تفسير سورة التين

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة التين من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة التين
أهداف سورة التين
( سورة التين مكية، وآياتها ٨ آيات، نزلت بعد سورة البروج )
والحقيقة الرئيسية التي تعرضها سورة التين هي حقيقة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها.
يقسم الله سبحانه على هذه الحقيقة بالتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين.
وقد كثرت أقوال المفسرين في التين والزيتون، فقيل : هما جبلان بالشام، وقيل : هما هذان الأكلان اللذان نعرفهما بحقيقتهما، وقد أقسم الله بهما لأنهما عجيبان من بين الأشجار المثمرة.
وطور سينين. هو الطور الذي نودي موسى عليه السلام من جانبه، وهذا البلد الأمين. هو مكة بيت الله الحرام.
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تعديل، بانتصاب قامته وحسن صورته، واستجماعه لخواص الكائنات في تركيبه.
ثم رددناه أسفل سافلين.
أي : ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة الله عليه أن رددناه أسفل سافلين، حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم، لاستقامتها على فطرتها، وإلهامها تسبيح ربها، وأداء وظيفتها على هدى، بينما هو المخلوق في أحصن تقويم يجحد ربه ويرتكس مع هواه.
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. فطرة واستعداد. ثم رددناه أسفل سافلين. حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه وبينه له.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات... فلهم أجر دائم غير مقطوع ولا منقوص ولا ممنون.
فما يكذبك بالدين بعد ظهور هذه الحقيقة، وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية ؟
أليس الله بأحكم الحاكمين. أليس اله بأعدل العادلين، حين يحكم في أمر الخلق على هذا النحو ؟ أو أليست حكمة الله بالغة ؟
والعدل واضح والحكمة بارزة، ومن ثم ورد في الحديث المرفوع :( إذا قرأ أحدكم : والتين والزيتون. فأتى آخرها : أليس الله بأحكم الحاكمين. فليقل : بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين ).
مجمل ما تضمنته السورة
أقسم الله تعالى بأنه أحسن الخلق الإنسان، فجعله منتصب القامة، متسق الأعضاء والخواص، وقد يرده إلى أرذل العمر فيصير ضعيفا هرما.
أو أنه فطر الإنسان أحسن فطرة نفسا وبدنا وعقلا، إلا أنه تمشيا مع رغباته الأثيمة، ونزواته الشريرة، انحطت منزلة بعض أفراده، فصيّره الله إلى منازل الخزي والهوان، واستثنى الله تعالى من هذا المصير، أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير مقطوع، وأشارت السورة أيضا إلى أن الله تعالى وهو أعدل الحاكمين، وأعلى المدبرين حكما.

حالة النوع الإنساني خلقا وعملا
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والتين والزيتون ١ وطور سينين ٢ وهذا البلد الأمين ٣ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ٤ ثم رددناه أسفل سافلين ٥ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ٦ فما يكذّبك بعد بالدين ٧ أليس الله بأحكم الحاكمين ٨ ﴾
المفردات :
والتين والزيتون : قسم بهما، وقيل : قسم بمنبتهما من الأرض المباركة.
التفسير :
١- والتين والزيتون.
الله تعالى يقسم ببعض مخلوقاته ليلفت النظر إلى فضلها، أو يشير إلى مناكبتها وأماكن وجودها، وقد تعددت آراء العلماء في المراد بالتين والزيتون.
وأقوى الآراء هنا رأيان :
الرأي الأول :
المراد بهما : التين الذي نأكله، والزيتون الذي نأكله، وإنما أقسم بالتين لأنه غذاء وفاكهة ودواء، فهو غذاء لأنه طعام لطيف، سريع الهضم لا يمكث في المعدة، يلين الطبع، ويقلل البلغم، ويطهّر الكليتين، ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمّن البدن، ويفتح مسام الكبد والطحال، وهو خير الفواكه وأحمدها، وفي الأثر :( إنه يقطع البواسير، وينفع من النقرس ).
وكذلك أقسم الله بالزيتون لأنه فاكهة وإدام ودواء، يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب لأهل بعض البلاد ودهنهم، ويدخل في كثير من الأدوية.
قال تعالى : وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين. ( المؤمنون : ٢٠ ).
وقال تعالى : وزيتونا ونخلا. ( عبس : ٢٩ ).
الرأي الثاني :
أنهما كناية عن البلاد المقدّسة التي اشتهرت بالتين والزيتون، ويكثر ذلك في بيت المقدس، وجبل بيت المقدس، الذي بعث منه عيسى عليه السلام.
وبذلك يكون القسم في السورة بالأماكن المقدسة التي أرسل منها الرسل الكرام : موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء ( يعني المكان الذي كلّم الله عليه موسى )، وأشرق من ساعير ( يعني جبل بيت المقدس الذي بعث منه عيسى )، واستعلن من جبال فاران ( يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى الله عليه وسلم ).
المفردات :
وطور سينين : جبل المناجاة للكليم موسى عليه السلام، وسينين وسيناء علمان على الموضع الذي فيه جبل الطور.
التفسير :
٢- وطور سينين.
هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، ويقال له : طور سيناء بفتح السين وكسرها، وقرئ سينين بفتح السين وسينين بكسر السين، قيل : هو اسم للبقعة التي بجوار الجبل.
وقال الأخفش : سينين جمع بمعنى شجر، واحدته سينه أي شجرة، والقسم به لرفع ذكره، والتذكير بما كان عند ذلك الجبل من الآيات الباهرات التي ظهرت لموسى وقومه، وما كان بعد ذلك من سن الشريعة، الموسوية وإنزال التوراة.
المفردات :
البلد الأمين : مكة المكرمة.
التفسير :
٣- وهذا البلد الأمين.
وهو مكة المكرمة، وأمين بمعنى آمن، حيث يأمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه، فقد حرّم فيه العدوان، حتى لو وجد الإنسان قاتل أبيه في مكة فلا يحل له أن يقتله.
قال تعالى : أو لم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطّف الناس من حولهم... ( العنكبوت : ٦٧ ).
وقد سمى الله مكة بكة، وسماها أمّ القرى، وسماها حرما آمنا، وجعلها قبلة المسلمين إلى يوم الدين، وبها المسجد الحرام، والكعبة المشرفة، وبها ولد محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هاجر منها، وعاد إليها فاتحا منتصرا، ثم أنزل الله عليه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا... ( المائدة : ٣ ).
والمعنى : وأقسم بهذا البلد الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، والذي ولد فيه محمد صلى الله عليه وسلم، ونزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم في هذا البلد أول مرة بغار حراء، ثم تتابع الوحي وكملت شريعة الإسلام.
كما قال تعالى : لا أقسم بهذا البلد* وأنت حل بهذا البلد. ( البلد : ١، ٢ ).
المفردات :
لقد خلقنا : جواب القسم.
أحسن تقويم : أكمل تعديل : وأحسن صورة.
التفسير :
٤- لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.
هذا هو جواب القسم.
أي : أقسم بالتين والزيتون، وبجيل طور سينين، وبمكة البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن ما يكون من التعديل والتقويم، صورة ومعنى.
فقد خلق الله الإنسان معتدل القامة، جميل الصورة، وفي وجهه للنظر عينان، وللسمع أذنان، ولسان وشفتان، ومنحه الله يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعقلا يفكر به، ونفخ الله فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وكرّمه الله تكريما عظيما، وفضّله على كثير من مخلوقاته، فصدر الإنسان آية، وبطنه آية، وفرجه آية، إلى جوار الأجهزة المتعددة الموجودة في الإنسان كالجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والجهاز التناسلي، ثم ميّزه الله بالإرادة والاختيار، والعقل والفكر، وأرسل الله له الرسل، وأنزل له الكتب.
قال القرطبي : ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر، إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه. اه.
قال الشاعر :
وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
وقال تعالى : ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. ( الإسراء : ٧٠ ).
المفردات :
رددناه : رددنا الكافر، أو جنس الإنسان.
أسفل سافلين : إلى النار، أو الهرم وأرذل العمر.
التفسير :
٥- ثم رددناه أسفل سافلين.
أي : لقد خلقنا الإنسان في أفضل خلقة، حسيا ومعنويا، لكنه لم يشكر هذه النعمة، ولم يفطن لهذا الفضل، فرأيناه يكفر بفضل الله عليه، فيسجد للأصنام، ويؤثر هواه، ويسير وراء نزواته، ويفضّل اللهو والخمر والكفر، ومعاداة الرسل، فيستحق أن يكون من أهل النار، وأن يكون في أقبح خلقة، وأسفل درجة، بكفره وعناده، ثم بدخوله جهنم وبئس المصير.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى كالآتي.
خلقنا الإنسان في أفضل خلقة، وينتقل من الضعف إلى القوة والرشد وبلوغ الأشد، ثم يعود إلى أسفل سافلين ببلوغه مرحلة الكبر والضعف، فيعود ضعيف القوة، ضعيف الذاكرة، وربما وصل إلى مرحلة ضياع الذاكرة وخرف العقل، أو تغضّن الوجه واهتزاز اليد وقلة الحيلة.
وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من أن يرد إلى أرذل العمر، واختار جمع من المفسرين الرأي الأول، لأنه يرتبط بما قبله وبما بعده.
أي أن الله خلق الإنسان في أكمل صورة، لكن الكافر هوى بنفسه إلى مرحلة البهائم، أو أضل سبيلا، باختيار الكفر على الإيمان، والضلال على الهدى.
قال ابن كثير :
ثم رددناه أسفل سافلين.
أي إلى النار، قال ذلك مجاهد والحسن وأبو العالية وابن زيد، أي : بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار، إن لم يطع الله ويتبع الرسل، ولهذا قال بعد ذلك : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات...
وقال بعضهم :
ثم رددناه أسفل سافلين.
أي : إلى أرذل العمرi. واختار ذلك ابن جرير الطبري.
ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك، لأن الهرم قد يصيب بعضهم، وإنما المراد ما ذكرناه، كقوله تعالى : والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتii وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. ( العصر : ١-٣ ).
المفردات :
غير ممنون : غير مقطوع عنهم.
التفسير :
٦- إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون.
أي أن الكافر والعاصي يرد إلى أسفل سافلين في جهنم، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم في الآخرة ثواب أعمالهم غير منقوص، للذين أحسنوا الحسنى وزيادة... ( يونس : ٢٦ ). حيث تزداد وجوههم حسنا ونضارة، وإشراقا ونورا، بسبب النعيم الذي يتمتعون به، وبسبب رضوان الله عليهم، وبسبب الشباب والقوة والنعمة التي يمنحها الله لأهل الجنة، فلهم أن يشبّوا فلا يهرموا أبدا، ولهم أن ينعموا فلا يصيبهم البؤس وقالوا الحمد لله الذي أذهب هنا الحزن إن ربنا لغفور شكور. ( فاطر : ٣٤ ).
أو المعنى :
لكن الذين كانوا مؤمنين صالحين من الزّمنى والهرمى فلهم ثواب متصل دائم لا ينقص بالهرم وقلة العمل، ( جزاء امتثالهم، وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم، ومقاساة المشاق، والقيام بالعبادة مع ضعفهم ووهنهم.
أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس أنه قال في الآية : إذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له ما كان يعمل في شبيبته )iii.
المفردات :
بالدين : بالجزاء بعد البعث والحساب.
التفسير :
٧- فما يكذّبك بعد بالدين.
ما الذي يجعلك أيها الإنسان الكافر الجاحد مكذبا بيوم الدين والقيامة والبعث والجزاء، بعد أن قدّمت لك هذه الأدلة على قدرتي، أليس الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم بقادر على إعادته عند البعث والجزاء ؟
فالمقصود بقوله تعالى : يكذّبك : يجعلك مكذبا، أي لا عذر لك في التكذيب بالحق، وقيل : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى : من الذي يكذبك أيها الرسول الكريم، ويكذب بيوم الدين والجزاء بعد أن ظهرت الدلائل على صدقك ؟
إن كل عاقل ينبغي أن يصدقك ولا يكذبك، ويتبعك ولا يعرض عنك.
التفسير :
٨- أليس الله بأحكم الحاكمين.
أليس الذي خلق فسوّى، وقدّر فهدى، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، وأبدع الكون، وخلق كل شيء فقدّره تقديرا، أليس هذا الإله بأعدل العادلين، حكما وقضاء، وفصلا بين العباد ؟
قال ابن كثير :
أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، ومن عدله أن يقيم القيامة، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه.
وقد روى الإمام الترمذي، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ منكم : والتين والزيتون. ثم انتهى إلى قوله تعالى : أليس الله بأحكم الحاكمين. فليقل : بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين ).
***
( تم بحمد الله تعالى توفيقه تفسر سورة التين ).
i روي هذا القول عن ابن عباس وعكرمة، حتى قال عكرمة : من جمع القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، واستشهدوا بقوله تعالى :﴿ ومن نعمره ننكّسه في الخلق ﴾ ( يس : ٦٨ ). وقوله تعالى :﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ﴾ ( النحل : ٧٠ ). حيث يتحول الإنسان من القوة إلى الضعف، وحيث يتقوّس ظهره بعد اعتداله، ويبيض شعره بعد سواده، ويضعف سمعه وبصره، فمشيه دليف كالمقيّد، وصوته خافت.
قال تعالى :﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ﴾ ( الروم : ٥٤ ).
ii مختصر تفسير ابن كثير تحقيق محمد علي الصابوني المجلد الثالث ص ٦٥٥.
iii التفسير الوسيط تأليف لجنة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر.
Icon