تفسير سورة الحديد

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الحديد
أخرج جماعة عن ابن عبس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له فقد قال قوم : إنها مكية نعم الجمهور كما قال ابن الفرس على ذلك. وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ويشهد لها ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) فأسلم ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا ويسن أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) إلا أربع سنين وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين ( ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ) الآية لكن سيأتي إن شاء الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة. ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف وهي تسع وعشرون آية في العراقي وثمان وعشرون في غيره ووجه اتصالها بالواقعة أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمرية وكان أولها واقعا موقع العلة للأمرية فكأنه قيل :( سبح باسم ربك العظيم ) لأنه سبح له ما في السماوات والأرض وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ثم قال : قال يحيى : نراها الآية التي في آخر الحشر

سورة الحديد
أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، وقال النقاش وغيره: هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له، فقد قال قوم: إنها مكية، نعم الجمهور- كما قال ابن الفرس- على ذلك.
وقال ابن عطية: لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: ٧] فأسلم، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: ١٦] إلا أربع سنين، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ [الحديد: ١٦] الآية لكن سيأتي إن شاء الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة.
ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم الثلاثاء، وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف، وهي تسع وعشرون آية في العراقي، وثمان وعشرون في غيره، ووجه اتصالها- بالواقعة- أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به، وكان أولها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: ٧٤، ٩٦، الحاقة: ٥٢] لأنه سبح له ما في السماوات والأرض، وجاء في فضلها مع أخواتها ما
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير
ثم قال: قال يحيى: نراها الآية التي في آخر الحشر.
164
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ التسبيح على المشهور تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما، وحيث أسندها هنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها، قال الجمهور: المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين، ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص، وذهب بعض إلى أن التسبيح على حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل، وقد صرح به جمع من الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قالي وإن تفاوت الأمر، وقيل: معنى سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان الله تعالى ونبهه عليه وهو كما ترى، ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا يحتاج إلى عموم المجاز، وجوز الطبرسي كون ما للعالم فقط مثلها في قول أهل الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد- سبحان ما سبحت له ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى، والظاهر أنها في الوجهين موصولة، وقال بعضهم: إنها نكرة موصوفة وإن أصل الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت ما الثانية وأقيمت صفتها مقامها، ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع، والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيه وكون المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى.
وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى وجيء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح: ٩] للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت له وشكرت له،
165
وقيل: للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه، وفيه شيء لا يخفى، وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات، وفي كل دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك هجيراه وديدنه، أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الاستمرار إلى زمان الإخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى المقتضي للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غبّ تسبيح، وأما دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك، وقيل: الإيذان والدلالة على الاستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع حيث دل الماضي على الاستمرار إلى زمان الإخبار والمضارع على الاستمرار في الحال والاستقبال فشملا معا جميع الأزمنة، وقال الطيبي: افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم، وكذا قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات، وقوله سبحانه: يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يفعل الإحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال، وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة قَدِيرٌ مبالغ في القدرة تذييل وتكميل لما قبله هُوَ الْأَوَّلُ السابق على جميع الموجودات فهو سبحانه موجود قبل كل شيء حتى الزمان لأنه جل وعلا الموجد والمحدث للموجودات وَالْآخِرُ الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية.
ومن هنا قال ابن سينا: الممكن في حدّ ذاته ليس وهو عن علته أيس فلا ينافي هذا كون بعض الموجودات الممكنة لا تفنى كالجنة والنار ومن فيهما كما هو مقرر مبين بالآيات والأحاديث لأن فناءها في حدّ ذاتها أمر لا ينفك عنها، وقد يقال: فناء كل ممكن بالفعل ليس بمشاهد، والذي يدل عليه الدليل إنما هو إمكانه فالبعدية في مثله بحسب التصور والتقدير، وقيل: هو الأول الذي تبتدئ منه الأسباب إذ هو سبحانه مسببها وَالْآخِرُ الذي تنتهي إليه المسببات فالأولية ذاتية والآخرية بمعنى أنه تعالى المرجع والمصير بقطع النظر عن البقاء الثابت بالأدلة، وقيل:
الأول خارجا لأنه تعالى أوجد الأشياء فهو سبحانه متقدم عليها في نفس الأمر الخارجي والآخر ذهنا وبحسب التعلق لأنه عز شأنه يستدل عليه بالموجودات الدالة على الصانع القديم كما قيل: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله تعالى بعده، وقال حجة الإسلام الغزالي: إن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء، والآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إليها أول إذ كلها استفادت الوجود منه سبحانه وأما هو عز وجل فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره سبحانه وتعالى عن ذلك، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين فهو تعالى آخر إذ هو آخر ما ترتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته تعالى فهي مرقاة إلى معرفته جل وعلا، والمنزل الأقصى هو معرفة الله جل جلاله فهو سبحانه بالإضافة إلى السلوك آخر
166
وبالإضافة إلى الوجود أول فمنه عز شأنه المبدأ أولا وإليه سبحانه والمرجع والمصير آخر انتهى.
والظاهر أن كونه تعالى أولا وآخرا بالنسبة إلى الموجودات أولى ولعل ما ذكره أوفق بمشرب القوم.
وَالظَّاهِرُ أي بوجوده لأن كل الموجودات بظهوره تعالى ظاهر وَالْباطِنُ بكنهه سبحانه فلا تحوم حوله العقول، وقال حجة الإسلام: هذان الوصفان من المضافات فلا يكون الشيء ظاهرا لشيء وباطنا له من وجه واحد بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بالاستدلال والريب من شدة الظهور وكل ما جاوز الحد انعكس إلى الضد، وإلى تفسير الباطن بغير المدرك بالحواس ذهب الزمخشري، ثم قال: إن الواو الأولى لعطف المفرد على المفرد فتفيد أنه تعالى الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية والأخيرة أيضا كذلك فتفيد أنه تعالى الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فلعطف المركب على المركب فتفيد أنه جل وعلا الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو تعالى المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية وهو تعالى في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس، وفي هذا حجة على من جوز إدراكه سبحانه في الآخرة بالحاسة أي وذلك لأنه تعالى ما من وقت يصح اتصافه بالأولية والآخرية إلا ويصح اتصافه بالظاهرية والباطنية معا، فإذا جوز إدراكه سبحانه بالحاسة في الآخرة فقد نفى كونه سبحانه باطنا وهو خلاف ما تدل عليه الآية، وأجاب عن ذلك صاحب الكشف فقال: إن تفسير الباطن بأنه غير مدرك بالحواس تفسير بحسب التشهي فإن بطونه تعالى عن إدراك العقول كبطونه عن إدراك الحواس لأن حقيقة الذات غير مدركة لا عقلا ولا حسا باتفاق بين المحققين من الطائفتين، والزمخشري ممن سلم فهو الظاهر بوجوده والباطن بكنهه وهو سبحانه الجامع بين الوصفين أزلا وأبدا، وهذا لا ينافي الرؤية لأنها لا تفيد ذلك عند مثبتها انتهى، وهو حسن فلا تغفل.
وعليه فالتذليل بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لئلا يتوهم أن بطونه تعالى عن الأشياء يستلزم بطونها عنه عز وجل كما في الشاهد، وقال الأزهري: قد يكون الظاهر والباطن بمعنى العلم لما ظهر وبطن وذلك أن من كان ظاهرا احتجب عنه الباطن ومن كان باطنا احتجب عنه الظاهر فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت هو ظاهر باطن مثله قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور: ٣٥] أي لا شرقية فقط ولا غربية فقط ولكنها شرقية غربية، وفي التذييل المذكور حينئذ خفاء، وقريب منه من وجه ما نقل أن الظاهر بمعنى العالي على كل شيء الغالب له من قوله ظهر عليهم إذا علاهم وغلبهم، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه، وتعقب بفوات المطابقة بين الظاهر والباطن عليه وأن بطنه بمعنى علم باطنه غير ثابت في اللغة، لكن قيل في الآثار: ما ينصر تفسير الظاهر بما فسر.
أخرج مسلم والترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة قال: «جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تسأله خادما فقال لها: قولي اللهم رب السماوات السبع ورب العرش الكريم العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر»
وقال الطيبي: المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي يغلب ولا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه، وبالباطن من لا ملجأ ولا منجي دونه يلتجىء إليه ملتجىء، وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر فليس فوقك شيء في الظهور أي أنت أظهر
167
من كل شيء إذ ظهور كل شيء بك وأنت الباطن فليس دونك في البطون شيء أي أنت أبطن من كل شيء إذ كل شيء يعلم حقيقته غيره وهو أنت وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك، أو لأن كل شيء يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك، وأيضا في دلالة الباطن على ما قال: خفاء جدا على أنه لو كان الأمر كما ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فان الخير صحيح، وقد جاء نحوه من رواية الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجة ويبعد عدم وقوف أولئك الأجلة عليه، وأبعد من ذلك أن يكون ما ذكره صلّى الله عليه وسلم من أسمائه تعالى غير ما في الآية، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله: «فليس دونك شيء» ليس أقرب منك شيء، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل قال:
بلغنا في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ إلخ هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه والذي يترجح عندي ما ذكر أولا، وعن بعض المتصوفة أهل وحدة الوجود أن المراد بقوله سبحانه: هُوَ الْأَوَّلُ إلخ أنه لا موجود غيره تعالى إذ كل ما يتصور موجودا فهو إما أول أو آخر هو سبحانه لا غيره، وأيدوه بما
في حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة «والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» قال أبو هريرة، ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وحال القول بوحدة الوجود مشهور وأما الخبر فمن المتشابه، وقد قال فيه الترمذي: فسر أهل العلم الحديث فقالوا: أي لهبط على علم الله تعالى وقدرته وسلطانه، ويؤيد هذا ذكر التذييل وعدم اقتصاره عليه الصلاة والسلام على ما قبله، وهذه الآية ينبغي لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق بالله تعالى أن يقرأها، فقد أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له وقد أعلمه أن عنده وسوسة في ذلك: «إذا وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول» الآية.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء فماذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقالوا هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم».
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بيان بعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره مرارا يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها مر بيانه في سورة سبأ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا، وقيل:
المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السباق واللحاق مع استحالة الحقيقة، وقد أول السلف هذه الآية بذلك، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها: عالم بكم أينما كنتم.
وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال: علمه معكم، وفي البحر أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر، وقد تأول هذه الآية وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض، ولو اتسع عقله لتأول غير ذلك مما هو في معناه انتهى.
وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من غير علم ولا نؤوّل إلا ما أوّله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه فإن أوّلوا أوّلنا وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما لتأويل غيره، وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ويسخرون من القرآن
168
الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عبارة عن إحاطته بأعمالهم وتأخير صفة العلم الذي هو من صفات الذات عن الخلق الذي هو من صفات الأفعال مع أن صفات الذات متقدمة على صفات الأفعال لما أن المراد الإشارة إلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم، وقيل: إن الخلق دليل العلم إذ يستدل بخلقه تعالى وإيجاده سبحانه لمصنوعاته المتقنة على أنه عز وجل عالم ومن شأن المدلول التأخر عن الدليل لتوقفه عليه، وقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله سبحانه المشعر بالإعادة: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه تعالى وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور أعراضها وجواهرها، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج «ترجع» مبنيا للفاعل من رجع رجوعا، وعلى البناء للمفعول كما في قراءة الجمهور هو من رجع رجعا يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ مر تفسيره مرارا وقوله تعالى: وَهُوَ عَلِيمٌ أي مبالغ في العلم بِذاتِ الصُّدُورِ أي بمكنوناتها اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها، وجوز أن يراد بِذاتِ الصُّدُورِ نفسها وحقيقتها على أن الإحاطة بما فيها تعلم بالأولى.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عز وجل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق فإن من علم أنها لله تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصاريف هان عليه الإنفاق، أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم، وفيه أيضا ترغيب في الإنفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان،
وفي الحديث «يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت»
والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعليه ما حكي أنه قيل لأعرابي: لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لله تعالى عندي، ويميل إليه قول القائل:
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع
والآية على ما روي عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا حسبما أمروا به لَهُمْ بسبب ذلك أَجْرٌ كَبِيرٌ وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة اسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلا آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرا كبيرا، وأعيد ذكر الإيمان والإنفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فللذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير، ووصف بالكبير، وقوله عز وجل: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ استئناف قيل: مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط، ونظيره قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح: ١٣] وقد يتوجه الإنكار والنفي في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضا كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ [يس: ٢٢] إلخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه، وقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من
169
ضمير لا تُؤْمِنُونَ مفيدة على ما قيل: لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه، ولام لِتُؤْمِنُوا صلة- يدعو- وهو يتعدى بها وبإلى أي وأيّ عذر في ترك الايمان وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إليه وينبهكم عليه، وجوّز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعا وماضيا، وجوز كونه حالا معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير تُؤْمِنُونَ والتخالف بالاسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة، وأيا ما كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكين من النظر فقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي.
وقال البغوي: هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا- وعليه لا مجاز- والأول اختيار الزمخشري، وتعقبه ابن المنير فقال: لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب الإيمان به، وروي ذلك عن مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفى أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سببا لإلزامهم الايمان به، وقال الطيبي: يمكن أن يقال إن الضمير في أَخَذَ إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دلّ عليه قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [البقرة: ٣٨] إلخ لأن المعنى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم، ويدل على الأول قوله سبحانه: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا وعلى الثاني هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ إلخ، وإن كان للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران: ٨١] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد، ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى.
ويضيف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه.
والخطاب قال صاحب الكشف: عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الإيمان ثم من آمن بعدم الإنفاق في سبيله.
وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين، وجعل آمنوا أمرا بالثبات على الإيمان ودوامه وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ إلخ على معنى كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة.
وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل، ولعل ما ذكره صاحب الكشف أولى إلا أنه قيل عليه: إن آمنوا إذا كان خطابا للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظرا لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظرا للمتصفين وفيه ما فيه، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر
170
وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده: أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل، وقرىء وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بالله ورسوله، وقرأ أبو عمرو وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ بالبناء للمفعول ورفع مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب ما فهذا موجب لا موجب وراءه، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه، وقال الواحدي: أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه وأيا ما كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ وقال الطبري في ذلك: المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن وقيل: المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما السلام فآمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الإيمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن، وقيل المراد إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة، والكل كما ترى.
وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي، وقال في هذا الشرط: يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: ٢٧٨] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل عليه ما بعد هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ حسبما يعن لكم من المصالح آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات، والظاهر أن المراد بها آيات القرآن، وقيل: المعجزات لِيُخْرِجَكُمْ أي الله تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه، أو العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الايمان، وقرىء في السبعة ينزل مضارعا فبعض ثقل وبعض خفف.
وقرأ الحسن بالوجهين، وقرأ زيد بن علي والأعمش أنزل ماضيا وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ مبالغ في الرأفة والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على أتم وجه، وقرىء في السبعة لَرَؤُفٌ بواوين، وقوله عز وجل: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا توبيخ على ترك الإنفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولا على ترك الإيمان، وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار، و (أن) مصدرية لا زائدة كما قيل، واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر، فالمصدر المؤول في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول الإنفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتشديد التوبيخ، والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الاستعارة التصريحية أي أيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز وجل من المصارف، أو ما انتقل إليكم من غيركم وسينتقل منكم إلى الغير.
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف.
وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما، واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا، والجملة حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عز وجل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الانفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في الحقيقة، أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل: ومالكم في ترك إنفاقها في سبيل الله تعالى، والحال أنه لا يبقى لكم ولا
171
لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عز وجل، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة، وقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحري الأفضل، وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الانفاق أصلا وقسيم مَنْ أَنْفَقَ محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره، وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه، والفتح فتح مكة على ما روي عن قتادة، وزيد بن أسلم ومجاهد- وهو المشهور- فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاء وقال الشعبي: هو فتح الحديبية وقد مر وجه تسميته فتحا في سورة الفتح، وفي بعض الآثار ما يدل عليه.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يوشك أن يأتي قوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟
قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ الآية.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما قَبْلِ بغير مَنْ أُولئِكَ إشارة إلى من أنفق، والجمع بالنظر إلى معنى مَنْ كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها، ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم، ومحله الرفع على الابتداء والخبر قوله تعالى: أَعْظَمُ دَرَجَةً أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرا.
مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ بعد الفتح وَقاتَلُوا وذهب بعضهم إلى أن فاعل لا يَسْتَوِي ضمير يعود على الانفاق أي لا يستوي هو أي الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده، ومَنْ أَنْفَقَ مبتدأ، وجملة أُولئِكَ أَعْظَمُ خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم، ويعلم منه التزاما التفاوت بين الإنفاق قبل الفتح والانفاق بعده، وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعا من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقينا بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه، ولا كذلك الذين أنفقوا بعد وَكُلًّا أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روي عن مجاهد وقتادة، وقيل: أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا، وقرأ ابن عامر وعبد الوارث- وكل- بالرفع، والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله:
وخالد يحمد ساداتنا... بالحق لا يحمد بالباطل
يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور، ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدأ، وقالوا: لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوجون بهذه القراءة، وقول بعضهم فيها: إن كل خبر مبتدأ تقديره، وأولئك كل، وجملة وَعَدَ اللَّهُ صفة- كل- تأويل ركيك، وفيه زيادة حذف، على أن بعض النحاة منع وصف- كل- بالجملة لأنه معرفة بتقدير
172
وكلهم، وقال الشهاب: الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر في غير- كل- وما ضاهاها في الافتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه الإجماع وهو محل نزاع.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد، وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى، والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناء على الخلاف السابق، والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه، وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم، فلذلك قال: أُولئِكَ ليشمل غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك، نعم هو أكمل الأفراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ماله وبذل نفسه معه عليه الصلاة والسلام ولذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ليس أحد أمّن علي بصحبته من أبي بكر»
وذلك يكفي لنزولها فيه،
وفي الكشاف إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
قال الطيبي: الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
، وتعقبه في الكشف بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في الكشاف إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام: ٢٧، ٣٠] الآية وإلا فقد قيل: إن الخطاب يقتضي الحضور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة.
وأقول شاع الاستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقا بناء على ما قالوا: إن إضافة الجمع تفيد الاستغراق وعليه صاحب الكشف، واستشكل أمر الخطاب، وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حدّ خطاب الله تعالى الأزلي لكن من بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر منهم فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة.
أخرج أحمد عن أنس قال: «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال لعبد الرحمن ابن عوف: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد- أو مثل الجبال- ذهبا ما بلغتم أعمالهم»
ثم في هذا الحديث تأييد ما لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في التقريب وغيره، والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل، قال الجلال المحلي: كون الخطاب في «لا تسبوا» للصحابة السابين، وقال: نزلهم صلى الله تعالى عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ندب بليغ من الله تعالى إلى الانفاق في سبيله مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه فالاستفهام ليس على حقيقته بل للحث، والقرض الحسن الانفاق بالإخلاص وتحري أكرم المال وأفضل الجهات، وذكر بعضهم أن القرض الحسن ما يجمع عشر صفات. أن يكون من الحلال فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا. وأن يكون من أكرم ما يملكه المرء. وأن يكون والمرء صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر وأن يضعه في الأحوج الأولى. وأن يكتم ذلك، وأن لا يتبعه بالمنّ والأذى، وأن يقصد به وجه الله تعالى وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر، وأن يكون من أحب أمواله إليه.
173
وأن يتوخى في إيصاله للفقير ما هو أسر لديه من الوجوه كحمله إلى بيته. ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص فيما ذكر.
وأيما كان فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة تبعية تصريحية أو التجوز في مجموع الجملة فيكون استعارة تمثيلية وهو الأبلغ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرضه فَيُضاعِفَهُ لَهُ فيعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا كثيرة من فضله.
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي وذلك الأجر المضموم اليه الإضعاف كريم مرضي في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، ففيه إشارة إلى أن الأجر كما أنه زائد في الكم بالغ في الكيف فالجملة حاليه لا عطف على فَيُضاعِفَهُ، وجوز العطف والمغايرة ثابتة بين الضعف والأجر نفسه فإن الإضعاف من محض الفضل والمثل فضل هو أجر، ونصب يضاعفه على جواب الاستفهام بحسب المعنى كأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه له فإن المسئول عنه بحسب اللفظ وإن كان هو الفاعل لكنه في المعنى هو الفعل إذ ليس المراد أن الفعل قد وقع السؤال عن تعيين فاعله كقولك: من جاءك اليوم؟ إذا علمت أنه جاءه جاء لم تعرفه بعينه وإنما أورد على هذا الأسلوب للمبالغة في الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع وإنما يسأل عن فاعله ليجازي ولم يعتبر الظاهر لأنه يشترط بلا خلاف في النصب بعد الفاء أن لا يتضمن ما قبل وقوع الفعل نحو لم ضربت زيدا فيجازيك فإنه حينئذ لا يتضمن سبق مصدر مستقبل وعلى هذا يؤول كل ما فيه نصب وما قبل متضمن للوقوع، وقرأ غير واحد «فيضاعفه» بالرفع على القياس نظرا للظاهر المتضمن للوقع وهو إما عطف على يقرض أو على فهو (يضاعفه) وقرىء فيضعفه بالرفع والنصب يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظرف لما تعلق به له أو له أو لقوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ أو منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم، والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم، وقوله عز وجل: يَسْعى نُورُهُمْ حال من مفعول ترى والمراد بالنور حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار- وإليه ذهب الجمهور- والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا.
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى»
وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط، وقال بعضهم: يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط، وفي الأخبار ما يقتضيه كما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى، والمراد أنه يكون لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، وفي البحر الظاهر أن النور قسمان: نور بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها. ونور بأيمانهم يضيء ما حواليهم من الجهات، وقال الجمهور: إن النور أصله بأيمانهم والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك، وقيل: الباء بمعنى عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم، وذكر الأيمان لشرفها انتهى، ويشهد لهذا المعنى ما
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل: يا رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام إلى أمتك؟ قال: غرّ
174
محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم»
وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن،
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: «تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم» الخبر
، وأخرج عنه الحاكم وصححه وابن أبي حاتم من وجه آخر وابن المبارك والبيهقي في الأسماء والصفات خبرا طويلا فيه أيضا ما هو ظاهر في العموم، وكذا ما
أخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله تعالى نورا فلما رأى المؤمنين النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من الله عز وجل إلى الجنة
، ولا ينافي هذا الخبر كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا يخفى، وكذا إيتاء الكتب بالأيمان، ففي هداية المريد لجوهرة التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى.
ويمكن أن يقال: إن ما يكون من النور هذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الامتياز، وأما إيتاء الكتب بالأيمان فلعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به، وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء الله تعالى في محلها، وقيل: أريد بالنور القرآن، وقال الضحاك: النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه، وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة «وبإيمانهم» بكسر الهمزة، وخرّج ذلك أبو حيان على أن الظرف يعني أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك الاعتبار أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم وهو كما ترى، ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي وبسبب إيمانهم يقال لهم ذلك، وجملة القول، إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم، والقائل الملائكة الذين يتلقونهم.
والمراد بالبشرى ما يبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، وما قيل: البشارة لا تكون بالأعيان فيه نظر، وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن التبشير ليس عين الدخول، وجملة قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ في موضع الصفة لجنات: وقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها حال من جنات، قال أبو حيان: وفي الكلام التفات من ضمير الخطاب في بُشْراكُمُ إلى ضمير الغائب في خالِدِينَ ولو أجرى على الخطاب لكان التركيب خالدا أنتم فيها: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة عليهم السلام المتلقين لهم، فالإشارة إلى ما هم فيه من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزا على ما قيل، وقرىء ذلك الفوز بدون هُوَ.
175
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بدل من يَوْمَ تَرَى، وجوز أن يكون معمولا لا ذكر.
وقال ابن عطية: يظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم، ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل: إن المؤمنين يفوزون يوم يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه مضاده أبدع وأفخم.
وتعقبه في البحر بأن ظاهر تقريره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو أعمل وصفه وهو العظيم لجاز- أي الفوز الذي عظم- أي قدره يوم انتهى، وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول خلاف، ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا أي انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به.
وقيل: فيأخذوا شيئا منه يكون معهم تخيلوا تأتّي ذلك فقالوه، وأصل الاقتباس طلب القبس أي الجذوة من النار، وجوز أن يكون المعنى انظروا إلينا نقتبس إلخ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا على الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر وقولهم: للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها، وروي أنه يكون ذلك على الصراط.
وفي الآثار دلالة على أنهم يكون لهم نور فيطفأ فيقولون ذلك، أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده وأما عند الصراط قال الله يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط أطفأ الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون: انظرونا نقتبس من نوركم، وقال المؤمنون: أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا».
وفي حديث آخر مرفوع عنه أيضا إن نور المنافق يطفأ قبل أن يأتي الصراط
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي فاختة يجمع الله تعالى الخلائق يوم القيامة ويرسل الله سبحانه على الناس ظلمة فيستغيثون ربهم فيؤتي الله تعالى كل مؤمن منهم نورا ويؤتي المنافقين نورا فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم فبينما هم كذلك إذ أطفأ الله نور المنافقين فيترددون في الظلمة ويسبقهم المؤمنون بنورهم بين أيديهم فيقولون انظرونا نقتبس من نوركم الخبر
، والاخبار في إيتاء المنافق نورا ثم إطفائه كثيرة وليس في الآية ما يأباه.
وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء من النظرة وهي الامهال يقال أنظر المديون أي أمهله، وضع انْظُرُونا بمعنى المهلة وإنظار الدائن المديون موضع اتئاد الرفيق ومشيه الهوينا ليلحقه رفيقه على سبيل الاستعارة بعد سبق تشبيه الحالة بالحالة مبالغة في العجز وإظهار الافتقار، وقيل: هو من أنظر أي أخر، والمراد اجعلونا في آخركم ولا تسبقونا بحيث تفوتونا ولا نلحق بكم.
176
وقال المهدوي: «أنظرونا» «وانظرونا» بمعنى وهما من الانتظار تقول العرب: أنظرته بكذا وانتظرته بمعنى واحد والمعنى أمهلونا قِيلَ القائلون على ما روي عن ابن عباس المؤمنون، وعلى ما روي عن مقاتل الملائكة عليهم السلام.
ارْجِعُوا وَراءَكُمْ قال ابن عباس: أي من حيث جئتم من الظلمة أو إلى المكان الذي قسم فيه النور على ما صح عن أبي أمامة فَالْتَمِسُوا نُوراً هناك، قال مقاتل: هذا من الاستهزاء بهم كما استهزؤوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا آمنا وليسوا بمؤمنين، وذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ١٥] أي حين يقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، وقال أبو أمامة: يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور وهي خدعة الله تعالى التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء: ١٤٢]، وقيل: المراد ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا أي بتحصيل سببه وهو الإيمان أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه، والغرض التهكم والاستهزاء أيضا.
وقيل: أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالظاهر أن وراءكم معمول لارجعوا.
وقيل: لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا فكأنه قيل: ارجعوا ارجعوا كقولهم وراءك أوسع لك أي ارجع تجد مكانا أوسع لك فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي بين الفريقين، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فضرب» مبنيا للفاعل أي فضرب هو أي الله عز وجل بِسُورٍ أي بحاجز، قال ابن زيد: هو الأعراف، وقال غير واحد: حاجز غيره والباء مزيدة لَهُ بابٌ باطِنُهُ أي الباب كما روي عن مقاتل أو السور وهو الجانب الذي يلي مكان المؤمنين أعني الجنة فِيهِ الرَّحْمَةُ الثواب والنعيم الذي لا يكتنه وَظاهِرُهُ الجانب الذي يلي مكان المنافقين أعني النار مِنْ قِبَلِهِ أي من جهته الْعَذابُ وهذا السور قيل: يكون في تلك النشأة وتبدل هذا العالم واختلاف أوضاعه في موضع الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس.
أخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم يعني المكان المعروف عند بيت المقدس فحدث عن أبيه أنه قال، وقد تلا قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ هذا موضع السور عند وادي جهنم، وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
إن السور الذي ذكره الله تعالى في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ هو سور بيت المقدس الشرقي باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ المسجد وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يعني وادي جهنم وما يليه.
وأخرج عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقيل: ما يبكيك؟ فقال: هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه رأى جهنم
ولا يخفى أن هذا ونظائره أمور مبنية على اختلاف العالمين وتغاير النشأتين على وجه لا تصل العقول إلى إدراك كيفيته والوقوف على تفاصيله، فإن صح الخبر لم يسعنا إلا الايمان لعدم خروج الأمر عن دائرة الإمكان، وأبو حيان حكى عمن سمعت وعن كعب الأحبار أنه الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس واستبعده ثم قال: ولعله لا يصح عنهم يُنادُونَهُمْ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب؟ فقيل: ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات أَلَمْ نَكُنْ في الدنيا مَعَكُمْ يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر قالُوا بَلى كنتم معنا كما تقولون وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر وَارْتَبْتُمْ وشككتم في أمور الدين
177
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس الإسلام وقال ابن عباس: فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالشهوات واللذات وَتَرَبَّصْتُمْ بالتوبة وَارْتَبْتُمْ قال محبوب الليثي: شككتم في الله وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ طول الآمال، وقال أبو سنان: قلتم سيغفر لنا حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان قال لكم: إن الله عفو كريم لا يعذبكم.
وعن قتادة كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله تعالى في النار.
وقرأ سماك بن حرب الغرور بالضم، قال ابن جني: وهو كقوله: وغركم بالله تعالى الاغترار، وتقديره على حذف المضاف أي وغركم بالله تعالى سلامة الاغترار (١) ومعناه سلامتكم منه اغتراركم.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيها المنافقون فِدْيَةٌ فداء وهو ما يبذل لحفظ النفس عن النائبة والناصب ليوم الفعل المنفي بلا، وفيه حجة على من منع ذلك، وقرأ أبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو لا تؤخذ التاء الفوقية وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ظاهرا وباطنا فيغاير المخاطبين المنافقين، ثم الظاهر أن المراد بالفدية ما هو من جنس المال ونحوه، وجوز أن يراد بها ما يعم الإيمان والتوبة فتدل الآية على أنه لا يقبل إيمانهم وتوبتهم يوم القيامة وفيه بعد،
وفي الحديث: إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم يا رب فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك
مَأْواكُمُ النَّارُ محل أويكم هِيَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم من باب- تحية بينهم ضرب وجيع- والمراد نفي الناصر على البتات بعد نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها عن العذاب، ونحوه قولهم: أصيب بكذا فاستنصر الجزع، ومنه قوله تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: ٢٩] وقال الكلبي والزجاج والفراء وأبو عبيدة: أي أولى بكم كما في قول لبيد يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها
أي فغدت كلا جانبيها الخلف والإمام تحسب أنه أولى بأن يكون فيه الخوف، قال الزمخشري: وحقيقة مولاكم هي على هذا محراكم ومقمنكم أي المكان الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل: هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل: إنه لكريم فأولى نوع من اسم المكان لوحظ فيه معنى أولى إلا أنه مشتق منه كما أن المئنة ليست مشتقة من إن التحقيقية، وفي التفسير الكبير إن قولهم ذلك بيان لحاصل المعنى وليس بتفسير اللفظ لأنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل منهما في مكان الآخر وكان يجب أن يصح هذا أولى فلان كما يقال: هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير، ثم صرح بأنه أراد بذلك رد استدلال الشريف المرتضى بحديث الغدير من كنت مولاه فعليّ مولاه على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه حيث قال: أحد معاني المولى الاولى.
وحمله في الخبر عليه متعين لأن إرادة غيره يجعل الاخبار عبثا كإرادة الناصر والصاحب وابن العم، أو يجعله كذبا كالمعتق والمعتق ولا يخفى على المنصف أنه إن أراد بكونه معنى لا تفسير ما أشار إليه الزمخشري من التحقيق فهو لا يرد الاستدلال إذ يكفي للمرتضى أن يقول: المولى في الخبر بمعنى المكان الذي يقال فيه أولى إذ يلزم على
(١) هكذا في الأصل فليتنبه. ادارة.
178
غيره العبث أو الكذب وإن أراد أن ذلك معنى لازم لما هو تفسير له كأن يكون تفسيره القائم بمصالحكم ونحوه مما يكون ذلك لازما له ففي رده الاستدلال أيضا تردد، وإن أراد شيئا آخر فنحن لا ندري ما هو- وهو لم يبينه- والحق أنه ولو جعل المولى بمعنى الأولى أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم الاستدلال بالخبر على الإمامة التي تدعيها الإمامية للأمير كرم الله تعالى وجهه لما بين في موضعه، وفي التحفة الاثني عشرية ما فيه كفاية لطالب الحق.
وقال ابن عباس أي مصيركم وتحقيقه على ما قال الإمام: إن المولى بمعنى موضع الولي وهو القرب والمعنى هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه، وأنت تعلم أن الاخبار بذلك بعد الاخبار بأنها مأواهم ليس فيه كثير جدوى على أن وضع اسم المكان للموضع الذي يتصف صاحبه بالمأخذ حال كونه فيه والقرب من النار وصف لأولئك قبل الدخول فيها ولا يحسن وصفهم به بعد الدخول ولو اعتبر مجاز الكون كما لا يخفى، وجوز بعضهم اعتبار كونه اسم مكان من الولي بمعنى القرب لكن على أن المعنى هي مكان قربكم من الله سبحانه ورضوانه على التهكم بهم وقيل: أي متوليكم أن المتصرفة فيكم كتصرفكم فيما أوجبها واقتضاها في الدنيا من المعاصي والتصرف استعارة للإحراق والتعذيب، وقيل: مشاكلة تقديرية وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي النار وهي المخصوص بالذم المحذوف لدلالة السياق أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا اليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه، وما نقل عن الكلبي ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح، وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر والأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت أَلَمْ يَأْنِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه: أَلَمْ يَأْنِ الآية، وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن.
وأخرج عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي في ضحككم آية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ إلخ؟ قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم
، وفي الخبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت، وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث، ويَأْنِ مضارع أنى الأمر أنيا وأناء وإناء بالكسر إذا جاء أناه أي وقته، أي ألم يجىء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز وجل.
وقرأ الحسن وأبو السمال- ألما- بالهمزة، ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفي متوقع.
وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق، وقال أبو العباس: قال قوم: إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو:
هو الملك القرم وابن الهمام فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير
179
الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف، وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى، وقال الطيبي: يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما
روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: تلك السكينة تنزل للقرآن.
وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن وللقرآن
انتهى، ولا يخفى بعد ذلك جدّا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرآن لما يحس مما بعد من نوع تأييد له، وفسر الخشوع للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور، والظاهر أنه اعتبر كون اللام صلة الخشوع، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها، وفي الآية حض على الخشوع، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال: بلى يا رب بلى يا رب، وعن الحسن أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرءون فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق، وروى السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت: ما هذا؟ فقالوا:
كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيا عليه فقلت: ما هي؟ فقيل: قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول:
أما آن للهجران أن يتصرما وللغصن غصن البان أن يتبسما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي كتابا حكى نقش الوشي المنمنما
ثم قال: إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه: أقيلوني فلست بخيركم، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره:
معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر، وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين: إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه، وقرأ غير واحد من السبعة «وما نزّل» بالتشديد، والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس وعباس عنه «نزّل» مبنيا للمفعول مشددا، وعبد الله- أنزل- بهمزة النقل مبنيا للفاعل.
وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ لا نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع.
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهي أيضا، وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه «ولا تكونوا» بالتاء الفوقية على سبيل الالتفات للاعتناء
180
بالتحذير، وفي لا ما تقدم، والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة.
فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم، أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم، وقيل: أمد انتظار القيامة والجزاء، وقيل: أمد انتظار الفتح، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال الغاية والزمان عام من المبدأ والغاية، وقرأ ابن كثير في رواية الأمدّ بتشديد الدال أي الوقت الأطول فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ صلبت فهي كالحجارة، أو أشد قسوة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية، قيل: من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال، وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانوا يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى، وعن عيسى عليه السلام: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز وجل: اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها فهو تمثيل ذكر استطرادا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ التي من جملتها هذه الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كي تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدقين والمتصدقات، وقد قرأ أبيّ كذلك، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن الله عز وجل ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، والقراءة الأولى أنسب بقوله تعالى:
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وقيل: الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصديق، وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى فائدته، وعطف أَقْرَضُوا على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي والزمخشري لأن أل بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى الفعل فكأنه قيل: إن الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين وَأَقْرَضُوا وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة بأجنبي وهو المصدقات، وذلك لا يجوز، وقال صاحب التقريب: هو محمول على المعنى كأنه قيل: إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن أأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل، وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل: إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة، وفيه بعد، ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر، ومن هنا قيل: إنه قريب ولا يبعد تأنيثا وتذكيرا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذي عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى، ومثله ما قيل: هو من باب كل رجل وضيعته أي إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة، أو يقدر خبر أي- إن المصدقين والمصدقات يفلحون- وَأَقْرَضُوا في الوجهين ليس عطفا على الصلة بل مستأنف ويضاف بعد صفة قرضا أو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلا عن كلام رب العالمين، واختار أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل: والذين أقرضوا فيكون مثل قوله
181
فمن يهجر رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله، وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري وأبي علي عليه قال: وأقرب منه أن يقال: إن الْمُصَّدِّقاتِ منصوب على التخصيص كأنه قيل: «إن المصدقين» عاما على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول: إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا.
ووجه التخصيص ما
ورد في قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار»
يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالى أقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل، ثم قال: ولما لم يكن الإقراض غير ذلك التصدق قيل: وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقا لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند الله تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه، ولو قيل: والمقرضين لفاتت هذه النكتة انتهى.
ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر، وأما ما ذكره في نكتة العدول عن المفروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي والزمخشري، وعلى تخريج أبي حيان، وقال الخفاجي: القول- أي قول أبي البقاء- بأن أقرضوا إلخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل، وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة، وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر يُضاعَفُ لَهُمْ الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا، والجار والمجرور نائب الفاعل، وقيل: هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف» بتشديد العين، وقرىء «يضاعف» بالبناء للفاعل أي يضاعف الله عز وجل لهم ثواب ذلك وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قد مر الكلام فيه.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة، والموصول مبتدأ أول، وقوله تعالى:
أُولئِكَ مبتدأ ثان، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا، وقوله سبحانه: هُمُ مبتدأ ثالث، وقوله عز وجل: الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ خبر الثالث، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني، وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ متعلق على ما قيل: بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء.
والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهدا في سبيله شهيدا لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة، وقيل: لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر، وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة، وقيل: غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل، وقوله تعالى لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر. أو لَهُمْ الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير لَهُمْ للموصول، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل:
أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور. وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف، فالإضعاف هو الذي امتاز به
182
الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم، وقال بعضهم: وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣] فعند ربهم متعلق بالشهداء، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة، وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك، ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة.
أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن مؤمني أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده: كلكم صديق وشهيد قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: اقرؤوا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون،
وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء»
وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كما في ذلك يعتدّ به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتدّ بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا، ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم الرجل يخترق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟ قالوا: نخاف لسانه قال: ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء، قال ابن الأثير: أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها، وكذا
بقوله عليه الصلاة والسلام: اللعانون لا يكونون شهداء
بناء على أحد قولين فيه. وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين،
أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله شهيدا وتلا هذه الآية وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ ثم قال هذه فيهم ثم قال:
الفرّارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة»

ويجوز أن يراد من قوله: «هذه فيهم» أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا، ويقال: في
قوله عليه الصلاة والسلام: «مع عيسى في درجته»
المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية.
وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة والزبير وسعد وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى، وقيل: الشهداء مبتدأ وعِنْدَ رَبِّهِمْ خبره، وقيل: الخبر لَهُمْ أَجْرُهُمْ والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى: الصِّدِّيقُونَ، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس والضحاك قالا: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذه مفصولة سماهم صديقين، ثم قال: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.
وروى جماعة عن مسروق ما يوافقه، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل: الشهداء في سبيل الله تعالى.
وحكي ذلك عن مقاتل بن سليمان، وقيل: الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون للأمم عليهم، وحكي ذلك
183
عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء والزجاج، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم، ثم النور على جميع الأوجه على حقيقته وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفة القبيحة أَصْحابُ الْجَحِيمِ بحيث لا يفارقونها أبدا [الحديد: ٢٠- ٢٩] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ بعد ما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني، وأشير إلى من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الاطمئنان بها بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب وَلَهْوٌ تشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه وَزِينَةٌ لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة وَتَفاخُرٌ بالأنساب والعظام البالية وَتَكاثُرٌ بالعدد والعدد، وقرأ السلمي «وتفاخر بينكم» بالإضافة ثم أشير إلى أنها مع ذلك
184
سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال بقوله سبحانه: كَمَثَلِ غَيْثٍ مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي راقهم نَباتُهُ أي النبات الحاصل به، والمراد بالكفار إما الحراث على ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون البذر في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر، وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عز وجل فأعجب بها، ولذا قال أبو نواس في النرجس:
عيون من لجين شاخصات على أطرافها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا ثُمَّ يَهِيجُ يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له، وقيل: أي يجف بعد خضرته ونضارته فَتَراهُ يا من تصح منه الرؤية مُصْفَرًّا بعد ما رأيته ناضرا مونقا، وقرىء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل: إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب عليه رؤيته كذلك، وقيل: للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً هشيما متكسرا من اليبس، ومحل الكاف قيل: النصب على الحالية من الضمير في لَعِبٌ لأنه في معنى الوصف، وقيل: الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل إلخ، ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها، وبعد ما بيّن حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم، وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا وَمَغْفِرَةٌ عظيمة مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ عظيم لا يقادر قدره، وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب «لن يغلب عسر يسرين».
وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها، روي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة مِنْ رَبِّكُمْ والكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقا على آخر وقيل: المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر وقيل: سابقوا إبليس قبل أن يصدقكم بغروره وخداعه عن ذلك وهو كما ترى.
والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: كن أوّل داخل المسجد وآخر خارج،
وقال عبد الله: كونوا في أول صف القتال، وقال أنس: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل، واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي كعرضهما جميعا لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا كان العرض وهو أقصر الامتدادين موصوفا بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالاقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه، وقيل: المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الابعاد وتقدم قول آخر في تفسير نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية.
185
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي هيئت لهم، واستدل بذلك عن أن الجنة موجودة الآن لقوله تعالى:
أُعِدَّتْ بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر، وقد صرح بخلافه في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام، وعلى أن الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدّى بالباء غير مسلم كذا قالوا، ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة في الايمان يعتد بها، وقيل: بأنها لا تحصل بدون الأعمال الصالحة على ما سمعته منا قريبا انخدش الاستدلال الثاني في الجملة كما لا يخفى، وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا- بسابقوا- وفي آية آل عمران- بسارعوا- وبالسماء هنا، والسماوات هناك- وبكعرض- هنا- وبعرض- بدون أداة تشبيه ثمّ كلاما مبنيا على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون، وبالذين آمنوا هنا من هم دون أولئك حالا فتأمل ذلِكَ أي الذي وعد من المغفرة والجنة فَضْلُ اللَّهِ عطاؤه الغير الواجب عليه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فلا يبعد منه عز وجل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره، فالجملة تذييل لإثبات ما ذيل بها.
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي نائبة أيّ نائبة وأصلها في الرمية وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها.
وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر، ومِنْ مزيدة للتأكيد، وأصاب جاء في الشر كما هنا، وفي الخير كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ [النساء: ٧٣] وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصوب أي بالمطر وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم، وكلاهما يرجعان إلى أصل وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه، وعليه قوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر: ٥، المؤمنون: ٤٣] والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أيّ مصيبة فِي الْأَرْضِ كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض وآفة كالجرح والكسر إِلَّا فِي كِتابٍ أي إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ، وقيل: في علم الله عز وجل.
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي نخلقها، والضمير على ما روي عن ابن عباس وقتادة والحسن وجماعة: للأنفس، وقيل: للأرض، واستظهر أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها، وذكر الأرض والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها، وذكر المهدوي جواز عوده على جميع ما ذكر، وقال جماعة: يعود على المخلوقات وإن لم يجر لها ذكر، وقيل: المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له وأيا ما كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة على الموضع أو على اللفظ، وجوز أن يكون ظرفا لأصاب أو للمصيبة، قيل: وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية، واللوح متناه وهو لا يكون ظرفا لغير المتناهي ولذا
جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة»
وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب في أهلها لا يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت، وما ذكره في وجه التخصيص الأول لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه، وقيل: بأن كتابة الحوادث فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناء على ما يقولون: إنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماء الملوك ومددهم وما يقع منهم ولو قيل في وجهه- إن الأوفق بما تقدم من شرح حال الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر- لكان تاما مطلقا إِنَّ ذلِكَ أي إثباتها في كتاب عَلَى اللَّهِ لا غيره سبحانه يَسِيرٌ لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة، وإن
186
أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عز وجل، وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وفي الإكليل إن فيها ردا على القدرية، وجاء ذلك في خبر مرفوع،
أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسدّه شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب من مصيبة» الآية.
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا:
«إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فقالت:
والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار
، ثم قرأت ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ الآية لِكَيْلا تَأْسَوْا أي أخرناكم بذلك لئلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتس ما قدّر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت، وعلم كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في النظم الكريم اكتفاء كما توهم، نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى وترك التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأول إلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عز وجل كما حقق في موضعه. وعليه قول الشاعر:
فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى وعرج على الباقي وسائله لم بقي
ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله- أوتيتم- مبنيا للمفعول أي أعطيتم وقرأ أبو عمرو- أتاكم- من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل، والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغى الملهى عن الشكر، وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما.
أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال في الآية: ليس أحد إلا هو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال والجاه.
وذكر بعضهم أن الاختيال في الفعل والفخر فيه وفي غيره، والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز وجل وأولا بالإثابة والتعذيب، ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه، ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله: إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن، نعم إن هذا الحكم أكثري لا كلي، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يدل من كُلَّ مُخْتالٍ بدل لك من كل فإن المختال بالمال يضن به غالبا ويأمر غيره بذلك، والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة، وقيل: كانوا قدوة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين إلخ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الإنفاق الغني عنه الله عز وجل، ويدل عليه قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله
187
سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله، وقيل: تقديره مستغنى عنهم، أو موعودون بالعذاب أو مذمومون.
وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت- لكل مختال- فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء، وقال ابن عطية: جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الإشعار بالتهديد لمن تولى، وقرأ نافع وابن عامر- فإن الله الغني- بإسقاط- هو- وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل، قال أبو علي: ولا يحسن أن يكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي من بني آدم كما هو الظاهر بِالْبَيِّناتِ أي الحجج والمعجزات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي جنس الكتاب الشامل للكل، والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان، وقيل: مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة المقارنة وَالْمِيزانَ الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره، وإنزاله إنزال أسبابه، ولو بعيدة، وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته.
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ علة لا نزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشا ومعادا.
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ قال الحسن: أي خلقناه كقوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: ٦] وهو تفسير يلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه.
وقال قطرب: هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف فِيهِ بَأْسٌ أي عذاب شَدِيدٌ لأن آلات الحرب تتخذ منه، وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس، وقوله تعالى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش، ومن يوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع، وليتم القيام بالقسط، كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده، والجملة الظرفية في موضع الحال، وقوله سبحانه: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله تعالى علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم إلخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقة مقامه، وقوله تعالى: بِالْغَيْبِ حال من فاعل ينصر، أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه، وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ اعتراض تذييلي جيء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد.
هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام، وفسر- البينات- كما فسرنا بناء على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر، وإنزال الميزان بمعنى الآلة
188
عنده على حقيقته، قال:
روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: مر قومك يزنوا به
. وفسره كثير بالعدل، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان، وروي أنه نزل ومعه المرّ والمسحاة، وقيل: نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة، وفسرت بالمسن، وتجيء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها، وقيل: ما تحدّ به الرحى، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع، وقيل: سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم.
واستظهر أبو حيان كون- ليقوم الناس بالقسط- علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى، وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم.
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب، وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، وفي مصحف عبد الله- والنبية- مكتوبة بالياء عوض الواو فَمِنْهُمْ أي من الذرية وقيل: أي من المرسل إليهم المدلول عليه بذكر الإرسال والمرسلين مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم، ولم يقل- ومنهم- ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه، وعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول وأصل التقفية جعل الشيء خلف القفا، وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومها. وقيل: لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام.
واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحا فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه، وقيل: للذرية، وفيه أن الرسل المقفي بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفي والمقفي به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ جعلناه بعد.
وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ بأن أوحينا إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة: وقرأ الحسن «الإنجيل» بفتح الهمزة، وقال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، قال الزمخشري: وأمره أهون من من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولّد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً أي خلقنا أو صيرنا- ففي قلوب- في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا، ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ٢٩] والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرىء رافة على فعالة كشجاعة وَرَهْبانِيَّةً منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية.
ابْتَدَعُوها فهو من باب الاشتغال، واعترض بأنه يشترط فيه- كما قال ابن الشجري وأبو حيان- أن يكون
189
الاسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء، ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم: شر أهر ذا ناب.
ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قبل، وجملة ابْتَدَعُوها في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم، وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف، وقال: الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي، وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد، والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناء على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره، وفائدة فِي قُلُوبِ على هذا التصوير على ما قيل، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا التأويل أو اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا، ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، ويراد في ابْتَدَعُوها وما بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل.
وقرىء «رهبانيّة» بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب: يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال: إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطى حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال، وقوله تعالى: ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة، وقوله سبحانه: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى، وقوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز وجل.
واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه، وجوز أن يكون قوله تعالى: ما كَتَبْناها إلخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول، وقوله سبحانه: إِلَّا ابْتِغاءَ إلخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروي عن قتادة وجماعة، وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين ابْتَدَعُوها وما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلخ حيث إن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ إلخ، ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال: الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤول ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أو لا ما
أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليه فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم»
يعني الآية، والظاهر أن ضمير فما رعوها
190
لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في- بنو تميم قتلوا زيدا- والقاتل بعضهم.
وقال الضحاك وغيره: الضمير في فَما رَعَوْها للاخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة، والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الايمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم أَجْرَهُمْ أي ما يختص به من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر، ويجوز أن يقال: إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام، قال الزجاج: قوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها على ضربين: أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية، ودليل ذلك قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ إلخ انتهى، فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله تعالى عليه وسلم، والفاسقين في قوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ على الذين لم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم مقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام.
ومن الآثار ما يأباه
ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود «اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الذين آمنوا بي وصدقوني وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الذي جحدوا بي وكفروا بي»
وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج، ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقا، والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة (١) فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الاطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «كل بدعة ضلالة»
من العام المخصوص.
(١) هذا التقسيم لا يصح أن يكور للبدع بالمعنى الشرعي إذا ما ذكره دل عليه الكتاب والسنة وإنما يصح للبدع بالمعنى اللغوي وقد أشبع الكلام على ذلك الاعتصام فراجعه اه إدارة الطباعة النيرية.
191
وقال صاحب جامع الأصول: الابتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار تؤيد ذلك،
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا: إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا: يا رسول الله إنّا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله سبحانه: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص: ٥٢- ٥٤] فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية أي أي رادا عليهم قولهم: ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم.
وفي الكشاف إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين، والمعنى يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان اتَّقُوا اللَّهَ اثبتوا على تقواه عز وجل فيما نهاكم عنه.
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ وأثبتوا على الإيمان برسوله الذي أرسله إليكم وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة والسلام يُؤْتِكُمْ بسبب ذلك.
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال أبو موسى الأشعري: ضعفين بلسان الحبشة، وقال غير واحد: نصيبين، والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم أجمعين لا تفرقوا بين أحد من رسله.
وقال الراغب: الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره، والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: ٢٠١] ولا دلالة على التخصيص.
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يوم القيامة وهو النور المذكور في قوله تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: ١٢] وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما سلف منكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي مبالغ في المغفرة والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل، وقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قيل:
متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا إلخ، وقيل: متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع، أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و (لا) مزيدة مثلها في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] ويجوز زيادتها مع القرينة كثيرا و (أن) مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي إنهم، وقيل: ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام فقولهم: من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص:
192
٥٤] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب، وقال الثعلبي: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ إلخ، وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزوره عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم، وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم، وقوله سبحانه: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل: حال لازمة أو استئناف، وقوله عز وجل: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله.
وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن لم يؤمن منهم بعد: فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أي اثبتوا على الإيمان به أو أحدثوا الايمان به عليه الصلاة والسلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيبا على إيمانكم بمن آمنتم به أولا ونصيبا على إيمانكم بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم آخرا ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله صلّى الله عليه وسلم. وأيد ذلك بما
في صحيح البخاري «من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وأيما مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران»
ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى، ولذا قيل: الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قبل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليه الإيمان بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضا فكان لهم ثوابان، نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به، ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابوا على العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام.
وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فإن الإيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا، وقيل: إن (لا) في لِئَلَّا يَعْلَمَ غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه، أو أنهم أي النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون لا يقدرون إلخ، على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه: وَأَنَّ الْفَضْلَ إلخ معطوفا على- أن لا يعلم- داخلا معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل: فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من عطف الغاية على الغاية بناء على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين، وقرأ خطاب بن عبد الله- لأن لا يعلم- بالإظهار، وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة على اختلاف ليعلم، وقرأ الجحدري أيضا- ولييعلم- على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة، وروى ابن مجاهد عن الحسن- ليلا- مثل ليلى اسم المرأة «يعلم» بالرفع، ووجه بأن أصله- لأن لا- بفتح لام الجر وهي لغة عليه قوله:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
فحذفت الهمزة اعتباطا وأدغمت النون في اللام فصار- للا- فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام
193
المدغمة ياء نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث إن الأصل قراط ودنار فأبدوا أحد المثلين فيهما ياء للتخفيف فصار- ليلا- ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، وروى قطرب عن الحسن أيضا- ليلا- بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر وعن ابن عباس كي يعلم، وعنه أيضا لكيلا يعلم، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة لكي يعلم.
وقرأ عبد الله أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع، والله تعالى أعلم.
ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قالوا: هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل، وقالوا في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز وجل، وقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات.
وقال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الاشتغال بمداواة القلب الميت فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات- ويرجع ما قالوه فيها- على ما قيل- إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أي نصيبين نصيبا من معارف الصفات الفعلية ونصيبا من معارف الصفات الذاتية وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً من نور ذاته عز وجل وهو على ما قيل: إشارة إلى البقاء بعد الفناء، وقيل: هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: هو نور العلم النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز وجل:
تَمْشُونَ بِهِ
وفي بعض الآثار «من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم يعلم»
وقال سبحانه: اتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وكل ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عز وجل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم.
تم بعونه تعالى وتوفيقه الجزء السابع والعشرون، ويليه الجزء الثامن والعشرون أوله سورة المجادلة
194
روح المعاني الجزء الثامن والعشرون
195
Icon