ﰡ
١ - ﴿وَالْفَجْرِ (١)﴾؛ أي: أقسمت بالفجر، وهو: صبح النهار، أقسم الله به لحصول انتشار الناس وسائر الحيوانات به في طلب الرزق، فهو مشاكل لنشور الموتى من قبورهم، وفيه عبرة لمن تأمل، وجواب هذا (١) القسم وما بعده هو قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ كذا قال ابن الأنباري، وقيل: محذوف لدلالة السياق عليه؛ أي: ليجازين كل أحد بما عمل أو ليعذبن. قال في "كشف الأسرار": لما كان العرب أكثر خلق الله قسمًا في كلامهم.. جاء القرآن على عادتهم في القسم، والفجر فجران: مستطيل: كذنب السرحان، وهو الكاذب، ولا يتعلق به حكم، ومستطير: وهو الصادق الذي يتعلق به الصوم والصلاة.
أقسم (٢) الله سبحانه بالفجر الذي هو أول وقت ظهور ضوء الشمس في جانب المشرق، كما أقسم بالصبح؛ حيث قال: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ لما يحصل به من انقضاء الليل بظهور الضوء، وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطيور والوحوش في طلب الأرزق، وذلك مشاكل لنشور الموتى، وفيه عبرة عظيمة لمن تأمل.
واختلف (٣) في الفجر الذي أقسم الله به هنا، فقيل: هو الوقت المعروف من كل يوم، لا فجر يوم مخصوص، وسمي فجرًا؛ لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم، وقال قتادة: إنه فجر أول يوم من شهر محرم؛ لأن منه تتفجر السنة، وقال مجاهد: يريد فجر يوم النحر؛ لأنه يوم عظيم يقع فيه الطواف المفروض والحلق والرمي، ويروى: أن يوم النحر يوم الحج الأكبر، وقال الضحاك: فجر عشر ذي الحجة، لأن الله قرن الأيام به، فقال: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢)﴾؛ أي: ليال عشر من ذي الحجة، وبه قال السدي والكلبي، وقيل: فجر يوم عرفة؛ لأنه يوم شريف أيضًا، يتوجه فيه الحجاج إلى جبل عرفات، وفي الحديث: "الحج عرفة"، وقيل: المعنى: أقسم بصلاة الفجر، قيل: أقسم برب الفجر، والأول أولى، وهو (٤) الظاهر، وقول الجمهور منهم علي وابن عباس وابن الزبير.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
أقِلِّيْ اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابَن | وَقُوْلِيْ إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَن |
وهذا ذكره النحويون في القوافي المطلقة إذا لم يترنم الشاعر، وهو أحد الوجهين اللذين للعرب إذا وقفوا على الكلم في الكلام لا في الشعر، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى القوافي،
٢ - وقوله: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢)﴾ قسم ثانٍ معطوف على الأول؛ أي: أقسم بليال عشر من أول شهر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين، وتنكيرها (١) للتعظيم لأنها مخصوصة بفضائل ليست لغيرها، ولذا أقسم الله بها، وذلك كالاشتغال بأعمال الحج، وقال الضحاك: إنها العشر الأواخر من رمضان، ويكفيها شرفًا كون ليلة القدر فيها التي هي خير من ألف شهر، وقيل: العشر الأول من المحرم إلى عاشرها يوم عاشوراء.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلَيَالٍ﴾ التنوين و ﴿عَشْرٍ﴾ صفة لها، وقرأ ابن عباس: بالإضافة، فضبطه بعضهم ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢)﴾ بلام دون ياء، وبعضهم: ﴿وليالي عشر﴾ بالياء، يريد: وليالي أيام عشر، وكان حقه على هذا أن يقال: عشرة؛ لأن المعدود مذكر.. وأجيب عنه: بأنه لما حذف المعدود الموصوف، وهو مذكر.. جاز في عدده حذف التاء.
٣ - وقوله: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣)﴾ قسم ثالث ورابع، معطوف أيضًا على قوله: ﴿وَالْفَجْرِ (١)﴾؛ أي: أقسم بشفع هذه الليالي العشر ووترها، فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة، ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد، ولكن الظاهر التعميم؛ لأن الألف واللام للاستغراق.
والمعنى عليه: أي أقسم بالأشياء كلها شفعها ووترها؛ لأن كل شيء لا بد أن يكون شفعًا أو وترًا، وقال قتادة: الشفع والوتر: شفع الصلاة ووترها، منها: شفع
والذي ينبغي التعويل عليه، ويتعين المصير إليه، ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب، وهما معروفان واضحان، فالشفع عند العرب: الزوج، والوتر: الفرد، فالمراد من الآية: إما نفس العدد وما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر، وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية.. فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره.. فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية.. لم يكن ذلك مانعًا من تناولها لغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم بأسرار كلامه، وبما هو المراد من كتابه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالْوَتْرِ﴾ بفتح الواو وسكون التاء، وهي لغة قريش ومن والاها، وقرأ الأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن - بخلاف عنه - والأخوان حمزة والكسائي وخلف: بكسر الواو وسكون
٤ - وقوله: ﴿وَاللَّيْلِ﴾ أي: وأقسمت بجنس الليل ﴿إِذَا يَسْرِ﴾؛ أي: يمضي ويذهب، قسم خامس معطوف على ما قبله، وهو نظير قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣)﴾، وقوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧)﴾؛ أي: أقسمت بجنس الليل وقت ذهابه ومضيه بإقبال النهار ومجيئه، والتقييد به لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة، كأن جميع الحيوانات أعيد إليهم الحياة بعد الموت، وتسببوا بذلك لطلب الأرزاق المعدة للحياة الدنيوية التي يتوصل بها إلى سعادة الدارين.
فإن قلت (١): القسم بـ ﴿الليل إذا يسر﴾ عام يغني عن القسم بـ ﴿ليال عشر﴾، فلم ذكرها أولًا؟.
قلت: المقسم به في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤)﴾ هو ﴿الليل﴾ باعتبار سيره ومضيه، وفي قوله: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢)﴾ هو الليالي بلا اعتبار مضيها وذهابها، بل باعتبار خصوصية أخرى، فلا يغن أحدهما عن الآخر، وبهذا المعنى قال الجمهور، وقال قتادة وأبو العالية في معنى: ﴿إِذَا يَسْرِ﴾: إذا جاء وأقبل، وقيل: معنى ﴿إِذَا يَسْرِ﴾: إذا يسري فيه الساري، ويسير فيه السائر، فإسناد السرى إلى الليل مجاز، كما في قولهم: نهاره صائم؛ أي: هو صائم في نهاره، وليله نائم؛ أي: نائم في ليله، كما في قول الشاعر:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِيْ السُّرَى | وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ |
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَسْرِ﴾ بحذف الياء وصلًا ووقفًا اتباعًا لرسم المصحف، وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وقرأ نافع وأبو عمرو: بحذفها في الوقف وإثباتها في الوصل، قال الخليل: تسقط الياء منها موافقة لرؤوس الآي، قال الزجاج: والحذف أحب إليَّ؛ لأنها فاصلة، والفواصل تحذف منها الياءات، وقال الفراء: قد تحذف العرب الياء، وتكتفي بكسر ما قبلها، وأنشد بعضهم:
كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تَلِيْقُ دِرْهَمًا | جُوْدًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ دَمَا |
والحاصل: أن الياء حذفت (٢) هنا اكتفاء بالكسر، ولسقوطها في خط المصحف، ولموافقة رؤوس الآي، وإن كان الأصل إثباتها؛ لأنها لام فعل مضارع مرفوع، والسرى: سير الليل، يقال: سرى يسري سرى ومسرى، إذا سار عامة الليل، والمراد هنا: ذهاب الليل أو إقباله، أو سير الساري فيه.
واعلم: أن نعمة (٣) الله على عباده بتعاقب الليل والنهار، واختلاف مقاديرها بحسب الأزمنة والفصول مما لا يجحدها إلا مكابر، لا جرم أقسم ربنا بهما تنبيهًا على أن تعاقبهما بتدبير مدبر حكيم، عالم بما في ذلك من المصلحة لعباده.
انظر إلى ما في إقبال الصبح من عميم النفع، فإنك لترى أنه يفرج كربة الليل، وينبه إلى إستقبال العمل، وكذلك تدرك ما في الليالي المقمرة من فائدة، فهي تستميل النفس إلى النقلة، وتيسر للناس النجعة، ويخاصة في أيام الحر الشديد في بلاد كبلاد العرب، وكذا تعرف ما في الظلام من منفعة، فإن فيه تهدأ النفوس، وتسكن الخواطر، وتستقر الجنوب في مضاجعها لتستريح من عناء العمل، وتستعين
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ | تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ |
والمعنى: هل فيما ذكر من الأشياء المقسم بها، فالإشارة بذلك إلى تلك الأمور، والتذكير فيه بتأويله بالمذكور؛ أي: في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها ﴿قَسَمٌ﴾؛ أي: مقسم به حقيق بأن تؤكد به الأخبار، وفي "فتح الرحمن": مقنع ومكتفى ﴿لِذِي حِجْرٍ﴾؛ أي: لذي عقل ولب منور بنور المعرفة والحقيقة، يراه حقيقًا بأن يقسم به إجلالًا وتعظيمًا، والمراد: تحقيق أن الكل كذلك، وإنما أوثرت هذه الطريقة هضمًا للخلق، وإيذانًا بظهور الأمر، أو المعنى: هل (٢) في الإقسام بتلك الأمور المذكورة إقسام لذي حجر مقبول عنده، يعتد به، ويفعل مثله، ويؤكد به المقسم عليه. والحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم -: العقل: سمي به؛ لأنه يحجر صاحبه؛ أي: يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي، كما سمي عقلًا ونهيةً بضم النون؛ لأنه يعقل وينهى، وحصاةً أيضًا من الإحصاء، وهو الضبط، قال الفراء: يقال: إنه لذو حجر إذا كان قاهرًا لنفسه، ضابطًا لها، مضيقًا عليه، والتنوين في الحجر للتعظيم، قال بعض الحكماء: العقل للقلب بمنزلة الروح للجسد، فكل قلب لا عقل له، فهو ميت بمنزلة قلب البهائم، والمراد: أن من (٣) كان ذا لب وعقل، يفطن إلى أن في القسم بهذه المخلوقات المشتملة على باهر الحكمة، وعجيب
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وجواب القسم بهذه الأمور الخمسة المذكورة محذوفة كما مر، يدل عليه قوله بعد ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ﴾ الآية، ويقدر بنحو قوله: "إن ناصية المكذبين بيدي، ولئن أمهلتهم.. فلن أهملهم، ولآخذنهم أخذ الأمم قبلهم" وقد ترك ذكره لتسترسل نفس القارىء في تأمل ما مضى وما يتبع؛ ليجد الجواب بينها، فيتمكن المعنى لديه فضل تمكن.
٦ - ثم ذكر سبحانه على طريقة الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيرًا للكفار في عصر نبينا - ﷺ -، وتخويفًا لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦)﴾ الهمزة فيه للإنكار، وهو في قوة النفي، ونفي النفي إثبات، فيكون الاستفهام تقريريًا بعد أن كان إنكاريًا؛ أي: ألم تعلم يا محمد علمًا يقينيًا جاريًا مجرى الرؤية في الجلاء والوضوح؛ أي: قد علمت بإعلام الله تعالى لك وبالتواتر أيضًا، كيف عذب ربك عادًا ونظائرهم، فسيعذب كفار قومك لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي، والمراد بعاد: أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، قوم هود عليه السلام، سموا باسم أبيهم، كما سمي بنو هاشم هاشمًا، وبنو تميم تميمًا، فلفظ عاد: اسم للقبيلة المنتسبة إلى عاد، وقد قيل لأوائلهم: عاد الأولى، ولأواخرهم: عاد الأخيرة. قال عماد الدين بن كثير: كل ما ورد في القرآن خبر عاد الأولى إلا ما في سورة الأحقاف. انتهى.
٧ - ﴿إِرَمَ﴾: عطف (١) بيان لـ ﴿عاد﴾ للإيذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف؛ أي: سبط إرم، أو أهل إرم على ما قيل من أن إرم اسم بلدتهم، أو أرضهم التي كانوا فيها، وكانت منازلهم بين عمان إلى حضرموت، وهي بلاد الرمال والأحقاف،
وقال السهيلي رحمه الله تعالى: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)﴾ وهو جيرون بن سعد بن إرم، وهو الذي بني مدينة دمشق على عمد من رخام، ذكر أنه أدخل فيها أربع مئة ألف عمود، وأربعين ألف عماد من رخام، فالمراد: هذه العماد التي كان البناء عليها في هذه المدينة، وكانت تسمى جيرون، وبه تعرف، وسميت دمشق بدمشق بن نمروذ عدو إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان دمشق قد أسلم، وبنى جامع إبراهيم في الشام. انتهى. لعل هذا الرواية أصح، فليتأمل.
٨ - ﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (٨)﴾ صفة أخرى (١) لـ ﴿إِرَمَ﴾، والضمير لها على أنها اسم القبيلة؛ أي: لم يخلق مثلهم في عظم الأجرام، والقوة في الآفاق والنواحي؛ حيث كان طول الرجل أربع مئة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة، فيحملها ويلقيها على الحي فيهلكهم، ولذا كانوا يقولون: من أشد منا قوة، ونظيرهم في الطيور: الرخ: هو طير في جزائر الصين، يكون جناحه الوحد عشرة آلاف باع، يحمل حجرًا في رجله كالبيت العظيم، ويلقيه على السفينة في البحر. أو المعنى: لم يخلق مثل مدينتهم في جميع بلاد الدنيا، فالضمير لها على أنها اسم البلدة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿بِعَادٍ﴾ بالتنوين مصروفًا، وقرؤوا: ﴿إِرَمَ﴾ بكسر الهمزة، وفتح الراء والميم ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية، لأنه اسم للقبيلة، وعاد وإنْ كان اسم القبيلة فقد يلحظ فيه معنى الحي، فيصرف، أو لا يلحظ، فجاء على لغة من صرف هندًا، و ﴿إِرَمَ﴾: عطف بيان أو بدل منه، وقرأ الحسن وأبو العالية: بإضافة عاد إلى ﴿إرم﴾، وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: ﴿أرم﴾ بفتح الهمزة والراء، وقرأ ابن الزبير: ﴿بعاد﴾ بالإضافة ﴿أرم﴾ بفتح الهمزة، وكسر الراء، وهي لغة في المدينة، وقرأ الضحاك: ﴿بِعَادٍ﴾ مصروفًا، و ﴿بعاد﴾ غير مصروف أيضًا ﴿أرم﴾ بفتح الهمزة وسكون الراء تخفيف ﴿أرم﴾ بكسر الراء، وعن ابن عباس: ﴿أرم﴾: فعلًا ماضيًا. ﴿ذاتَ العمادِ﴾ بنصب التاء على المفعول به.
والمعنى: جعل الله ذات العماد رميمًا، ويكون أرم بدلًا من ﴿فَعَلَ رَبُّكَ﴾، يقال: رم العظم إذا بلي، وأرم هو: أي: بلي، وأرمه غيره معدى بالهمزة من: رم الثلاثي، وقرأ أبي: ﴿التي لم يخلق مثلهم في البلاد﴾، وقرأ ابن الزبير: ﴿لم يخلق مثلها﴾ بالبناء للفاعل: أي: لم يخلق الله سبحانه مثل إرم، وقرأ الجمهور: ﴿لَمْ يُخْلَقْ﴾ بالبناء للمفعول، و ﴿مثلُها﴾ بالرفع، وروي عن ابن الزبير: ﴿نخلق﴾ بالنون.
٩ - ثم عطف سبحانه القبيلة الآخرة، وهي: ثمود على قبيلة عاد، فقال: ﴿وَثَمُودَ﴾ عطف على ﴿عاد﴾ قبيلة مشهورة سموا باسم جدهم ثمود أخي جديس، وهما ابنا عامر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وكانوا عربًا من العاربة، يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك، وكانوا يعبدون الأصنام كعاد، وهم قوم صالح عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾.
﴿الَّذِينَ جَابُوا﴾؛ أي: خرقوا وقطعوا ﴿الصَّخْرَ﴾؛ أي: الصخور والأحجار الكبار، ونحتوها وبنوها بيوتًا ﴿بِالْوَادِ﴾، أي: في وادي القرى بالقرب من المدينة
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
والمعنى: قطعوا صخر الجبال وخرقوها، فاتخذوا فيها بيوتًا نحتوها من الصخر، كما قال تعالى: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾، قيل: إنهم أول من نحت الجبال والصخور والرخام، وقد بنوا ألفًا وسبع مئة مدينة، كلها من الحجارة.
وقرأ ابن وثاب (٢): ﴿وثمود﴾ بالتنوين على أنه اسم لأبي القبيلة، والجمهور: بمنع الصرف على أنه اسم للقبيلة، وقيل: جابوا واديهم، وجلبوا ماءهم في صخر شقوه، فعل ذي القوة والآمال.
وقرأ الجمهور: ﴿بِالْوَادِ﴾ بحذف الياء وصلًا ووقفًا اتباعًا لرسم المصحف، وقرأ ابن كثير: بإثباتها فيهما، وقرأ قنبل في رواية عنه: بإثباتها في الوصل دون الوقف.
والخلاصة (٣): أي وألم تر يا محمد أو أيها المخاطب، كيف فعل رب بثمود، الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا منه القصور والأبنية العظيمة، كما قال في آية أخرى: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩)﴾، وفي هذا دليل على ما أنعم الله به عليهم من القوة والعقل وحسن التدبير، فإنهم كانوا ينحتون الجبال وينقبونها، ويجعلون تلك الأنقاب بيوتًا يسكنون فيها، وقوله: ﴿بِالْوَادِ﴾ متعلق بـ ﴿جَابُوا﴾ أو بمحذوف على أنه حال من الصخر.
١٠ - وقوله: ﴿وَفِرْعَوْنَ﴾ معطوف على ﴿عاد﴾ أيضًا؛ أي: وألم تر كيف فعل
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
١١ - ثم وصف من سبق ذكرهم بأقبح الأوصاف، فقال: ﴿الَّذِينَ طَغَوْا﴾، وتجبروا ﴿فِي الْبِلَادِ﴾؛ أي: في بلادهم صفة للمذكورين من الطوائف، وهو أحسن من حيث اللفظ؛ إذ لا حذف فيه، واختار صاحب "الكشاف": كونه منصوبًا على الذم بتقدير: أذم، لكونه صريحًا في الذم، والمقام مقام الذم، وهو أحسن من حيث المعنى ويجوز جعله خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين طغوا.
والمعنى: طغى كل طائفة منهم في بلادهم، وتجاوزا الحد، يعني: طغى عاد في اليمن، وثمود بأرض الشام، والقبط بمصر، كما أن نمروذ طغى بالسواد، وقس على هذا سائرهم.
١٢ - ﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا﴾؛ أي: في البلاد ﴿الْفَسَادَ﴾؛ أي: بالكفر وسائر المعاصي، فإن الفساد يتناول جميع أقسام الإثم، كما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فمن عمل بغير أمر الله، وحكم في عباده بالظلم، فهو مفسد متجاوز عن الحد الذي حد له، وفيه تخويف شديد لأكثر حكام الزمان ونحوهم.
١٣ - ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ﴾ صبُّ الماء: إراقته من أعلى، أي: أنزل ربك عليهم إنزالًا شديدًا على كل طائفة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد، وأفرغ عليهم ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾؛ أي: أشد عذاب لا تدرك غايته، وهو عبارة عما حل بكل طائفة منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السور الكريمة، وهي: الريح لعاد، والصيحة لثمود، والغرق للقبط، وتسميته (٢) سوطًا: للإشارة إلى أن ذلك بالنسبة إلى ما أعد لهم في
(٢) روح البيان.
فإن قلت: أليس أن الله تعالى قال: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾، وهو يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة، فبين الآيتين معارضة، فكيف الجمع بينها؟.
قلت: إنه يقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة، وذلك لا ينافي أن يعجل شيء من ذلك في الدنيا، فإن الواقع في الدنيا شيء من الجزاء ومقدماته، كذا في "حواشي ابن الشيخ".
يقول الفقير: وأوجه من ذلك: أن المفهوم من الآية المؤاخذة لكل الناس، وهو لا ينافي أن يؤاخذ بعضهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كبعض الأمم السالفة المكذبة، قال الشاعر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِيْنَهُ | وَصَبَّ عَلَى الْكُفَّارِ سَوْطَ عَذَابِ |
(٢) المراغي.
١٤ - ثم ذكر العلة في تعذيبه لهم، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾، والجملة (١) تعليل لما قبلها، وفيها إيذان بأن كفار قومه - ﷺ - سيصيبهم مثل ما أصاب المذكورين من العذاب، كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره - ﷺ -، والمرصاد (٢): المكان الذي يترقب فيه الراصدون، مفعال من: رصده، كالميقات من وقته، والباء للظرفية؛ أي: إنه لفي المكان الذي تترقب فيه السابلة، ويجوز أن يكون صيغة مبالغة، كالمطعان، والباء تجريدية، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة، وأنهم لا يفوتونه، شبه حاله تعالى في كونه حفيظًا لأعمال عباده مجازيًا عليها على النقير والقطمير، ولا محيد للعباد عن أن يكون مصيرهم إلى الله تعالى، بحال من قعد على طريق السابلة يترصدهم ليظفر بالجاني، أو لأخذ المكس، أو نحو ذلك، ولا مخلص لهم من العبور إلى ذلك الطريق، ثم استعمل هنا ما كان مستعملًا هناك، كما سيأتي في مبحث البلاغة، ويقال: يعني أن ملائكة ربك على الصراط يترصدون على جسر جهنم في سبعة مواضع، فيسأل في أولها عن الإيمان، فإن سلم من النفاق والرياء نجا، وإلا تردى في النار، وفي الثاني عن الصلاة، فإن أتم ركوعها وسجودها وسائر أركانها وأقامها في مواقيتها نجا، وإلا تردى في النار، وفي الثالث عن الزكاة، وفي الرابع عن صوم شهر رمضان، وفي الخامس عن الحج والعمرة، وفي السادس عن الوضوء والغسل من الجنابة، وفي السابع عن بر الوالدين وصلة الرحم، فإن خرج منها.. قيل له: انطلق إلى الجنة، وإلا وقع في النار، والله أعلم.
والمعنى (٣): أي إن شأن ربك أن لا يفوته من شؤون عباده نقير ولا قطمير، ولا يهمل أمةً تعدت في أعمالها حدود شرائعه القويمة، بل يأخذها بذنوبها أخذ
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وقد أجمل الله سبحانه في هذه الآيات ما أوقعه بهذه الأمم من العذاب، وفصله في غير موضع من كتابه الكريم، فقال في سورة الحاقة: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦)﴾ إلى آخر ما هنالك، وقال: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠)﴾، والحكمة في تكرار القصص في القرآن الكريم، وفي ذكر بعضها على طريق الإشارة في بعض المواضع، وبالتفصيل في بعض آخر أنه قد يكون الغرض تارة إقامة الحجة على قدرته تعالى، وتوحده في ملكة وقهره لعباده حينًا، وترقيق قلوب المخاطبين حينًا آخر، وإنذار عباده، وإعذارهم مرة ثالثة، ولا شك أن كل مقام من الكلام له لون منه من بسط أو إيجاز، لا يكون لغيره، وقد عرفت أن الغرض هنا تطييب خاطر الرسول - ﷺ - وأصحابه بأن الله تعالى سيمهل الكافرين، ولا يهملهم، وهو تعالى ليس بغافل عنهم، وحينئذٍ تدرك أن الإشارة إلى أن هذه الأمم أخذت وعذبت، ولم تترك سدى، كافية جد الكفاية لمن فكر وتدبر.
١٥ - ولما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد.. ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير، وعند إصابة الشر، وأن مطمح أنظارهم، ومعظم مقاصدهم الدنيا، فقال: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ﴾، وهو مبتدأ، والخبر جملة ﴿يقول﴾ الآتي، قال السهيلي - رحمه الله تعالى -: المراد بالإنسان هنا: عتبة بن ربيعة، وكان هو السبب في نزولها فيما ذكر، وإن كانت هذه الصفة تعم، وقيل: أبي بن خلف، وقيل: أمية بن خلف، قاله مقاتل.
والكلام متصل (١) بما قبله من قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (١٤)﴾ كما أشرنا إليه آنفًا، وكأنه قيل: إنه تعالى بصدد مراقبة أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيرًا أو شرًا، فأما الإنسان.. فلا يهمه ذلك، وإنما مطمح نظره ومرصاد فكره الدنيا ولذائذها، والفاء: استئنافية، وقيل: فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن ربك لبالمرصاد لأعمال عباده خيرًا أو شرًا ليجازيهم عليها،
والمعنى (١): أي إن الإنسان إذا أنعم الله عليه، وأوسع له في الرزق.. زعم أن هذا الذي هو فيه من السعة إكرام من الله له، وخيل إليه الوهم أن الله لا يؤاخذه على ما يفعل، فيطغى ويفسد في الأرض.
١٦ - ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ﴾؛ أي: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه.. فيكون الواقع بعد ﴿أَمَّا﴾ في الفقرتين اسمًا، فتكون الجملتان متعادلتين ﴿فَقَدَرَ﴾؛ أي: ضيق ﴿عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة، وجعله على قدر كفايته، وقوت يومه ﴿فَيَقُولُ﴾ متضجرًا حزينًا: ﴿رَبِّي أَهَانَنِ﴾؛ أي: أذلني بالفقر، ولا يخطر بباله أن ذلك ليبلوه أيصبر أم يجزع، مع أنه ليس من الإهانة في شيء، ولذا لم يقل: فأهانه فقدر عليه رزقه في مقابلة: أكرمه ونعمه، بل التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين في حق الفقير الصابر، أما تأديته إلى كرامة الآخرة.. فأمر ظاهر، وأما تأديته إلى كرامة الدنيا، فلأنه قد يسلم به من طمع الأعداء، فيحسن فيه اعتقاد الكبراء من أهل الدنيا، فيراجعونه ويلتمسون منه الدعاء، والتوسعة قد تفضي إلى خسران الدارين بالكفران، فيكون استدراجًا، قال بعضهم: ربما يكون التضييق
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء؛ إما إزار، وإما كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ نصف الركبتين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. فتأمل يا أخي هل تكون هذه إهانةً لخواص الله، فالمؤمن إما في مقام الشكر، أو في مقام الصبر، وعنه - ﷺ -: "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر".
والمعنى (١): أي وإن رأى الإنسان أن رزقه لا يأتي إلا بقدر.. ظن أن ذلك إهانة من الله له، وإذلال لنفسه، وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث؛ لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا، والتوسع في متاعها، ولا إهانة عنده إلا فوتها، وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها، وأما المؤمن.. فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته، ويوفقه لعمل الآخرة.
ويحتمل أن يراد بالإنسان العموم كما مر، لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير، وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختبار والامتحان، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل جناح بعوضة.. ما سقى الكافر منها شربة ماء.
والحاصل (٢): أن الإنسان في الحالين مخطىء مرتكب أشنع وجوه الغفلة، لأن إسباغ النعمة في الدنيا على أحد لا يدل على أنه مستحق لذلك، ولو دل على هذا.. لما رأيت عاصيًا موسعًا عليه في الرزق، ولا شاهدت كافرًا ينعم بصنوف النعم. ولعل من حكمة الله في بسط الرزق على بعض الناس، وتضييقه على بعض آخر: أن وجدان المال سبب للانغماس في الشهوات، وأنه قاطع عن الاتصال بالله، وأن فقدانه وسيلة لتمحيص المرء وابتلائه؛ ليكون من الصابرين الذين وعدوا بالجنة، انظر إلى قول النبي - ﷺ - فيما كان يدعو به ربه من قوله: "اللهم أحيني مسكينًا،
(٢) المراغي.
وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه وابن محيصن ويعقوب (١): ﴿أكرمني﴾ و ﴿أهاني﴾ بإثبات الياء فيهما وصلًا ووقفًا، وقرأ نافع: بإثبات الياء فيهما وصلًا وحذفهما وقفًا، وخير في الوجهين أبو عمرو، وقرأ الباقون: بحذف الياء فيهما وصلًا ووقفًا اتباعًا لرسم المصحف، ولموافقة رؤوس الآي، والأصل: إثباتها لأنها اسم، ومن حذفها في الوقف سكن النون فيه، وقرأ الجمهور: ﴿فَقَدَرَ﴾ بتخفيف الدال، وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن - بخلاف عنه - وابن عامر: بتشديدها، وهما لغتان، قال الجمهور: هما بمعنى واحد بمعنى: ضيق، والتضعيف فيه للمبالغة للمتعدي، وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عمرو: ﴿رَبِّي﴾ بفتح الياء في الموضعين، وأسكنها الباقون.
تتمة: وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف ذم من يقول: ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ مع أنه صادق فيه؛ لقوله تعالى: ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ ومع أنه متحدِّث بالنعمة، وهو مأمور بالتحدث بها؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)﴾؟
قلت: المراد أن يقول ذلك مفتخرًا به على غيره، كما أشرنا إليه في حلنا السابق، ومستدلًا به على علو منزلته في الآخرة، ومعتقدًا استحقاق ذلك على ربه، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾، وكل ذلك منهي عنه مذموم، وأما إذا قاله على وجه الشكر، والتحدث بنعمة الله تعالى، فليس بمذموم، بل هو ممدوح.
١٧ - وقوله: ﴿كَلَّا﴾ ردع للإنسان القائل في الحالتين، وزجر له عن مقالته المحكية، وتكذيب له فيها، فإن الله سبحانه وتعالى قد يوسع الرزق، ويبسط النعم
(٢) روح البيان.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى: لم أبتله بالغنى لكرامته على، ولم ابتله بالفقر لهوانه عليَّ، بل ذلك لمحض القضاء والقدر، بلا تعليل بالعلل.
ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله، فقال: ﴿بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ الذي فقد أباه، بالإنفاق عليه والكسوة ونحوهما، واليتيم من بني آدم: هو الذي فقد أباه، وكان غير بالغ، ومن البهائم: هو الذي فقد أمه، وفي الحديث: "أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم"، والالتفات فيه إلى الخطاب على قراءة الجمهور بالتاء الفوقية؛ للإيذان باقتضاء ملاحظة جنايته السابقة لمشافهته بالتوبيخ؛ تشديدًا للتقريع، وتأكيدًا للتشنيع، والجمع في ﴿تُكْرِمُونَ﴾ وفيما سيأتي من سائر الأفعال باعتبار معنى الإنسان؛ إذ المراد به الجنس؛ أي: بل لكم أحوال أشد شرًا مما ذكر، وأدل على تهالككم على المال، حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال، فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالنفقة والكسوة ونحوهما.
قال في "الأشباه": استخدام اليتيم بلا أجرة حرام ولو لأخيه ومعلمه، إلا لأمه، وفيما إذا أرسله المعلم لإحضار شريكه. انتهى.
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمرو: ﴿يكرمون﴾، و ﴿لا يحضون﴾، و ﴿يأكلون﴾، و ﴿يحبون﴾ بياء الغيبة فيها، وقرأ باقي السبعة: بتاء الخطاب في جميعها.
والمعنى: أنكم تتركون إكرام اليتيم، فتأكلون ماله، وتمنعونه من فضل أموالكم، قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون، وكان يتيمًا في حجر أمية بن خلف، فيدفعه عن حقه، فنزلت.
والمعنى: ﴿كَلَّا﴾؛ أي (١): لم ابتل الإنسان بالغنى لكرامته عندي، ولم ابتله
١٨ - ﴿وَلَا تَحَاضُّونَ﴾ بحذف إحدى التاءين من: تتحاضون، والحض: الحث والتحريض، أي: لا يحض (١) بعضكم بعضًا، ولا يحث من أهل وغيره شكرًا لإنعام الله تعالى ﴿عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾؛ أي: على إطعام جنس المسكين، وإصلاح شأنه، ومن لا يحض غيره على إطعامه فأن لا يطعمه بنفسه أولى، فيؤول المعنى إلى أن يقال: ولا تطعمون مسكينًا ولا تأمرون بإطعامه، وفيه ذم بليغ للبخيل.
والخلاصة: وإذا لم تكرموا اليتيم، ولم يوص بعضكم بعضًا بإطعام المسكين، فقد كذبت مزاعمكم في أنكم قوم صالحون، وإنما ذكر التحاض على الطعام، ولم يكتف بالإطعام، فيقول: ولم تطعموا المسكين، ليبين أن أفراد الأمة متكافلون، وأنه يجب أن يوصي بعضهم بعضًا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع التزام كل بفعل ما يأمره أو ينهى عنه.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والكوفيون وابن مقسم (٢): ﴿تَحَاضُّونَ﴾ بفتح التاء وبالألف، أصله: تتحاضون، وهي قراءة الأعمش؛ أي: لا يحض بعضكم بعضًا، وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وعبد الله بن المبارك والشيزري عن الكسائي كذلك، إلا أنهم ضموا التاء؛ أي: تحاضون أنفسكم؛ أي: يحض بعضكم بعضًا، وتفاعل وفاعل يأتي بمعنى: فعل أيضًا.
(٢) البحر المحيط.
١٩ - ثم بين أن إهمالهم أمر اليتيم، وخلو قلبهم من الرحمة بالمسكين، لم يكونا زهدًا في لذائذ الحياة، وتخلصًا من متاعبها، وعكوفًا على شؤون أنفسهم، بل جاء من محبتهم للمال، فقال: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ﴾؛ أي: الميراث، وأصله (١): وراث قلبت واوه تاء، والميراث: هو المال المنتقل من الميت ﴿أَكْلًا لَمًّا﴾؛ أي: أكلًا شديدًا، واللم: الجمع، يقال: كتيبة ملمومة؛ أي: مجتمعة بعضها إلى بعض.
والمعنى: أكلًا ذا لمٍّ على حذف المضاف؛ أي: جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء، ولا الصبيان، ويأكلون أنصباءهم الحرام مجموعةً إلى أنصبائهم الحلال.
والمعنى (٢): أي إنكم تأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منكم أكلًا شديدًا، فتحولون بينه وبين من يستحق، وتجمعون بين نصيبكم منه، ونصيب غيركم.
٢٠ - ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)﴾؛ أي: حبًا كثيرًا مع حرص وشره ومنع حقوق وعدم انتفاع، فإن الجم الكثير يقال: جم الماء في الحوض: إذا اجتمع فيه وكثر، والمقصود: ذمهم ببيان أن حرصهم على الدنيا فقط، وأنهم عادلون عن أمر الآخرة، وفيه إشارة إلى أن الحب للمال طبيعي، فلا يتخلص منه المرء بالكلية إلا أن يكون من الأقوياء، فكأنه أشار إلى أن حبه إذا لم يشتد لا يكون مذمومًا؛ أي: تميلون إلى جمع المال ميلًا شديدًا، ميراثًا كان أو غيره.
وخلاصة ذلك: أنكم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، إذ لو كنتم ممن غلب عليه حب الآخرة.. لانصرفتم عما يترك الموتى ميراثًا لأيتامهم، ولكنكم تشاركونهم فيه، وتأخذون شيئًا لا كسب لكم فيه، ولا مدخل لكم في تحصيله وجمعه، ولو كنتم ممن استحبوا الآخرة.. لما ضربت نفوسكم على المال تأخذونه من حيث وجدتموه من حلال أو من حرام، فهذه أدلة ترشد إلى أنكم لستم على ما ادعيتم من
(٢) المراغي.
٢١ - ثم كرر سبحانه الردع لهم والزجر، فقال: ﴿كَلَّا﴾، فهو ردع لهم عما ذكر من الأفعال والتروك، وإنكار عليهم؛ أي: لا ينبغي (١) أن يكون الأمر كذلك في الحرص على الدنيا، وقصر الهمة على تحصيلها وجمعها، من حيث تهيأ لهم من حل أو حرام، وترك المواساة منها، وتوهم أن لا حساب ولا جزاء، فإن عاقبة ذلك الحسرة والندامة على إيثار الحياة الدنيوية الفانية على الحياة الآخروية، وسيأتي يوم يندمون فيه أشد الندم، ولكن لا تنفعهم الندامة، ويتمنون لو كانوا أفنوا حياتهم في التقرب إلى ربهم بصالح الأعمال.
ثم بين ذلك اليوم، ووصفه بأوصاف ثلاثة، فقال:
١ - ﴿إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ﴾ وزلزلت ﴿دَكًّا دَكًّا﴾؛ أي: دكًا متتابعًا، وزلزلةً متواترة، وضرب بعضها ببعض حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور، حين زلزلت زلزلةً بعد زلزلة، وحركت تحريكًا بعد تحريك، وصارت هباءً منبثًا، وهو عبارة عما عرض لها عند النفخة الثانية، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها؛ لأنها فعل شرط لها، و ﴿إذا﴾ متعلقة بالجواب الآتي، وهو قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾ ما فرط فيه في الدنيا. والجملة مستأنفة مسوقة بطريق الوعيد تعليلًا للردع، والدك: الدق، يقال: دككت الشيء أدكه دكًا: إذا ضربته وكسرته حتى سويته بالأرض، وقال الخليل: الدك: كسر الحائط والجبل، وقال المبرد: الدك: حط المرتفع بالبسط؛ أي: بسطت وذهب ارتفاعها، وقال الزجاج: تزلزلت، ودك بعضها بعضًا، وقال ابن قتيبة: دكت جبالها حتى استوت، والمعنى هنا: زلزلت، وحركت تحريكًا بعد تحريك، ودكًا الثاني ليس تأكيدًا للأول، بل هو دك آخر سوى الأول، وقال ابن عصفور: وانتصاب ﴿دَكًّا﴾ الأول على أنه مصدر مؤكد لفعله، و ﴿دَكًّا﴾ الثاني: تأكيد للأول، ويجوز أن يكون النصب على الحال؛ أي: حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة، كما يقال: علمته الحساب بابًا بابًا، علمته الخط حرفًا حرفًا.
والخلاصة: أنه إذا دكت الأرض دكًا بعد دك، وتتابع عليها ذلك حتى صارت كالصخرة الملساء، وذهب كل ما على وجهها من جبال وقصور وأبنية.. يتذكر الإنسان ما فرط فيه.
٢ - ٢٢ ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ واعلم (١) أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة السلف وبعض الخلف، فلم يتكلموا فيه، وأجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل، وقالوا: يلزمنا الإيمان بها، وإجراؤها على ظاهرها، فتقول على مذهبهم: المجيء صفة واجبة لله تعالى، نثبتها ونعتقدها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، وهذا هو المذهب الأسلم الأعلم، وتأولها بعض المتأخرين وغالب المتكلمين، فقالوا: ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله محال، فلا بد من تأويل الآية، فقيل في تأويلها: وجاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء، وقيل: جاء أمر ربك وقضاؤه، وقيل: وجاء دلائل آيات ربك، فجعل مجيئها مجيئًا له تعالى تفخيمًا لتلك الآيات، وقال الإمام أحمد: معناه: جاء أمر ربك وقضاؤه، فهو على حذف مضاف للتهويل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: جاء أمره وقضاؤه، وقال النسفي: وهذا (٢) تمثيل لظهور آيات اقتداره، وتبين آثار قهره وسلطانه، فإن واحدًا من الملوك إذا حضر بنفسه.. ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور وزرائه وسائر خواصه وعساكره. انتهى. بتصرف.
وقال الشوكاني: أي: جاء أمره وقضاؤه، وظهرت آياته، وقيل: المعنى: أنها زالت الشبه في ذلك اليوم، وظهرت المعارف، وصارت ضرورية، كما يزول الشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه، وقيل: جاء قهر ربك وسلطانه، وانفراده بالأمر، والتدبير من غير أن يجعل ويفوض إلى أحد من عباده شيئًا من ذلك. انتهى.
﴿و﴾ جاء ﴿الْمَلَكُ﴾؛ أي: ونزلت ملائكة كل سماء حالة كونهم ﴿صَفًّا صَفًّا﴾
(٢) النسفي.
٣ - ٢٣ ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾؛ أي: ويوم إذ كشفت جهنم للناظرين بعد أن كانت غائبة محجوبة عنهم، كقوله تعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦)﴾؛ أي: أظهرت حتى رآها الخلق وعاينوها، وليس المراد أنها نقلت عن مكانها إلى مكان آخر، فالمجيء بها عبارة عن إظهارها حتى يراها الخلق مع ثباتها في مكانها، فإن من المعلوم أنها لا تنفك عن مكانها، و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ منصوب بـ ﴿جيء﴾، و ﴿بِجَهَنَّمَ﴾: نائب فاعل له والباء للتعدية.
وأخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش، لها تغيظ وزفير، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا جاء لركبتيه يقول: يا رب نفسي نفسي"، إلا النبي - ﷺ - فيقول: "أمتي أمتي" فالمجيء (٢) بها على حقيقته، فالجر يدل على انفكاكها من مكانها، وتأوله الأولون على التجوز بأن معنى يجرون: يباشرون أسباب ظهورها، وقيل: المراد بمجيء جهنم: مجيء صورتها المثالية، ولا مناقشة فيه، فيكون كمجيء المسجد الأقصى إلى مرأى النبي - ﷺ - حين سأله قريش عن بعض أوصافه في قصة المعراج.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ بدل (٣) من قوله: ﴿إِذَا دُكَّتِ﴾، والعامل فيهما قوله تعالى: ﴿يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: يوم إذ دكت الأرض دكًا دكًا، وجاء ربك والملك صفًا صفًا، يتذكر الإنسان ما فرَّط وقصر فيه من حقوق ربه، وحقوق الخلق بتفاصيله، بمشاهدة آثاره
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
وقوله: ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾؛ أي: ومن أين له العظة، وقد فاته أوانها؟، اعتراض بين البدل والمبدل منه، جيء به لإفادة أنه ليس بتذكر حقيقة؛ لخلوه عن الفائدة بعدم وقوعه في أوانه، و ﴿أَنَّى﴾: خبر مقدم لـ ﴿الذِّكْرَى﴾، و ﴿لَهُ﴾: متعلق بما تعلق به الخبر؛ أي: ومن أين يكون له التذكر، والاتعاظ، وقد فات أوانه، وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: ومن أين له منفعة الذكرى، وبه يرتفع التناقض الواقع بين إثبات التذكر أولًا، ونفيه ثانيًا.
٢٤ - وقوله: ﴿يَقُولُ﴾ الإنسان يومئذٍ ﴿يا﴾ أيها الحاضرون ﴿لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ بدل اشتمال من ﴿يَتَذَكَّرُ﴾، أو استئناف وقع عن سؤال نشأ عنه، كأنه قيل: ماذا يقول عند تذكره؟ فقيل: يا ليتني عملت لحياتي هذه - يعني: لتحصيل الحياة الأخروية التي هي حياة نافعة دائمة غير منقطعة - أعمالًا صالحةً أنتفع بها اليوم، على أن اللام للتعليل، ويحتمل كون اللام للتوقيت؛ أي: يا ليتني قدمت أعمالًا صالحة تنفعني اليوم وقت حياتي الدنيوية، ويجوز أن يكون المعنى: قدمت عملًا ينجيني من العذاب، فأكون من الأحياء، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (١٣)﴾.
وحاصل معنى قوله: ﴿يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: يوم إذ حدثت (١) تلك الحوادث والدواهي تذهب الغفلة عن الإنسان، ويتذكر المرء ما كان قد فرط وقصر فيه، وعرف أن ما كان فيه كان ضلالًا، وأنه كان يجب أن يكون على حال خير مما كان عليها، ثم بين أن هذه الذكرى لا فائدة فيها، فقال: ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾؛ أي: ومن أين لهذه الذكرى فائدة، أو ترجع إليه بعائدة، وقد فات الأوان، وحمَّ القضاء.
٢٥ - ثم بين مآله وعاقبة أمره، فقال: ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال.. ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)﴾. قرأ الجمهور: ﴿لَا يُعَذِّبُ﴾ و ﴿وَلَا يُوثِقُ﴾ مبنيين للفاعل، و ﴿أَحَدٌ﴾ في الموضعين فاعل، و ﴿العذاب﴾ بمعنى: التعذيب، كالسلام بمعنى: التسليم، وكذا الوثاق بمعنى: الايثاق، كالعطاء بمعنى الإعطاء، وهو الشد بالوثاق، والوثاق: ما يشد به من الحديد والحبل، والضميران في قوله: ﴿عَذَابَهُ﴾ ﴿وَثَاقَهُ﴾ عائدان إلى الله تعالى، فهما مصدران مضافان إلى الفاعل.
٢٦ - والمعنى: لا يتولي عذاب الله ووثاقه أحد سواه، إذ الأمر كله لله، فلا يلزم أن يكون يوم القيامة معذِّب سوى الله، لكنه لا يعذِّب أحد مثل عذابه، وهو قول ابن عباس والحسن، وفي "عين المعاني": لا يعذب كعذاب الله ووثاقه في الآخرة أحدٌ في الدنيا. أو عائدان للإنسان، فيكونان مصدرين مضافين إلى المفعول، والمعنى عليه: لا يعذب أحد تعذيبًا مثل تعذيب الله هذا الكافر، ولا يوثق أحدٌ إيثاقًا مثل إيثاق الله هذا الكافر بالسلاسل والأغلال.
وقرأ ابن سيرين (٢): وابن أبي إسحاق وسوار القاضي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو: بفتح الذال من ﴿يعذَّب﴾ والثاء من ﴿يوثَق﴾ مبنيين للمفعول، والضميران للإنسان، والمصدران مضافان للمفعول؛ أي: لا يعذب أحد مثل عذاب ذلك الإنسان، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال أحد مثل وثاق ذلك الإنسان، وظاهره يقتضي أن يكون عذابه أشد من عذاب إبليس إلا أن يكون المراد أحد من هذا الجنس، كعصاة المؤمنين، فالمراد (٣) بالإنسان حينئذٍ: الكافر؛ أي: لا يعذب من ليس بكافر كعذاب
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
وحاصل المعنى على القراءة الأخيرة - أعني قراءة الكسائي -: أي (١) فيومئذٍ لا يصاب أحد بعذاب مثل ذلك العذاب الذي يصيب ذلك الإنسان الذي أبطره الغنى، فجحد نعمة الله عليه، أو أفسده الفقر حتى عتا في الأرض فسادًا، ولا يوثق أحد من الخلائق وثاقًا مثل هذا الوثاق الذي يوثقه ذلك الإنسان، ولا يخفى ما في ذلك من تقوية الذكر لمن له قلب يذكر ووجدان يشعر.
وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع - بخلاف عنهم -: ﴿وِثاقه﴾ بكسر الواو، والجمهور: بفتحها.
٢٧ - ولما فرغ سبحانه وتعالى من حكاية أحوال الأشقياء.. ذكر بعض أحوال السعداء، فقال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧)﴾؛ أي: ويقال للمؤمن يومئذٍ تكرمةً له: يا أيتها النفس التي قد استيقنت الحق واطمأنت إليه، فلا يخالجها شك، ووقفت عند حدود الشرع، فلا تزعزعها الشهوات، ولا تضطرب بها الرغبات: ارجعي إلى جوار ربك دار الكرامة، والاطمئنان (٢)، والسكون بعد الانزعاج، وسكون النفس: إنما هو بالوصول إلى غاية الغايات في اليقين والمعرفة والشهود. وفي قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ تنبيه على أنه بمعرفته تعالى، والإكثار من عبادته يكتسب اطمئنان النفس، وإذا وصلت إلى مقام الاطمئنان بذكر الله.. صار صاحبها
(٢) روح البيان.
وقال مقاتل: هي الآمنة المطمئنة، وقال ابن كيسان: المطمئنة بذكر الله، وقيل: المطمئنة: هي الآمنة التي لا يلحقها خوف ولا حزن، قال ابن زيد: يقال لها ذلك عند الموت، وخروجها من جسد المؤمن في الدنيا، وقيل: عند البعث، وقيل: عند دخول الجنة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يَا أَيَّتُهَا﴾ بتاء التأنيث، وقرأ زيد بن علي: ﴿يا أيها﴾ بغير تاء، ولا أعلم أحدًا ذكر أنها تذكر، وإن كان المنادى مؤنثًا إلا صاحب "البديع"، وهذه القراءة شاهدة بذلك، ولذلك وجه من القياس، وذلك أنه لم يثنَّ ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع، فكذلك لم يؤنث في نداء المؤنث.
والمعنى: أي ويقول الله سبحانه وتعالى للمؤمن إكرامًا له بلا واسطة، كما كلم موسى عليه السلام، أو على لسان الملك عند خروج الروح من الجسد، أو عند تمام الحساب.
٢٨ - ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾؛ أي: إلى ما وعدك ربك من الكرامة والزلفى، فكونه تعالى منتهى الغاية، إنما هو بهذا الاعتبار، فسقط تمسك المجسمة، واستدل بالرجوع الذي هو العود على تقدم الروح خلقًا حالة كونك ﴿رَاضِيَةً﴾ بما أوتيت من النعيم المقيم ﴿مَرْضِيَّةً﴾ عند الله تعالى؛ أي (٣): ارجعي إلى محل الكرامة بجوار ربك راضية بما عملت في الدنيا، مرضيًا عنك عملك الذي عملت فيها، إذ لم تكوني ساخطة لا في الغنى ولا في الفقر، ولم تتجاوزي حدود الشرع فيما لك حق، وما عليك من واجب، وقال عكرمة وعطاء: معنى {ارْجِعِي إِلَى
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
٢٩ - ثم ذكر جميل عاقبتها فقال: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩)﴾؛ أي: في زمرة عبادي الصالحين، وكوني من جملتهم، وانتظمي في سلكهم
٣٠ - ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)﴾ ودار كرامتي معهم، كقوله تعالى: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾، فالدخول في زمرة الخواص هي السعادة الروحانية، والدخول معهم في الجنات، ودرجاتها هي السعادة الجسمانية. وقيل: المراد بالنفس: الروح.
والمعنى: فادخلي في أجساد عبادي التي فارقت عنها، وادخلي دار ثوابي، ويؤيد هذا المعنى قول من قال: إن الخطاب عند البعث، وذهب بعضهم: إلى أنه عند الموت، كما مر آنفًا، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية، وأبو بكر جالس، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذا!، فقال: "أما إنه سيقال لك هذا". وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل: نزلت في عثمان بن عفان حين وقف بئر رومة، وقيل: نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير.. فحوِّل وجهي إلى قبلتك، فحوَّلَ الله وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوله عنها. والمراد بالآية (١): كل نفس مطمئنة على العموم، ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿عِبَادِي﴾ جمعًا، وابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح والكلبي وأبو شيخ الهنائي واليماني: ﴿في عبدي﴾ على الإفراد، والأظهر أنه أريد به اسم الجنس، فمدلوله ومدلول الجمع واحد. وتعدى ﴿فَادْخُلِي﴾ أولًا بـ ﴿فِي﴾، وثانيًا بغير في، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي.. تعدت إليه بقي، تقول: دخلت في الأمر، ودخلت في غمار الناس، ومنه قوله: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩)﴾ وإذا كان المدخول فيه ظرفًا حقيقيًا تعدَّت إليه في الغالب بغير وساطة في، ومنه قوله: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)﴾، وقال بعض أهل الإشارة:
(٢) البحر المحيط.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف، فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير مثله على خلقته، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجًا منه، فلما دفن.. تليت هذه الآية على شفير القبر، لا يرى من تلاها: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾.
وحاصل معنى الآية (٢): ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩)﴾؛ أي: فادخلي في زمرة عبادي المكرمين، وانتظمي في سلكهم، وكوني في جملتهم، فالنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة، يشرق بعضها على بعض، وكأنها تربى في هذه الدنيا بالآلام، وتزين بالمعارف والعلوم، حتى إذا فارقت الأبدان.. جعلت في أماكن متقاربة، بينها صفاء ومودة، وحسن صلة ومحبة. ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)﴾ فتمتعي فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
(٢) المراغي.
الإعراب
﴿وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤)﴾.
﴿وَالْفَجْرِ (١)﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم ﴿الْفَجْرِ﴾: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالفجر، والجملة مستأنفة، ﴿وَلَيَالٍ﴾: معطوف على ﴿الْفَجْرِ﴾ مجرور بالفتحة الظاهرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف علة واحدة تقوم مقام علتين، وهي: صيغة منتهى المجموع؛ لأنه على زنة مفاعل، كما ذكره ابن مالك في "الخلاصة":
وَكُنْ لِجَمْعٍ مُشْبِهٍ مَفَاعِلا | أو الْمَفَاعِيْلَ بِمَنْعٍ كَافِلًا |
﴿عَشْرٍ﴾: صفة ﴿وَلَيَالٍ﴾، مجرور بالكسرة الظاهرة ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ﴾: معطوفات أيضًا على ﴿الْفَجْرِ﴾، مجرورات بالكسرة الظاهرة ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بفعل القسم المحذوف تقديره: أقسم بالليل وقت سراه ﴿يَسْرِ﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لرعاية الفاصلة، أو اتباعًا لخط المصحف، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّيْلِ﴾، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، وجواب القسم في هذه المذكورات كلها محذوف تقديره: لنجازين كل أحد بما عمل، أو لنعذبن.
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (١٣) إِنَّ
﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام التفخيمي والتعظيمي للأمور المقسم بها ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبر مقدم ﴿قَسَمٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿لِذِي حِجْرٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿قَسَمٌ﴾، والجملة جملة إنشائية مسوقة لتقرير ما قبلها وتفخيمه، لا محل لها من الإعراب ﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريري؛ أي: قد رأيت وعلمت علمًا ضروريًا ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب مجزوم بـ ﴿لم﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والجملة جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل نصب على المصدرية بـ ﴿فَعَلَ﴾، والمعنى: قد علمت أيَّ فعل فعل ربك بعاد. ﴿فَعَلَ رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل ﴿بِعَادٍ﴾: متعلق بـ ﴿فَعَلَ﴾، والجملة الفعلية المعلقة بـ ﴿كَيْفَ﴾ الاستفهامية سدت مسد مفعولي ﴿تَرَ﴾، ﴿إِرَمَ﴾: بدل من ﴿عاد﴾ بدل كل من كل، أو عطف بيان له مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي ﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾: صفة لـ ﴿إِرَمَ﴾ مجرور بالكسرة ﴿الْعِمَادِ﴾: مضاف إليه ﴿الَّتِي﴾: صفة ثانية لـ ﴿إِرَمَ﴾، وجملة ﴿لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا﴾ صلة الموصول ﴿يُخْلَقْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿مِثْلُهَا﴾: نائب فاعل ﴿فِي الْبِلَادِ﴾: متعلق بـ ﴿يُخْلَقْ﴾، ﴿وَثَمُودَ﴾: معطوف على ﴿عاد﴾ ﴿الَّذِينَ﴾: نعت لـ ﴿ثَمُودَ﴾: ﴿جَابُوا الصَّخْرَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول ﴿بِالْوَادِ﴾: متعلق بـ ﴿جَابُوا﴾، و ﴿الباء﴾ بمعنى في، وحذفت الياء من ﴿الواد﴾؛ لأنها من ياءات الزوائد، ﴿وَفِرْعَوْنَ﴾: عطف على ﴿عاد﴾، ﴿ذِي الْأَوْتَادِ﴾ صفة لـ ﴿فِرْعَوْنَ﴾، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة للمذكورين من عاد وإرم وثمود، أو منصوب على الذم، وجملة ﴿طَغَوْا﴾ صلة الموصول ﴿فِي الْبِلَادِ﴾: متعلق بـ ﴿طَغَوْا﴾، ﴿فَصَبَّ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿صب﴾ فعل ماض ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿صب﴾ ﴿رَبُّكَ﴾: فاعل ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿طَغَوْا﴾، ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه ﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿بالمرصاد﴾: جار ومجرور خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (١٦) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى
﴿فَأَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن ربك لبالمرصاد لأعمال عباده خيرًا أو شرًا ليجازيهم عليها، وأردت بيان أحوال الإنسان، هل هو في مراقبة ربه فيشكر على نعمه، ويصبر على نقمه، أم لا؟ فأقول لك: أما الإنسان. ﴿أما﴾: حرف شرط وتفصيل ﴿الْإِنْسَانُ﴾: مبتدأ ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ ﴿يقول﴾ ﴿مَا﴾: زائدة ﴿ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها مجردة عن معنى الشرط، ﴿فَأَكْرَمَهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أكرمه﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الرب، ومفعول به، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة ﴿ابْتَلَاهُ﴾. ﴿وَنَعَّمَهُ﴾: معطوف على ﴿أكرمه﴾ ﴿فَيَقُولُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها، وجملة ﴿يقول﴾ في محل الرفع خبر عن ﴿الْإِنْسَانُ﴾، ولا يمنع تعلق الظرف بـ ﴿يقول﴾ كونه خبر المبتدأ؛ لأن الظرف في نية التأخير، والتقدير: فأما الإنسان.. فقائل ربي أكرمني وقت الابتلاء، والجملة من المبتدأ والخبر جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿رَبِّي﴾: مبتدأ، وجملة ﴿أَكْرَمَنِ﴾ خبره، وحذفوا الياء من ﴿أَكْرَمَنِ﴾ اجتزاءً بكسر نون الوقاية، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾ وجملة قوله: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (١٦)﴾ معطوفة على جملة ﴿فَأَمَّا﴾ الأولى مماثلة لها في إعرابها ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر للإنسان عن قوله المذكور. ﴿بَل﴾: حرف إضراب من قبيح إلى أقبح منه ﴿لَا﴾: نافية ﴿تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما هو أقبح من قول الإنسان المذكور، ﴿وَلَا تَحَاضُّونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿تُكْرِمُونَ﴾. ﴿عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ متعلق بـ ﴿تَحَاضُّونَ﴾، ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿تُكْرِمُونَ﴾ ﴿أَكْلًا﴾: مفعول مطلق ﴿لَمًّا﴾: صفة ﴿أَكْلًا﴾، ﴿وَتُحِبُّونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿لا تكرمون﴾ ﴿الْمَالَ﴾: مفعول به ﴿حُبًّا﴾: مفعول مطلق ﴿جَمًّا﴾ صفة ﴿حُبًّا﴾.
{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر لهم عن ذلك كله ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿يَتَذَكَّرُ﴾، وجملة ﴿دُكَّتِ﴾ في محل الخفض بإضافة الظرف إليها ﴿دُكَّتِ الْأَرْضُ﴾: فعل ونائب فاعل ﴿دَكًّا دَكًّا﴾: حال مركبة من ﴿الْأَرْضُ﴾ في محل النصب مبني على فتح الجزءين؛ أي: مدكوكةً دكًا بعد دك، بني الجزء الأول لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا؛ بافتقاره إلى الجزء الثاني، وبني الجزء الثاني لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا؛ لتضمنه معنى الحرف، وحركا ليعلم أن لهما أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة للخفة مع ثقل التركب، وليس الثاني تأكيدًا للأول، بل التكرر للدلالة على الاستيعاب، كقرأت النحو بابًا بابًا، وعلمته الخط حرفًا حرفًا، وأعرب ابن خالويه ﴿دَكًّا﴾ الأول: مصدرًا، والثاني: تأكيدًا، وليس بعيدًا. ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على جملة ﴿دُكَّتِ﴾، ﴿وَالْمَلَكُ﴾: معطوف على ﴿رَبُّكَ﴾. ﴿صَفًّا صَفًّا﴾: حال مركبة من الملك؛ أي: مصطفين، أو ذوي صفوف، نظير ﴿دَكًّا دَكًّا﴾ والمجوز لمجيء الحال جامدة دلالتها على الترتيب، وضابطه: أن يأتي التفصيل بعد ذكر المجموع بجزأيه مكررًا، وفي إعراب هذا المكرر خلاف طويل، اقتصرت على الراجح منها، فراجعه في محله ﴿وَجِيءَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ ﴿وَجِيءَ﴾، و ﴿بِجَهَنَّمَ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿جيء﴾، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة ﴿دُكَّتِ﴾، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف لمثله بدل من ﴿إذا﴾ في قوله: ﴿إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ﴾ بدل كل من كل، وجملة ﴿يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾ جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب؛ أي: يوم إذا دكت الأرض دكًا دكًا، ويوم إذ جاء ربك والملك صفًا صفًا، ويوم إذ جيء بجهنم يتذكر الإنسان تفاصيل أعماله التي عملها في الدنيا، ﴿وَأَنَّى﴾. ﴿الواو﴾: حالية ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون؛ لتضمنه معنى حرف الاستفهام، والظرف متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا. ﴿لَهُ﴾: متعلق بما تعلق به الظرف، ﴿الذِّكْرَى﴾: مبتدأ مؤخر، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: ومن أين حاصلة له منفعة الذكرى، وإلا فبين ﴿يَتَذَكَّرُ﴾ و [﴿أَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾] تناف وتناقض، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَتَذَكَّرُ﴾.
﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة الفعلية بدل اشتمال من جملة قوله: ﴿يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾، أو مستأنفة. ﴿لَيْتَنِي﴾: ﴿يا﴾: حرف تنبيه، أو حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء، وجملة النداء في محل النصب مقول القول لـ ﴿يَقُولُ﴾، ﴿ليت﴾: حرف تمنٍ ونصب، و ﴿النون﴾ للوقاية؛ لأنها تبقي الحرف على حركة بنائه الأصلي، وياء المتكلم في محل النصب اسمها، وجملة ﴿قَدَّمْتُ﴾، خبرها ﴿لِحَيَاتِي﴾: متعلق بـ ﴿قَدَّمْتُ﴾، وجملة ﴿ليت﴾ في محل النصب مقول القول ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ ﴿يُعَذِّبُ﴾، ﴿لَا﴾: نافية ﴿يُعَذِّبُ﴾: فعل مضارع مبني للفاعل، ﴿عَذَابَهُ﴾: مفعول مطلق، والضمير فيه عائد إلى الله، فيكون مصدرًا مضافًا إلى الفاعل ﴿أَحَدٌ﴾: فاعل، وقرىء ﴿يعذب﴾ بالبناء للمفعول، فيكون ﴿أَحَدٌ﴾ نائب فاعل، والضمير في ﴿عَذَابَهُ﴾ للإنسان الكافر، فيكون مصدرًا مضافًا إلى المفعول، والجملة الفعلية على كلا القراءتين مستأنفة، وجملة قوله: ﴿وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)﴾ معطوفة على ما قبلها مماثلة له في إعرابه في كلتا القراءتين. ﴿يَا أَيَّتُهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿آية﴾: منادى نكرة مقصودة مبني على الضم، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات، أي: من الإضافة ﴿النَّفْسُ﴾: بدل من ﴿أي﴾ ﴿الْمُطْمَئِنَّةُ﴾: صفة لـ ﴿النَّفْسُ﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: يقول الله سبحانه للمؤمن بلا واسطة، أو بواسطة الملك: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧)...﴾ إلخ، وجملة القول المحذوف مستأنفة. ﴿ارْجِعِي﴾: فعل أمر مبني على حدف النون، والياء فاعل ﴿إِلَى رَبِّكِ﴾: متعلق بـ ﴿ارْجِعِي﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها جواب النداء ﴿رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾: حالان من فاعل ﴿ارْجِعِي﴾، ﴿فَادْخُلِي﴾: فعل أمر وفاعل، معطوف على ﴿ارْجِعِي﴾، ﴿فِي عِبَادِي﴾: متعلق بـ ﴿ادخلي﴾، ﴿وَادْخُلِي﴾: معطوف أيضًا على ﴿ارْجِعِي﴾، ﴿جَنَّتِي﴾: مفعول به على التوسع. والله أعلم.
﴿وَالْفَجْرِ (١)﴾ الفجر: هو الوقت الذي ينشق فيه الضوء، وينفجر فيه النور، وقد أقسم ربنا به؛ لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وما يترتب على ذلك من المنافع، كانتشار الناس وسائر الحيوان من الطير والوحش لطلب الرزق، كما مر.
﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢)﴾ جمع: ليلة، وهي الزمن الذي بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر أو طلوع الشمس، وهذه الليالي العشر غير متعينة، بل في كل شهر، وهذه العشر يتشابه حالها مع حال الفجر، فيكون ضوء القمر فيها مطاردًا لظلام أول الليل إلى أن تغلبه الظلمة، كما يهزم ضوء الصبح ظلمة الليل حتى سطع النهار، ولا يزال الضوء منتشرًا إلى الليل الذي بعده، وضوء الأهلة في عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام، ثم لا يزال الليل يغالبه إلى أن يغلبه، فيسدل على الكون حجبه.
﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣)﴾؛ أي: والزوج والفرد من هذه اليالي، فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة، ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد، والشفع: الزوج من العدد، يقال: أشفع هو أم وتر؟؛ أي: أزوج هو أم فرد، ويجمع على أشفاع وشفاع، ومصدر شفع يشفع - من باب فتح - شفعًا الشيء؛ أي: صيره شفعًا؛ أي: زوجًا بأن يضيف إليه مثله، يقال: كان وترًا فشفعه بآخر؛ أي: قرنه به. وفي "القاموس": والشفع: خلاف الوتر، وهو الزوج، وشفعه كمنعه ﴿وَالْوَتْرِ﴾ وفي "القاموس": والوتر - بالكسر ويفتح - الفرد، أو ما لم يتشفع من العدد.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤)﴾ يقال: سرى يسري سُرى ومسرى: إذا سار عامة الليل. وفي "المصباح": سريت الليل، وسريتُ به سرى، والاسم السراية: إذا قطعته بالسير، وأسريت بالألف لغة حجازية، ويستعملان متعديين بالباء إلى المفعول، ويقال: سريت بزيد، وأسريت به، والسرية - بضم السين وفتحها - أخص، يقال: سرينا سريةً من الليل وسرية، والجمع: السرى مثل: مدية ومدى.
قال أبو زيد: ويكون السري أول الليل وأوسطه وآخره، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيهًا لها بالأجسام مجازًا واتساعًا. قال الله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤)﴾، والمعنى: إذا يمضي. ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)﴾؛ أي؛ لصاحب
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦)﴾ وعاد: جيل من العرب البائدة، يقولون: إنه من ولد عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ويلقب أيضًا: بإرم.
﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾؛ أي: سكان الخيام، وكانت منازلهم بالرمال والأحقاف إلى حضرموت، والعماد كالعمود، والجمع: عَمَد وعُمُد بفتحتين وبضمتين.
﴿وَثَمُودَ﴾: قبيلة من العرب البائدة كذلك، وهي من ولد كاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز.
﴿جَابُوا الصَّخْرَ﴾؛ أي: قطعوه ونحتوه ﴿بِالْوَادِ﴾؛ أي: في الوادي الذي كانوا يسكنون فيه، وفي "المختار": وجاب: خرق وقطع، وبابه: قال، وأصل جابوا: جوبوا، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ففيه إعلال بالقلب.
﴿وَفِرْعَوْنَ﴾ هو حاكم مصر الذي كان في عهد موسى عليه السلام.
﴿ذِي الْأَوْتَادِ﴾؛ أي: ذي المباني العظيمة المشيدة الثابتة جمع: وتد بالتحريك وبكسر التاء أيضًا.
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١)﴾؛ أي: تجاوزوا الحد في الظلم والعتو، وأصل طغوا: طغيوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لما التقت ساكنة بواو الجماعة.
﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ﴾؛ أي: أفرغ وأنزل وألقى، وصبُّ الماء: إراقته من أعلى؛ أي: أنزل عليهم إنزالًا شديدًا ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾؛ أي: أنواعًا من العقوبات التي أنزلها عليهم جزاء طغيانهم، والسوط في الأصل: الجلد المضفور؛ أي: المنسوج المفتول الذي يضرب به، كما مر.
﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾ والمرصاد: هو المكان الذي يقوم فيه الرصد، والرصد: من يرصد الأمور؛ أي: يترقبها ليقف على ما فيها من الخير والشر، ويطلق أيضًا على الحارس الذي يحرس ما يخشى عليه، وهو مفعال من رصده، كالميقات من وقته،
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾؛ أي: اختبره ببسط الرزق، أصله: ابتليه بوزن افتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَأَكْرَمَهُ﴾؛ أي: صير مكرمًا يرفل في بحبوحة النعيم.
﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ﴾؛ أي: اختبره بتضييق الرزق عليه. ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾؛ أي: صيره فقيرًا مقترًا عليه في الرزق، تقول: قدرت عليه الشيء؛ أي: ضيقته عليه، وكأنك جعلته بقدر لا يتجاوزه. ﴿أَهَانَنِ﴾ أصله: أهوَيُ، بوزن: أفعل، نقلت حركة الواو إلى الهاء فسكنت، فقلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها الآن.
﴿وَلَا تَحَاضُّونَ﴾ أصله: تتحاضضون بوزن: تتفاعلون، حذفت إحدى التاءين للتخفيف، وأدغمت الضاد في الضاد، فصار تحاضون. وقرأ غير الكوفيين: ﴿تحضون﴾ بضم الحاء وأصله: تحضضون بوزن: تفعلون بمعنى: تحاضون المتقدم، نقلت حركة الضاد الأولى إلى الحاء، ثم أدغمت لما سكنت في الضاد الثانية من الحض، وهو الحث والتحريض. ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ﴾ التراث: بوزن فعال الميراث، وأصله: وراث كتجاه في وجاه، قلبت واوه تاءً، والميراث: هو المال المنتقل من الميت. ﴿أَكْلًا لَمًّا﴾ واللم: الجمع، يقال؛ كتيبة ملمومة؛ أي: مجتمعة بعضها إلى بعض، وفي "المختار": ﴿أَكْلًا لَمًّا﴾ فعله من باب رد، يقال: لم الله شعثه؛ أي: أصلح وجمع ما تفرق من أمره، وقال أبو عبيدة: لممت ما على الخوان: إذا أكلت جميع ما عليه بأسره. ﴿حُبًّا جَمًّا﴾ الجم: الكثير، يقال: جم الماء في الحوض إذا اجتمع فيه وكثر. قال الشاعر:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا | وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا |
﴿الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ من الاطمئنان: وهو الاستقرار والثبات.
﴿مَرْضِيَّةً﴾ اسم مفعول من رضي، وأصله: مرضوية بوزن: مفعول اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء، ثم كسرت الضاد لمناسبة الياء، ولام المادة واو، وعليه فـ ﴿رَاضِيَةً﴾ أصله: راضوة، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة، كما فعلوا في رضي أصله: رضو من الرضوان.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التنكير في قوله: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢)﴾ للدلالة على تعظيمها؛ لأنها مخصوصة بفضائل ليست لغيرها، ولذلك أقسم الله بها، وذلك كالاشتغال بأعمال الحج في عشر ذي الحجة.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣)﴾.
ومنها: تقييد الليل بالسرى في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤)﴾ لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة؛ كأن جميع الحيوانات أعيدت إليهم الحياة بعد الموت في الليل، وتسببوا بذلك لطلب الأرزاق المعدة للحياة الدنيوية التي يتوسل بها إلى سعادة الدارين. ذكره في "الروح".
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)﴾ لتحقيق فخامة شأن المقسم بها، وكونها أمورًا جليلة بالإعظام والإجلال عند أرباب العقول، وللتنبيه على أن الإقسام بها أمر معتد به، حقيق بأن يؤكد به الإخبار.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿حِجْرٍ﴾ للدلالة على تعظيمها، قال بعض الحكماء: العقل للقلب بمنزلة الروح للجسد، فكل قلب لا عقل له، فهو ميت
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦)﴾؛ لأن الهمزة فيه للإنكار وفي قوة النفي، ونفي النفي إثبات، فصار تقريريًا إثباتيًا، أي: قد علمت يا محمد بإعلام الله تعالى، وبالتواتر أيضًا كيف عذب ربك عادًا.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (١٣)﴾، فقد استعمل الصب، وهو خاص بالماء لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب. قال الشاعر:
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ مُحْصَرَاتٍ كَأَنَّهَا | شَآبِيْبُ لَيْسَتْ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَطْرِ |
صَبَبْنَا عَلَيْهِمْ ظَالِمِيْنَ سَيَاطَنَا | فَطَارَتْ بِهَا أَيْدٍ سِرَاعٌ وَأَرْجُلُ |
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (١٤)﴾ شبه كونه تعالى حافظًا لأعمال العباد مراقبًا عليها، ومجازيًا على ما دق وجل منها، بحيث لا ينجو منه بحال من قعد على الطريق مترصدًا لمن يسلكها ليأخذه، فيوقع به ما يريد، ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر على طريقة الاستعارة التمثيلية.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ...﴾ إلخ، وبين قوله: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ...﴾ إلخ، فقد قابل بين توسعة الرزق وإقتاره، وبين الإكرام والإهانة.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قول: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧)﴾ للإيذان باقتضاء ملاحظة جنايته السابقة لمشابهته بالتوبيخ تشديدًا للتقريع، وتأكيدًا للتنشيع، والجمع فيه باعتبار معنى الإنسان، إذا المراد به الجنس، وكان مقتضى السياق أن يقال: بل لا يكرمون اليتيم.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ﴾، وقوله: ﴿وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ﴾، وقوله: ﴿يَتَذَكَّرُ﴾ ﴿الذِّكْرَى﴾.
ومنها: إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، والإخبار عنه مجاز في قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)﴾، وهو نظير قول من رأى موكبًا عظيمًا، أو جيشًا خضمًا، فقال: جاء الملك نفسه، وهو يعلم أنه ما جاء إلا جيشه، فقد جعل في الآية مجيء جلائل آياته مجيئًا له سبحانه وتعالى، فأسند المجيء إليه على سبيل المجاز، كذا قالوا، وهذا إنما يتمشى على مذهب المؤولين.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة:
١ - القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه.
٢ - ضرب المثل بالأمم البائدة، كعاد وثمود.
٣ - كثرة النعم على العبد ليست دليلًا على إكرام الله له، ولا البلاء دليلًا على إهانته وخذلانه.
٤ - وصف يوم القيامة وما فيه من الأهوال.
٥ - تمني الأشقياء العودة إلى الدنيا.
٦ - كرامة النفوس الراضية المرضية، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها (١).
شعرٌ
وَإِنِّيْ وَإِنْ كُنْتُ أَخِيْرًا زَمَانُهُ | لآتٍ بِما لَمْ تَسْتَطِعْهُ الأَوَائِلُ |
* * *
وبتمام تفسير هذه السورة الكريمة تم المجلد الحادي والثلاثين من هذا الكتاب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، ويليه المجلد الثاني والثلاثين، وأوله سورة البلد.
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الثاني والثلاثون»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[٣٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله على إفضاله والشكر على نواله، والصلاة والسلام على نبيه وآله، أما بعد: فلما فرغتُ من تفسير المجلد الحادي والثلاثين.. تفرغتُ للشروع في المجلد الثاني والثلاثين إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه، فأقول مستمدًا منه الفيض والإمداد والتوفيق لطريق السداد والرشاد، وقولي هذا:سورة البلد
سورة البلد؛ ويقال لها: سورة لا أقسم، مكية بلا خلاف (١)، نزلت بعد سورة ق؛ وأخرج ابن الضّريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة لا أقسم بهذا البلد بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: عشرون آية، وكلماتها (٢): اثنتان وثمانون كلمة، وحروفها: ثلاث مئة وعشرون حرفًا.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها:
١ - أنه تعالى ذم في السابقة من أحب المال وأكل التراث، ولم يحض على طعام المسكين، وذكر هنا الخصال التي تُطلب من صاحب المال من فك الرقبة والإطعام في يقوم المسغبة.
٢ - ذكر هناك حال النفس المطمئنة، وذكر هنا ما يكون به الاطمئنان؛ وهو الإيمان والتواصي بالصبر.
وعبارة أبي حيان (٣): ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في السابقة ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم، وحالة التقدير، وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر، وما آل إليه حاله وحال المؤمن.. أتبعه في هذه السورة بنوع من ابتلائه، ومن حاله السيء، وما آل إليه في الاخرة. انتهى. وأيضًا سورة البلد فيها ذكر أحوال الدول
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة البلد كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
فضلها: ومن فضائلها: ما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "من قرأ سورة لا أقسم بهذا البلد.. أعطاه الله سبحانه وتعالى الأمانة من غضبه يوم القيامة" وفيه مقال.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)﴾.المناسبة
تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها قريبًا، وأما قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)...﴾ الآيات، فالمناسبة بينها وبين ما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) ذكر أنه لا ينبغي للمفتونين بقوة أبدانهم المغرورين بواسع جاههم أن يتمادَوا في صلفهم وكبريائهم.. شرع يوبخهم على الاغترار بقوتهم الزائلة، ويذكرهم بما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة الحسية والعقلية.
قوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ...﴾ الآيات، المناسبة بينها وبين ما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر هؤلاء المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبًا للشهرة، وحبًا في حسن الأحدوثة، وأَنَّبَهم على افتخارهم بما صنعوا مع خلو بواطنهم من حسن النية، وبيّن لهم أن أفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق، والعقل المميز بين الخير والشر، والنفع والضر هو منه سبحانه وتعالى، وهو القادر على سلبه منهم.. أردفه ببيان أنه كان عليهم أن يشكروا تلك النعم، ويختاروا طريق الخير، ويرجحوا سبيل السعادة، فيفيضوا على الناس بشيء مما أفاض به عليهم، وأفضل ذلك أن يعينوا على تحرير الأرقاء من البشر، أو يواسوا الأيتام من أقاربهم حين العوز وعزة الطعام، أو يطعموا المساكين الذين لا وسيلة لهم إلى كسب ما يقيمون به أودهم؛