تفسير سورة الحديد

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سورة الحديد
مدنية، وقيل: مكية، وآيها: تسع وعشرون آية، وحروفها: ألفان وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلمها: خمس مئة وأربع وأربعون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)﴾.
[١] ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ التسبيح هنا: هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله، وهو إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام، وأن التسبيح مما ذكر دائم مستمر، وهو تسبيح حقيقة، وجاء في فاتحة هذه السورة، وفي الحشر، والصف على لفظ الماضي، وفي الجمعة والتغابن على لفظ المضارع، وذلك إشارة إلى أن تسبيح هذه الأشياء غير مختص بوقت دون وقت، بل كانت مسبحة أبدًا في الماضي، وستكون مسبحة أبدًا في المستقبل.
﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من جميع المخلوقات.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ بقدرته وسلطانه ﴿الْحَكِيمُ﴾ بلطفه وتدبيره.
***
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢)﴾.
[٢] ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: سلطانها الحقيقي الدائم؛ لأن ملك البشر مجاز ﴿يُحْيِي﴾ الموتى للبعث ﴿وَيُمِيتُ﴾ الأحياء ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تام القدرة.
...
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)﴾.
[٣] ﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾ السابق للأشياء قبل وجودها الذي ليس لوجوده بداية مفتتحه.
﴿وَالْآخِرُ﴾ الدائم الباقي بعد فناء الأشياء الذي ليس له نهاية منقضية.
﴿وَالظَّاهِرُ﴾ الغالب العالي على كل شيء.
﴿وَالْبَاطِنُ﴾ بلطفه وغوامض حكمته وباهي صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ يستوي عنده الظاهر والخفي.
...
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)﴾.
[٤] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ تقدم القول فيها في سورة (فصلت)، قال بعض المفسرين: الأيام الستة من أيام القيامة، وقال الجمهور: بل من أيام الدنيا، قال ابن عطية: وهو الأصوب (١).
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٢٥٧).
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواءً يليق بعظمته، وتقدم الكلام فيه في سورة (طه)، وفي (الأعراف) أيضًا.
﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ من المطر والأموات وغير ذلك ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ كالزرع ونحوه.
﴿وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ من الملائكة، والرحمة، والعذاب، وغير ذلك.
﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ من الأعمال صالحها وسيئها.
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ بعلمه وقدرته وإحاطته.
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكم عليه.
...
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥)﴾.
[٥] ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يتصرف فيه كما أراد.
﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ خبر يعم الموجودات. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (١).
...
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦)﴾.
[٦] ﴿يُولِجُ﴾ يُدخل ﴿اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ فيه تنبيه على
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٧٩).
العبرة فيما يتجاذبه الليل والنهار من الطول والقصر، وذلك متشعب (١)
مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة، وذلك بحر من بحار الفكرة لمن تأمله.
﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: بما فيها من الأسرار والمعتقدات، وذلك أغمض ما يكون.
...
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)﴾.
[٧] ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أمرٌ للمؤمنين بالثبوت على الإيمان.
﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ من أموال متقدميكم، وفيه تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير للإنسان من غيره، ويتركها لغيره، روي أنها نزلت في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك، والإشارة بقوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ إلى عثمان -رضي الله عنه-، وحكمها باق يندب إلى هذه الأفعال بقية الدهر.
...
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)﴾.
[٨] وقوله (٢): ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ ١)
(١) "متشعب" زيادة من "ت".
(٢) "وقوله" زيادة من "ت".
توطئة لدعائهم، وإيجاب لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة، فإذا تقرر ذلك، فلا مانع من الإيمان، وهذا كما تريد أن تندب رجلًا إلى عطاء، فتقول له: أنت يا فلان من قوم أجواد، فينبغي أن تكرم، وهذا مطرد في جميع الأمور إذا أردت من أحد فعلًا خَلَّقته بخلق أهل ذلك الفعل، وجعلت له رتبتهم، فإذا تقرر في هؤلاء أن الرسول يدعوهم، وأنهم ممن أخذ ميثاقهم، فكيف يمتنعون من الإيمان.
﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ بالإيمان حين الإخراج من ظهر آدم على ما مضى في سورة الأعراف. قرأ أبو عمرو: (أُخِذَ) بضم الهمزة وكسر الخاء مجهولًا، (مِيثَاقُكمُ) بالرفع فاعل، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة والخاء، ونصب (مِيثَاقَكُمْ) مفعولًا (١)، والآخذ على كلِّ قول هو الله تعالى.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: إن دمتم على ما بدأتم به.
...
﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٩)﴾.
[٩] ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد - ﷺ -. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (يُنْزِلُ) بإسكان النون وتخفيف الزاي، والباقون: بفتح النون وتشديد الزاي (٢) ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ يعني: القرآن.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٢٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٧٩).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٠).
﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾ الله بالقرآن (١) ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ الكفر ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الإيمان.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ حيث نبَّهكم بالرسل والآيات. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: (لَرَؤُوفٌ) بالإشباع على وزن فَعول، والباقون: على وزن فَعُل (٢)، والرأفة: أشد الرحمة.
...
﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وأنتم تموتون وتتركون أموالكم ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فيه زيادة تذكير بالله وعبرة، ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله والجهاد فقال: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقوا نفقات كثيرة حتى قال ناس: هؤلاء أعظم أجرًا من كل من أنفق قديمًا، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظمُ أجرًا، والمراد: فتح مكة الذي أزال الهجرة، وهذا هو المشهور الذي قال فيه رسول الله - ﷺ -: "لا هجرةَ بعدَ الفتح، ولكن
(١) "الله بالقرآن" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٦٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٠).
جهادٌ ونية" (١)، وروي أنها نزلت في أبي بكر -رضي الله عنه- ونفقاته (٢).
﴿أُولَئِكَ﴾ المنفقون قبل الفتح ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ أي: من بعد الفتح.
﴿وَكُلًّا﴾ من الفريقين ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ المثوبةَ ﴿الْحُسْنَى﴾ وهي الجنة.
قرأ ابن عامر: (وَكُلٌّ) بالرفع مبتدأ، خبره (وَعَدَ)، وكذلك هو في المصاحف الشامية وقرأ الباقون: بالنصب، وكذلك هو في مصاحفهم (٣)، وهي الوجه؛ لأن وعد ليس يعوقه عائق عن أن ينصب المفعول المتقدم (٤).
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ يعلم ظاهره وباطنه فيجازيكم عليه.
...
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)﴾.
[١١] ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ من ذا الذي ينفق في سبيل الله رجاء أن يعوضه؟ والقرض الحسن: الإعطاء لله.
﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ فيعطيه أجره أضعافًا مضاعفة. قرأ عاصم. (فَيُضَاعِفَهُ) بإثبات الألف بعد الضاد مخففًا ونصب الفاء، وقرأ ابن عامر، ويعقوب:
(١) رواه البخاري (٢٦٣١)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد والسير، ومسلم (١٣٥٣)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٣)، و"تفسير القرطبي" (١٧/ ٢٤٠).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٢٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٠ - ٨١).
(٤) في "ت": "المقدم".
بحذف الألف وتشديد العين ونصب الفاء، وقرأ ابن كثير، وأبو جعفر: بحذف الألف وتشديد العين ورفع الفاء، وقرأ الباقون: بإثبات الألف مخففًا ورفع الفاء (١)، فالقراءة بالنصب جواب الاستفهام؛ كأنه قال: أيقرض الله أحد فيضاعفه له؟ وبالرفع؛ أي: فهو يضاعفه.
﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ هو الذي يقترن به رضا وإقبال.
...
﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ العامل في (يَوْمَ) قوله: (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)، والرؤية في هذه الآية رؤية عين.
﴿يَسْعَى نُورُهُمْ﴾ وهو نور حقيقة؛ لأن كل مؤمن يُعطى يوم القيامة نورًا، فيطفأ نور كل منافق، ويبقى نور المؤمنين.
﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ وخص بين الأيدي بالذكر؛ لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور.
﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ أي: وعن أيمانهم، خص ذكر جهة اليمين تشريفًا، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاتهم، وقيل: وبأيمانهم: كتبهم بالرحمة، وتقول لهم الملائكة:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٢٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٨١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨١ - ٨٢).
﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ﴾ أي: دخولُ جنات.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ مخاطبة لمحمد - ﷺ -.
﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾.
[١٣] وتبدل من ﴿يَوْمَ تَرَى﴾ ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ قرأ حمزة: (أَنْظِرُونَا) بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الظاء؛ بمعنى: أمهلونا، وقرأ الباقون: بوصل الهمزة وضم الظاء (١)؛ أي: انتظرونا نستضئ من نوركم، وابتداؤها لهم بضم الهمزة.
﴿قِيلَ﴾ أي: فيقول لهم المؤمنون: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ﴾ طردًا لهم وتهكمًا.
﴿فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ فاطلبوا لأنفسكم نورًا؛ فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا، فيرجعون، فلا يجدون شيئًا، فينصرفون إليهم ليلقوهم.
﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ﴾ أي: حائل بين الجنة والنار، وقيل: هو الأعراف ﴿لَهُ﴾ أي: ولذلك السور ﴿بَابٌ بَاطِنُهُ﴾ أي: داخل الباب من جهة المؤمنين
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٢٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٣).
﴿فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ الجنة ﴿وَظَاهِرُهُ﴾ خارجه ﴿مِنْ قِبَلِهِ﴾ أي: من جهة شقه الخارج نحو الكفار ﴿الْعَذَابُ﴾ وهو النار.
وقال عبد الله بن عمر، وكعب الأحبار، وعبادة بن الصامت، وابن عباس: هو سور بيت المقدس الشرقي، وفيه باب يسمى باب (١) الرحمة، باطنه فيه المسجد الأقصى، وظاهره من جهة المشرق واد يقال له: وادي جهنم (٢).
قال ابن عطية: وهذا القول في السور بعيد (٣)، والله أعلم.
...
﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿يُنَادُونَهُمْ﴾ أي: ينادي المنافقون المؤمنين ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ في الدنيا؟
﴿قَالُوا﴾: يعني المؤمنين ردًّا عليهم:
﴿بَلَى﴾ كنتم معنا ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ محنتموها بالنفاق.
﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ بالمؤمنين الدوائر ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ شككتم في أمر الله
(١) "يسمى باب" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٢٣/ ١٨٣)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٥).
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ٢٦٢).
﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ الكاذبة بطول الأمل. قرأ أبو جعفر: (الأَمَانِي) بإسكان الياء، والباقون: برفعها مشددًا (١).
﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ الموتُ، ودخولُ النار. واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَمْرُ اللهِ) كاختلافهم فيهما من (وَيُمْسِك السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ) في سورة الحج [الآية: ٦٥].
﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ أي: غركم الشيطان بأن الله لا يعذبكم.
...
﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ بدل؛ بأن تنقذوا (٢) أنفسكم من العذاب. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (تُؤْخَذُ) بالتاء على التأنيث، والباقون: بالياء على التذكير (٣)؛ لأن الفداء بمعنى الفدية.
﴿وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم (٤) المشركون، والخطاب الأول للمنافقين.
﴿مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ﴾ أي: أولى بكم ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ النارُ.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٤).
(٢) في "ت": "تفدوا".
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٦ - ٣٢٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٨٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٤ - ٨٦).
(٤) "وهم" ساقطة من "ت".
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ونزل عتابًا للمؤمنين: ﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾ أي: يَحِنْ؛ من أنى يأني: إذا جاء إناه؛ أي: وقتُه.
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ تعالى إذا ذكر، وتلين وتخضع؟ قال ابن عباس: "إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاثَ عشرةَ سنة من نزول القرآن" (١) ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ وهو القرآن.
قرأ نافع، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (نَزَلَ) بتخفيف الزاي، والباقون: بالتشديد (٢).
﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل القرآن، وهم اليهود والنصارى. قراءة العامة: (وَلاَ يَكُونُوا) بالغيب عطفًا على (تَخْشَعَ)، وقرأ رويس عن يعقوب: بالخطاب (٣) التفاتًا أو نهيًا للمؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب فيما حُكي عنهم.
﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ أي: الزمانُ بطول أعمارهم ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ بميلهم
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٦ - ٣٢٧)، و"تفسير القرطبي" (١٧/ ٢٤٩).
(٢) المصادر السابقة.
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٨٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٦).
إلى الدنيا، وإعراضهم عن مواعظه تعالى ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ خارجون عن الطاعة.
...
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ هذا ضرب مثل، واستدعاء إلى الخير؛ أي: لا يبعد عنكم أيها التاركون للخشوع رجوعُكم إليه؛ فإن الله يحيي الأرض بعد موتها، فكذلك يفعل بالقلوب، يردها إلى الخشوع، وترجع هي إليه بعد نفورها منه؛ كما تحيا الأرض بعد أن كانت غبراء.
﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ كي يكمل عقلكم.
...
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: بتخفيف الصاد فيهما؛ من التصديق بالإسلام، وقرأ الباقون: بتشديدها منهما (١)؛ من التصدُّق، وأصلُه: المتصدقين والمتصدقات، أدغمت التاء في الصاد.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٢٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٧).
﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ هو الصدقة بطيب نفس، وصحة نية على مستحقيها (١).
﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ﴾ القرض. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (يُضَعَّفُ) بتشديد العين وحذف الألف قبلها، وقرأ الباقون: بإثبات الألف والتخفيف (٢).
﴿وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ تقدم تفسيره في هذه السورة.
...
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ والصدِّيق: الكثيرُ الصدق، وهم ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب، ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته، وتم الكلام عند قوله: (هُمُ الصِّدِّيقُونَ)، ثم ابتدأ فقال:
﴿وَالشُّهَدَاءُ﴾ مبتدأ، ظرفه ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ خبره ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ أي: أجر ما عملوا من العمل الصالح ﴿وَنُورُهُمْ﴾ على الصراط، وهم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم.
(١) في "ت": "مستحقها".
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٧).
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار؛ لأن الصحبة تدل على الملازمة.
...
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (٢٠)﴾.
[٢٠] ولما ذكر حال الفريقين في الآخرة، حقَّر أمر الدنيا، فقال: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي: إن الحياة الدنيا، و (ما) صلة؛ أي: الحياة في هذه الدار.
﴿لَعِبٌ﴾ باطل ﴿وَلَهْوٌ﴾ فرح، ثم ينقضي ﴿وَزِينَةٌ﴾ منظر يتزينون به ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ يفخر به بعضكم على بعض.
﴿وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ فازهدوا فيها، فما مثلها إلا.
﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ﴾ أي: الزراع؛ لأنهم إذا ألقوا البذر في الأرض، كفروه؛ أي: غطَّوه ﴿نَبَاتُهُ﴾ الهاء للغيث؛ أي: أعجب الكفارَ ما نبت بالمطر.
﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ ييبس ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ بعد خضرته.
﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ فتاتًا ويفنى.
﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ للكافرين ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ للمؤمنين.
قرأ أبو بكر عن عاصم: (وَرُضْوَانٌ) بضم الراء، والباقون: بكسرها (١).
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ لمن ركن إليها، ولم يشتغل بطلب الآخرة.
...
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿سَابِقُوا﴾ سارِعوا ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ﴾ أي: السموات ﴿وَالْأَرْضِ﴾ لو وصل بعضها ببعض، ولم يذكر الطول؛ لأن عرض كل ذي عرض أقلُّ من طوله.
﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ قوله (أُعِدَّتْ) دليل على أنها مخلوقة الآن معدة.
﴿ذَلِكَ﴾ الموعود ﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ من غير إيجاب.
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فلا يبعد منه التفضل بذلك، والمراد منه: التنبيه لأعظم (٢) حال الجنة، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه، وأثنى بسببه على نفسه، فإنه لابد أن يكون ذلك العطاء عظيمًا.
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٨).
(٢) في "ت": "على عظم".
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ أي: ما حدث من حادث.
﴿فِي الْأَرْضِ﴾ من قحط ونقص في النبات والثمار ﴿وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ كمرض وفقد ولد.
﴿إِلَّا﴾ مكتوبة ﴿فِي كِتَابٍ﴾ وهو اللوح المحفوظ.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ أي: نخلقها؛ يعني: المصيبةَ والأرضَ والأنفسَ.
﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ يعني: تحصيل الأشياء كلها في كتاب.
...
﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ معناه: فعل الله هذا كله، وأعلمكم به، ليكون سبب تسليمكم وقلة اكتراثكم بأمر الدنيا، فلا تحزنوا على فائت ﴿وَلَا تَفْرَحُوا﴾ الفرحَ المبطِرَ ﴿بِمَا آتَاكُمْ﴾ منها. قرأ أبو عمرو: (أَتَاكُمْ) بقصر الهمزة؛ لقوله: (فَاتَكُمْ)، فجعل الفعل له، وقرأ الباقون: بالمد (١)، أي: أعطاكم الله.
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ متكبر بما أوتي من الدنيا ﴿فَخُورٍ﴾ به على الناس، فيه دليل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٢٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٨ - ٨٩).
والفخر، وأما الفرح بنعم الله، المقترنُ بالشكر والتواضع، فأمر لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه، ولا حرج فيه.
...
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بأموالهم وأفعالهم الحسنة من إيمانهم وغير ذلك، قيل: هو في محل الخفض على نعت المختال، وقيل: هو رفع بالابتداء، وخبره فيما بعده ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ وهذا غاية الذم أن يبخل الإنسان، ويأمر غيره بالبخل. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (بِالْبَخَلِ) بفتح الباء والخاء، والباقون: بضم الباء وإسكان الخاء (١).
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ عما يجب عليه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ عن خلقه ﴿الْحَمِيدُ﴾ المحمود في ذاته. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (فَإِنَّ اللهَ الْغَنِيُّ) بغير (هو)، وكذا هو في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون بزيادة (هو)، وكذلك هو في مصاحفهم (٢).
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٩).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٢٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٨٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٨٩ - ٩٠).
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ الملائكةَ إلى الأنبياء. قرأ أبو عمرو: (رُسْلَنَا) (بِرُسْلِنَا) بإسكان السين فيهما، والباقون: بضمها (١) ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج القواطع.
﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ الوحي ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ العدلَ.
﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ ليتعاملوا بينهم بالعدل.
﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ أخرجنا ﴿الْحَدِيدَ﴾ من المعادن؛ لأن العدل إنما يكون بالسياسة، والسياسة مفتقرة إلى العدة، والعدة مفتقرة إلى الحديد.
﴿فِيهِ بَأْسٌ﴾ قتال ﴿شَدِيدٌ﴾ لأنه يقاتل به ويمتنع ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فيما يحتاجون إليه.
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ أي: يعلمه موجودًا، فالتغيير ليس في علم الله، بل في هذا الحادث الذي خرج من العدم إلى الوجود ﴿مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ أي: دينَه بآلات الحرب في مجاهدة الكفار ﴿وَرُسُلَهُ﴾ أي: وينصر رسله ﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي: بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه، فآمن بها؛ لقيام الأدلة عليها، قال ابن عباس: "يَنصرونه ولا يُبصرونه" (٢).
﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ﴾ في أمره ﴿عَزِيزٌ﴾ في ملكه.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٩٠).
(٢) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٤/ ٤٧٨).
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ﴾ ذكر رسالتهما، تشريفًا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل، ثم ذكر نعمه على ذريتهما، فقال ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ يعني: الكتب الأربعة؛ فإنها جميعًا في ذرية إبراهيم عليه السلام. قرأ هشام (أَبْرَاهَاَم) بالألف، والباقون: بالياء، وقرأ نافع (النُّبُوءَةَ) بالمد والهمز، والباقون: بتشديد الواو بغير همز.
﴿فَمِنْهُمْ﴾ فمن الذرية ﴿مُهْتَدٍ﴾ روي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء على (مُهْتَدِي) ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ خارجون عن الطاعة.
...
﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا﴾ أَتْبعنا وأَرْدفنا؛ مأخوذ من القفا؛ أي: جاء بالثاني في قفا الأول ﴿عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ وكان آخر نبي من بني إسرائيل، وأول أنبيائهم موسى عليه السلام.
﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً﴾ وهي أشد الرحمة، وكانوا متوادِّين بعضهم لبعض؛ كما قال تعالى في وصف أصحاب النبي - ﷺ -: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩]. قرأ قنبل بخلاف عنه: (رَآفَةً) بالمد
546
مثل: رَعافة ﴿وَرَحْمَةً﴾ والرحمة في القلب لا تَكَسُّبَ للإنسان فيها.
﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ هو ترهبهم في الجبال والصوامع، ورفض النساء، والرهبان: الخائف؛ مأخوذ من الرهب، وهو الخوف، (ورَهْبَانِيَّهً) عطف على (وَرَحْمَةً).
﴿ابْتَدَعُوهَا﴾ نعت؛ أي: جعلنا عليهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة، والمعتزلة تعرب (ورَهْبَانِيَّهً) أنها نصب بإضمار فعل يفسره (ابْتَدَعُوهَا)، وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة، ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله، فيعربون الآية على مذهبهم، ابتدعوها من قبل أنفسهم، روي أنهم افترقوا ثلاث فرق: ففرقةٌ قاتلت الملوك على الدين فقتلت وقتلت، وفرقةٌ قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل، فأخذَتْها الملوك فنشرتها بالمناشير، وقتلوا، وفرقةٌ خرجت إلى الفيافي، وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل، فتركت، ولذلك تسمت بالرهبان، فهذا هو ابتداعهم.
﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: لم نفرض الرهبانية عليهم ﴿إِلَّا﴾ استثناء منقطع؛ أي: لكنهم ابتدعوها.
﴿ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ وهو امتثال أمره تعالى، واجتناب نهيه. وتقدم مذهب أبي بكر في ضم الراء من (رُضْوَانِ).
﴿فَمَا رَعَوْهَا﴾ ما حفظ الرهبانية هؤلاء المعتدون ﴿حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ لأنهم قصروا فيما ألزموا أنفسهم من الرهبانية، ورجعوا عنها، ودخلوا في دين ملوكهم، ولم يبق على دين النصرانية إلا اليسير، فآمنوا بمحمد - ﷺ -
547
قال - ﷺ -: "مَنْ آمنَ بي وصدَّقني، فقد رعاها حقَّ رعايتها، ومن لم يؤمنْ بي، فأولئك هم الهالكون" (١).
﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمد - ﷺ - ﴿مِنْهُمْ﴾ أي: من العيسيين.
﴿أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ من العيسيين التاركي الرهبانية الكافرون بمحمد وعيسى عليهما السلام ﴿فَاسِقُونَ﴾ خارجون عن حال (٢) الاتباع.
وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل، وأنه يلزمه أن يرعاه حق رعايته، واختلف الأئمة فيما إذا أنشأ صومًا أو صلاة تطوعًا، فقال أبو حنيفة: لم يجز له الخروج منه، فإن أفسده، فعليه القضاء؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٣]، وقال مالك كذلك، إلا أنه اعتبر العذر، فقال: إن خرج منه لعذر، فلا قضاء، وإلا، وجب، وقال الشافعي وأحمد: متى أنشأ وحدًا منهما، استحب إتمامه، فإن خرج منه، لم يجب عليه قضاء على الإطلاق، وأما إذا كان التطوع حجًّا أو عمرة، فيلزم إتمامه، فإن أفسده، وجب قضاؤه بالاتفاق؛ لوجوب المعنى في فاسده.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بموسى وعيسى ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾
(١) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٠٥٣١)، وفي "المعجم الصغير" (٦٢٤)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٤/ ١٧٧)، من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١/ ١٦٣): فيه عقيل بن الجعد، قال البخاري: منكر الحديث.
(٢) "حال" زيادة من "ت".
محمد - ﷺ - ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ حظين ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ بالإيمان بالكتابين.
﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ على الصراط ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
...
﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ أي: ليعلم (١) ﴿أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ و (لا) صلة. قرأ ورش عن نافع، وأبو جعفر بخلاف عنه: (لِيَلَّا) بإبدال الهمزة ياء مفتوحة، والباقون: بالهمز، والمراد: أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا.
﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ﴾ أي: لا ينالون شيئًا ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾.
روي أنه لما نزل هذا الوعد للمؤمنين، حسدهم أهل الكتاب على ذلك، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها، وتزعم أنها أحباء الله، وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله فعل ذلك، وأعلم به؛ ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون (٢).
﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ في تصرفه وملكه ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ لا اعتراض عليه؛ فإنه قادر مختار، يفعل بحسب الاختيار.
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، والعظيم (٣) لا بد أن يكون إحسانه
(١) "أي: ليعلم" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٣٧)، و"تفسير القرطبي" (١٧/ ٢٦٨).
(٣) "والعظيم" زيادة من "ت".
549
عظيمًا، والمراد منه: تعظيم حال محمد - ﷺ - في نبوته وشرعه وكتابه.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "واسم الله الأعظم في أولي سورة الحديد في ست آيات من أولها، فإذا علقت على المقاتل في الصف، لم ينفذ إليه حديد" (١)، والله أعلم.
...
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٢٥٦). قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير": اشتمل هذا المقدار من أول السورة على معاني ست عشرة صفة من أسماء الله الحسنى، وهي: الله، العزيز، الحكيم، الملل، المحيي، المميت، القادر، الأول، الآخر، الظاهر الباطن، العليم، الخالق، البصير، الواحد، المدبِّر. وقول ابن عباس يعني مجموع هذه الأسماء.
550
Icon