ﰡ
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة النورقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)، الآية/ ٢:
اعلم أن الزنا كان معروفا في اللغة قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل، وكان موضوعا للفعل الخاص القبيح، وأطلق على فعل خاص حقيقة، وجعل وطء رجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة، نكاح بمطاوعتها زنا، وذلك إنما علم بالسمع، ولولا السمع لحسن ذلك، لأن استمتاعه بها وهي راضية، بمنزلة استخدامه لا فيما ينتفعان به فلا مضرة ولا ظلم.
والأصل أن النفع العاجل لا يحرم إلا بالسمع، وقد اختلفت الأمم في استقباح هذا الجنس:
فقوم من العرب كانوا يسيبون الإماء، ويطلبون النسل.
ومنهم من كان يرضى بأن يكون نساؤهم بغايا.
ومنهم من كان يرضى بنكاح الزانيات.
ومتى قيل إن في الزنا اختلاط الأنساب والجهل بتمييزها، والعقل يشهد بقبح ما يرفع الأنساب ويبطله.
ولئن قيل: إذا لم يتخصص الولد بوالد، فمن يربي الولد وينهض بكفايته؟
فيقال: وحيث قيل هذا أب، لم يجب عقلا أن يقوم بكفايته، وتولده من مائه من أين أوجب عليه عقلا أن يقوم بمئونته وكفايته وتربيته؟
نعم إن ذلك تلقى من السمع.
وحيث لا يكون كذلك، فيجب على الناس عقلا السعي فيما فيه صلاحهم وبقاء جنسهم، وهذا بين.
وإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في مسائل، وأن اسم الزنا هل يتناولها؟ وليس نعني به أن يتعرف ذلك من جهة اللغة، ولكن الزنا صار في الشرع اسما لمحظور خاص، فهل نقول إن ذلك المحظور هل وجد، فنرجع الخلاف إليه؟ مثل قولنا: المجامع في الدبر هل يكون زانيا؟ وواطئا أمه وأخته وابنته باسم النكاح؟ هل يكون تحريم فعله كتحريم فعل من زنا بأجنبية أو زنا بها قبل النكاح حتى يسمى زنا «١» ؟
واختلفوا في أحكام شرعية لاختلاف عقائدهم في أنها متعلقة باسم الوطء، أو بمعنى يختص به الحلال، مثل تحريم المصاهرة.
واختلفوا في تحريم المخلوقة من ماء الزنا، فإنهم اختلفوا في أن تحريم بنته إنما كان لمكان النسب، أو لمكان أنها تولدت من مائه مطلقا.
وإذا وطئها في دبرها أو لاط بغلام، فقد اختلفوا فيه على حسب اختلافهم في أن الزنا أوجب الحد، لكونه مستنكرا في النفوس والطباع، وهو مؤذن بالهتكة والفضيحة، فإذا كان كذلك، فاللواط أعظم وأشنع في هذا الباب.
ومنهم من يرى أن السبب في تعظيم تحريمه، ما يتولد من فساد النسل واختلاط الأنساب.
وظن ظانون أن كتاب الله تعالى لا ينبئ عن دخول اللواط تحت اسم الزنا، لأن الله سبحانه قال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي).
فقيل لهم: لم يذكر في الظاهر الزاني بها والزانية به، بل أطلق ذلك، فانطلق على اللواط.
فأجابوا بأن المفهوم من الظاهر، أن الفعل منهما لا من أحدهما «١».
ومتى قيل: إذا لم يفهم ذلك من قوله والسارق والسارقة، بل دخل فيها السارق من غيرها، فكذلك هاهنا.
فأجابوا بأن الزنا لا يكون إلا بينهما، ومن فعلهما، والسرقة ينفرد بها أحدهما فافترقا.
وهذا ركيك عندنا، وأول ما فيه أن لا يدخل في عمومه الزاني بالمجنونة والصغيرة والمكرهة على الزنا والحربية، إذا لم تعرف أحكام
ولأنه تعالى إذ قال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)، فليس يعني به شخصين فقط، وإنما ذلك للجنس، وإذ كانت الألف واللام لإبانة الجنس، فكأنه ذكر الرجل الزاني مطلقا، وذكر جنس الزانيات، فلا يجب أن يفهم منه زناه بها حتى يخرج منه اللواط، وعلى أن الذي ذكروه لا فرج فيه، فإنه إذا لاط بها مطاوعة، فهي زانية وهو زاني.
نعم: نقول إنه لا يتناول لواط الرجل بالرجل، وهو لا يقدح في المقصود، بعد أن ثبت كون اللواط في الجملة داخلا تحت اسم الزنا، فبطل ما توهموه.
نعم الوطء دون الفرج لا يعد زنا، لا حقيقة لغة ولا شرعا: أما اللغة، فاسم الزنا أطلق حقيقة على الكامل في جنسه، وله مقدمات ووسائل لا يعد زنا حقيقة، وإنما هو مجاورة للزنا أو موصلة إليه.
فإذا ثبت الكلام في الإسم، فقد اختلف الناس في الداخلين تحت هذا الاسم، فقالت الخوارج: الكل داخلون فلا رجم عندهم.
وأثبت غيرهم الرجم ثم اختلفوا، فمنهم من يعمل بالآية عموما ويضم الرجم إلى المحصن بعد الجلد، وأكثر الفقهاء لا يرون ذلك.
فإذا المراد بالآية البكران، فأما الثيبان المحصنان فحدهما الرجم، وقد رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما عزا ولم يجلده، ولذلك تخصصت الآية بخبر عبادة حيث روى: «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
قوله تعالى: (فَاجْلِدُوا).
قصد به بيان المبالغة في الزجر، وعقبه بقوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، الآية/ ٢.
فكيف ينتظم مع هذا أن يكون الرجم مشروعا في ذلك الوقت في حق الثيب، وهم كثر الناس أو شطرهم، ولا يتعرض له أصلا ولا يذكره؟
فلا بد أن يقال: إن في ذلك الوقت ما كان الرجم مشروعا، ثم شرع الله تعالى الرجم بعده، فصار ناسخا للجلد في حق الثيب، وليس يجوز إطلاق لفظ التخصيص في كل موضع، بل للكلام قرائن أحوال، يعلم بها مقصود المتكلم ضرورة، وهذا مما لا يمكن فيه إغفال الرجم وإرادة الجلد في حق الأبكار، فإنه يتضمن ما ذكرناه، فلا يجوز أن يقال: إن الرجم قد كان في حق المحصن، لكنه لم يذكر في هذه الآية.
واختلف الناس في العبد، هل يدخل فيه، وكذلك الأمة؟ والصحيح أنهم دخلوا فيه، ولكن خصصوا بقوله تعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) «٢».
(٢) سورة النساء آية ٢٥. [.....]
واختلفوا في الذمي هل يدخل فيه؟ ومذهب مالك، أن الذميين لا يحدان إذا زنيا، والظاهر ينفي الفرق بين المسلم والكافر.
إذا ثبت هذا، فقد قال الله تعالى: (فَاجْلِدُوا)، وهذا عام، إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام هو الذي يتولى ذلك في حق الرعايا، والسيد في حق مملوكه عند الشافعي، وإذا لم يكن إمام، فإن أفضى استيفاء الحدود من جهة صلحاء الناس إلى هرج وفتنة لم يجز، وإن لم يفض إليه جاز.
ثم لم يختلف السلف في أنه كان جلد الزانيين في ابتداء الإسلام ما قاله الله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) «١»، (فَآذُوهُما) فكان حد المرأة بالحبس، والأذى بالتعيير، وكان حد الرجل، بالتعيير، ثم نسخ في غير المحصن بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)، مع ما بينا فيه من الكلام، وفي المحصن الرجم، وكأن حديث عبادة بعد قوله تعالى:
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) «٢». وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا». وبين النبي عليه الصلاة والسلام بحديث عبادة المراد بالسبيل.
إذا ثبت هذا، فقد اختلف العلماء في المحصن وغير المحصن كما
(٢) سورة النساء آية ١٥
وأوجب الشافعي الرجم على الذميين، كما أوجب على المسلمين، تلقيا من الخبر النص في حق الذميين من عموم قوله عليه الصلاة والسلام:
«الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» «١».
ومالك يقول: إنما رجمهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حيث لم يكن لليهود من ذمة، وتحاكموا إليه فحكم بينهما بحكم التوراة، فلم يكن في قتله نقض ذمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا بعد في إجراء أحكامهم عليهم، وهذا بعيد، فإن قتل الكافر إن جاز، فإنما يجوز بغير وجه الرجم، والرجم لم يكن مشروعا، فيحرم بحكم شرعنا، فكيف يجوز إجراؤه عليهم على موجب دينهم؟
وإذا ثبت ذلك، فقد قال تعالى: (فَاجْلِدُوا)، فالظاهر يقتضي فعل أول ما يسمى جلدا، فإذا فعله واستوفى العدد، فقد وفي الظاهر حقه، وما زاد على ذلك على أصل التحريم.
ولا يجوز أن يتخير الجلاد بين التخفيف والتشديد، فإنه لا يجوز أن يتخير الإنسان بين عقوبة مسلم وتركها.
والمفسرون والفقهاء، حملوا ظاهر الآية على ما جرت به العادة من فعل الضرب أو التأديب «٢».
(٢) أنظر تفسير القرطبي، سورة النور.
هذا «١».
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أمر برجل يضرب الحد فقال: لا ترفع إبطك.
وعنه أنه اختار سوطا بين السوطين.
فيجب إتباع السنة في ذلك وهو المتعارف في الضرب، ولم يختلفوا في أن هذا الجلد يفرق على جسمه، لأنه المتعارف المتعالم، فإنه إن جمع في مكان واحد خيف عليه القتل، وخرج عن طريقة الضرب.
ولا خلاف أنه يتقي في باب الضرب مواضع المقاتل، والمواضع التي يشين الأثر فيها كالوجه والمذاكر.. وكل ذلك ليس مأخوذا من اسم الجلد، وإنما هو مأخوذ من معنى الحد، والمقصود به.
وظن ظانون أن معنى قوله تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)، تشديد الضرب. وروي ذلك عن قتادة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب.
وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب.
وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف.. وقال الثوري: ضرب الزنا أشد من ضرب القاذف.
وضرب القذف أشد من ضرب الشرب، والظاهر يقتضي التسوية، وهو مذهب مالك والشافعي.
وقوله تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ)، يحتمل أن يكون
قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، الآية/ ٢: اختلف في المراد بالطائفة، فحملها بعضهم على العشرة، وقالوا أقلها عشرة ولا نهاية للأكثر، وقال آخرون: أقله رجل إلى ألف، والأظهر أنه ثلاثة.. ومما احتجوا به من أن حد الزنا ينبغي أن يكون أشد من حد القذف والشرب، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بضرب الشارب بالجريد والنعال، وضرب الزاني إنما يكون بالسوط، وهذا فيه نظر، فإن ضرب الشارب ما كان مقدرا، والكلام فيما تقدر منه بمبلغ معلوم، وحين أمر بضرب الشارب بالنعال، كان حد الشرب كالتعزير.
ومما قالوه أن القاذف يجوز أن يكون صادقا، فلم يقطع بجريمته، والزنا بخلافه، فكيف يسوي بين الضربين، وهذا هوس، فإن الشرع ما أوجب الحد إلا عند القطع بكذبه وبقوله شرعا، فلا حاصل لما قالوه، ولذلك ردت شهادته، وقال تعالى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ)، الآية/ ١٣. وعلى أنا أظهرنا مزية الزنا بزيادة الجلدات، فمن أين يجب ظهور المزية ووصف الضرب من جهة الشدة «١».
قوله تعالى: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ)، الآية/ ٣.
روى إسماعيل بن إسحاق عن ابن مسعود أنه قال في الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها: إنهما زانيان ما عاشا.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا تاب الرجل حل له أن يتزوجها.
وروي عن ابن عمرو بن عباس فيمن زنى بها ثم تزوجها، أن أوله سفاح وآخره نكاح، فأما المروي في سبب نزول الآية، فهو أن رجلا كان يقال له مرثد كان يحمل الأسرى وله صديقة بمكة يقال لها عنان من البغايا، قال: فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أنكحني عنانا، فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يرد علي شيئا حتى نزلت هذه الآية، فقال لي: يا مرثد، إن الزاني لا ينكح إلا زانية.
ونقل عن سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة بقوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) «١»، ودليل النسخ، أنه جوز للزاني أن ينكح مشركة، وذلك غير جائز، فإنه منسوخ بقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) «٢».
وقال بعضهم: هو وارد في نفس الوطء لا في عقد النكاح، فكأنه قال: وطء الزنا لا يقع إلا من زان أو مشرك، فأما من المؤمن فلا يقع.
وهذا بعيد، فإن قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ)، يقتضي تقدير كونه زانيا، وإن النكاح ممتنع إما نهيا وإما خبرا، فلا يجوز حمله على الوطء.
ووطئ الزانية محرم على غير الزاني، كتحريمه على الزاني، فأقوى التأويلات أن الآية نزلت في بغايا الجاهلية، والمسلم ممنوع من التزوج بهن، فإذا تبن وأسلمن صح النكاح، وإذا ثبت ذلك، فلا يجب كونه منسوخا.
وذهب بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي إلى أن المجلود في الزنا
(٢) سورة البقرة آية ٢٢١.
ولكن يلزمه عليه أنه يجوز للزاني أن يتزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك.
وهذا في غاية البعد، وخروج عن الإسلام بالكلية، بما قال هؤلاء، إن الآية منسوخة في المشركة خاصة دون الزانية، وهؤلاء يروون عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وابن عمر مثل مذهبهم. ورووا عن المقبري عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله، واستدلوا عليه بقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ- إلى قوله- مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) «١»، فإنه تعالى لم يبح عند الضرورة وخوف العنت إلا بشرط الإحصان، ففي حال الضرورة لأن يحرم أولى.
واستدلوا عليه أيضا بما ثبت من وقوع الفرقة باللعان، لأنه قد أقر بأنها زنت، فإذا صح الزنا ببينة، فالمنع من تزوجها أولى.
وأما الكلام في الآية فعلى ما تقدم، وأما الأخبار فمتعارضة والقياس لا وجه له بإقرار نفسه فيما يوجب الفرقة، فلما ثبت بالإجماع أن لا فرقة في هذه الحالة، ثبت أن عند اللعان إنما تجب الفرقة لأمر آخر، إذ لو وجب لكونها زانية، لكان اعترافه بذلك فيها، كاعترافه بأنها أخته من نسب أو رضاع، في ألا ينتظر في تحريمها عليه أمر سواه.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ)، الآية/ ٤.
والمعتبر هاهنا في إحصان المقذوف: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والعفة من الزنا، وكثير من ذلك لا يدل عليه اللفظ.
وليس في نفس اللفظ من طريق اللغة، إلا دلالة تخصيص الرمي بالزنا، إلا أن يشبه أن يكون المراد به ذلك، مع ما ذكرنا من الإحصان، ثم لما اجتمعت الأمة في حق المحصنة على أن معنى الرمي بالزنا، جعلوا المحصن في معنى المحصنة.
وقوله: (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) : يدل على أن شهادة الأربعة شرط في إثبات الزنا، وليست لصفات الأربع ذكورة وعدالة وحرية ذكر، لكن الإجماع منعقد عليه، وليس في الآية رمي المرأة الرجل، ولكنها في معناه شرعا.
واختلف الناس في التعريض بالقذف، فمالك يوجب به الحد، والشافعي وكافة العلماء على خلافه، ولا شك أن الشرع إذا علق الحد على الصريح، فالمحتمل دونه، فلا يلحق به، سيما في الحدود التي تدرأ بالشبهات.
ومن أقوى ما يتعلق به في ذلك ما قاله الشافعي، من أن التعريض بالخطبة لم يلحق بالصريح مع القرائن الدالة على مقصود المتعرض، فليكن في القذف كذلك، فإنه أولى بالسقوط بالشبهة.
وإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في حد العبد، فقال أكثر العلماء عليه إذا قذف أربعون.
وقال الأوزاعي: بجلد ثمانين.
وعن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، أنه قال في عبد قذف حرا أن يجلد ثمانين.
وقال الله تعالى:
(فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) «١»، وفهمنا من ذلك أن حد الزنا حق الله تعالى، وأنه ربما كان أخف ممن قبلت نعم الله عليه، فحسن ممن عظمت نعم الله تعالى عليه، وأما حد القذف فحق الآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كانت تختلف لذكرها كما ذكرنا في الزنا؟ وغاية ما يقال أن العبد منزجر عن قذف الحر أكثر من انزجار الحر، واختلف في حد القاذف دون مطالبة المقذوف، فقال ابن أبي ليلى:
يحده الإمام وإن لم يطالبه المقذوف.
وقال مالك: لا يحده الإمام قبل طلبه، إلا أن يكون الإمام قد سمعه فيحده، إذا كان مع الإمام شهود عدول.
وهذا مشكل على أبي حنيفة، إذا جعله حقا لله تعالى، فإن حق الله تعالى كيف يتوقف على طلب الآدمي، وإذا لم يسقط بإسقاطه، كيف يتوقف على طلبه؟ فهو مناقضة منهم.
واعلم أن قول الله تعالى: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)، الآية/ ٤: حكم من الله تعالى في القاذف بأربعة شهداء، فعلق الشرع على القذف عند إظهار العجز عن إقامة الشهادة ثلاثة أحكام:
أحدها: جلد ثمانين.
والثاني: بطلان الشهادة.
فقال قائلون: بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد، وهو قول الشافعي والليث بن سعد «١».
وقال أبو حنيفة: شهادته قبل الحد مقبولة.
والذي ذكره الشافعي ظاهر جدا، فإن الحد لا يقام عليه إلا بعد الحكم بفسقه، فأما أن يتقدم إقامة الحد الحكم بفسقه فكلا، ولا يبتدأ بإقامة الحد عليه إلا بعد ظهور عجزه، لا أن بإقامة الحد يظهر عجزه.
وبالجملة: الامتناع من إقامة الحد مع تردد الخبر بين الصدق والكذب أمثل من الحكم بفسقه والتردد في شهادته، فإن الشهادة ترد بالتهمة والشبهة، فكيف يتأتى لعاقل أن يقول ذلك.
ونقرر ذلك على وجه آخر فنقول: الموجب لرد الشهادة لا يجوز أن يكون هذا الحد، فإن إقامة الحد من فعل غيره فيه، فلا يجوز أن يؤثر، ولأنه إلى التكفير أقرب، فالحدود كفارات لأهلها.
فهذه المسألة مقتبسة من الآية.
المسألة الأخرى: أن شهادة القاذف تقبل بعد التوبة، خلافا لأبي حنيفة «٢».
وظن ظانون أن هذه المسألة مبنية على أن الاستثناء إذا تعقب جملا، هل ترجع إلى الجميع أم إلى الجملة الأخيرة؟ ومن يرده إلى الجملة الأخيرة يحتج برجوعه إليه في مثل قوله تعالى: (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ
(٢) أنظر شرح الهداية لابن عابدين باب الحدود.
وهذه جهالة، فإن فيما قالوه إذا كان الاستثناء من الاستثناء، والاستثناء من النفي اثبات، ومن الإثبات نفي، وقد تعذر الرد إليهما على اختلافهما فيرجع إلى الأقرب، ولا خلاف في أن الاستثناء في قوله تعالى:
(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ- إلى قوله- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) «٢» يرجع إلى الجميع ويتعلق بالكل، وكذلك في قوله:
(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ- إلى قوله- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) «٣». والتيمم راجع إلى الجميع.
وكل ذلك مستغنى عنه، فإنا على القولين جميعا نرى قبول شهادته بعد التوبة، فإن علة رد شهادته رميه وفسقه لا إقامة الحد عليه، لما بينا من أن إقامة الحد عليه من فعل غيره فيه، فلا يؤثر في شهادته، فهو أقرب إلى التفكير كما روى في الحدود، والتوبة إذا رفعت علة رد الشهادة وهو الفسق، دار القول. فإن المعلول لا يثبت دون العلة فاعلمه، هذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك.
وعندهم أن الله تعالى قال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ- إلى قوله-
(٢) سورة المائدة آية ٣٣- ٣٤. [.....]
(٣) سورة النساء آية ٤٣.
وظن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه تعالى لما قال: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ)، فإذا أتى بأربعة شهداء فساق فلا حد عليه، فإنه أتى بأربعة شهداء وذلك بالفساق، فلو جاء بأربعة من المحدودين والكافرين، فلا يسقط الحد عنه، وكذلك العبيد، ولا شك أن لفظ الشهداء ليس فيه هذا التفصيل فهو به متحكم، ولأنه تعالى لما قال: «فإن يأتوا بالشهداء»، يعني: إذا لم يأت بالشهداء الذين يحصل منهم الصدق، ويقبل قولهم، فأولئك كاذبون، فأما أن يجيء بأربعة لا يصدقهم الشرع في إثبات الزنا، فكيف يمكن أن يدرأ الحد عنه؟ فهذا مقطوع به، وربما بنى ذلك على أن الفاسق من أهل الشهادة، وذلك مجرد لفظ، فلا معنى إذا تبين أن الفاسق لا يجوز أن تقبل شهادته في الحدود، وإن ظهر عند القاضي بالقرائن صدقه، ولا يجوز إقامة الحد على المشهود عليه بشهادتهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين.
وعند الشافعي يجب الحد على الشهود وعلى القاذف جميعا.
ومن أعجب الأمور أنهم قالوا: العدول إذا شهدوا على الزنا متفرقين، فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يحدون.
وقال الشافعي: لا يحدون وتقبل شهادتهم، مع أنه جاء بأربعة شهداء.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ)، الآية/ ٦.
دل به على أن الأول لم يتناول الزوجات، أعني قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ).
ويحتمل أن يقال إنه تناول، ولكن جعل هذا محلفا، وأقيم لعانه مقام الشهادة، فإنه تعالى استثناه عن الشهادة.
وأبو حنيفة يرى اللعان شهادة من وجه، حتى لا يصح من العبد، مع أن حقيقة الشهادة لا تعتبر، فإن الشهادة في الأصل تصديق الغير، والملاعن يصدق نفسه، فحيث لا تعتبر حقيقة الشهادة ومعناها، كيف تعتبر صفتها الزائدة على معناها، فإن الشرائط تابعة للحقيقة، وهذا لا مخلص منه.
وربما قال:
إن اللعان شهادة في هذا المعنى، ثم لم يوفر عليها مقتضاها، فإن شهادة الحر على الأمة الكافرة مقبولة، ثم لا يلاعن المسلم والحر زوجته الكافرة والأمة، وعند ذلك نرجع إلى أصل آخر فنقول: في اللعان معنى العقوبة، فاللعان شرع قائما مقام الحد، ولا حد على الرجل المسلم يقذف زوجة، الأمة والكافرة، ومن قبل كان يرى اللعان شهادة، والشهادة تمتنع من الرقيق تعظيما لرتبة الشهادة، فإذا جعلهما حدا، كان شرعها باعتبار تحقيق من يلاعن، فمن عد بزنا ممن يجمع بين المتناقضين فنقول: اللعان شهادة، فلا يصح ممن لا يدلي بمنصب الحرية، ثم يحط اللعان إلى رتبة الحد المشروع إهانة للحدود، ويقال سبحان الله، عد اللعان مخلصا وتخفيفا من الله تعالى، فكيف يعد إهانة، وقد شرع إكراما وإعظاما؟
فهذه المناقضات كيف يمكن تلفيقها، ثم يرى اللعان شهادة ويقول:
إنه إذا لاعن فلا حد عليها، فإن بمجرد قوله لا يمكن إثبات حد على المرأة، ثم يقول: إذا لاعن الزوج فقد حد، فإذا أكذب نفسه كيف
ومما قاله: إن اللعان حد، وإذا قذف الزوج وامتنع من اللعان لا يحد، بل يحبس حتى يلاعن، وإذا لاعن حبست المرأة، ولا حد عليها، فإنه لو لزمها الحد كان ذلك إيجاب الحد عليها بمجرد قوله، ثم قال:
واللعان حد، وقد وجب اللعان عليها بمجرد قوله، فسبحان الله، كيف تلفقت لهم هذه الخرافات والمتناقضات؟
ثم قال الله تعالى: (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ)، الآية/ ٨:
فجعل لعانها دارئا للعذاب عنها.
وعندهم أن اللعان حد، والحد يدرأ العذاب، وهي لا عذاب عليها، وهي لا تحبس لعين الحبس، وإنما تحبس للعان، فلعانها يدرأ لعانها على هذا التقدير.
فانظر كيف توالت غلطات الخصم في فهم معنى «١» هذه الآية. وقال:
لو أتى بمعظم كلمات اللعان، قام مقام الكل، وهو خلاف القرآن، وخلاف قياس الحد أيضا، فإنه لا يكتفي فيه بالأكثر، وإذا ثبت فساد نظر من يخالف، فنذكر ما رآه الشافعي، قال رحمه الله:
إن الله تعالى شرع اللعان، وعلمنا يقينا أن شرع اللعان رخصة لمكان الحاجة، فلما تأملنا الحاجة، قلنا يجوز أن يكون الأصل في تلك الحاجة هي والنسب الذي يتعرض للثبوت، ولا طريق إلى نفيه إلا باللعان، فكان اللعان موضوعا أصليا لهذا المعنى، وإنما جوز اللعان في النكاح، مع إمكان
وإذا ثبت ذلك وجب شرع اللعان دون النكاح لأجل الولد، حتى إذا طلق امرأته ثلاثا وادعت حملا، فللزوج أن يلاعن، وعلى هذا اللعان في النكاح والوطء بالشبهة، فإنه رضي الله عنه فهم أمرا آخر فقال: إذا قذف امرأته بأجنبي وسماه في اللعان، فلا حد عليه للأجنبي، فإنه صار مصدقا شرعا في تلك الواقعة، فصار ذلك شبهه في درء الحد عنه، فهذا نوع من القياس فهمه في موضع الرخصة لفهم خصوص الحاجة.
وأبو حنيفة، رأى أن اللعان حجة خاصة شرعت في النكاح، فلا يثبت إلا في النكاح، ولا شك أن الذي قاله إعراض عن المعنى الخاص المفهوم من وضع اللعان، على أنه ناقص من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قال: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) «١».
وقال: (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) «٢».
فحكم بطلاق النساء، ثم إنه صار إلى طلاق البائنة المختلفة من غير نكاح، مع أن الطلاق من خاصة النكاح، فهلا كان كذلك، بل هذا إلى ترجيح، وذلك أنه ليس في إيقاع الطلاق على المختلفة حاجة معقولة شرع الطلاق لأجلها في الأصل، بل الحاجة التي شرع الطلاق لأجلها معدومة في
(٢) سورة البقرة آية ٢٣١.
والوجه الآخر في الترجيح، هو أنا إذا شرعنا اللعان في حق المطلقة، لم يخصص ولم يناقض، وقلنا الولد بنفي اللعان دون النكاح مطلقا. وأبو حنيفة إذا أوقع الطلاق بعد البينونة، لم يمكنه إخراج الطلاق عن كونه متعلقا بالنكاح، فإنه لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد خلافا لأحمد، ولا بعد البينونة وانقضاء العدة، وإن بقيت له طلقتان عليها، واعتقد في ذلك أنا لو نفذنا الطلاق عليها، صار المحل ينقاد تصرفه فيه مبتذلا من غير ولاية له عليه، وذلك في غاية البعد، إذا لم يكن المحل بالتصرف متأثرا، ولا يزول بالتصرف عن المحل حكم وصفه، وإذا جوزوا تصرف الأجنبي موقوفا من حيث إن المحل لا يتأثر به، والطلاق إذا لم يكن له حكم ظاهر في المحل، فيجب أن يقع على الأجنبية، وإن هم زعموا أنه يفوت حل المحل، وذلك تأثيرا يظهر في المحل، فيقتضي هذا أن يكون حكم الطلاق الذي هو خاصية النكاح تفويت ما يستفاد بأصل الولادة، غير متعلق بالنكاح، وذلك جهل مفرط.. وعلى أن الذي ذكر من جواز الابتذال في مدة العدة، إنما يفعل إذا كان جنس العدة مقتضى ولانية، فأما إذا كان حكما شرعيا يثبت حيث لا نكاح كالنكاح الفاسد، فلا ينبغي أن يقع به الطلاق أصلا، وهذا كلام معترض غير متعلق بمقصودنا ولا محيص لهم عنه.
وناقضوا أيضا وقالوا: لو قذف امرأته وماتت بعد القذف بطلاق أو غيره، فلا حد عليه ولا لعان، وقالوا: لا ينتفي الحمل باللعان، مع أن الخبر إنما ورد في الحمل وحده.
جعله الشرع حجة وصدقه فيها، وجعل لها طريقا إلى مدافعة حجته فقال:
(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ)، فلا بد من إثبات عذاب، ولا يجوز أن يكون ذلك العذاب سجنا، فإن الحبس لا يراد لعينه، وإنما يراد لغيره، فلا بد أن يكون الحبس لطلب أمر وراء الحبس يحبس لأجله، ولا يجوز أن يكون الأمر هو اللعان، فإنها ربما كانت كاذبة في لعانها، فكيف يجوز إجبارها على اللعان، وقد قال كثير من العلماء:
إن العذاب في عرف الشرع عبارة عن الحد، سيما إذا عرف بالألف واللام، وذلك ينصرف إلى المعهود، وهذا لا بأس به، وإن كان يرد عليه بأن العذاب قد لا يختص بالحد، قال الله تعالى:
(إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «١» ولم يرد الحد.
وقال تعالى: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) «٢»، ولم يرد به الحد.
ويهون الجواب عن كل ذلك، وليس في التقصي عنه كبير فائدة، فإن الغرض يحصل دونه.
(٢) سورة النمل آية ٢١.
«المتلاعنان لا يجتمعان» «٢».
«ولو بقي النكاح إلى رقت التفريق فهما مجتمعان» «٣».
قوله تعالى: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً)، الآية/ ١٢.
أي بإخوانهم خيرا، وفيه دليل على أنه لا يحكم بالظن في مثل ذلك، وأن من عرف بطريقة الصلاح لا يعدل عن هذا الظن فيه الخبر محتمل.
قوله تعالى: (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ)، الآية/ ١٣:
دليل على أن الأربع حد في هذا الباب، لا يجوز أن ينقضي منه شيء.
ودليل على أن القاذف مكذب شرعا، إذا لم يأت بأربعة شهداء، فإن كان في أمر عائشة يقطع بتكذيبهم في الغيب، وقال علماؤنا: من صدق قذفه عائشة فهو كافر، لأنه راد لخير الله تعالى الدال على كذبهم.
وعلى هذا قال أصحابنا فيمن وجد رجلا مع امرأة فاعترفا بالنكاح، أنه لا يجب تكذيبهما، بل يجب تصديقهما.
(٢) أخرجه أبو داود في سننه.
(٣) أخرجه الامام البخاري في صحيحه.
وقال الشافعي قريبا من هذا فيمن وصى بطبل وله طبلان: طبل لهو، وطبل حرب، أنه يحمل على طبل الحرب تحسينا للظن بالمؤمنين، وحمل أمورهم على ما يجوز.
إلا أن أبا حنيفة كدر صفو هذا المعنى بإيجاب الحد على المشهود عليه بشهادة شهود الزوايا، بناء على بعد في إثبات الزنا،
وهذه الآيات إلى خاتمة الآيات في قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) :
تدل على وجوب حسن الإعتقاد في المؤمنين، ومحبة الخير والصلاح، والزجر عن إشهار الفاحشة واستنباطها بدقائق الحيل والحكم بالظن والحسبان.
وعلى قريب منه يدل قوله عليه الصلاة والسلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» «١».
وقال عليه الصلاة والسلام: «من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» «٢».
«ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتوا إليه».. رواه ابن عمر.
وعن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
(٢) أخرجه الامام أحمد وأبو داود، والطبراني في المعجم الكبير.
قوله تعال: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ)، الآية/ ٢٢.
نزلت هذه الآية في شأن أبي بكر، فإنه حلف أن لا ينفق على مسطح الذي تكلم في إفك عائشة «٢»، وذلك يدل على أن الأولى بالإنسان إذا حلف على أمر فرأى غيره خيرا منه، أن يحنث ولا يستمر على اليمين.
وفيه دليل على بطلان قول أبي حنيفة في أن الأيمان تحرم، وإن الكفارة وجبت لكون المحلوف عليه محرما بحكم يمينه، وهذا أمر ليس في هذا المعنى، وقد قال قوم: إذا حنث فلا كفارة، وكفارته أن يفعل ما هو خير، وهذا بعيد، فإن صحيح الخبر يخالفه، فإن عليه السلام قال:
«فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
قوله تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها)، الآية/ ٢٧.
نقل عن ابن عباس أنه قال: قوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) غلط من الكاتب.
ولا ينبغي أن يصح هذا عنه «٣»، فإن القرآن ثبت جميعه بحروفه
(٢) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري، وتفسير ابن كثير، والفخر الرازي وبقية كتب التفسير المعتمدة مثل الطبري، والدر المنثور للحافظ للسيوطي وقد توسع في شرح هذه الآية صاحب محاسن التأويل ج ١٢ ص ٤٤٧٠ ص ٤٤٨٢.
(٣) أي لا يصح أن يكون ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. [.....]
إذا ثبت ذلك، قال أبو أيوب الأنصاري، قلنا: يا رسول الله، عرفنا السلام في الاستئناس.
قال: يتكلم الرجل بتسبيح أو تكبير ويتنحنح، يؤذن به أهل البيت.
وفي قراءة ابن مسعود: حتى تستأذنوا.
وقال ابن عباس: تستأذن على أمك وعلى أختك، وكل من لا يجوز أن ترى منها عورة.
وما نرى الأمر في السلام يبلغ مبلغ الوجوب، إلا أن الاستئذان لا بد منه، وهذا الاستئذان ليس له حد عرفا، ولكن ورد في بعض الأخبار أن الاستئذان ثلاث، فإن أذنوا وإلا فارجع.
رواه أبو موسى وأبو سعيد عن رسول الله، وفيه قصة مع عمر ذكرناها في أصول الفقه.
قوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)، الآية/ ٢٨.
معناه أنه ليس يجوز أن يقول ليس فيها أحد يمنع، فالدخول مباح، بل الحظر أصل، إلى أن يرد الإذن، لأنه تصرف في ملك الغير.
وقوله: (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)، أي حتى تجدوا من يأذن لكم، وإن كان الآذن صبيا أو رسولا فيجوز الدخول.
قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، الآية/ ٣٠.
فلم يذكر تعالى ما يغض البصر منه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، أن المراد به المحرم غير المحل:
فالجواب أن ظاهره للمؤمنين، ولكن المراد به كل الناس، من حيث علم أن ما يحل من ذلك وما يحرم لا تختلف أحوالهم فيه، وغض البصر قد يجب على كل حال في أمور، وقد يجب في حال دون حال في غيرها، فما ثبت أنه عورة، فغض البصر عنه واجب، وما ليس بعورة، فيجب أيضا كذلك، إلا لغرض صحيح، فإنه يباح عند ذلك «١».
قوله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها).
الآية/ ٣١.
يعني إلا ما لا بد من النظر إليه، مثل ما يظهر من الثياب والدملج والخلخال والخاتم، والذي يتعلق بالمناظر، وما يباح منها وما لا يباح منها، يستقصى في كتب الفقه.
والمراد بما ملكت أيمانكم على المذهب الصحيح الأطفال. فأما الرجال فلا، إلا أن يكون محرما، والظاهر يقتضي خلاف ذلك، ولكن قياس الشرع يأبى مقتضى ذلك الظاهر.
وقيل المراد بقوله: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) الإماء. حتى لا يتوهم متوهم أنهن لسن من نسائهن في قوله تعالى: (أَوْ نِسائِهِنَّ) :
واختلفوا في قوله: (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ)، فقال قوم: هو العنين، وقال آخرون: هو الأبله، وقال آخرون: هو الأحمق الذي لا إرب له.
ظاهره الأمر من الله تعالى بالنكاح الأيامى «١».
واختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: المأمورون هم الأولياء، وهو مذهب الشافعي.
وفيه دليل على عدم استقلالهم.
ومنهم من قال: كل أحد إذا كان وليا أو مأذونا له.
والمقصود أنه إذا حصلت الرغبة منها وجب الإنكاح، وأنه لا يجوز العضل والمنع، وذلك يقتضي الاختصاص بالأولياء والحاكم، فإن هؤلاء الذين يجب عليهم التزويج دون الأجانب.
واستدل أصحاب الشافعي بما تعقبه من قوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ)، وأن ذلك لما دل على سبب ولايتها، فكذلك في حق غيرها، وهذا تلقي الظاهر من اقتران المسلمين ذكرا، وذلك يدل على تساويهما حكما من وجه آخر، وهو أن الإنكاح قد يجب في حق الأيم والبكر البالغة، إذا طلب، وليس يجب في حق العبد والأمة.
فليس قوله: (وَأَنْكِحُوا)، مما يمكن إجراؤه في الجميع على حد واحد، لأن منه ما يجب ومنه ما لا يجب، وهذا مما لا خفاء به، فاعلمه.
قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، الآية/ ٣٣.
أمرهم بالتعفف- عند تعذر النكاح- عما حرمه الله تعالى، وذلك على الوجوب.
وفيه دليل على بطلان نكاح المتعة، ودليل على تحريم الاستمناء «١».
قوله تعالى: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) :
روي عن عطاء أنه قال: ما أراه إلا واجبا، وهو قول عمرو بن دينار.
واعلم أن إيجاب ذلك لا محمل له إلا التوقيف، وإلا فإجبار المالك على إزالة ملكه لا وجه له، ولا يقتضيه أصل الشرع وقياسه، لأن الكتابة بعيدة عن قياس الأصول، وتقتضي الأصول بطلانها، فيشبه أن يكون قوله:
(فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً)، رخصة في الكتابة رفعا للحرج المتوهم، مثل قوله تعالى:
(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) «٢».
ومثل قوله: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) «٣».
وكل ذلك رفع للحرج.
وكذلك، إذا قلنا الأصل امتناع الكتابة، إلا أن الشرع أرخص فيها وجوزها بطريق الرخصة، فمطلق الأمر فيه لا يظهر منه الوجوب.
(٢) سورة المائدة آية ٢.
(٣) سورة الجمعة آية ١٠.
والذي يخالف في ذلك وينصر مذهب عطاء يقول: إنما احتمل الشرع مخالفة قياس القواعد ابتغاء تحصيل العتق الذي هو حق الله تعالى «١»، والمقصود به تفريغ العبد بحريته لطاعة الله تعالى، بعد أن كان كثيرا من أوقاته لغير حق الله عز وجل.
وإذا ثبت أن الأمر كذلك، فقد وضع الله تعالى ذريعة لتحصيل هذه المكرمة شرعا بلفظ الوجوب.
فمخالفة قياس الأصول كانت لتعظيم أمر الحرية، فمن أين مبعث الوجوب؟
نعم في قوله تعالى: (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)، و (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا). كل ذلك لغرض غير غرض الشهادة وغير مقصود الشرع، وهاهنا هذا فيه تحصيل الحرية، فاحتمل فيه ما احتمل من مخالفة قياس الأصول لهذا المعنى، حتى جعل له في الزكاة قسط، ولم يجعل ذلك إلا ليتوصل به إلى الحرية، وأوجب كثير من العلماء فيه التأجيل إرفاقا بالعبد، فكان هذا الإرفاق مقصود الشرع بلفظ الأمر الدال على الوجوب، فما الذي منع من وجوبه؟
يبقى أن يقال: ولو كان واجبا لما توقف على ابتغاء العبد.
قالوا: إذا لم يتمكن العبد، فإجباره على الإضرار بنفسه لا وجه له، وإن كان العبد قادرا على الاكتساب، فلا شك في أنه لا يقصر في حق نفسه في سعي الكتابة، فبنى الشرع على الغالب، ونظيره أن الشرع أوجب الطهارة
وهذا الذي ذكروه لا وجه له، فإن الترغيب فيه ليزيل عن القلوب ما فيها من منافاة قياس الأصول، ولو وجبت الكتابة لوجبت لمقصودها، وهو العتق، كالطهارة لما وجبت وجبت للصلاة، والعتق لا يجب بالإجماع.
ولا يتحتم بالاتفاق.
وقولهم إنها أوجبت ذريعة فضرب من الهذيان. فإن السيد قادر على استكساب العبد دون الكتابة، فليس يتجدد له بالكتابة حق «١».
وفيه إزالة ملكه من غير أن يحصل على مقابل له، فهذا تمام ما يستدل به على نفس الوجوب.
ثم قال تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ)، الآية/ ٣٣.
قال الشافعي: ثم أمر من يكاتب بالإيتاء، ولا يتصور هذا الإيتاء إلا من جهة حط شيء، ولا يمكن حمله على الزكاة، فإن السيد لا يجب عليه أن يفرق الزكاة إلى عبده إجماعا.
ولا شك أن ظاهر اللفظ لا يقتضي الحط، لأنه ليس بإيتاء للمال، وإنما يدل عليه من حيث المعنى، لأن قوله: (مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ).
لا بد أن يحمل على ملك تجدد بعد الكتابة، وصار مالا مستحقا للسيد، فمن هذا الوجه حسن إطلاق هذا اللفظ عليه.
ومما ذكر أن إطلاق مال الله تعالى لا يقتضي إلا الزكاة، ومال الله تعالى في عرف الشرع لا يفهم منه إلا الزكاة، وما عداه لا يضاف إلى الله تعالى بحكم الإطلاق، وقد قسم الله تعالى الحقوق إلى ما يضاف إلى الله عز وجل، وإلى ما يضاف إلى الآدمي، وإن كان الكل حقا لله تعالى.
والجواب أن هذا لما وجب بحق الله تعالى، ولغرض الحرية، حسن أن يقال: مال الله تعالى، لأنه قصد به وجه الله عز وجل وتحصيل ثوابه.
وربما قالوا: إن السيد لا يستحق على المكاتب مالا، حتى يصح أن يقال في الحط، إنه مال آتاه السيد، إنما كان مستحقا له، فأما ما ليس مستحقا له فلا يقال فيه توهم ما يملكه ويستحقه، فإذا لم يكن دين المكاتب مستحقا عليه، فمن أي وجه يوصف السيد بأنه آتاه مالا، وما آتاه شيئا ملكه، ولا شيئا استحقه.
ويجاب عنه بأنه يجوز أن يطلق ذلك، إذا كان المال ينساق إليه، فكأنه آتاه ماله من حيث إنه ينساق إليه وبالجملة، قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ)، مجاز في الحط من وجوه بينة وحقيقة في الزكاة، وقوله: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ)، حقيقة أنه خطاب للسادة الذين يكاتبون، مع أنه يجوز أن يحمل على وجه آخر بطريق المجاز، فلم يسلم كل واحد من المحملين على مجاز، فإن كان كذلك، فلا يظهر مذهب الشافعي من حيث التعلق بالظاهر، ويتجه للشافعي أن يقول: إيتاء المكاتب
وبالجملة، ما صار مستحق الإسقاط فحكمه أن يسقط، ولا نعرف في مسائل الشرع مسألة أعوص على أصحاب الشافعي من مسألة الإيتاء، ولا معتمد لهم فيها إلا آثار الصحابة، وهي معتمدة قوية ذكرناها في كتاب المصنف في الروايات «٢».
واعلم أن الكتابة من الأسماء الشرعية، فإنها على الوجه الذي ثبت في الشريعة لم تكن معلومة، فحل ذلك محل الصلاة والصيام.
ثم اختلفوا بعد ذلك، فمنهم من قال: يعقل من ظاهرها التأجيل: إذا لم يكن شرطا فيها لم تكن كتابة.
وقال بعضهم: بل لا يعقل ذلك من الظاهر، وهذا أظهر، فإن الشيء قد يكتب ولا تأجيل فيه، كما قد يكتب وهناك تأجيل، فالظاهر لا يدل على ذلك، وقول من يقول إنها تجوز حالة، وقول من يقول لا تجوز إلا مؤجلة أو منجمة موقوف على الدليل، لأن الظاهر لا يشهد بأحد هذه الوجوه.
(٢) وكتاب المصنف في الروايات، هو من الكتب الهامة جدا في فن الفقه والحديث قام بتأليفه مصنف هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن.
وقال بعضهم: بل لا بد أن يقول: فإذا أديته إلي فأنت حر، ليجمع بين العقد وبين تعليق الحرية بالصفة، لأن عنده أن العقد بينه وبين السيد لا يصح، فتحريره له تعلق بصفة تصح، فلا بد من ضم ذلك إليه.
ولم يختلفوا في أن ذلك رخصة، لأنا لو خلينا العقل، لكان يبطل، لأنه أزال ملكه بملكه، إذ الذي تحصل في يده ملك للمولى، لكنه بعقد الكتابة جعل لما يحتوي عليه حكم مخصوص، لم يبلغ حد الملك، ولا وقف على الحد الذي كان وهو رقيق خالص.
وأحكام الكتابة مبينة في مسائل الفقه.
قوله تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)، الآية/ ٣٣.
روي عن جابر في سبب نزول الآية، أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له جارية يكرهها على الزنا «١».
والعبرة بمطلق اللفظ، فتدل الآية بمطلقها على تحريم الإكراه على الزنا، وعلى تحريم أخذ البدل، وهو المراد بنهيه صلّى الله عليه وسلّم عن مهر البغي، وتدل على أن الإكراه يصح في الزنا فيما يحصنها، لأنه مفعول فيها، فعلى كل الأقاويل يجوز أن تكره عليه، ويدل على أنها إذا أكرهت فلا إثم عليها، فإن الله تعالى قال: (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، الآية/ ٣٣.
فجوابها أن يقول:
لما كان لولا الإكراه لكان عليها إثم في ذلك، زال الإثم لمكان الإكراه، وبين أن دخول الإكراه فيه هو الذي أزال عقابه، ولذلك ألحقه بباب ما يغفر، وهذا كما قال الله سبحانه في تناول الميتة بلا إثم للمضطر: (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) :
إنما ذكر تصوير الإكراه، لأن الإكراه لا يتصور إلا مع بذلها نفسها، فذكر إرادة التحصن تصوير الإكراه.
قوله تعالى: (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)، الآية/ ٤٨.
فيه دليل على أن من ادعى على غيره حقا ودعاه إلى الحاكم، وجبت عليه إجابته والمسير معه إليه، وعلى الحاكم أن يعد به عليه.
قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ)، الآية/ ٥٨.
قال المفسرون: هذا في الإماء، فأما في العبيد فلا، لأنه ذكر بلفظ مذكر، بناء على لفظ المماليك المتناول للرجال والنساء، ولو حملناه على العبد البالغ، استوى في وجوب الاستئذان هذه الأوقات وغيرها، من حيث يحرم عليه أن ينظر إلى عورة سيده وبدن سيدته، ولو حمل على ما دون البلوغ، حصلت فائدته في قوله: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ)، إلا أنه يقال بين اتفاق حال الفريقين في ذلك، ودل على صحة ذلك بقوله:
ذكر إسماعيل بن إسحاق أن ابن عباس كان يقول: «ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم»، وذلك يوافق ما قلناه.
وروى أن نفرا سألوا ابن عباس عن هذه الآية فقال: إن الله غفور رحيم، رفيق بالمؤمنين، يحب السترة، وكان الناس لا سترة لبيوتهم، فربما دخل الخادم «١» أو اليتيمة، والرجل مع أهله في الخلوة، فأمرهم الله تعالى بالاستئذان في تلك العورات.
وإنما خص الله تعالى هذه الأوقات، لأنها في الغالب يخلو فيها المرء بأهله. ولذلك قال: (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ)، فنبه به على أنها أوقات تكشف العورة فيها وفي مثلها، لا يجوز لمن ليس ببالغ أن يدخل ويهجم.
فأما في سائر الأوقات، فالعادة أن يكون المرء مستترا عادلا عن التكشف، فجائز للخدم والصغار أن يدخلوا بلا إذن، لأنه كالمحتاج إليهم من حيث لا يستغني عنهم في خدمة الدار، ولذلك وصفهم الله تعالى بأنهم:
(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ)، كما قال عليه السلام في الهرة: «إنها من الطوافين عليكم» لما صعب التحرز منها «٢».
ولو جرت عادة قوم بالتكشف في غيرها من الأوقات، فذلك الوقت كهذه الأوقات في منع من لم يبلغ الحلم من الدخول بلا إذن، ولو جرت عادة قوم في الأوقات الثلاثة بالتستر، فالأوقات الثلاثة كغيرها.
(٢) أنظر أحكام القرآن للجصاص- سورة النور.
وعنى به الكبيرة السن، وجوز لها أن تضع الرداء أو اللحاف أو الخمار، قال ابن عباس:
المراد به الجلباب من فوق الخمار «١»، ومعلوم أنه غير مجوز لها أن تكشف من بدنها عورة، لأنه إن كان حالة الخلوة بنفسها، فالعجوز والشابة سواء، وإن كان بين الناس، فالواجب حمله على الجلباب وما فوق الخمار لا نفس الخمار، لأن من شأن الجلباب أن يبلغ مع الستر النهاية، ومع الخمار قد ينكشف من رؤوسهن وأعناقهن بعض التكشف، فأبان الله تعالى أن هذا التحرز ليس وجوبه عليهن كوجوبه على الشابات، لأنه ليس في النظر إليهن من خوف الافتتان كما في النظر إلى الشابة، فلذلك قال في آخره: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ).
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ)، الآية/ ٦١.
روى إسماعيل بن إسحاق عن سعيد بن المسيب، أن هذه الآية نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضعوا مفاتيحهم مع الأعمى والأعرج وعند الأقارب، وكانوا يأمرونهم بأن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون الأكل خشية أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية «٢».
(٢) أنظر تفسير الطبري لسورة النور، وأسباب النزول للواحدي النيسابوري وتفسير الفخر الرازي. [.....]
وذكر الحسن أن المراد به رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في باب الجهاد، وأن قوله: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)، الآية/ ٦١. كلام مستأنف، فقد كان أحدهم لا يحلب ناقة إلا أن يجد من يشرب من لبنها، ولا يأكل في بيت أحد تكرما، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهو الذي اختاره الأكثرون، ويحمل قوله:
(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) على أن ذلك كان رخصة في الأول، وأباح تعالى الأكل من مال من ذكره، وأباح أن يأكلوا من البيوت التي مفاتيحها في أيديهم، وبيوت أصدقائهم دون إذن، حضروا أم غابوا، ثم نسخ ذلك بما ظهر في الشرع، من أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه، ودل على ذلك بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) «١»، وقد كان في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام من كان لهن الآباء والإخوان، فلما عم بالنهي علم به النسخ.
فإن قيل: فما الذي يليق بالظاهر؟ فجوابنا أنه يبعد أن يكون المراد به: ليس على الأعمى حرج، إلا ما يتصل بالأداء، لأنه رفع الحرج والجناح عنه، ثم إنه ذكر بعد ذلك أمرا مخصوصا، فوجب حمله على ذلك الأمر، فأما قوله تعالى: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)،
فإذا قيل: فإن كان كذلك، فلم إذا خصصهم بالذكر، وعند الإذن وطيب النفس الكل سواء؟
فالجواب أنهم خصوا بالذكر، لأنهم كانوا يتقدمون عند السفر والغزوات إلى أقربائهم، وإلى من خلفوهم من الزمنى والعرجي والعميان، أن يأكلوا من منازلهم، فنزلت الآية على هذا السبب. فلذلك خصوا بالذكر.. فأما حمله على أن ذلك يحل بلا إذن فبعيد.
ودل بقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) على أمور:
منها أنه يحل للجماعة أن يجتمعوا على طعامها، وإن كان أكلها من ذلك الطعام يتفاضل، وقد كان يجوز أن يظن أن ذلك محرم، من حيث إنهم لا يستوون في قدر ما ظهر من الطعام، ثم يتفاضلون في الأكل، فأباح الله تعالى ذلك.
ومنها: أن مؤاكلة من يقصر أكله عن أكل الباقين، لأن الأعمى إذا لم يبصر، فلا يمكنه أن يأكل أكل البصير، فأباح الله تعالى ذلك، وأباح انفراد المرء عن الجماعة في الأكل، ويجوز أن يظن ذلك مستقبحا في الشرع كما يستقبحه أهل المروءة.
قوله تعالى: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ)، الآية/ ٦١.
وذكر إسماعيل بن إسحاق عن جماعة، أن المراد به أن يسلم المرء على نفسه إذا لم يكن هناك غيره يسلم عليهم، ومن السنة أن يقول:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وهذا أليق بالظاهر.
ولا خلاف في أنه لو كان في الدار غيره، صرف السلام إليه، وليس في الظاهر تخصيص، وذلك يقوي قول الحسن.
وفيه وجه آخر: وهو أن السلام بالشرع صار كالمخاطبة.
وقال الفقهاء في تسليم الرجل في الصلاة: أنه يجب أن ينوي من خلفه إن كان إماما أو ينوي الملائكة أو الحفظة، ومعلوم أن المرء قبل دخول البيت هو مندوب إلى أن يسلم على نفسه فيقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لأنه كالدعاء، مما يجرى فيه الخطاب.
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ- إلى قوله- وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)، الآية/ ٦٢.
يدل على أن من الايمان أن يستأذنوا الرسول في الانصراف عنه في كل أمر يجتمعون معه فيه، وقد روى مجاهد، أن المراد به الجمعة والغزو.
وقال الحسن: الجمعة والأعياد وكل ما فيه خطبة.
ثم خير الله تعالى رسوله في اختيار من يغزو معه، وبين أن الذي ينعته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس له أن يتخلف ويحيل على غيره.
والذي يشهد به الظاهر، أن كل أمر جامع للرسول عليه السلام فيه غرض، فليس لهم أن ينصرفوا عنه ما دام الغرض قائما، ويدخل فيه
(لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ)، على أنه لا يجوز لهم أن يستأذنوا، إلا إذا عرضت لهم حاجة تقتضي ذلك، لأنه إذا لم يكن لهم حاجة، فملازمة الرسول أولى.
وفيه دلالة على ما يلزم من أدب الدين، وأدب النفس، فمن هذا الوجه قال الحسن:
لا فرق بين الرسول والإمام فيما يلزمهم من ذلك، ولا يمنع من حيث تضمن هذا الظاهر أدب النفس أن يكون الأولى بالمراد:
إذا اجتمع جمع لخير أن لا يتفرق عنهم إلا بإذن، لما في تفرقته من اختلال ذلك الأمر المطلوب، والاجتماع عليه أقرب إلى التعاون على التقوى..
وقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ)، يدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحل له أن يستغفر إلا لمن تكامل إيمانه، لأنه شرط فيه تقدم فيما ذكرناه.
ويحتمل أن يراد به أن من أذن له في مفارقة الجهاد لبعض شأنه، يكون في الظاهر مقصرا أو متأخرا في الفضل عن غيره، فأمر الله تعالى نبيه أن يستغفر لهم، ليكون استغفاره جبرا لهذا النقص، فلا ينكسر عند ذلك قلب هذا المتأخر عن الجمع.
قوله تعالى: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)، الآية/ ٦٣.
فالمروي عن ابن عباس أنهم كانوا يقولون:
قولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، وهو المروي عن عكرمة والضحاك، وحمله مجاهد على خفض الصوت والتواضع، وهو معنى قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ) «١»...
قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)، الآية/ ٦٣:
أراد به ذكر ما تقدم من تسللهم، وذلك يدل على وجوب امتثال مطلق أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما بيناه في أصول الفقه «٢».
(٢) أنظر تفسير الفخر الرازي، والدر المنثور للسيوطي، وابن كثير، والقرطبي.