تفسير سورة الحديد

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الحديد
مدنية أو مكية، تسع وعشرون آية، خمسمائة وأربع وأربعون كلمة، ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أبعد الخلق ذات الله تعالى من أن يكون محلا للإمكان وصفاته من أن تكون متغيرة، وأفعاله من أن تكون موقوفة على مادة ومثال، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) أي وهو القادر الغالب الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له التصرف فيهما وفيما فيهما من الموجودات يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) أي هو قادر على خلق الحياة والموت، ومنفرد بإيجادهما لا يمنعه تعالى عنهما مانع، ولا يرده عنهما راد. هُوَ الْأَوَّلُ أي ليس قبله شيء، وَالْآخِرُ أي ليس بعده شيء فهو الباقي بعد فناء سائر الموجودات، وَالظَّاهِرُ بحسب الدلائل، وَالْباطِنُ أي المحتجب عن الأبصار. وعن الحواس وعن إدراك حقيقة ذاته في الدنيا والآخرة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) لا يعزب عن علمه شيء من المظاهر، والخفي، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من أيام الدنيا تعلما للعباد في التأني للأمور ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، أي تصرف في ملكة تصرفا تاما يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من المياه والكنوز والأموات، وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات والمياه والمعادن والأموات، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والملائكة والمصائب والحر والبرد، وَما يَعْرُجُ فِيها من الحفظة والأعمال وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم، فهو كونه تعالى عالما بظواهرنا وبواطننا لا بالمكان والجهة.
قال المحققون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله. وقال المتوسطون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله معه. وقال الظاهريون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله بعده. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) فيجازيكم به لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) أي جميع الأمور في الآخرة حيث لا مالك سواه. وقرأ الأخوان وابن عامر بفتح التاء وكسر الجيم يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، فيزيد النهار وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، فيزيد الليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) أي بمكنونات القلوب من
489
نياتهم. آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وهذا خطاب مع من عرف الله، فالمقصود من هذا الأمر معرفة صفات الله، أما معرفة وجود الصانع فحاصلة للكل، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي من الأموال التي في أيديكم التي جعلكم الله بمنزلة الوكلاء فيها، تحفظونها لمن يأتون بعدكم فلا ينبغي لكم البخل بها، فالصواب أن تصرفوها في الوجوه التي تنفعكم في المعاد، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا أموالهم في طاعة الله لَهُمْ بسبب ذلك، أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره، وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أيّ أي شيء يحصل لكم غير مؤمنين بالله، والحال أن الرسول يدعوكم للإيمان به، والحال أن الله قد نصب الدلائل الموجبة لقبول دعوة الرسول في العقول فقد تطابقت دلائل النقل والعقل، وسميت الدلائل المستلزمة وجوب القبول ميثاقا، لأنها أوكد من الحلف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)، أي إن كنتم تؤمنون بشيء لأجل دليل، فما لكم لا تؤمنون الآن فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية، وبلغت مبلغا لا يمكن الزيادة عليها. وقرأ أبو عمرو «أخذ ميثاقكم» بالبناء للمفعول، وبرفع ميثاقكم، أي مكن عقولكم من النظر في الأدلة، هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد عليه الصلاة والسلام آياتٍ بَيِّناتٍ وهي القرآن، لِيُخْرِجَكُمْ أي الله أو العبد بتلك الآيات، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الكفر إلى الإيمان، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل الآيات بعد نصب الأدلة العقلية، وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وأيّ شيء يحصل لكم يا معشر المؤمنين في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة، والحال أنه لا يبقى لكم شيء منها، بل يبقى كله لله تعالى، فإنكم ستموتون فتورثون، أي وذلك لأن المال لا بد من خروجه عن اليد، إما بالموت وإما بالإنفاق في طاعة الله، فإن خرج عن اليد بغير الإنفاق في طاعة الله استعقبه اللعن والعقاب، وإن خرج عنها بالإنفاق في مرضاة الله استعقبه المدح والثواب، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي لا يستوي منكم يا معشر المؤمنين عند الله في الفضل من أنفق من قبل فتح مكة، وقاتل أعداء الله، ومن أنفق وقاتل من بعد فتح مكة وقوة الإسلام. وقرئ «قبل الفتح» بغير «من»، أُولئِكَ أي المنعوتون بذينك النعتين الجميلين أَعْظَمُ دَرَجَةً، وأرفع منزلة عند الله مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا. وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فإنه من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا شديدا، أشرف به على الهلاك.
قال عمر: كنت قاعدا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال، فنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام فقال: ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره بخلال؟ فقال:
«أنفق ماله علي قبل الفتح» قال: فإن الله عز وجل يقول: اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال: أبو بكر أأسخط على ربي! إني عن ربي راض.
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ
490
الْحُسْنى
أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى- وهي الجنة- مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر «وكل» بالرفع على الابتداء، أي وكل وعده الله الحسنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) فيوصل الثواب إليكم بحسب استحقاقكم له
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي من ذا لذي ينفق ماله في طاعته تعالى بالصدق من قلبه رجاء أن يعوضه.
وقال بعض العلماء: لا يكون القرض حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة:
الأول: أن يكون القرض من الحلال.
والثاني: أن يكون من أكرم ما تملكه دون أن تنفق الرديء.
والثالث: أن تصدق بما تملكه وأنت تحتاج إليه بأن ترجو الحياة.
والرابع: أن تصرف صدقتك إلى الأحوج.
والخامس: أن تكتم الصدقة ما أمكنك.
والسادس: أن لا تتبعها منا ولا أذى.
والسابع: أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي.
والثامن: أن تستحقر ما تعطي وإن كثر.
والتاسع: أن يكون المعطى من أحب أموالك إليك.
والعاشر: أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير بل ترى نفسك تحت دين الفقير، وترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله منك. يُضاعَفُ لَهُمْ أي فيعطيه الله أجره أضعافا.
وقرأ عاصم بالألف والنصب، ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالألف والرفع، وابن كثير بالتشديد في العين والرفع، وابن عامر بالنصب. فالرفع على العطف على «يقرض» أو على الاستئناف على تقدير مبتدأ، أي فهو يضاعفه، والنصب على جواب الاستفهام بالفاء. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) أي وللقرض ثواب حسن في نفسه، حقيق
بأن يتنافس فيه المتنافسون، وإن لم يضعّف فكيف وقد ضعّف أضعافا كثيرة إلى أكثر من سبعمائة نزلت هذه الآية في أبي دحداح، يَوْمَ ظرف لقوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ أو للاستقرار العالم في وله أجر، أي استقر له أجر يوم تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ، وهذا النور هو ما يكون سببا للنجاة وإنما قال تعالى: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم وراء ظهورهم، فإذا مروا على الصراط يسعى معهم نور الإيمان والأعمال المقبولة أمامهم، ونور الإنفاق في جهة أيمانهم، لأن الإنفاق يكون بالإيمان ومراتب الأنوار مختلفة على قدر الأعمال، فمنهم من يضيء له نوره كما بين عدن وصنعاء ومنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من لا يضيء له نوره إلّا موضع قدميه وأدناهم نورا من يكون نوره على إبهاميه ينطفئ مرة ويتقد أخرى، وهذا القول منقول عن ابن مسعود وقتادة وغيرهما. وقرأ
491
سهل بن شعيب وأبو حيوة وبأيمانهم بكسر الهمزة أي وبسبب أيمانهم حصل سعي ذلك النور، بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي تقول لهم الملائكة على الصراط: بشارتكم العظيمة في هذا الوقت دخولكم جنات، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وهو حال من ضمير المخاطب المقدر، ذلِكَ أي ما تقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلّدة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) الذي لا غاية وراءه. وقرئ «ذلك الفوز العظيم» بإسقاط كلمة هو. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا لما رأوهم يسرع بهم إلى الجنة و «يوم» بدل من «يوم ترى»، أو أن العامل فيه «ذلك هو الفوز العظيم». انْظُرُونا أي انظروا إلينا أي، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، والنور أمامهم فيستضيئون. به وقرأ حمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وكسر الظاء أي انتظرونا لنلحق بكم، نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي نستضيء بنوركم. قِيلَ أي قال لهم المؤمنون قول تنديم وتوبيخ:
ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور فاطلبوا نورا هناك. وقيل:
ارجعوا إلى دار الدنيا، فالتمسوا هذه الأنوار هنالك. وقال أبو مسلم: المراد من قول المؤمنين ارْجِعُوا إلخ منع المنافقين عن الاستضاءة لا أمر لهم بالرجوع أي تنحّوا عنا، فلا سبيل لكم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة، فيرجعون في طلب النور فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي بني بين الفريقين بِسُورٍ الباء زائدة، أي حائط بين الجنة والنار كما قاله قتادة أو حجاب، كما في سورة الأعراف، كما قاله مجاهد. وقال: من قال: ارجعوا إلى دار الدنيا. والمراد من ضرب السور هو امتناع العود إلى الدنيا، لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي لذلك السور باب في باطن ذلك السور الجنة التي فيها المؤمنون، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) أي وخارج السور من جهته النار، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور، والكافرون يبقون في العذاب، يُنادُونَهُمْ أي ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا على الغزوات والعبادات؟ قالُوا بَلى، أي يقول المؤمنون: بلى، قد كنتم معنا في الظاهر، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها بكفر السر، واستعملتموها في المعاصي والشهوات، وَتَرَبَّصْتُمْ أي أخرتم أنفسكم عن التوبة من النفاق، وانتظرتم موت رسول الله وحوادث السوء على المؤمنين، وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في نبوة محمد، وفي البعث، وفي وعيد الله، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي الأباطيل وهي ما كانوا يتمنون من نزول الحوادث بالمؤمنين، ومن انتكاس أمر الإسلام حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي حتى جاءكم وعد الله بالموت على غير التوبة من النفاق، أي حتى أماتكم الله وألقاكم في النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)، بفتح الغين، أي الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة. وقرأ سماك بن حرب بضم الغين، والمعنى: وغركم عن طاعة الله سلامتكم من أباطيل الدنيا مع الاغترار بأمتعة الدنيا فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي فاليوم لا يقبل منكم يا معشر المنافقين فداء ولا من الذين أظهروا الكفر. وقرأ ابن عامر «تؤخذ» بالتأنيث.
492
مَأْواكُمُ النَّارُ أي منزلكم النار، هِيَ مَوْلاكُمْ أي هي موضعكم الذي تصلون إليه وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)، أي بئس المرجع هذه النار. أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟ قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم بتخفيف الزاي، والمعنى: ألم يجيء وقت أن تخشع قلوب المؤمنين لذكرهم الله، ولما نزل من القرآن، وينقادوا لأوامره ونواهيه انقيادا تاما. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بتشديد الزاي، أي ولما نزّله الله من القرآن. وعن أبي عمرو «نزل» مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن البصري «ألم يئن» بكسر الهمزة وسكون النون. وقرأ الحسن «ألما يأن»، وعن الأعمش قال: إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينا في العيش ورفاهية، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، أي هذا إما معطوف على «تخشع»، ف «لا» نافية، أي وألم يأن وقت أن لا يكونوا كاليهود والنصارى من قبل ما نزل إليكم، والمراد نهي المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب، بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، وإما جزم «بلا» الناهية، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم. وقيل: أي طالت أعمارهم في الغفلة. وقيل: طال عليهم الزمان بطول الأمل.
وقال ابن عباس: أي مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. وروي عن ابن كثير الأمد بتشديد الدال، أي الوقت الأطول فزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ للمواعظ بسبب الطول وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)، أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين من أجل فرط قسوتهم. وهذا إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي أن الله يلين القلوب بالخشوع- الناشئ عن الذكر وتلاوة القرآن- بعد قساوتها كما يحيي الله الأرض بالغيث بعد يبوستها، كذلك يحيي الله الموتى من القبور بالمطر، وقَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على قدرتنا على إحياء الموتى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) أي لكي تكمل عقولكم فتصدقوا بالبعث بعد الموت، إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ. وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر بتخفيف الصاد من التصديق، أي إن الذين آمنوا من الرجال والنساء وتصدقوا صدقة واجبة، أو تطوعا عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة يضاعف لهم إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بتشديد الصاد من التصدق. وقرأ أبي «إن المتصدقين والمتصدقات»، والمعنى: إن الذين أعطوا الصدقة من الرجال والنساء وعملوا الصالحات إلخ لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة وهو تقديم الحسنات. وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف لهم» بتشديد العين، والجار والمجرور نائب الفاعل. وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) أي
493
ثواب حسن في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وهم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم، ولم يكذبوهم ساعة قط مثل آل ياسين، ومؤمن آل فرعون، وأما في أمة محمد فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام، أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب. ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نيته- كما قاله الضحاك ومقاتل- ويقال: الصدّيق هو الذي يحمل الأمر على الأشق، ولا ينزل إلى الرخص، ولا يميل إلى التأويلات، وَالشُّهَداءُ وهذا إما معطوف على ما قبله ويجوز الوقف هنا، وهم عدول الآخرة الذين تقبل شهادتهم.
وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم. وقال مقاتل ومحمد بن جرير:
هم الذين استشهدوا في سبيل الله. وقال الفراء والزجاج هم الأنبياء. ف «أولئك» مبتدأ ثان و «هم» مبتدأ ثالث، و «الصديقون» خبر «هم»، وهو مع خبره خبر للثاني، وهو مع خبره خبر للأول، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء بعلو الرتبة ورفعة المحل. وإما مبتدأ وخبره إما عِنْدَ رَبِّهِمْ وإما لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وعلى هذا فالوقف على الصدّيقون تام. والأظهر أن جملة لهم أجرهم من مبتدأ وخبر محلها رفع على أنه خبر ثان للموصول والضمير الأول للموصول والأخيران للصدّيقين والشهداء. وهذه الجملة بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال، أي للذين آمنوا مثل أجر الصدّيقين والشهداء ونورهم، المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، فالمماثلة بين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف، وبين ما للآخرين من الأصل بدون الأضعاف، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد،
ولما ذكر الله تعالى حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفة القبيحة، أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) بحيث لا يفارقونها أبدا، ولما ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين ذكر ما يدل على حقارة الدنيا، وكمال حال الآخرة اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وهو فعل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم جدا ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة، وَلَهْوٌ وهو فعل الشبان، فبعد انقضائه لا يبقى إلا التحزن، لأن العاقل يرى المال ذاهبا والعمر ذاهبا، وَزِينَةٌ وهو دأب النسوان، لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وتكميل الناقص، وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض بالنسب، أو بالقوة، أو بالقدرة، أو بالعساكر وكلها ذاهبة، وَتَكاثُرٌ أي مبالغة في الكثرة فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ. فالحياة الدنيا غير مذمومة وإنما المذموم من صرف هذه الحياة إلى طاعة الشيطان، ومتابعة الهوى لا إلى طاعة الله تعالى، والمعنى: اعلموا أن شغل البال بالحياة الدنيا دائر بين هذه الأمور الخمسة، كَمَثَلِ غَيْثٍ أي صفة الدنيا في إعجابها كصفة مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أي أعجب الزراع النبات الحاصل بالمطر وسمي الزارع كافرا، لأنه يغطي
494
البذر بتراب الأرض، ثُمَّ يَهِيجُ أي يجف النبات فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد ما رأيته ناضرا، وقرئ «مصفارا»، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي ثم يصير النبات متكسرا، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لمن كانت حياته بهذه الصفة وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لأوليائه، وأهل طاعته والرضوان أعظم درجات الثواب، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) لمن أقبل عليها وأعرض بها عن طلب الآخرة.
قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سارعوا إلى سائر ما كلفتم به، فإن المسارعة إلى ذلك تؤدي إلى مغفرة وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أي لو جعلت السموات السبع والأرضون السبع وألزق بعضها ببعض، لكان عرض الجنة في عرض جميعها، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي هيئت الجنة للمؤمنين من جميع الأمم، ذلِكَ الموعود به من المغفرة والجنة، فَضْلُ اللَّهِ أي عطاؤه، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه إياه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١). وهذا تنبيه على عظم حال الجنة ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ هي قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، وغلاء الأثمار، وتتابع الجوع وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ وهي الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود على الأنفس، إِلَّا فِي كِتابٍ أي مكتوب في اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي أن نخلق هذه المصائب والأنفس والأرض، إِنَّ ذلِكَ أي إن إثبات كل ذلك مع كثرته في الكتاب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢)، وإن كان عسيرا على العباد لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا حزنا زائدا على ما في أصل الجبلة على ما فاتكم من نعم الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي بما أعطاكم الله تعالى منها، فإن من علم أن الكل مقدر لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت. وقرأ أبو عمرو «أتاكم» بقصر الهمزة، أي بما جاءكم من الله. وقرئ «بما أوتيتم»، والمراد: نفي الحزن المانع عن التسليم لأمر الله تعالى، ونفي الفرح الموجب للبطر والاختيال، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأداء حق الله تعالى وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. وذلك نتيجة فرحهم عند إصابة النعم والموصول صفة لكل مختال فخور. وقيل: مستأنف لا تعلق بما قبله وهو مبتدأ خبره محذوف، وهو بيان لصفة اليهود، والمعنى. الذين يبخلون ببيان صفة النبي التي في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم، ويأمرون الناس بالبخل به لهم تهديد شديد، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه فلا يعود عليه ضرر ببخل البخيل، حميد في ذلك الإعطاء مستحق حيث فتح أبواب نعمته.
وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني» بحذف لفظ هو. لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي الأنبياء إلى الأمم بِالْبَيِّناتِ أي الدلائل القاهرة والمعجزات الظاهرة، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي أنزلنا إليهم الكتاب وهو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية، لأن به يتميز الحق من
495
الباطل، والحجة من الشبهة، وَالْمِيزانَ هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية، وهو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي ليتعاملوا فيما بينهم بالعدل، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي قوة شديدة وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي. والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إشارة إلى القوة العملية والحديد إشارة إلى دفع ما لا ينبغي. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي لأمتعتهم مثل السكاكين، والفاس، والمبرد وغير ذلك، وما من صنعة إلا والحديد آلتها، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف، والرماح، وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، حال كونه تعالى غائبا عنهم، أي ينصرونه تعالى ولا يبصرونه، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على الأمور قادر على إهلاك جميع أعدائه، عَزِيزٌ (٢٥) أي لا يمانع ولا يفتقر إلى نصرة أحد بل وإنما ليصلوا بامتثال الأمر في الجهاد إلى الثواب، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فما جاء بعدهما أحد بالنبوة، إلّا وكان من أولادهما، وكانت الكتب الأربعة في ذرية إبراهيم، وهو من ذرية نوح، فإنه الأب الثاني لجميع البشر، فَمِنْهُمْ أي الذرية مُهْتَدٍ إلى الحق وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)، أي خارجون عن الطريق المستقيم ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ، أي نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم بِرُسُلِنا أي أرسلنا بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، أي جعلناه متأخرا عنهم في الزمان وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أي أعطيناه الإنجيل. وقرأ الحسن بفتح همزة «أنجيل» تنبيها على كونه أعجميا، وأنه لا يلزم فيه مراعاة أبنية العرب وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ على دينه رَأْفَةً أي لينا وَرَحْمَةً، أي شفقة أي وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. وقرئ «رآفة» على وزن فعالة، وَرَهْبانِيَّةً. وقرئ بضم الراء ابْتَدَعُوها، أي أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها أي وفقناهم لاستحداث الرهبانية لينجوا من فتنة بولس اليهودي.
وروى ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا ابن مسعود، أما علمت أن بني إسرئيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلّا ثلاث فرق: فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي»
«١». ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي لم نفرض الرهبانية عليهم. وهذه الجملة صفة ثانية لرهبانية، إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي فما حفظوا الرهبانية حق حفظها، لأنهم أتوها
(١) رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠: ٢١٢)، وابن كثير في التفسير (٨: ٥٥) وفيه: «يا ابن مسعود، هل علمت... اثنين وسبعين».
496
لطلب الدنيا والرياء والسمعة فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد مِنْهُمْ أي الرهبان أَجْرَهُمْ وهم الذين لم يخالفوا دين عيسى ابن مريم، وهم أربعة وعشرون رجلا في أهل اليمن، جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به، ودخلوا في دينه أي لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق من الرهبان إلا قليل، انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته، وصاحب دير من ديره، فآمنوا به صلّى الله عليه وسلّم وصدقوه، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ي من الرهبان فاسِقُونَ (٢٧) أي تاركون تلك الطريقة ظاهرا وباطنا، وهم الذين خالفوا دين عيسى، فقال الله تعالى في حق قوم عيسى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعيسى وبالرسل المتقدمة، اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة والسلام يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ، أي نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم أولا: بعيسى عليه السلام، وثانيا: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق، وإن كان منسوخا ببركة الإسلام وَيَجْعَلْ لَكُمْ يوم القيامة نُوراً تَمْشُونَ بِهِ على الصراط وبين الناس وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) أي مبالغ في المغفرة والرحمة، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، لأنه قادر مختار يفعل بحسب الاختيار، و «لا» زائدة كما يدل عليه قراءة «ليعلم» و «لكي يعلم»، و «لأن يعلم». وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ عطف على أَلَّا يَقْدِرُونَ، والمعنى: إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين، وأن الفضل في تصرف الله تعالى يعطيه من يشاء، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلا. والمقصود من هذه الآية أن يزيل الله عن قلوب بني إسرائيل اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم، وغير حاصلة إلّا في قومهم وقيل: إن لفظة «لا» غير زائدة والضمير في قوله تعالى: أَلَّا يَقْدِرُونَ عائد إلى الرسول وأصحابه: وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ ألخ عطف على «أن لا يعلم». والمعنى: أنا فعلنا ذلك لئلا يعتقد أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله الذي هو سعادة الدارين، وليعتقدوا أن الفضل في ملكه تعالى على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك، كناية عن علمهم بقدرتهم عليه، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) فإن العظيم لا بد وأن يكون إحسانه عظيما.
497
Icon