تفسير سورة الحديد

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
( ٥٧ ) سورة الحديد مدنية
وآياتها تسع وعشرون
كلماتها : ٥٤٤ ؛ حروفها : ١٤٧٤

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ( ١ ) ﴾
مجد الله تعالى وقدسه ونزهه عن السوء ما دونه من خلقه :﴿ ... وإن من شيء إلا يسبح بحمده.. ﴾١، وهو الغالب القاهر، الذي أحكم التدبير، فهو يصرف كل أمر وفق الصواب والحق والخير.
وقد بدئت سور كريمة بتسبيح الله تبارك وتعالى ؛ في سورة الإسراء وهي المسماة [ بني إسرائيل ] جاء التسبيح مصدرا :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده.. ﴾ وفي هذه السورة وفي سورتي الحشر والصف جاء التسبيح بلفظ الماضي ؛ وفي سورتي الجمعة والتغابن بلفظ المستقبل ﴿ يسبح لله.. ﴾ وفي سورة الأعلى بلفظ الأمر :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾.
١ - سورة الإسراء. من الآية ٤٤..
﴿ له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ( ٢ ) ﴾
لربنا وحده دون سواه ملك السماوات والأرض وما فيهما، فهو مالك ذلك كله ومليكه، فكل ما خلق مملوك له وخاضع لسلطانه، وهو يوجد ويذهب، يفعل الإحياء والإماتة، وهو على كل شيء يريده تام القدرة فعال لما يريد.
﴿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ( ٣ ) ﴾
ربنا قبل كل شيء بغير حد، كان ولاشيء معه، وهو الآخر بعد كل شيء بغير نهاية ؛ وهو كائن بعد الأشياء كلها، كما قال جل ثناؤه :﴿ .. كل شيء هالك إلا وجهه.. ﴾١ هو الظاهر على كل شيء دونه، ولا شيء أعلى منه ؛ والباطن فلا شيء أقرب إلى شيء منه ؛ وصدق الله العظيم :﴿ .. ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾٢ وعلم الله الكبير المتعال محيط بكل شيء :﴿ .. وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾٣.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومنه :( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر ) عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم ؛ والله أعلم٤.
١ - سورة القصص. من الآية ٨٨..
٢ - سورة ق. من الآية: ١٦..
٣ - سورة يونس. من الآية ٦١..
٤ - ما بين العارضتين أورده القرطبي..
﴿ هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ( ٤ ) له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور( ٥ ) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ( ٦ ) ﴾
ربنا جل علاه هو الذي أنشأ السماوات السبع، ومن الأرض مثلهن، في وقت مقداره ستة أيام- إذ اليوم يتحدد بدورة الأرض والشمس، وتعاقب الليل والنهار، وحينذاك لم يكن شمس ولا أرض- [ وذكر هذه المدة ولو أراد خلقها في لحظة لفعل ؛ إذ هو القادر على أن يقول لها : كوني فتكون لكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور.. وحكمة أخرى : خلقها في ستة أيام لأن لكل شيء عنده أجلا ؛ وبين بهذا ترك معالجة العصاة بالعقاب ؛ لأن لكل شيء عنده أجلا ؛ وهذا كقوله :﴿ ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ما مسنا من لغوب. فاصبر على ما يقولون... ﴾١ بعد أن قال :﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا.. ﴾٢ ؛ قوله تعالى :﴿ ثم استوى على العرش ﴾... [ وقد كان السلف الأول رضى الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه، وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة... وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته ؛ قال مالك رحمه الله : الاستواء معلوم- يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة ؛ وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها. ]٣. وربنا يعلم ما يدخل في الأرض من مطر وغيره، وما يخرج منها من نبات وغيره، وما ينزل من السماء من رزق وملك وغيرهما، وما يعرج فيها ويصعد من ملائكة، وصحف أعمال العباد ﴿ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر... ﴾٤ ﴿ .. ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾٥ وقدرته وعلمه وسلطانه لا يبعد منها أحد :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾٦ وهو يبصر الأعمال ويراها :﴿ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه.. ﴾٧.
أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها : عالم بكم أينما كنتم ؛ وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال : عمله معكم.
يقول صاحب روح المعاني : وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من غير علم، ولا نؤول إلا ما أوله السلف، ونتبعهم فيما كانوا عليه، فإن أولوا أولنا، وإن فوضوا فوضنا، ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما لتأويل غيره... اه٨ ؛ والله مالك السماوات والأرض ومليكهما وما فيهما، وما بينهما ومن فيهما، وحين تزول السماوات والأرض ترجع جميع الأمور إلى الله دون سواه، فهو مالك الأولى والعقبى ﴿ وإن لنا للآخرة والأولى ﴾٩ ﴿ ... له الحمد في الأولى والآخرة.. ﴾١٠ وإليه المرجع يوم القيامة، فيتولى سبحانه الحساب والثواب والعقاب ويقلب ربنا الليل ويكوره على النهار، ويكور النهار على الليل ؛ ويقدرهما بحكمته، يطول الليل حينا، وكذا النهار، وهو ذو علم بضمائر عباده، فمكنونات الصدور، وأعمال القلوب، ووسواس النفوس كل ذلك ربنا بالغ علمه به ﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ﴾١١ فيعلم السرائر وإن دقت وإن خفيت.
١ -سورة ق الآية ٣٨ ومن الآية ٣٩..
٢ - سورة ق. من الآية ٣٦..
٣ - ما بين العارضتين أورده صاحب الجامع لأحكام القرآن ج ٧ ص ٢١٩-٢٢٠..
٤ - سورة يونس. من الآية ٦١..
٥ - سورة الأنعام. من الآية ٥٩..
٦ - سورة ق. الآية ١٦..
٧ - سورة يونس. الآية ١٦..
٨ - جـ ٢٧ ص ١٦٨..
٩ - سورة (الليل) الآية ١٣..
١٠ - سورة القصص. من الآية ٧٠..
١١ - سورة الرعد. الآية ١٠..
﴿ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ( ٧ ) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ( ٨ ) هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم ( ٩ ) ﴾.
والإله الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، والغالب على كل شيء، والمدبر وفق الحكمة، والمحيي المميت، والقديم الباقي، والحي القيوم، والخلاق العليم، ومن له غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، هو- دون سواه- أهل أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فآمنوا به وبرسوله، وصدقوا واستيقنوا واستديموا اليقين بجلال رب العالمين، وتصديق واتباع نبيه الكريم المبعوث بالدين القويم ؛ وبعد أقدس أعمال القلوب- الإيمان واليقين – أمرنا بعبادة من أبر العبادات وأرضاها لله ولعباده، ننفق في كل ما أذن ربنا أن ننفق فيه، وفيما جعله تجارة معه سبحانه، ومع أن الأموال من جوده وفيضه فإنه جل علاه يمنح المنفقين المؤمنين أجرا عظيما :﴿ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ﴾١، وأيا ما كانت النفقة المشروعة فإنها مع الإيمان وصدق النية قربة تؤجر عليها حتى ما تجعل في فم امرأتك- تنفق على نفسك أو على زوجتك أو على أولادك وخدمك، أو على والديك أو على أقاربك، ثم على أي مسلم، حتى لو أطعمت الحيوان الأعجم أو سقيته.
وكيف لا تستيقنون بالله وأي شيء يمنعكم من ذلك، وخاتم النبيين يبين لكم الحجة، ويسوق الدليل والبرهان على وجوب الإيمان ؟ وقد أقررتم بعهد ربكم وميثاقه، ورضيتم بالله ربا وبالإسلام دينا، إن كنتم صادقين في الانتساب إلى أهل اليقين ؛ هذا إذا كان الخطاب للمؤمنين- ويكون ﴿ آمنوا ﴾ في الآية الأولى أمرا بالثبات على الإيمان ودوامه، و﴿ وما لكم لا تؤمنون ﴾ الآية على معنى : كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة ؟ وقيل : عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعد الإيمان، ثم من آمن بعدم الإنفاق في سبيله ؟.. قيل : لتوبيخهم على الكفر مع تحقيق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه... وأي عذر في ترك الإيمان ﴿ والرسول يدعوكم ﴾ إليه وينبهكم عليه... وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل، .. فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الأفاقية والأنفسية، والتمكين من النظر، فقوله تعالى :﴿ والرسول يدعوكم ﴾ إشارة إلى الدليل السمعي، وهذه إشارة الدليل العقلي، وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي ٢ على العقل٣- وربنا ينزل وحيه وآيات قرآنه على خاتم أنبيائه، وفيها البرهان والسلطان والحجة، ليخرجكم بهذا الدليل والهدى والمنهاج من ظلمات الكفر والحيرة والضلال إلى نور الحق والخير والرشد والإيمان، واستيقنوا أن الله يريد بكم اليسر، ويرضى لكم الاستقامة والبر، لتنالوا بذلك الفوز والعز :﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ﴾٤ ﴿ .. وإن تشكروا يرضه. لكم... ﴾٥ ﴿ .. وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ﴾٦ وهو سبحانه بالمهتدين المستقيمين أرأف وأرحم.
١ - سورة النساء. الآية ٩٦..
٢ - ما جاء به الوحي؛ والعقلى: ما اتسقل بإدراكه العقل..
٣ - روح المعاني..
٤ سورة النساء: الآية ٢٦..
٥ - سورة الزمر. من الآية ٧..
٦ - سورة البقرة. من الآية ١٤٣..
﴿ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة. من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ﴾
يحرض الله المؤمنين على الإنفاق مما رزقهم ربهم في سبيل الخير ومرضاة الله، وفي ذلك حظهم إذ هم مهما طالت آجالهم ميتون وتاركون ما كانوا يملكونه يرثه مالك السماوات والأرض ومن إليه الملك صائر، وإليه يرجع الأمر كله ؛ وفي الجملة الأولى ﴿ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ﴾ سؤال بمعنى الإنكار، وكأن المراد : أي شيء يمنعكم من النفقة في أنواع البر والقربات ! ! أو ما الذي يؤخركم عن الجهاد بالأموال ؟ ! إذ سبيل الله قد يراد بها أنواع الإحسان، وقد يراد بها الجهاد.
وفي الجملة الثانية ﴿ ولله ميراث السموات والأرض ﴾ إشارة إلى أن الأرض والسماوات وما فيهن راجع إلى الله بعد انقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له ؛ ﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ﴾ فضل الله من سبق الجهاد بذلا وفداء على من توانى أو تأخر، لا يستويان عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، و﴿ الفتح ﴾ هو فصل ما بين المنزلتين، فمن بادر بالنفقة تمكينا للمؤمنين، وقاتل أعداء الدين، أكرم على الله تعالى منزلة ممن فعلوا ذلك بعد حين.
وطائفة من علماء القرآن على أن الفتح فتح مكة ؛ لكن عمدة المفسرين بالمأثور أبا جعفر بن جرير الطبري نقل بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية :( يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم ) فقلنا : يا رسول الله ! أقريش ؟ قال :( لا هم أرق أفئدة وألين قلوبا ) فقلنا هم خير منا يا رسول الله ؟ فقال :( لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس ﴿ .. لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ﴾ ؛ كما روى نحوه عن أبي سعيد التمار.
[ أقول : وفي القرآن الكريم ما يدل على أن صلح الحديبية كان فتحا، فقد نزلت سورة الفتح بأكملها مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الغزوة. وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ﴾- إلى قوله ﴿ فوزا عظيما ﴾ مرجعه من الحديبية وهم يخالطون الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال :( لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا ) ؛ كما نقل القرطبي عن موسى بن عقبة : قال رجل عند منصرفهم من الحديبية : ما هذا بفتح ؛ لقد صدونا عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا " ]١.
وفي الآية إيجاز بالحذف إذ تقدير الكلام لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف الجزء الثاني من الكلام لدلالة الكلام عليه.
وهكذا أشارت الآية إلى السابقين باسم الإشارة ﴿ أولئك ﴾ مع أنه للبعيد، إشارة إلى بعد منزلتهم وعلوها ؛ كما دلنا القرآن هنا وفي آيات أخرى على أن منازل الناس المتقين وأقدارهم متفاضلة، وصدق الله العظيم :﴿ .. وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾٢.
﴿ وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ( ١٠ ) ﴾
أي وعد الله الحسنى كلا من المنفقين المقاتلين أول ما فرض الجهاد، ومن اللاحقين، وعدهم الله جميعا العاقبة الحسنة، والنعيم في الجنة، مع تفاضل الدرجات ؛ والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله وقتال أعدائه، وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون خبير لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة.
وفي هذا حض على نصرة الإسلام بالنفس والنفيس، بالروح والمال، وأن ذلك في حقيقته تعامل ومتاجرة مع ربنا ذي الجلال.
١ - ما بين العارضتين مما أورده الألوسي..
٢ - سورة الإسراء. من الآية ٢١..
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ( ١١ ) ﴾.
﴿ يقرض ﴾ يصنع صنيعا نافعا، ويبذل طيبا يبتغي رضوانا ومثوبة، والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا : قد أقرض ؛ مما قال لبيد :
وإذا جوزيت قرضا فاجزه١.
وسمى قرضا لأن القرض أخرج لاسترداد البدل.
تفضل من المولى أن يقترض منا وهو الغني الوهاب ؛ أنعم هو مسبغها، وأموال هو رازقها، ثم ينادينا لنضعها حيث يرضى وتحسن لنا بها العقبى في الأولى والأخرى ! نبذل مما أوتينا ؛ فيما ينفعنا وغيرنا، فيشكر الله سعينا، ويخلف لنا خير من عطائنا :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء.. ﴾ ٢ وفي الآخرة يجزى ببره جزاء لا ينقطع ولا يبيد ﴿ ... وما كان عطاء ربك محظورا ﴾٣ فأين من هذا كل نعيم الدنيا الزائل ؟ !
[... فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة تبعية تصريحية، أو التجوز في مجموع الجملة فيكون استعارة تمثيلية وهو الأبلغ ؛ أي : من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه بدله، كمن يقرضه ﴿ فيضاعفه له ﴾ فيعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا كثيرة من فضله.. ونصب [ يضاعفه ] على جواب الاستفهام بحسب المعنى.. وإنما أورد على هذا الأسلوب للمبالغة في الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع، وإنما يسأل عن فاعله ليجازى.. ]٤.
ونقل عن بعض العلماء أن القرض الحسن ما يجمع صفات منها : أن يكون من الحلال، وأن يكون من أكرم ما يملك المنفق، وأن يكون والمرء صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر، وأن يضعه في الأحوج الأولى، وأن يكتم ذلك، وأن لا يتبعه المن والأذى، وأن يقصد به وجه الله تعالى.
[ القشيري : والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية، طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة، وأن يكون من الحلال ؛ ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه، لقوله تعالى :﴿ ... ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾٥ وأن يتصدق في حال يأمل الحياة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال : " أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا "، وأن يخفي صدقته ؛ لقوله تعالى :﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم.. ﴾٦ وألا يمن ؛ لقوله تعالى :﴿ .. لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ﴾٧.. وأن يكون من أحب أمواله ؛ لقوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون... ) ٨٩.
فاستجيبوا لربكم وابتغوا بالبر والقربات والمكرمات تجارة لن تبور، وتأسوا بخاتم النبيين عليه الصلوات والتسليم فقد كان ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، وكونوا كالذين سبقوا بالإيمان والإحسان وسارعوا إلى طلب المغفرة والرضوان١٠.
١ - أي إذا أسدى إليك معروف فكافئ عليه..
٢ - سورة البقرة. من الآية ٢٦١..
٣ - سورة الإسراء. من الآية ٢٠..
٤ - مما أورد صاحب روح المعاني..
٥ - سورة البقرة. من الآية ٢٦٧..
٦ - سورة البقرة. من الآية ٢٧١..
٧ - سورة البقرة. من الآية ٢٦٤..
٨ - سورة آل عمران:. من الآية ٩٢..
٩ - ما بين العارضتين [ ] مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن..
١٠ - أخرج ابن حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له..) قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله ! وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح. قال: أرني يدك يا رسول الله" قال فناوله يده قال: فإني أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمائه نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك. قال: أخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه عيالها وصبيانها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح" [العذق]: القنو من النخل، أو العنقود من العنب؛ [رداح]: ضخم مخصب..
﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ﴾
يوفي الله تعالى المؤمنين البررة أجرهم الدائم الذي لا يحول ولا يزول في يوم ترى فيه المؤمنين والمؤمنات يمضي ضياؤهم قدامهم وعن أيمانهم، وهم يجوزون الصراط ليتبوءوا مقاعد الصدق عن ربهم.
قال الحسن : ليستضيئوا به على الصراط.
وقال مقاتل : ليكون دليلا لهم إلى الجنة.
وعن ابن مسعود : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ؛ فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله، فيطفأ مرة ويوقد أخرى.
[ وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط ؛ وقال بعضهم : يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط ؛ وفي الأخبار ما يقتضيه... السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم.. ويشهد لهذا المعنى ما أخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عبد الرحمان بن جبر بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم )، فقيل : يا رسول الله ! فكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام إلى أمتك ؟ قال :( غر محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة، وكذا إيتاء الكتب بالأيمان ؛ وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن... ويمكن أن يقال : إن ما يكون من النور لهذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها... وأما إيتاء الكتب بالأيمان فلعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به ]١.
﴿ بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ( ١٢ ) ﴾
وتسوق الملائكة يومئذ الخبر السار الذي تنبسط له أسارير الوجه، ويظهر أثره على بشرة المؤمنين والمؤمنات فيقولون لهم : بشراكم اليوم دخول جنات تجري من تحتكم- من تحت مساكنكم، أو من تحت حدائقكم فيها- أنهار الماء المبارك، وأنهار اللبن الطيب، وأنهار العسل المصفى، وأنهار الشراب الطهور ؛ يجري كل هذا من تحت منازلكم في الجنة ؛ وأبشروا بالمقام الدائم والمكث الأبدي في نعيمكم الذي أوتيتموه ؛ ذلك ربح وفلاح لا ربح أعظم ولا غنم أدوم منه.
١ - ما بين العارضتين مما أورد الألوسي.
﴿ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ﴾.
يومئذ يغشى الناس- رجال ونساء- سواد الظلمات فوق ما هم فيه من الفزع والكربات، فينادي أهل النفاق أهل الإيمان قائلين : انتظرونا نلحق بكم لنأخذ ضوءا من نوركم ؛ أو أمهلونا وأخرونا فنكون من خلفكم.
[ والاقتباس ] : أخذ القبس، أي الشعلة من النار.
﴿ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( ١٣ ) ﴾
حينئذ يقول الله جل علاه للمنافقين : ارجعوا إلى حيث كنتم فاطلبوا لأنفسكم هناك نورا.
مما نقل عن مقاتل : هذا من الاستهزاء بهم.. وذلك قوله تعالى :﴿ الله يستهزئ بهم.. ﴾١ أي حين يقال لهم :﴿ ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا.. ﴾ وقال أبو أمامة٢ : يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور، وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه :﴿ يخادعون الله وهو خادعهم.. ﴾٣.
أو هو من قول الملائكة لهم، أو من قول المؤمنين استهزاء بهم.
فيقيم المولى- تبارك وتعالى- بين الفريقين حاجزا يدخل المؤمنون والمؤمنات من أبوابه ثم تغلق دون المنافقين والمنافقات، وهذا الحجاب مما يلي المؤمنين فيه النعيم والتكريم- وهو حائط الجنة، أو الأعراف- وما يلي المنافقين من جهته العذاب وحر النار.
١ - سورة البقرة: من الآية ١٥..
٢ - نقله الألوسي في تفسيره جـ ٢٧ ص ١٧٧.
٣ - سورة النساء. من الآية ١٤٢..
﴿ ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور ( ١٤ ) ﴾
﴿ فتنتم أنفسكم ﴾ محنتموها وأهلكتموها.
﴿ وتربصتم ﴾ تلبثتم وانتظرتم ؛ وترقبتم بالمؤمنين الدوائر.
﴿ وارتبتم ﴾ شككتم فيما جاءكم من الحق.
﴿ وغرتكم الأماني ﴾ خدعكم التمني بكثرة الآمال ؛ وطول الآجال.
﴿ الغرور ﴾ الشيطان.
وعندما يقام السور حجابا بين المؤمنين والمنافقين ينادي المنافقون المؤمنين : ألم نعاشركم في الحياة ونشارككم العبادة ؟ فيقول لهم المؤمنون : بلى كنتم معنا، ولكن نافقتم فوقعتم في الهلاك والمحنة، وتباطأتم في تولي أهل الإيمان، والاستجابة لنداء القرآن، وإنما سارعتم في موادة الضلال وعبدة الأوثان ؛ وظننتم أن لن تعلو كلمة الإسلام ؛ ولم تصدقوا وحي الله الملك العلام ؛ وعشتم على طمع١ النجاة من العقاب، والإفلات من العذاب، حتى باغتكم أمر الله فمتم على غير هدى، فوقعتم في لظى جهنم ؛ وكذلك يفعل الشيطان بحزبه ﴿ ... إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ﴾٢ ﴿ استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ﴾٣.
عن قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان ؛ والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
ونقل النيسابوري :﴿ وغركم بالله ﴾ الشيطان ﴿ الغرور ﴾ فنفخ في خيشومكم أن الله غفور، وأن باب التوبة مفتح.
١ - مما أورد القرطبي: وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع ومن ذكر المنية نسى الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل... وعن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خط لنا خطوطا وخط منها خطا ناحية فقال: "أتدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت "وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط وسطه خطا وجعله خارجا منه وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا فقال: "هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا"..
٢ - سورة فاطر. من الآية ٦..
٣ - سورة المجادلة الآية ١٩..
﴿ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ( ١٥ ) ﴾.
﴿ فدية ﴾ بدل أو عوض أو فداء يبذل لحفظ النفس عن النائبة.
﴿ مأواكم ﴾ منزلكم ومحل إيوائكم، وسكنكم.
﴿ مولاكم ﴾ ناصركم- ولا ناصر لهم يومئذ ؛ فهو استهزاء بهم.
﴿ المصير ﴾ المآل والمرجع، وما يصير إليه الحال.
وبعد تقنيط المنافقين من الفوز بالنور، وتحسيرهم على زيغ القلوب وريب الصدور، يقنطهم من رفع العذاب أو صرفه عنهم، كما لا يصرف عن الذين كانوا على الكفر ظاهرا أو باطنا، وليس لهم من دار إلا النار ؛ وبئس مثواهم جهنم.
مما نقل صاحب تفسير غرائب القرآن : قال جار الله : حقيقته هي محراكم ومقمنكم.. قال في التفسير الكبير : هذا معنى، وليس بتفسير للفظ من حيث اللغة.. اه.
وأورد صاحب روح المعاني : والحق أنه ولو جعل المولى بمعنى الأولى، أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم الاستدلال بالخبر١ على الإمامة التي تدعيها الإمامية للأمير علي كرم الله وجهه، لما بين في موضعه ؛ وفي التحفة الاثنى عشرية ما فيه كفاية لطالب الحق. اه.
١ - يشير به إلى حديث الغدير: "من كنت مولاه فعلي مولاه" حيث قال الشريف الرضى: أحد معاني المولى: الأولى..
﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( ١٦ ) ﴾
﴿ ألم يأن ﴾ ألم يحن ويقرب ؟ !
﴿ تخشع ﴾ تلين وتفهم، وتنقاد وتطيع
﴿ كالذين أوتوا الكتاب من قبل ﴾ كاليهود والنصارى أنزل عليهم كتابان سماويان، التوراة والإنجيل.
﴿ الأمد ﴾ الأجل، والوقت الذي يعد غاية.
﴿ فقست ﴾ فصلبت كالحجارة أو أشد صلابة.
﴿ فاسقون ﴾ خارجون على أمر الله وطاعته، ومرضاته وشريعته.
بعد أن بينت الآية السابقة خسار الكافرين والمنافقين حذرت هذه الآية الكريمة من الغفلة عن الذكر، والتلهي عن الحق، والقسوة عن الخير، والركون إلى المعاصي.
ألم يحن الوقت للمؤمنين أن يستديموا الانقياد التام لأوامر القرآن ونواهيه، والعكوف على العمل بما فيه، من غير توان ولا فتور ؟ !
[ ﴿ لذكر الله ﴾ من إضافة المصدر إلى الفاعل، أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن ﴿ وما نزل من الحق ﴾ وأراد أن القرآن جامع للوصفين : الذكر والموعظة، ولكونه حقا نازلا من السماء ؛ ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول، أي لذكرهم الله والقرآن... ]١.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم٢ على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه :﴿ ألن يأن ﴾ الآية.
لكن في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية :﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ﴾ إلا أربع سنين.
أقول : وما دام الجمهور على أن السورة مدنية، فيمكن أن تكون هذه الآية قد نزلت أولا بمكة٣، وأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها من آيات هذه السورة الكريمة التي نزلت بعد ذلك ؛ أو يكون قد تكرر نزولها، فنزلت أولا بمكة ثم نزلت بالمدينة ؛ والله أعلم.
والمعاتب- على ما قاله الزجاج- طائفة من المؤمنين، وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن توفاه الله.
أورد صاحب غرائب القرآن : وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع٤ في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر.
بعد أن عاتب الله تعالى المؤمنين نهاهم٥ أن يتشبهوا باليهود والنصارى الذين حملوا كتبا من كتب ربنا المنزلة، فلما طال بهم العهد بدلوا كلام الله ونبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، فعند ذلك زاغت قلوبهم عن الحق والهدى، واستحبوا الضلالة والعمى، فكثر فيهم الخروج على أمر الله، واتباع الهوى، وعبادة المال والشهوات والجاه ؛ وصدق الله العليم الحكيم :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه.. ﴾٦.
روى ابن أبي حاتم بسنده عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري قال : حدثنا عبد الله ابن مسعود حديثا ما سمعت أعجب منه إلا شيئا من كتاب الله، أو شيئا قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم، واستحلته ألسنتهم واستلذته، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، فقالوا : تعالوا ندع بني إسرائيل إلى كتابنا هذا، فمن تبعنا عليه تركناه، ومن كره أن يتابعنا قتلناه، ففعلوا ذلك ؛ وكان فيهم رجل فقيه، فلما رأى ما يصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف، ثم أدرجه فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ! إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس، وإن أبى فاقتلوه ؛ فدعوا فلانا –ذلك الفقيه- فقالوا : أتؤمن بما في كتابنا هذا ؟ قال : وما فيه ؟ اعرضوه علي ! فعرضوه عليه إلى آخره ثم قالوا : أتؤمن بهذا ؟ قال : نعم آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن فتركوه ؛ فلما مات فتشوه فوجدوه معلقا ذلك القرن فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله ؛ فقال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة ؛ فافترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن ؛ قال ابن مسعود : وإنكم أوشك بكم إن بقيتم أو بقي منكم من بقي أن تروا أمورا تنكرونها لا تستطيعون لها غيرا، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره.
وروى أبو جعفر الطبري بسنده عن إبراهيم قال : جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال : يا أبا عبد الله ! هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر ؛ فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر قلبه منكرا ؛ ثم ساق نحو ما ذكرناه.
١ مما نقل النيسابوري..
٢ - العتاب: مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة، كذا نقله القرطبي عن الخليل جـ ١٧- ص ٢٤٨..
٣ - استنادا إلى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، وأوردناه، إذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، فإذا كانت الآية قد نزلت بعد إسلامه بأربع سنين فهذا يعني أنها نزلت قبل الهجرة إلى المدينة..
٤ - نقل الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير: ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول ما يرفع من الناس الخشوع" كما أورد القرطبي في تفسير جـ١٧ ص ٢٤٩ وما بعدها: ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم "إن الله يستبطئكم بالخشوع" فقالوا عند ذلك: خشعنا!.. وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه.. لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون... اهـ..
٥ - ﴿ولا﴾ نفي في معنى النهي.
٦ - سورة المائدة. من الآية ١٣..
﴿ اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ( ١٧ ) ﴾.
استيقنوا أن الذي يهز الأرض بعد همودها، ويخرج زرعها وشجرها ومرعاها فتبتهج بنبتها، قادر على إحياء الخلائق بعد موتها، فتزودوا ليوم المعاد، وتعقلوا واعملوا ما به تسعدون وتفوزون يوم التناد.
[.. وكذلك نهدي الإنسان الضال عن الحق إلى الحق فنوفقه ونسدده للإيمان حتى يصير مؤمنا من بعد كفره، ومهتديا من بعد ضلاله- أي كما علمتم أن الأرض الميتة نحييها فتعمر ونجعلها سببا لحياة حسية ونفسية، فصدقوا أنا نحيي القلوب الميتة الهامدة الجامدة، فتنشرح بالإسلام، وتستنير بنوره- وقوله :﴿ قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ﴾ يقول : قد بينا لكم الأدلة والحجج لتعقلوا ]. ١
[ ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حال... تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث ؛ للترغيب في الخشوع، والتحذير عن القساوة... ]٢.
يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال.. ، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكيم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال. اه.
١ - مما أورد صاحب جامع البيان؛ بتصرف..
٢ - مما ساق الألوسي.
﴿ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم ( ١٨ ) ﴾.
في آيات كريمة من هذه السورة عهد الله إلينا أن ننفق، - آية رقم ٧ :﴿ .. وأنفقوا.. ﴾ ورقم ١٠ :﴿ وما لكم ألا تنفقوا.. ﴾ ورقم ١١ :﴿ من ذا الذي يقرض الله.. ﴾ وفي هذه الآية المباركة بشر أهل البذل والسخاء بعظيم الجزاء ؛ و[ المصدق ] معناه ؛ المتصدق ؛ وكذا [ المصدقة ] يراد بها المتصدقة ؛ وكأن هذا وعد المولى الكريم لمن آتوا الزكاة ؛ ويشهد له قول الحق سبحانه :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها.. ﴾١ الآية. والإجماع على أنها في مصارف الزكاة ؛ ويكون ﴿ .. وأقرضوا الله قرضا حسنا.. ﴾ قد أريد به نفقة التطوع – وأيضا ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل الدال على الاستمرار ينبي عن الالتزام والوجوب٢.
فالبشرى إذا لمن أدى الزكاة المفروضة، ولمن بذل النفقة المسنونة.
قال الحسن : كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع.
وقيل : هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا.
يضاعف لهؤلاء وهؤلاء ثوابهم أضعافا كثيرة، ولهم جزاء دائم واف غير منقطع ولا منقوص.
١ - سورة التوبة. من الآية ٦٠..
٢ - ما بين العارضتين... أورده النيسابوري.
﴿ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( ١٩ ) ﴾
﴿ ءامنوا ﴾ صدقوا التصديق الكامل.
﴿ الصديقون ﴾ الدائمو التصديق ؛ لا يرتابون في شيء من وحي الله، ويصدقون قولهم بالعمل.
والذين استيقنوا بالله تعالى وجلاله، واطمأنت قلوبهم بتصديق المرسلين- صلوات الله عليهم أجمعين- وكمل لهم ذلك، وصدقت أعمالهم أقوالهم، فاطمأن بالحق والجنان –الفؤاد والقلب- وأقر بكلمة التوحيد اللسان، واستقامت على الشريعة الأركان- الجوارح- فهؤلاء ارتفعت عند الله تعالى منازلهم.
مما نقل عن الزجاج : الإيمان : الإظهار الخضوع والقبول للشريعة ولما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاده وتصديقه بالقلب ؛ فالمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر ؛ والأصل في الإيمان : الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله له عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه كما صدق بلسانه فقد أدى الأمانة وهو مؤمن. اه.
وكل من صدق بكل جوانب الإيمان لا يتخالجه في جانب منه شك فهو تصديق.
[ وينبغي أن يحمل ﴿ الذين ءامنوا ﴾ على من لهم كمال في ذلك يعتد به، ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتد بها، وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات، الغافل عن الطاعات صديقا... ]١
يقول أصحاب الأعاريب : قوله تعالى :﴿ الذين ﴾ مبتدأ أول، وقوله سبحانه :﴿ أولئك ﴾ مبتدأ ثان، وقوله تبارك اسم :﴿ هم ﴾ مبتدأ ثالث، أو ضمير فصل، و﴿ الصديقون ﴾ خبر المبتدأ الأخير، والجملة خبر ما قبله.
أورد أبو جعفر الطبري في تأويل القرآن الرباني الكريم :﴿ والذين ءامنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ﴾ يقول تعالى ذكره. والذين أقروا بوحدانية الله وإرساله رسله فصدقوا الرسل وآمنوا بما جاءوهم به من عند ربهم أولئك هم الصديقون ؛ ثم أورد أقوالا غير ذلك، ثم قال : والذي هو أولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال : الكلام والخبر عن الذين آمنوا متناه عند قوله :﴿ أولئك هم الصديقون ﴾... اه.
﴿ والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ﴾ وبشرى لمن قضى نحبه وقدم حياته فداء لدينه ووفاء بعهد ربه أن له عند الله الولي الحميد منزلا كريما، ومقاما عاليا ونعيما، مصداقا لوعد الله الحق :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾٢.
و﴿ الشهداء ﴾ من قضوا نحبهم في سبيل مرضاة الله سبحانه ؛ يقال للواحد منهم [ شهيد ] ؛ نقل عن ابن الأنباري : سمى الشهيد شهيدا لأن الله وملائكته شهود له بالجنة ؛ ونقل عن الكسائي : الشهيد في الأصل من قتل مجاهدا في سبيل الله، ثم اتسع فيه، فأطلق على من سماه النبي صلى الله عليه وسلم ٣- المبطون والغرق والحرق وصاحب الهدم وذات الجنب وغيرهم- أي من ماتوا بعلة في بطونهم أو غرقى أو محروقين أو انهدم عليهم حائط أو حاجز، أو ماتوا بأمراض الأمعاء والكلي-.
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ وعيد ونذير للذين جحدوا ما أنزل الله، ولم يصدقوا بكلماته ورسالاته، ولم يعقلوا ما جاءهم من حججه وبرهانه، هؤلاء هم المبعدون في العناد والضلال، والغواية والعمى، يصاحبون جهنم بسعيرها وخزيها، فلا تفارقهم ولا يفارقونها.
يقول القرطبي : قوله تعالى :﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ﴾ أي بالرسل والمعجزات ﴿ أولئك أصحاب الجحيم ﴾ فلا أجر لهم ولا نور. اه.
١ - ما بين العارضتين أورده الألوسي..
٢ - سورة آل عمران. والآيات: من ١٦٩-١٧١..
٣ - أورد الألوسي وغيره عن ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته، فمن أنا؟ قال: "من الصديقين والشهداء".. من حيث عمر رضي الله تعالى عنه: ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟!قالوا: نخاف لسانه. قال: ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء. قال ابن الأثير: أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها. اهـ..
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ( ٢٠ ) ﴾
تثبيت للمهتدين على طريق اليقين، وتحذير للمفتونين من مآل ومصير الغافلين ؛ فليعلم كل من يتأتى منه العلم أن الحياة الدنية ليست عند الجاهلين إلا [ لعبا ] يعقب تعبا، و[ لهوا ] يصرف عن المقصود، ويشغل عن حق المعبود ؛ وقيل : اللعب ما رغب في الدنيا ؛ واللهو ما ألهى عن الآخرة ؛ وقيل : اللعب الاقتناء ؛ واللهو النساء ؛ و[ زينة ] لا تعني إلا زخرفا ظاهرا [ وتفاخرا ] يتباهون بالمتع يفخر بعضهم على بعض بها.
في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ).
﴿ وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ﴾ يتكاثر الفرد والشعب والأمة بالمال والرجال، ويحسبون أن ما آتاهم الله من هذا العطاء إنما هو لفضلهم ؛ لكن من اعتز بغير الله ذل ؛ وربنا يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر :﴿ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا... ﴾١.
وإنما الدنيا سريعة التقضي والزوال كالنبات الذي يسقيه المطر فيخضر ثم يقوى حتى يبلغ مداه ثم سرعان ما يذبل ويصفر ثم يتيبس ويتكسر.
مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن : والمعنى : أن الحياة كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن ؛ وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن ؛ وقيل :﴿ الكفار ﴾ هنا : هم الكافرون بالله عز وجل، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين... وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة.
﴿ وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ وتنقضي الحياة الفانية، وينقضي معها حطامها، وتجيء الدار الباقية دار الخلود والقرار، فإما خزي وتحقير، ولظى وسعير، للكافرين والفجار، وإما روح وريحان، ونعيم ورضوان، للمتقين الأبرار ؛ ومهما توفرت الأعراض الزائلة، والشهوات الباطلة، لذوي القلوب الغافلة، في هذه العاجلة، فستفجأهم الكربات والحسرات في الآجلة ؛ وعندما ينكشف عنهم غطاء الغفلة، ويدركون كم غرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور، وأنساهم ذكره وحقه عدوهم الشيطان.
فليعمل العاقل بمقتضى علمه الذي علمناه، وإن العاجلة متاعها يسير، وعمرها قصير، والحساب من بعد على الجاحدين عسير.
عن سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك لطلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.. ه.
١ - سورة سبأ. من الآية ٣٧..
﴿ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( ٢١ ) ﴾
النفس مولعة بحب العاجل والإعراض من الآجال- إلا من سعدوا، وقليل ما هم- ولقد أعذر الخلاق العليم البر الرحيم ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة.. ﴾١ فدعاهم إلى دار السلام، وناداهم للتنافس في الخيرات، والتسابق إلى الأعمال الصالحة الموصلة إلى رضوانه والجنات وأعلى الدرجات ﴿ سابقوا ﴾ افعلوا فعل المتنافسين الحريصين على سبق أقرانهم ﴿ إلى مغفرة من ربكم ﴾ إلى أعمال تكون سببا لمغفرة ربكم وستره، وصفحه وعفوه ؛ أو : سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن أسباب المغفرة ودخول الجنة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التحريض على تعجل فعل البر قبل فوات الأوان ؛ روى مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( بادروا الصبح بالوتر )٢ ؛ كما روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلوات الله تعالى عليه وسلامه قال :( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل )٣ وعظم المولى- سبحانه- ما في مقاعد الصدق من قرة عين وسعة، فبين – تبارك اسمه- أن عرض الجنة التي وعد المتقون كعرض السماء والأرض جميعا لو ألصق أحدهما بالآخر، فإذا كان العرض- وهو أقصر الامتدادين- يبلغ هذا المدى، دل على عظم الطول بالطريق الأولى ؛ وقد هيأ الله البر الرحيم هذه الجنان الواسعة بكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ به أعين الذين صدقوا بالله ورسوله ؛ وفي سورة آل عمران بشر الله المتقين الموقنين ودعاهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وحرضهم- جل علاه- على المبادرة فقال عز من قائل :﴿ وسارعوا.. ﴾ يقول أصحاب الإشارات : في لفظ ﴿ سارعوا ﴾ إشارة إلى أن كلهم مستوون في القرب أو متقاربون ؛ وفي لفظ ﴿ سابقوا ﴾ إشارة إلى أن مراتب هؤلاء مختلفة.
﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾ ذلك الوعد والإعداد لهذا النعيم والتكريم، تفضل من ربنا الوهاب الكريم، يتفضل بكرمه وعطائه على من شاء أن يكرم ويعطي ويهدي ؛ والله صاحب الفضل الذي لا يحد، ولا ينتهي عند أمد.
١ - سورة النساء. من الآية ١٦٥..
٢ - بمعنى: سابقوا وتعجلوا صلاة الوتر قبل دخول وقت الصبح..
٣ - وصية كريمة بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن التي تصرف بعض الناس عن إيمانهم مقابل عرض تافه زائل.
نسأل الله تعالى العصمة من الفتن ما ظهر منها وما بطن..

﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ( ٢٢ ) ﴾
﴿ أصاب ﴾ وصل.
﴿ مصيبة ﴾ نائبة، ونازلة.
﴿ نبرأها ﴾ نخلقها.
ما وصل إلى مخلوق من نائبة وبلية أو حادث في نفسه أو فيمن له أو فيما له إلا مكتوبة في لوح محفوظ من قبل أن نخلق تلك المصيبة أو من قبل أن نخلق الأرض والأنفس، أو من قبل أن نخلق سائر المخلوقات ؛ إن إثبات ذلك وإمضاءه على الله – دون سواه- هين يسير، فإنه سبحانه لا يحتاج إلى عدة ولا إلى مدة.
[ و﴿ أصاب ﴾ جار في الشر كما هنا ؛ وفي الخير كقوله تعالى :﴿ ولئن أصابكم فضل من الله... ﴾١ وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصوب أي بالمطر ؛ وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم... وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا : إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار ؛ فقالت : والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم، ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( كان أهل الجاهلية يقولون إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار ) ثم قرأت :﴿ ما أصاب من مصيبة... ﴾الآية ] ٢.
١ - سورة النساء. من الآية ٧٣.
٢ - أورد صاحب روح المعاني جـ ٢٧ ص ١٨٧..
﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ( ٢٣ ) ﴾
بينا لكم سرعة نفاد متع العاجلة، وخلود نعيم الآجلة، وأن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم – من خير أو شر- لم يكن ليصيبكم لئلا تحزنوا على ما يفوتكم من حظ الدنيا حزنا يخرجكم عن الصبر ورجاء الثواب، ولئلا تفرحوا فرحا يطغي أو يلهي عن الشكر ؛ والله لا يرضى عن البطرين المعجبين المزهوين، ولا عن المتعالين المحقرين للآخرين.
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ( ٢٤ ) ﴾
والذين يكرههم الله تعالى لزهوهم وتحقيرهم لغيرهم يضنون ويشحون ويتواصون بالإقتار ويمنعون الماعون، كما فعل أصحاب الحديقة التي جاء ذكرها في سورة [ القلم ] :﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ﴾١ ﴿ فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ﴾٢، وتلك فتنة كل مفتون مأفون ؛ ومن يعرض عن الإنفاق في سبيل مرضاة الله فإن الله غني عنه وعن إنفاقه ؛ وتبارك المحمود في السماوات وفي الأرض.
وجائز أن يكون المراد التحذير من البخل بأي نعمة من نعم الكريم الوهاب- مالا كانت النعمة أو علما أو جاها أو ماعونا أو بذل نفس في سبيل مرضاة مولانا-
١ - سورة القلم. الآية ١٧..
٢ - سورة القلم. الآيتان ٢٣، ٢٤..
﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ( ٢٥ ) ﴾.
تحققوا أنا بعثنا رسلنا إليكم بشرا منكم، أيدناهم بالعلامات الدالة على صدقهم، وآتيناهم الحجة والبرهان، والمعجزة وخوارق العادات ؛ وأوحينا إليهم جنس الكتاب- يشمل كل ما أنزل الله سبحانه من كتبه- وأنزلنا معهم الأمر باتخاذ الميزان مع تعليم كيفيته- حسية كانت أم معنوية- ليتعامل الناس بالعدل والحق دون جور أو بغي، ومن غير تطفيف ولا بخس. ﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾ وخلقنا الحديد وهيأناه لكم وأنعمنا به عليكم- فليس يلزم أن المراد هبوط الحديد من السماء ؛ إذ قد جاء مثل هذا في قول المولى تبارك وتعالى :﴿ .. وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ﴾١- وفي الحديد الذي أوتيتم عذاب وزجر إذ تتخذ منه آلات الحرب وعدته ؛ وفيه منافع في معايشكم ومصالحكم، فما من صنعة إلا وآلتها الحديد أو ما يعمل به ؛ فينفعهم الله بذلك ؛ وليعلم سبحانه علما يجازى الناس بمقتضاه- إذ علمه الأزلي قديم- فينكشف ويرى من ينصر الله ورسله باستعمال عدة الحرب في مجاهدة أعداء الدين الحق، ينصرون دعوة الله غائبا منهم أو غائبين منه ؛ وما الانتصار للحق وبذل الأنفس والأموال في سبيله لحاجته سبحانه في إظهار دينه إلى نصرتهم، بل إنما هو ليبليهم منه بلاء حسنا :﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا.. ﴾٢.
١ - سورة الزمر. من الآية ٦..
٢ - سورة الأنفال من الآية ١٧..
﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ( ٢٦ ) ﴾.
اللام في ﴿ لقد ﴾ كسابقتها في الآية المتقدمة –موطئة للقسم.
بعث الله تعالى نوحا أول مبعوث بعد الطوفان- وكانت بعثته قبل إلى قوم مهلكين- وأرسل الله إبراهيم وجعله أبا للأنبياء من بعد ؛ وترك كلا الرسولين- صلوات الله عليهما- في ذريته وحي الله تعالى وكلماته ؛ أو اصطفى ربنا- تبارك اسمه- من ذريتهما أنبياء وأنزل عليهم كتبا ؛ فمن الذرية من وفى بعهد المولى القدوس-، ومنهم من خرج عن السنن واعوج.
﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ( ٢٧ ) ﴾
أرسلنا بعد نوح وإبراهيم- عليهما السلام- رسلا كراما منهم يوسف وموسى وداود وسليمان وزكريا – سلام الله عليهم- ثم جاء يقفوهم ويتبعهم عيسى ابن مريم- عليه السلام- وأنزل الله عليه الكتاب السماوي ﴿ الإنجيل ﴾.
وصير الله تعالى وخلق في قلوب أتباع عيسى رقة ورفقا، وهب الله أهل الإيمان الصادق بعيسى وأنصار دينه وحوارييه وأتباعهم بالهدى- رفقا وتوادا ؛ والرأفة : اللين ؛ والرحمة : الشفقة.
[ وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ؛ بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه... وتم الكلام ؛ ثم قال :﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ أي من قبل أنفسهم... ، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح، والتعلق بالكهوف والصوامع... وفي خبر مرفوع : " هي لحوقهم بالبراري والجبال " ] ١.
﴿ ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ﴾ ما فرضنا عليهم ولا أمرناهم إلا بما فيه مرضاة لربهم المعبود ؛ وقيل : الاستثناء منقطع ؛ والتقرير : ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فما قاموا بها حق القيام ؛ وبهذا شهد الله على طائفة منهم في قوله الحق :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله... ﴾٢ فأثاب الله الأتقياء الصادقين منهم أكرم مثوبة، وأخزى الله من زاغ وغوى.
[ وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال :( مر رجل بغار فيه شيء من ماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا قال لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل فأتاه فقال يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( إني لم ابعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاة ستين سنة ) ؛ وروى الكوفيون عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هل تدري أي الناس أعلم " ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم. قال :( أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على إسته هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاثا مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا لم يبق للدين أحد يدعوا إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى- يعنون محمد صلى الله عليه وسلم- فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر- وتلا ﴿ ورهبانية... ﴾ الآية- أتدري ما رهبانية أمتي : الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة والتكبير على التلاع ؛ يابن مسعود، اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى- عليه السلام- حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم ﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ الآية فمن آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون )٣.
١ - مما أورد القرطبي.
٢ - سورة التوبة. من الآية ٣٤..
٣ - ما بين العارضتين [ ] من أول وفي مسند أحمد- إلى ﴿وهم الفاسقون﴾ – أورده بالسند الذي ذكرناه أبو عبد الله القرطبي في كتابه: الجامع لأحكام القرآن جـ ١٧ ص ٢٦٥ وما بعدها كما أورد أحاديث كثيرة في بحث مطول يستدل بها فيه على ندب العزلة عند فساد الزمن وتغير الأصدقاء والإخوان جـ ١٠ ص ٣٦٠ وما بعدها.
كما أورد الألوسي عند تفسيره للآية الكريمة قوله: وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقا، والذي تدل عليه- ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم... ثم تابع يقول: قال العلماء: البدعة خمسة أقسام:... وأورد الأقسام ومثل لكل منها؛ ثم نقل عن صاحب: [جامع الأصول] بحثا في البدعة وأقسامها؛ وعلق الناشر على ما ارتضاه الألوسي؛ وأحال القارئ على كتاب الاعتصام للشاطبي حيث كفى وأوفى؛ جـ ٢٧ ص ١٩٢ وما بعدها من كتاب [روح المعاني]..

﴿ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ( ٢٨ ) ﴾
[ الكفل ] الحظ والضعف من الأجر والإثم ؛ والنصيب.
يأمر مولانا الخلاق العليم أهل الإيمان والتصديق واليقين أن يستديموا تقوى الله تعالى، ويثبتوا على التصديق برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليعطيكم ربكم الشكور جزاء على إيمانكم نصيبين من رحمته : رحمة عاجلة ورحمة آجلة، كالذي يتضرع به أهل السعادة الذين وعد البر الرحيم أن يستجيب لهم في قوله- تبارك اسمه- :﴿ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا.. ﴾١.
ويثبت المتقين فيهبهم نورا يسيرون به لا يظل عليهم سبيل٢ ويستر عليهم ما قد يكون من إساءة ويعفو ويصفح، وهو سبحانه كثير الغفران لمن استغفره، واسعة رحمته لمن تاب وآمن وعمل صالحا واستقام على الهدى.
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا : إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا : يا رسول الله إنا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين، فأنزل الله تعالى فيهم ﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ﴾٣ إلى قوله سبحانه :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا.. ﴾١.. فلما نزلت هذه الآية قال من لم يؤمن من أهل الكتاب : يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله تعالى ﴿ يا أيها الذين ءامنوا... ﴾ الآية.
[ وقال سعيد بن عبد العزيز : سأل عمر بن الخطاب حبرا من أحبار يهود : أفضل ما ضعف لكم حسنة ؟ قال : كفل ثلاثمائة وخمسين حسنة، قال : فحمد الله عمر على أن أعطانا كفلين ؛ ثم ذكر سعيد قول الله عز وجل :﴿ يؤتكم كفلين من رحمته... ﴾ ]٤.
١ - سورة البقرة: الآية ٢٠١ ومن الآية ٢٠٢..
٢ - يمكن أن تبقى البشرى بالنور- الذي يعطاه المؤمن عامة- في دنياه وأخراه؛ ويستأنس لهذا بما روي من حديث قدسي: (اجعل له في الظلمة نورا وفي الجهالة علما...)..
٣ - سورة القصص: الآيتان ٥٢، ٥٣ ومن الآية ٥٤..
٤ - مما أورد ابن كثير..
﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( ٢٩ ) ﴾.
جعلت أمة النبي الخاتم خير أمة، وضاعفت لهم أجر الحسنة إلى سبعمائة ضعف- إذ الكفل كما جاء في الأثر ثلاثمائة وخمسون حسنة- وأعطيتهم النور يضيء لهم في أولادهم وأخراهم، وغفرت لهم، ليعلم اليهود والنصارى- وفيهم أنزلت التوراة والإنجيل- أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا إعطاء ما منع الله ؛ وأن الفضل بيد الغني الوهاب- دون سواه- يمن به على من يشاء ؛ ولا حرج على فضله تبارك وتعالى.
عن قتادة : قوله :﴿ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله... ﴾ الآية قال : لما نزلت هذه الآية حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله عز وجل :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون... ﴾ الآية اه [ لأنهم كانوا يرون أن الله قد فضلهم على جميع الخلق فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد أتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم... ]١.
و[ لا ] من ﴿ لئلا ﴾ صلة- ليست بنافية- ومثلها في القرآن كثير، في كل جملة دخل في أولها وآخرها جحد غير مصرح به ؛ ففي الجحد السابق الذي لم يصرح به جاء قول الحق سبحانه ﴿ ... ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك... ﴾٢ والمعنى والله تعالى أعلم- : ما الذي منعك من السجود.. وكذا قول المولى- تبارك اسمه- :﴿ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ﴾٣ ومعنى ذلك : أهلكناها أنهم يرجعون.
وفي صحيح البخاري بسنده عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وهو قائم على المنبر ( إن بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال هل ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء ).
١ - مما أورد ابن جرير الطبري.
٢ - سورة الأعراف الآية ١٢..
٣ - سورة الأنبياء الآية ٩٥..
Icon