تفسير سورة الجمعة

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٦٢ شرح إعراب سورة الجمعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢)
يُسَبِّحُ يكون للمستقبل والحال. الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت. وفيه معنى المدح، ويجوز النصب في غير القرآن بمعنى أعني، ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، ويجوز على غير إضمار ترفعه بالابتداء والذي الخبر، وقد يكون التقدير هو الملك القدوس ويكون الَّذِي نعتا للملك فإذا خفضت كان هُوَ مرفوعا بالابتداء والَّذِي خبره، ويجوز أن يكون «هو» مرفوعا على أنه توكيد لما في الحكيم ويكون «الذي» نعتا للحكيم بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ داخل في الصلة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ في موضع نصب أي تاليا عليهم نعت لرسول وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ معنى يزكيهم يدعوهم إلى طاعة الله عزّ وجلّ فإذا أطاعوه فقد تزكّوا وزكّاهم وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ويجوز إدغام اللام في اللام.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٣]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ في موضع خفض لأنه عطف على الأميين، ويجوز أن يكون في موضع نصب معطوفا على «هم» من يعلّمهم أو على «هم» من يزكيهم، ويجوز أن يكون معطوفا على معنى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يعرّفهم بها لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. قال ابن زيد:
أي لمن يأتي من العرب والعجم إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: لمن ردفهم من الناس كلّهم. قال أبو جعفر: هذا أصحّ ما قيل به لأن الآية عامة ولمّا هي «لم» زيدت إليها «ما» توكيدا. قال سيبويه «١» :«لمّا» جواب لمن قال: قد فعل، و «لم» جواب لمن قال:
(١) انظر الكتاب ٤/ ١٣٥.
فعل. قال أبو جعفر: إلّا أن الجازم عند الجميع لم ولذلك حذفت النون. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ومن أسكن الهاء قال: الضمة ثقيلة وقد اتصل الكلام بما قبله.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٤]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك الذي أعطيه هؤلاء تفضل من الله جلّ وعزّ يؤتيه من يشاء. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي لا يذمّ في صرف من صرفه عنه، لأنه لم يمنعه حقّا له قبله ولا ظلمه بمنعه إياه ولكنه علم أن غيره أولى به منه فصرفه إليه.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٥]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي حملوا القيام بها والانتهاء إلى ما فيها. ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يفعلوا ذلك كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «يحمل» في موضع نصب على الحال أي حاملا فإن قيل: فكيف جاز هذا ولا يقال: جاءني غلام هند مسرعة؟ فالجواب أنّ المعنى مثلهم مثل الّذين حملوا التوراة، وزعم الكوفيون أنّ يحمل صلة للحمار، لأنه بمنزلة النكرة وهم يسمون نعت النكرة صلة ثمّ نقضوا هذا فقالوا: المعنى كمثل الحمار حاملا أسفارا. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي هذا المثل ثم حذف هذا، لأنه قد تقدم ذكره. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المعنى لا يوفقّهم ولا يرشدهم إذ كان في علمه أنّهم لا يؤمنون، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٦]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦)
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا يقال: هاد يهود إذا تاب وإذا رجع. إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ أي سواكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كنتم صادقين أنكم أولياء فإنه لا يعذّب أولياءه فتمنّوه لتستريحوا من كرب الدنيا وهمّها وغمّها وتصيروا إلى روح الجنة.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٧]
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً فكان حقا كما قال جلّ وعزّ وكفّوا عن ذلك. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الآثام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي ذو علم بمن ظلم نفسه فأوبقها وأهلكها بالكفر.

[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٨]

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ أي تأبون أن تتمنوه. الَّذِي في موضع نصب نعت للموت. فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ خبر إن وجاز أن تدخل الفاء ولا يجوز: إنّ أخاك فمنطلق لأن في الكلام معنى الجزاء، وأجاز الكوفيون «١» : إنّ ضاربك فظالم لأن في الكلام معنى الجزاء عندهم، وفيه قول أخر ويكون الذي تفرون منه خبر إن الموت هو الذي تفرون منه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ عطف جملة على جملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عطف على تردون.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)
وقرأ الأعمش الْجُمُعَةِ «٢» بإسكان الميم ولغة بني عقيل «من يوم الجمعة» بفتح الميم فمن قرأ الْجُمُعَةِ «٣» قدّره تقديرات منها أن يكون الأصل الجمعة ثمّ حذف الضمة لثقلها، ويجوز أن تكون هذه لغة بمعنى تلك، وجواب ثالث يكون مسكنا لأن التجميع فيه فهو يشبه المفعول به كما يقال: رجل هزأة أي يهزأ به ولحنة أي يلحن ومن قال: الْجُمُعَةِ نسب الفعل إليها أي يجمع للناس، كما يقال: رجل لحنة أي يلحّن الناس وقراء أي يقرئ الناس. فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال قتادة: أي بقلوبكم وأعمالكم أي امضوا وَذَرُوا الْبَيْعَ ولا يقال في الماضي: وذر. قال سيبويه «٤» : استغنوا عنه بترك، وقال غيره: لأن الواو ثقيلة فعدّلوا إلى ترك لأن معناه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي السعي إلى ذكر الله. قال سعيد بن المسيب: وهي الخطبة خير لكم من البيع والشراء.
قال الضحّاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء، وقال غيره: ظاهر القرآن يدلّ على أن ذلك إذا أذّن المؤذّن والإمام على المنبر. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما فيه منفعتكم ومضرتكم.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ١٠]
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)
أي صلاة الجمعة. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي أن شئتم يدلّ على ذلك ما قبله، وإن أهل التفسير قالوا: هو إباحة وفي الحديث عن أنس بن مالك مرفوعا فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قال أبو جعفر: لعيادة مريض أو شهود جنازة أو زيارة أي في الله.
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ١٥٦.
(٢) وهذه قراءة أبي عمرو وزيد بن علي أيضا، وهي لغة تميم، انظر البحر المحيط ٨/ ٢٦٤.
(٣) هذه قراءة الجمهور بضم الميم، انظر البحر المحيط ٨/ ٢٦٤.
(٤) انظر الكتاب ٤/ ٢٢٦.
وظاهر الآية يدلّ على إباحة الانتشار في الأرض لطلب رزق في الدنيا أو ثواب في الآخرة. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي لما عليكم ووفّقكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تدخلون الجنة فتقيمون فيها، والفلاح البقاء.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ١١]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها اختلف العلماء في اللهو هاهنا، فروى سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: كانت المرأة إذا أنكحت حرّكت لها المزامير فابتدر الناس إليها فأنزل الله جلّ وعزّ هذا. وقال مجاهد: اللهو الطبل. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب لأن جابرا مشاهد للتنزيل، ومال الفرّاء «١» إلى القول الثاني لأنهم فيما ذكر كانوا إذا وافت تجارة ضربوا لها بطبل، فبدر الناس إليها. وكان الفرّاء يعتمد في كتابه في المعاني على الكلبيّ والكلبي متروك الحديث. فأما قوله جلّ وعزّ انْفَضُّوا إِلَيْها ولم يقل: إليهما فتقديره على قول محمد بن يزيد وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ثمّ عطف الثاني على الأول فدخل فيما دخل فيه. وزعم الفرّاء «٢» أن الاختيار أن يعود الضمير على الثاني، ولو كان كما قال فكان انفضوا إليه، ولكنه يحتجّ في هذا بأن المقصود التجارة. وهذا كله جائز أن يعود على الأول أو على الثاني أو عليهما. قال جلّ وعزّ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء: ١١٢] فعاد الضمير على الثاني، وقال جلّ وعزّ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: ١٣٥] فعاد عليهما جميعا وَتَرَكُوكَ قائِماً نصب على الحال أي قائما تخطب. قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ أي ما عنده من الثواب.
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي فإيّاه فاسألوا وإليه فارغبوا أن يوسّع عليكم.
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ١٥٧.
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ١٥٧.
Icon