ﰡ
ولكن مع ذلك نسرد ما قيل في ذلك، قيل: إن (طه) اسم لله تعالى، وقيل:
إنها اسم للنبي - ﷺ -، وربما يسوغ ذلك أن ما بعدها كان خطابا للنبي - ﷺ -، فكأنه نودي بذلك، ثم ألقى القول والبيان المنبه إلى ما عليه في هذه الرسالة، فليس عليه أن يؤمنوا، وإنما عليه التذكرة فلهذا القول وجه من التوجيه.
وقيل: إنها فعل أمر أصله " طأ " قلبت الهمزة هاء، ويصح أن يقال: إنها قلبت ألفا ثم جاءت هاء السكت بدلا عنها، وقيل: إن معناه " يا رجل "؛ لأن طه في لغة عَكّ (١) معناها يا رجل. وقيل: هي بهذا المعنى في لغة الحبشة.
________
(١) قبيلة باليمن، قال أبو القاسم الزجاجي: سميت بـ " عَك " " حين نزولها، واشتقاقها في اللغة جائز أن يكون من العكّ وهو شدّة الحر، وقد اختلف في نسب عكّ، فقيل ينتهي نسبها إلى قحطان، وهو قول من نسبه في اليمن، وقال آخرون: هو عك بن عدنان بن أدَد أخو مَعَد بن عدنان. معجم البلدان - عك. (مختصرا).
وهناك قراءة (ما نزلنا عليك القرآن)، وفي هذه القراءة إشارة إلى تنزيل القرآن منجما، ولم ينزل دفعة واحدة، بينا ذلك في مواضعه من القول، وقوله تعالى: (لِتَشْقَى) " اللام " لام التعليل، أي ما أنزلناه عليك لتتعب وتذهب نفسك عليهم حسرات إذا لم يؤمنوا، كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقال تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ عَلَى آثَارِهمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَديثِ...)، وقال تعالى: (وَلا يَحْزُنكَ الًّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ...)، فالنبي - ﷺ -كان يحمل هَمَّ كفرهم، ويحسب أن ذلك قد يكون عن تقصير في دعوته، وذلك لقوة حِسِّه وشفافية روحه، ولحرصه على إيمانهم قال له ربه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي منْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ...)، وقال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)، هذا تقريب لمعنى (لِتَشْقَى)، والكمال لله وحده.
وقال:
الاستثناء منقطع بمعنى " لكن "، والمعنى ليس عليك أن تهديهم، وإنما عليك أن تذكر من يخشى ويتقي الله تعالى، ولكن لماذا خص من يخشى بالتذكرة مع أن التذكرة تكون لمن يخشى ولمن يعصى، فهو بشير ونذير، وذلك لبيان أنه يجب أن يرجو إيمان الذين يخشون، لَا الذين يعصون، فكان حذف إنذار العصاة لبيان أنه لَا ينبغي أن ينتظر منهم إيمانا. و (تَذْكِرَةً) مفعول لأجله، ويكون المعنى ولكن أنزلناه لأجل تذكرة من يخشى وحسبك هؤلاء أن يكونوا مؤمنين.
وكان المؤدى النهائي للآيتين: لَا تحزن، وحسبك من اتبعك من المؤمنين.
وقد بين سبحانه وتعالى شرف القرآن الإضافي قال:
هذا بيان الشرف الإضافي
أولهما: أنه ذكر " تنزيل " وفعله " نزَّل "، وهو التنزيل المقرر مجيء القرآن منجما آية بعد آية، أو سورة بعد سورة، حتى يمكن حفظه مرتلا محفوظا في الصدور، فلا يُحرَّف ولا يُنسى على مدى الأجيال، بينما قال سبحانه وتعالى: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لتَشْقَى) فذكر بفعل الإنزال لَا التنزيل؛ لأنه كانت العبرة في أنه أنزله كله لينذرَ به ويبشر، لَا ليشقى، فكان التعبير بالإنزال في موضعه من النزول في جملته لَا في تفضيله، أما هنا فإنه يحكي الواقع، وهو التنزيل شيئا فشيئا.
الأمر الثاني: أن في الكلام التفاتا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، وذلك لتصريف القول؛ ولأنه من قبيل الرفق بالنبي - ﷺ -، وهو الذي يكون منه التكليف، فكأنه سبحانه يقول، ولكلامه المثل الأعلى، ما أنزلت القرآن وكلفتك ما فيه لتشقى، فهوِّن عليك، ولا تأس على القوم الكافرين، وأما في هذه الآية فهو يبين صفاته سبحانه وأفعاله، فيناسبها حديث الغائب.
وإن الله سبحانه بين علم ميزة القرآن وقدرته، وأنه جاء مناسبا لمن بعث النبي - ﷺ - إليهم فمهما تكن لهم من قوة فالله غالب عليهم، وهو القاهر فِوق عباده، وقد ابتدأ سبحانه بالأرض فقال عز من قائل: (... مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْض...) لأنه سبحانه في أكثر آي القرآن يقدم في الخلق السماوات على الأرض؛ لأنها أعظم خلقا، ولكن هنا قدم الأرض لأنها التي يدَّعي المشركون وغيرهم من الطغاة السلطان فيها، فبين الله تعالى أنه خالقها فهو لها أَملك، وسلطانه عليها، ثم ذكر سبحانه السماوات بصورة عالية في الفخامة، وهو سبحانه خالقها، وليس لهم أي مكان للسلطان فيها.
ثم قال تعالى:
العرش: هو المكان الذي يتجلى فيه سلطان الله، ولقد نسب لعلماء السلف أنهم قالوا: إن لله عرشا لَا يعرف كيفه، والله تعالى يستوي عليه، وهو أعلم باستوائه ولكنه غير مجسم، ولا مشابهة فيه للحوادث، وقد يقال: إن ذلك دليل على كمال سلطانه وإن الخالق الذي
بعد ذلك بين سبحانه وتعالى كمال سلطانه بكمال ملكه، فقال عز من قائل:
في الآية السابقة بين سبحانه أن الرحمن هو الذي استوى على العرش، وعبر عن الذات العلية بالرحمن الذي هو اسم بالذات، وهو يوحي إلى أنه سبحانه وتعالى مدبر عرشه بمقتضى الرحمة التي تعم الوجود كله، فكل ما يكون هو الرحمة، حتى عذاب العصاة يكون رحمة ليستقيم ميزان الوجود كله فإنه في شريعة الخلاق العليم، لا يستوي الخير والشر، ولا يستوي الظل ولا الحرور.
وقد ذكر سبحانه أن له السماوات بأبراجها ونجومها، وكلها مسخرات بأمره وله الأرض بما فيها من نجاد له ووهاد، وجبال شامخات وبحار وما فيها من أسماك وسفن جاريات تمخر عبابه، وما بينهما من فضاء قد سُخِّر للإنسان، ثم قال تعالى: (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) من معادن وفلزات وغير فلزات وجواهر، وهذا كله من نعم الله على عباده يستخرجون من بحارها وترابها زينة، وهو العليم القدير.
وإذا كانت هذه الآية الكريمة قد بينت ملكه العظيم الذي لَا يخرج عنه شيء - بيَّن سبحانه علمه العظيم الذي لَا تخفى عليه خافية في السماء أو في الأرض، وخصوصا الإنسان فقال تعالى مخاطبا نبيه:
الخطاب للنبي - ﷺ -، ولكن مضمونه يعم الناس أجمعين فهو سبحانه يعلم الجهر، ويعلم السر وهو ما يسره وينطق به في خفت، وما هو أخفى من السر، وهو ما تتحدث به الأنفس، يعلم الله تعالى كل ذلك، وقد يسأل سائل: ما مناسبة هذا في هذا الموضع؟ ونجيب عن ذلك، بأنه بيان لعموم علمه ودقته، وهو بعض نتائج ما تقدم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، وهو يناسب الحديث مع النبي الهادي الأمين، يبين له سبحانه أنه يعلم ما
ثم بين صفات الكمال والجلال فقال سبحانه:
(اللَّهُ) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وصدَّر القول بلفظ الجلالة؛ لأنه يربِي المهابة في النفوس فيملؤها خشوعا وخضوعا لله تعالى، وقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، لأنه خالق كل شيء ومالك كل شيء وهو العليم الخبير، وهو اللطيف بعباده، ولا يملك غيره نفعا ولا ضرا: (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) التي كلها أحسن ما في الأسماء، ولقد كان المشركون يحسبون أن الرحمن إله غيرهم، فقال الله تعالى:
(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى...)، وكل ما ذكر في القرآن الكريم من صفات للذات العلية هي أسماء له سبحانه، وهو سبحانه وتعالى واحد، وأسماؤه كثيرة.
* * *
من قصة موسى
(وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦)
* * *
قوله تعالى:
أي اثبتوا في أماكنكم، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا)، أي رأيتها واستأنست بها في وحشة ذلك الظلام الحالك وذلك الليل البهيم (لَّعَلِّي آتِيكُم) في مكثكم وسعيي لها (بِقَبَسٍ) أي جذوة أو شعلة تصطلون بها من قركم وتشعلون بها مشعلا يضيء لكم، ويكشف لكم الظلمة الحالكة (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) (عَلَى) بمعنى " عند "، والمعنى أو أجد عند النار هدى أعلم معالم الطريق، ونسير على هدى هذه النار، وهناك من قال: إن الهدى هو الهداية، لأن طالب الحق يكون في شاغل من أمره بطلب الهداية، وخصوصا مثل الكليم الذي ثار على ظلم فرعون. ولقد ذكرت القصة في سورة القصص بتفصيل في ذلك، فقد جاء في سورة القصص (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)، وهذه مشاق تحملها موسى كليم الله تعالى، وقد تربى منعما مرفها في بيت فرعون، ولكنه آثر حياة الجد على حياة اللهو والترف فلم يُرِد أن يكون من المترفين فكان من النبيين.
أي فلما أتى النار نودي، والنداء كان (يَا موسَى)، وكان النداء بـ " يا " التي تكون نداء للبعيد، البعد بين صاحب النداء جل جلاله، وعبد من عباده هو موسى عليه السلام، وقد شرفه الله تعالى بهذا النداء الكريم من رب البرية، وشرفه بأن ذكر اسمه وفيه من المحبة، إذ هو نداء الله الرحمن الرحيم إلى حبيب من أصفيائه المخلصين
قرئ بفتح الهمزة في (إِنِّي) وقرئ بالكسر (١)، ويكون بالفتح تفسيرًا للنداء أي النداء أنا ربك، وعلى قراءة الكسر يكون النداء متضمنا معنى القول، و " إن " تكسر بعد القول.
وقد أكد ضمير المتكلم، وهو ياء المتكلم بتأكيدين أولهما: " إنَّ " المؤكدة، وثانيهما الضمير الظاهر (أَنَا) المؤكِّد لياء المتكلم، وكان التأكيد لغرابة المؤكَّد في ذاته، ولغرابته على موسى عليه السلام، أما الغرابة في ذاتها فهو أنه من أغرب الغرائب أن يكلم اللَّه أحدا من عباده، فقد يوحى إليه، أما أن يكلمه فذلك أمر غريب لم يكن به عهد حتى عند الأنبياء، وأما الغرابة بالنسبة لموسى فهو أنه خرج من مصر هاربا من مظالم فرعون وقهره، وفرضه على الناس عبادته حتى يقول لهم ما لكم من إله غيري، وقد خرج محتاجا يقول: (... رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خيرٍ فَقِيرٌ)، ثم مأجور يزرع ويرعى الغنم، ولكنه يفاجأ بأن يخاطبه ربه من وراء حجاب، ولذا كان التأكيد في موضعه ليأنس بربه وتذهب عنه وحشة الاغتراب، و (رَبُّكَ) معناه الذي خلقك، وربك، وأقامك، وقام على رعايتك والعناية بك. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) " الفاء " فاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر، أو هي تفيد أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، فإنه يترتب على أنه في الحضرة
________
(١) بفتح الهمزة: ابن كثير وأبو عمر، وأبو جعفر المدني عن يزيد، وقرأ الباقون بكسر الهمزة. غاية الاختصار: ٢/ ٥٦٧.
يقول تعالى مخاطبا نبيه موسى عليه السلام:
كرر الضمير تأكيدا لخطابه سبحانه وتعالى، ولإيناسه، وإزالة الاستغراب و (اخْتَرْتُكَ) معناه أنه اختاره لرسالته، كما قال تعالى في آية أخرى... (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤).
وقوله تعالى: (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) الفاء للعطف وللترتيب والتعقيب، فالاستماع لما يوحى الأمر به مترتب على الاختيار له، أو هو موضوع الاختيار ذاته، وما يوحى إليه هو التوراة وما فيها من شرائع وأحكام وأساسها عقيدة صحيحة مستقيمة هي ما تضمنه قوله تعالى:
لهذه الجملة السامية بيان لمعنى ما يوحى الله به مما يجب الاستماع له والأخذ به وتبليغه، وأن يخاطب به فرعون، وما ذكره في هذا المقام، هو لب التدين، فلبُّ التدين هو عبادة الله وحده وإقامة الصلاة لذكر الله تعالى، والخشوع والركوع والسجود، فالصلاة كلها ذكر لله تعالى، وهي شرعت لتمتلئ القلوب بالله، ولتكون مطمئنة لذكر الله تعالى: (... أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وذكر الله تعالى هو الذي ينقي القلوب من أدران الهوى، والقلوب التي تذكر الله تعالى لَا يدخلها الشيطان، ولا يسكن الشيطان إلا القلوب الفارغة من ذكر الله تعالى، ولقد قال الزمخشري في معنى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي)، " لذكري: أي
بعد ذلك ذكر سبحانه لموسى عليه السلام الإيمان بالقيامة والبعث، وما يتصل بالآخرة، وإن هذا فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة، فالإيمان بالبعث وما يعقبه هو قوام الشخصية المؤمنة وهو الإذعان، وبه يكون السير إلى الله، ولذا جعل من أركان الإيمان مع التوحيد والصلاة لامتلاء النفس بذكر الله تعالى.
أي أنه سبحانه وتعالى أخفاها لأنه لَا يبين للناس متى تكون، ولم يعط علمها لنبي، ولا لأحد من الناس، مع تأكيد وقوعها من غير تعيين لزمانها، فكانه أخفاها، أخفى زمانها وأكد وقوعها، فهو لم يخفها، ولو كان أعلم الناس بها علمًا كاملا لأعلم متى تكون، ولكنه أكد مجيئها.
وقوله تعالى: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا تَسْعَى) " اللام " متعلقة بـ (آتِيَة)، أي أن مجيئها للجزاء فيجزى من عمل عملا صالحا جزاء صالحا، ومن عمل عملا سيئا يجزى جزاء وفاقا لما ارتكب، وهكذا يكون كل مجزيا بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فما خلق الإنسان سدى يفعل ما يشاء من غيرِ حساب على ما فعل وجزاء للخير الذي أراده ونواه وفعله، وقوله تعالى: (بِمَا تَسعى)، أي تجزى جزاء بالذي تسعى، " الباء " للمقابلة أي مقابل ما تسعى، أو تجزى بذات ما تسعى وذلك لمساواة السعي مع الجزاء فكأنه هو هو.
ولقد أشار الله سبحانه لنبيه وكليمه موسى إلى أنه سيلقى عنتا من الذين لا يؤمنون بالبعث، وقد نهاه سبحانه عن مطاوعتهم وهو لكل أتباعه، فقال تعالى:
" الفاء " للإفصاح، إذ تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كانت آتية، وإن كان زمانها خافيا، فبين للناس وجوب الإيمان بها، ولا يصدنك عنها من لَا يؤمن بها فلا يؤمن بالبعث، ويقول: إن هي إلاحياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، والسبب في عدم إيمانهم بالبعث هو سيطرة أهوائهم عليهم، ولذا قرن بعدم الإيمان باليوم الآخر اتباع الهوى.
وقوله تعالى: (فَتَرْدَى) الخطاب لموسى عليه السلام، والفاء للسببية، أي الصد عنها سبب الوقوع في الرَّدى، والنهي في " لا يصدنك "، نهى عن قبول أسباب الصد، وهو محاولة الكافرين، منع الإيمان باليوم الآخر، أي نهى عن تمكينهم من الإغراء به، فكن صلبا في بث روح الإيمان باليوم الآخر حتى لَا يطمع أحد من الكافرين في أن تصد عنه، والنهي عن ذلك بالنسبة لنبي الله تعالى ليس لاحتمال أن يقع، بل إن ذلك لمكان الإيمان بالبعث من الإيمان والله أعلم.
* * *
معجزته
(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤)
* * *
خاطب الله موسى عليه السلام بأنه اختاره رسولا نبيا، واصطفاه بكلامه، ولكن يظهر أنه كان يخاطب بكلام الله تعالى من وراء حجاب، وأنه كان يوحى إليه بتعليماته وأحكامه، ولذا قال له وهو يكلمه، فاستمع لما يوحى، فكان خطاب الله
قال تعالى لنبيه وكليمه:
وما تلك التي بيمينك، وكان التنبيه والإشارة إلى كونها، ولكن موسى عدل عن بيان ما هي عليه، وعن مادتها إلى بيان ما يستخدمها، واكتفى في بيان ماهيتها بقوله (هِيَ عَصَايَ | (١٨) والياء ياء المتكلم فُتِحَت لوقوعها بعد ألف " عصا "، وقرئ بكسرها تخلصا من التقاء الساكنين بالكسر، وهو الأصل في التخلص من التفاء الساكنين. |
وقد أجاب موسى عليه السلام إلى المنفعة التي ينتفع بها فيها وذكر أمرين وأمر ثالث فيه شتى المنافع، الأمر الأول مما ذكره عبر عنه عليه السلام بقوله:
وقد أفاض الرسول في الرد بعض الإفاضة باتجاهه إلى بيان منافعها فبدل أن يقول في ماهيتها: عود من شجرة، ليستأنس بكلام ربه فهو كلام العلي الأعلى.
وكانت هذه العصا بعد ذلك أداة ظاهرة للمعجزات فبها ضرب البحر فافترق، وكان كل فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا.
ذكر موسى لربه ما ينتفع به من العصا، فصَّل ما فصَّل، وأجمل ما أجمل، وقد نبهه الله تعالى إلى منفعة للعصا فوق كل ما ذكر؛ لأنها تكون ليست لغيره، وقد نبهه ربه إلى الإعجاز فيها فقال:
الضمير يعود إلى العصا أي ألق ذات العصا التي بيدك، وهي العود من الخشب، فانظر كيف ينقلب ذلك العود إلى مخلوق آخر، وفي ندائه عند الإلقاء بكلمة (يَا مُوسى) إدناء إليه وتحبب له وتقريب،
ما كان لموسى وهو مضطرب بسبب المفاجأة، لهذا الانقلاب أن يمد يده إليها ليأخذها إلا بعد الاطمئنان، وقرار النفس، ولذا قرن سبحانه وتعالى الأمر بأخذها بالنهي عن الخوف لتقر نفسه وتطمئن، وبين له أن ما أزعجك من الانقلاب زائل، ولذا قال عز من قائل: (سَنُعِيدُهَا سِيرتَهَا الأُولَى)، حيث كنت تستخدمها في التوكؤ عليها والهش على غنمك والمآرب الأخرى التي كنت تنتفع بها، والسيرة اسم هيئة على وزن " فِعْلَة " بكسر الفاء، أي سنعيدها على الهيئة التي كنت تستخدمها فيها قارا مطمئنا، وقد ذكر الزمخشري ثلاثة وجوه " سيرة " أولها أنها ظرف، وثانيها أنها مفعول ثانٍ لـ " أعاد "، لأن عاد أصلها متعدية بنفسها من قولهم عاد المريض يعوده، فإذا جاءت همزة التعدية صار يتعدى لمفعولين، والثالث وهو الذي رجحه وقد ذكره بقوله: " ووجه ثالث حسن وهو أن (سَنعِيدُهَا)، مستقلا بنفسه غير متعلق بـ (سِيرَتَهَا) بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصى، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشئت أولا، ونصب (سِيرَتَهَا) بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى "، جملة هذا ما قاله الزمخشري وما كان لنا أن نسير في هذا التوجيه الإعرابي، ولتمام القول فيه أنه على هذا الإعراب الأخير تكون (سِيرَتَهَا) مع الفعل المحذوف جملة حالية، وقبل أن نترك القول في الآية الكريمة نقول: إن " سيرة " فعل
سلح الله - تعالى - رسوله وكليمه موسى بالأسلحة التي يدّرع بها لإقناع طاغية الدنيا في عصره بنبوّته، فأتى له بآية أخرى إيناسا لموسى وليطمئن في لقائه بهذا الطاغية بأن الله تعالى معه، فلا يخاف، ولا يضطرب عند لقائه؛ ولذا قال تعالى:
" الجناح " هنا الجانب، وهو تشبيه جانبي الإنسان بجناح الطير لأنهما محسوسان في جانبيه، وسمي جناحي الطائر بذلك لأنهما يطويان عند الطير، ويميلان على جنبيه، والجناح الميل، وضم اليدين إلى الجانبين معناه وضع اليدين تحت الإبطين، وقوله تعالى:. (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) والفعل مجزوم على جواب الأمر، وهما لَا يخرجان من تلقاء أنفسهما، بل يخرجهما موسى بإرادة الله تعالى، فليس الضم سبب الخروج، ولكنه شرطه. والسوء ما يسوء الإنسان عند النظر إليه، ولذا أطلق على العورة السوءة، قال الله تعالى عندما أكل آدم وحواء من الشجرة: (... فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ...).
وقالوا: كنى بهذا عن البرص، أي تخرج اليدان بيضاوان من غير ذلك المرض الذي يسوء النظر إليه، ويقول الزمخشري في ذلك: إن قوله تعالى: (مِنْ غَيْرِ سوء) كناية عن البَرَص، كما كنى عن العورة بالسوءة، والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه مَجَّاجة، فكان جديرا بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا ألطف، ولا أحرى للمفاصل من كناية القرآن وآدابه.
وإن ذلك كلام قيم في ذاته، ولكن ذكر البرص في القرآن الكريم، فلقد ذكر سبحانه وتعالى في معجزات عيسى فقال تعالى: (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ)، ولقد قال تعالى: (تَخْرجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) لتبين أن البياض
وإن الله تعالى قد أعطاه في لقائه الأول آيتين حسيتين قاطعتين في إثبات خطاب الله تعالى، وأشار سبحانه وتعالى إلى أنه سيزوده بكل آية ليتمكن من الوقوف أمام فرعون غير هيَّاب، ومتحملا لكل ما ينزل به من شدائد أمام طاغوته وجبروته، ولذا قال سبحانه:
" اللام " لام التعليل، وهي متعلقة بفعل محذوف تقديره مثلا: جعلنا لك هاتين الآيتين لنريك من آياتنا الكبرى، و (مِن) للتبعيض، أي لنريك بعض آياتنا الكبرى التي تجابه بها فرعون الطاغي، وإن الله تعالى ممدك بعون من عنده ومزودك بكل الآيات التي تقيم بها الحق على فرعون، وكان ذلك تأييدا، ولإعطاء موسى الكليم قوة يحتمل بها طاغوت فرعون، ويكون حمولا صابرا يتلقى أذاه بقلب الصابر الحليم المُحِسّ إحساسا كاملا بأن الله مؤيده، ومعه الحجة والبرهان، وهما سلطان الأنبياء، بعد ذلك التأييد والإشعار بأن الله من ورائه، وسلطانه فوق سلطان الجبابرة، قال له ربه:
وإن ما سبق من الآيات كان مقدمة، وهذا التكليف نتيجته اذهب إلى فرعون داعيا هاديا مرشدا مقاوما لظلمه بالحجة والبرهان، ولم يذكر ما يدعوه إليه، اكتفاء بوصفه الذي وصفه تعالى به.
(إِنَّهُ طَغَى) أي أنه تجاوز الحد، وهذا يتضمن أنه ظلم الناس فقال لهم: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، وذلك حَجر على العقول أن تفكر وترى، وطغى فظلم العباد وأكل أموالهم وحقوقهم، وطغى فلم يحسب للناس وجودًا إلا بوجوده، وطغى وبغى فحسب نفسه إلها، وأمر المصريين أن يعبدوه فعبدوه، وقال لهم، ليس لكم من الله غيري، وطغى وبغى فحسب أن البلاد ملكه، وقال طاغيا:
* * *
موسى وهارون
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦)
* * *
استجاب موسى لله الذي أكرمه بالكلام معه، ولكنه أحس بالعبء الذي سيحمله، وإذا كان الله العزيز الكريم قد أمده بالآيات الدالة على الرسالة فهو في نفسه طلب من الله تعالى أن يمده في شخصه بالمعونة، وبأن يعطيه من ينصره ويؤيده، وإن العاقل الصافي النفس يعرف عيوبه من غير أن يعرِّفه غيره، ولقد أحس موسى عليه السلام بأنه يضيق صدره أحيانا وبأن الأمر الذي بعثه الله به خطير عسير ليس بيسير، وأنه ليس فصيح اللسان بحيث يفقه الناس قوله، وبأنه يحتاج إلى من يؤازره، ولذا طلب أمورا أربعة ليسهل عليه التكليف الذي كلفه الله تعالى إياه، فطلب أمورا أربعة:
أولها - قوله:
ونفس موسى الكليم الشفافة أدركت عيوبها فطلب من ربه أن يبرئه منها عالما أنه سيلقى من فرعون عنتا، ولابد أن يلقاه بقلب قوي غير ضجر، ولا سائم، ليتحمل ما حمله، فطلب أن يشرح صدره بجعله قادرا على احتمال المخالفة، بل المعاندة والمهاترة فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي).
الأمر الثاني - أنه أحس بأنه مقدم على أمر خطير جسيم ليس هيِّنا لينا، هو مجابهة فرعون جبار الدنيا، وطاغية عصره، فطلب أن يسهل أمره معه فقال:
أي اجعل الأمور ميسرة أمامي، وإضافة الأمر إليه أي الأمر الذي كلفتنيه، وهو لقاء فرعون فإن كان الطلب الأول خاصا بشخصه، فالثاني خاص برسالته التي حملها، وكلفه الله إياها. وقد اتجه من بعد ذلك إلى الأداة التي يكون بها التبليغ، هو اللسان، ولذا كان الطلب الثالث وهو الذي عبر عنه بقوله:
العقدة ألا ينطلق اللسان بالقول الفصيح الصحيح، ويقول أكثر المفسرين إنه كان في لسان موسى رتَّه، وقد وصفه فرعون مستهينا به مستنكرا أن يكون هو الرسول عن الله تعالى: (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)، وقد طلب موسى طلبا يسيرا أن يحل عقدة قائمة من لسانه،
المطلب الرابع الذي طالب به ربه أن يكون معه أخوه هارون ردءا له ليكونا معا أمام فرعون جبار الأرض في زمانه، وقد قال في ذلك:
الوزير: المعاون، وهو من الوزر بمعنى أنه يحمل أوزار الأمر معه، أو من الوَزَر - بفتح الواو والزاي - بمعنى الملجأ، وهو بمعنى أنه يلجأ إليه في المُلِمَّات، أو من المؤازرة بمعنى المعاونة، والوزير الصادق المخلص فيه هذه المعاني كلها فهو يحمل التبعات، وهو ملجأ في الملمات، وهو معاون عندما تشتد الأمور وتدلهمّ، يعين برأيه وتدبيره.
أي عالما علم من يبصر لَا يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء، أجاب الله مطالب موسى الأربعة وقال تعالى:
قال الله تعالى مخاطبا نبيه وكليمه: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) السؤل بمعنى المسئول، كالخبز بمعنى المخبوز، والأكُل بمعنى المأكول، و (أُوتِيتَ) معناه أعطيته، وصار بين يدك ما طلبت، وذلك في نظرنا أبلغ من أُجِبْت؟ لأن الإجابة قد تكون بالقول، ويتحقق مدلولها بعد، إذ الإجابة لَا تقتضي التحقق، بل إنها ربما تكون بينها وبين التحقيق زمن، والمجيب ليس بمخلفه، وإنه بندائه سبحانه بالاسم تقريب وإدناء، وإلقاء بالمودة التي لم يحرم منها كليم الله طول حياته، ولئلا يقصى عليه أمر بني إسرائيل أمده الله تعالى بكل أسباب الصلاح، ولكنهم كانوا قد مردوا على الذل، ومرضت قلوبهم بالنفاق كما رباهم فرعون على الخنوع الذليل، ولم يجد فيهم من يجيئهم بالرشاد والموعظة الحسنة والولاية الهادية الرشيدة.
* * *
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢)
* * *
كلام لموسى عليه السلام، وكانت تلك المجاوبة الرحيمة من الله والمحبوبة لموسى من وقت أن آنس من جانب الطور نارا وذهب إليها ليأتي لأهله منها بقبس أو يجد على النار هدى، وقد من الله على موسى بأن آتاه سؤله، وذكَّر موسى بأنه كانت كلاءته الكريمة من وقت أن وُلدَ، ولذا قال له:
أولاها: عند ولادتك فإن أمك الرءوم (١) خشيت عليك من فرعون الطاغية الذي كان يذبح أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم ليكونوا خدما في البيوت أو
________
(١) الرءوم: المحبة، من رأم: رَئِمَتِ الناقةُ ولدَها رِئْمانًا، إذا أحبتْه. الصحاح للجوهري - فصل الراء.
منن كثيرة في منة واحدة، وهي إنقاذه من سكين فرعون الظالم القاسي الذي حاول الظالمون القساة أن يقلدوه في ظلمه لمخالفيه، وطغيانه عليهم من غير رحمة أو رأفة إنسانية، وقد رأينا ذلك وعايناه في طاغية كان دون فرعون شأنا ولكنه كان أشد منه غلظة فما رأيناه من فرعون في معاملته لبني إسرائيل بحسبان أنهم ليسوا من بني جلدته، وغلطة هذا أشد في أنه كان يفعله مع بني جلدته، وهو ظلم وفحش فيه في الحالين، وإن كانت إحداهما أشد وأغلظ. (إِذْ أَوْحَيْنَا إَلَن أُمِّكَ مَا يُوحَى) " إذ " ظرف للزمن الماضي، وهي متعلقة بـ (مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى)، و (أَوْحَيْنَا) أي بالإلهام أو بالمنام بالرؤيا الصادقة، وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من الوحي وقوله: (مَا يوحَى) أي الأمر الذي من شأنه ألا يعلم إلا بالوحي؛ لأنه من الغيب الذي لَا يعلم إلا من قبل الله تعالى. كما قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ...)، وقد تعلقت بهذا الوحي مصلحة دينية، وعدل أرضيّ، أما المصلحة الدينية فهي نجاة من كتب الله تعالى في غيبه المكنون أن يكون نبيا وكليما ومن المصطفين الأخيار، وأما إقامة العدل الأرضيّ فهو كف فرعون عن بني إسرائيل الذي كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، وإن الله يرسل في الأرض من ينجي عباده من ظلم الظالمين، وفساد والمفسدين.
هذا بيان لما أوحى الله تعالى به إلى أمِّ موسى، ويلاحظ أنه سبحانه وتعالى قال (أُمِّكَ) أي أمك الرءوم الشفيقة الرءوفة التي هي أشفق إنسان عليك، ولقوة الإلهام تركتك لَا بغضا لك، ولكن محبة، وتركتك لَا لتهلك، ولكن لتحيا. وإن في قوله: (أَنِ اقْذِفِيه فِي التَّابُوتِ) أي كان مما أوحى به الأمر بقذفه، والقذف هو الإلقاء، كما قال تعالى (... وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْب...)، ولا شك أن التعبير
ألقته في التابوت بمعاناة نفسية، ثم ألقت التابوت الذي فيه موسى - قطعة نفسها - في اليم وهي في ألم مرير، والضمير في قوله تعالى: (اقذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) يعود على موسى بلا ريب وأما في قوله: (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) يحتمل أن يكون لموسى وأن يكون للتابوت، وفي كلتا الحالين هي تقذفه وقلبها معلق به، والأوضح أن يكون لموسى، لقوله تعالى: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) العداوة ليست للتابوت، وإنما هي لشخص الرسول الكليم.
ويلاحظ أن العطف كله بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب من غير تراخ زمني؛ ذلك لأن الأم الرءوم تريد المسارعة بنجاة ولدها الحبيب من الذبح، والإلقاء هو السبيل الوحيد أمامها، والله سبحانه وتعالى الذي ألهمها بإلهامه الذي هو وحي، ينقذه قبل أن يموت جوعا أو تتقاذفه الرياح، يعجل سبحانه وتعالى بالنجاة فألقاه في الساحل وقوله تعالى: (يَأخُذْهُ عَدُو لِّي وَعَدُو لَّهُ) (يَاخُذهُ) مجزوم في جواب الأمر، وعداوة فرعون لله تعالى واضحة وقت الإلقاء على الساحل، أما عداوة موسى لفرعون فستكون من القابل.
وقد عبر عن وجوده على الساحل بالإلقاء دون القذف؛ لأن القذف يكون من أعلى لأسفل ولأن الإلقاء لم يكن بمعاناة من الأم، بل كان برحمة من الله تعالى.
نجا موسى صغيرا من الذبح الذي كان يتزقب كل مولود ذكر من بني إسرائيل، ثم كانت الثانية وهي حفظه وكفالة أمه له، وأن يكون بين أحضانها وهذا هو المظهر الثاني لمنة الله تعالى فقد ألقى عليه تعالى محبة، فقال تعالت كلماته: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) ألقى الله تعالى عليه محبة منه سبحانه، والمحبة التي ألقاها تعالى ذات عناصر، أولها: أن الله تعالى أحبه، ومن أحبه الله تعالى كان
وإن في الكلام استعارة تمثيلية، إذ شبه سبحانه وتعالى حال الرقابة على تربيته وصيانته بحال من يصنع شيئا على مرآه ونظره، وبعض المفسرين قال: إن " على " هنا بمعنى " الباء "، والله أعلم.
وقوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، " الواو " عاطفة على فعل محذوف تقديره لتنعم بمحبة الله والناس، ولتصنع على عين الله تعالى، وتحت رقابته ومحبته ورعايته سبحانه وتعالى. والمظهر الثالث لمنته الأخرى هو عودته إلى أمه ليتربى في حضانتها رحمة به وبها؛ لأن أمه ما طابت نفسها بفراقه إلا لنجاته، ولأنها تريده لنفسها، كما تريد كل أم رءوم مُحبة، فرتب الله تعالى لها أن يعود إليها محفوظا مصونا فحرم الله تعالى عليه المراضع، وقد احتار من في بيت فرعون في أمره، وقد صار ملء قلوبهم جميعهم، ولكن الله تعَالى أرسل إليهم.
أي من يقوم بحضانته ورضاعه لكم فتغذيه بلبن الرضاعة، ومن يحمل هم تربيته وخدمته، وبهذه الرعاية الربانية عاد إلى أمه كي تقر عينها برؤيته، ويذهب اضطراب نفسها على غيبته عنها، ويذهب اضطرابها وخوفها عليه.
وبذلك ترى أن ما أجمل هنا أو أشير إليه إشارة من غير بيان قد وضح هنالك في سورة القصص من غير تكرار، بل جزء سيق في موضعه من غير تكرار لفظ أو معنى.
المظهر للمنة الأخرى ذكره سبحانه وتعالى بقوله عز من قائل: (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) أن الله تعالى قد نجاه من الغم الذي أصابه من قتله نفسا و (الْغَمِّ) الحزن الذي يغمر النفس ويصيبها بما يشبه الغُمَّة، وهنا نجد أن الله ذكر النفس ولم يذكر من أي قبيل هو، وفي ذلك إشارة إلى سبب الغم، وهو أنه قتل نفسا، وحسب ذلك موجبا للغم الذي يصيب بكرب شديد من نفس كنفس موسى الطاهرة التي صنعت على عين الله، ولقد قال موسى عندما قتلها: (... قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧).
هذا هو الغم الذي أصابه بعد قتل النفس، وقد نجاه الله تعالى منه بأن غفر له سبحانه، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليه، وعاهد الله تعالى ألا يكون ظهيرا للمجرمين.
وبعض المفسرين أو جلهم يقول: إن الغم الذي أصابه هو الخوف من القصاص، وربما يؤيد هذا قول الله تعالى عن موسى: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفَا
المظهر الخامس من منة الله على موسى الكليم عليه السلام عبَّر الله تعالى عنه بقوله تعالى: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا)، أي اختبرناك اختبارا شديدا، و " فتون " مصدر " شكور "، ويكون مصدر التوكيد الفتنة التي فق الله تعالى موسى، ويضح أن تكون جمع فتن، أما أن الله تعالى أصابه بأنواع من الفتن، ففتنة الاحتياج، وفتنة الغربة، وفتنة العمل، وهو الذي كان مرفَّهًا مترفًا في بيت فرعون.
ولكن كيف يكون فتنة الله تعالى له فتنونًا أو بأصناف الفتن مظهر المنة، أو منة؛ ونقول في جوابنا عن ذلك: إن موسى عليه السلام تربى في بيت فرعون، فاكها في نعيمه، وإن ذلك لَا يكون منه نبي، بل لابد أن يعرك الحياة وتعركه، ويعيش بين من يستمع إلى أنينهم، ولابد أن يبتلى ليصل إلى مقام النبوة أو الإرهاص لها، وذلك بأن يفتن بالفتن ويختبر بالحرمان، وقد أدى موسى ذلك ونجح في الاختبار، ولذلك عُدَّ مظهرا من مظاهر المنة وأي منَّة أعظم من أن يهيئه الله تعالى للنبوة، ويخرج من دار فرعون ليجيء إليه نبيا رسولا ينذره بالنذر، ويقدم له الآيات تَتْرى آية بعد آية.
ثم قال تعالى مبينا نتائج هذا الاختبار أنه سبحانه نقله من بيت فرعون إلى بيت رجل صالح، ومن أنه كان يأكل من ترف فرعون في عيشة رخوة غير راضية، فانتقل إلى حياة عاملة كادحة باجَلٍ من جهد مستمر مع شعيب، وقال تعالى:
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهي من أرض سيناء على بعد ثماني مراحل من مصر.
(الفاء) في قوله تعالى: (فَلَبِثْتَ) عاطفة وهي للترتيب والتعقيب مع الإشارة إلى السببية في الفاءات الثلاث، فكان قتل النفس سببا للغمِّ، فنجَّاه الله تعالى منه ثم اختبره الله تعالى ليعدَّه للنبوة، ثم استقر به المقام في آل مدين عاملا كادحا، وصار ذا زوج طاهرة وبيت وأولاد يحمل أعباءهم. وبذلك قامت أصهار نبوته،
ولقد صرح الله تعالى بعظيم منزلته فقال تعالى:
أي اخترتك لتكون لنفسي، والاصطناع افتعال من الصنع، وهو اختياره بالصنع مشددا في اختباره وهذا موضح بقوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، يقال: اصطنع الرجل فلانا لنفسه: جعله في موضع التكريم عنده، وهذا فيه استعارة، إذ شبه اختيار الله تعالى له نبيا كليما بحال من يصطنعه الأمير لنفسه من الناس ليكون في موضع الكرامة والشرف، وأي شرف أعلى من أن يكون كليمه، وأن يكلمه تكليما.
بعد هذا الاصطناع لموسى أمره سبحانه وأخاه بأن يقوما بالعمل العظيم الخطير فقال:
كان أول ما كلفا به أن يذهبا إلى فرعون يدعوانه إلى التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده، ولقد زودهما بأمرين ذكرهما:
أولهما: الآيات الدالة على أن الله تعالى بعثهما، وذكر الآيات الدالة على أن الله وحده خالق السماوات والأرض، وسنرى أنهما ذكرا الآيات الدالة على وجود الله تعالى وخلقه.
والثاني: أن يذكرا صفات الله تعالى الدالة على أنه وحده الإله الذي يعبد دون سواه، وهذا معنى قوله تعالى: (وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي)، أي لَا تفترا ولا تقصرا في ذكرى بصفات الكمال والجلال.
وقوله تعالى: (بِآيَاتِي)، أي تصحبكما آياتي، أو معكما آياتي، والعناية بذكر الله تعالى لفرعون؛ لأن فرعون وقومه ما كانوا يعرفون الله كالعرب الذين بعث فيهم محمد - ﷺ -؛ لأنهم كانوا يعرفون الله وأنه خالق السماوات والأرض والذي يلجأ إليه في الشدائد ويستغيثون به في الحال التي توجب الاستغاثة.
* * *
الرسالة والتبليغ
(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤)
* * *
أمرهما الله تعالى بالأمر القاطع، بأن يذهبا إلى فرعون، كما أمر محمدًا - ﷺ - من بعد أن يصدع بأمر ربه فقال له: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤).
والقول اللين لَا يكون بالملق أو الإدهان أو المواراة، فإن هذه أمور تتجافى مع الحق إلا بالقول الحق، وما كانت رسالة موسى وأخيه إلا الحق وطلب الحق، ولا يطلب الحق إلا بالقول الحق، وإنما لين القول يكون باللين والرفق، حتى لا يُصدم في أمره بالجفوة، وبيان أن الحق يزكي نفسه، ويرفع نفسه فوق ما هي فيه، كأن يقولا له: هل لك إلى أن تزكى؛ لأن ظاهر القول التساؤل والاستفهام، وأن يتبع الأمر باختياره لَا بطلب من أحد، ومن القول اللين ألا يجافيه وأن يخاطبه بما لا يمسّ سلطانه، فإن طواغيت الدنيا لَا يجدون شيئا أعز عليهم من سلطانهم في الأرض، فيُصابون في حسهم إذا مُسَّ ولو من بعيد، وإن قول موسى قولا لينا لفرعون يتفق مع أصل التبليغِ الصحيح الذي يقتضي اللين في القول، كما قال تعالى مخاطبا محمدا - ﷺ -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...)، وإن اللطف في الدعوة من موسى لفرعون يقتضي الرفق في القول؛ لأنه ربَّاه صغيرا ورعاه، وكانت له به محبة فكان له مثل حق الأبوة، وقد عتب فرعون على موسى حتى هذه الدعوة الرقيقة، وقال له: (... أَلَمْ نُربِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ).
وقال تعالى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، أي أن أقول يكون معه رجاء الإجابة، فالرجاء منهما لَا من الله تعالى، وإن القول اللين ينساب في النفس كما ينساب النمير العذب فيحيي مواتها، وتثمر ثمراتها، والقول الجافي يصُدُّها صدًّا، وإن القول اللين يتبعه التأمل والتفكر، ولذا قال: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ)، أي يبعث في الفطرة السليمة الخالية من عنجهية الحكم وطغيانه فيتذكر ضعف الإنسان مهما يكن طغيانه، أمام
بعد هذا الأمر الصادع الذي لَا مثنوية فيه استجابا ولكن الحذر لَا يفتر بقوته، ولذا قال الله عنهما:
خاطبهما الله تعالى بعزته وجلاله مشيرا إلى أنهما في حمايته وكلاءته، وأنه يسمع ويبصر، فكيف يكون نهى عن الخوف، والنهي عن الخوف كيف يكون وهو فزع من الأمر المخوف إذ هو أمر نفسي لَا يقع تحت قبضة الخائف؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن المراد الأمر بالاطمئنان وقرار النفس، وأن يشعرا بجلال الله تعالى، وأنه معهما، ولذلك أعقب سبحانه وتعالى النهي عن الخوف بأنهما في معية الله تعالى فقال: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي إنني في صحبتكما أسمع قوله إذا هدد وأنذر، وأبصر فعله إن حاول سوءا أو أنزل بكما أذى، وإن هذا تبشير بأنه إن حاول أن يبطش بهما نزلت به البطشة الكبرى من رب العالمين.
اطمأنا إلى قول الله تعالى، وما كان لهما إلا أن يطمئنا بنصرته وتدبيره، ونجاتهما من فرط فرعون وطغيانه، ولذا قال:
" الفاء " هنا " فاء الإفصاح " تفصح عن شرط مقدَّر تقديره: إن ذهب الخوف، واطمأننتما إلى الله (فَأْتِيَاهُ) فاذهبا إليه، والتعبير بإتيانه يفيد أنهما مدرعان بقوة الله التي ترهب كل مخلوق، ولو كان فرعون طاغية الأرض (فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) ذكرت رسالتهما معا مكاثرة عليه ومغالبة، ولأنهما رسولا رب العالمين أحدهما بالأصالة والثاني بالمؤازرة والمعاونة، لقد أعطاهما الله تعالى قوة بعد ضعف وأمنا بعد خوف فأمراه ونهياه، وهو الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى، أمراه فقالا: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) والأمر والنهي يتعلق بسلطانه وقوته وبطشه فهو يمسّ صميم جبروته (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) وتخلَّ عن حكمهم وأخرجهم عن طاعتك وجبروتك وطغيانك (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) وكان - عليه اللعنة - يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويكلفهم بأشقّ الأعمال من حفر الترع وحمل الطوب والآجرّ والأحجار في بناء الأبنية الكبيرة مع الإذلال والاستهانة والعنت الشديد، فجمع لهم عذاب الأجسام وإرهاقها، وعذاب الأنفس بإذلالها، وإذاقتهم عذاب الهوان، فكان كلامهما محاربة لطغيانه، ومواجهة له في قوته وجبروته.
و" الفاء " في قوله: (فَقُولا) عاطفة للترتيب والتعقيب من غير تراخ، فبمجرد أن أتياه جابهاه بالقول المر الذي لم يسمعه أبدا، ولكنهما أسمعاه له بقوة الله تعالى وقدرته، وبما ألقاه تعالى في قلوبهما من قوة الحق الذي جهرا به، ولقد رجعا إلى الله تعالى في آياته البينة التي تدل على رسالتهما، فقالا: (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ من رَّبِّكَ) وهنا انتقل الموقف بهما من خائفين إلى مرهبين، وقوله تعالى: (قَدْ جِئْنَاكَ)، أي جئناك مجابهين مسلحين بآية (مِّن رَّبِّكَ) الذي خلقك ورباك وأعطاك هذا السلطان
أخذا يخاطبانه بالرسالة التي بعثا بها، فقالا:
أي أن الرسالة التي بعثنا بها وأُوحي إلينا من الله معناها ولبها (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وتَوَلَّى) وأعرض موليا الداعي بوجهه نائيا بجانبه عنه، وهنا إشارتان: إحداهما أن موسى عليه السلام كان ربه يكلمه ويوحى إليه، والثانية: أنهما ابتدءا الدعوة بالجزء المخوف منها، وهو العذاب لمن تولى وأعرض ونأى بجانبه عن الدعوة؛ وذلك لأن الجبابرة يرهبهم الأمر المغيب عنهم ويفزعهم فيحاولون من بعد إرهابهم الاستماع إلى القول، وإن كانت عاقبة الاستماع في الاستجابة غير محققة، فالشر ينازع نفوسهم، ويقاوم الخير، فأيهما غلب كانت العاقبة له.
وقد أكد سبحانه الوحي وموضوعه بـ " قد "، و " أنَّ ". ولقد كان ذلك الترهيب له أثره فقد اتجه إلى الاستفهام والتعرف...
كان الخطاب لهما ولكن اختص موسى بالذكر؛ لأنه المتكلم باسمهما، فما كانا يتكلمان معا، بل كان يتكلم موسى ويوافقه هارون، لأن هذا وزير، وذاك الرسول المبعوث، ولأنه كان يأنس موسى، لأنه تربى في كفالته، ورعايته، وهو قريب إلى نفسه مع ما بينهما من بعد بالهداية في موسى، والكبرياء الضال في فرعون، وقال الزمخشري: لأنه كان يعلم رُتَّة لسانه ويريد أن يحرجه في البيان، ويستدل على ذلك بقوله عندما احتدم الخلاف: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ منْ
قال: (فَمَن رَّبكُمَا يَا مُوسَى)، أي إذا لم أكن ربكما الأعلى فمن ربكما، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر.
أجَابه موسى لأن النداء وجه إليه فتعين أن يكون المجيب:
(رَبُّنَا) الذي خلقنا ورَبُّنَا الذي قام على شئوننا، وسيَّر أمورنا هو (الَّذِي أَعْطَى كلَّ شيْء خَلْقَهُ)، أي صورته وحاله التي تناسب ما عهد به إليه فهو أعطى كل شيء وجوده وهيأه لما أنشأه لأجله، ولقد قال في ذلك الإمام الزمخشري: " أى أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد، والرجل واللسان كل واحد مطابق لما علق به من المنفعة غير نابٍ عنه، أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة ". والمعنى أنه أعطى كل موجود الصورة التي اختارها سبحانه وتعالى له، وهيأ كل ما فيه من قوى لما أعده الله سبحانه وتعالى له، فكل قوى الإنسان والحيوان صوَّره الله سبحانه لكي يؤدي عمله الذي خلقه الله تعالى له، ثم بعد هذا الخلق تكون الهداية العامة في الحياة وفي الخير وفي الشر، فقال تعالى: (ثُمَّ هَدَى) وكان العطف بـ " ثم " فيه دلالة على البعد بين أصل الخلق والتصوير، وأداء كل عضو مهمته في الحياة وإدراك معانيها، و (هَدَى) أي هدى كل عضو صورة لأداء المنفعة التي خلق لها فهديت العين إلى معرفة الأشياء بالبصر، وهديت الأذن لمعرفة كل ما يعلم عن طريق السماع، وهدى العقل الإنساني إلى إدراك الخيرِ والشر، كما قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجدَينِ)، وكما قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨).
اتجه فرعون إلى سؤال آخر فقال:
فأجابه موسى الحكيم الكليم: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢).
وعلى ذلك إن سؤال فرعون لموسى عن حال القرون أي الأجيال، سؤال نابع من مذهبهم في الموتى، وإذا كان العرب يفضُلون المصريين بأنهم في جاهليتهم كانوا يعرفون الله الخالق المنزه عن المشابهة للحوادث، ولكنهم يعبدون الأوثان معه، فالمصريون القدماء عرفوا البعث والحساب، الأمر الذي كان يجهله العرب ويقولون: (... أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيد...).
أجاب فرعونَ إجابة المفوض أموره لله تعالى:
أي إن علم حال الأموات بعد موتهم مسجل في كتاب، وهذا تشبيه علم الله تعالى الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها بالعلم المسجل في كتاب، وإذا كان كالعلم المسجل فإنه (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) أي لَا يخطئ ولا ينسى؛ لأن المسجل لَا يمكن أن يكون فيه خطأ ولا يمكن أن يعروه النسيان. تعجل فرعون بعد أن ذكرا له أن العذاب على من كذب وتولى، فأخذ يسأل متعرفا بعد أن كان لَا ينزل إلى التعرف حاسبا أنه الإله الأعلى كما عبر عن نفسه، فسأل (فَمَن رَّبُّكمَا يَا موسَى) فأجابه إجابة مختصرة مفيدة؛ لأنها جامعة لمعنى الخلق فاعترض بقوله: (فَمَا بَالُ الْقرونِ الأولَى) صارفا القول، أو متعجلا في تعرف حال
ليعتريه البَرَد، فينزل ماء مدرارا، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣)
وماء النيل ينزل من السماء مطرا مدرارا، ثم يتجمع فيجري من جبال الحبشة حتى يصل إلى مصر لَا يعوقها عنها عائق.
وقوله: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) هو من حديث موسى عن ربه قطعا معرفا له لمن لَا يعرفه، وإن كانت فطرته تناديه معرفة، ولكنه يتجاهلها، ويصم أذنيه عن
(مِن نَّباتٍ شَتَّى)، أي مختلف متنوع فهذا حب متراكب، وهذا في سنابل وهذا للإنسان وذاك للحيوان، وهذا نخيل باسق وهذا كروم، وهذه فاكهة ورمان، و (شَتَّى) جمع شتيت كمرضى جمع مريض، وهو على ما قلنا صفة للنبات.
بعد أن ذكر سبحانه أنه الذي أخرج كل شيء من الزرع في بلد الزرع، وأنه هو الذي أنزل الماء من السماء في بلد النيل، بعد ذلك ذكر نعمته المباشرة في هذا فقال عز من قائل:
وهذا التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطبين؛ لبيان النعم التي أنعم بها عليهم، إذ إن هذا النبات فيه طعام لكم ولأنعامكم " والأنعام " جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، لأنها نعم أنعم بها عليكم في ركوبها، وفي أكلها، وفي أخذ أنواع المنافع منها، من أصوافها، وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.
وقوله: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) الأمر فيها للإباحة لَا للوجوب، والأمر بالأكل للإنسان واضح ولا يكون إلا بعد الإعداد من طحين ونخل وعجن وخبز، وبعضها
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لأُوْلِي النُّهَى) الإشارة إلى المذكور من آيات الله من خلق الأرض وجعلها ممهدة، وخط السبل فيها، وإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج النبات أزواج في صنوف شتى متفرقة متعددة المنافع متنوعة الأجناس، إن في ذلك كله لآيات بينات تدل على قدرة الواحد الأحد، ولكن لَا يدركها إلا أولو النُّهى، أي أولو العقول، وسمي العقل " نُهية "؛ لأنه ينهى عن قبائح الأفعال، كما سمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل النفوس عن الزلل والوقوع في الأخطاء والخطايا إن استعمل فيما خلقه الله تعالى له، ولم يشطط، ولم يفسد، وفي كل هذا كما أشرنا وحدانية الله؛ لأنه وحده الخالق الوهاب.
* * *
العناد والمواجهة بالآية
(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ
* * *
استعلى فرعون على الخلق، واختبر الله به أهل مصر اختبارا شديدا حتى إنه فرض عليهم أن يجعلوه إلها فجعلوه، وفرض عليهم عبادة العجل فعبدوه، وأوجب عليهم أن يلغوا عقولهم في عقله، ورأيهم في رأيه، حتى إنه ليقول لهم مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، فبين الله تعالى أنه من الأرض، ويعود إلى الأرض، ثم يكون الحساب الشديد على ما قدم من عمل، ولذا قال تعالى:
فعظامه ولحمه نبت من تراب، فآدم أبوه، وأبو الخليقة خلق من طين، ثم كان غذاء ذريته من نبات الأرض الذي ينبت في الطين، ومن حيوان الأرض الذي يتغذى من نباتها، وهكذا كان لحمه، ولقد كان خطاب الله تعالى لفرعون الذي استكبر واستعلى ليخفف من غلوائه.
وما أن تنتهي حياته في الدنيا حتى يعود إلى الأرض التي نبت منها، وصوره الله من طينها، ولذا قال تعالى: (وَفِيهَا نُعِيدُكمْ) بأن تدفنوا فيها، وعبر سبحانه وتعالى بقوله: (وَفِيهَا نُعِيدُكمْ) فعدى بـ " في " دون " إلى "؛ للإشارة إلى أنه لم يخرج من محيط الأرض فمنها خلق وفيها يحيى فهو مستمر فيها حيًّا وميتًّا.
تلك موعظة الله لفرعون، وتلك آياته، ولقد قال تعالى بعد ذلك إنه أبى فقال تعالى:
(وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كلَّهَا) وهذا النص يفيد أن الآيات كلها خوطب بها كل واحدة في ميقاتها، وعند الحاجة إليها، والوعد بالإيمان إذا رفعها الله، كما وَعَدوا بالإيمان إذا رفع الله الرجز عنهم، ولكنه رفعه، (فبغوا) وقبل أن نتكلم في أمر المعجزة الأولى وهي العصا نذكر أمرين، أولهما: أنه سبحانه وتعالى أكد أنه أبي وقد أعطاه الآيات كلها مبينا لها، واحدة بعد الأخرى مع أنه لم يبين هنا إلا آية واحدة وهي العصا، والجواب عن ذلك أن هذا النص الحكيم حكم عام على إبائه وتجبره واستكباره، وقد جاءته الآيات كلها، والإباء ختام لما قدمه موسى، فقد أكد الله تعالى أنه بين له الآيات كلها بـ " اللام " و " قد "، والتأكيد بكل ذلك حق لَا ريب فيه، ولكنه اختص أولى الآيات؛ لأنها التي كانت بها الصدمة الأولى.
عندما قدم موسى أول آية ومعها الحجج الذي أفحمت فرعون، ونقول أرهبت الجبار عندما ذكر له أن العذاب على من كذب وتولى، وذكر آيته الباهرة في الخلق والتكوين، وخص بالذكر ما يتعلق بالزراعة والنيل، عندئذ تقرر أنه إذا كانت فكرة الإيمان قد راودته، ففكرة السلطان قد عاودته، ولا يتخلى ملك ولو كان غير فرعون عن سلطانه طوعا واختيارا فلابد من مقاومته، وقد خشي أن يتسرب الفكر من المؤمن إلى قومه فجاء المصريين من ناحية ما يحرصون عليه، وهو حرصهم على سلامة أرضهم، وأن يكون الحاكم فيهم منهم، ولو كان فرعون، فقال:
وهنا يجب الالتفات إلى كلمة قالها في هذه الحَومة من الجدل، فلقد نادى موسى قائلا (يَا مُوسَى) استدرارا لمحبته، وتذكيرا له بسابق تربيته بينهم، إذ قال من قبل (... أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)، وهذا يدل على فزعه واضطرابه وتلمس الأمن من أي جانب يكون فيه أمن واطمئنان، ولقد أقسم بما يقسم به عندهم، موثقا قوله عليهم مطمئنا إليهم (فَلَنَأتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مثْلِهِ) " الفاء " للسببية، أي بسبب سحرك لنأتينك بسحر يماثل سحرك، أقسم على قومهم استحثاثا لهممهم واستدرارًا لمعونتهم في هذا الكرب النفسي، وأكد قوله بـ " نون " التوكيد، وبـ " لام " القسم، وقال (مِثْلِهِ) شعورًا بالضعف، وأنه لَا يزيد عليهم فهو ليس عنده طاقة بالزيادة، ولذلك أراد اللقاء في معركة، ولم يجرؤ على أن يعين هو مكانها وزمانها وترك لموسى أن يعد الأمر ويبين الموعد، فقال: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى)، تلطف فرعون الجبار مع موسى الكليم ففوض إليه أن يختار هو الزمان والمكان الذي تكون فيه المغالبة بين سحرهم وعصى موسى، ولا شك أن هذا التلطف كان يمكن أن يكون مطمعا للإيمان، لولا الملك وطغيانه، وأن مصر بلد السِّحر، وأن سحرتها كانوا علماءها، وقوله: (موْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى) (مَوْعِدًا) مفعول بـ (فَاجْعَلْ) وكذلك (مَكَانًا) وسُوًى) أي مكانا عدلا ووسطا بين الفريقين لَا يشق علينا ولا عليك، وهو صالح
أجابه موسى عليه السلام مبينا الزمان والمكان، فالزمان هو ضحى يوم الزينة، والمكان هو مكان الاحتفال بيوم الزينة الذي يجتمع فيه الناس لهذا الاحتفال، و " الحشر " هو الجمع، كما قال تعالى في آية أخرى: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْن فِي الْمَدَائنِ حَاشِرِينَ).
و (مَوْعِدُكُمْ) اسم زمان بدليل أنها محمول وموضوعها يوم الزينة فلابد أن يتفق المحمول والموضوع في الماهية، فلا يكون المحمول مكانا، والموضوع زمانا.
وما يوم الزينة؛ لم يبين القرآن ما هو ذلك اليوم، ولم يصح عن السنة ما يدل عليه، فقال بعض التابعين: يوم عاشوراء، وقيل يوم سوق عظيم يتزين فيه الشعب، وأقرب الأقوال إلى العقول، أنه يوم وفاء النيل، - فمصر من قديم الزمان تحتفل فيه وتتزين سرورا باطمئنانها على السقي والرعي، ولعل كليم الله موسى اختار ذلك اليوم لأنه يكون فيه جمع حاشد، وفيه تذكير برحمة الله تعالى على مصر بهذا النيل السعيد، الذي يفيض رحمة من الله، فيكون الفصل في قضية الإيمان في زمان ومكان يكون نعمة الله سابغة على مصر الزراعية.
بعد الاتفاق على الموعد وزمانه لَا باليوم فقط بل بجزء من اليوم وهو ضحى يوم الزينة، واختار الضحى ليكون الجمع أحشد، والشهود أكثر، فتكون المقاضاة على الحق أمام أكبر عدد ممكن، وتكون الدعوة والتبليغ لأوفر عدد، بعد هذا الاتفاق
أتى إلى الموعد، وموسى كليم الله تعالى قد أتى، وفد ابتدأ كليم الله - عليه السلام - بإرهابهم بقوة الله تعالى؛ لأنهم مقهورون بقوة فرعون وطاغوته وجبروته، فذكر أن قوة الله أعظم، وسلطانه أكبر فقال:
اتجه إليهم ببيان قدرة الله تعالى وأنها تستأصل، ليزيل برهبة الله تعالى القادر - رهبة فرعون الذي لَا يملك من أمره شيئا وإنما قوته تخيل ووهم، وهو في ذاته ضعيف كغيره من الناس.
ومعنى قوله تعالى عن موسى: (لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) معناه: لا تقطعوا كذبا ولا تقولوه في مقام الحق، وصدَّر النهي بقوله: (وَيْلَكُمْ) أي الهلاك النازل بكم إن غيرتم الحق وبدلتموه وآثرتم الباطل عليه مرضاة لفرعون وقومه ممالئين في الحق وتقولون الباطل، ثم أكد وقوع الهلاك عليهم فقال الله عن موسى:
(فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) الإسحات: الاستئصال، وألا تبقى منهم (باقية)، ومع هذا الاستئصال الخيبة؛ لأن الافتراء أشد الخيبة وأفحشها ولا يلجأ إليه إلا الخائبون في ذات أنفسهم، يعني أنكم إن كذبتم وافنريتم فإن الهلاك نازل بكم لا محالة، ولا تكونون قد نجحتم في هذا السباق الذي يكون فيه الاتجاه إلى طلب الحق.
الفاء للسببية، أي بسبب ذلك القول الرهيب الذي أرهبهم تنازعوا أمرهم أي تجادلوا مختلفين غير متفقين في موقفهم من فرعون الذي كلفهم، وموسى الذي أفزعهم إن حادوا عن الصواب وجانبوا الحق، وعبر سبحانه عن تجادلهم بأنهم تنازعوا القول فكان فريق في جانب، وآخر في جانب، وتجادلوا وكل مجادلة بين متناقضين في النظر نزال وتصارع في الأمر، ولكنهم من بعد غلب عليهم أنهم يريدون السلامة لأنفسهم، وأسروا القول، ولم يريدوا اطلاع الناس على أحاسيسهم وفزعهم، ولذا قال في وصف حالهم: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي بالغوا في إسرار مناجاتهم؛ لأن المناجاة ذاتها إسرار، ومعنى إسرارها المبالغة فيها بحيث لَا يستطيع أحد أن يطلع عليهم، ولا يعرف ما أسروه وتناجوا به.
* * *
المنازلة
(قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ
* * *
إنهم اختلفوا عندما بين لهم كليم الله موسى - عليه السلام - عاقبة الأمر وتناجوا فيما بينهم وأسروا النجوى مبالغين في الإنكار، وانتهوا إلى أن أعلنوا رأى فرعون اتقاء للشر وتعرفا للأمر بعد وقوعه.
(إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) فيها ثلاث قراءات أولاها وأشهرها بـ (إِنَّ) المشددة والألف في الاسم والخبر، والقراءة الثانية (إِنَّ هذين لساحران) بـ (إِنَّ) المشددة والياء في (هذين)، والقراءة الثالثة (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) بـ " إنْ " المخففة لَا المشددة. وإن القراءة الوسطى (الثانية) سائرة على الإعراب المشهور وهو أن (هذين) اسم " إنَّ " منصوب بالياء.
وأما القراءة الأولى فقالوا إنها على اللغة التي تلزم المثنى الألف في الرفع والنصب والجر كما هي في الأسماء الخمسة، كما قال القائل:
إن أباها وأبا أباها | قد بلغا في المجدِ غايتاها |
________
(١) قرأ المدنيان، وابن عامر، ويعقوب، والكوفيون إلا حفصا بتشديد (إن)، و (هذان) بالألف، وتخفيف النون.
وابن كثير بتخفيف (إن)، و (هذان) بالألف، وتشديد النون، وحفص كذلك، إلا أنه بتخفيف النون، وقرأ أبو عمرو بتشديد (إنَّ)، و (هذين) بالياء، مع تخفيف النون. الشيخ محمود خليل الحصري - القراءات العشر من الشاطبية والدرة - ص هـ ٢٢.
ضربوا على نغمة فرعون ابتداء منجاة بأنفسهم من بطشه، والنفس الإنسانية دائما مأسورة بالأمر الحاضر مؤجلة القابل إلى ميقاته، وكذلك كان هؤلاء (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)، " الباء " هنا للتعدية والمعنى ليذهبا طريقتكم، وجيء بالباء لتقوية التعدية أي ليذهبا أي إذهاب بطريقتكم المثلى، أي دينكم الأمثل وكل معتقد يعتقد في دينه أنه الأمثل في الأديان، وإن كان ضلالا في ضلال.
ويظهر أنه كان الخلاف مستحكما ولكن أخفوه، ولذا قالوا.
الفاء للسببية، أي بسبب أنهم أرادوا بسحرهم أن يخرجاكم من أرضكم، ويذهبا بطريقتكم المثلى، وهو أمر جامع متفق عليه، فأجمعوا كيدكم أي اعتزموه، وأقدموا مجتمعين غير متفرقين، وائتوا إلى موسى صفا لَا خلل فيه ولا افْتراق ولا تنازع، واتفقوا على أمور ثلاثة:
أولها: إجماع كيدهم، وهو تدبيرهم، ادخلوا الحومة مجمعين على تدبير واحد غير متفرقين فإن الإجماع وحده قوة، والفرقة ضعف وعجز، ولا تنازعوا فتفشلوا.
وثانيها: أن يأتوا موسى صفا واحدا لَا ثلمة فيه ولا افتراق، فإن ذلك يزرع في نفسه الهيبة منكم، قالوا ذلك وكأنهم مقدمون على ميدان قتال.
والأمر الثالث: أنهم اتفقوا راغبين في الاستعلاء وأخذ الأجر من فرعون والاستعلاء بعزته الفرعونية وكبريائه الغاشمة، ولذا قالوا: (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ منِ استَعْلَى)، أي فاز برضا فرعون من استعلى على خصمه، والسين والتاء للطلب، أي
استنفذوا كل جهدهم وطاقتهم، وقد سحروا بفعلهم أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وخُيِّل إلى موسى من سحرهم أن عصيهم تسعى، وما انقلبت حيات تسعى، بل هي على حقيقتها حبال وعصي، ولكن الأعين هي التي سحرت، ولذا قال تعالى في تأثير ذلك على موسى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسعى) ولقد كان ذلك التخيل مفاجأة لموسى، ولذا عبر بـ (إذا) التي للمفاجأة، والمفاجأة ما كانت في تحول العِصِيّ إلى حيات، إنما كانت المفاجأة التي خيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وكان موسى عليه السلام تتمثل فيه الطبيعة البشرية، والتخيل يؤثر في البشر وإن كان عنده الحق المبين، ولكن لَا تزول المفاجأة إلا بتأييد من الله، والله معه:
أي أذهب عنك الهواجس التي اعترتك من المفاجأة لأننا معك، والعاقبة لك (إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى) في هذه المبارزة، وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنهم لَا علو عندهم، وإنما المراد أنك أنت الغالب على فرعون وملئه، وأنت المسيطر في الجولة، ومعك سلاح الغلب والسلطان، وهو المعجزة التي، في يمينك، ولذا قال له عز من قائل ينبهه إلى معجزته الأولى التي بجست الحجر وفلقت البحر، وما كان غافلا، بل إن الدهشة التي أوجس منها خيفة جعلته يحتاج إلى أن ينبهه الله تعالى فقال:
وقالوا: إنما أبهم ولم يذكر أنها العصا تعظيما لأمرها؛ ولأنها هي عود صغير من شجر تأخذ كل هذه الحبال والعصي ولا تُبقي شيئًا يتخيل، أو لَا يتخيل، وأرى أن قوله (مَا فِي يَمِينِكَ) تنبيه إلى أن في يده ما يدفع وهمهم، فكيف يوجس خيفة، وهو في يده، وقوله تعالى: (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) بالجزم جوابا للأمر، أي ألقِ ما في يمينك - وهو العصا - وقوله تعالى:
(تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا)، أي تأخذه بسرعة وتبتلعه ولا يكون له أثر. (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) الضمير يعود إلى العصا، ولذا صدَّر المضارع بالتاء، فكأنه إبهام ثم بيان فقال (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) فلم يذكر أنه العصا، ثم بينها بعود الضمير على لفظ العصا بالتاء، وقد علل الله تعالى لقف العصي والحبال، فقال:
(... إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).
" ما " هنا اسم موصول بمعنى " الذي " وهي اسم " إنَّ " وقوله تعالى (كَيْدُ سَاحِرٍ) خبر (إن) وأفرد ساحر مع أنهم كانوا كثرة كاثرة حتى ادُّعي في الأساطير
وقال تعالى: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) كان التعريف بـ " ال " التي للجنس، ويكون المعنى ولا يفلح من كانا عمله السحر في أي مكان أتى، فكلمة (حَيْث أَتَى) حيث: ظرف مكان، أي من إى مكان أتى، وإلى أي مكان سار، فهو لا فوز له أبدا، ولكن ضلال وتمويه، وتخيل للأعين واسترهاب للنفوس.
عندما استعان فرعون بالسحر والسحرة استعان بهم ليغلبوا، ولكنهم كانوا المميزين بين السحر والمعجزة فأدركوا أن عصا موسى ليست من السحر، ولكنها معجزة الله تعالى أعطاها موسى فآمنوا، قال تعالى:
يقول الزمخشري في عبرة هذه الوقائع: " سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين " اهـ. ونقول: ما أعظم الفرق بين الباطل والحق. وبين الاستجابة للباطل واستجابة للحق جل جلاله.
" الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وكان ما قبلها هو إلقاء العصا ولقفها كل ما ألقوا وكان شيئًا كثيرا إذ امتلأ المكان بالحبال والعصي التي تسعى، حتى كأنَّ الوادي صار أفاعي وحيات في نظر الرائي، فكان عجبا أن تبتلعها عصا يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، فكان الإيمان بالمعجزة، وهم أهل الخبرة في معرفة ما هو سحر وما ليس بسحر فآمنوا بالمعجزة وخروا ساجدين.
وظهوره، (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسَى) آمنوا بالله واكتفوا من التعريف بأن يكون
رب هذين الصادقين، وخبر الصادق صادق.
* * *
فرعون والسحن بعد إيمانهم
(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
* * *
أحس فرعون بأن الأرض تميد من تحت أقدامه فلبس الجلد الفرعوني، وأخذ يهدد وينذر وينفذ ما قام به من شر؛ لأنه رأى بوادر المخالفة لأمره والمنازعة لرأيه، ولذلك بطش، وانتقل من الاستدراج إليه إلى القهر، وعاد إلى الطغيان.
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).
وفى هذا الاستفهام إنكار للواقع، فهو ينكر إيمانهم الذي وقع، ويوبخهم عليه، وموضع التوبيخ أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم وهو بذلك يصل بهم إلى أعلى درجات العنت والطغيان، فهو يعلن بهذا أن حكمه يصل إلى فكرهم وقلوبهم، ويحقق فيهم قوله (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
كان فرعون على رأس طريق أخذ يسلكه السحرة، فلم يقل الحق ويذعن، ويسلك سبيل الرشاد، بل أخذ يموِّه الحق بتمويه من الباطل، فرآهم تبعوا موسى فما أذعن للحق الذي تقاضى مع موسى فيه، بل أخذ يماري، ولا يقول إنه غلبهم، لأنه على الحق، بل لأنه أكبر منهم قدرة وطاقة، وأنه منهم بمنزلة المعلم الذي علمهم، فقال: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكمُ السِّحْرَ)، فهو أسحر منهم وأعلم، وهم منه بمنزلة التلميذ من المعلم، فلم يغلبهم لأنه المحق وهم المبطلون، وإنما غلبهم لأنه أسحر منهم وأعلم، وهكذا كانت المعاندة لآيات الله وقد برزت.
ولأنهم على رأس طريق جديد وهو الخروج على طاعته ومقاومة جبروته، والاستعلاء بربهم على طغيانه - وضع العقبات وأنزل بهم العذاب الشديد، فقال: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) " الفاء " للسببية، أي بسب ما فعلتم لَأُقَطِّعَنَّ أيديكم.
في هذا الكلام قسم بما يُقسم به عنده، و " اللام " لام القسم، ولذا كانت " نون " التوكيد الثقيلة، التي تلازم القسم في اللغة، والتقطيع للأيدي والأرجل بصيغة التفعيل يدل على كثرة القطع، لكثرة من قطعمت أيديهم وأرجلهم، وقوله (مِّنْ خِلافٍ) أي تختلف جهة القطع، فإذا قطعت اليد اليمنى، تقطع الرجل اليسرى،
أقسم الجهول في قوله هذا بما يُقسم به عندهم، و (أَيُّنَا) استفهام، وهي تفيد التنبيه في زعمه إلى أنه أشد عذابا وأقسى من موسى، وأبقى أثرا في عذابه من موسى، وهو جهل طاغ لأن موسى لَا يعذِّب، ولكن يرشد ويهدي، إنما الذي يعذب هو الله ربَّ موسى وهارون، وعذابه أليم هو جهنم يخلد فيها فرعون ومن يتبعه.
من دخل الإيمان قلبه يعمره الله بنوره ويستهين بالحياة والأحياء ولو كانوا فرعون وقبيله، ولذا أجابوا عن تهديده الذي ثفذه بقولهم كما حكى الله تعالى عنهم:
وقالوا ما يدل على الاستهانة بحكمه القاصر (إِنما تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) هذه الحياة الدنيا ظرف، فتقدم في الكلام، والمعنى: إن قضاءك هو في هذه الحياة الدنيا، وما موصول حرفي، وإذا قضاؤك هو في هذه الحياة، فهو قضاء تنفيذه وقت قصير ومن بعده خير طويل، فإنما الحياة الدنيا متاع قليل والآخرة خير وأبقى، وإن هذا يدل على كمال الإيمان بالله، والاستهانة بفرعون وعذابه.
أول أمارات الإيمان الراسخ الإحساس بالتقصير والإذعان لله تعالى، وهذا أمر أولئك المؤمنين الذين كانوا من قبل ساحرين، قالوا مؤكدين إيمانهم ومؤنبين فرعون وشيعته:
قالوا مؤكدين إيمانهم بـ (إن) أولا، وبالجملة الاسمية ثانيا، وبقولهم (بِرَبِّنَا)، أي الذي خلقنا وأنشأنا إنشاء، فكأنهم يوثقون إيمانهم بأنه إيمان بمن خلق وصور لا بمن يظهر قدرته في العذاب والإيذاء لَا في الخلق والإنشاء.
وذكروا ما يرجون من وراء إيمانهم فقالوا: (لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا) و " اللام " هنا لام العاقبة، أي لتكون عاقبة إيماننا بربنا أن يغفر لنا خطايانا، والخطايا جمع خطيئة، والخطيئة هي الذنب الذي يحيط بالنفس ويستولي عليه، حتى يصير كأنه صفة من صفات النفس يصدر عنه من غير تدبر ولا تفكر، ولذا قال تعالى: (بَلَى مَن كَسَبَ
وقد ذكر رجاء الغفران من خطاياهم، أي آثامهم، التي كانت منهم، وهم في ديانة القدماء من المصريين، وقد اعترفوا أنهم كانوا يفعلون هذه الخطايا مختارين، والأمر الثاني الذي اعترفوا به هو السحر، وهو إثم، ولكنهم ذكروا في هذا أن فرعون كان يكرههم، ولذا قالوا (ومَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ).
وإذا كنت يذهب غرورك بأن تقول: (... وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) فنحن نقول الحق: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، فالله هو الدائم، وهو الخير كله، فلا يكون عنه إلا خير ولا يرضى لنا إلا كل خير.
ولقد بينوا رجاءهم في الله، وعاقبة المجرمين فقال الله تعالى:
الضمير ضمير الشأن أي أنه الحال والشأن المقرر الثابت (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا)، أي مرتكبا الآثام كاسبا لها، قد سيطرت عليه آثامه واستغرقت نفسه، (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى).
وهذا القول يحتمل أن يكون من كلام السحرة الذين آمنوا وذلك ظاهر السياق؛ لأن الكلام فيما ردوا به على فرعون، ويحتمل أن يكون وصفا لما يجري على الأشقياء بحكم الله تعالى وقضائه، ويرشح لهذا ما جاء بعد ذلك من ثواب المتقين، وقوله تعالى لمن يدخل جهنم: (لا يَمُوت فِيهَا وَلَا يَحْيَى) وهذا وصف عميق للذين يخلدون في النار فهم لَا يموتون ليستريحوا راحة الموت، إذ يفقدون الحس شقاء أو نعيما، ولا يحيون حياة كريمة فيها متعة الأحياء، ولكنها عذاب وآلام، فهم لَا يموتون فهها ولا يحيون؛ إذ هي حياة الألم المرير المستمر الذي لَا ينقطع.
الضمير في (يَأْتِهِ) يعود إلى ربه، ويتضمن معنى الإقرار بالربوبية، والخلق وإنشاء الإنسان، وفي ذلك رد فرعون واستهانة به، وهو الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى. و (مُؤْمِنًا) أي مذعنا خاضعا للحق مستقيم النفس والعمل، ولذا قال من بعد (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ)، والصالحات الأعمال الصالحة التي تنشر العدل والحق وتقيم النفع وتدفع الفساد في الأرض، وتحفظ للإنسان كرامته، وتدفع عنه المهانة وتسوي بينه وبين الناس، وقد ذكر سبحانه وتعالى جزاءهم فقال: (فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) " الفاء " في جواب الشرط، والإشارة إلى هؤلاء متصفين بالإيمان والصلاح، والقصد إلى الأعمال الصالحة النافعة غير المفسدة، (لَهُمُ الدَّرَجَاتُ)، وهي الارتقاء في السمو والارتفاع، و (الْعُلَى) جمع " عُلْيَا " وهي مؤنث " أعلى "، أي الدرجات المرتفعة التي ما فوقها ارتفاع، فلا يرفع المؤمنين أن يرضى عنهم فرعون، وهو بشر دونهم؛ لأنهم أطهار وهو مجرم آثم ظالم غشيه الشر وأرداه، فلعنه الله ومن يتشبه به وإن كانوا دونه قوة واقتدارا، ولكنها الغطرسة الحمقاء.
وقد بين سبحانه هذه الدرجات العُلى، فقال سبحانه:
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة، وهي إقامة مريحة (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)، وفي ذلك تبكيت لفرعون بأنهم ينالون بعملهم الصالح خيرا مما فيه، وإذا كان يقول معتزا بغير الله تعالى: (... أَلَيْسَ لِي مُلْك مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَار تَجْرِي مِن تحْتِي...)، فأولئك البررة الأتقياء تجري من تحتهم الأنهار في جنات عدن، وإن هذه الجنات يخلدون فيها ويستمرون، وفيها النعم غير مقطوعة ولا ممنوعة (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى)، الإشارة إلى هذا النعيم المقيم جزاء من تطهر من الظلم والمعاصي، ولم يَسِرْ وراء الأوهام الفاسدة.
* * *
نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)
* * *
لم يذكر سبحانه وتعالى إنزال الرجز عليهم، وآيات أخرى، ومجادلات لفرعون وملئه وادعائهم التطير بموسى ومن معه، ويلاحظ أنه لم يحاول الفتك بموسى وأخيه هارون، وقد ذكرت هذه الأحوال في سورة الأعراف، وهكذا تتبع قصة موسى مع فرعون وبني إسرإئيل يبدو بادي الرأي أنها مكررة، وبالتأمل تجدها
بعد ذلك ترك المجادلات واتجه القرآن الكريم إلى نهاية الطاغوت في الأرض وإغراق صاحبه:
أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)، " أنْ " هنا تفسيرية، أي أن الإيحاء كان هو قوله: أَسْرِ بِعِبَادِي، الإسراء: السير ليلا، وكأنَّهم خرجوا على استخفاء من فرعون خشية أن يبادرهم بالإيذاء، ولكنه علم بهم، فلحقهم بجنوده، وأمر الله تعالى موسى أن يخط لهم طريقا يبسا جافا من الماء؛ ولأن خط هذا الطريق كان بالضرب بالعصي التي بيده دائما - عبَّر عن الأمر بالتخطيط بالضرب، وقد جاء في سورة الشعراء (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦).
وفي هذه الآية أكد سبحانه وحيه لموسى بـ " اللام " و " قد "، وقولِهِ تعالى: (يَبَسًا) مصدر هو وصف للطريق الذي أمر موسى به، وهو مصدر من يبس.
وقد طمأن الله موسى ومن معه من بني إسرائيل الذين سماهم عباده؛ لأنه لخصهم من فرعون وأهواله، طمأنهم بقوله تعالى: (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى)
يقال تبع وأتبع بمعنى تبع كما في لحق، وألحق، والمعنى وتبعهم فرعون مصاحبا جنوده وقد أرسل إليهم يدعوهم معه قائلا: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وأنهم لنا لغائظون - اجتمع بكل ما عنده من جند قوي تجبر بهم وعاند، فتبع موسى الذي جمع بني إسرائيل فكان جمع الأقوياء، وراء جمع الضعفاء، ولكن كان الله مع الضعفاء، فرعون وجنده وراء موسى وبني إسرائيل، ويحسب المغرور أن البحر حاجزهم، ولكن رب السماوات والأرض، ورب البحار والأنهار، شق البحر لهم، فضرب موسى البحر بعصاه فانفلق، وكان كل فرق كالطود العظيم، كان البحر الذي يكون الناس فيه كدود على عود اثني عشر فرقا كان لكل جماعة طريقا، وتبع كل أناس إمامهم، فرأى المغرور الطريق بين يديه يبسا كما هو بين أيدي بني إسرائيل، وقد ضل هو وجنده، حتى إذا تم دخولهم انطبق عليهم البحر، وهذا معنى قوله تعالى: (فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيهُمْ) أي غطاهم من البحر ما غطاهم، وهذا من الإيجاز المعجز، وصاروا في البحر، فلما أدركه الغرق قال: (... آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ...)، والإبهام هنا لتذهب فيه النفس بالخيال كل مذهب، وكل خيال فيه دون الحقيقة لأن جندا بأكمله، كان يتجبر به فرعون ويستعلي ويغتر وقد جمعه كله بإرادته، قد ألقاه فرعون في البحر إلقاء، ولذا قال تعالى من بعد:
أوقع فرعون في نفوس جنده أنه مدركهم، وأنهم قاتلوهم، إذ هم عُزَّلٌ من السلاح وهم شرذمة قليلون كما قال، وما علم هو وهم أن معهم الله تعالى على كل شيء، وكان بهذا إضلالهم إضلالا حسيا، ظهرت عاقبته فيه وفيهم بإغراقهم، وإن هذه صورة جلية حسِّية من إضلالهم العقلي والديني، فقد أضلهم فجعل نفسه إلها فيهم وأضلهم فأرغمهم في نفسه، وصاروا ليس له معهم وجود إنساني، ثم قال تعالى: (وَمَا هدَى) وهو الذي كان يقول لهم: (... مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، فكان اندغامهم في فكره إبعادا للهداية وإمعانا في الغواية.
* * *
موسى وينو إسرائيل
عاش موسى المجاهد في الحق أربعة أدوار: أولها أنه عاش في بيت فرعون تكلؤه المحبة من زوج فرعون، وربما فرعون نفسه الذي لم يكن له ولد، فكان في بيته بمثابة ولده، حتى إذا بلغ أشده وأدرك المجتمع الذي يعيش فيه كان الدور الثاني، فأدرك من هو في مصر ومن قومه، فما ارتضى الظلم في ذاته، ولا ظلم قومه، فكان ربيب نعمة فرعون من شيعة المظلومين المضطهدين، وعندئذ خرج من مصر حرّا كريما رضي بشظف العيش، وجفوة الصحراء وخلص لله، وقال مناجيا ربه:
(... إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، وعاش كادحا وتزوج من إحدى ابنتي شعيب، واستمر يرعى الأغنام متمتعا بحرية الصحراء ونسيمها غير الوبيء، وإذا كان قد حُرِمَ رافغ (١) العيش في بيت فرعون، فقد منح حرية النفس وسلامة الاعتقاد، ونعمة الكفاح، وذَوْق متاعب الحياة بجوار نعيمها، فاكتملت بذلك إنسانيته، وعندئذ جاء الدور الرابع من حياته.
وهذا الدور الرابع كان في حقيقته دورين: أولهما: لقاؤه هو وأخوه بفرعون، وقد انتهى بغرق فرعون، ونجاة بني إسرائيل، ويبتدئ الدور الثاني، وهو دوره مع بني إسرائيل ومحاولة تربيته لهم، لقد رُبوا على الاستخذاء والضعف والاستكانة،
________
(١) الرفاغِيةُ: سَعة العَيش والخصْبُ والسَّعةُ. وعيش أرْفَغ ورافِغ ورفِيغٌ: خصِيبٌ وسِعٌ طيِّب. ورفُغَ عيشه، بالضم، رفاغة: اتَسَعَ. َ لسان العرب - رفغ.
بعد أن نجا هو وبنو إسرائيل من فرعون، وألقاه الله تعالى في اليم، قال الله
تعالى مخاطبا لهم:
ناداهم الله تعالى مقربا مدنيا مؤنسا لهم ذاكرا سبحانه نعمته عليهم؛ ليعرفوا حقها عليهم من الشكر فلا يكفروها، (قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ) الذي تحكم فيكم وأسامكم سوء العذاب، وإن هذه كانت مظاهر العداوة من ذلك الظالم الغاشم (وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيمنَ) أي الإتيان في جانب الطور الأيمن، فالكلام على حذف مضاف، وحُذِف لأن المقصود هو ذات الجزء الجانب الأيمن، والإشادة به لأنه الجانب الذي لقي فيه ربه، وأنزلت عليه الألواح العشرة فيه، فهو المكان الذي كانت ذكريات نبوة موسى عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل، والتوراة من الكتب المقدسة التي تشتمل على الشرائع الخالدة إلا ما نسخه القرآن الكريم.
وقد قال تعالى: (وَاعَدْنَاكمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ) وهنا ملاحظتان: إحداهما أن الله تعالى جعلهم طرفا في المواعدة وهي مفاعلة تكون من جانبين، جعلهم الله سبحانه وتعالى طرفا مقابلا لذاته، وذلك تكريم لهم، ورفع لنفوسهم التي استخدمت بإذلال فرعون، فأعلاهم رب العالمين ورفع كبوتهم وأزال عنهم خسيسة الذل.
والثانية أن المواعدة كانت مع موسى رسولهم، لَا معهم كلهم، ولكن موسى يجيء بهذه الشرائع إليهم، وقد قال تعالى في هذه المواعدة (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً...)؛ ولأن موسى وهو رسولهم الذي أرسل إليهم كانت المواعدة معه مواعدة لهم. ولأن موسى اختار منهم من سيلونهم في هذا اللقاء، فإد قال تعالى: (وَاخْتَارَمُوْسَى قَوْمَهُ سبْعِينَ رَجُلًا
وقد ذكر سبحانه وتعالى طعامهم في هذه الصحراء الجرداء، فبدلهم الله بطعام مصر طعامًا أشهى وأمرأ وأجدى وهو المن الذي أنزله الله في الأشجار، والسلوى ذلك اللحم الطري؛ ولذا قال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) وقال: (وَنَزَّلْنَا) ولم يقل " أنزلنا "؛ لأن المن والسلوى لم ينزل عليهم دفعة واحدة، فيغمرهم فيحتاجون إلى وسائل لادخاره وحفظه، بل كان يعرض لهم على حسب حاجتهم شيئا فشيئا غير مقطوع فلا يحتاجون إلى الادخار، ولا يقطع عنهم فيكون الجوع، بل يجيء إليهم غير مقطوع ولا ممنوع، بل مستمر رحمة من الله تعالى.
هذا رزق الله تعالى لبني إسرائيل في هذه الصحراء الجرداء، وقد نهاهم الله عن الطغيان في الرزق، فقال عز من قائل:
ذكر الله تعالى رزق بني إسرائيل بالمن والسلوى في سيناء فناسب أن يبين - سبحانه - شكر الرزق، وفساد النعمة بالطغيان، فقال: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكمْ) وهذا الأمر لبيان إباحة الطيبات، وهو في معناه يتضمن الطلب؛ لأن الأكل مباح ومطلوب، أما إباحته فلتخير ألوانه الطيبة، وأما طلبه فلمنع الإنسان نفسه من الأكل فيهلك، والطيبات لَا بد لها من أمرين: أن تكون كسبا حلالا طيبا لا خبث من طريق الحصول عليه، وأن يكون غير مستقذر كالميتة ولحم الخنزير، والدم المسفوح، وغير ذلك من المحرمات التي حرمت لأنها رجس مستقذر؛ ونهى سبحانه عن الطغيان في الرزق، فقال سبحانه: (وَلا تَطْغَوْا)، أي لَا تتجاوزوا الحدود فيه، وتجاوز الحدود فيه يكون بضروب شتى، منها: أن يطلبه من غير حلِّه، ومنها: أن يأكل السحت والربا، ومنها: أن يمنع الفقير من حقه، ومنها: أن يسرف
وإن الله تعالى يقرن رحمته بعذابه، ومغفرته بعقابه، ولذا قال تعالى:
(تَابَ) عما يرتكب من كبائر وهفوات، فالتوبة ضراعة إلى الله، ورجوع إليه، وهي ذاتها عبادة، وإن الله يقبل التوبة من عباده، والتوبة تجبّ ما قبلها من معاصٍ، كما أن الإيمان يجبُّ الكفر، و (آمَنَ) معناها ملأ الإيمان بجلال قلبه، بأن قرن توبته بإِذعان مطلق لله تعالى، وكان عمله كقلبه، ولذا قال: (وَعَمِلَ صَالِحًا) بأن قام بالعبادة مخلصا محتسبا، وعمل النافع للناس، وكان يحب الشيء لَا يحبه إلا لله.
(ثُمَّ اهْتَدَى) الاهتداء أن يعلو إلى درجة المهتدين الذين يخلصون عن الداني في عقولهم ونفوسهم، ويكونون ربانيين لَا يعرفون إلا ربهم، ويطرحون كل أمور الحياة وراء ظهورهم إلا أن يكون خيرا أمرهم به، وإن الوصول إلى هذه الدرجة وصول إلى مرتقى عالٍ، ولذا كان العطف بـ " ثم " التي تدل على البُعد، وهذا كقوِله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
* * *
(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١)
* * *
إن هذا هو الدور الأخير من رسالة موسى عليه السلام وهو رعايته لبني إسرائيل، لقد قيل في الروايات: إن عددهم كان ستمائة ألف، ولكن تربيتهم على العقيدة السليمة عقيدة الوحدانية أخذت جهدا كبيرا، ثم إزالة ما عَلَق برءوسهم من
أول صدمة لموسى الكليم فتنة العجل، ذهب موسى إلى جانب الطور الأيمن، كما وعده ربه ليتلقى التوراة، وذهب فرحًا عَجِلًا؛ لأنه على شوق لمخاطبة ربه، ولأن المسارعة إلى وعد الحبيب ترضيه، وترضي نفسه، وفي غيبة موسى عن قومه لم يكن وقتا طويلا، فتن بنو إسرائيل بعبادة العجل، وربما يكون موضع عتب بهذه المسارعة، لما اقترن بغيبته، وكل شيء بإرادة الله، ولكن على المرشد الهادي أن يراقب النفوس وموضع ضعفها، وموضع الضعف عند الإسرائيليين هو معاشرتهم لأهل فرعون، هو اتباعهم طريق هؤلاء في أوهامهم وعاداتهم وتقاليدهم.
قال الله تعالى لكليمه، وقد جاء مسارعا إليه في موعده:
" الواو " وصلت ما بعدها بما قبلها لكمال السياق، ولبيان أن الفتنة جاءت بعد الإنعام بالإنجاء، وتنزيل المن والسلوى، والمواعدة على خطاب الله تعالى لموسى، وهذا فيه تقريب لما يقع منهم من بعد، إذ قرنوا تلك النعم السامية بالكفر لا بالشك، وبذلك يتصور القارئ ما سيكون منهم.
كان موسى عليه السلام قد خرج من قومه بمن يمثلونهم، وهم السبعون المختارون الذين يمثلون أسباطهم، ولكنه ككل رئيس قد يسبق من معه يتعرف أمر اللقاء؛ ولأنه في شوق للأنس بكلام ربه؛ ولأنه يرى أن الله تعالى سيخاطبه بشرائع قد بعث بها.
عتب الله تعالى على كليمه المختار تعجله في ذاته، وعتب عليه أن سبق قومه وتركهم، وهم يحتاجون إلى رعايته ومراقبة خواطرهم ببصيرته وهم قريبو عهد بمعاشرة الفاسقين.
عتب الله تعالى على كليمه هذا، وكان على موسى أن يعتذر عما كان منه، والله عليم بذات الصدور:
أشار إليهم، ولم يأت بـ (كاف) الخطاب تأدبا مع الله (١)، ولأنه سبحانه العليم، فلا يحتاج إلى تنبيه بها إذ هو يخاطب العليم الخبير، ومعنى (أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي) أنهم على مقربة مني، ولا يضلون الطريق؛ لأنهم ورائي، ثم قال معتذرًا عن تعجله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، أي كان الدافع على عجلي إليك محاولتي إرضاءك حاسبا أن المسارعة إليك ترضيك، وقال كلمتين تقربا إليه سبحانه ومشيرا بهما إلى رغبة في ذلك التعجيل وهو أنسا بكلامه معه.
الكلمة الأولى هي (إِلَيْكَ)، أي عجلتي كانت إليك، وأنت القريب إلى نفسي آنس بكلامك، والكلمة الثانية هي (رَبِّ) أي القائم على نفسي، ومن صنعتني على عينك فإني أسارع إلى من صنعني على عينه جل جلاله.
وقد نبهه سبحانه إلى مغبَّة تعجله فقال عز من قائل:
________
(١) أي لم يقل: هم أولئك، ولكن قال: (أولاء).
فاعل " قال " هو الضمير العائد على الله جلت قدرته، والفاء للسببية، أي بسبب غيبتك وعدم قيامك بحق الرقابة النفسية عليهم التي مكناك منها، (قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أي اختبرناهم لتتبين مقدار إراداتهم وعقولهم ومداركهم وأضاف
وعبر سبحانه فقال: (قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أضاف القوم إليه استحثاثا لهمته، وقوة في عتابه، أي أنهم قومه الذي جاء لإخراجهم من طغواء فرعون، ولكن لم يزل الأثر المسمى في عقولهم فطغى بتعاليمه عليهم نفسيا، وإن خلعوا الربقة، وأزالوا رق الأجساد، فلم يزيلوا رق النفوس، ولقد قال تعالى: (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)، أي أوقعهم في الضلال، والسامري شخص انتقل معهم من مصر، كان يجيد النحت والتصوير، ولم ينص على أنه من الإسرائيليين أو أهل مصر الأصليين، ويغلب على الظن أنه إسرائيلي اندمج مع المصريين وعرف صناعاتهم، وقيل: إنه كان هنديا يعبد البقر، ثم اعتنق ديانة بني إسرائيل.
" الفاء " تفيد الترتيب والتعقيب، ففور أن بين الله تعالى ما كان بقومه رجع إليهم في حال غضب وحزن، ولذا قال تعالى: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) والقوم هنا هم الإسرائيليون جميعا الذين كان منهم الذين عبدوا العجل ولم يكونوا عددا قليلا، بل كانوا كثيرين، وإن لم يكونوا الأكثرين، والغضب هو الثورة النفسية للمفاجأة بأمر مؤلم لم يكن يتوقعه، والأسف: الحزن الذي يسكن النفس بسبب أمر غير مقبول، ولا يوجد له أي مبرر، والحزن من شأنه أن يوجد في النفس كآبة، وهمًّا وغمًّا، وكذلك كانت حال موسى عليه السلام عندما علم من ربه أن قومه عبدوا العجل، ولكن الحكمة النبوية توجب ألا يسترسل في الكآبة والغم، والانفعال، بل لابد أن يعالج الوقف باستنكار شديد وحزم الشر واجتثاثه من أصله، وكذلك فعل، فقال لائما مستنكرا:
(يَا قَوْمِ) هذا نداء مقرِّب بأنه منهم يؤلمه ما يضلهم، ويفرحه ما يكون خيرا لهم (أَلَمْ يَعِدْكمْ رَبُكمْ وَعْدًا حَسَنًا) أي ألم يعدكم ربكم بخيري الدنيا والآخرة، وهو
وقوله تعالى: (أَلَمْ يَعِدْكمْ رَبُّكُمْ) استفهام إنكاري، أي لقد وعدكم ربكم وعدا حسنا مع التنديد الحفي، وعبر بـ (رَبُّكُمْ) للإشارة إلى أنه وعد محقق لا محالة. لأنه وعد من الله ربكم الذي خلقكم، وهو القيوم على كل أموركم ومالكم نسيتم هذا الوعد (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) العهد أي الزمن، و " الفاء " هنا سببية، والمعنى أفطال عليكم الزمن فنسيتم الوعد الذي وعده الله، والمعنى أبسبب طول الأمد نسيتم وعد ربكم؛ وهو توبيخ شديد، فإن الزمن لم يطُل، بل كانت الأحداث متلاحقة لَا تراخي فيها حتى يكون النسيان، فقد أنجاكم ربكم، وأغرق فرعون، ثم كان الوعد من الله باللقاء، وكانت فتنة العجل على قرب من ذلك.
ثم كانت الجملة الاستفهامية المعادلة (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) نزل بهم، رفقا بهم من المعاندة لله تعالى، وهي مرتقى صعب لا يريد أن يكونوا فيه، إلى المعاندة له هو، وسارع فتبين أنها هي الأخرى، مغاضبة لله تعالى؛ لأنه عليه السلام لَا يتكلم إلا عن الله، (أَمْ) استفهامية للمعادلة، و (أَرَدتُّمْ) هنا ليست متجهة إلى أن يحل بهم غضب من ربهم، إنما إرادتهم منصب على السبب الذي يفضي إلى حلول غضب الله تعالى عليهم. وفي هذا إشارة ليست خفية إلى أن ما ارتكبوه من عبادة العجل إغضاب لله تعالى، وكفر به، وإن ذلك يؤدي لَا محالة إلى أن يحل بهم غضب الله تعالى، وعبر عن الذات العلية بقوله: (مِّن رَّبِكمْ) إشارة إلى أنه هو الذي نجاهم من فرعون وأغرقه، وكلأهم بكلاءته ونزل عليهم المن والسلوى.
وقال عن غضب الله بأنه يحل عليهم، والمعنى آثاره من إصابتهم بالبلاء من قتل وذبح وصَغَار في الأرض، وقد ذاقوه وتمرسوا عليه في حياتهم في مصر، وهذا حث على طلب رضا الله تعالى، بدل أن يسيروا فيما يوجب أن يحل بهم عضبه.
وإن هذا الموعد بلا ريب يؤدي إلى إغضاب الله تعالى؛ لأنه يكون إشراكا وتفريطا في جنب الله، فلابد أن يحل عليهم غضب الله تعالى وأن يعاد إليهم ما ذاقوه من قبل وعرفوه، أجابوا معتذرين عن فعلتهم الكبرى.
نفوا أنهم أخلفوا موعدهم مختارين مريدين، بل كانوا تحت تأثير إغراء شديد وتضليل كبير، وعبروا عن فقدهم لإرادتهم الحرة الخالية من الإغراء بقول (بِمَلْكِنَا) قرئت بفتح الميم وبكسرها وبضمها (١)، والمراد أنهم ما أخلفوا وعدك في الوحدانية واستقامة النفس والفكر بإرادتهم الحرة المختارة، ولكن بإغراء.
وفى هذا اعتراف بالجريمة، واعتراف آخر بأنهم ارتكبوها وإرادتهم مسلوبة بإغراء شديد، ولو كانوا أمام قاضٍ من قضاة الدنيا لأخذهم باعترافهم، واعتذارهم بأنهم كانوا مغرورين ومخدوعين لَا يخليهم من العقاب بل يقرره عليهم ويثبته، فالعبرة في الجريمة بالاختيار، وقد كان الاختيار من غير إكراه ولا يُعد الغرور إكراها. وخصوصا أنهم هم الذين قدموا سبب التضليل، وقالوا: (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ).
الاستدراك هنا استدراك من اعترافهم يتضمن الاعتذار عن ضعف إرادتهم، وضلال نفوسهم، وهو اعتذار سخيف كشأن بني إسرائيل في كل الأزمان (حُمِّلْنَا) هذا فعل مبني للمجهول لم يذكروا من الذي حملهم هذه الأوزار، إنما هم الذين
________
(١) قرأها بفتح الميم: نافع وأبو جعفر، وعاصم غير جبلة، وبضمها: حمزة والكسائي، وخلف وجبلة، وقرأ الباقون بكسر اللام. غاية الاختصار: ٢/ ٥٧١.
وإن هذا يدل على أنه كانت إرادة، وإنه كان إصرار على الجريمة، وأنهم سلكوا الطريق إلى أسبابها من أوله إلى آخره.
ْوإذا كانت الجريمة عبادة العجل، فقد وضعوا السبب الأول لصناعته، وتولى كبر الصناعة السامري ودعاهم إلى عبادته فعبدوه.
وقد ذكر سبحانه ما صنعه السامري فقال عز من قائل عنه:
________
(١) قراءة (حملنا) بالبناء للفاعل، وتخفيف الميم: أبو عمر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف - غير حفص ورويس - وقرأ الباقون بالبناء للمجهول، وتشديد الميم. غاية الاختصار ٢/ ٥٧١.
عندما ألقيت زينة القوم من الذهب، وكانت أحمالا ثقالا، وارتكبوا أوزارا كبارا لأنها كانت عاريات اغتصبوها، وأموالا سرقوها؛ لأن جحود العواري يعدّ من السرقات. يقول المفسرون إلا من أدركوا العصر الحاضر، وعلموا أخبار المصريين وصناعتهم، قالوا: إن السامري رأى الأمين جبريل بعد أن صنع العجل، أخذ قبضة من الأرض التي سار عليها جبريل أو فرسه فألقاها في المصنوع فصار يخور كما يخور العجل، وسرى في جسمه ماء الحياة، فصار جسدا له خوار.
ونحن نرى أن ذلك القول غير معقول، فإن ملائكة الله تعالى لَا تسير في صورة حي إلا بأمر من الله، وإلا لنبي، وما كان السامري نبيا، وما كان ثمة دليل منقول يقرر ذلك القول، وما ادعاه السامري عندما ناقشه موسى في هذا البهتان، وإنه عدَّ ذلك الإفك من تسويل النفس وتزيينها الباطل، فكيف يكون تزيينا للباطل، ويكون بتتبع آثار جبريل، وأيضا فإن الحياة تكون بإذن من الله تعالى، ومع ذلك يقول السامري (... وَكذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
وإن الأمر المعقول أن نقول: إن السامري كما ذكر ألقى الذهب هو ومن معه ذهب من زينة القوم من بني إسرائيل ألقوها في النار فصهرت حتى صارت سائلا، وبما تعلمه من الصناعات المصرية صنعه على شكل عجل، ووضعه في مهب الرياح فدخل الهواء في خروقه بصوت الريح في أجوافه - فصار له خوار كخوار الثور، وما زلنا نرى في لعب الأطفال مثل هذه الأصوات في اللعب.
وما إن رأى الإسرائيليون هذا حتى قالوا يخاطب بعضهم بعضا (هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)، أي السامري، (فَنَسِيَ) هنا معناها ترك، فأطلق النسيان وأريد تركه، ونسب النسيان إليه مع أن عباد العجل جميعا تركوا أو نسوا عبادة الله وحده، ونسوا الحق؛ وذلك لأنه هو الذي أخرجه بصناعته، وفي التعبير بـ (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا) ما يشير إلى أنه صنعه صناعة. بقي أن نرد على من فهم أن الجسد لَا يكون إلا جسما حيا يجري فيه الدم فنقول: إن الجسد والجسم لهما معنى يشتركان فيه، ومعنى يختص به الجسم، فالجسم يقال على كل الأشياء ما يتجسد ويصور، وما لَا يتجسد ولا يصور فيقال:
" الجسد كالجسم لكنه أخص، قال الخليل: لَا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد ما له لون، والجسم يقال لما لَا يبين له لون كالماء والهواء، وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ...).
يشهد لما قال الخليل. وقال: (عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) وقال تعالى:
(وَأَلْقَيْنَا عَلَى كرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَاب)، وباعتبار اللون يقال للزعفران جساد وثوب مجسد بالجساد ".
وأظن هذا واضحا في أن الجسد يستعمل كالجسم، والجسم أعم من الجسد.
فقوله تعالى: (جَسَدًا لَّه خوَارٌ) لَا يمنع أنه جسم لَا حياة فيه، وربما كان التعبير بالجسد مناسبا لقوله تعالى (لَهُ خُوَارٌ) ولكنه جسم لَا حياة فيه.
ولذا قال تعالى في بيان أنه ليس فيه حياة قط:
الفاء للإفصاح، أي أنهم قالوا (هَذَا إِلَهُكَمْ وَإِلَهُ مُوسَى) ولس له من صفات الألوهية شيء، (أَفَلا يَرَوْنَ) و " الفاء " مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، والتقدير فأَلا يَرَوْنَ أنه لَا يرجع لهم قولا، أي يرد لهم قولا ولا يجيبهم في قول، و " أن " هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الحال والشأن، ورَجع القول إجابته فهو لَا يرد إجابة سائق يسوقه، ولا قائد يقوده، ولا يعرف قولا كما يعرف الحيوان، فليس فيه أمر يدل على حياته حتى يعد حيا في أحياء الحيوان، وإذا كان فإنه لَا يمكن أن يكون إلها، وإذا كان حيا فلا يمكن أيضا أن يكون إلها، لَا يمكن أن يكون إلها لأنه لَا ينفع، فهم أخطئوا لأنهم عدّوه حيا، وكفروا لأنهم عبدوه إلها، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
* * *
(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧)
* * *
كان موقف هارون وهم يتدلون من مرتبة التوحيد الذي أخرجهم به موسى من ربق الاستعباد والذل إلى مرتبة الوثنية المصرية لتأثرهم بها مدة إقامتهم الطويلة في مصر ضعفاء مستكينين، والضعيف - كما قال ابن خلدون - شغوف دائما بتقليد القوي لحسبانه أن ما فيه من قوة سببه ما عنده من أفكار وآراء، ولو كانت باطلة في ذاتها. كان هارون الذي خلف موسى في قومه موقف المرشد الهادي لَا موقف الساكت الممالئ، قال لهم عند تدليهم:
قال لهم نبي الله هارون عليه السلام ذلك في إبانه، فما قصر في إرشاد، ولكن لم يؤثر فيهم ذلك القول، كما لو كان من موسى عليه السلام؛ لأن موسى الأصيل في الرسالة، وهارون ردء له، فلم يكن له تأثيره، وكأنَّهم لَا يقرون برياسة إلا لموسى، ومع أنه قرر حقيقة بدهية، وهي أن ربهم الرحمن، وطالبهم بأن يتبعوه ولا يخالفوه في أمر، مع ذلك أعلنوا ما يفيد أنهم لَا يعترفون إلا بموسى رئيسا مطاعا، وقبل أن ننقل قولهم الذي أفاد إصرارهم نقول أولا: إن هارون ناداهم بما يقربهم إليه ويؤنسهم به، فقال: (يَا قَوْمِ) فهذا إشعار بالرباط الذي يربطهم به نسبا، ويدنيهم إليه. ويقول ثانيا مؤكدا الفتنة التي يجب أن يتركوها، والمفتون تزول فتنته عند أول تنبيه إليها، ومع ذلك لم يتركوها ويعودوا إلى الصواب الذي يوافق العقول، ويذكر ثالثا وينتقل من هذا الإرشاد إلى الأمر الذي يجب أن يأخذوا فيقول: (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) وكان يجب أن يطيعوه لأنه رسول مع موسى وردؤه، ومخالفته مخالفة لموسى، ولكن رجس الوثنية قد ثبت في نفوسهم، ولا ينخلع منه، و " الفاء " في قوله (فَاتَّبِعُونِي) هي لترتيب هذا الأمر على أن عبادة هذا الصنم فتنة وأن ربكم الرحمن وحده، وعبارة (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ) تفيد القصر أي لا معبود غيره لأنه الرب الخالق المدبر لشئونكم الحي القيوم.
العكوف الإقامة للعبادة
في معبد أو مسجد أو غيره، و (لَن نَّبْرَحَ) من الأفعال التي تفيد الاستمرار على الحال التي هم عليها، ولابد أن يسبقها حرف النفي، مثل أخواتها: " ما انفك، وما فتئ، وما زال "، والنفي بـ " لن " لتأكيد بقائهم على ما هم عليه من ضلال، فإذا كان هارون قد بلغ أقصى الغاية في إرشادهم فقد بذلوا أقصى الغاية في المعاندة، وقولهم (عَلَيْهِ عَاكفِينَ) أي مقيمين على عبادته. وتقديم الجار والمجرور لإفادة الاقتصار على
وقد ذكروا النهاية التي إليها ينتهي ضلالهم: (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسَى).
هكذا كان هارون موحدا غير ممالئ، وما كان لنبي أن يعتنق غير التوحيد، ولا أن يمالئ المشركين، ولكنها التوراة التي في أيدي اليهود جميعا لعنهم الله تقرر أنه مالأهم وعبده كما عبدوه، وتلك فرية على نبي الله تليق بقوم مفترين، ولا تليق بكتاب منسوب لله تعالى، ولكن النصارى واليهود يؤمنون بذلك.
جاء موسى غضبان أسفا، ووجه اللوم ابتداء إلى أخيه يحسب أنه قصر في التوجيه والإرشاد، وما قصَّر، وكان كما يظهر من قوله أنه كان يرى أن يتبعه إلى المكان الذي ذهب إليه، ورأى هارون أن يبقى معهم، ويكرر إرشادهم، ويرقب حالهم:
وبتخريج النص السامي على هذا المعنى يكون كلام موسى لأخيه: ما منعك ألا تتبعني، ما الذي جعلك ذا منعة وحماية على ألا تتبعني، ويكون المعنى العام للنص ما النصير لك جعلك منيعا على ألا تتبعني، كأنه يقول له: إنك معاوني وناصري، فلماذا لَا تتبعني؛ أصرت ذا قوة تحميك وتمنعك، وتجعلك منفصلا عني، وأنت لي ردء ومعاون غير ممانع، ولذا أردف هذا بقوله: (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فباعتمادك وحمايتك من غيري عصيت أمري، وقد قال الأصفهاني في مفرداته: ويقال المنع في الحماية، ومنه مكان منيع، وفلان
وهذا قريب مما ذكرنا في قوله: (... يَا هَارونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) والله أعلم بمراده.
وإنه في هذه الآية يبدو متعاطفا مع أخيه أو غير منافر له، ولا غاضب عليه، وفى سورة الأعراف بدا غاضبا شديد الغضب على أخيه، فقد قال الله تعالى:
(... بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١).
هذا ما جاء في سورة طه، وذلك ما جاء في سورة الأعراف، والتوفيق أن أخذ رأس أخيه يجره كان في فورة الغضب، والرفق والتعاطف بعد سورة الغضب وحدته، وقد هدأ وسكن وعلم أن هذه نفوس بني إسرائيل.
ولقد أجاب هارون أخاه موسى بعد أن هدأ واطمأن، وذهبت عنه حال المفاجأة التي فاجأه بها قومه:
في هذا إشارة إلى أنه أخذ بلحيته، كما ذكر في سورة الأعراف وقت فورة الغضب، وكان ذكرها على لسان هارون نوعا من عتب رفيق لطيف في مودة واصلة غير مفرقة.
(لا تَأخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) هذا نهي ليس للزجر، ولكن للمحبة وللحق، وللبراءة من الاتهام والمؤاخذة، وقوله (وَلا بِرَأْسِي) يحتمل أنه كان قد أخذه في غضبه من شعر رأسه، ويحتمل أنه ذكر رأسه كناية عن تفكيره وعمله، ويكون بذلك كنَّى عن عمله وقوله برأسه التي يفكر بها ويرى ويبصر. وعلَّل سكوته بعد إرشادهم وعدم اللحاق به أو استعمال العنف فيهم بقوله: (إِنِّي خَشِيت أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي إني لم أعنف معهم، ولم ألحق بك بل أخذتهم بالرفق خشية أن يتفرقوا، وخشيت أن تقول لي إني أوقعت فرقة بينهم، وفي الفرقة يكون التلافي والمقاومة، فيقاوم كل فريق الآخر في قوله، فتكون المجادلة، ثم المحادَّة، ويضل فريق، ويهتدي فريق، وإنهم بلا شك قد انقسموا: فريق ضل، وفريق هداه الله، فلو قاومت الضالين، لكانت الحدة والمنازعة والمهاترة، فتركتهم حتى تجيء أنت من لقاء الله تعالى، فيكون معك نوره، فتكون الهداية.
وخشيت أن تقول (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي لم تلاحظ قولي اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، وإنه بلا ريب لو تفرقوا وكنت سببا في هذا التفرق لكنت من المفسدين، فالتفرق في ذاته فساد وضلال، وإذا كانوا قد ضل بعضهم فهدايته ممكنة وعودته إلى الحق قريبة، ولكن عند التفرق يكون التعصُّب، وتكون
________
(١) سبق تخريجه.
وبعد أن تعاتب الأخوان وتراضيا، وطلب موسى أن يغفر الله له ولأخيه اتجه إلى مصدر الداء، فقال له:
(قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)
قال موسى متجها إلى السامري الذي أحدث هذه الفتنة الطحناء، وأوجد ذلك الخطب الخطير في قوم يعبدون الله تعالى، وقد رأوا آياته فيهم أنفسهم، فكانوا أحق الناس بتوحيد الله سبحانه وتعالى.
أي فطنت لما لم يفطنوا، فإن الإبصار يكون بالعين المبصرة، والبصر الذي هو مصدر يبصر يكون بالقلب والعقل والفكر، وقد كان السامري فطنا يعلم صناعة التماثيل، وكان له في ذلك مهارة فائقة كالمتخصصين في هذه الصناعة، وقد قيل إنه صنع من قبل تمثالين من شمع أحدهما لثور، والآخر لثورة، ولعله صنعهما أمام موسى ليعلم موسى مقدار ما بصر به من صناعة التماثيل.
وقوله تعالى: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) والأثر ليس هو أثر جبريل، ولا فرس جبريل، ولكنه أثر معنوي، والرسول ليس هو جبريل، فلم يجئ ذكر لجبريل في هذا الموضوع حتى يراد بالمعرف بـ " أل "، إنما الرسول الذي تكرر ذكره بالرسالة هو موسى كليم الله، وأثر موسى كليم الله تعالى هو دعوته إلى التوحيد، وإلى عبادة الله تعالى وحده لَا شريك له، فذلك هو أثر موسى وهو أثر كل رسول
ولذا ذكره موسى الكليم بعقاب في الدنيا، وترك عقاب الآخرة لربه الأعلى.
" الفاء " كما ذكرنا للإفصاح عن شرط مقدر تقديره: إذا كان هذا ما صنعت، فاذهب إلى آخره، وقد ذكر له عقابين كما أشرنا عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، فأما الدنيا، فقد قال فيه:
(فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقولَ لَا مِسَاسَ) أي فإن الذي يبقى لك فيه أن ينفر الناس منك، وأن تكون في حال من يمسك فيها يؤلمك أشد الإيلام، فإذا لقيت الناس قلت: لَا مساس، أي لَا تمسوني، وإن ذلك يدل دلالة قاطعة على أن المساس يؤلمه، فهو مرض يصاب به، ويكون عبرة بين الناس بآفته.
وأقوال الزمخشري تتجه إلى أن قوله لَا مساس منع من مخالطة الناس، حتى لا يجرهم إلى الضلال والفتنة، وقال في ذلك: عوقب في الدنيا بعقوبة لَا شيء أطمَّ منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليه ملاقاتهم، ومكالمتهم، ومبايعتهم، ومواجهتهم، وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضًا، واذا اتفق أن يماسّ أحدا رجلا أو امرأة حم المماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لَا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحش النافر في البرية، هذا هو عقاب السامري في الدنيا نفرة من الناس، ونفرة منه لمرض ألَمَّ به، ومنع من الناس، ونرى الأول كما أشرنا.
واتجه موسى إلى مادة الجريمة بعد أن اتجه إلى المجرم، وهو صورة العجل، أو تمثاله فقال: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) أمره موسى أن ينظر إليه لبيان أنه ليس شيئا يعبد، فإن المعبود باق يدوم ولا يفنى، وأمره بالنظر إليه مع التعبير بأنه إلهه الذي يعبده تهكما به، وبمن اتخذه إلها (الَذي ظَلْتَ) مخفف من (ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكفًا)، أي ظللت مقيما عابدا لله وحده (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) يقال حرَّق الشيء إذا برده بالمبرد، حتى صار ذرات تنسف، ومن ذلك قولهم: يحرق الأُرَّم، وإنه بعد بَرْده ينسف في البحر نسفا أي يلقى في البحر ذرات غير متجمعة ولا مجموعة، ومن الخطأ أن يفسر (لَّنُحَرِّقَ) بمعنى الإحراق بالنار؛ لأن النار تذيب الذهب وتصهره، ولا تجعله ذرات تنسف، ولأن اللغة تفسر التحريق بالبرد بالمبرد، وهو المعقول المناسب للمقام، والمتفق مع السياق وكلمة النسف.
* * *
الواحد الأحد، وعاقبة جحوده
(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ
بين الله سبحانه بعد أن كشف موسى لبني إسرائيل بطلان عبادتهم تمثال العجل الذي عبدوه، وما نزل بمن ابتدع عبادته، ومآل ذلك التمثيل، أخذ يبين المعبود الحق، والإله الذي توافرت فيه أسباب الألوهية مخاطبا الناس أجمعين قريشا وغيرهم من الخليقة وبني إسرائيل وسواهم، فقال عز من قائل:
ولقد ذكر سبحانه بعد ذلك السبب في أن الله وحده هو الإله، فقال: (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، أي وسع علمه كل شيء فهو سبحانه وتعالى يعلم الوجود كله من مبتدئه إلى منتهاه ومآله ولا يكون ذلك إلا للخالق المدبر سبحانه وتعالى، فالله تعالى كان الإله وحده؛ لأنه خلق كل شيء وحده، فلا بشاركه في خلقه أحد، وهو بهذا ليس من نوع ما خلق، بل هو مخالف لكل الحوادث التي أنشاها، وغيره منها، فهو بمقتضى حكم العقل المعبودُ وحده، ولا معبود سواه؛ لأن ما عداه حجرا أو شخصا أو تمثالا ناقص محتاج إلى غيره، ولا يعبد إلا الكامل واجب الوجود المطلق.
ويشير سبحانه وتعالى إلى حكمة القصص وعبرته فيقول عز من قائل:
الإشارة إلى القصص الذي قصه الله تعالى من أخبار موسى وفرعون وبني إسرائيل وكيف سيطرت الأوهام ودافعت العقول حتى حلت في العقول، وكيف طغى فرعون وتجبر وذبح واستضعف، وكيف نجى الله بني إسرائيل من عذابهم، ثم كيف غلب الوهم القديم فدخل العقول بعد فضل الله عليهم.
و (كَذَلِكَ) في قوله تعالى: (كذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) الجار والمجرور متعلق بـ (نَقُصُّ) والتخريج يكون هكذا: ونقص عليك من أنباء ما قد سبق مثل ذلك القصص الكاشف المبين لمنابت الضلال عند من يضلون، وينابيع الهداية التي يستقون منها الحقائق سقيا.
ْوالأنباء جمع نبأ، وهو الخبر الخطير ذو الشأن العظيم، وأي نبأ أعلى من العبرة من أنباء فرعون ذي الأوتاد، وموسى كليم الله، وبني إسرائيل الذين كانوا المثل في طرق الهداية والتمرد عليها، والانفلات منها بأوهامهم التي يتوهمونها.
وقال سبحانه: (مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ) " من " للتبعيض، أي بعض أنباء ما قد سبق، وأكد الله تعالى سبقهم بـ " قد " ليتعلم أهل مكة منها، وأنهم ضلوا كما ضل هؤلاء وستكون العقبى عندهم كالعاقبة التي حلت بهم، وأنه ينزل بهم ما نزل بغيرهم، وبين سبحانه الكتاب المنزل الذي ذكرت فيه هذه العبر، فقال تعالى: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَدُنَّا ذِكْرًا) الذكر هنا هو القرآن الكريم؛ لأنه المذكِّر، وهو رسالة محمد - ﷺ -، وقد عظَّم الله سبحانه وتعالى القرآن بعبارات سامية، أولا: بأنه عطاء الله
ثم قال تعالى في جزاء من يعرض عنه أو يجحد:
القرآن رسالة النبي - ﷺ - وحجته ومعجزته الكبرى، فمن يعرض عنه فقد أعرض عن رسالة ربه، وعن آياته، وعصى الله، وعصى نبيه، وبذلك يرتكب وزرًا أي إثما كبيرا ثقيلا تنوء بحمله القوي الإنسانية، ويذهب يوم القيامة وهو حامل ذلك الإثم، ومن ذهب يوم القيامة موزورا آثما، فإنه يكون في عذاب شديد.
وقال سبحانه وتعالى (أَعْرَضَ) ولم يقل " كفر "؛ لأن الإعراض عن فهم معانيه، وتبصرها وإدراك بلاغته، ووجوه إعجازه يؤدي إلى الجحود، لما اشتمل عليه من خيرى الدنيا والآخرة، فعبر سبحانه بالإعراض الذي هو سبب الجحود، وأراد الجحود بذكر سببه، وذلك لتعظيم شأن الإعراض وخطره، وما يؤدي إليه من أضرار، ونقول إنه أراد بالوزر - بمعنى الإثم - عقابه لأنه يكون ثقيلا.
ونكر سبحانه وتعالى (وزرًا) للتهويل وبيان أنه وزر خطير، وإثم عظيم، وعذابه أليم. وقد وصف سبحانه هذا الوزر فقال:
الضمير في (فِيهِ) يعود إلى الوزر، وأثره الخطير، وهو العذاب الدائم، فأراد بالوزر عذابه كما أشرنا، وهو الجحيم، وذكر الوزر وأريد عذابه؛ لأنه يكون على قدره من الثقل، والخطر العظيم الشأن بمقداره، فكأنه هو للتساوي بينهما فهو جزاء وفاق له: وهو بهذا حمل سيئ شديد السوء حتى يتعجب منه عند الناس، ولذا قال تعالى: وسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)، أي ما أسوأه حملا، لسوء مغبته، ولأنه يورث السوء، يورث نار جهنم وحسبها من سوء.
وإذا الوزر وهو الحمل الثقيل يتساوى مع نار جهنم، وهي بئس المصير، فهو وزر ثقيل سيئ، وهو يثير التعجب في مآله، وقد حسبوه (هَيِّنًا)، وهو في ذاته أمر عظيم.
(يَوْمَ) عطف بيان على قوله (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وإن يوم نفخِ الصور هو يوم البعث الذي يقدم بعده يوم القيامة، وهنا ثلاث قراءات في (يُنفخُ) فقرئ بالياء المضمومة والبناء للمجهول، وقرئ (ننفخ) وضمير المتكلم لله سبحانه وتعالى؛ لأن النفخ يكون بأمره، والآمر بأمر يعد فاعله، وقرئ (ينفخ) بفتح الباء بالبناء للفاعل، والضمير يعود على الله تعالى؛ لأنه الآمر، والفعل الآمر به كما ذكرنا. و (الصُّورِ) هو البوق، وقد قال الراغب الأصفهاني في المفردات: " قيل هو مثل قرن ينفخ فيه، فيجعل الله سبحانه ذلك سببا لعود الصُّور والأرواح إلى أجسادها، وروى في الأثر أن الصور فيه صُوَر الناس كلهم.
وعلى ذلك يكون للنفخ في الصور معنيان أحدهما: أنه بوق يجمع الله تعالى بالنفخ فيه الأجزاء المتفتتة في الأرض فتعود صورها وأرواحها، والثاني: أن صور الأجساد المتفتتة فيه ينفخ فيها فتكون أجسادا حية فيها أرواحها.
وعندي أن قوله تعالى: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) تصوير لجمع الأموات وبعثهم بأنه لَا يتجاوز النداء كقوله (كن فيكون) كالقائد ينفخ في البوق فيجتمع الجند بل إنه أسرع من لمح البصر، إذ يكفي النداء من رب العزة فيجتمع الجميع، وإذا اجتمع الجميع اختص الله المجرمين بالذكر، فقال عز من قائل: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئذٍ زُرْقًا)، لأنهم الذين كفروا وعاندوا فكان اليوم عليهم، وعاندوأا واستكبروا، وقد قال تعالى: (نَحْشُرُ) أي نجمعهم مكدسين كالأشياء لَا كرامة لهم بل مهانين غير محترمين، وقال تعالى في لسوء حالهم (زُرْقًا)، وزرقا أي أن أعينهم عميت لأن العين إذا عميت كان سواد حبتها أزرق، وذلك تشويه لها وتشويه للوجه وطمس للعين، ويقول البيضاوي تابعا للزمخشري: زرق العيون، وصفوا بذلك؛ لأن الزرقة
ولعل وصف الزرق بالعمى أقرب من ذلك القول، ولا نحسب أن وصفهم بزرق العيون ذما جيدا في ذاته.
ونحن نقول إن القرآن الكريم لم يجعل (زرْقًا) وصفا للعيون، ولكنه وصف لأجسامهم، ولا شك أن وصفهم بأنهم زرق في أجسامهم ووجوههم وصف لهم بالهلع والفزع، وهو المقصود، فهم هلعون فزعون من هول ذلك اليوم الشديد، والزرقة أقرب إلى السواد، فهي أدلّ على الفزع، ومعناه أنهم يجيئون سودا، ويتحقق قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ...).
ويقول سبحانه:
الخفت: خفض الصوت، و (يَتَخَافَتونَ): يتبادلون الصوت الخافت الذي يكون بين الجهر والإسرار والنجوى، فهو ليس إسرارا ولا نجوى، ولكنه إعلان في خفت، وهذا التخافت من الهلع والفزع، فإن المفزوع الخائف الهالع يكون كلامه خفيضا من شدة فزعه؛ إذ لَا يستطيع أعلى منه، ولأنه يحسب أنه محسوب عليه قوله.
واللبث المتحدث عنه في أي حال هو، أهو اللبث في الحياة الدنيا، أم اللبث في القبور بين الموت والبعث؛ اتجه كثيرون من المفسرين إلى أنه اللبث في الحياة الدنيا مستمتعين بلذائذها وزينتها وزخارفها، فإنهم يحسبونه زمنا قليلا ويجتمع عليهم ألمان: ألم بشعور قلة متاعهم في الدنيا، والألم الثاني طول عذابهم في الآخرة، أي أنهم يدركون أن الدنيا متاع قليل بجوار عذاب الآخرة الطويل، ومهما تكن حالهم فإنهم يستقلون متعتهم التي يحاسبون فيها بجوار الشقاء الذي يلقونه في دار الجحيم التي يخلدون فيها، ويزكي هذا قوله تعالى: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣).
وإني أميل إلى ذلك الرأي، فإنهم وقت البعث لَا يحسبون أنهم قضوا وقتا طويلا في القبور، وذلك من قدرة الله وضعف الإنسان، والعشر هي عشر ليال بدليل حذف التاء، والشهر العربي يعرف بالليالي، وهو لغة القرآن الكريم.
هذا ما يقدره بعض الناس، ويقدره آخرون بيوم واحد، وهو أمثلهم طريِقة، ولقد قال تعالى:
المتحدث هو الله تعالى بضمير التعظيم، فهو وحده العظيم الكبير، وقوله: (أَعْلَمُ) أفعل التفضيل ليس على بابه بل معناه العليم علما ليس مثله علم، ولا فوقه علم، وقوله تعالى: (بِمَا يَقُولُونَ) أي مع تخافتهم وقولهم في خفت، بصوت غير مسموع إلا لأنفسهم ليس لأحد غيرهم، وقال تعالى: (إِذْ يَقُول أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) والأمثل هو الأعدل في القول وفي الإدراك و (طَرِيقَةً)، أي طريقة التفكير، واتجاه إلى الطريق المستقيم (إِن لَبِثْتُمْ إِلَّا يوْمًا) " إن " نافية، أي: ما لبثتم إلا يوما أي يومًا واحدا.
والله سبحانه تعالى أخبر عن تخافتهم في وقت الفزع الأكبر، وأنهم في هولهم يستقلون ما مضى عليهم في الحياة بجوار ما يستقبلون من أيام شداد غلاظ، أو لوجودهم في قبورهم غير شاعرين لَا يعرفون الزمن الحقيقي الذي لبثوه في القبور، وذلك دليل قدرة الله - سبحانه وتعالى - على البعث وحكمته في خلق الإنسان.
* * *
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١)
* * *
كان الإحياء في نظر السائلين سهل بالنسبة للجبال التي هي أوتاد الأرض، فقال تعالى في بيان أنها هينة عند الله لَا تحتاج إلى معاناة بل
" الفاء " عاطفة، والضمير يعود إلى الجبال أو إلى الأرض على أنها استحضرت في الذهن عند ذكر الجبال، وقد يعود الضمير على مطوي في الذكر مستحضرا في الذهن، كقوله تعالى: (... مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة...)، و " القاع " الأرض المستوية، و " الصفصف " الأرض التي لَا نبات فيها، أي أن يوم البعث تكون الأرض مستوية لنسف جبالها وملساء لَا زرع فيها، أي تزول جبالها ووهادها وزرعها البهيج،
ويجب أن ننبه هنا إلى أمر ذكره الزمخشري فإنه قرر أن (العِوَج) بكسر العين يكون في المعنويات أو ما لَا يعرف إلا بالنظر والمقايسات، و " العَوج " بفتح العين ما يكون في الحسيات، ولكنه عبر هنا بما يدل على المعنويات؛ وذلك ليكون النفي شاملا لكل ما يكون علوا، ولو كان العلو لَا يعرف بالنظر المجرد، بل يعرف بالقياس وميزان الماء، فهذا العوج وإن كان في الحسيات لم يعرف بالمقاييس والموازين العقلية.
قال تعالى:
أي يومئذ وقت نسف الجبال وأن تكون الأرض قد استوت، ليس بها بناء، ولا ديار ولا حجر ولا مدر، ولا قيعان ملساء، ولا نبات ولا شجر ولا عوج ولا أمت، في هذا اليوم وفي ذلك الوقت يدعو الداعي فتكون الإجابة من غير اعوجاج كما أن الدعوة لَا اعوجاج فيها، فالضمير في (لَهُ) يعود إلى الداعي، والداعي هو مَلَك وُكلَ إليه أمر دعوة الخلق التي يكون بها البعث ويستجيب لها الجميع من غير تلكؤ مسارعين مستجيبين، ونفي العوج عن الداعي باعتبار أن دعوته مستقيمة لَا استثناء فيه، وعن المدعوين أيضا باعتبار أن استجابتهم مستقيمة، لَا عوج فيها ويستجيبون سائرين في خط مستقيم لَا التواء فيه، فالدعوة حاسمة والاستجابة لا عصيان فيها، (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ) أي خضعت وبدت فيها الاستكانة والخضوع
وكل إنسان مقدم على أمر أحس بخطورته، وقد اعترته هيبة اللقاء، وأحس بالحساب ولا يدري ما الله فاعل به، فالأبرار يستقلون حسناتهم، ويَعُدون أخطاءهم كبائر، والأشرار يعروهم الإحساس بآثامهم وعظم ما ارتكبوا، ويجدون عملهم محضرا، ويعانون ما أنكروه من قبل، وهو البعث والحساب.
" إذ " في (يَوْمَئِذٍ) تشير إلى يوم ينفخ في الصور، ويكون البعث المراد يوم الحساب، يجيء كل إنسان ومعه أعماله مسجلة عليه في كتابه قد سجلت حسناته، وسجلت سيئاته، وجوارحه تنطق بما اكتسبت من آثام وتحوطه السيئات ويحاسب على ما عمل، ولا شفيع يشفغ ولا فدية تدفع (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)، وهذه الشفاعة تكريما للشافع وليست استنزالا لعقاب، أو زيادة في ثواب، فالله سبحانه يعلم الجزاء حق العلم وإنما هي إظهار لكرامة الكرماء عند الله العزيز الحكيم، الذي علم كل شيء فقدره تقديرا وما قدره في علمه واقع لَا محالة، فإن كان بشفاعة شفيع وقع ما كتب على أنه استجابة لشفاعة اختص بها كريما مكرما.
فالشفاعة بالإذن، ويقال للشفيع اشفع تشفع، فهي لَا تكون إلا بإذن من الله ولا تكون إلا لمن (وِرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)، كما قال في آية أخرى، (... إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيرْضَى).
وقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) كأنه لابد من شرطين لقبول الشفاعة وهو إذن الله تعالى، ولا يكون الإذن إلا من مرضي القول مقبول، لأنه تكريم من الله عز وجل لأجل الاستقامة، والعدالة في القول، فلا يشفع لأثيم،
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما هو أمامهم ويستقبلهم، (وَمَا خَلْفَهُمْ)، أي ما خلفوه وقاموا به من أعمال، هذا تعبير قرآني يعبر عن الأمور الحاضرة والمستقبلة بأنها بين الأيدي، وكان في الكلام استعارة شبه الأمور التي تقع في الحاضر أو المستقبل بما يكون مهيأ بين أيديهم يفعلونه، والأمور الماضية التي عملوها في الماضي بما خلفهم؛ لأنهم تركوه فكان في أعقابهم فالله علم أعمالهم، وما تستحق من جزاء، وما قدره من عقاب، وثواب وغفران ورحمة من عنده إنه هو الغفور الرحيم الودود السميع البصير.
(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) الضمير في (بِهِ) يصح أن نقول إنه يعود على (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) فالله سبحانه وتعالى يعلمه، وهم لَا يحيطون بشيء من علم هذا، فالقابل مغيَّب عنهم لَا يعلمونه، والحاضر لَا يعلمونه علم إحاطة، بل علم الإحاطة عند الله وحده، وكذلك ما خلفهم لَا يعلمونه علم إحاطة، والمراد بعلم الإحاطة علم البواعث والغايات والنافع والضار، ونتائج الأفعال وثمراتها وحقائقها وكنهها وما تسره الأنفس وما تعلنه، وقوله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) هو كقوله تعالى: (... وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّن عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ...).
ويصح أن نقول: إن الضمير يعود على ذي الجلالة، ؛ لأن الله أعلى من أن نعرف ذاته، إلا بما يعرفنا به من صفات، والاحتمال الأول أقرب، وبه نقول، والله أعلم.
* * *
(عَنَت) من عنا يعنو إذا خضع، وخشع وخنع، ومنه قولهم عن الأسير أنه المعاني، أي الخاضع وهذا الخنوع هل هو في الدنيا، أم في اليوم الآخر؛ إنه بلا شك في اليوم الآخر؛ لأن الله سبحانه هو مالك يوم الدين، وهو مالكه، ففيه لَا يكون إرادة إلا إرادة الواحد القهار، وقيل إن هذا في الدنيا، فإن الله تعالى في قبضته السماوات والأرض فكل الوجود خانع عانٍ له سبحانه.
وأرى أن ذلك في الدنيا والآخرة: (الْوُجُوهُ) المراد به الذوات كلها، فالوجه يعبر به عن الذوات؛ لأن به المواجهة، وقوله تعالى: (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)، أي الذي يبقى ولا يموت أبدا، فهو الحي الباقي الذي تذل له كل الوجوه، والقيوم هو القائم على الخلق يدبرهم، وهو القائم عليهم يحصي حسناتهم وسيئاتهم، وهو الدائم الباقي ملك الناس في الدنيا والآخرة.
ولقد قال سبحانه: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).
الواو واو الحال، والخيبة: الخسران والفشل والعجز، فهي تشمل في معناها كل هذه المعاني، وسجل سبحانه وتعالى الخيبة على من حمل ظلما، وعبر سبحانه وتعالى عن حمل الظلم أو كسبه بقوله تعالى: (منْ حَملَ ظُلْمًا) إشارة إلى أنه وزر كبير ينوء به من يحمله، وإنه يحسبه هينا، وهو حمل ثقيل، وهو تنبيه لمن يظلمون مستهِينين بالناس مستخفين بأنهم يحملون ثقلا ينوء به الناس أمام الله، وقد نكَّر (ظُلْمًا) للإشارة إلى أن عموم الظلم عبء كبير، والمعنى حمل ظلما أي ظلم.
وفى الحديث الصحيح: " يقول الله عز وجل: " وعزتي وجلالي لَا يجاوز اليوم ظلم ظالم " (١) وعن النبي - ﷺ -: " إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " (٢)
والخيبة كل الخيبة لمن لقي الله تعالى وهو به مشرك فإن الله يقول: (إِن الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، والظلم قلَّ أو كثر خيبة كل الخيبة، لأن من ينال حقه بظلم خائبٌ أمام الله والناس والحق في ذاته، وناقص في إنسانيته، والله أعلم.
* * *
________
(١) وعَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُقْبِلُ الْجَبَّارُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَثْنِي رِجْلَهُ عَلَى الْجِسْرِ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي، وَجَلَالِي لَا يُجَاوِزُنِي ظَالِمٌ، فَيَنْصِفُ الْخَلْقَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَنْصِفُ الشَّاةَ الْجَمَّاءَ، مِنَ الْعَضْبَاءِ بِنَطْحَةٍ نَطَحَها ". رواه الطبراني، وراجع مجمع الزوائد:
(٨١٤٨١)
(٢) بهذا اللفظ: رواه الدارمي: السير - في النهي عن الظلم (٢٤٠٤)، وهو جزء من حديث رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (٦٥٤٢).
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (١١٣) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤)
* * *
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء الأشرار وحالهم عندما يظهر لهم البعث ويرونه عيانا، وقد أنكروه من قبل وشددوا في إنكاره حتى حسبوه غير معقول، ذكر لهم حال الذين آمنوا به وصدقوه:
فيكون في عبادة دائمة حتى في مأكله ومشربه وملبسه وفي بضعه إذ يفعل ذلك استجابة لله تعالى، وقال تعالى: (وَهُو مُؤْمِنٌ) " الواو " واو الحال، أي والحال أنه مؤمن، فالعمل الصالح لَا يعطى حقه من الجزاء إلا مع الإيمان، لأن معطي الجزاء هو الله تعالى، والإيمان هو الإيمان بالله وكيف يثاب من الله تعالى من لَا يؤمن بالله تعالى، إنه حائر بائر ليس له مقصد في عمله، ولا نية يرتجى الخير بها، وقد قال في الذين كفروا وفعلوا بعض الأمورِ النافعة في الدين: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧).
_________
(١) سبق تخريجه.
ونقرب الفرق بينهما فنقول: إن الظلم هنا هو النقص من الأعمال التي يستحق عليها الثواب، والزيادة من السيئات انتقاص من الأعمال الصالحة، وأما الهضم فهو ألا تعطى الأعمال حقها فتكسر، كما يكسر الطعام في قلب الهضيم، والله أعلم.
بعد ذلك ذكر الله تعالى القرآن الكريم في مقام بيان الحق والهداية في الحياة الدنيا وكيف بقي محفوظا إلى يوم الدين.
قال تعالى:
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا)، أي كهذا الإنزال الذي عاينته ونزل على قلبك قرآنا عربيا، والإشارة لبيان شأنه، والمشبه هو ما قدره الله لك معجزة، والمشبه به هو هذا الذي تذكر به، وهنا نلاحظ ملاحظتين: أولاهما - أنه هنا عبر بـ (أَنزَلْنَاهُ)، وفي أكثر الآيات كان التعبير بـ نزلنا، وينزل، فما الفرق ولم كان الاختيار بـ أنزلناه؛ ونتلمس الحكمة فنقول: إن المراد به القرآن كمعجزة في ذاته سواء أنزل دفعة واحدة أم منجما، فكان التعبير بـ أنزلنا، وعندما كان ينزل لبيان الشرع ولحفظ آية آية كان التعبير بـ نزلنا، وهنا بيان أنه معجزة وأنه جاء مبشرا ومنذرا ينتفع به المتقون ويذكر به غيرهم ليكون لهم نذيرا.
الثانية: أنه قال (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) وهذه حال مِنْ (أَنْزَلْنَاهُ) وفيه وصفان أحدهما أنه قرآن والثاني أنه عربي، ووصف قرآن يفيد أنه مقروء متلو يتعبد بتلاوته، وأن النبي - ﷺ - تلقاه عن جبريل بقراءاته وتلاوته، وأنه متواتر بتلاوته وطرق قراءاته، وهو محفوظ بقراءاته وتلاوته، وأن العناية تتجه إلى قراءاته لَا إلى تسطيره فهو يحفظ بتواتره جيلا بعد جيل محفوظا في الصدور، وليس متواترا فقط بكتابته في السطور.
وقال تعالى في شأن القرآن وصفا ثالثا، وهو تصريف الوعيد فيه، من ذكر القصص الذي فيه المثلاث، وما نزل بالعصاة، وفيه ذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من عقاب وحساب، وفي ذكر الحق في ذاته، وبيان كماله، وكمال من يتحلى به.
و (الْوَعِيدِ) هو الإنذار، وتصريف الإنذار الإتيان به بأساليب مختلفة، كما أشرنا من بيان هول يوم القيامة، أو قصص الماضين، وفيه عبرة لأولي الأبصار، وهول القيامة، والتنبيه للآيات المختلفة الدالة على قدرة الله العلي.
وقال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكرًا)، أي صرفنا من الوعيد بطرق البيان المختلفة الصادقة ليكونوا في حال من يرجى تقواهم وإذعانهم للحق، وتصديقهم له، ويتقون بذلك عذاب جهنم وإغضاب الله تعالى. وينالون رضوانه وهو أعظم الثواب، أو يحدث هذا التصريف لهم ذكرا يذكرهم بعذاب العاصين، ويكون لهم نذيرا، وقد أسندت التقوى إليهم؛ لأنها أمر نفسي يتجهون إليه بعد قيام الدليل، وأما من لم يتعظ فالقرآن يحدث لهم ذكرا وإنذارا ولقد قال تعالى:
قال تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)، الفاء للإفصاح عن شرط مقدر تقديره: إذا كان قد أنزل القرآن وصرف من الوعيد ليتقي من يتقي ولينذر من لم يتعظ، فإن هذا يدل على علوه وكمال حكمته. (تعالى) معناها بلغ في العلو أعلاه، وقد تعالى في ذاته وصفاته فليس كمثله شيء، وهو منزه عن الحوادث ومتصف بصفات الجلال والكمال، وهو الملك النافذ الأمر في خلقه، والمبدع لهذا الوجود
هذا هو الله خالق السماوات والأرض وما بينهما، وهو الذي يملك ميزان هذا الوجود: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).
ولقد ذكر سبحانه نزول القرآن فقال عز من قائل: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وحْيهُ).
كان النبي - ﷺ - يساوق الأمين جبريل في قراءته عندما يوحى إليه بالقرآن فنهاه
الله تعالى عن ذلك، وقال هذا النص السامي له تعليما عند تلقي القرآن الكريم، وقوله تعالى: (مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُه)، أي من قبل أن ينتهي وحيه إليك ويحكم بترتيله وتلاوته، حتى ينقله إلى أمته مرتلا فيتوارثوه مرتلا، وذلك كقوله تعالى: في سورة القيامة: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)، وقرءاته الثانية معناها تلاوته وترتيله، كما قال تعالى: (... وَرَتِّلِ الْقُرانَ تَرْتِيلًا)، وكما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (٣٢).
هذا تعليم من الله تعالى لنبيه في أمر يتعلق بمعجزته الكبرى ليتحقق حفظ الله تعالى كما وعد، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وقد نبه سبحانه نبيه إلى ذلك العلم، وأمره بأن يطلب الزيادة في العلم؛ لأن كمال الإنسان في العلم وطلب الزيادة فيه فقال: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) الأمر للنبي - ﷺ - بأن يطلب الزيادة في العلم بالضراعة إليه سبحانه، وبالسعي في طلبه، قال الزمخشري في هذا المقام: " هذا الأمر متضمن للتواضع لله تعالى، والشكر له عندما علم من ترتيب
* * *
نسيان آدم وعزمه
(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣)
* * *
هذا وصف الله للطبيعة الإنسانية أنها تنسى، وأنها إذا لم تذكَّر بشرع من الله يقوي الإرادة برجاء الثواب وخوف العقاب، لَا تكون للإنسان عزيمة، وآدم أبو
ونسي منصبة على العهد، أي فنسي العهد، ووقع في المحظور الذي حذره منه، وليس ذلك ما يكون غضاضة على آدم، لأن الله تعالى يصف الطبع الإنساني، وأنه يعرض له النسيان وتعرض له الغفلة، وما يقع في ما ينهى عنه إلا وهو ناسٍ غافل، الأمر الثاني، وهو السلبي ذكره سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، أي عزيمة صادقة تحزم أموره وتقطعها، وعبر سبحانه بهذا القول: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) في الأمر الواقع، والله تعالى يعلم به من قبل أن يقع، فقد قدر الله تعالى كل ذلك. وعلم ما وقع قبل وقوعه فكيف يقول: (وَلَمْ نجِدْ لَهُ عَزْمًا) وهو الذي خلقه وصوره وقدره، ونقول: إنه وجده واقعا، وهو يعلم علما أزليا لأنه هو الذي خلق وصور.
وإن إبليس وذريته يجيئون إلى ذرية آدم، من نسيانهم وغفلتهم، ونقص عزيمتهم، كما جاء إبليس اللعين إلى أبي الإنسانية من جهة نسيانه، وأنه لم يكن له عزم مانع، فليحذر الناس بعد أن جاءتهم الشرائع من وسوسة إبليس وذريته.
و (إِذْ) مفعول لفعل محذوف تقديره اذكر، والخطاب للنبي - ﷺ - ليعلن لأمته فتستعصم بالحذر من إبليس، كيلا يقعوا في إغوائه الذي توعدهم إذ قال في إصرار: (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين).
و (قُلْنَا) ضمير المتكلم لله تعالى، والأمر للملائكة، ويظهر أنه كان داخلا في عموم هذا الأمر سواء أكان منهم أم لم يكن فهو داخل في عموم الأمر، ولذا كان الاستثناء، فسجدوا طائعين مع معارضتهم ابتداء لخلافته في الأرض، فلما رأوا أن ربهم فضله عليهم بأن علمه الأسماء كلها ولم يعرفوها هم سجدوا، أما إبليس فقد أبى السجود معارضا لرب العالمين، وهنا ذكر أنه (أَبَى) ولم يذكر سبب إبائه، وذكره في آيات أخر، وهو قوله خلقتني من نار وخلقته من طين، ونسي أن الله الخالق، وكان في استطاعته أن يكون العكس، ولكن الله تعالى فعال لما يريد، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
وقد أخذ يبين الله تعالى العهد وسياقه، فقال عز من قائل:
" الفاء " فاء السببية؛ لأن ما قبلها سبب لما بعدها، فالحكم بأنه عدو لآدم وزوجه مترتب على امتناعه عن السجود وما سوغ له الامتناع، وهو توهمه أنه خير منه، وأنه يحسده على منزلته عند ربه، وأي عداوة أقوى من ذلك، وإذا كانت العداوة قد بدت فتوقَّع الشر، والإيذاء يقترن بها لَا محالة، ولذا أكد الله هذه العداوة، فقال: (إِنَّ هَذَا عَدُو لَّكَ وَلِزَوْجِكَ) وأكد العداوة بـ " إنَّ، المفيدة للتوكيد، وبالجملة الاسمية، وبالإشارة؛ لأن الإشارة متجهة نحو ما بدا منه وهو كلامه وامتناعه عن السجود، فالإشارة تشير إلى سبب العداوة، وإذا ثبتت العداوة فلابد أن يتوقع آدم نتائجها، وهي محاولة إخراجه من المكان الذي كرم فيه وكان السجود والخضوع فيه، ولذا قال تعالى (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) " لا " ناهية، والنهي
بين له تعالى المتعة في الجنة، وهو أنه لَا يتحمل تبعات أي أمر، ولا تكليف، فقال تعالى:
بين الله سبحانه وتعالى بهاتين الآيتين أن في الجنة كل ما يطمع فيه الإنسان من حياة هينة فيها كل مرافق قوامه الآدمي من أكل وكسوة، وشرب، وإقامة، وفي ذلك إشارة إلى ما يجب أن يطلبه الإنسان، فإذا كُفيَ هذا فقد أوتي الدنيا بحذافيرها، فإن وراء المطامع الأخرى من جاه وسلطان وتحكم المصارع، كما قال على كرم الله وجهه: مصارع الرجال تحت بروق المطامع.
وقوله تعالى: (وَلَا تَضْحَى) أي لَا تبرز، وقد ورد عن ابن عمر أنه رأى رجلا مستظلا عن الشمس قال: اضْحَ لمن أحرمت له (١)، فضحى بمعنى برز للشمس، ولا يضحى بمعنى لَا يبرز لهَا بأن يسكن في كن لَا يبرز فيها له، أي في مسكن، والمعنى على ذلك أنك تجد كفايتك في الحياة فتجد الطعام الذي تأكله، واللباس الذي يقيك العري، والماء الذي تشربه، والسكن الذي يؤويك وحسبك ذلك وكفى، وقد قال البيضاوي في هذا النص القرآني الكريم: إنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية، وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن، مستغنيا عن اكتسابها، والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ليطرق بأصناف الشقوة الحذر عنها.
_________
(١) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١١/ ٢٥٢.
وفى الآيتين من أساليب البيان، فذكر المطلب الأساسى الإنساني (إِنَّ لَكَ) مؤكدا أن له الأكل والكسوة والشراب والمأوى، هذا لك وحده ليس لك غيره، وفي الجنة، ويجب الاقتصار عليها في الحياة التي تستقبلك.
ولقد جاء إبليس إليهما من وراء هذه الأمور، وهو الخلد.
كان نعيم الجنة نعيما هادئا آمنا، ولكن لم يذكر أنه خالد، ومن كان في عيشة راضية تمنى أن تكون باقية، فجاء إبليس من ناحية هذه الأمنية، وقال لآدم: هل أدلك على شجرة الخلد، وملك لَا يبلى، وسوس إليهما بقول خفي يشبه وسوسة الذهب (١)، وأثار التمني في نفسه بقوله: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) الاستفهام هنا للتنبيه أي أن هذه الشجرة التي نهى عن الأكل منها هي شجرة الخلد من أكل منها نال الخلود والبقاء والسلطان والسيطرة، وهذا هو المعنى المذكور في آية أخرى، إذ قال الله تعالى عنه: (... مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠).
وما زال بهما يغريهما بالأكل حتى أكلا، ولقد قال تعالى: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ...)، فكان التدلي بالغرور أن أكلا منها، وكانت العاقبة ليست الحسنى، ولذا قال تعالى:
________
(١) الوَسْوَسَة والوَسواس: الصوت الخفي من ريح. والوَسْواس: صوت الحلي. لسان العرب - وسس.
(فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١)
(فَأَكَلا منْهَا) أي من الشجرة التي حرمت عليهما في قوله تعالى في الآيات، (... ولا تَقْرَبَاً هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وبمجرد أن أكلا منها بدت لهما سوءاتهما أي عوراتهما، فالعورة يسوء النظر إليها، وليس النظر إليها سارا عند أهل الطبائع المستقيمة، وكشف السوءتين في هذا الموضع فُهِم منه بعض القارئين للقرآن الكريم أن الشجرة الممنوعة تتعلق بالجنس، ولكن الله تعالى لم يبين ورسوله لم يفسر، فحق علينا ألا نَقْف ما ليس لنا به علم.
وقد قال: إنه عقب بدوّ السوءتين لهما أنهما أخذا يخصفان عليهما الأوراق فقال تعالى: (طَفِقَا) أخذا واستمرا، من جرَّاء كشف عوراتهما واستحيائهما من انكشافها (يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ).
ومهما يكن من حالهما التي انكشفت، فإن آدم الكريم عصى ربه الذي خلقه وأمر الملائكة أن يسجدوا له، ولم يكن في طاعة تقيه ذلك الانكشاف، وتجنبه إبليس ووسوسته (فَغَوَى) أي ضل ووقع في الغواية والضلال.
وفى هذا الكلام ما يشير، أولا: إلى أن الإنسان يؤتى من ناحية ما يتمنى، وإبليس وذريته يأتون من ناحية أمانيه، وتشير ثانيا: إلى أن الإرادة القوية هي العزم الصادق، وهي التي تمنع أو تقاوم وسوسة الشيطان.
وتشير ثالثا: إلى أن فتنة الجنس أشد الفتن، وقد أُثر عن النبي - ﷺ - أنه ذكر: أنه ما ترك فتنة أشد من فتنة النساء للرجال (١).
بعد هذا العصيان من أبينا آدم لم يعد له هو وإبليس مقام في جنة الله، بل لابد أن ينزلا إلى المعترك في الأرض، ولكن قبل أن ينزل من جنة الله التي
________
(١) عَنْ أسَامَةَ بْنِ زَيْد رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ النبي - ﷺ - قَالَ: " مَا تَرَكت بَعْدي فتْنَة أضَرَّ عَلَى الرجال منْ النَّساء "، رراه البخاري: النكاح - ما يتقى من شَؤم المرأة (٤٧٠٦)، ومسلمَ: الَذكر والدعاء والتوبةَ أكثر أهلَ الجنة الفقراء (٤٩٢٣).
التعبير بـ " ثم " العاطفة للترتيب والتراخي، للإشارة إلى البعد بين المرتبتين مرتبة العصيان والغواية ومرتبة الاجتباء والهداية.
والاجتباء الاختيار والاصطفاء، وقد اجتباه ابتداء بأن جعله أول خلقه، واجتباه ثانيا بأن اختاره للاختبار، وتاب عليه من هذه المعصية التي عصاها، فرجع الله تعالى إليه بالمغفرة؛ إذ تاب هو بالشعور بالخطأ، وعاد الله تعالى عليه بالمغفرة، ثم بالهداية بعد ذلك.
وهذا المعنى يشير إلى أن الخطأ في طبيعة الإنسان، والتوبة خلق المهديين والله تعالى غفور رحيم.
القائل هو الله جل جلاله، وقد قدر لهما، أن يكونا مع إبليس في الأرض حيث التكليف والابتلاء، على أن ينزلا إلى الأرض، وقد طهرهما الله تعالى بعد اختبار، واختار لهما الهداية بعد هذا العصيان وغفر لهما العصيان؛ لأن الجنة لم تكن دار تكليف، قال الله لهما (اهْبطَا منْهَا جَميعًا) الهبوط النزول من مكان عال إلى منخفض، ولا شك أن ترك الجنة التَى لَا تكلَيف فيها إلى حيث التكليف، فيكون الخير ومعه الثواب، والشر ومعه العقاب، ولا شك أن ذلك هبوط، ولكنه هو سبيل الرفعة مرة أخرى، فالتكليف كما هو نزول، هو طريق للتدرج إلى الرفعة بجهاد التنازع بين العلاقة الروحية والطبيعة الأرضية، فإذا علا بعد هذا الجهاد فقد وصل إلى السماك (١) الأعزل من قوة الإيمان، والهبوط أيضا ذريعة إلى انهواء عميق سحيق في المعصية، وقد صرح سبحانه وتعالى بأمور ثلاثة بعضها يحتاج إلى توضيح:
_________
(١) السماكانِ نجمان نَيِّرانِ أحدهما السِّماك الأعْزَل، والآخر السُّماكُ الرامِحُ، وسمي أعزلَ لأنه لا شيء بين يديه من الكواكب، كالأعْزَل الذي لَا رمح معه، والرامح وليس هو من المنازل. لسان العرب - سمك.
الأمر الثاني: هو الاختبار والتكليف وبيان عاقبة العصيان، ولذا قال تعالى:
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) و " إما " هي " إنْ " الشرطية و " ما " المؤكِّدة لمعنى الاشتراط في فعل الشرط، وأكدته أيضا نون التوكيد الثقيلة، أي أن إتيان الهدى الهادي مؤكد لَا مجال للريب فيه، والهدى يجيء على لسان هادٍ هو رسول من رب العالمين، وهو مبشر لمن اتبع الحق منذر لمن ضل عن سبيله، وإن هذا هو موجب التكليف؛ إذ لَا تكليف إلا إذا وجد بيان، كما قال تعالى: (... (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
الأمر الثالث: أن من اتبع هدى الله تعالى فإنه لَا يضل ولا يشقى، وكان الشقاء مقترنا بالضلال؛ لأن الضلال يجعل المؤمن في حيرة لَا يدرك فيها حقا، ولا يهتدي، وإن ذلك شقاء أي شقاء، وشقاء الإنسان في حيرته، وفوق ذلك فإن الضلال يؤدي إلى الشقاء لَا محالة في اليوم الآخر حيث الحساب والعقاب، وإن ثمرة الضلال لَا محالة هو العقاب.
ويلاحظ أنه قد ذكر في هذه الآية الاختبار مجملا، وذكر مفصلا في سورة البقرة بعض التفصيل، فقال تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨).
* * *
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)
* * *
بيَّن الله تعالى حال الذي هداه الله واهتدى بالهادي الذي أرسله حيث لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن سماع الهدى فإنه يكون له معيشة ضنكا، يحس فيها بالضيق الشديد الدائم الذي يجعله في لهج دائم بالحياة أو بنوع منها، وهذا قوله تعالى:
وهنا أمران يحتاجان إلى بعض البيان، أولهما: أنه عبر هنا عن المرشد بـ (ذِكْرِي) والجواب أن هذا من إضافة المصدر لفاعله فهو تذكير من الله لعبيده، أو باعتبار أن الرسول مبشر ومذكر ومنذر فقط، وأن من ذكر بالهدى له ثوابه إن اهتدى، وإن لم يهتد فعليه إثمه.
وفوق أن الإعراض عن ذكر الله تعالى تكون النفس فارغة وحيث فرغت النفوس عن ذكر الله كان الظلم، وحيث كان الظلم كان اضطراب الحياة، وتوقع الشر والانتقام فتكون العيشة ضنكا وتكون الحياة ضيقة لمن يعرف العواقب. هذا عذاب الإعراض عن ذكر الله في الدنيا، أما في الآخرة، فقد قال تعالى فيه: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) والمراد أنه لَا يملك حجة ولا برهانا يبرر به ما فعل وما وقع منه، وفي هذا استعارة تمثيلية، فشبهت حال من تقوم عليه الحجة ولا يحير جوابا، بحال الأعمى الذي لَا يبصر الطريق أين تكون النجاة، بجامع الوقوع في الهوة، وعدم البصر بطريق للخلاص أبدا، وإذا كان من في الدنيا أعمى، فهذا الذي حُشر بين أهل الضلال في الآخرة أعمى البصيرة وهو أشد ضلالا.
قال وقد رأى نفسه قد عمى عليه الدليل، وضلت عليه السبيل.
يسأل ربه لم حشرتني أعمى، عاجزا عن الدفاع، وقد عميت عن الدليل، ولم أعرف وجهه مع أنني كنت في الدنيا أبصر القول ومراميه، وأجادل، - وأخاصم، وأنازل وأقاوم، والآن أنا مستسلم لمن يقودني كالأعمى، ونادى بـ (رَبِّ) معترفا بأنه خالقه وبارئه، وقد كان من قبل يشرك بربه في العبادة، ويضل ضلالا بعيدا.
فيرِد الله تعالى بلسان الملائكة أو بإلهام الله تعالى الحق له:
كهذا الإيتاء والحشر أعمى لَا تستطيع القيام بحجة في وقت حاجتك إليها - أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا، أي أنه في مقابل نسيانك آيات الله تعالى، وتركك إياها كانت غشية العمى عليك وعجزك عن الحجة، وكذلك الذي تركت به آيات الله تنسى أنت في شخصك وتهمل وتلقى فيما تستحق من عذاب أليم.
وقال تعالى:
ذكر الله تعالى عقوبتين لمن أعرض عن ذكر ربه أي عن الداعي لذكر ربه، أولاهما: المعيشة الضنك، أي الضيقة التي تضيق فيها النفوس وتطوع للمطامع التي لَا تنال، وإن نيلت طلبت غيرها، وقد بين ابن كثير في تفسيره كيف كان الخلو من اليقين يجعل المعيشة ضنكا، قال ابن كثير في معنى الضنك: " أى ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة ولا انشراح صدر بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء فإن قلبه لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة ".
هذه هي العقوبة الأولى وقد أشرنا إليها من قبل، أما العقوبة الثانية، فقد أشار سبحانه وتعالى إليها بقوله عز من قائل: (وَنَحْشرهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وذكرنا أن العجز هو عن الحجة والبرهان، حيث يجب الإدلاء بها، فهو عجز في موضع
هاتان العقوبتان قبل عذاب الآخرة الذي يكون بعد الحساب، وتقدير الجزاء، وهذان العقابان ينالان من أسرف في أمره، وانغمر في الشهوات، ولذلك قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ).
كهذا العقاب الدنيوي من إحساس بضنك العيش والضيق فيه والتبرم بحياته والإحساس بفقد الاطمئنان لأي شيء، والإسراف على نفسه باللذات، وبالإحساس بالحرمان المتجدد الذي لَا يشبع من لذة، ثم يستكبر الأمور، ولذا تجده يكثر الانتحار وبخع النفس عند المسرفين في المعاصي، والمسرفين على أنفسهم بقلقهم، وعدم اطمئنانهم ومع ذلك يكون إحساسهم بسد الطرق في وجوههم.
فالإشارة في قوله تعالى: (وَكذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) وهي إلى المعيشة الضنك، والحشر أعمى (وَكَذَلِكَ) مفعول لـ (نَجْزِي)، والتعبير بالموصول (مَنْ) للإشارة إلى أن الصلة، وهي الإسراف، سبب لذلك الجزاء.
وقد بين سبحانه أن وراء هذا العذاب عذابا أشد وأبقى، فقال عز من قائل:
(وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَذ وَأَبْقَى) وهو الذي يكون بعد الحساب، وتقرير أن الجزاء أشد لأنه بالنار، وهو أبقى أي إنهم يكونون في جهنم خالدين فيها وبئس المهاد.
ولقد ذكر الله تعالى لمشركي مكة ما جاءهم من عبر، وما ساقه من قصص هاد مرشد فقال عز من قائل:
(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨)
" هدى " تتعدى بنفسها من غير " لام " فيقال هداه ويهديه، واللام لتقوية التعدية والتنبيه، وبيان الهداية لهم أولا وبالذات، أو نقول إن " يهدي " هنا متضمنة معنى " يتبين "، والمعنى أو لم يتبين لهم كم أهلكنا، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الواقع، والمعنى لم يعتبروا بمن أهلكناهم في عددهم الكثير، وهم يشاهدون آثارهم، ويمشون في مساكنهم، يمرون عليها في رحلاتهم إلى الشام والعودة منه، ولقد مر النبي - ﷺ - بمساكن ثمود وهو مار في غزوة تبوك (١).
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى) إن في هذه العبر عن القرون الماضية، وهي الجماعات السالفة لعبرة لمن عنده اعتبار، وقال تعالى (لأُوْلِي النُّهَى) والنُّهى جمع نُهْيَة، وهي العقل الذي ينهى عن مساوئ الأفكار ويحث على محاسنها، وكان حقا أن يعتبروا، ولكن ضعفت العقول، وقلَّ الاعتبار.
ولقد كان المشركون لفرط إعراضهم، وصدهم عن سبيل الله يستعجلون العذاب تحديا أو جهلا، كما قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ...)، ولكن الله تعالى بين أَنه قادر عليهم، ولكن لحكمة أخرهم، فقال:
________
(١) عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» ثُمَّ زَجَرَ فَأَسْرَعَ حَتَّى خَلَّفَهَا ". رواه مسلم: الزهدَ والرقائق - لَا تدخلوا
مساكن... (٥٢٩٣)، والبخاري مختصرا: الصلاة (٤١٥).
(لَوْلَا) يقول النحويون: إنها حرف امتناع لوجود، والمعنى على هذا امتنع أن يكون العذاب ملازما للجريمة أي مقترنا بها في الوقوع كما كان بالنسبة للأمم السابقة أو لبعضها، فإنها إذ كفرت بأنعم الله تعالى، وكفرت بنبيها أنزل الله بها عقابه للزوم المسبب للسبب. امتنعت هذه الملازمة بين إثم الكفر وعقابه، لوجود كلمة سبقت من ربك، ولأجل مسمى حدده الله تعالى لحكمة، وهو الحكيم العليم، وتلك الكلمة
ولهذا التأجيل الذي رجاه النبي - ﷺ - أمره بالصبر فقال تعالى:
* * *
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)
* * *
و" الباء " للدلالة على مصاحبة الحمد للتنزيه، أي نزه ربك عن أن يتركهم، حامدا ربك على أنه أعطاك القوة وهو لهم قاهر، وتفاءل ولا تتشاءم، واعلم أن الله معك غير متخلٍّ عنك.
والتسبيح يراد به التنزيه المطلق المصحوب بالحمد، وذلك مطلوب في كل وقت أم المراد الصلاة، ولعلها كانت قد فرضت وأن تلك الآيات نزلت بعد المعراج، وهو الوقت الذي فرضت فيه الصلوات الخمس.
إن الآية يمكن أن تخرج على الأمرين، فيصح أن يكون المطلوب بها أن يلجأ الرسول بعد الصبر مستعينا به على اطمئنان النفس وتنزيهه وحده، في الصباح قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء الليل وساعاته، وفي أطراف النهار، قبل الزوال وبعده، أي يعمم أوقات الصحو كلها في تنزيه وتقديس، وحمد، وإن ذكر الله يذهب الشدائد، ويعطي النفس قوة، ويمكنها من الصبرِ، ويعطيها الاطمئنان والقرار، ولذلك قال تعالى في ختام النص السامي: (لَعَلَّكَ تَرْضى) راجيا أنت أيها الرسول أن ترضى وتقبل على تبليغ الرسالة قرير العين غير آبه لهم، ولا ملتفت إليهم.
هذا على أن البيان للتسبيح المطلق والحمد والرضا، وقد يراد بالسياق الصلاة، ويكون في النص السامي إشارات إلى أوقاتها كما في قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨).
و (آنَاءِ) جمع إني، ومعناها وقت، أي نزه الله تعالى واحمده في كل أوقات الليل، وهنا بعض ملاحظات بيانية، أولها: قوله تعالى: (ومِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) قدم الزمان على الفعل وربط بينهما بالفاء، وذلك لمزيد العناية بالوقت فإنه وقت الهدأة والسكون، والاتصال بالله وحده.
الثانية: أن الفاء في قوله: (فَسَبِّح) لتوكيد الطلب ووصل القول، كقوله:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ...)، وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...).
الثالثة: أن قوله تعالى: (لَعَلَّكَ تَرْضَى) الرجاء فيها من النبي - ﷺ - لَا من الله، فإن الله وحده هو الفعال لما يريد، والعليم الخبير، وإن في هذا النص السامي تعليما لأتباع النبي - ﷺ - أن يلجئوا إلى الله عندما تشتد الشديدة.
ولقد روي أن النبي - ﷺ - كان إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة (١) وقد قال تعالى:
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِين)، وإن الذي يذهب بلب اللبيب النظر إلى متع الحياة الدنيا عند غيره.
________
(١) عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:. كَانَ النَّبِيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أمْرٌ صَلَّى " حزبه: اشتد عليه وأهمه.
والحديث رواه أبو داود: الصلاة - وقت قيام النبي ﷺ (١١٢٤)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٢٢٢١٠).
إن الذي يقض مضجع ذوي الأهواء أنهم ينظرون إلى ما عند غيرهم من أسباب المتع والملاذّ، وإنه هو الذي يمنع صبر من يريد الصبر ويتغيَّا الحقائق، ولذا بعد أن أمر الله تعالى نبيه بالصبر نهاه عما يضعف قوة النفس، والإرادة ليصون الرسول ومن معه نفسه، عن الأسباب التي تضعف الإرادة القوية الباصرة، فقال عز من قائل: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
" الواو " عاطفة النهي عن مد العينين على الأمر بالصبر، وفي هذا النهي شحذ الإرادة لتقوى على الصبر كما أشرنا، وإن المعنى الذي يبدو من النص أنه نهى للنبي عن أن يلتفت النبي - ﷺ - إلى ما هم فيه من استيلاء على زخارف الدنيا، وزينتها ولا يأخذ نفسه ذلك فيحسب أن لهم به منزلة عند الله تعالى، بل إنه دليل خسرانهم، وإذا كان النهي عن أن يلتفت إلى زينة الحياة الدنيا، فهو أمر له عليه الصلاة والسلام، ومن معه أن يتجهوا إلى معالى الأمور ومعنوياتها عن زخارفها.
وفى الكلامِ مجاز، فقد عبر سبحانه عن عدم الالتفات إلى ما أعطاهم من زخارف بقوله (ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)، أي لَا تُطِلْ النظر وتسترسل فيه، وذلك يوجب ألا يلتفت، فشبه حال الالتفات بحال من يمد بصره، وذلك للإمعان في التأمل وفي ذلك تتبع، ومن ذلك قول النبي - ﷺ - للفضل بن عباس، وقد أطال النظر في امرأة " الأولى لك والثانية عليك " (١).
وقوله تعالى: (إِلَى مَا مَتُّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) " إلى " هي نهاية المد، كأن البصر يكون ممتدا من العين إلى متعهم، وذلك قد يؤدي إلى النظر إليهم غابطا لهم، وما هم في غبطة، أو ما يغبطون عليه و (أَزْوَاجًا) معناها أشباها متقابلة كبيرة، و (زَهْرَةَ الْحيَاة الدُّنْيَا) مفعول لفعل محذوف أو لـ (مَتَّعْنَا)، بتضمينها " أعطينا "، والتعبير عن هذه الزخارف، وغيرها من أسباب القوة الظاهرة بـ (زَهْرَةَ) تدل على أمرين أحدهما أنها كالزهرة، والزهرة عمرها قصير، فهي لَا تبقى طويلا، والثاني الإشارة
_________
(١) روى الترمذي: الأدب - ما جاء في نظر المفاجأة (٢٧٠١) عَنْ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ قَالَ:. يَا عَلِي لَا تُتْبِعْ النظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإن لَكَ الأولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ.. قَالَ أبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَن غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكِ. كما رواه أحمد، وأبو داود.
وإن غاية هذه الزهرات إلى انطفاء، وهي اختبار لهم، ولذلك قال تعالى: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)، أي لنعاملهم معاملة المختبرين فيزدادوا طغيانا على طغيانهم.
وتنكشف حقيقة أمرهم، ويعرف ما فيهم من غي وشر، والتعدية بقوله (فِيهِ) دون التعبير بالباء، وللإشارة إلى أنهم مغمورين في فتنة دائمة قد أحاطت بهم فهم يسارعون فيها من جنبة إلى جنبة وقد أحيط بهم.
(وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) والرزق هو ما يعطيه الله لعباده من أسباب النفقة وقد يطلق على المعاني؛ لأنها غذاء القلوب وقوت العقول، ويكون ذلك من باب المجاز، وقد رزق النبي - ﷺ - ومن معه من المؤمنين أنواعا ثلاثة من الرزق أولها وأعلاها وأكملها الهداية، وثانيها: المال الطاهر النقي، والثالث: القوة في ذات أنفسهم كما بدت في الجهاد.
وهذا خير؛ لأنه أبقى في ذاته، وأبقى لأن له جزاء يوم القيامة، وهو النعيم المقيم قال تعالى:
قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) الأمر هو الطلب الحازم القاطع، وأمر الأهل حيث يمكن التنفيذ، يكون بالتنفيذ والقدوة فيعلم أولاده وأهله الصلاة ويصلي معهم ويرون فيه الأسوة الحسنة التي يتبعوها، وقد أمره بملازمتها بقوله عز وجل: (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) الاصطبار " افتعال " من الصبر، وهو يدل على أنه يربي نفسه على قوة احتمالها، وريإضة النفس عليها بأدائها كاملة بخشوع وحضور، واستحضار لجلال الله تعالى علام الغيوب، وأنه يراه في عمله، وإن لم يكن هو يراه.
وإن هذه التربية على العبادة التي أجل مظهر لها إقامة الصلاة فإن الصلاة عمود الدين، ولا دين من غير صلاة، كما أشار النبي - ﷺ - (٢)، ليست هذه التربية لعائدة تعود على الله تعالى، فإن الله غني حميد، وإنما لتكوين أسرة صالحة، وِمجتمع صالح وجيل صالح، ولذا يقول العزيز الحكيم: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْن نرْزُقُكَ) الخطاب للنبي - ﷺ - وخطابه عليه الصلاة والسلام خطاب لأمته كلها، وهذه الجملة تدل على أن غاية العبادة إصلاح العابدين، ولا يعود على الله منها شيء فهو ليس بمحتاج، والناس يحتاجون إليه، وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله:
________
(١) عن عمرو بن عوف المزني: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ الْخَنْدَقَ مِنْ أَحْمَرَ الْبَسْخَتَيْنِ طَرَفِ بَنِي حَارِثَةَ عَامَ حِزْبِ الْأَحْزَابِ، حَتَّى بَلَغَ الْمَذَابِحَ، فَقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، وَكَانَ رَجُلًا قَوِيًّا، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ".
رواه الطبراني، وفيه: كثيرَ بن عبد اللَّه المزني، وقد ضعفه الجمهور، وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات. مجمع الزوائد: ٦/ ١٨٩.
(٢) سبق تخريجه.
أخذ يبين بعد ذلك إنكار المنكرين، وهو أنهم يحسبون أن محمدا لم يأت بآية تدل على صدقه:
الواو واصلة بين هذه الآية، وما كان من المشركين وإسرافهم في أمرهم وكفرهم بربهم، وحسبوا أنه لم تأتهم آية شاهدة على رسالة محمد - ﷺ -؛ لأنه لم يأتهم بمثل عصا موسى، ولم يبرئ الأكمه والأبرص، ولم يغرقهم كما أغرق قوم نوح وقوم فرعون.
(وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) " لَوْلَا " هنا معناها " هلا، الدالة على الحث والتحريض، ويتضمن هذا أنهم ينكرون وجود هذه الآية، وقد رد الله تعالى إنكارهم فقال: (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى) سمى القرآن (بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى)، وهي كتب النبيين السابقين من توراة وإنجيل وزبور، وما جاء به إبراهيم وإسماعيل وغيرهم من النبيين والصديقين، وهذه البينة هي القرآن، وكان بينتها لأنه الكتاب الخالد الباقي الذي يحمل في نفسه دليل حجيته، وهو حجة لنفسه، ولكل النبيين الذين سبقوه؛ لأنه معجزة باقية، وهو المسجل لكل المعجزات السابقة، لأنها كانت أحداثا ستنقضي بوقتها، أما القرآن فهو معجزة باقية تتحدت الأجيال كلها أن يأتوا بمثله فهو معجزة المعجزات، وهو سجلها الخالد الباقي، روي في الصحيحين أنه - ﷺ - قال: " ما من نبي إلا أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلى وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (١) وليس أتباع عيسى وموسى هم الذين سموا اليهود، وسموا أنفسهم
________
(١) متفق عليه وقد سبق تخريجه بلفظه.
وإن الله لم يأت بالمعجزات الحسية لأنهم كفروا، كما قال تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَن كذَّبَ بِهَا الأَولُونَ...)، فهم ليسوا طلاب هداية يريدون الوصول إليها، بل هم مكذبون معاندون جاحدون يبررون جحودهم.
وهم إذ جاءتهم الآية كفروا بها، وإذا لم تجئهم أيضا برروا كفرهم بأنهم لم تجئهم آية، ولذا قال تعالى:
إن بعث الرسل كان بمقتضى حكمة الله تعالى حتما لازما، لكيلا يكون للناس حجة، وكانت البينة المثبتة لرسالة الرسول تكون بإرادة من أرسله وهو سبحانه وتعالى المرسِل، والعليم بما يؤمن عليه البشر من آيات تدل على رسالة من أرسله.
ولو أنه سبحانه وتعالى لم يرسل رسلا، وكان الهلاك لقامت لهم حجة، ولذا قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَاب مِّن قَبْلِهِ).
وإن أمر الشرك وأهله لعجب؛ لأن الضلال إذا سيطر كان العجب، فإذا أرسل إليهم رسول جحدوا وعنتوا معه، وعاندوه ولم تعجبهم حجة لفرط إنكارهم لا لنقص في الدليل الذي قدم إليهم برهانا ساطعا، وإن لم يرسل وعذبوا، قالوا هلا أرسل إلينا رسول من قبل أن نذل ونخزي، إنه ليس لهم إلا أن يروا عاقبة جحودهم وعنادهم، ولذا قال عز من قائل:
الخطاب للنبي - ﷺ - ومؤدى القول لقد جادلوك وصابرتهم وأحسنت جدالهم، فذرهم واتركهم لعاقبة أمرهم، و (قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ) التنوين في (كُلٌّ) قائم إلى مقام مضاف محذوف تقديره مثلا كل فريق متربص، أي منتظر عاقبته ليراها محسوسة معلومة، وإن كانت الحقيقة معروفة للنبي - ﷺ -، وهذا كقوله تعالى: (... وَإِنَّا أَوْ إِياكمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلال مُّبِينٍ).
" الفاء " تنبئ عن شرط مقدر، فإذا تربصنا فستعلمون من أصحاب الطريق المستقيم، فالصراط هو الطريق السوي أي المستقيم، ومن وصل إلى الهداية وإلى الحق، أي ستعلمون من يكون قد سلك المسلك المستقيم، ومن سار على الطريقة، ومن وصل إلى الحق، واهتدى إليه، والاستفهام للتنبيه والتوجيه، والجملة كلها للتهديد؛ لأن من اهتدى وسلك طريق الحق فقد نال حسن الهداية والتوفيق ونال الجنة والنعيم المقيم ورضوان من الله أكبر، ومن ضل وغوى، وسار في مثارات الشيطان فقد هوى إلى نار جهنم وبئس المصير.
فاللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم، وجنِّبنا سُبُل الضلالة الموصلة إلى عذاب الجحيم.
* * *
تمهيد:
هي جديرة باسمها، لأن فيها قصصا من أخبار النبيين، وهو غير مكرر مع ما ذكر في غيرها من القصص، فكل قصة لست جزءا من القصة هو عبرة في موضعها غير مكرر مع غيره، وقد نبهنا إلى ذلك من قبل، وضربنا المثل بقصة بدء خلق الإنسان، والمفارقات.
وسورة الأنبياء سورة مكية وآياتها اثنتا عشرة آية ومائة.
وقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر الساعة وقربها وما وراءها من حساب على ما قدمت أيديهم، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)
ويأخذون الحياة لعبا ولهوا حتى ما يكون تذكيرا باليوم الآخر (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ...)
وقالواً لكل رسول جاءهمَ (... هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مثْلُكمْ أَفَتَأتونَ السِّحْرَ وَأَنتًمْ تُبْصِرُونَ)، واتهموا كل رسول يرسل إليهم بأن كلامه أضغاث أحلام وأن كلامه افتراء افتراه على الله تعالى، (... بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأتِنَا بِآيَةٍ...) ويذكر العبرة في حال من سبقوا (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
ويخاطب نبيه فيقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨).
ولقد كفر أقوامهم فصدق الله تعالى وعده لأنبيائه فأنجاهم وأهلك الكافرين لأنهم أسرفوا في الضلال، وبين للنبي - ﷺ - أنه مذكور في الكتب قبله، وأن الكتاب
وقد بين سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض ودلالتها على وحدانية الخالق، وأنه مالك السماوات والأرض (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١).
ولقد جاء إثبات الوحدانية بدليل يجمع بين البلاغة وأعلى درجات المنطق فقال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)، ولقد تحداهم سبحانه أن يأتوا بما يدل على ألوهية غيره سبحانه فقال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤).
وقد أشار سبحانه من بعد إلى أنه قد أرسل رسلا من قبلكم وكانت دعوتهم التوحيد الخالص ونفَى سبحانه عن ذاته العلية اتخاذ الولد (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨).
ونفى سبحانه أن يقول أحد ممن ادعوا أنهم أبناء الله، ومن يقل بذلك يجزيه جهنم وكذلك يجزى الله الظالمين.
وقد أتى سبحانه بقضية كونية لم يصل إليها العلم إلا في العصور المتأخرة، وهو أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا فقال: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠).
ولقد ذكر الله تعالى لتسلية النبي - ﷺ - ما كان يفعله السابقون من السخرية برسلهم وحاق بالذين سخروا ما كانوا به يستهزئون.
ثم نبه سبحانه إلى ما أنعم به عليهم من نعم وهي دائمة (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)، وليس لهم من يمنعهم من الله، وأنه سبحانه مَتَّعَ هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم [الْعُمُرُ] (١) وظنوا أنه لا حساب، وقد وجدوا عقاب الله تعالى لمشركي مكة بالحرب التي كانت تنقص عليهم الأرض من أطرافها.
ولقد أشار سبحانه إلى موسى وهارون وقد آتاهم ما أضاء الحق وذكَّر المتقين، وما كان فرقانا بين الهدى والضلال، وهذا ذكر مبارك وهو القرآن، أفأنتم معشر المشركين له منكرون.
ذكر بعد ذلك شيئا من مجاوبة إبراهيم لعُبَّاد الأوثان قائلا لهم: (... مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
وحطم أصنامهم ووضع الفأس التي حطمها بها في عنق كبيرهم، ثم جاءوا وتحروا فوقعت الظنة على إبراهيم فأرادوا أن يحرقوه بالنار فجعلها الله تعالى بردا وسلاما على إبراهيم، وهذا القدر من قصة إبراهيم لم يذكر في أي سورة أخرى، مما يدل على أنه لَا تكرار في قصص القرآن، وإن بدا ذلك بظاهر الأمر لمن لم يفحص مرامي القصص وموضع العبرة فيه، وقد جرت بين الشاب وبينهم مجادلات في عبادة الأوثان، حتى انتهى إلى قوله لهم: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٧).
ونجى الله من كيدهم إبراهيم كما نجى الله تعالى لوطا.
وذكر سبحانه بعد ذلك ما وهبه له من إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعله الله من الصالحين وجعلهم أئمة يهدون بأمره، ويقول سبحانه: (... وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥). ثم ذكر نوحا: (... إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧).
وذكر سبحانه داود وسليمان، وقضايا سليمان وما فهَّمه سبحانه وتعالى من الحكم فيها وما علمه لداود من صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون، وما مكَّن سبحانه وتعالى لسليمان، وقال: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (٨٢).
وقص سبحانه قصة نبي الله تعالى أيوب وما أصابه من ضر وصبره لما أصابه (... إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)، وقد استجاب له
وأشار سبحانه وتعالى إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل، وكل من الصابرين، وقال سبحانه: (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)، ثم ذكر سبحانه قصة ذي النون فقال: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨).
وذكر خبر زكريا، ونداءه ربه (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)، وقد استجاب الله تعالى له ووهب له يحيى.
ثم ذكر سبحانه وتعالى خبر مريم فقال: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١).
ثم أشار سبحانه إلى أن الناس جميعا أمة واحدة دعيت إلى دين واحد، فقال: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢).
وأشار سبحانه إلى أنه مع هذه الوحدة الجامعة تفرقوا حول الأنبياء الذين دعوا إلى عبادة الله تعالى: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣).
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أحوال يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، وبين سبحانه أن الساعة آتية لَا ريب فيها، وقد اقتربت لأن كل آت قريب، وأشار إلى أحوال الناس عند هذه الساعة، وبين أنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، وبين لنا أن الذين سبقت لهم من الله الحسنى أولئك عن جهنم مبعدون، لَا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، لَا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وذكر سبحانه وتعالى ما يكون للكون يوم القيامة، وما كتبه الله في كتبه السماوية أن الأرض يرثها الصالحون، وأمر نبيه أن يقول للمشركين الذين كفروا
وبهذا تنتهي السورة الشريفة، وفيها كما يرى القارئ من هذا العرض أنها تشتمل على إشارات من قصص النبيين، وصلبها الدعوة إلى التوحيد، وما لقيه النبيون في سبيل هذه الدعوة التي هي الحق، وضل من يعاندها.
* * *
معاني السورة
تلقي الناس لدعوة الحق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)* * *
ابتدأ الله تعالى السورة الكريمة بذكر القيامة، وأعظم ما في القيامة أثرا هو الحساب الذي يعقب التوجه إلى النعيم، أو التوجه إلى الجحيم، ابتدأ به؛ لأن كل ما يذكر من إعراض عن ذكر الله تعالى في دعوات الأنبياء الذين أشارت إلى قصصهم
والناس في قوله تعالى: