائب زيادة في درجاته، وتطهير من سيئاته، ففي صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما يُصيب المسلم من وَصَبٍ، ولا نَصَب، ولا سقم، ولا حَزَنٍ، حتى الهم يَهُمُّه، إلاَّ كفّر به من سيئاته " ١. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن، إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً، وإن قضى له بالضراء ورضي كان خيراً له " ٢، وقال أيضاً :" ما من مسلم يُشاكُ بشوكةٍ فما فوقها، إلاَّ كُتبتْ له درجةٌ، ومُحيتْ عنه بها خَطيئةٌ " ٣.
وليس أحد إلاَّ وهو يفرح بمنفعةٍ تُصيبه، ويحزن عند مضرةٍ تنزل به، لأنه طبع بشري، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أوتي بغنيمة أو خير يقول :( اللهم إنا لا نستطيع إلاَّ أن نفرح بما آتيتنا )، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً، والحزن صبراً، وإنما يُذم مِن الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المُطغي المُلهي عن الشكر، والمؤدّي إلى الفخر، ﴿ واللّهُ لا يُحب كلَّ مختال فخور ﴾ فإنَّ مَن فرح بحظوظ الدنيا، وعظمت في نفسه، اختال وافتخر بها، لا محالة. وفي تخصيص التنزيل الذم بالفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية، من غلبة الطبع، والميل إلى الحظوظ النفسانية، ولا في أنفسكم ؛ ولا في باطن أنفسكم، مما يُصيب القلبَ من الأمراض، كالعجب والرياء والكبر والحسد، وغيرها، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات، أو الكرامات، أو الكشوفات، إلاَّ في كتاب سابق، وهو العلم القديم، والقضاء المحتوم، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه، ومَن انتكبته نكس على عقبيه، أو وقف عن سيره، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين، عبودية وأدباً، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم. فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول. قال القشيري : هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل، ومَن لم يتغير بالمضار، ولا يَسُرُّه الوجد، كما لا يُحْزِنْه العَدَم، فهو سَيِّد وقته. هـ. قلت : وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم :١
لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا
ثم قال : ويُقال : إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان. هـ. وقال الورتجبي عن الواسطي : العارف مستهلك في كُنه المعروف، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى، قال الله تعالى :﴿ لِكَيلا تأسوا... ﴾ الآية. هـ. قلت : وإليه أشار في الحِكَم بقوله :" ما تجده القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان "، وقال ابن الفارض، في شأن الخمرة إذا دخلت القلب :
وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرئٍ أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام :" يا داود، قُل للصدِّيقين : بي فليفرحوا، وبذكري فليتنعموا ". واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب، ولا ينقص بتركه، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله، وقد قال صلى الله عليه وسلم للسائل :" ما لك، لو لم تأتها لأتتك " ٢، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن، ويزيد بالطلب وينقص بتركه، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان : قسم مكتوب مطلقاً، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد، وهو الأرزاق والآجال، وقسم معلّق بفعل العبد، وهو الثواب والعقاب. هـ.
قلت : في تفريقه نظر، والحق : التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ﴿ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴾ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يترتب عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.
قوله تعالى :﴿ والله لا يُحب كل مختال فخور ﴾ قال القشيري : لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. ﴿ الذين يبخلون ﴾ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء ؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.


١ أخرجه البخاري في المرضى حديث ٥٦٤٠، ومسلم في البر حديث ٥٢..
٢ أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤..
٣ أخرجه البخاري في المرضى حديث ٥٦٤٠، ومسلم في البر حديث ٤٦..
ثم أبدل من " كل مختال " تفسيراً له فقال :﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبخل ﴾ أي : لا يُحب الذين يفرحون الفرحَ المُطغي إذا رُزقوا مالاً أو حظّاً من الدنيا، فلأجل فرحهم به عزّ في نفوسهم، فبخلوا به، وأَمروا غيرهم بإمساكه، ويحضُّونهم على البخل والادخار، ﴿ ومَن يتولَ ﴾ يُعرض عن الإنفاق، أو عن أوامر الله تعالى ونواهيه، ولم ينتهِ عما نهى عنه من الأسى على الفائت، والفرح بالآتي، ﴿ فإِنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ ﴾ أي : غني عنه وعن أنفاقه، محمودٌ في ذاته، لا يضره إعراضُ مَن أعرض عن شكره، بالتقرُّب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأنَّ الأمر بالإنفاق إنما هو لمصلحة المنفق فقط. وقرأ المدنيان وابن عامر بغير " هو " الذي يفيد الحصر، اكتفاء عنها بتعريف الجُزأين، مع تأكيد " إنّ "، وقرأ الباقون بزيادتها ؛ للتنصيص على الحصر والتأكيد، وهو ضمير فصل عن البصريين، أي : الفرق ؛ لأنه يفرق بين الخبر والصفة، وعماد عند الكوفيين، ورابطة عند المنطقيين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية، من غلبة الطبع، والميل إلى الحظوظ النفسانية، ولا في أنفسكم ؛ ولا في باطن أنفسكم، مما يُصيب القلبَ من الأمراض، كالعجب والرياء والكبر والحسد، وغيرها، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات، أو الكرامات، أو الكشوفات، إلاَّ في كتاب سابق، وهو العلم القديم، والقضاء المحتوم، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه، ومَن انتكبته نكس على عقبيه، أو وقف عن سيره، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين، عبودية وأدباً، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم. فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول. قال القشيري : هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل، ومَن لم يتغير بالمضار، ولا يَسُرُّه الوجد، كما لا يُحْزِنْه العَدَم، فهو سَيِّد وقته. هـ. قلت : وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم :١
لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا
ثم قال : ويُقال : إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان. هـ. وقال الورتجبي عن الواسطي : العارف مستهلك في كُنه المعروف، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى، قال الله تعالى :﴿ لِكَيلا تأسوا... ﴾ الآية. هـ. قلت : وإليه أشار في الحِكَم بقوله :" ما تجده القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان "، وقال ابن الفارض، في شأن الخمرة إذا دخلت القلب :
وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرئٍ أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام :" يا داود، قُل للصدِّيقين : بي فليفرحوا، وبذكري فليتنعموا ". واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب، ولا ينقص بتركه، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله، وقد قال صلى الله عليه وسلم للسائل :" ما لك، لو لم تأتها لأتتك " ٢، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن، ويزيد بالطلب وينقص بتركه، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان : قسم مكتوب مطلقاً، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد، وهو الأرزاق والآجال، وقسم معلّق بفعل العبد، وهو الثواب والعقاب. هـ.
قلت : في تفريقه نظر، والحق : التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ﴿ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴾ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يترتب عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.
قوله تعالى :﴿ والله لا يُحب كل مختال فخور ﴾ قال القشيري : لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. ﴿ الذين يبخلون ﴾ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء ؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر منة الواسطة ؛ إذ لا تعرف هذه الأحكام إلا من جهتها، فقال :
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾*﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾*﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لقد أرسلنا رسلنا ﴾ من البشر ﴿ بالبينات ﴾ الحُجج والمعجزات، أو : لقد أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء، والأنبياء إلى الأمم، ويؤيده قوله تعالى :﴿ وأنزلنا معهم الكتابَ ﴾ أي : جنس الكتاب الشامل للكل ؛ لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة، ويُجاب : بأن التقدير : وأنزلنا عليهم الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه، ﴿ و ﴾ أنزلنا ﴿ الميزانَ ﴾ أي : الشرع ؛ لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة، ﴿ ليقوم الناسُ بالقسط ﴾ أي : العدل، وقيل المراد : الميزان الحسي. رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال :" مُرْ قومَك يَزِنوا به ". ﴿ وأنزلنا الحديدَ ﴾ قال ابن عباس :" نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين، خمسة أشياء : السندان، والكَلْبتانِ، والمِيقَعَةُ١، والمِطرقة، والإبرة ". أو :﴿ أنزلنا الحديد ﴾ أخرجناه من المعادن، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض، فينعقد في عروق المعادن، وقيل : المراد به السلاح.
وحاصل مضمن الآية : أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ، فمَن تبع طوعاً نجا، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً. ﴿ فيه بأس شديد ﴾ أي : قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب، ﴿ ومنافعُ للناس ﴾ يستعملونه في أدواتهم، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد، ﴿ وليعلم اللّهُ ﴾ علم ظهور ﴿ مَن ينصُرُه ورسُلَه ﴾ باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، ﴿ بالغيبِ ﴾ غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب، ﴿ إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ ﴾ فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته، وينصر بعزته مَن ينصر دينه، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب.
قال النسفي : والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة : أنّ الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يُبين سبيل المراشد والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن البغي والطغيان، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل، ويحصل بها التساوي والتعادل، وهي الميزان. ومن المعلوم : أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها بالسيف، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد، ونزع من صفقة الجماعة اليد، وهو الحديد، الذي وصف بالبأس الشديد. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل زمان يبعث اللّهُ رُسلاً يدعون إلى الله، وهم الأولياء العارفون، خلفاء الرسل، بالبينات الواضحة على ولايتهم، لمَن سبقت له العناية، وأنزلنا معهم الكتاب، أي : الواردات الإلهية، والميزان، وهو إلهام اصطلاح التربية المناسبة لذلك الزمان، فيزن بها أحوالَ المريدين، ويعطي كل واحد ما يناسبه من الأوراد، والأعمال، والأحوال، ليقوم الناس في أنفسهم بالقسط، من غير إفراط ولا تفريط، وأنزلنا الحديد، إشارة إلى الجذب، الذي في قلوب العارفين، فيه بأس شديد، يذهب العقول، ومنافع للناس، لأنه هو النور الذي يمشي به الوليّ في الناس، إذ بذلك الجذب يجذب قلوبَ المريدين، ومَن لم يكن له ذلك الجذب، فلا يصلح للتربية ؛ لأنه ظاهري محض، ولا بُد لهذا الجذب أن يصحبه سلوك في الظاهر، وإلاَّ فلا يصلح أيضاً للتربية كالمصطلمين. خصّ هذا النور بأوليائه لِيعلم مَن ينصُر دينَه وسنةَ رسوله منهم، بالغيب، أي : مع غيب المشيئة عنهم، فهم يجتهدون في نصر الدين، وينظرون ما يفعل الله، وما سبق به القدر، وأمّا أمر الربوبية فهم في مقام العيان منها، إنَّ الله قوي، يُقوي قلوب المتوجهين، عزيز يُعز من يجتهد في نصر الدين.
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أو مِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه ؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه الملة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان ؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ﴾ هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة : المساجد والزوايا، كما في الحديث١. وليس من شأن العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي : وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة : أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة : أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله :" الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل : إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.


١ الميقعة: ما وقع به السيف، أي: شحذ، وقيل: الميقعة: المسن الطويل..
﴿ ولقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم ﴾ خُصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام ﴿ وجعلنا في ذريتهما ﴾ أولادهما ﴿ النبوةَ ﴾ الوحي ﴿ والكتابَ ﴾ جنس الكتاب. وعن ابن عباس :" الخطّ بالقلم ". يقال : كتب كتاباً وكتابة. ﴿ فمنهم ﴾ من الذرية، أو : مِن المرسَل إليهم، المدلول عليه من الإرسال، ﴿ مُهتدٍ ﴾ إلى الحق، ﴿ وكثيرٌ منهم فاسقون ﴾ خارجون عن الطريق المستقيم، والعدول عن سبيل المقابلة للمبالغة في الذم، والإيذان بكثرة الضلاّل والفسّاق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل زمان يبعث اللّهُ رُسلاً يدعون إلى الله، وهم الأولياء العارفون، خلفاء الرسل، بالبينات الواضحة على ولايتهم، لمَن سبقت له العناية، وأنزلنا معهم الكتاب، أي : الواردات الإلهية، والميزان، وهو إلهام اصطلاح التربية المناسبة لذلك الزمان، فيزن بها أحوالَ المريدين، ويعطي كل واحد ما يناسبه من الأوراد، والأعمال، والأحوال، ليقوم الناس في أنفسهم بالقسط، من غير إفراط ولا تفريط، وأنزلنا الحديد، إشارة إلى الجذب، الذي في قلوب العارفين، فيه بأس شديد، يذهب العقول، ومنافع للناس، لأنه هو النور الذي يمشي به الوليّ في الناس، إذ بذلك الجذب يجذب قلوبَ المريدين، ومَن لم يكن له ذلك الجذب، فلا يصلح للتربية ؛ لأنه ظاهري محض، ولا بُد لهذا الجذب أن يصحبه سلوك في الظاهر، وإلاَّ فلا يصلح أيضاً للتربية كالمصطلمين. خصّ هذا النور بأوليائه لِيعلم مَن ينصُر دينَه وسنةَ رسوله منهم، بالغيب، أي : مع غيب المشيئة عنهم، فهم يجتهدون في نصر الدين، وينظرون ما يفعل الله، وما سبق به القدر، وأمّا أمر الربوبية فهم في مقام العيان منها، إنَّ الله قوي، يُقوي قلوب المتوجهين، عزيز يُعز من يجتهد في نصر الدين.
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أو مِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه ؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه الملة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان ؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ﴾ هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة : المساجد والزوايا، كما في الحديث١. وليس من شأن العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي : وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة : أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة : أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله :" الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل : إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.

﴿ ثم قَفّينا على آثارهم ﴾ أي : نوح وإبراهيم، ومَن مضى من الأنبياء، أو : مَن عاصروهم من الرسل، ﴿ برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم ﴾ أي : أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم. والتقفية : من القفا، كأنّ كل واحد جاء في قفا صاحبه من ورائه، ﴿ وآتيناه ﴾ أي : عيسى ﴿ الإِنجيلَ ﴾ وفيه لغتان كسر الهمزة وفتحه، وهو عجمي لا يلزم فيه أبنية العرب، ﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتَبعوه ﴾ وهم النصارى ﴿ رأفةً ﴾ مودةً وليناً، ﴿ ورحمةً ﴾ تعطُّفاً على إخوانهم، وهذا ظاهر في النصارى دون اليهود، فأتباع عيسى أولاً كانوا الحواريين، وطائفة من اليهود، وكفرت به الطائفة الباقية، فالنصارى أشياع الحواريين، فما زالت الرحمة فيهم، وأما اليهود فقلوبهم أقسى من الحجر. ﴿ ورهبانيةً ابتدعوها ﴾ من باب الاشتغال، أي : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم. أو : معطوفة على ما قبلها، أي : وجعلنا في قلوبهم رهبانيةً مبتدَعةً مِن عندهم، أي : وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها، وهي : المبالغة في الرهبة بالعبادة، والانقطاع عن الناس، وهي منسوبة إلى الرَهْبان، وهو الخائف، فعلان من : رَهَبَ، كخشيان، من خشي. وقرئ بضم الراء، نسبة إلى الرُّهْبان جمع راهب، كراكب وركبان. وسبب ابتداعهم إياها : أنَّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقُتل المؤمنون حتى لم يبقَ منهم إلاَّ القليل، فخافوا أن يفتنوهم في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قُلَل الجبال، فارين بدينهم، مخلصين أنفسهم. انظر الثعلبي فقد نقله حديثاً.
﴿ ما كتبناها عليهم ﴾ أي : لم نفرضها عليهم، ولكن نذروها على أنفسهم. ما فعلوا ذلك ﴿ إِلاَّ ابتغاءَ رِضْوانِ الله ﴾ عليهم، قيل : الاستثناء منقطع، أي : ما كتبناها عليهم لكن فعلوها ابتغاء رضوان الله، وقيل : متصل من أعم الأحوال، أي : ما كتبناها عليهم في حال من الأحوال إلاّ ابتغاء الرضوان، ﴿ فما رَعَوْها حقَّ رعايتها ﴾ كما يجب على الناذر رعاية نذره ؛ لأنه عهد مع الله، لا يحلّ نكثه، وقيل : في حق مَن أدرك البعثة فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أي : فما رَعَوا تلك الرهبانية حقها، حيث لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قوله تعالى :﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم ﴾ إيماناً صحيحاً، وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ أجرَهم ﴾ ما يخصهم من الأجر، ﴿ وكثيرٌ منهم فاسقون ﴾ خارجون عن حد الاتباع، كافرون بالله ورسوله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل زمان يبعث اللّهُ رُسلاً يدعون إلى الله، وهم الأولياء العارفون، خلفاء الرسل، بالبينات الواضحة على ولايتهم، لمَن سبقت له العناية، وأنزلنا معهم الكتاب، أي : الواردات الإلهية، والميزان، وهو إلهام اصطلاح التربية المناسبة لذلك الزمان، فيزن بها أحوالَ المريدين، ويعطي كل واحد ما يناسبه من الأوراد، والأعمال، والأحوال، ليقوم الناس في أنفسهم بالقسط، من غير إفراط ولا تفريط، وأنزلنا الحديد، إشارة إلى الجذب، الذي في قلوب العارفين، فيه بأس شديد، يذهب العقول، ومنافع للناس، لأنه هو النور الذي يمشي به الوليّ في الناس، إذ بذلك الجذب يجذب قلوبَ المريدين، ومَن لم يكن له ذلك الجذب، فلا يصلح للتربية ؛ لأنه ظاهري محض، ولا بُد لهذا الجذب أن يصحبه سلوك في الظاهر، وإلاَّ فلا يصلح أيضاً للتربية كالمصطلمين. خصّ هذا النور بأوليائه لِيعلم مَن ينصُر دينَه وسنةَ رسوله منهم، بالغيب، أي : مع غيب المشيئة عنهم، فهم يجتهدون في نصر الدين، وينظرون ما يفعل الله، وما سبق به القدر، وأمّا أمر الربوبية فهم في مقام العيان منها، إنَّ الله قوي، يُقوي قلوب المتوجهين، عزيز يُعز من يجتهد في نصر الدين.
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أو مِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه ؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه الملة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان ؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ﴾ هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة : المساجد والزوايا، كما في الحديث١. وليس من شأن العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي : وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة : أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة : أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله :" الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل : إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.

ثم أمر أهل الكتاب بالدخول في الإسلام، أو : أهل الإيمان بدوامه، فقال :
*﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾*﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ بالرسل المتقدمة ﴿ اتقوا اللهَ ﴾ أي : خافوه ﴿ وآمِنوا برسوله ﴾ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المذكور في كتابكم، ﴿ يُؤتِكم كِفْلَين ﴾ نصيبين ﴿ من رحمته ﴾ لإيمانكم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمَن قبله، لكن لا بمعنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة، بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ، وإنما أعطى مَن آمن بنبينا كفلين مع بطلان شريعته، لصعوبة الخروج عن الإلف والعادة، ﴿ ويجعل لكم نوراً تمشون به ﴾ يوم القيامة، كما سبق للمؤمنين في قوله :﴿ يَسْعَى نُورُهُم. . . ﴾ [ الحديد : ١٢ ] الخ، ﴿ ويغفرْ لكم ﴾ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، ﴿ واللهُ غفور رحيم ﴾ ويؤيد هذا التأويل وأنَّ الخطاب لأهل الكتاب : قوله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي. . . " ١ الحديث. وقيل : الخطاب للمؤمنين، أي : يأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما نهاكم عنه، ودُوموا على إيمانكم، يؤتكم كفلين. . . الخ، ويؤيد هذا حديث الصحيحين :" مَثَلُ أهل الكتاب قبلنا كمثل رجل استأجر أُجراء يعملون إلى الليل على قيراط قيراط، فعملت اليهود إلى نصف النهار، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى الليل، فاستوفيتم أجر الفريقين، فقيل : ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأعظم أجر ؟ فقال : هي ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا، قال : ذلك فضلي أوتيه مَن أشاء " ٢.
قيل : لمّا نزل قوله :﴿ أولئك يُؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزل :﴿ يا أيها الذين آمنوا. . . ﴾ الخ. ولمّا نزلت هذه الآية الكريمة في هذا الوعد الكريم للمؤمنين حسدتهم اليهود، فأنزل الله :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء. . . ﴾ الخ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تنسحب هذه الآية من طريق الإشارة على مَن كانت في أسلافه خصوصية ولاية، أو صلاح، أو شرف علم أو رئاسة مَّا، ثم ظهرت التربية الحقيقية في غير أسلافه، فإن حطّ رأسه وصَدّق بالخصوصية لغيره أعطي أجره مرتين، وعظم قدره في مقام الولاية، وإنما كانت تنتقل دولة الولاية ؛ ليعلم أهلُ الخصوصية المتقدمة أنّ الفضل بيد الله، يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلّم.

١ أخرجه البخاري في العلم حديث ٩٧، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤١..
٢ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٥٩..
أي : إنما خصصت المسلمين بذلك ليعلم أهل الكتاب أنه، أي : الأمر والشأن لا يملكون فضل الله، ولا يدخل تحت قدرتهم، ف " إن " مخففة، واسمها : ضمير الشأن، و( لا ) مزيدة، أي : ليعلم أهل الكتاب أنه لا يقدرون ﴿ على شيءٍ من فضل الله ﴾ ولا يملكونه، حتى يخصوا به مَن شاؤوا، ﴿ و ﴾ ليعلموا أيضاً ﴿ أنَّ الفضلَ بيد الله ﴾ في ملكه وتصرفه، ﴿ يُؤتيه من يشاء ﴾ من عباده ﴿ واللّهُ ذو الفضل العظيم ﴾ لا نهاية لفضله. وعلى أنَّ الخطاب لأهل الكتاب يكون قوله :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ أي : مَن لم يؤمن منهم، فيكون راجعاً لمضمون الجملة الطلبية، المتضمنة لمعنى الشرط، أي :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ بموسى وعيسى ﴿ اتقوا الله وآمنوا برسوله ﴾ فإن فعلتم ذلك ﴿ يُؤتكم كفلين من رحمته. . . ﴾ الخ، وإنما جَعلتُ هذا لمَن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا به أنهم لا يملكون من فضل الله شيئاً، وأنَّ الفضل بيد الله. . . الخ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تنسحب هذه الآية من طريق الإشارة على مَن كانت في أسلافه خصوصية ولاية، أو صلاح، أو شرف علم أو رئاسة مَّا، ثم ظهرت التربية الحقيقية في غير أسلافه، فإن حطّ رأسه وصَدّق بالخصوصية لغيره أعطي أجره مرتين، وعظم قدره في مقام الولاية، وإنما كانت تنتقل دولة الولاية ؛ ليعلم أهلُ الخصوصية المتقدمة أنّ الفضل بيد الله، يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلّم.
Icon