تفسير سورة النّمل

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة النمل من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة١ النمل وهي مكية
١ - من م، أدرج في الأصل قبلها: ذكران..

سُورَةُ النَّمْلِ
وهي مَكِّيَّة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طس): قد ذكرنا فيما تقدم تأويل الحروف المعجمة وأقاويل الناس فيها؛ وكذلك الآيات قد ذكرناها.
وقوله: (وَكِتَابٍ مُبِينٍ): يحتمل قوله: (مُبِينٍ) أي: بين واضح؛ لأن (أبان) قد يستعمل في موضع (بان)، يقال: بانَ وأبان.
ويحتمل: (وَكِتَابٍ مُبِينٍ) أي: يبين أنه رسول من اللَّه، أو يبين ما لله عليهم، أو ما لبعضهم على بعض، أو ما لهم وما عليهم.
وقوله: (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
قوله: (هُدًى) يحتمل وجهين:
أحدهما: دعاء؛ كقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) أي: داع يدعو الخلق إلى توحيد الله تعالى؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: (هُدًى) أي: دعاء، يدعوهم إلى توحيد اللَّه تعالى، فإن كان هذا فهو للناس كافة.
والثاني: جائز أن يريد بالهدى: الهدى الذي هو نقيض الضلال وضده، فهو للمؤمنين خاصة، وإن كان أراد به البيان والدعاء فهو للكل.
وقوله: (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: يدعوهم إلى الإيمان باللَّه وبرسوله، فإذا آمنوا كان لهم بشرى.
ثم نعت المؤمنين ووصفهم فقال: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ... (٣) يحتمل قوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) أي: يقرون بهما ويؤمنون؛ لأن من الناس من كان يؤمن بالله وبرسوله، لكنهم أبوا الإيمان بالصلاة والزكاة؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ). لا يحتمل أن يأمرهم بحبسهم إلى أن تمضي السنة فتجب الزكاة عليهم فيؤتون، فحينئذ يخلون سبيلهم، ولكن الأمر بحبسهم إلى أن يقروا بها ويؤمنوا، فيخلون عند ذلك سبيلهم.
95
سُورَةُ الْقَصَصِ
وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢): قد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع مما يغني عن ذكره في هذا الموضع.
وقوله: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) (مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) أي: من خبرهما.
وقوله؛ (بِالْحَقِّ) أي: بالصدق ما يعلم أنه صدق وحق.
وجائز أن يكون قوله: (بِالْحَقِّ) أي بالحق الذي لموسى على فرعون وقومه.
أو بالحق الذي لله عليه، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يحتمل وجهين:
أحدهما: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بالأنباء وما فيها، وأما من لا يؤمن فلا ينتفع بها فلا يكون.
والثاني: لقوم يؤمنون بالأنباء والكتب المتقدمة، هم يعرفون أنه حق لما في كتبهم ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: تجبّر واستكبر وأبي أن يصغى لموسى ولأمثاله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: بغى وقهر؛ فيكون تفسيره ما ذكر على أثره (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)، هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن يكون علوه وبغيه في الأرض.
ويشبه أن يكون قوله: (عَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: علا قدره وارتفع رتبته في الأرض لما
146
[ الآية ٢ ] وقوله تعالى :﴿ هدى وبشرى للمؤمنين ﴾ قوله :﴿ هدى ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : دعاء كقوله :﴿ ولكل قوم هاد ﴾ [ الرعد : ٧ ] أي داع، يدعو الخلق إلى توحيد الله تعالى.
فعلى ذلك يحتمل قوله :﴿ هدى ﴾ أي دعاء يدعوهم إلى توحيد الله تعالى. فإن كان هذا فهو للناس كافة.
والثاني : جائز أن يريد بالهدى الهدى الذي هو نقيض الضلال وضده، فهو للمؤمنين خاصة، وإن كان أراد به البيان والدعاء فهو للكل.
وقوله تعالى :﴿ هدى وبشرى للمؤمنين ﴾ أي يدعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله. فإذا آمنوا به كان لهم بشرى.
[ الآية ٣ ] ثم نعت المؤمنين، ووصفهم، فقال :﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾ يحتمل قوله :﴿ يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾ أي يقرون بها، ويؤمنون، لأن من الناس من كان يؤمن بالله وبرسوله، لكنهم أبوا الإيمان بالصلاة والزكاة كقوله :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ﴾ [ التوبة : ٥ ].
لا يحتمل أن يأمرهم بحبسهم على أن تمضي السنة، فتجب الزكاة عليهم، فيؤتوا١. فحينئذ يخلون سبيلهم، ولكن الأمر بحبسهم على أن يقروا بها، ويؤمنوا، فيخلون عند ذلك سبيلهم. وكذلك قوله :﴿ الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ [ فصلت : ٧ ]/ ٣٨٧- ب/ لا يقبلونها، ولا يقرونها، ليس على فعل الإيتاء.
فعلى ذلك الأول، يحتمل هذا، والثاني، يحتمل الأمرين جميعا : القبول والإقرار بها والإيتاء جميعا، أي قبلوها، وأقروا بها، وأعطوها. فحينئذ يستوجبون هذه البشارة التي ذكرت.
وقوله تعالى :﴿ وهم بالآخرة هم يوقنون ﴾ الإيقان بالشيء، هو العمل به من جهة الاستدلال والاجتهاد والأسباب التي يستفاد بها للعلم بالأشياء، لا العلم الذاتي. لذلك لا يوصف الله على الإيقان بالشيء، ولا يقال : يا موقن لأنه عالم بذاته لا بالأسباب، وبالله التوفيق.
١ - في الأصل وم: فيؤتون..
وكذلك قوله: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، لا يقبلونها ولا يقرون بها ليس على فعل الإيتاء، فعلى ذلك الأول يحتمل هذا.
والثاني: يحتمل الأمرين جميعًا: القبول والإقرار بها والإيتاء جميعًا، أي: إذا قبلوها وأقروا بها وأعطوها - فحينئذ يستوجبون هذه البشارة التي ذكرت.
وقوله: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ): الإيقان بالشيء: هو العمل به من جهة الاستدلال والاجتهاد، والأسباب التي يستفاد بها العلم بالأشياء لا العلم الذاتي؛ ولذلك لا يوصف اللَّه على الإيقان بالشيء ولا يقال: يا موقن؛ لأنه عالم بذاته لا بالأسباب، وبالله التوفيق.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) الأعمال التي هم فيها بما ركب فيهم من الشهوات والأماني.
ويحتمل (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) الأعمال التي هي عليهم، أي: زين لهم الخيرات والطاعات، لكنهم أبوا أن يأتوا بها؛ فالمعتزلة قالوا بهذا التأويل، وأبوا أن يقولوا بالأول أن يكون من اللَّه تزيين ما هم فيه من الشرك والكفر وأنواع أفعال الكفر؛ إذ أضاف تزيين ذلك إلى الشيطان حيث قال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)، وقال: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)، ونحو ذلك من الآيات، فقالوا: أضاف إلى الشيطان، ولا يجوز أن يضاف إلى اللَّه ذلك بعينه؛ فدل أن اللَّه إنما زين لهم أعمالهم التي عليهم من الإيمان والخيرات، لا الأعمال التي هم فيها.
لكن عندنا يجوز إضافة تزيين أعمالهم التي هم فيها إلى اللَّه من جهة ما ركب فيهم من الشهوات والأماني التي توافق طباعهم وأنفسهم؛ لأن التزيين يقع بنفس الكفر وأفعاله؛ إذ الكفر نفسه ليس بمزين ولا مستحسن، إنما هو شتم رب العالمين، ولكن تزيينه واستحسانه هو موافقة ما يعمل من الأعمال طباعه والجهة التي تضاف إلى اللَّه؛ إذ الجهة التي تضاف إلى الشيطان هو دعاؤه وتمنيه إلى ما يوافق طباعهم؛ فمن هذه الجهة يجوز إضافته إلى الشيطان، والجهة التي تضاف إلى اللَّه هو ما ركب فيهم من الشهوات والأماني وجعل الطباع موافقة لها، وإلا الصدق وجميع الخيريات إنما يكون مزينًا مستحسنًا في العقل للعاقبة، والكفر وجميع المعاصي مستقبح في العقل للعاقبة إذا حمد أحدهما وأثيب على فعله، وذم الآخر وعوقب لسوء اختياره.
أو أن يكون إضافة ذلك إلى اللَّه لما خلق أفعالهم وأعمالهم التي عملوها، وأخرجها من العدم إلى الوجود، وهي من هذه الجهة فعله، وهو يرد قولهم في إبائهم خلق أفعال العباد.
وقوله: (فَهُم يَعْمَهُونَ): قيل: يترددون، وأصل العمه: الحيرة، أي: يتحترون.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) أي: لهم ما يسوءهم من العذاب في الآخرة؛ لاختيارهم سوء الأفعال في الدنيا.
(وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ): الأخسرون والخاسرون واحد.
وجائز أن يقال: (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) للقادة منهم والرؤساء؛ لأنهم ضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم هم أخسر من الأتباع؛ كقوله؛ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وقوله: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لتلقى القرآن من اللَّه على يدي رسوله وهو جبريل.
والثاني: جائز أن يكون حكيم عليم هو جبريل نفسه، أي: إنك لتلقى القرآن من لدن جبريل، وهو حكيم يضع الوحي والقرآن حيث أمر بوضعه فيه؛ إذ الحكيم: هو المصيب في فعله الواضع للشيء موضعه، وعليم بما أمر به وأرسل وهو كذلك كان؛ إذ يجوز أن يقال للمخلوق: حكيم عليم؛ ألا ترى إلى قول يوسف: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)؛ فعلى ذلك هذا جائز، والأول أشبه.
أي: إنك لتأخذ القرآن من لدن حكيم عليم على يدي رسوله جبريل، فما يأخذ من رسوله كأنه يأخذ من عند مرسله؛ إذ الرسول إنما يؤدي كلام مرسله.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) يقال: تلقيته: أخذته،
وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَتُلَقَّى) أي: لتأخذه.
وقال مُحَمَّد بن إسحاق: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي: لتؤتى بالقرآن؛ كقوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي: وما يؤتيها، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
وقوله: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا): قيل: رأيت وأبصرت.
97
ادعى لنفسه الألوهية والربوبية، بعد ما كان عبدا كسائر العباد أو دونهم، فعلا قدره وارتفعت منزلته بدعواه بذلك، وعلا في الأرض، أي: غلب.
وقوله: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) هو قيل: فرقا: يستضعف طائفة، ويذبح طائفة، ويستحيي طائفة، ويعذب طائفة.
وجائز أن يكون قوله: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) أي: جعل لكل طائفة منهم عبادة صنمٍ لم يجعل ذلك لطائفة أخرى، وجعل طائفة أخرى على عمل أُولَئِكَ وحوائجهم؛ ليتفرغوا لعبادة الأصنام التي استعبدهم لها؛ لأن الشيع فرق يرجعون جميعًا إلى أصل واحد وإِلَى أمر واحد.
وقوله: (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ): كذلك كان، لعنه اللَّه.
وقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥) هذا في الظاهر إخبار لرسوله أنه سيفعل ذلك، لا أنه من عليهم وفعل ذلك؛ لأنه يقول: نريد أن نمن على الذين كذا، وقد من عليهم بذلك فهلا قال: وقد مننا على الذين استضعفوا في الأرض؛ لكن معناه - واللَّه أعلم - أي: كنا نريد في الأزل أن نمن عليهم، وأن نجعلهم أئمة، وأن نجعلهم الوارثين، وإلا الظاهر ما ذكرنا.
وقوله: (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) يحتمل وجهين:
أحدهما: جعلهم جميعًا أئمة لنا، بهم نقتدي وننقاد لهم، أو أن يكون قوله: قوله تعالى: (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي: نجعل فيهم أئمة وقادة لهم، أي: نجعل بعضهم أئمة لبعض؛ كقوله لموسى: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ)، والأئمة المذكورة هاهنا كأنهم هم الأنبياء الذين ذكروا في هذه الآية.
(وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥). وَنُمكِّنَ لَهُم فِي آلْازضِ): هذا كما ذكر في آية أخرى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) الآية، أي: يرثون الأرض وملكهم بعد فرعون وقومه.
والوارث: هو الباقي على ما ذكرنا؛ كأنه قال: يبقون هم في أرضهم وملكهم بعد هلاكهم؛ كقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، أي: نبقى نحن بعد هلاك الأرض وهلاك من عليها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦) أي: يرون ما كانوا
147
يحذرون منه، وهو الهلاك وذهاب الملك، هذا كانوا يحذرون فأراهم ذلك؛ لأنه كان يذبح أبناءهم إشفاقًا على بقاء ملكه ويحذر ذهابه.
قال الزجاج: إن من حماقة فرعون وقلة عقله أنه كان يذبح أبناءهم لقول الكهنة: إنه يذهب ملكه بغلام يولد في العام الذي قالوه، فلا يخلو إما أن صدقوا في قولهم فيذهب ملكه وإن قتل الأبناء، وإما أن كذبوا في قولهم فلا معنى لقتل الأبناء؛ لأنه لا يذهب لكنه فعل ذلك بهم لحماقته وسفهه وجهله بنفسه.
وقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ): بالنجاة من فرعون وآله، واستنقاذه إياهم من يديه، ومن قتل الولدان وغير ذلك من أنواع التعذيب، والله أعلم.
وفي قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ...) إلى آخر ما ذكر - وجوه على المعتزلة في قولهم: إن ليس لله أن يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، وأنه لو لم يفعل ذلك كان ذلك جائزا.
فيقال لهم: لو كان عليه فعل الأصلح لهم في دينهم على كل حال لكان لا معنى لذكر المنة على الذين استضعفوا في الأرض في جعلهم أئمة وإبقائهم في أرضهم وتمكينه إياهم في ملكهم ووراثتهم أموالهم؛ لأنه على زعمهم فعل بهم ما عليه أن يفعل؛ لأن ذاك أصلح لهم في الدِّين، وكل من فعل فعلا عليه ذلك الفعل؛ لا يكون له الامتنان على المفعول به ذلك، فدل ذكر المنة فيما ذكر أنه فعل بهم على أنه فعل ما لم يكن عليه ذلك، ولكنه فعل ذلك متفضلا ممتنا، وله ألا يفعل ذلك.
ويقولون -أيضًا-: إن إهلاك فرعون وقومه أصلح لهم من إبقائهم؛ وكذلك إماتة كل كافر فلم يذكر فيه المنة، دل ذلك أنه ليس على ما يقولون هم، وأن ذلك منقوض مردود عليهم.
ويقولون -أيضًا-: إن الإرادة من اللَّه لهم أمر لهم يأمرهم به، فلو كان أمرا على ما يزعمون لكان الأمر منه قد شمل الكل، ثم لم يصيروا جميعًا أئمة وقادة، ولكن إنما صار بعض دون بعض؛ دل أن الإرادة غير الأمر، وأنه إذا أراد لأحد شيئًا كان ما أراد، ليس على ما يقولون: إنه أراد إيمان كل كافر، لكنه لم يؤمن بعدما أعطاه جميع ما عنده من القوة والعون على ذلك، حتى لم يبق عنده شيء من ذلك إلا وقد أعطاه؛ فدل ما ذكر على فساد مذهبهم.
148
[ الآية ٦ ] وقوله تعالى :﴿ وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ﴾ هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : لتلقى القرآن من الله [ والثاني ]١ على يدي رسوله، وهو جبريل، وهو حكيم، يضع الوحي والقرآن حيث أمر بوضعه فيه ؛ إذ الحكيم، هو المصيب في فعله، الواضع الشيء موضعه وعليم بما أمر به، وأرسل. وهو كذلك كان ؛ إذ يجوز أن يقال لمخلوق : حكيم عليم. ألا ترى إلى [ قول يوسف ]٢ :﴿ إني حفيظ عليم ﴾ ؟ [ يوسف : ٥٥ ].
فعلى ذلك هذا جائز، والأول أشبه، أي إنك لتأخذ ﴿ من لدن حكيم عليم ﴾ على [ يدي ]٣ رسوله جبريل. فما يأخذ من رسوله كأنه يأخذه من عند مرسله ؛ إذ الرسول إنما يؤدي كلام مرسله.
وقال أبو عوسجة :﴿ وإنك لتلقى القرآن ﴾ يقال : تلقيته أخذته. وكذلك قال القتبي ﴿ لتلقى ﴾ أي لتأخذه. وقال أبو عوسجة :﴿ وإنك لتلقى القرآن ﴾ أي لتؤتى بالقرآن كقوله :﴿ وما يلقاها إلا الذين صبروا ﴾ [ فصلت : ٣٥ ] أي ما يؤتاها، والله أعلم.
١ - ساقطة من الأصل وم..
٢ - في الأصل وم: قوله..
٣ - ساقطة من الأصل وم..
قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)
وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ): قال عامة أهل التأويل: إن الوحي هاهنا وحي الإلهام والقذف في القلب، لا وحي إرسال صارت رسولة، وذلك لا يجوز.
لكن يقال: جائز أن تلهم هي إرضاعه وإلقاءه في اليم، فأمَّا أن تلهم ما ذكر: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) هذا مما لا سبيل إلى معرفة ذلك وعلمه إلا بتصريح قول ومشافهة آخر، اللهم إلا أن يقال: إنه كان بموسى آيات الرسالة وأعلام به؛ لما عرفت هي بتلك الأعلام والآيات التي كانت له أنه يرد إليها، وأنه يبقى رسولا إلى وقت، وقد كانت بالرسل أعلام وآيات الرسالة في حال صغرهم وصباهم؛ نحو عيسى حيث كلم قومه في المهد: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ...)، إلى آخر ما ذكر وأن محمدا لما ولد بالليل استنارت تلك الناحية واستضاءت بنوره حتى ظنوا أن الشمس قد طلعت ونحوه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون بموسى أعلام وآيات عرفت أمه بها أنه رسول، وأنه يرد إليها.
وإنما تكلفنا بهذا التخريج قول أهل التأويل: إنه وحي إلهام وقذف في القلب لا غير.
وعندنا جائز أن يكون الوحي إليها وحي إرسال رسول وإخبار من غير أن صارت هي بذلك رسولة؛ نحو ما ذكر من قصة مريم أن الملك لما دخل تعوذت باللَّه منه حيث قالت: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)، وذلك من البشارة التي بشروها بالولد فلم تصر بما أرسل إليها من الرسل وشافهوها رسولة؛ فعلى ذلك أم موسى؛ ونحو بشارة الملائكة لامرأة
(سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ) وقال في آية أخرى: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)، هذا يدل أنه كان ضل الطريق على ما ذكره أهل التأويل، وقال في آية أخرى: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ذكر على التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف، والقصة واحدة، والممتحن بذلك موسى لا غير؛ فهذا يدل أن ليس على الناس تكلف حفظ الألفاظ والحروف بلا تقديم ولا تأخير ولا تغيير، بعد أن أصابوا المعنى المودع فيها - أعني: في الألفاظ - وحفظوها من غير تغيير يدخل في المعنى المودع؛ إذ قصة موسى هذه وغيرها من قصص الأنبياء - عليهم السلام - ذكرت في الكتاب في التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف فدل: أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف في كثير من الأحكام في الشهادات والأخبار وغيرها، وإنما عليهم إصابة المعنى.
ثم قوله: (بِشِهَابٍ قَبَسٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشهاب: خشبة في طرفها نار، والقبس: النار وشهبان: جمع، ولا تسمى النار: قبسا إلا ما يحمل من موضع إلى موضع، يقال: قبست النار قبسا واقتبست؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: القبس: الجمر، والشهاب: النار الموقدة، وهو قول أبي عبيدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشهاب: النور، والشهاب: الكواكب، سمي: شهابًا لضوءه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِشِهَابٍ قَبَسٍ) أي: شعلة من نار، والجذوة: كأنها خشبة فيها نار؛ وهو مثل الأول.
ودل قوله: (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) على أن الوقت وقت البرد وأيام الشتاء؛ حيث ذكر الاصطلاء وهو الاستدفاء، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨) اضطربت أقاويل أهل التأويل في هذا:
صرف بعضهم تأويله إلى (ما) لا يزيده إلا سماجة وبعدًا عن الحق والصواب وعمى، لكن لو جاز أن يعبر ويكنى بحرف (مَن) عن غير مميز وغير ذي فهم وعقل، لاستقام التأويل فيه ولم يقع فيه شبهة؛ فيجعل كأنه قال: أن بورك ما فيه من النار وما حولها، ويكون عبارة عن المكان الذي فيه النار وما حولها من الأمكنة، أي: بورك في ذلك
98
إبراهيم بالولد وهو قوله: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، ونحوه مما يكثر ذكره لم يصيروا بذلك رسلا؛ فعلى ذلك الوحي إلى أم موسى يحتمل ما ذكرنا.
وجائز ذلك من غير أن صارت بذلك رسولة، وهو أشبه وأقرب، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: في الآية إضمار؛ لأنهم لم يلتقطوه؛ ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن كان فيه إضمار، أي: التقطه آل فرعون ليتخذوه ولدا ووليا، فكان لهم عدوا وحزنا إذا كبر ونحو هذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذاك إخبار عما في علم اللَّه أنه يكون ما ذكر، معناه - واللَّه أعلم -: التقطه آل فرعون، فكان في علم اللَّه - تعالى - أنه يكون لهم عدوا وحزنا، وذلك جائز في اللغة؛ يقال:
............ لدوا للموت وابنوا للخراب
لا يلدون للموت ولا يبنون للخراب، ولكن إخبار عما هو عليه عملهم في الآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ): ظاهر. وفيه نقض قول المعتزلة من وجه.
وقوله: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩) هذا لطف من اللَّه بموسى؛ حيث ألقى محبته في قلوبهم وحلاوته في أعينهم، وهو ما ذكر منة عليه حيث قال: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)، ليتأدى بذلك الشكر عليه.
قال أبو معاذ: قال مقاتل: قوله: (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) تقول: ليس لك بقرة عين.
قال أبو معاذ: وهذا محال، ولو كان كذلك لكان في القراءة: " تقتلونه "، وهذا - أيضًا - محال لقوله: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا)، ولو كانت القراءة: (قرت عين لي ولك لا (لا) تقتلوه) لكان مقاتل مصيبًا.
وقوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): يحتمل وجهين:
أحدهما: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أن إهلاكهم واستئصالهم على يديه.
والثاني: لا يشعرون أنه هو المطلوب بقتله من بين الكل، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: فارغًا من هم موسى وحزنها
150
عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فارغًا من كل شيء إلا على موسى وذكره، وكأن قوله: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) جواب قوله: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ...) الآية.
وهو يحتمل وجوهًا:
أحدها: أن اللَّه رفع الحزن والخوف وطمأنها من غير أن كان ثمة قول أو كلام.
والثاني: على القول لها: لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فلو كان على هذا فهو على البشارة لها بالرد إليها وجعله رسولا، أو على النهي والزجر عن الحزن عليه والخوف عليه، هو حزن مفارقته لها، والخوف عليه خوف الهلاك؛ كقول يعقوب حيث قال: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، ذكر الحزن عند المفارقة والذهاب عنه، والخوف عند الهلاك، فرفع اللَّه عنها حزن المفارقة، وبشرها بالرد إليها وجعله رسوله وأمنها عن الهلاك؛ فيكون قوله: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) مما خافت عليه وحزنت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا): كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها بما ذكر من قوله: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي...) الآية، فلم تكد أن تبدي، وهو كما ذكر: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) أي: كان يهم بها لو لم ير برهان ربه لا أنه هم بها؛ وهو كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، أي: كان يركن إليهم شيئًا قليلا لو لم يثبته، لكنه ثبته فلم يركن إليهم ونحوه؛ فعلى ذلك الأول.
وقال أهل التأويل: ربط قلبها بالإيمان.
وجائز أن يكون ربطه قلبها لما ذكر من قوله: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَارِغًا) من عهد اللَّه الذي كان عهد إليها، أنساها عهد اللَّه عظم البلاء الذي حل بها، فكادت تبدي به، ثم تداركها اللَّه بالرحمة فربط على قلبها فذكرت وارعوت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: اتخذه فرعون ولدًا، فصار الناس يقولون: ابن فرعون ابن فرعون، فأدركت أمه الرقة وحث الولد فكادت تقول: بل هو ابني، والأوّل أشبه، وفي حرف
151
المكان الذي فيه النار وما حولها؛ لأنه قال له في آية أخرى: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، أي: طوي فيه البركات.
وقال في آية: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، عن بركة ذلك المكان؛ فعلى ذلك لو جاز أن يعبر بحرف (مَن) عن غير المميز والفهم، ويكنى به - جاز صرف التأويل إلى ما ذكرنا من المكان.
أو يقال: (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا)، أي: بورك ما في النار من النور وما حول ذلك، وما يستنار به ويستضاء، وهو ما استفاد به من النبوة والرسالة.
هذا كله إذا جازت العبارة والكناية بحرف (مَن) عن غير ذي التمييز والفهم، فإن جاز هذا لاستقام أن يقال هذا.
أو أن يكون التأويل منصرفًا إلى ما ذكره في حرف ابن مسعود وأُبي على طرح حرف (من) وحرف (في) ذكر: أن في حرفهما: (نودي أن بوركت النار ومن حولها)، وذلك جائز في اللغة أن يقال: بورك في فلان وبورك فلانٌ وبوركت وبورك فيك؛ وكذلك ذكر عن الكسائي أنه قال ذلك، فإن كان ما ذكر عن ابن مسعود وأبئ ثابتًا صحيحًا - لم يقع فيه شبهة ولا ريب.
أو إن لم يجز العبارة بحرف (من) عن غير ذي التمييز، فجائز أن يصرف حرف (من) إلى موسى؛ فيكون كأنه قال: بورك في الذي أتى النار وهو موسى، أو بورك فيمن جعل له اقتباس النار؛ فينصرف تأويل (من) إلى موسى، وقد جعل له من البركة في تلك النَّار ما لا يحصى من استفادة النبوة والإرشاد إلى الطريق والاصطلاء وغير ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): ذكر هذا - واللَّه أعلم - تنزيهًا عن جميع ما قاله بعض أهل التأويل؛ تبرئة منه عن ذلك كله من نحو مقاتل، ومن قال بمثل قوله مما يؤدي إلى التشبيه والشبه.
وقوله: (يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) أي: الذي أعطاك ذلك اللَّه العزيز الحكيم.
أو يقول: إن الذي جعل لك ذلك اللَّه العزيز الحكيم. أو أن يقول: إنه الذي أراك هذا وأكرمك به أنا اللَّه العزيز الحكيم.
أو أن يقول: إن الذي أراك - أي: الذي جعل لك ذلك - اللَّه العزيز الحكيم؛ العزيز: الذي لا يعجزه شيء، الحكيم: المصيب في فعله غير مخطئ، أو أن يقال: عزيز لا يذل أبدًا قط؛ لأنه عزيز بذاته، يضع كل شيء موضعه لا يخطئ.
قال أبو معاذ: قال مقاتل بن سليمان: إنه يقول: يا موسى، إن النور الذي رأيت أنا اللَّه، وهذا محال لا وجه له؛ لأنك لا تقول: " إن الذي رأيت أنا " لإنسان رآه أو لشيء رآه، ولكن تقول: أنا الذي رأيت.
ومحال -أيضًا- قوله؛ لما ذكر في حرف ابن مسعود: (نودي يا موسى لا تخف) يكلمه اللَّه ويخاطبه ثم يقول: إن النور الذي رأيت أنا.
ومحال -أيضًا- لقول اللَّه: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، قال اللَّه: (فَلَمَّا أَتَاهَا)، ولم يقل: أتاه.
ومحال -أيضًا-: أن يكون اللَّه نعتًا؛ لأنك لا تقول بأن الذي رأيت أنا أخوك.
فقال: قول مقاتل محال من أربعة أوجه خلافا لظاهر الآية، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) في الآية الأمر بإلقاء العصا، ولم يذكر أنه ألقاها، ولكن فيه: (وَأَلْقِ عَصَاكَ) فألقاها، (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ)، أي: تتحرك كأنها جان.
ذكر أهل التأويل أن الجان هي الحية الصغيرة ليست بعظيمة.
لكنه أخبر أن موسى خافها وولى مدبرا، وموسى لا يحتمل أن يخاف من حية صغيرة على الوصف الذي ذكر، فكأنها كانت عظيمة لكنها في تحركها والتوائها كأنها صغيرة؛ إذ الحية العظيمة الكبيرة لا تقدر على التحرك والالتواء كالصغيرة؛ لذلك خافها موسى، حتى نهاه اللَّه عن ذلك وقال له: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).
وقوله: (وَلَمْ يُعَقِّبْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يرجع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يلتفت، وهو مأخوذ من العقب.
والجان: قَالَ بَعْضُهُمْ: من الجن، والجان: الحية، ولا تكون إلا من الجن.
وقول أبي عبيدة: وقوله: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فَإِنْ قِيلَ: كيف نهاه عن الخوف، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون، وقد مدح اللَّه الملائكة وغيرهم من الخلائق بالخوف من ربهم؛ حيث قال: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)، وقال في آية أخري: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)، و (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، وأمثال ذلك من الآيات مما فيها مدحهم بالخوف من ربهم؛ لكنه يخرج على وجوه: أحدها: أنه قد أمن موسى حيث قال: (وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)؛ فكأنه قال هاهنا: لا تخف بعدما أمنتك؛ (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) إذا أمنتهم.
والثاني: (لَا تَخَفْ) من غيري؛ (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) من غيري؛ فكأنه قال - واللَّه أعلم - على هذا التأويل: إنما نهاه عن الخوف من غيره، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون.
والثالث: أخبر أنه أمنه من خوف الآخرة وأهوالها؛ كأنه قال: لا تخف فإني سأؤمن المرسلين من خوف يومئذ.
ثم استثنى فقال: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) هذا -أيضًا- يخرج على وجوه:
أحدها: لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم إذا بدل حسنا بعده سوء.
والثاني: لا يخاف لدي المرسلون، ولكن من ظلم ممن سواهم ثم بدل حسنًا بعد سوء فإني غفور رحيم، رجاء المغفرة وطمع العفو عما كان منه.
والثالث: لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم منهم؛ نحو: موسى بقتله النفس، وإخوة يوسف، ثم بدل حسنا وتاب عن ذلك - فإنه يخاف أيضًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (١٢) فاللَّه تعالى قادر أن يجعل يده بيضاء من غير إدخاله إياها في جيبه، لكنه امتحن موسى بالأمر بإدخالها في جيبه؛ وكذلك قادر أن يصير عصاه في يده حية، لكنه امتحن بالأمر بإلقائها، ولله أن يمتحن عباده بكل أنواع المحن.
وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ): قيل: من غير آفة من برص أو غيره، وقد ذكرنا معناه فيما تقدم.
وقوله: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: موسى من تسع آيات، وقد يجوز استعمال حرف (في) مكان (من) كما يقال: لفلان كذا كذا نوقا فيها فحلان، أي: منها فحلان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ): قال أبو معاذ: قد يكون معنى (في) و (مع) واحدًا فيما لا يحصى عدده، تقول: (خرجت في أهل مرو إلى مكة)، و (مع أهل مرو إلى مكة)، فإذا قلت: (خرجت في تسعة) اختلفا؛ لأنك أحصيت العد في تسعة أنت تاسعهم، و (مع تسعة) أنت عاشرهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الانقطاع من الأول؛ كأنه قال لرسوله مُحَمَّد: ولقد بعثنا موسى في
101
ابن مسعود وأبي وحفصة: (إن كادت لتشعر به).
وقوله: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ... (١١) أي: اتبعي أثره.
وقوله: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قيل: عن بعد، أي: كانت تتبع أثره عن بعد منه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى موضع بعيد، وهو إلى جنبه بقرب منه، وذلك عند الناس معروف ظاهر فيهم ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قال: مشيت بجانبه وهي معرضة عنه كأجنبية.
وقوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): أن هذه تراقبه أو تنظر إليه وتحفظه.
أو لا يشعرون أن هلاكهم على يديه.
بصرت وأبصرت واحد.
وقوله: (عَنْ جُنُبٍ): عن ناحية بعيدة، وجوانب: جماعة، ويقال: رجل جنب وقوم أجناب، وجانب وأجناب وأجانب وأجنبي أي: غريب، وهذا كله من الاجتناب؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.
وقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢) حرم تحريم منع وحظر الذي ضده الإطلاق والإرسال، لا التحريم الذي ضده الحل، وذلك لطف من اللَّه تعالى وفضل ورحمة؛ حيث منع موسى عن أن يرتضع من النساء وهو طفل، وهَمُّ أمثاله الارتضاع والرغبة في التناول من كل لبن ومن كل مرضع ترضعه لا تمييز لهم في الارتضاع؛ فدل امتناعه وكفه نفسه عن الارتضاع من النساء أجمع أن ذلك لطف من اللَّه أعطاه ليمتنع عنه.
فعلى ذلك جائز أن يكون عند اللَّه لطف لو أعطى الكافر الذي همته الكفر والرغبة فيه لآمن واهتدى، لكنه لما عرف رغبته وهمته فيه واختياره له منع ذلك عنه ولم يعطه.
وهذا الحرف ينقض على المعتزلة مذهبهم في زعمهم أن اللَّه قد أعطى كل كافر السبب الذي به يؤمن وما به يصير مؤمنًا، حتى لم يبق شيء مما يكون به إيمانه إلا وقد أعطاه، لكنه لم يؤمن، فينقض قولهم ما ذكرنا من أمر موسى أن عنده لطفًا لم يعطه لو أعطاه لآمن
152
[ الآية١٢ ] وقوله تعالى :﴿ وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ﴾ فالله تعالى قادر أن يجعل يده بيضاء من غير إدخاله إياها في جيبه، لكنه امتحن موسى بالأمر بإدخالها في جيبه، وكذلك قادر أن يصير عصاه في يده حية، لكنه امتحنه١ بالأمر بإلقائها. ولله أن يمتحن عباده بكل أنواع المحن.
وقوله تعالى :﴿ تخرج بيضاء من غير سوء ﴾ قيل : من غير آفة من برص أو غيره. وقد ذكرنا معناه في ما تقدم.
وقوله تعالى :﴿ في تسع آيات إلى فرعون وقومه ﴾ قال بعضهم :[ يد موسى من ]٢ تسع آيات، وقد يجوز استعمال حرف : في مكان [ من ]٣ كما يقال : لفلان كذا كذا نوقا، فيها فحلان، أي منها فحلان.
وقال بعضهم :﴿ في تسع آيات ﴾ قال أبو معاذ : قد يكون معنى : في ومع واحدا في ما لا يحصى عدده ؛ تقول : خرجت في أهل مرو إلى أهل مكة، ومع أهل مرو إلى أهل مكة. فإذا قلت : خرجت في تسع اختلف لأنك أحصيت العد في تسعة، أنت تاسعهم، ومع تسعة، أنت عاشرهم.
وقال بعضهم : هو على الانقطاع من الأول ؛ كأنه قال لرسوله محمد : ولقد [ أرسلنا ]٤ موسى في تسع آيات إلى فرعون كما قال :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ﴾ [ الإسراء : ١٠١ ].
وقوله تعالى :﴿ إلى فرعون وقومه ﴾ دل هذا أنه كان مبعوثا إلى فرعون وقومه جميعا ؛ إذ ذكر في آية :﴿ إلى فرعون ﴾ [ طه : ٢٤ و. . . ] خاصة، وفي آية أخرى ﴿ إلى فرعون وملأيه ﴾ [ الأعراف : ١٠٣ و. . . ] وذكر ههنا ﴿ إلى فرعون وقومه ﴾ فكان مبعوثا إلى الكل.
١ - في الأصل وم: امتحن..
٢ - في الأصل وم: موسى في..
٣ - ساقطة من الأصل وم..
٤ - ساقطة من الأصل وم..
تسع آيات إلى فرعون؛ كما قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ).
وقوله: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ): دل هذا أنه كان مبعوثًا إلى فرعون وقومه جميعًا؛ إذ ذكر في آية إلى فرعون خاصة، وفي آية أخرى. (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)، وذكر هاهنا (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)، فكان مبعوثًا إلى الكل.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) أي: يبصر بها ويعلم، كقوله: [(وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)]، أي: يبصر به.
وقرأ بعضهم: (مُبْصَرَةً) بنصب الصاد، أي: بينة ظاهرة يبصر فيها؛ وكذلك قال موسى لفرعون: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ).
وقالوا: (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ): لم يزل عادة فرعون اللعين تلبيس أمر موسى وآياته على قومه؛ لئلا يؤمنوا به ولا يطيعوه فيما يدعوهم؛ مرة قال: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)، و (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ). وأمثال ذلك مما يلبس على قومه أمره ويغويهم عليه؛ لئلا يطيعوه فيما يدعوهم إليه ولا يجيبوه.
وقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا... (١٤) بالآيات: جائز في اللغة أن يقال: (جحد بها) و (جحدها)؛ كلاهما واحد.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الجحود لا يكون إلا بعد العلم به والإيقان.
ولكن يجوز أن يقال: جحد بعد المعرفة والعلم، وقبل أن يعلم به ويعرف؛ إذ الجحود ليس إلا الإنكار، وقد يكون الإنكار للشيء للجهل به وبعد المعرفة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: فلما جاءتهم آياتنا مبصرة جحدوا بها ظلمًا وعلوا.
(وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ): أنها من اللَّه، وأنها آياته، ليست بسحر، ولو كان سحرا في الحقيقة لكان آية؛ لأن السحر على غير تعلم يكون منه آية سماوية.
وقوله: (ظُلْمًا): لأنهم جحدوا الآيات وسموها سحرا، فوضعوا الآيات موضع السحر، لم يضعوها موضعها، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه.
وقوله: (وَعُلُوًّا) أي: تكبرا وعنادا.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ): ليس على الأمر له بالنظر في ذلك، ولكن
102
واهتدى، لكنه لم يعطه لما ذكرنا.
وفيه لطف آخر: وهو أن فرعون والقبط كانوا يقتلون الولدان من الذكور؛ ليصير الذي يخاف هلاكه وذهاب ملكه على يديه مقتولا، فجعل اللَّه بلطفه ورحمته محبته في قلب فرعون وقلوب أهله، حتى صار أحب الخلق إليهم، وصاروا هم أشفق الناس وأرحمهم عليه، حتى خافوا هلاكه وطلبوا له المراضع؛ لئلا يهلك بعدما كانوا يطلبون هلاكه وتلفه، وذلك لطف منه له ورحمة، وهو ما قال: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)، وبالله يستفاد كل فضل ونعمة.
وقوله: (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ).
قوله: (فَقَالَتْ) أي: أخته التي كانت تتبعه وتمشي على أثره، وذلك منها تعريض بالدلالة لهم إلى أفه؛ لئلا يشعروا أنها أمه حيث قالت: (أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ)، ولم تقل: على امرأة لها لبن وهي ترضع، ولعلها لو قالت لهم ذلك وقع عندهم أنها أمه، ولكن دلتهم إلى بيت ليقع عندهم أنهم أهل بيت قتل ولدهم ولهم ولد يكفلونه لكم، أي: يقبلونه ويضمونه إلى أنفسهم.
(وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ): يحتمل قولهم: (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) أي: لفرعون لا يخونونه فيه.
ويحتمل (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) لموسى.
وقوله: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) بالمقام معه والكون عندها، (وَلَا تَحْزَنَ): على فراقه.
أو أن يقال: (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)، أي: تسر برده إليها، وذلك معروف في النساء ظاهر أنهن يحزن بمفارقة أولادهن ويهممن لذلك، ويسررن إذا جعلوا إليهن واجتمعوا.
وقوله: (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ): كانت تعلم هي - واللَّه أعلم - أن وعد الله حق كائن لا محالة، لكن علم خبر لا علم عيان ومشاهدة؛ كأنه قال: لتعلم علم عيان ومشاهدة ما علمت علم خبر؛ لأن علم العيان والمشاهدة أكبر وأبلغ وأتقى للشبهة من علم الإخبار؛ ألا ترى أن إبراهيم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى، وإن كان يعلم حقيقة أنه يحيي الموتى، وأنه قادر على ذلك، لكنه كان يعلمه علم خبر فأحب أن يعلمه علم عيان ومشاهدة؛ لأنه أكبر وأبلغ وأدفع للوساوس من علم الإخبار؟! فعلى ذلك هذا.
وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): والمعتزلة فيهم؛ لأنه أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ حيث قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ)، وهم يقولون: أراد ألَّا يملأ جهنم؛ لأنهم يقولون: إنه أراد إيمان كل الناس جميعًا وشاء ذلك لهم فلم يؤمنوا، فعلى
153
قولهم: إذا شاء ذلك لهم شاء ألا يملأ جهنم منهم، فذلك خلف في الوعد وكذب في القول على قولهم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
وقوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى): قال بعض أهل التأويل: الأشد: هو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، ثم هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين استواء الشدة، ثم يأخذ بعد الأربعين في النقصان، ثم غير بعمره إلا أربعين سنة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بلغ أشده: ثلاث وثلاثون سنة واستوى: أربعون، وعن ابن عَبَّاسٍ مثله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بلغ أشده قال: الأشد: الحلم، والاستواء: أربعون سنة.
وأصل الأشد: أن يشتد كل شيء منه، وصار يحتمل ما قصد به وجعل فيه، ويدخل في ذلك العقل وكل شيء.
واستوى: أي استوى ذلك واستحكم، وصار بحيث يحتمل ذلك.
وجائز أن يكون الاستواء هو الأشد الذي ذكره.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: واستوى: أي استحكم وانتهى شبابه واستقر، فلم يكن
على تنبيه أُولَئِكَ، والزجر لهم عما هم فيه، أي: انظر ما ينزل بهم لجحود الآيات وعنادهم فيها على ما نزل بأوائلهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ): فيه وجهان من الاستدلال:
أحدهما: في خلق أفعال العباد.
والثاني: في ترك الأصلح.
أمّا الاستدلال على خلق الأفعال: لأنه قال: (آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا)، وقال على أثره: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)، وقال في رسول اللَّه (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) وقال: (الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ). ، ونحوه من الآيات فيما أضاف التعليم والفعل إلى نفسه، فلو لم يكن له في ذلك صنع لم يكن لإضافة ذلك إليه معنى؛ فدل أنه خلق أفعالهم منهم.
فَإِنْ قِيلَ: إنما أضاف ذلك إلى نفسه بالأسباب التي أعطاهم.
قيل: لا يحتمل ذلك؛ لأنه قد أعطى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جميع أسباب الشعر، ولم يكن غيره من الشعراء أحق بأسباب الشعر من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أخبر أنه لم يعلمه الشعر؛ دل أنه لم يرد به الأسباب، ولكن أراد ما ذكرنا.
وأما في ترك الأصلح: فهو ما ذكر من قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، أنه إنما ذكر هذا على الامتنان والإفضال، فلو كان لا يجوز له ألا يعطيه ذلك، ولا كان له ترك ما فعل بهم من الإفضال - لم يكن لذكر ذلك له على الإفضال والامتنان معنى، ولا كان داود وسليمان يحمدانه على ما أعطاهما، ولا كان هو يستوجب الحمد بذلك؛ إذ فعل ما عليه أن يفعل؛ دل أنه إنما أعطى ذلك لهم وفعل بهم ذلك على جهة الإفضال والامتنان، وكان له ترك ما فعل، وإن كان ذلك ليس أصلح في الدِّين. فهذان الوجهان ينقضان على المعتزلة مذهبهم
103
فيه زيادة، وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) أي: آتيناه العلم الذي يحكم به بين الناس، وعلما بمصالح نفسه ومصالح الخلق.
وقال بعض أهل التأويل: الحكم: الفقه والعقل والعلم قبل النبوة.
وقوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): يحتمل قوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في الآخرة بالوعد الذي وعد لهم في الدنيا؛ كما جزي موسى بإنجاز ما وعد له، أو أن يكون من موسى إحسان وجهد في طلب العلم وغير ذلك مما أعطاه ذلك، وأخبر أنه كذلك يجزي من ذكر؛ كقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، وقوله: (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، كان وعده إياها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، ومعناه ما ذكر فيما تقدم.
قال الكسائي: يقال: امرأة مرضع: ما دامت ترضع، فإذا فطمت سميت: مرضعة، وما دامت حبلى فهي مرضعة، أي: سترضع.
وقوله: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥)
قال عامة أهل التأويل: على حين غفلة أهل المدينة وهو عند الظهيرة، وذلك وقت القائلة.
وقال قائلون: على حين غفلة أهل البلد عن دخول موسى، أي: دخلها من غير أن شعروا به وعرفوا أنه موسى؛ على هذا التأويل الغفلة تكون على دخول موسى عليهم.
وعلى الأول على غفلة أهل المدينة، أي: وقت غفلتهم.
فإن كان على هذا فيحتمل أن يكون غفلة أهلها: هو أن كان ذلك يوم عيدهم خرجوا إليه، فدخل هو المدينة ليطلع أحوالها وأسبابها، إلا أن تكون العادة فيهم بأجمعهم يقيلون فذلك محتمل، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ): قال بعض أهل الأدب: إن قوله: (هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) إنما يقال للشاهد المشار إليه، فأما الغائب فإنه لا يقال، لكن قالوا: إن فيه إضمارًا أو لطفًا؛ كأنه قال: فوجد فيها رجلين يقتتلان من نظر إليهما يقول: هذا من شيعته وهذا من عدوه.
ثم قال أهل التأويل: آحدهما كان إسرائيليا والآخر قبطيًّا.
155
في إنكارهم خلق الأفعال، وجواز ترك الأصلح في الدِّين.
ثم قوله: (عِلْمًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: علما بالقضاء والحكم والعلم بكلام الطير والدواب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فضلا بالنبوة والعلم.
لكن عندنا ذكر أنه آتاهما العلم، ولم يبين ما ذلك العلم أنه علم ماذا؟ مخافة الكذب على اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) قال أهل التأويل: ورث النبوة والحكم، والوارث: هو الباقي بعد هلاك الآخر وفنائه، كقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، أي: نبقى بعد هلاك أهلها وفنائهم، وقوله: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) أي: الباقون بعد فنائهم، إلا أنه ورث شيئا لم يكن له من قبل؛ وكذلك قوله: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...) الآية، أي: أبقاكم وترككم في أرضهم وديارهم، وقوله: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا)، أي: أبقيتم فيها، وأمثال ذلك كله راجع إلى البقاء؛ فعلى ذلك قوله: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) أي: بقي في ملكه ونبوته؛ وعلى ذلك ما سأل زكريا ربه من الولد حيث قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، لا يحتمل أن يسأل ربه ولدا يرث ماله من بعد وفاته، ولكن كأنه سأل ربه الولد؛ ليبقى في نبوته ورسالته بعد وفاته؛ لتبقى النبوة في نسله، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ): لا يحتمل أن يذكر هذا - صلوات اللَّه عليه - على الافتخار والنباهة، ولكن ذكر فضل اللَّه ونعمه التي أعطاه ومن عليه؛ كقوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، ألا ترى أنه قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).
ثم قوله: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ): لا يحتمل كل شيء؛ لأنهم لم يؤتوا كل شيء حتى لم يبق شيء، إنما أوتوا شيئًا دون شيء، ولكن كأنه قال: وأوتينا من كل شيء سألناه أن يؤتينا.
أو أن يكون (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) - مما يؤتى الأنبياء والملوك وما يحتاج إليه، والله أعلم.
104
فَإِنْ قِيلَ: كيف سمي الإسرائيلي من شيعة موسى وذلك أول ما دخل موسى المدينة، وبنو إسرائيل يومئذ كانوا عباد الأصنام، وقد حبب ذلك إليهم حتى قالوا لموسى بعدما أخرجهم من المدينة وبعد هلاك فرعون والقبط جميعًا: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)؛ وكذلك يقول مقاتل: كانا كافرين جميعًا؛ ألا ترى أنه قال: (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)، لكن يخرج هذا على الإضمار؛ كأنه قال: يكون هذا من شيعته وهذا من عدوه.
أو يقول: يكون هذا من قوم شيعته ويبقى هذا عدوا في قوم هم أعداؤه، وعلى هذا يخرج قوله: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) أي: يبقى عدوا لهما، أو أن يكون عدوا لهما؛ لأن أبا معاذ النحوي يستدل به على وهم مقاتل ووهمه في تأويله أنهما كانا كافرين جميعًا، لكن يخرج على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أي: استغاثه الذي كان في علم اللَّه أنه يكون من شيعته على الذي في علم اللَّه أنه يبقى عدوا له ينصره، والاستغاثة هي الاسثعانة والاستنصار، أي: سأله أن يكون من شيعته.
وقوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ): قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الوكزة: الطعن في الصدر.
وقال الزجاج والْقُتَبِيّ وهَؤُلَاءِ: الوكزة: الد فعة (فَوَكَزَهُ)، أي: دفعه.
(فَقَضَى عَلَيْهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي فرغ منه؛ كقوله: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ)، وقوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)، أي: فرغ ونحوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَقَضَى عَلَيْهِ) أي: قتله.
وكلاهما سواء إذا قتله فقد فرغ منه، وهو لم يتعمد قتله ولا قصده، لكن اللَّه قضى أجله وجعل انقضاء عمره بوكزة موسى، وهو في الظاهر قاتل؛ لأنه قال: (إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)، ولم يكذب اللَّه موسى في قوله: إنك لم تقتل، وقال -أيضًا-: (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي... (١٦). الآية.
وفيه دلالة جواز الاستدلال لقول أبي حنيفة حيث قال: من قتل آخر بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة مما لا ينجو من مثله فإنه لا يقتل به، ولا يجب القصاص فيه؛ لأن موسى لما وكز ذلك القبطي فمات، وكان له قوة أربعين رجلا - لم ير القصاص به واجبا حيث قال له ذلك الرجل: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، ولو كان القصاص واجبًا
156
وقوله: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَهُم يُوزَعُونَ) أي: يحبس أولهم على آخرهم؛ كأنه لا يدعهم أن ينتشروا ويتفرقوا، ولكن يسيرهم مجموعين على كل صنف منهم وزعهَ ترد أولهم على آخرهم، وذلك من سيرة الملوك وأمراء العساكر أن يسيروا جنودهم مجموعة غير منتشرة ولا متفرقة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي: يساقون، ويقال: أوزعني، أي: ألهمني، والوزع: من الكف والسوق، تقول: وزع، أي: كف، ووزع، أي: ساق.
وقال مرة: (يُوزَعُونَ): يجتمعون، يقال: وزعت الإبل - أي: جمعهما - أزع وزعًا.
وقال القتبي: (يُوزَعُونَ)، أي: يدفعون، وأصل الوزع: الكف والمنع، يقال: وزعت الرجل إذا كففته، ووازع الجيش: هو الذي يكفهم عن التفرق والانتشار، وهو على ما ذكر.
وقوله: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) هذا يدل أن النمل وقتئذ لا تخالط الناس؛ حيث أضاف الوادي إليها بقوله: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ)، ولو كانت تخالط الناس كهي الآن لقال: حتى إذا أتوا على الوادي الذي فيه النمل؛ دل أنها كانت لا تخالط الناس، وكان لها مكان على حدة، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): يخرج قوله: (قَالَتْ نَمْلَةٌ) على وجهين: على حقيقة القول من النملة كما يكون من البشر، أطلع اللَّه سليمان على ذلك، وألقاه على مسامعه؛ لطفًا منه وفضلا من بين سائر الخلائق على ما ذكرنا في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ...) الآية.
والثاني: أن يجعل اللَّه في سرية النمل معنى يفهم بعضها من بعض لما يريدون فيما بينهم من أنواع الحوائج على غير حقيقة القول، أطلع اللَّه سليمان على ذلك؛ حتى فهم منها ما كانت تفهم بعضها من بعض لطفًا منه وفضلا؛ وهو كقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، ليس أحد يقول لآخر إذا تصدق عليه ذلك، لكن اللَّه أخبر عما علم من ضميرهم ومرادهم من التصدق على غير حقيقة القول منهم؛ فعلى ذلك قول النملة، أخبر سليمان عما كان في سريتها فيما بينهم من غير أن كان منها نطق أو كلام يفهم منه الخلق، واللَّه أعلم.
وقالت الباطنية: ليس المراد من ذكر النمل: النملة المعروفة وقولها؛ وكذلك قالوا في
105
لكان أُولَئِكَ لم يكونوا ظلمة في قتله، بل يكون هو الظالم فيه.
ولا يحتمل أن يكون القصاص واجبًا -أيضًا- وموسى يفر من ذلك ويهرب وفي ذلك إبطال حقهم دل أنه لم يجب.
ولا شك أن وكزة من له قوة أربعين رجلا إلى الهلاك أسرع وأقرب وأعمل من الضرب بالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة، فإذا لم يجب في هذا لم يجب في ذاك، واللَّه أعلم.
وقوله: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: بما أنعمت عليَّ بالمغفرة، فلم تعاقبني بقتل النفس وعصمتني من أن أعاقب به في الدنيا.
وجائز أن يكون بما أنعم عليه هو قوته التي أعطاها أخبر أنه لا يكون بها ظهيرا للمجرمين، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) أكثر ما ذكر في القرآن (أصبح)، أي: صار؛ كقوله: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا)، وقوله: (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا)، ونحوه، وأما هاهنا قوله: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا) وإنما يريد: الصباح نفسه.
وقوله: (يَتَرَقَّبُ): قال عامة أهل التأويل: (يَتَرَقَّبُ) أي: ينتظر سوءًا يناله منهم.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الترقب: الخوف؛ كأنه قال: خائفًا يخاف هلاكه، وأصل الترقب هو النظر؛ لأن موسى كان يرقب من يطلبه ومن يأتيه في طلبه، وهو من الرقيب.
وقوله: (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ): كأن الرجل الذي أخبر أنه من شيعة موسى كان ضعيفًا في نفسه، حيث لا يقدر أن يقوم لواحد؛ فيستغيث بموسى ويستعين به، إلا أنه كان يخاطب وينازع ويقاتل لسوء فيه وبلاء يقاتل وينازع، وإلا لم يكن بنفس هذا قوة ما يقوم لواحد فمن حيث لا يقاتل مثله، ولكنه لما ذكرنا من سوء به؛ ولذلك قال له موسى: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)، لكن موسى إنما عرف غوايته بالاستدلال الذي ذكرنا لا بالمشاهدة؛ ولذلك أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما لئلا يقتله ولا يهلكه لما عرف غوايته بالاستدلال لا حقيقة.
وذكر هاهنا البطش - وهو الأخذ باليد - وفي الأول ذكر الوكزة: وهي الدفع والطعن على ما ذكرنا، فهو - واللَّه أعلم - لأنه لما وكز الأول فأتت الوكزة على نفسه فقتلته، فأخذ هذا من هذا ليمنعه عن إهلاكه وإتلافه، ولا يأتي على نفس الآخر كما فعلت الوكزة.
157
[ الآية ١٨ ] وقوله تعالى :﴿ حتى إذا أتوا على واد النمل ﴾ هذه يدل أن النمل، وقتئذ لا تخالط الناس حين١ أضاف [ الودي ]٢ إليها بقوله :﴿ حتى إذا أتوا على واد النمل ﴾ ولو كانت تخالط الناس كهي الآن لقال : حتى إذا أتوا على الوادي الذي فيه النمل. دل أنها لا تخالط الناس، وكان لهن مكان على حدة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾ يخرج قوله :﴿ قالت نملة ﴾ على وجهين :
[ أحدهما ]٣ : على حقيقة القول من النملة كما يكون من البشر ؛ أطلع الله تعالى سليمان [ على ]٤ ذلك، وألقاه في مسامعه لطفا منه وفضلا من سائر الخلائق على ما ذكرنا في قوله :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ الآية [ الإسراء : ٤٤ ].
والثاني : أن يجعل الله في سرية النمل معنى يفهم بعضها من بعض لما يريدون في ما بينهم من أنواع الحوائج على غير حقيقة القول ؛ أطلع الله سليمان على ذلك حتى فهم منها ما كان يفهم بعضها من بعض لطفا منه وفضلا. وهو كقوله :﴿ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ﴾ [ الإنسان : ٩ ] ليس أحد يقول لآخر إذا تصدق عليه ذلك. لكن الله أخبر عما علم من ضميرهم ومرادهم من التصدق على غير حقيقة القول منهم.
فعلى ذلك قول النملة ؛ أخبر عما كان في سريتها في ما بينهم من غير أن كان منها نطق أو كلام يفهم منه الخلق، والله أعلم.
وقالت الباطنية : ليس المراد من [ الذكر النملة ]٥ المعروفة وقولها، وكذلك من [ الذكر ]٦ الهدهد، إنه لم يرد به الهدهد المعروف٧ ؛ إذ لا يجوز للهدهد من العلم أكثر مما يكون لسليمان ولغيره، ولكن أراد به الرجل، وهو الإمام الذي يدعو الناس إلى الهدى، ويدلهم على الرشد. وليس كما قالوا لأنه إنما ذكر هذا على التعجب.
ولو كان ذلك إنسانا ممن يكون له قول وكلام لم يكن لذكر٨ ذلك منه كبير تعجب ولا فائدة. دل أنه ليس كما قالوا.
وقوله تعالى :﴿ لا يحطمنكم سليمان وجنوده ﴾ أي لا يكسرنكم، والحطم هو الكسر. وفي حرف ابن مسعود : لا يحطمكم على طرح النون والتشديد٩.
وقوله تعالى :﴿ وهو لا يشعرون ﴾ قال بعضهم : هذا من النملة ثناء على سليمان ومدح [ له لعدله ]١٠ في ملكه وسلطانه. إنه لو شعر بكم لم يحطمكم، ولم يهملكم.
وقال بعضهم :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي لا يشعر جنوده كلام النمل. وعلى كل رئيس وسيد القوم أن يحفظ رعيته وحواشيه [ من المهالك ]١١ أو ما يحملهم على الفساد.
وقول من قال : إن النمل يومئذ كانت كالذباب عظيما، لا يحتمل ؛ لأنها لو كانت كما ذكر/ ٣٨٩- أ/ لم يكن لقوله :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ معنى لأنها لو كانت كالذباب لشعروا بها. فدل أنها كانت على ما هي اليوم، والله أعلم.
١ - في الأصل وم: حيث..
٢ - من م، ساقطة من الأصل..
٣ - ساقطة من الأصل وم..
٤ - ساقطة من الأصل وم..
٥ - في الأصل وم: ذكر النمل..
٦ - ساقطة من الأصل وم..
٧ - من م، في الأصل: قوله..
٨ - من م، في الأصل: قوله..
٩ - انظر معجم القراءات القرآنية ٤/٣٤١..
١٠ - في الأصل وم: عليه العدل..
١١ - من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
الهدهد: إنه لم يرد به: الهدهد المعروف؛ إذ لا يجوز للهدهد من العلم أكثر مما يكون لسليمان ولغيره، ولكن أراد به: الرجل، وهو الإمام الذي يدعو الناس إلى الهدى، ويدلهم على الرشد.
وليس كما قالوا؛ لأنه إنما ذكر هذا على التعجب، ولو كان ذلك إنسانًا ممن يكون له قول وكلام، لم يكن لذكر ذلك منه كبير تعجيب ولا فائدة؛ دل أنه ليس كما قالوا.
وقوله: (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ) أي: لا يكسرنكم، والحطم: هو الكسر.
وفي حرف ابن مسعود: (لا يحطمكم) على طرح النون والتشديد.
وقوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا من النملة ثناء على سليمان ومدح عليه لعدله في ملكه وسلطانه: أنه لو شعر بكم، لم يحطمكم ولم يهلككم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أي: لا يشعر جنوده كلام النملة، وهذا يدل أن النملة كانت رئيسة سائر النمل وسيدته؛ حيث قالت ذلك من بين غيرها من النمل، وعلى كل رئيس وسيد للقوم أن يحفظ رعيته وحواشيه عما يحملهم على الفساد.
وقول من قال: إن النمل يومئذ كان كالذباب عظيمًا، لا يحتمل؛ لأنها لو كانت كما ذكر لم يكن لقوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) معنى؛ لأنها لو كانت كالذباب يشعرون بها، فدل أنها كانت على ما هي اليوم، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) أي: سبح اللَّه لما فهم من قول النمل وحمده عليه، وتبسم الأنبياء: التسبيح.
وجائز أن يكون التبسم: هو السرور؛ إذ التبسم إنما يكون لسرور يدخل في الإنسان، فقوله: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) أي: سر بما أعطاه اللَّه من عظم النعمة له والملك؛ ألا ترى أنه سأل ربه الإلهام؛ ليشكر نعمه التي آتاه اللَّه حيث قال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ)، سأل ربه الإلهام واللطف الذي يكون منه؛ ليشكر نعمه، ولو كان الإلهام هو الإعلام على ما قاله بعض الناس، لم يكن سليمان ليسأله ذلك؛ لأنه كان يعلم أن عليه شكر نعمه؛ وكذلك يعلم كل أحد أن عليه شكر منعمه، فدل سؤاله الإلهام على الشكر أنه إنما سأل اللطف الذي عنده به يشكر نعمه إذا أعطاه، وهو التوفيق، لا الإعلام الذي قالوه.
وقوله: (وَعَلَى وَالِدَيَّ) فيه أنه يجب على المرء شكر النعم التي أنعم اللَّه على والديه.
وسأل ربه -أيضًا- أن يوفقه على العمل الذي يرضاه منه، حيث قال: (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ).
106
ثم قال: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) اختلف في قائل هذا:
قال عامة أهل التأويل: إن قائل هذا هو الذي استصرخه واستغاثه بالأمس ظن أن موسى إنما أراد بطشه وأخذه وإليه قصد؛ لذلك قال: (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ).
وقال قائلون: هذا القول إنما قال له ذلك القبطي، فإن كان هذا فهو يدل أن قتله ذلك الرجل بالأمس كان ظاهرًا، حيث علم به القبطي، وكان قوله: (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) أي: من دخول موسى المدينة.
وإن كان هو الأول كان قتله إياه خفيًا غير ظاهر، فعلى هذا تكون الغفلة على أهل المدينة ليس على دخول موسى، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)؛ لأن الذي يصلح بين اثنين لا يقتل ولا يأخذ أحدهما دون الآخر، ولكن يصلح بينهما على السواء الذي قال ما قال.
وقوله: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: يقول هكذا فعل الجبابرة، يقتلون النفس بغير نفس.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجبابرة تقتل النفس بغير نفس.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجبار: هو الذي يحمل الناس على هواه وعلى ما يريده، ويقهرهم على ذلك شاءوا أو أبوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجبار: هو الذي يتكبر على الناس لا يرى أحدًا لنفسه نظيرًا أو كلام نحوه. ويقال: كل قاتل آخر على الغضب بغير حق فهو جبار.
وقوله: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) يحتمل أن يكون أقصى المدينة هو سكن فرعون ومقامه، فمنه جاءه ذلك الرجل.
أو أن يكون أقصى المدينة: موطن الملأ والألثراف الذين ذكر أنهم ائتمروا على قتله.
وقوله: (يَسْعَى): والسعي: هو العَدْوُ في اللغة، كأنه يسرع المشي إليه ليخبره بذلك.
وقوله: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ).
158
وقوله: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ): جائز أن يكون سؤاله هذا بإدخاله فيما ذكر كسؤال يوسف حيث قال: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، سأل ربه التوفي على الإسلام والإلحاق بالصالحين؛ فعلى ذلك سؤال سليمان يشبه أن يخرج على ذلك.
ثم فيه دلالة أن النجاة ودخول الجنة إنما يكون برحمة اللَّه لا بالعمل حيث قال: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ) بعدما سأل ربه العمل الصالح المرضي.
وقوله: (أَوْزِعْنِي) أي: ألهمني، والإيزاع: الإلهام، والوزع: الكف والسوق.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وأصل الإيزاع: الإغراء بالشيء؛ يقال. أوزعته بكذا، أي: أغريته وهو موزع بكذا ومولع بكذا.
* * *
قوله تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨)
وقوله: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ): عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قال: " تدرون كيف تفقد سليمان الهدهد؟ ثم قال: إنه إذا كان في فلاة من الأرض، دعا الهدهد وسأله عن بعد الماء في الأرض وغوره، فهو يعلمه من بين غيره من الطيور؛ لذلك تفقده وسأل عن حاله ".
وذكر أنه سأل ابن سلام عن ذلك، فأخبر بذلك.
لكن هذا بعيد؛ لأن سليمان - صلوات اللَّه عليه - كانت له الريح مسخرة، ذكر أنها كانت تحمله وتسير به كل غداة مسيرة شهر وكل عشية كذلك، وهو قوله: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)؛ فلا يحتمل أنه إذا وقعت له الحاجة إلى الماء ألا يبلغ إلى الماء حتى يحتاج إلى أن يحفر له البئر، فيستخرج منه الماء، وما كان له من
الشياطين والجن مسخرين له مذللين حتى قال واحد منهم: (أَنَا آتِيكَ بِهِ) يعني: عرش بلقيس (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ)، وقال الآخر: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، فمن له سلطان وقوة على القدر الذي ذكر لا يحتمل أن يقع له الحاجة إلى الماء، وإذا وقعت لا يحتاج إلى أن يتكلف وصوله إليه بالهدهد مع تكلف الحفر في الأرض، هذا يبعد بمرة - واللَّه أعلم - إلا أن يخرج على الامتحان، ويكون تفقده الطير لما كان عليه حفظهم جميعًا، ومنعه إياهم عن الانتشار في الأرض والتفرق، لا لما ذكروا هم - واللَّه أعلم - لما على كل ملك وأمير حفظ رعيته وحاشيته، والتفقد عن أحوالهم وأسبابهم؛ فعلى ذلك هذا.
ثم يحتمل أن يكون من كل صنف من الطير واحد لا عدد حتى قال: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ)؛ إذ لو كان عددا من الهداهد لقال: مالي لا أرى هدهدا من الهداهد، إلا أن يكون الذي فقده كان رئيسًا لغيره من الهداهد وسيدهم؛ فجائز أن يقال ذلك: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ) من بين غيرهم يغيب عن بصري ولا أدركه (أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) عنهم؛ فكأنه سأل واحدا منهم عن ذلك، فأخبر أنه من الغائبين، فعند ذلك قال: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١) فقالت الباطنية في ذلك: إن سليمان لا يحتمل أن يعذب من ليس بمخاطب في شيء، ولا يجري عليه القلم؛ فدل وعيده إياه من التعذيب والذبح أنه لم يكن هدهدا معروفًا، ولكن كان رجلا ممن يخاطب ويجري عليه القلم؛ وكذلك قالوا في النملة: إنه كان رجلا ممن يكون منه الكلام والفهم، وأما النملة المعروفة فلا يحتمل.
لكن الجواب لهم في ذلك: أن اللَّه خلق هذه الدواب والطير وغيرها من الأشياء لمنافع البشر ولحاجاتهم، فجائز تعذيبها وذبحها للرد إلى منافعهم إذا امتنعت عن الانتفاع بها، على ما تؤدب الدواب وتعذب للرياضة والتعليم؛ لردها إلى الانتفاع بها.
أو يعذبه لما يشغله عن ذكر اللَّه والقيام ببعض أموره، على ما ذكر في آية أخرى حيث قال: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ...) الآية، لما شغله عن ذكر ربه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تعذيب الهدهد على الوجوه التي ذكرنا.
ومن الناس من استدل بهذا على مخاطبة الطيور والدواب وغيرها، وتكليفها بأمور كما يكلف غيرها من الخلائق، واحتج على هذا بقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، أخبر أن الطير وغيره أمم أمثالنا، وقد أخبر في آية أخرى أنه لم تخل أمة عن أن يكون فيها نذير بقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، الأمة التي هي أمثالنا من الإنس والجن، دليله قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ
108
(يَأْتَمِرُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: يتشاورون في قتلك.
وقال الزجاج: (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي: يأمر بعضهم بعضا أن يقتلوك.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَأْتَمِرُونَ): أي يهمون في قتلك، وذكر عنه أنه قال: (يَأْتَمِرُونَ): يتشاورون بك؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
وأصل الائتمار في اللغة هو الطاعة والاتباع لما يؤمر من الفعل، كأن فرعون أمر الملأ أن يقتلوه فأطاعوه وائتمروا لأمره، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ): قال الزجاج: قوله: (لَكَ) صلة، والصلة لا
تتقدم الموصول به، ولكن معناه: فاخرج إني لك من الناصحين الذين ينصحون لك، وليس كما قال؛ الصلة تتقدم وتتأخر، وذلك ظاهر في الكلام.
وقوله: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) قد ذكرنا هذا.
دل قوله: (خَائِفًا يَتَرَقَّبُ): أن الخوف قد يكون من دون اللَّه.
وجائز أن يخاف من غيره، وليس كما يقول بعض الناس: إنه لا يسع الخوف من دون اللَّه، وحقيقة الخوف تكون من اللَّه يخاف أن ينتقم منه على يدي هذا، واللَّه أعلم.
وقوله: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): يحتمل الظالم كل مشرك؛ لأن كل مشرك ظالم.
ويحتمل قوله: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) حيث هموا قتله، وقتل موسى ذلك القبطي لم يوجب عليه القتل والقصاص؛ لأنه لم يتعمد قتله أو لم يقتله بسلاح يجب به القتل، فذكر أنهم فيما هموا قتله ظلمة.
* * *
قوله تعالى (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي
159
وَالْإِنْسِ...)، ونحوه كثير، وقوله: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، ليس في الخطاب والتكليف، ولكن في أشياء كثيرة.
وقوله: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) أي: لم يمكث طويلا حتى جاءه.
وفي حرف ابن مسعود: (فمكث غير بعيد ثم جاءه).
(فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ): كأنه سأله: أين كنت؟ فقال عند ذلك له: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ). وفي حرف أبي: (أحطت بما لم تحط به أنت ولا أحد من جنودك)، أي: بلغت ما لم تبلغ أنت، أي: علمت ما لم تعلم أنت ولا أحد من جنودك.
ثم قال: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ): لا شك فيه؛ فكأنه سأله عن ذلك النبأ، فقال عند ذلك - واللَّه أعلم -: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يؤتى الملوك على ما ذكرنا في قوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
ثم العجب من أمر بلقيس أن كيف خفي خبرها وأمرها على سليمان كل ذلك الخفاء، وكانت بقرب منه، وكانت ملكة جبارة ذات سلطان وملك، وكان يذهب في كل غدو مسيرة شهر، وفي كل رواح كذلك، كيف لم يطلع على أمرها وخبرها؟! وكانت الجن والشياطين مسخرين له ومذللين، يعملون له الأعمال الصعبة الشديدة، ويطوفون في الآفاق والأفق، وكان هو بعث إلى الدعاء إلى توحيد اللَّه، كيف خفي عليه أمرها وخبرها كل هذا الخفاء، حتى أخبره بذلك الهدهد؟! هذا - واللَّه أعلم - أمر عجيب، ومن عادة الملوك -أيضًا- أنهم يطلع بعضهم على أمور بعض، ويعلم بأحواله.
لكن يحتمل خفاء خبرها عليه لما لا يتجاسر كل أحد أن يكلمه في ذلك، وأن يعلمه عن حالها - وإن كان لا يعلم هو ذلك - إلا بعد السؤال وطلب الخبر؛ تعظيمًا له وإجلالا؛ وهكذا الملوك ليس يتجاسر كل أحد أن يخبره عن كل أمر وخبر إلا بعد السؤال إياه؛ تعظيمًا لهم وتوقيرا، فعلى ذلك أمر سليمان مع بلقيس.
أو أن يكون لأمر وسبب لم يبلغنا ذلك، ولم نشعر به.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ): إنما طلبه وتفقده؛ لأن الطير كانت تظله على رأسه من الشمس، فلما نظر إلى الطير وجد موضع الهدهد خاليا يقع عليه الشمس، فعند ذلك قال: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ).
وقالوا في قوله: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) أي: لأنتفن ريشه حتى تصيبه الشمس، فذلك هو العذاب الشديد، لكن لا نفسر ما ذلك العذاب الشديد الذي أوعده سليمان مخافة الكذب واللَّه أعلم.
109
وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
وقوله: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ (٢٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: أخذ طريفا إذا سلك ذلك الطريق وأخذ فيه خرج تلقاء مدين، أو وقع تلقاء المكان المقصود إليه.
وقوله: (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي: الطريق الذي كان يقصده ويطلبه وهو طريق مدين، وذكر أنه كان ضل الطريق.
وقوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣)
أي: ورد البئر التي كان ماء مدين من تلك البئر.
(وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أمة أي: جماعة.
وقيل: أناس من الناس يسقون أغنامهم ومواشيهم.
(وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (تَذُوَدانِ): تحبسان حتى يفرغ الناس ويصدرون ويخلو لهما البئر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تَذُودَانِ) أي: تطردان أغنامهما لتسقياها.
ثم قوله؛ (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ) يحتمل وجهين:
أحدههما: تذودان غنمهما ولا تسقيانها حتى يصدر الرعاء؛ لما لا تتركان تسقيان غنمهما مع غنم أُولَئِكَ الرعاء حتى يصدروا هم.
والثاني: لا تمنعان ذلك، ولكنهما تستحيان أن تزاحما الرجال وتختلطا بهم، فتنتظران فراغهم صدور الرعاء عنها.
فَإِنْ قِيلَ: فما بالهما لا تتخلفان وقت اجتماع القوم، وتشهدان في ذلك الوقت، ولا تنتظران خلاء البئر عنهم؟!
قيل: لما ذكر أن على رأس البئر حجرا يلقى عليه لا يطيقه إلا كذا كذا نفرا؛ وكذلك الدلو التي يستقى منها لا يطيقها إلا كذا كذا من عشرة إلى أربعين على ما ذكر، فهما تشهدان ذلك البئر وقت شهود القوم وحضورهم؛ ليتولوا هم نزح الدلو واستقاءها، ولو تخلفتا وانتظرتا خلاء البئر عنهم ثم تأتيان، لم تقدرا على نزح الماء والدلو، ورفع الحجر الذي ذكر أنه كان على رأس البئر؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله: (مَا خَطْبُكُمَا) أي: ما شأنكما وما أمركما؛ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ
160
وقوله: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: غير طويل.
وجائز أن يكون: فمكث وقتا يأتي في مثله مَن كان غير بعيد؛ لأنه إنما يعبر به عن المكان لا عن الوقت في الظاهر.
فقال: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) كأنه يريه المناصحة له والشفقة، يقول: أتيتك من العلم والخبر ما لم تأت أنت ولا أحد من - جنودك، فكيف تعذبني؟!
وفي حرف عبد اللَّه: (فمكث غير بعيد ثم جاءه).
قال أبو معاذ: مكَث: بنصب الكاف ورفعها مكُث لغتان.
وقوله: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: حق لا شك فيه، أي: عند الهدهد، وأما عند سليمان فلا؛ ألا ترى أن سليمان قال له: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، وقف في خبره لينظر أصدق ما يقول أم كذب؟
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي: عجيب.
ثم اختلف في قوله: (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: سبأ: اسم رجل تنسب القرية إليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسم بلدة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: سبأ: أبو اليمن.
فمن جعلها اسم بلدة لم يجر، ومن جعلها اسم رجل جره، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) كأنه على الإضمار، أي: وجدت امرأة تملكهم، أي: تملك أهل سبأ، ألا ترى أنه قال في آخره: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ذكر القوم في آخر الآية؛ دل أن (الأهل) كان مضمرا فيه.
وقوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي: أوتيت من كل شيء كما يؤتى الملوك من الذكور من الأسباب والهيئة وغير ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأوتيت من كل شيء في بلادها.
(وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ): قال أهل التأويل: أي: لها سرير حسن عظيم ضخم، كذا كذا ذراعًا طوله، وكذا كذا ذراعًا عرضه.
وجائز أن يكون العرش كناية عن الملك؛ كأنه قال: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي: ملك
عظيم.
وقوله: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤)
(يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، أي: يعبدون الشمس من دون اللَّه.
وجائز: يطيعون للشمس ويخضعون لها من دون اللَّه.
وقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) الخبيثة السيئة حتى رأوها حسنة (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ): وهو سبيل اللَّه؛ لأن السبيل المطلق هو سبيل اللَّه وهو الإسلام، والكتاب المطلق كتاب اللَّه.
وقوله: (فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ): فإن كان هذا القول من الهدهد؛ فتأويله: فصدّهم عن السبيل فهم غير مهتدين؛ لأنه لا يحتمل أن يعرف أنهم لا يهتدون في حادث الوقت.
وإن كان من اللَّه فهو إخبار أنهم لا يهتدون أبدا، لما علم أنهم لا يهتدون، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اختلف في تلاوته بالتخفيف والتشديد: فمن قرأه بالتشديد: (أَلَّا يَسْجُدُوا) فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: على طرح (لا) كأنه يقول: فهم لا يهتدون أن يسجدوا، أي: هم لا يهتدون أن يسجدوا.
والثاني: صلة قوله: (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) لئلا يسجدوا.
ومن قرأ بالتخفيف فهو يخرج على الأمر، أي: ألا فاسجدوا لله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألا - بالتخفيف -: هلا يسجدون لله؛ وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ: (هلا يسجدوا لله)، وهو حجة من قرأه بالتخفيف.
وفي حرف أبي: (ألا تسجدوا لله)، بالتاء على المخاطبة إلى قوله: (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ). وذكر في حرف حفصة: (ألا يسجدون) بالنون.
قال الكسائي: ومن شدد (ألَّا) فتأويله: زين لهم الشيطان ألا يسجدوا على ما ذكرنا.
وأما التخفيف فهو على وجه الأمر، أي: اسجدوا و (أَلَا) صلة والياء صلة أيضا -
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: من قرأه بالتخفيف يلزمه السجود؛ لأنه أمر.
وأما من قرأه بالتشديد فلا يلزم.
لكن عندنا سواء يلزمه السجود بالتلاوتين جميعًا؛ لأنه لا يحتمل أن يلزم السجود فيما يأمر غيره بالسجود، ولا يلزم فيما يخبر عنهم أنهم لا يسجدون، بل لزوم السجود فيما يخبر أنهم لا يسجدون أولى؛ خلافًا لصنيعهم وإظهارًا للطاعة لله في ذلك، واللَّه أعلم.
111
الرِّعَاءُ)؛ لما ذكرنا.
وقرئ: (يُصْدِرَ) بنصب الياء وبالرفع جميعًا.
فمن قرأه بالنصب فإنه يقول: حتى يصدر الرعاء بأنفسهم أي: يرجع.
ومن قرأه بالرفع، أي: حتى يصرفوا ويرجعوا أغنامهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ): تذكران - واللَّه أعلم - عذر أبيهما في التخلف عن سقي الغنم، وإرساله إياهما في ذلك دون تولي ذلك بنفسه، وقالا: ذلك لكبره وضعفه ما يتخلف عن ذلك ويرسلهما، وإلا لا معنى لذكر كبر أبيهما بلا سبب يحملهما على ذلك سوى ما ذكرنا.
وجائز أن يكون لمعنى آخر لا نعلمه.
وقوله: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) دل أن البئر التي كانت تسقى الماشية منها كانت في الشمس؛ حيث أخبر أنه سقى لهما ثم تولى إلى الظل.
وفيه أن لا بأس بأن يجلس في الظل.
وقوله: (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) قيل: إن هذا منه شكاية عما أصابه من الجوع؛ لأنه ذكر أنه خرج من المصر إلى مدْين هاربًا من فرعون وقومه، غير متزود، وهو مسيرة ثماني ليال.
وفيه دلالة أن لا بأس للرجل أن يخبر ويذكر عما هو فيه من الشدة والبلاء، حيث ذكر موسى حاله التي هو فيها من الجوع الذي أصابه؛ وكذلك ما قال في آية أخرى: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)، وذلك يرد قوال من - يقول: إن مثل هذا يخرج مخرج الشكاية عن اللَّه، ولو كانت شكاية لكان موسى لا يقول ذلك ولا يذكره.
وقوله: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)
قوله: (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)؛ مشي من لم يعتد الخروج.
أو (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، أي: تمشي مشي من لم يخالط الناس على، التستر والتغطية.
(قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا): (هذا يدل على أن لا بأس أن يؤخذ على المعروف الذي صنع إلى آخر أجر، والأفضل على من صنع إليه المعروف والتبرع أن
161
[ الآية ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء ﴾ اختلف في تلاوته بالتخفيف والتشديد١.
فمن قرأ بالتشديد ﴿ ألاَّ ﴾ فهو يخرج على وجهين :
أحدهما : على طرح : لا، كأنه يقول : فهم لا يهتدون أن يسجدوا، أي هم لا يهتدون أن يسجدوا.
والثاني :[ على ]٢ صلة قوله :﴿ فصدهم عن السبيل ﴾ لئلا يسجدوا.
ومن قرأ بالتخفيف فهو يخرج على الأمر، أي ألا يا اسجدوا لله٣.
وقال بعضهم : ألا بالتخفيف : هلا يسجدون لله. وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ : هلا يسجدون لله، وهو حجة من قرأ بالتخفيف. وفي حرف أبي : ألا تسجدون لله بالتاء على المخاطبة على قوله :﴿ ويعلم ما تخفون وما تعلنون ﴾.
وذكر في حرف حفصة : ألا تسجدون بالنون.
قال الكسائي : ومن شدَّد ﴿ ألاّ ﴾ فتأويله : زين لهم الشيطان ألا يسجدوا على ما ذكرنا. وأما التخفيف فهو على وجه الأمر، أي اسجدوا، وألاَ : صلة، ويا : صلة أيضا.
ثم قال بعضهم : من قرأ بالتخفيف يلزمه السجود لأنه لا يحتمل أن يلزم السجود بما يأمر غيره بالسجود، ولا يلزم في ما يخبر عنهم أنهم لا يسجدون. بل لزوم السجود في ما يخبر أنهم لا يسجدون أولى خلافا لصنيعهم وإظهارا للطاعة لله في ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ يخرج الخبء في السماوات والأرض ﴾ الخبء ما يخبأ من الشيء مما٤ كان. قال بعضهم : خبأ في السماء المطر، فيخرج، وفي الأرض النبات، فيخرج ذلك النبت. ويحتمل الخبء ما يخبئ بعضهم من بعض، ويسار٥ بعضهم بعضا. يخبر أنه يظهر ذلك، ويعلنه٦. ألا ترى أنه قال :﴿ ويعلم ما تخفون وما تعلنون ﴾ على الوعيد ليكونوا على حذر أبدا ؟ وفي حرف حفصة : ألا يسجدون لله الذي يعلم غيب السماوات والأرض.
١ - انظر معجم القراءات القرآنية ج٤/٣٤٦ و٣٤٧..
٢ - ساقطة من الأصل وم..
٣ - أدرجت العبارة التالية في نسخة الحرم المكي: ينبغي على التالي أن يقف على قوله: ألا يا، ثم يبتدئ، فيقول: اسجدوا على الأمر، إلا أنه عند الوصل تذهب ألف الوصل التي في: اسجدوا، وتذهب الألف التي في: يا لأنها ساكنة أيضا، ولا يجمع بين ساكنين، فصارت: ألا يسجدوا، وأنشد لذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلــى * * * * ولا زال منــهلا بجــرعــائـك الـــقطــر
انظر الديوان ج١/٥٥٩..

٤ - من م، في الأصل: ما..
٥ - في الأصل وم: ويسر..
٦ - في الأصل وم: ويعلمه..
وقوله: (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الخبء: ما يخبأ من الشيء ما كان.
قَالَ بَعْضُهُمْ: خبأ في السماء المطر فيخرج، وفي الأرض النبات فيخرج ذلك النبت.
ويحتمل الخبء ما يخبئ بعضهم من بعض وشر بعضهم بعضا، يخبر أنه يظهر ذلك ويعلمه؛ ألا ترى أنه قال: (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) على الوعيد؛ ليكونوا على حذر أبدًا.
وفي حرف حفصة: (ألا يسجدون لله الذي له الغيب في السماوات والأرض).
وقوله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) ذكر هذا - واللَّه أعلم - جواب قوله: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، يقول: رب العرش العظيم هو اللَّه الذي لا إله إلا هو، لا هي، أعني: بلقيس.
وقوله: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٧) أي: ننظر أصدقت فيما أخبرت وأتيت من أمر بلقيس، أم كنت من الكاذبين في ذلك؟ وقف في خبره، ولم يصدقه ولم يكذبه إلى أن يظهر له الصدق أو الكذب؛ وهكذا الواجب على كل من أخبر بخبر أن يقف فيه إلى أن يظهر له الحق في ذلك، إذا كان الخبر ممن يحتمل الغلط والكذب.
ثم قال له: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨) لا يحتمل أن يكون سليمان أمر الهدهد بذهاب الكتاب إليها ويوليه تبليغ ذلك إليها، وهو أعظم من خبره الذي أخبره بذلك بعدما وقف في خبره قبل أن يتبين ويظهر له صدقه في خبره؛ فدل توليته إياه تبليغ الكتاب إليها أنه قد ظهر له صدقه فيما أخبره من أمر تلك المرأة، إما بوحي من اللَّه تعالى إليه، أو انتهى إليه من الخبر ما قد علم بذلك علم يقين وإحاطة، فعند ذلك ولاه تبليغ الكتاب إليها حيث قال له: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ).
وقوله: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) يحتمل وجهين:
أحدهما: ألق الكتاب إليهم ثم تول، أي: استتر واختف عنهم، فانظر ماذا يقولون، وماذا يرددون فيما بينهم من الكلام والجواب؟
والثاني: على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ألق الكتاب إليهم، فانظر ماذا يرجعون من الجواب؟ ثم تول عنهم، أي: أعرض عنهم؛ ففعل ما قال له سليمان من إلقاء الكتاب إليها، وإن لم يذكر في الآية.
* * *
قوله تعالى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
112
يعطي لمعروفه وتبرعه بدلا وأجرا، والأفضل على المتبرع وعلى صانع المعروف ألا يأخذ على ذلك بدلا، إلا أن موسى كان قد اشتدت به الحاجة؛ لذلك كان ما ذكر وأخذ لمعروفه ما ذكر بدلا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي: لما جاء موسى أبا المرأتين وقص عليه قصته قال لي: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
دل قوله هذا لموسى: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): أنه لم يكن لفرعون على ذلك المكان سلطان ولا يد؛ إذ لو كان له سلطان لكان له فيه الخوف الذي كان من قبل، ولم يكن نجا موسى منه، دل أنه لم يكن له عليهم سلطان.
وقوله: (الظَّالِمِينَ) يحتمل: المشركين؛ إذ كل مشرك ظالم.
ويحتمل (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): الذين يقتلون بغير حق حيث قال: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وقوله: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قال أهل التأويل: قال أبوهما لما قالت له استأجره فإنه قوي أمين: ما قوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته: فإنه رفع الحجر من رأس البئر وحده، وكان لا يطيقه إلا كذا كذا نفرا، ونزح الدلو من البئر وحده، وكان لا يطيق نزحه إلا كذا كذا؛ فذلك قوته.
وأمَّا أمانته: فإنه قال لي: امشي خلفي وصفي لي الطريق؛ فذلك أمانته.
ولكن قد كانت تعرف أمانته قبل ذلك لما جرى بينه وبينهما من المعاملة حين قال لهما: (مَا خَطْبُكُمَا)، وحين سقى لهما في مثل هذا تعرف أمانته في ترك النظر إليهما، وترك الاعتراض لما يوجب التهمة، واللَّه أعلم.
وقولها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) كأن أباها كان في طلب أجير قوي أمين، لكنه لا يجد ولا يظفر به؛ لذلك قالت له: (اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) إذ لا يحتمل أن يكون له ماشية وله غناء وبه حاجة إلى رعي ذلك وسقيه، وقد بلغ في نفسه من الكبر والضعف ما ذكر، يرسل ابنتيه في الرعي والسقي، ولا يستأجر الأجير ليتولى ذلك دون بناته، هذا لا يحتمل ذلك، وخاصة مع ما وصف ابنته من الحياء حيث قال: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) دل ذلك أنه كان في طلب الأجير، وإنما أرسل ابنتيه في سقي الغنم وهو مضطر إلى ذلك محتاج إليه؛ لذلك قالت له: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ
162
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
ثم قال: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) طلبت هي الاستئجار، وهو عرض عليه النكاح لما لم ترغب هي في النكاح، أو طلبت الاستئجار ولم تُرِ من نفسها الرغبة في النكاح، وإن كانت لها الرغبة حياء، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ): يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه جعل عمله ثماني حجج بدلا للنكاح ومهرا لبضعها.
ثم تحديده ثماني حجج لما رأى عمل ثماني سنين مهر مثلها.
وقوله: (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ) أي: فإن أتممت عشرًا وزدت على مهر المثل فمن عندك، أي: لك ذلك فضل منك وإحسان.
والثاني: قوله: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ليس على جعله بدلا للنكاح، ولكن على الإجارة المعروفة على أجر معلوم على حدة، من غير أن كان ذلك مهرا لها.
ثم التحديد بثماني سنين على هذا الوجه يخرج على إحدى خلتين:
إحداهما: أنه لما قص عليه قصته علم أنه لا يقدر على العود إلى المصر، ورأى أنه لا يأمن تلك الناحية بدون ما ذكر من المدة.
أو لما رأى أن نفسه تنزع وتشوق بالعود في ذلك الوقت فشرط ذلك عليه لئلا يحدث نفسه بالرجوع إليه إلى ذلك الوقت.
وقوله: (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ) أي: فإن زدت سنتين على ذلك فمن فضلك وإحسانك (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) في الزيادة على ذلك كله، واللَّه أعلم.
ثم قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في جميع ما يجري بينك وبيني من المعاملة والصحبة.
وفيه أن الثنيا فيما يعدون كان ظاهرًا في الأمم السالفة.
ثم اختلف في أبي المرأتين:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان شعيبا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ابن أخي شعيب.
وقال الحسن: لم يكن شعيبا، ولكنه كان سيّد الماء يومئذ.
وليس لنا إلى معرفة من كان حاجة، أما شعيب فإنه لم يكن في زمن موسى، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَالَ ذَلِكَ... (٢٨) يعني: الشرط - واللَّه أعلم - (بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) أي: أوفيت وعملت، إما الثماني وإما العشر (فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ) يقول: لا سبيل لك عليَّ بعد ذلك ولا تبعة، والعدوان: هو الظلم والمجاوزة عن الحد الذي حد له يقول: لا ظلم عليَّ ولا مجاوزة على أي الاختيارين قضيت، أي الأجلين اخترت وشئت لنا.
ثم قال: (وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: واللَّه كفيل على مقالتي ومقالتك، والوكيل: هو الشهيد أو الحافظ، كأنه يقول: واللَّه على ما نقول شهيد.
ذكر أن جبريل جاء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إن سُئلت: أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: أبرهما وأوفاهما، وإن سُئلت: أي المرأتين تزوج؟ فقل: أصغرهما ".
فإن ثبت هذا، ففيه أنه قضى الأجلين جميعًا: الثماني والعشر، وليس في الآية إلا قضاء الأجل حيث قال: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ).
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) أي: تجازيني من التزويج والأجر من اللَّه إنما على الجزاء على العمل.
قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥)
وقوله: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) قال أهل التأويل ما ذكرنا: أنه قضى أتمهما أو أكثرهما
بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
حيث قالت: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩) فكأنهم قالوا: ممن ذلك الكتاب؛ فقالت عند ذلك (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ).
وقوله: (كِتَابٌ كَرِيمٌ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: حسن؛ لما رأت فيه من الكلام الحسن والقول اللطيف.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كِتَابٌ كَرِيمٌ) أي: مختوم، وقد ذكر في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كرم الكتاب ختمه " أو كلام نحو هذا أو شبهه.
وجائز أن يكون فيه إضمار، أي: إني ألقي إليَّ كتاب من إنسان كريم، وسليمان كان معروفًا بالكرم، يشبه أن يكون قد أتاها خبر كرمه.
و (الْمَلَأُ) قالوا: هم الأشراف وأهل السؤدد.
وقال الزجاج: سموا لما اجتمع عندهم من حاجات الناس، وحسن الرأي والتدبير في كل شيء من الأمور، أو كلام نحو هذا.
وقوله: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) هو ما ذكرنا كأنهم سألوها ممن ذلك الكتاب؛ فقالت: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ)، وسألوها -أيضًا-: ما في ذلك الكتاب؛ فقالت: (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قوله: (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) أي: لا تتكبروا ولا تتعظموا عليَّ.
(وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ): مخلصين لله بالتوحيد، أي: اجعلوا أنفسكم سالمة لله خالصة له، لا تجعلوا لأحد سواه فيها شركا ولا حقا؛ لأنه أخبر أنهم كانوا يسجدون للشمس من دون اللَّه فيخبر في الكتاب، حيث افتتح ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أن الذي يستحق السجود والعبادة هو اللَّه الرحمن الرحيم لا ما تعبدون أنتم.
ثم إن من عادة الأنبياء والرسل الإيجاز في الكلام والرسائل، لا يشتغلون بفضول الكلام وتطويله، على ما ذكر من كتاب سليمان إلى بلقيس: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ذكر هذا القدر كان الكتاب، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) استشارت أشراف قومها وطلبت منهم الرأي في ذلك، وهكذا عمل الملوك وعادتهم أنهم إذا أرادوا
لكن لا نعلم التأويل الصحيح، فعلى ما ذكروا، وليس في الآية إلا قضاء الأجل؛ فلا يزاد على ذلك إلا بثبت، فإن ثبت ما روي من الخبر، فهو واللَّه أعلم.
وقوله: (وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) (آنَسَ): قيل: أبصر وأحس نارًا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى لم يكن رأى نارًا، ولكن إنما رأى نورًا ظن أنه نار، فلا يحتمل ذلك؛ لأنه أخبر أنه آنس نارًا، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة نارًا لم يجز، وكان ذلك يوجب الكذب في الخبر، إلا أن يقال على الإضمار: آنس من جانب الطور نورًا ظن أنه نار، أو في ظنه أنه نار.
(قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) أي: امكثوا لعلي آتيكم منها بخبر يدلنا أو بجذوة تضيء الطريق؛ فكأنه قد ضل الطرلق فيقول: لعلي آتيكم منها بخبر الطريق أو جذوة من النار، أي: آتيكم بجذوة من النار، وهي ما رغبتم فيه ولم آتكم بخبر الطريق (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) هذا يدل أنه كان في أيام الشتاء، وفي وقت البرد: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأيمن: أي: عن يمين الجبل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: عن يمين موسى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يمين الشجرة، ولكن الأيمن: المبارك، وهو من اليمن، الوادي اليمن.
والبقعة المباركة: قال بعض أهل التأويل: سميت مباركة؛ لكثرة أشجارها وأنزالها، وكثرة مياهها وعشبها، ولكن سماه: مباركًا وأيمن - واللَّه أعلم - لأنه مكان الأنبياء والرسل وموضع الوحي.
وقوله: (مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ولله أن يسمع ويخبر من شاء مما شاء وكيف شاء كما أسمع مريم من تحتها حيث قال: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي)،
وقوله: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ... (٣١) ليس هذا بموصول بقوله: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ولكن ذلك ما ذكر في سورة طه: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ...)، إلى آخر ما ذكر.
ثم قال في آخره: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ) أي: تتحرك (كَأَنَّهَا جَانٌّ) وقال بعضهم: الجان: الحية الصغيرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجان ما يعم العظيمة والصغيرة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَّى مُدْبِرًا) فارا هاربًا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي: لم يلتفت ولم يرجع لشدة خوفه وفرقه.
وقوله: (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).
قوله: (وَلَا تَخَفْ) ويحتمل وجوهًا:
أحدها: على رفع الخوف من قلبه؛ إذ قال: له الأمن فيه.
والثاني: على البشارة أنه لا يؤذيه؛ كأنه يقول: لا تخف وكن من الآمنين، فإنه لا يؤذيك.
والثالث: على النهي، أي: لا تخف؛ فإني أحفظك وأدفع أذاه عنك؛ كقوله: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى. قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، أسمع ما يقول لكما، وأرى ما يفعل بكما، وأدفع ذلك عنكما.
وقوله: (أو جذوة) بكسر الجيم ورفعها؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: عود قد احترق بعضه.
وقال قتادة: أصل شجرة فيها نار.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجذوة: مثل الشهاب سواء، والجذى: جمع الجذوة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجذوة: القطعة الغليظة.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الجذوة: عود قد احترق، أي: قطعة منها.
وشاطئ: أي شط الوادي.
آنست: أبصرت، وكذلك قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)، أي. أبصرتم وعلمتم.
وقوله: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢) على ما ذكر في آية أخرى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) هذا يدل أن لا بأس بتغيير الألفاظ واختلافها بعد إصابة المعنى وما قصد بها.
وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) قد ذكرناه فيما تقدم.
[ الآية ٣٢ ] وقوله تعالى :﴿ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ﴾ استشارت أشراف قومها، وطلبت منهم الرأي في ذلك. وهكذا عمل الملوك وعاداتهم : أنهم إذا أرادوا أمرا، أو استقبلهم أمر، يستشيرون أولي الرأي من قومهم وأهل الحجا والتدبير منهم، ثم يعملون بتدبير، يكون لهم، وما يرون ذلك صوابا.
وعلى ذلك أمر الله رسوله أن يشاور أصحابه بقوله :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ [ آل عمران : ١٠٩ ] ثم أمره إذا عزم على الأمر أن يتوكل على الله في ذلك، وأن يكل الأمر إليه ﴿ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ﴾ وقوله تعالى :﴿ حتى تشهدون ﴾ يحتمل وجهين } ﴿ ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ﴾ تحضروني. أو ﴿ ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ﴾ أنه صواب حق. فأجابوها في ما طلبت منهم الرأي والتدبير في ذلك.
أمرا أو استقبلهم أمر يستشيرون أولي الرأي من قومهم وأهل الحجى والتدبير منهم، ثم يعملون بتدبير يكون لهم وما يرون ذلك صوابًا؛ وعلى ذلك أمر اللَّه رسوله أن يشاور أصحابه بقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، ثم أمره إذا عزم على الأمر أن يتوكل على اللَّه في ذلك، وأن يكل أمره إليه.
وقوله: (حَتَّى تَشْهَدُونِ): يحتمل وجهين:
ما كنت قاطعة أمرا حتى تحضروا.
أو ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدوا أنه صواب حق.
فأجابوها فيما طلبت منهم الرأي والتدبير في ذلك، فقالوا: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣) أي: نحن أولو قوة في أنفسنا وأولو بأس شديد، أي: حرب وقتال شديد، أي: لنا معرفة في ذلك، ومع ما قالوا وكلوا الأمر إليها حيث قالوا: (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ)، وهكذا الواجب على وزراء الملوك والرعية أنهم إذا استشاروهم في أمر أن يدلوهم على الأصوب والحسن لهم، ثم يكلوا الأمر إليهم.
وقصة سليمان صلوات اللَّه عليه مع ما فيها من العجائب والآداب، ففيها معرفة سياسة الملوك وتعلم آدابهم؛ من ذلك: ما قال سليمان: (فَهُم يُوزَعُونَ)، ومن ذلك قوله: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ...) الآية، وقوله: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا)، أو من ذلك استشارة بلقيس أشراف قومها في ذلك وجوابات قومها لها، وإخبارها إياهم من طبع الملوك وعاداتهم من الإفساد والقتل والإذلال؛ حيث قالت: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) قال أهل التأويل: هذه شهادة من اللَّه لها بما قالت، والتصديق لها فيما أخبرت أنهم كذلك يفعلون بكبرائهم.
ثم قال: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) ذكر أنها قالت: إن لي في هذا رأيا، فإن يك صاحب دنيا فعسى أن نرضيه بالمال فيسكت عنا ويكف شره، وإن يكن نبيا فلا يقبل ذلك منا وسنعرف، فعملت ذلك وأرسلت إليه بهدايا، فلم يقبلها سليمان فعرفت أنه نبي، وهذا كان منها تدبيرًا أو حسن الرأي في الأمر واحتيالا وفقت في ذلك، لم تشتغل بالحرب والقتال على ما أشار لها قومها.
وقال ابن عَبَّاسٍ: " قالت بلقيس لما أتاها كتاب سليمان، واستشارت قومها في ذلك وطلبت فتياهم، فأفتوا لها بما أفتوا - قالت: أبعث إليه بهدية، فإن قبلها فهو ملك فأحاربه، وإن لم يقبلها فهو نبي أتابعه ".
114
وقوله: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرُّهْبِ) بالضم، والرهب بالفتح؛ قد قرئ بهما جميعًا.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير، قوله: (مِنَ الرَّهْبِ) موصول بقوله: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من الرهب، أي: الخوف والغرق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمره أن يضم يديه إلى نفسه؛ لأن ذلك أخوف وأهيب وأعظم من إرسالهما، وذلك معروف أيضًا في الناس أنهم إذا دخلوا على ملك من الملوك ضموا أيديهم وجناحيهم إلى أنفسهم؛ تعظيمًا لهم وتبجيلا، أو خوفًا منهم.
فعلى ذلك جائز أن يأمره بضم يديه إلى نفسه؛ ليكون بين يدي ربه أهيب وأخوف ما يكون، وأعظم ما يجب له، وهو ما قال له: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى).
وقوله: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ) أي: اليد والعصا، اللتان ذكرهما (بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ) أي: حجتان (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ).
وقوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) وقال في سورة الشعراء: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ...) إلى قوله: (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)، أخر في هذا ما كان مقدمًا في الذكر في ذلك، وذكره على اختلاف الألفاظ وتغيير الحروف؛ ليعلم: أن ليس على السامع حفظ الألفاظ والحروف بعد إصابته المعنى، وفهم ما قصد بها وأودع فيها؛ لأن اللَّه ذكر هذه الأنباء والقصص التي كانت من قبل في القرآن على اختلاف الألفاظ، وتغيير الحروف، على التقديم والتأخير، والزيادة والنقصان؛ ليعلم أن المقصود والمراد بذكرها ما فيها، لا عين اللفظ والحروف، فإذا عرف ما فيها وفهم جاز الأداء بأي لسان كان، وبأي لفظ كان، واللَّه أعلم.
وقوله: (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا (٣٤) يحتمل وجوهًا:
أحدها: أما أهل التأويل فإنهم قالوا: كان في لسانه رتَّة أي: عقدة لما أدخل في فمه من النار؛ فذلك لا نعلمه، وقد قال في آية أخرى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي)، فيجوز أن يكون ذلك خلقة خلقه هكذا، على ما خلق بعض الخلق أفصح وأبين من بعض.
أو أن يكون لما ذكر له من الخوف والذنب ما لم يكن ذلك لهارون، ولا شك من اشتد به الخوف منع صاحبه عن التكلم والبيان، وذلك متعالم معروف في الناس، وهو ما قال:
167
[ الآية ٣٤ ] ﴿ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ﴾.
قال أهل التأويل : هذه شهادة من الله لها بما قالت، والتصديق لها في ما أخبرت أنهم كذلك يفعلون بكبرائهم.
(إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ...) الآية.
أو أن يكون ذلك لأن نشوء هارون كان فيهم وهم بلسانه أعرف، ومنطقه أفهم، ولموسى فترات كان معتزلا عنهم.
وقوله: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا) أي: عونًا (يُصَدِّقُنِي) ثم بيِّن في آية أخرى أنه فيم طلب منه عونا؛ وهو ما قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي...) الآية، أي: يصدقني فيما أقول إذا كذبوني هم، أو أستأنس به إذا ضاق صدري بالتكذيب والرد، فأجابه ربه فقال: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥) كناية وعبارة عن القوة والعون؛ لأن القوة فيه تكون؛ فذكر فيمن تكون، وهو كقوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)، ذكر الأقدام، لأنه بالأقدام يثبت، وقوله: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)، لأنه بالعقب ينكص، ومثله كثير، فعلى هذا ذلك.
وقوله: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا) قال قائلون: هو على التقديم والتأخير، أي: نجعل لكما سلطانا، أي: نجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ونجعل لكما سلطانًا باللطف ندفع عنكما أذاهم وشرهم؛ كقوله: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، أي: أسمع ما يقول لكما، وأرى ما يفعل بكما، وأدفع ذلك عنكما فلا يصلون إليكما بالآيات التي معكما.
وقوله: (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) يحتمل هذا وجوهًا:
الغالبون بالحجج والبراهين، أي: تغلب حجتكما سحرهم وتمويهاتهم.
أو أن يكون عاقبة الأمر لكما.
أو أن يكون ذلك في الآخرة.
قال أبو معاذ: العرب تقول: أردت الرجل: أي: أعنته.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي: أعينك به وأقويك، والعضد: كناية عن القوة؛ لأته فيه تكون القوة، وبه يقوى من يوصف بالقوة؛ على ما ذكرنا.
* * *
قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَنَاظِرَةٌ) يقال: أنظرته نظرة، أي: أمهلته، والنظرة في الدَّين خاصة وهو الإنظار.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (٣٧) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١)
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ): الرسول الذي بعثت معه بلقيس الهدية.
ويحتمل: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ) المال الذي بعثت إليه؛ يحتمل ذا أو ذا.
وقوله: (قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) أي: أتعطونني بمال، وقال أهل الأدب: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) من المدد، والمدد الزيادة كما يمد القوم، ويكون الإعطاء كقوله: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، ويحتمل هذه الزيادة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) أي: ما آتاني اللَّه من النبوة والعلم والحكمة خير مما آتاكم من الأموال.
ويحتمل: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ) فأوتيكم إذا أتيتموني مسلمين (خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ)؛ إذ لم تؤتوني وأوتيتم الإسلام، أو كلام نحو هذا.
وقال بعض أهل التأويل: فما آتاني اللَّه من الملك خير مما آتاكم من الملك؛ لأنه سخر له الجن والإنس والشياطين والطيور والرياح وجميع الأشياء، فذلك خير له وأعظم من ملكها.
والأول أشبه وأقرب؛ إذ لا يحتمل أن يفتخر سليمان بملكه على غيره، إنما يكون افتخاره بالدِّين والنبوة، واللَّه أعلم.
وقوله: (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: بل أنتم بهديتكم تفرحون إذا ردت إليكم، لكن هذا بعيد: لا تفرح برد الهدية إذا ردت إليها، ولم تقبل بل تحزن على ذلك وتهتم، لكنه يقول - واللَّه أعلم - بل أنتم أولى بالفرح بالمال والهدايا منا؛ إذ مرادكم المال والدنيا، ومرادنا الدِّين ودار الآخرة، أو كلام نحو هذا، واللَّه أعلم بذلك.
115
الْكَاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ... (٣٦) أي: جاء موسى فرعون وقومه بآياتنا، أي: أعلافا أنشأها موضحات، مظهرات يظهرن، ويوضحن رسالة موسى ونبوته، وقد أظهرن لهم ذلك وعرفوا أنها آيات من اللَّه نزلن؛ أفلا ترى أن موسى قال له يا فرعون: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) لكنهم عاندوا وكابروا، وقالوا: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى)؛ هذا منهم تمويه وتلبيس على الأتباع والسفلة، ولم تزل عادتهم التمويه والتلبيس على أتباعهم أمر موسى.
وهّوله: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) يقولون - واللَّه أعلم -: إن آباءنا قد عبدوا الأصنام على ما نعبد نحن، وقد ماتوا على ذلك من غير أن نزل بهم ما توعدنا من الهلاك والعذاب، فعلى ذلك نحن على دين آبائنا، وعلى ما هم عليه؛ فلا ينزل بنا شيء مما تذكر وتوعدنا به من العذاب.
ثم قال موسى: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) هذا - واللَّه أعلم - كأنه ليس بجواب لقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) ويكون جواب هذا إن كان هو قوله: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كنى بالظلم عن السحر؛ يقول - واللَّه أعلم - ليس بسحر؛ لأني قد غلبتكم وقهرتكم، وقد أفلحت أنا، ولو كان سحرًا ما أتيتكم به لم أفلح؛ إذ اللَّه - تعالى - أخبر أن الساحر لا يفلح بقوله: (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)، وقال -أيضًا-: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ...) الآية، وقد أصلح عملي؛ فظهر أنه ليس بفساد، ولكنه صلاح.
ويكون جواب قوله: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) ما ذكر في سورة (المص)، حيث قالوا: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)، فقال عند ذلك: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) أنتم أو نحن؛ يقول: ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده جوابًا لقوله: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (٣٨) كأنه قال للملأ
169
وقوله: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (٣٧) قال ذلك - واللَّه أعلم - للرسول الذي أتاه بالهدية: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَ)، أي: لنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بها إن لم يأتوني مسلمين، (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) إن لم يأتوني مسلمين.
ثم قال سليمان - عليه السلام -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) إنما خاطب به أشراف قومه، وهكذا العادة في الملوك أنهم إذا خاطبوا أحدًا بثيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمنزلة منهم.
(أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ): قال بعض أهل التأويل: إنما قال هذا لأنه علم نبي اللَّه متى أسلموا يحرم أموالهم مع دمائهم، فأحب أن يؤتى به قبل أن يحرم ذلك عليه، لكن هذا محال بعيد وفحش من القول لا يحتمل أن يكون رغبة سليمان في الأموال هذا الذي ذكر بعدما رد هداياها إليها، وأخبر: إنكم تفرحون بها؛ لأنكم أهل دنيا؛ إذ رغبة أهل الدنيا في الأموال، ونحن أهل الدِّين رغبنا في الدِّين به نفرح، ويستعجل كل هذا الاستعجال رغبة في مالها وعرشها.
لكنه - واللَّه أعلم - يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه أراد أن يريهم قوته وسلطانه أن يرفع واحد من جنوده عرشها - مع عظمه - بمعاينة منهم ومشاهدة وحمله من بينهم؛ ليعلموا أن من قدر على ذلك لقادر أن يأتيهم بجنود لا طاقة لهم تصديقًا لما قال: (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا)، ويقدر على قهرهم وغلبتهم.
والثاني: أراد أن يريهم آية من آيات نبوته إذا أتوه (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)؛ ليعلموا أنه نبي ليس بملك.
وهذا التأويل الذي ذكرنا آية، لكنه قبل أن يأتوه؛ ليعلموا أنه نبي ليس بملك.
وقوله: (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي: مصالحين، وذلك جائز في اللغة.
وقوله: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: مقامه: مجلسه الذي كان يقضي فيه إلى أن يفرغ من قضائه حتى يؤتى به.
(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ): لأن الجن أقوى من الإنس وصف نفسه بالأمانة؛ لأن الجن لا يرغبون في الأهوال ما يرغب الإنس.
[ الآية ٣٨ ] ثم قال سليمان عليه الصلاة والسلام :﴿ يا أيها الملأ ﴾ إنما خاطب به أشراف قومه. وهكذا العادة في الملوك أنهم إذا خاطبوا أحدا بشيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمنزلة منهم ﴿ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ﴾ قال بعض أهل التأويل : إنما قال هذا لأنه علم، نبي الله، أنهم متى١ أسلموا تحرم أموالهم مع دمائهم، فأحب أن يؤتى به قبل أن يكون ذلك عليه.
لكن هذا محال بعيد وحش من القول ؛ لا يحتمل أن تكون رغبة سليمان في الأموال هذا الذي ذكر بعدما رد هداياها إليها، وأخبر أنكم تفرحون بها لأنكم أهل دنيا ؛ إذ رغبة أهل الدنيا في الأموال، ونحن، أهل الدين، رغبتنا في الدين، به نفرح، ويستعجل كل هذا الاستعجال رغبة في مالها وعرشها.
لكنه، والله أعلم، يخرج على وجهين :
أحدهما : أنه أراد أن يريهم قوته وسلطانه : أن يرفع واحد من جنوده عرشها مع عظمه بمعاينة منهم ومشاهدة، وحمله من بينهم، ليعلموا إن من قدر على هذا لقادر أن يأتيهم بجنود، لا طاقة لهم [ بها ]٢ تصديقا لما قال :﴿ فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ﴾ [ وإنه ]٣ يقدر على قهرهم وغلبتهم.
والثاني : أراد أن يريهم آية من آيات نبوته إذا أتوه [ وهي أن يأتوه ] مسلمين ليعلموا أنه نبي، ليس بملك.
وهذا التأويل الذي ذكرنا آية لقوله٤ :﴿ قبل أن يأتوني مسلمين ﴾ /٣٩٠- ب/ ليعلموا أنه ليس بملك.
وقوله تعالى :﴿ قبل أن يأتوني مسلمين ﴾ أي صالحين. وذلك جائز في اللغة.
١ - من م، في الأصل: حيثما..
٢ - ساقطة من الأصل وم..
٣ - في الأصل وم: و..
٤ - في الأصل وم: لكنه..
خصوصية لهم؛ لأنه كان اتخذ للأتباع أصنامًا يعبدونها وجعل للملأ عبادة نفسه وإلهيته، لما لم ير الأتباع أهلا لعبادة نفسه جعل لهم عبادة الأصنام، ورأى الملأ أهلا لذلك؛ فخصهم، ومنه اتخذت الرب عبادة الأصنام دون اللَّه؛ لما لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة اللَّه، وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
وقوله: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) قال أهل التأويل: أول من اتخذ الآجر هو، ولا نعلم ذلك، يحتمل أن يكون من فبل ذلك.
وقوله: (فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) أي: قصرًا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) كان يعرف أنه ليس إله السماء والأرض؛ إذ لا يملك ذلك، فكأنه أراد بقوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) قومه وأهله خاصة (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) كأن جميع ما كان بين موسى وفرعون من الكلام كان على الظن؛ كقوله: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) وكذلك قال له موسى: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا).
وقوله: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) الاستكبار: هو ألَا يرى لنفسه شكلا ولا نظيرًا، وهو كذلك، كان لا يرى لنفسه شكلا ولا نظيرًا؛ لأنه يدعي لنفسه الربوبية والألوهية، واستكبار قومه لما استعبدوا هم بني إسرائيل، واستخدموهم، أو استكبروا أن يخضعوا لموسى ويجيبوا له إلى ما يدعوهم إليه.
وقوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ (٤٠) أخذناه أخذ تعذيب وإهلاك (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) يعذبون بظلمهم.
وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) ذكر في هَؤُلَاءِ: أنه جعلهم أئمة في الشر، وذكر في الرسل وأهل الخير: أنه جعلهم ألْمة في الخير؛ حيث قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، وما قال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، فكان من اللَّه - تعالى - في أهل الخير صنع ومعنى حتى صاروا بذلك أئمة الخير ما لم يكن ذلك منه بأهل الشر وأئمة السوء فيرد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لم يكن من اللَّه - تعالى - إلى الرسل وقادة الخير إلا وقد كان ذلك منه إلى كل كافر وفاسق.
فلو كان على ما قالوا لكان لا يحتمل أن يصير هَؤُلَاءِ أئمة الخير وأُولَئِكَ أئمة الشر بأعمالهم أيضًا، وإن كان ما من اللَّه إليهم على السوء، لكن يضاف ذلك إلى اللَّه بأسباب تكون منه، وكانت حقيقة ذلك منهم بعملهم؛ نحو: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمين على فرج تلك المرأة.
مقامه: مجلس الرجل يكون فيه حتى يقوم، ولكن لا ندري ما أراد بمقامه الذي ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد سليمان أن يكون أعجل من ذلك (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) ذكر أنه كان رجلا يعلم اسم اللَّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). ثم اختلف في ارتداد طرفه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يبعث رسولا إلى منتهى طرفه فلا يرجع حتى يؤتى به.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الرجل ينظر إلى الشيء البعيد قبل أن يرجع إليه طرفه.
(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: دخل في نفق الأرض، فخرج بين يدي سليمان - يعني: العرش - كأنه - واللَّه أعلم - أتاه إذ دعاه بذلك الاسم، من غير أن تكلف هو حمله أو إتيانه؛ فهذا يدل أن الآيات قد تجري على غير أيدي الرسل، لكن تكون الآية للرسول وإن كانت تجري على أيدي غيره.
ثم قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: واللَّه ما جعله فخرا ولا أشرا ولا بطرا، لكنه جعله شكرا وتواضعا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما دعا ذلك الرجل بذلك الاسم فرآه مستقرا عنده، وقع في قلب سليمان شيء وخطر بباله أنى يكون رجل عنده علم ما ليس عنده من العلم، قال: فعزم اللَّه له على الخبر.
وقيل له: إنه ممن خولك اللَّه، فقال سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)، يقول: ما أعطى ذلك الرجل ما لم يعطني (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ) إذا كان مثله تحت يدي. (أَمْ أَكْفُرُ)، لكن لا يحتمل أن يشكر اللَّه على ما أعطى غيره.
ثم يحتمل قوله: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) إتيانه أُولَئِكَ مسلمين، أو النبوة والعلم الذي آتاه اللَّه، قال: ذلك من فضل ربي، أراد: تسخير ما سخر له (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)، أي: يمتحنني أأشكر أم أكفر؟ (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)؛ ليعلم أنه إنما يمتحن بالشكر، ويأمره به لا لمنفعة الممتحن ولكن لمنفعة المأمور به.
وقوله: (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ): غني: عن شكره، كريم: يقبل القليل منه واليسير.
وقوله: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١) قال أهل التأويل: (نَكِّرُوا) أي: غيروا لها عرشها؛ كأنه أمر أن يغيروا بعض ما عليه من الزيادة والنقصان؛ ليمتحنها أتعرف أنه عرشها أم لا؟ والمنكر هو الذي لا يعرف؛ كقوله: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)، وقوله: (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)، أي: لم يعرفهم.
وقوله: (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا): كان يجيء أن يقال: نكروا عرشها، ويكون (لَهَا) زائدة، إلا أن يقال: (نَكِّرُوا لَهَا)، أي: نكروا لأجلها عرشها، وهذا يشبه أن يكون.
وقوله: (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ): قال أهل التأويل: أتهتدي أنه عرشها أو لا تهتدي إليه؟
وجائز أن يكون قوله ننظر: أتهتدي إلى دين اللَّه وتوحيده، أم تكون من الذين لا يهتدون إلى دين اللَّه؟
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤)
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: شبهت هي عليهم ولبست أمره، كما فعلوا هم بها من تغيير عرشها عليها وتلبيسه عليها، لكن قوله: (كَأَنَّهُ هُوَ) لم تقطع فيه القول لما رأت فيه من التغيير والتنكير، ورأت فيه سررها - وقفت فيه.
ودل قوله: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ) أن العرش لم يحمل وهي نائمة، على ما قاله بعض أهل التأويل: إنه حمل دونها من قبل، ثم جاءت بعد ذلك - واللَّه أعلم - ألا ترى أنه لو أمرهم أن يغيروا عرشها وهي عليه لم تشعو به - هذا بعيد، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ): إن كان هذا القول من سليمان فكأنه يقول: قد أوتينا العلم من قبل علمها به أنه عرشها، ولنا غنية عن السؤال لها عنه، لكن نسألها مستخبرين عن ذلك ممتحنين لها.
وقوله: (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي: صرنا مسلمين جميعًا، وأن يكون هذا صلة قوله: (وَلَقَدْ
أضاف إنذاره إلى من اتبع الذكر، وإن كان رسول اللَّه ينذر من لم يتبع، وكذلك ما قال في الشياطين: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ)، إنما يدعو الحزبين جميعًا، لكنه أضاف دعاءه إلى حزبه لما منهم يكون له الإجابة، وأضاف إنذار رسول اللَّه إلى من اتبعه وقبله لطاعتهم له؛ فعلى ذلك الأوّل، أضاف ذلك إلى نفسه لفعلهم.
لكن عندنا لا يكون من الخلق في فعل الخلق حقيقة الفعل، إنما يكون منهم الأسباب، ويكون من اللَّه - تعالى - في أفعالهم الأسباب، وحقيقة الفعل، فيكون إضافة ذلك إلى اللَّه على حقيقة الفعل والأسباب جميعًا وإلى الخلق لأسباب تكون منهم إليهم.
والثاني: إنما خصَّ بالإنذار من اتبع الذكر؛ لأنه إنما يقصد بالإنذار من اتبعه لا من لا يتبعه، وكذلك الشيطان إنما يقصد بدعائهم إياهم حزبه منهم، وإن كان الرسول ينذر الخلق جميعًا: الذي سوف يتبعه والذي لا يتبعه، وكذلك الشيطان يدعو الحزبين جميعًا؛ لأن هذا يقصد ضررهم بما يدعوهم إليه؛ ألا ترى إلى قوله: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، والرسول بما ينذر يقصد نفعهم؛ لذلك خصّ الإنذار لمن اتبعه وخص في ذلك حزبه.
وقوله: (أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ليس تصريحًا؛ لأنهم لو دعوهم إلى النار لا يجيبونهم، ولكن يدعونهم إلى أعمال توجب لهم النار لو أجابوهم، وهو كقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي: ما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار.
وقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) كأن الشيطان مناهم النصر والشفاعة بعبادة الأصنام، فيخبر أنهم لا ينصرون لما مناهم.
وقوله: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
وهو ما عذبوا في الدنيا واستؤصلوا (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مسودون وجوههم.
وجائز أن يكون ذلك جزاء ما افتخووا في هذه بالحلي والزينة، وطعنوا في موسى جوابًا لهم على ما قالوا: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) يخبر أنهم يكونون في الآخرة على غير الحال التي كانوا في الدنيا وافتخروا بها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المقبوح: هو أن سواد مع الزرقة.
آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا)، فهذا العلم الذي قال: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)، وإلا في الظاهر ليس هذا صلة ما تقدم من قوله: (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: صدها عبادتها الشمس والأصنام التي عبدوها دون اللَّه عن الإسلام وعبادة اللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وصدها سليمان عن عبادتها التي كانت تعبد من دون اللَّه؛ لأنه ذكر أنها أسلمت.
وقوله: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: الصرح: صحن الدار؛ وهو قول الزجاج. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ وأكثر أهل التأويل: الصرح: هو القصر.
ثم لا ندري ما سبب بناء ذلك الصرح؟ وما سبب أمره إياها بالدخول فيه وكشفها عن ساقيها؟
أما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا في ذلك:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قالت الجن لما أقبلت بلقيس: لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب، فلو اجتمع سليمان وهذه المرأة وما عندها من العلم لهلكنا، وكانت أم هذه المرأة جنية، فقالوا: تعالوا نُنقصها ونكرهها إلى سليمان، فقيل لسليمان: إن رجلها مثل حافر الدواب؛ لأن أمها كانت جنية، فأمر سليمان عند ذلك فبني له بيت من قوارير فوق الماء، وأرسل فيه السمك لتحسب أنه ماء فتكشف عن رجليها، فينظر سليمان أصدقت الجن أم كذبت، فلما رأته حسبته الماء وكشفت عن ساقيها فنظر إليها سليمان فإذا هي أحسن الناس قدمين وساقين، فلما رأت الجن أن سليمان رأى ساقيها قالت الجن: لا تكشفي عن ساقيك (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن ذكر لسليمان أن على ساقيها شعرا وأنهما شعراوان، فأمر بذلك ليعرف ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن خافت الجن عند ذلك أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أشياء كانوا أطلعوها عليها وأفشوا إليها، فأرادوا أن يكرهوها إليه، فطعنوها بعيوب في عقلها ونفسها، فقالوا: يا نبي اللَّه، ألا نريك عقلها فإن في عقلها شيئًا؟ قال: بلى،
119
فجاءت الجن بماء فأجروه فتركوه لجة، ثم جاءوا بالسمك والضفادع فأرسلوها في الماء، ثم جيء بها إلى ذلك الماء، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، فقالوا لسليمان: إن في عقلها آفة؛ ألا ترى أنها لا تعرف الصرح من الماء، ولا تميز بينهما؟ أو نحو هذا من الكلام.
لكن لا نعلم ما سبب ذلك، ولا يحتمل أن يكون سليمان يحتال هذا؛ لينظر إلى ساقها وهي أجنبية.
ثم جائز أن يكون لغير ذلك، أو أراد أن يريها آية من آيات نبوته؛ حيث اتخذ صرحًا ممردا من قوارير يرى كالماء للطافته، وذلك خارج عن تدبير البشر؛ لتعلم هي أن ذلك تدبير السماء لا تدبير البشر.
أو أن يكون أراد بذلك - واللَّه أعلم - أن يريها عظم ملكه وسلطانه؛ لتعلم أنه يفعل ما يشاء قادر على ذلك لا ينفعها سوى الطاعة له والإجابة والخضوع لله والإسلام له، فعند ذلك قالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) فيما عبدت دون اللَّه (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: أخلصت وأسلمت نفسي لله رب العالمين.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: عفريت، أي: شديد وثيق، وأصله العفر زيدت التاء فيه، يقال: عفريت نفريت، وعفريت ونفريت، وعفاريت نفاريت.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العفريت: الخبيث المارد، وعفاريت جمع.
وقال: صدها أي: ردها ومنعها.
وقال الصرح: القصر، والصروح جمع.
واللجة: الماء المجتمع الكثير.
وقال: الممرد: وهو المملس بالطين أو بالجص أو بما كان.
وقال غيره: الممرد الطويل. قَالَ الْقُتَبِيُّ: ومن ذلك يقال: الأمرد للذي لا شعر على وجهه، ويقال للرملة التي لا تنبت: مرداة، ويقال: للممرد: المطول، ومنه قيل لبعض الحصون: مارد.
وقال الكسائي: الممرد: الأملس، ويقال: منه سمي الأمرد أمرد.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ
120
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى) من نحو عاد، وثمود، وهَؤُلَاءِ الذين كانوا من قبل من الأمم، أي: أرسلناه بعد هلاك من ذكر؛ حتى يعتبر الناس، يشبه أن يكون قوله: (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ) أي: هلاك من ذكر من القرون الأولى بصيرة وعبرة لمن يكون من بعدهم؛ لينزجروا بذلك عن تكذيب الرسل، ويكون ذلك آية لرسالة موسى.
والثاني: أن يكون قوله: (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً) أي: الذي آتاه اللَّه موسى هو بصائر وهدى ورحمة لهم إذا قبلوه واتبعوه وعملوا به، وكذلك كان جميع كتب اللَّه هدى ورحمة وبصيرة لمن آمن بها وعمل بها.
وجائز أن يكون هذا جوابًا وصلة لقولهم: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) يقول - واللَّه أعلم -: إنكم لا تسمعون ذلك في آبائكم الذين اتبعوا رسلهم، فأجابوهم، فأما من كذبوهم فإنا أهلكناهم بتكذيبهم الرسل واستأصلتهم، والله أعلم.
وقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: جانب الغربي: حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم، والشرقي: حيث تشرق وتطلع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بجانب الغربي، أي: بجانب الوادي الغربي، واللَّه أعلم ما أراد به.
وقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ... وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي: مقيمًا (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) يحتمل وجوهًا:
أحدها: أنك لم تكن شاهدًا هذه المشاهدة التي شهدها موسى حيث قضينا إلى موسى الأمر بجانب الغربي، ولم تكن شاهدًا هنالك، وما كنت في أهل مدين ثاويًا حتى تعلم أمر موسى وحينه، وما كنت بجانب الطور حيث نادى: يا موسى ونحوه؛ أي: لم تكن شاهدًا هذه المشاهدة التي كان موسى شاهدًا فيها، ثم أعلمناك بتلك الأنباء والأخبار على ما كانت لتتلو تلك الأنباء والأخبار على أهل مكة؛ فتكون آية لنبوتك، وحجة لرسالتك؛ إذ لم تشهدها ولا اختلفت إلى أحد ممن يعرفها فعلمك، ثم أنبأت على ما كانت؛ ليعرفوا أنك إنما عرفت باللَّه تعالى.
172
[ الآية ٤٤ ] وقوله تعالى :﴿ قيل لها ادخلي الصرح ﴾ [ وقال بعضهم : الصرح ]١ حصن الدار، وهو قول الزجاج.
وقال القتبي وأبو عوسجة وأكثر أهل التأويل : الصرح هو القصر. ثم لا ندري ما سبب بناء٢ ذلك الصرح ؟ وما سبب أمره إياها بالدخول فيه وكشفها عن ساقيها ؟
أما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا في ذلك : قال بعضهم : قالت الجن : لما أقبلت بلقيس لقد لقينا٣ من سليمان ما لقينا من التعب، فلو اجتمع سليمان وهذه المرأة وما عندها من العلم لهلكنا، وكانت أم هذه المرأة جنية، تعالوا [ نعيبها، ونكرهها ]٤ إلى سليمان. فقيل لسليمان : إن رجليها مثل حوافر الدواب، لأن أمها، كانت جنية، فأمر سليمان عند ذلك، فبني له بيت من قوارير فوق الماء، وأرسل فيه السمك لتحسب أنه ماء، فتكشف عن رجليها، فينظر سليمان : أصدقت الجن أم كذبت ؟
[ وقوله تعالى ]٥ :﴿ فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ﴾ فنظر إليها سليمان، فإذا هي أحسن الناس قدمين وساقين. فلما رأت الجن أن سليمان رأى ساقيها قالت الجن : لا تكشفي عن ساقيك ﴿ إنه صرح ممرد من قوارير ﴾.
وقال بعضهم : لا، ولكن ذكر لسليمان أن على ساقيها شعرا، وأنهما شعراوان، فأمر بذلك ليعرف ذلك.
وقال بعضهم : لا، ولكن خافت الجن عند ذلك أن يتزوجها سليمان، فتفشي إليه٦ أشياء كانوا أطلعوها عليها٧، وأفشوا إليها، فأرادوا أن يكرهوها إليه، فطعنوها بعيوب في عقلها وجسمها٨، فقالوا : يا نبي الله ألا نريك عقلها ؟ فإن في عقلها شيئا. قال : بلى، فجاءت الجن بماء، فأجروه [ في صن الدار ]٩ فتركوه لجة، ثم جاؤوا بالسمك والضفادع، فأرسلوها في الماء، ثم جيء بها إلى ذلك الماء ﴿ فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ﴾ فقالوا لسليمان : في عقلها آفة، ألا ترى أنها لا تعرف الصرح من الماء، ولا تميز بينهما، أو نحو هذا من الكلام ؟
لكن لا نعلم ما سبب ذلك ؟ ولا يحتمل أن يكون سليمان يحتال هذه [ الحيلة ]١٠ لينظر إلى ساقيها، وهي أجنبية.
ثم جائز أن يكون لغير ذلك أراد أن يريها آية من آيات نبوته حين١١ اتخذ صرحا ممردا من قوارير، يرى [ أنه ماء ]١٢ للطافته، وذلك خارج عن تدبير البشر لتعلم هي أن ذلك تدبير السماء لا تدبير البشر، أو أن يكون أراد بذلك، والله أعلم /٣٩١- أ/ أن يريها عظم ملكه وسلطانه لتعلم أنه يفعل ما يشاء، قادر على ذلك، لا تنفعها سوى الطاعة له والإجابة والخضوع لله والإسلام له.
فعند ذلك ﴿ قالت رب إني ظلمت نفسي ﴾ في ما عبدت دون الله ﴿ وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾ أي أخلصت، وأسلمت نفسي لله رب العالمين.
قال القتبي : عفريت، أي شديد وثيق. وأصله العفر، زيدت التاء فيه ؛ يقال : عفريت، نفريت، [ وعفارية ونفارية ]١٣، وعفاريت ونفاريت.
قال القتبي : العفريت الخبيث المارد، وعفاريت جميع، وقال :﴿ وصدها ﴾ أي ردها، ومنعها، وقال : الصرح القصر، والصروح جميع، ولجة الماء المجتمع الكثير، وقال : الممرد، وهو المملس بالطين أو بالجص أو بما كان. وقال غيره : المجرد الطويل. وقال القتبي : ومن ذلك يقال : الأمرد الذي لا شعر على وجهه، ويقال للرملة التي لا تنبث مرداء، ويقال : الممرد المطول، ومنه قيل لبعض الحصون : مارد.
وقال الكسائي : الممرد الأملس، ويقال : منه سمي الأمرد أمرد.
١ - ساقطة من الأصل وم..
٢ - من م، في الأصل: هناء..
٣ - في الأصل وم: أتينا..
٤ - في الأصل وم: ننقصها ونكرها..
٥ - ساقطة من الأصل وم..
٦ - في م: إليها..
٧ - في الأصل وم: عليه..
٨ - في الأصل وم: ونفسها..
٩ - من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
١٠ - ساقطة من الأصل وم..
١١ - في الأصل وم: حيث..
١٢ - ساقطة من الأصل وم..
١٣ - في الأصل وم: وعفريت ونفريت..
وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ (٤٥) يحتمل هذا: لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، وأمرناه أن يقول لهم: اعبدوا اللَّه.
وجائز أن يكون قوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) بالرسالة، أي: أرسلناه ليدعوهم إلى عبادة وقوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ): يحتمل: وحدوا اللَّه.
ويحتمل العبادة نفسها: أن اعبدوا اللَّه ولا تشركوا غيره فيها، ولا تشركوا في تسمية الألوهية غيره، ولكن وحدوه، فكيفما كان ففيه أمر بالتوحيد له في العبادة والألوهية له.
وقوله: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ): مؤمن بصالح ومكذب به، ولم يبين فيم كانت خصومتهم؛ وبَيّنَ مَنْ كانت في هذه الآية؛ لكنه بين في آية أخرى وفسر وهو ما قال: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، هذه الخصومة التي ذكر في قوله: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ) بين الرؤساء من المؤمنين بصالح، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) أي: لم تستعجلون العذاب قبل الرحمة، واستعجالهم العذاب والسيئة ذكر في آية أخرى وهو قوله: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، فذلك استعجالهم السيئة قبل الحسنة.
وقوله: (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي: لولا توحدون اللَّه ولا تشركوا غيره في العبادة وتسمية الإلهية؛ لكي يرحمكم، وفيه إطماع لهم لو آمنوا وتابوا عنه لرحمهم؛ كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
وقوله: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) أي: تشاءمنا منك وبمن معك، لم يزل الكفرة يقولون لرسل اللَّه - عليهم السلام - ولمن آمن منهم: اطيرنا بكم، إذا أصابتهم الشدة
121
والثاني: يحتمل أن يذكر هذا له امتنانًا عليه ليتأدى به شكره؛ لأنه ذكر أنه أوحى إلى موسى، وذكر محمدًا وأمته في شرفه حتى تمنى موسى أن يجعل من أمته.
يقول - واللَّه أعلم -: لم تكن أنت شاهدًا في هذه المشاهد فذكرتك ثمة وأمتك.
أو أن يذكر هذا له على الاختصاص له؛ ليعرف أن أمر الرسل والوحي إليهم على الاختصاص لهم من اللَّه، لا بأمر كان منهم.
على هذه الوجوه الثلاثة يحخمل أن يخرج تأويل ما ذكر له.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) يقول لمُحَمَّد: لم تعاين هذا ولم تشهده، وإنما هو شيء أنزلناه عليك لتتلوه على أهل مكة.
وقوله: (وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ (٤٥) هذا ليس بصلة الأول، ولكن على الابتداء؛ يقول - واللَّه أعلم -: لكنا أنشأنا قرونًا بعد انقراض الرسل، ودروس أعلامهم وآثارهم، وتطاول العهد والعمر، ثم بعثناك فيهم رسولا؛ لتحيى به آثارهم، وتظهر فيهم سننهم وأعلامهم ورحمة منا إليهم، وهو ما قال في آخره: (وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ... (٤٦) أي: أرسلنا إياك رحمة منا لهم، وهو ما قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، أو أن يكون قوله: (وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي: ما أنبأك وأعلمك من أنباء موسى وأخباره، حيث لم تشهدها من رحمة ربك، حيث جعلها آية لنبوتك، وحجة لرسالتك، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا) أنذر به الرسل الذين من قبلك قومهم.
والثاني: لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون، أي: على رجاء التذكر تندْرهم.
أو أن يكون ذلك خاصة لمن تذكر إذا كان على الإيجاب.
* * *
قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)
وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) لا ينتظم الجواب، وليس ما ذكر
173
على إثره جوابًا له، إلا أن يقال: إن قوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي: لم تصبهم مصيبة، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا) أي: لم تقولوا: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ)، أي: لم يمشهم، وجميع ما ذكر في هذه السورة من (وَلَوْلَا) كله أنه لم يكن؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تأويل قوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي: لم تصبهم مصيبة، ولو أصابتهم مصيبة، وهو العذاب (فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) وهو كقوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا)، على هذا يخرج تأويل هذا.
ثم في هذه الآية في قوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ) ووجهان:
أحدهما: على من يقول بأن ليس لله أن يعذبهم بما كان منهم قبل بعث الرسل إليهم لقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وفي الآية بيان أن له أن يعذبهم وإن لم يبعث الرسل؛ لأنه أوعدهم الهلاك، فلو لم يكن له التعذيب والإهلاك لم يكن للإيعاد فائدة؛ فدل أن له الإهلاك في الدنيا والاستئصال، لكنه أخره عنهم؛ فضلا منه ورحمة.
والثاني: على المعتزلة في قولهم الأصلح؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أوعدهم أصلح لهم من الترك أو الترك لهم أصلح: فإن كان ما أوعد لهم أصلح فقد تركهم؛ فيكون في تركهم إياهم جائرًا على قولهم؛ لأنه لم يفعل ما هو أصلح لهم في الدِّين.
أو أن يكون الترك لهم أصلح؛ فيكون بما أوعدهم جائرا؛ إذ أوعد بما كان غيره أصلح لهم مما أوعد؛ فدل ما ذكرنا على أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح لهم في الدِّين.
ثم قوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ليس الكفر نفسه، ولكن العناد والمكابرة مع الكفر؛ لأن عذاب الكفر في الآصه: ليس في الدنيا؛ لأن اللَّه تعالى قد أبقى كثيرًا من الكفرة لم يهلكهم ولم يعذبهم في الدنيا، ولكن إنما أهلك واستأصل في الدنيا من عاند وكابر الرسل في الآيات والحجج التي أتوهم بها وأقاموها عليهم على أثر سؤال كان منهم، فعند ذلك أهلكهم واستأصلهم لا بنفس الكفر، ثم مع ما كان له التعذيب قبل بعث الرسل لم يعذبهم، ولكن أخر عنهم إلى أن يبعث الرسل إليهم بالآيات والحجج؛ ليقطع به لجاجهم ومنازعتهم فضلا منه، وإن لم يكن لهم الاحتجاج عليه بقولهم: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
يحتمل قوله: (فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) الآيات التي تبعث مع الرسل لا يبعث الرسل بالآيات.
174
[ الآية ٤٦ ] وقوله تعالى :﴿ قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ﴾ أي لم تستعجلون بالسيئة قبل الرحمة، واستعجالهم العذاب والسيئة ذكر في آية أخرى، وهو قوله :﴿ فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ] فذلك استعجالهم السيئة قبل الحسنة. وقوله تعالى :﴿ لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ﴾ أي لولا توحدون، ولا تشركوا غيره في العبادة وتسمية الإلهية لكي يرحمكم. وفي إطماع لهم : لو آمنوا، وتابوا [ عن الشرك ]١ لرحمهم كقوله :﴿ إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ].
١ - في الأصل وم: عنه..
[ الآية ٤٧ ] وقوله تعالى :﴿ قالوا اطيرنا بك وبمن معك ﴾ أي تشاءمنا منك وبمن معك. لم يزل الكفرة [ يقولون ]١ لرسل الله، صلوات الله عليهم، ولمن آمن معهم :﴿ اطيرنا بك ﴾ إذا أصابتهم الشدة والبلاء ؛ يتطيرون بهم، ويتشاءمون، ويقولون : إنما أصابنا هذا بشؤمكم. وإذا أصابهم رخاء وسعة قالوا : هذا لنا، بنا، ومن أنفسنا، وهو ما قال قوم موسى حين٢ قالوا :﴿ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا ﴾ الآية [ الأعراف : ١٣١ ] وكذلك قال أهل مكة لرسول الله حين٣ قال :﴿ وإن تصيبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ﴾ [ النساء : ٧٨ ].
كانوا يتطيرون برسول الله، ويتشاءمون بما يصيبهم من الشدة وما ينزل بهم من البلاء، فأخبر الله رسوله، وأمره أن يقول لهم :﴿ كل من عند الله ﴾ [ النساء : ٧٨ ] أي الرخاء والشدة من عند الله ينزل، وهو باعث ذلك لا أنا.
فعلى ذلك قوله تعالى :﴿ طائركم عند الله ﴾ أي ما ينزل بكم، ويصيبكم من الشدة والرخاء إنما ينزل من عند الله، لا بنا، ولا بكم. أو يقال : ما ينزل بكم من العذاب في الآخرة إنا يصيب بتكذيبكم إياي في الدنيا، أو يقال :﴿ طائركم عند الله ﴾ أي جزاء طيرتكم عند الله ؛ هو يجزيكم بها بعذاب الدنيا والآخرة.
[ وقوله تعالى ]٤ :﴿ بل أنتم قوم تفتنون ﴾ بالعذاب بما تكسبون من الأعمال في الدنيا، أي تعذبون بها.
قال أبو عوسجة :﴿ طائركم عند الله ﴾ يقول : الله أعلم بطائركم وما تطيرتم٥ به.
وقال القتبي ﴿ طائركم عند الله ﴾ أي ليس بي، وإنما هو من الله، وهو ما ذكرنا.
١ - ساقطة من الأصل وم..
٢ - في الأصل وم: حيث..
٣ - في الأصل وم: حيث..
٤ - ساقطة من الأصل وم..
٥ - من م، في الأصل: تطيركم..
والبلاء يتطيرون بهم ويتشاءمون، ويقولون: إنما أصابنا هذا بشؤمكم، وإذا أصابهم رخاء وسعة فقالوا: هذا لنا بنا ومن أنفسنا، وهو ما قال موسى حيث قال: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ) الآية؛ وكذلك قال أهل مكة لرسول اللَّه حيث قال: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)، كانوا يتطيرون برسول اللَّه ويتشاءمون بما يصيبهم من الشدة، وما ينزل بهم من البلاء، فأخبر اللَّه رسوله، وأمره أن يقول لهم: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: الرخاء والشدة من عند اللَّه ينزل، وهو باعث ذلك لا أنا؛ فعلى ذلك قوله: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: ما ينزل بكم ويصيبكم من الشدة والرخاء إنما ينزل من عند اللَّه لا بنا ولا بكم.
أو يقال: ما ينزل بكم من العذاب في الآخرة إنما يصيب بتكذيبكم إياي في الدنيا.
أو أن يقال: طائركم عند اللَّه، أي: جزاء طيرتكم عند اللَّه، هو يجزيكم بها بعذاب الدنيا والآخرة.
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) يحتمل قوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) ابتداء: مرة بالشدة ومرة بالرخاء، لا بما تكسبون من الأعمال.
وجائز أن قوله: (تُفْتَنُونَ) بالعذاب بما تكسبون من الأعمال في الدنيا، أي: تعذبون بها.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) يقول: اللَّه أعلم بطائركم وما تطيرتم به.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: ليس ذلك بي وإنما هو من اللَّه، وهو ما ذكرنا.
وقوله: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: الرهط: إنما يقال من ثلاثة إلى تسعة، وإذا نقص عن ذلك أو زاد يقال: رجال.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الرهط: النفر، وأراهط ورهوط جمع.
ثم يحتمل الرهط وجهين:
أحدهما: (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي: تسعة نفر من الأتباع وغيره يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
والثاني: تسعة رهط لا تسعة نفر من الرؤساء، ولكل أحد منهم رهط من الأتباع يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
122
وجائز أن يكون قوله: (فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) يعنون بالآيات: الرسل أنفسهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨) جائز أن يكون الحق الذي ذكر الرسول نفسه، ويحتمل الحق الكتاب الذي أنزل عليه وآيات.
وقوله: (قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى): هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: قالوا: هلا أوتي مُحَمَّد من أنواع النعم من المن والسلوى وغيره من غير تكلف ولا تعب؛ مثل ما أوتي موسى لو كان رسولا على ما يقول.
أو أن يقولوا: لولا أوتي من الآيات الحسيات الظاهرات من نحو اليد والعصا والحجر الذي كان ينفجر منه والغمام، وما ذكر من الضفادع والقمل والدم والطوفان وغير ذلك مثل ما أوتي موسى.
أو أن يقولوا: لولا أوتي مُحَمَّد القرآن جملة عيانًا جهارًا؛ كما أوتي موسى التوراة جملة عيانًا جهارًا، واللَّه أعلم بذلك ما عنوا به.
ثم بين اللَّه تعالى وأخبر أنهم إنما يسألون ما سألوه سؤال عناد ومكابرة لا سؤال استرشاد وطلب الحق حيث قال: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) أي: لم يكفر هَؤُلَاءِ الذين سألوك الآيات بما أوتي موسى - يعني: أهل مكة - لأنهم كانوا مشركين لم يؤمنوا برسول قط من قبل.
ويحتمل قوله: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) أي: أولم يكفر قوم موسى بعد سؤالهم الآيات إذ أتاهم بها؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ يكفرون بما أوتيت. والأول أشبه.
ثم قالوا: (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا)، وقد قرئ: (ساحران) بالألف.
وقَالَ بَعْضُهُمْ ساحران: موسى وهارون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: موسى ومُحَمَّد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: عيسى ومُحَمَّد.
175
جائز أن هذا إخبار من اللَّه أنهم يفسدون أبدًا في الأرض ولا يؤمنون أبدًا.
وجائز أن يكون إخبارا عن حالهم، أي: يعملون الفساد والمعاصي ولا يصلحون، أي: لا يسعون بالصلاح.
وقال ابن عَبَّاسٍ: إن هَؤُلَاءِ التسعة كانوا من أبناء أشرافهم، وكانوا بالحِجر، وكانوا فساقا، فقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: لنقتلن صالحًا وأهله، ثم لنقولن لوليه - أي: لقومه من ورثته -: ما قتلناه.
وقوله: (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩) فتحالفوا على ذلك، فأتوا صالحا ليلا فدخلوا عليه بأسيافهم ليقتلوه، وعند صالح ملائكة جاءوا من اللَّه تعالى يحرسونه، فقتلوا الرهط في دار صالح بالحجارة؛ فذلك قوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا... (٥٠): بصالح وأهله، (وَمَكَرْنَا مَكْرًا) أي: أهلكناهم، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): أنهم يهلكون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ التسعة الرهط تواثقوا أنهم يبيتون صالحًا ويقتلونه وأهله بعدما عقروا الناقة، وقالوا فيما بينهم: فإن خُوصِمنا في ذلك لنقولن ولنقسمن: ما شهدنا مهلك أهله، أي: ما حضرنا في هلاكهم؛ على هذا التأويل يكون على التقديم والتأخير.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ التسعة كانوا شرار قومه، خرجوا بخمر إلى بعض المغار ليشربوها، ثم ليبيتوا على صالح وأهله، فشربوا هنالك فانهدم بهم الصخرة وعذبوا فيه؛ فذلك قوله: (وَمَكَرُوا): بقتل صالح وهلاكه، (وَمَكَرْنَا مَكْرًا). بهم حيث أهلكناهم، (مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). والمكر: هو الأخذ بغتة.
وقوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا) أي: جزيناهم جزاء مكرهم.
ثم اختلف في قراءة (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ) بالنون؛ فذلك قول بعضهم لبعض.
وقرأه بعضهم بالتاء: (لتبيتنه وأهله ثم لتقولن)؛ فذلك قول الرؤساء للأتباع،
ومن قرأ بالياء يجعله خبرًا عن اللَّه تعالى لهم.
وقوله: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) أي: لم نُسكن فيها أحدًا، ولكن تركناها خالية كذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (خَاوِيَةً) أي: خربة بما ظلموا كقوله: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي: ساقطة خربة، وقد كان ذلك كله: منها ما جعل لغيرهم مسكنًا إذا أهلكهم من نحو ما
123
وقوله: (سِحْرَانِ) بغير ألف: كتابان، لكنهم اختلفوا:
قَالَ بَعْضُهُمْ: التوراة والإنجيل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفرقان والتوراة ونحوه.
وقال بعض أهل الأدب: ساحران: أولى وأقرب؛ لأن ذكر التظاهر إنما يكون بين الأنفس لا يكون بين الكتب.
(تَظَاهَرَا) أي: تعاونا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل الأدب -أيضًا- (سِحْرَانِ) بغير ألف أولى؛ لأنه أراد به الكتابين. ألا ترى أنه طلب منهم بما قالوا إتيان الكتاب حيث قالوا: (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا) ردًّا على ما قالوا وطلبوا منه.
لكن نقول نحن: لا نحب أن نختار إحدى القراءتين على الأخرى؛ لأنه إنما هو خبر أخبر عنهم أنهم قالوا ذلك: فمرة قالوا: (ساحران)، ومرة قالوا: (سِحْرَانِ)، فأخبر على ما قالوا؛ وكذلك قوله: (سيقولون الله) بالألف وبغير الألف، لا يختار أحدهما على الآخر؛ لأنه خبر أخبر عنهم على ما كان منهم فهو على ما أخبر، واللَّه أعلم.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: (لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى): قالت اليهود: نأمر قريشًا أن تسال أن يؤتى مُحَمَّد مثل ما أوتي موسى يقول اللَّه لرسوله: قل لقريش يقولوا لهم: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى) يعني: اليهود، وقالوا: (ساحران تظاهرا) قاك قول اليهود لموسى وهارون وهو مما ذكرنا قريب، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) ما أوتي موسى على اختلاف ما ذكرنا.
ثم قال: قل يا مُحَمَّد لقريش أهل مكة: (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا... (٤٩) من التوراة والفرقان أو التوراة والإنجيل على اختلاف ما قالوا، (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم أنهما سحران تظاهرا، وأنه مفترى، ائتوا أنتم من عند اللَّه بكتاب أتبعه؛ إلى هذا ذهب أهل التأويل.
ووجه آخر يشبه أن يكون أقرب منه: وهو أن قوله: (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ
176
أَهْدَى مِنْهُمَا)، أي: ائتوا بكتاب من عند اللَّه أنه أمركم بعبادة الأصنام والأوثان؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام دون اللَّه، ويقولون: اللَّه أمرهم بذلك، ويقولون: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عند اللَّه، وإن عبادتهم إياها تقربهم إلى اللَّه زلفى ونحوه من الكلام، فيقول - والله أعلم -: ائتوا بكتاب من عند اللَّه: أنه أمركم بذلك هو أهدى منهما، أي: أبين منهما وأوضح من هذين؛ لأن هذين إنما جاءا بنهي عبادة غير اللَّه ومنعها دونه، يقول: ائتوا بكتاب هو أهدى وأبين عما جاء منه من هذين، إن كنتم صادقين أن اللَّه أمركم بذلك، ويكون عبادتكم إياها على ما تزعمون، هذا جائز أن يكون أقرب من الأول، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ... (٥٠) في إتيان ما تطلب منهم وتسأل من الكتاب، (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) بغير علم، وهم كانوا يعلمون: أنهم إنما يتبعون في عبادة الأصنام وتحريم الحلال وتحليل الحرام - أهواءهم، ويجعلون هواهم هو الإمام؛ إذ لا يؤمنون برسعول حتى يكون لهم كتاب.
ثم قال: (وَمَنْ أَضَلُّ)، أي: لا أحد أضل (مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ)، أي: من غير بيان من اللَّه - (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، أي - واللَّه أعلم -: إن الله لا يهدي قومًا يتبعون أهواءهم، لا يتبعون الحجج والبراهين لا يهديهم ما داموا في اتباع هواهم.
أو لا يهدي القوم الذين ظلموا الحجج والبراهين، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
وقوله: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): اختلف فيه:
قال قائلون: هو القرآن، ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: وصل القرآن بعضه ببعض حتى خرج كله موافقا بعضه بعضا مصدقًا مجتمعًا غير مختلف، وإن فرق في الإنزال على تباعد الأوقات وطول المدد.
(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): أن مثل هذا لا يكون إلا ممن يعلم الغيب، ولا يعزب عنه شيء ولا
[ الآية ٥١ ] [ وقوله تعالى :﴿ فانظر كيف كان عاقبه مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ﴾. هذا ظاهر ]١.
١ - من نسخة الحرم المكي ساقطة من الأصل وم..
يغيب؛ إذ لو كان هو ممن لا يعلم ذلك من كلام المخلوق لخرج مختلفًا متناقضا على ما يكون من كلام المخلوق في تباعد الوقت وطول المدة مختلفًا متناقضًا.
والثاني: وصل مواعظ القرآن بعضها ببعض ومواعيده بعضها ببعض، وعداته بعضها ببعض، وكذلك أوامره ومناهيه، وإن تفرق نزولها واختلف مواضعها، يدعوهم به مرة بعد مرة؛ لعلهم يتذكرون به.
ومنهم من يقول في قوله: (وَقُلنَا لَهُمُ): القول، أي: الإنباء وإخبار
الأمم الخالية نبأ بعد نبأ وخبرا على أثر خبر ما نزل بمكذبي الرسل منهم من الهلاك والعذاب، ومصدقي الرسل من النجاة والبقاء في النعم الدائمة، على إقرار منهم بذلك وعلم أنه وإن بهم ذلك؛ لعلهم يتذكرون ذلك وينزجرون عن تكذيب رسولهم؛ مخافة أن ينزل بهم بالتكذيب ما نزل بأُولَئِكَ.
وجائز أن يكون قوله: (وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي: قول التوحيد.
ووجه هذا: أن وصلنا التوحيد حتى جعلنا في كل أمة وكل قوم أهل توحيد لم يخل قوم ولا أمة عنه؛ كقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)؛ وكقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ...)، ونحو ذلك من الآيات، يدل على أن كل أمة وقرن أهل توحيد؛ لعلهم يتذكرون أن في آبائهم من قد آمن بالرسل وصدق بهم، ولا يقولون: إن آباءنا على ما هم عليه، يشبه أن يكون هذا وصل القول الذي ذكر.
و (وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أي: أتبعنا بعضه بعضا؛ فاتصل عندهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَصَّلْنَا) أي: بينا شيئًا فشيئا؛ حتى صار عندهم ظاهرًا.
وقال أبو معاذ: وصلنا في كلام العرب: أتممنا؛ كصلتك الشيء بالشيء.
وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وقال في آية أخرى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). وقال في آية أخرى: (فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، وقال: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)، وأمثاله.
يذكر في هذه الآيات أن من أهل الكتاب من لم يؤمن، ويذكر في الأولى على
أورث بني إسرائيل ديار القبط وأموالهم، وأنزلهم فيها، ومنها: ما تركها كذلك خالية بعد ما أهلك أهلها وخربها وتركها كذلك.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) أي: في هلاك من ذكر لآية ولعبرة يعتبرون.
(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) مخالفة اللَّه، ومخالفة أمره ونهيه.
* * *
قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
وقوله: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ): كأن فيه إضمارًا كأنه قال: أرسلنا لوطًا إلى قومه.
(إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي: أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون، وتعلمون أنها فاحشة.
(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) أي: اشتهاء لكم (مِنْ دُونِ النِّسَاءِ): يقول: تأتون الذكور وتدعون النساء، وهو ما قال في آية أخرى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ...) الآية.
وقوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ولكن أنتم قوم تجهلون، أي: تجهلون الأمر فتعصون.
ويشبه أن هذا جواب قول كان من قومه نحو ما قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، فقال عند ذلك: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ما تقولون، أي: على جهل ما تقولون ذلك، أو كلام نحوه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦)
قوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) في وقت إلا أن قالوا كذا، لا في الأوقات كلها؛ لأنه قد كان منهم قول وجوابات نحو ما قالوا: (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ...) الآية، ونحوه، وقولهم: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)؛ دل هذا منهم أنهم قد علموا أن ما يأتون ويعملون أنه خبيث وفحش ومنكر حيث قالوا: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
ثم يحتمل قولهم هذا وجوهًا:
أحدها: أنهم قالوا ذلك استهزاء منهم بهم.
والثاني: قالوا: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ)؛ فإنهم يستقذرون أعمالنا وأفعالنا.
والثالث: على التحقيق (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
124
الإطلاق: أن الذين أوتوا الكتاب من قبله هم به يؤمنون، جائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) وانتفعوا به يؤمنون به.
أو أن يكون الذي آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته هم يؤمنون به على ما ذكر في آية أخرى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)، أُولَئِكَ يؤمنون به، وأما من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون.
فأمأ أهل التأويل فإنهم صرفوا الآية إلى قوم خاص من أهل الكتاب: عبد اللَّه بن سلام وأصحابه الذين آمنوا به، وكذا جائز أن تكون الآية في قوم منهم؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) ذكر أهل التأويل: أنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث مُحَمَّد، فلما بعث ثبتوا على ذلك وآمنوا على ما كانوا من قبل.
وفيه دلالة: أن الإيمان والإسلام واحد؛ لأنهم قالوا: (آمَنَّا بِهِ)، وقالوا: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) دل أنهما واحد؛ وكذلك قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وهما واحد ذكر مرة الإيمان ومرة الإسلام؛ دل أنهما واحد.
وقوله: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)
هذا يحتمل وجوهًا ثلاثة:
أحدها: يؤتون أجرهم مرة بالإسلام، ومرة بما صبروا على زوال الرياسة منهم وذهابها؛ لأنهم كانوا أهل رياسة ومنزلة وقدر، فذهب ذلك كله عنهم بالإسلام، فلهم الأجر مرتين لذلك.
والثاني: يؤتون أجرهم مرتين: مرة بالإسلام، ومرة بما صاروا قدوة وأئمة لمن بعدهم يقتدون بهم: أحد الأجرين بإسلام أنفسهم، والثاني بدعائهم غيرهم إليه على ما يعاقب الرؤساء منهم والقادة، ويضاعف العذاب عليهم مرتين: مرة بضلال أنفسهم، ومرة بإضلال غيرهم؛ كقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، جائز: أن يكون إيتاء الأجر مرتين؛ لما يصيرون أئمة وقدوة لغيرهم في الخير، ويضاعف عليهم العذاب إذا صاروا أئمة وقدوة في الشر؛ ألا ترى أنه قال في نساء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)، وذلك - واللَّه أعلم - لما يصرن هن أئمة لغيرهن يقتدين بهن؛ فعلى ذلك الأول.
والثالث: جائز أن يكون يؤتون أجرهم مرتين بالإسلام نفسه، ويكون الصبر كناية عن الإيمان؛ كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: آمنوا وأسلموا.
179
[ الآية ٥٤ ] وقوله تعالى :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾ كأن فيه إضمارا١ ؛ كأنه قال : أرسلنا لوطا ﴿ أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ﴾ ؟ أي أتأتون الفاحشة، وأنتم تبصرون، وتعلمون أنها فاحشة ؟
١ - في الأصل وم: إضمار..
وأما أهل التأويل فإنهم يقولون: يؤتون أجرهم مرتين: مرة بإيمانهم بمُحَمَّد قبل أن يبعث، ومرة بإيمانهم بعدما بعث، والأول أشبه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بما صبروا: مرة بإسلامهم، ومرة بما صبروا، وحلموا على أذى أُولَئِكَ الكفرة، ولم يكافئوهم، بل خاطبوهم بخير حيث قالوا: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
وروي في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل آمن بنبي ثم إذا بعث نبي آخر آمن به، ومملوك لرجل يخدمه ويحسن خدمته ويعبد ربه، ورجل ربى جاريته ثم أعتقها فتزوجها ".
وقوله: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ): هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: يحسنون إليهم بعد إساءتهم إليهم وأذاهم إياهم على ما كانوا يفعلون ويصنعون إليهم قبل ذلك.
والثاني: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي: يعفون عن أذاهم ولا يكافئونهم فيكون كقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ...) الآية، والأول كقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أي: ينفقون في حق اللَّه وسبيل الخير، وإلا كل كافر ينفق كقوله: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ...) الآية.
وقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥) هذا -أيضًا- يحتمل وجهين:
إذا سمعوا منهم من الكلام ما يتأذون من كلام اللغو والأذى والفرية، أعرضوا عنه، أي: لم يكافئوهم لأذاهم.
والثاني: إذا سمعوا ما يلغون به من الباطل أعرضوا، أي: لم يخالطوهم فيما هم فيه؛
فليس أنهم لا ينهون ولا يمنعونهم عن ذلك إذا رأوا النهي ينجع فيهم، وإذا رأوه لا ينجع فيهم، فعند ذلك أعرضوا عنه؛ وهو كقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).
وقوله: (وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ): يقولون هذا لهم إذا لم ينجع النهي والموعظة ولم يقبلوا ذلك، عند ذلك يقولون: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)، أي: لكم جزاء أعمالكم ولنا جزاء أعمالنا؛ وكذلك قوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، لم يقل هذا لهم في ابتداء الدعاء، ولكن بعدما أيس عن إيمانهم وإجابتهم؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ): هذا يشبه أن يخرج على وجهين: أحدهما: على القول منهم بالسلام عليهم، أي: كانوا لا يخاطبون الجهال، ولا يخاطبونهم إلا بالسلام خاصة، بهذا القدر يخالطونهم حسب.
والثاني: ليس على حقيقة قول: السلام عليهم، ولكن على الصلح وترك المكافأة لهم، وتركهم إياهم على ما هم عليه؛ إذ السلام هو الصلح، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ردوا عليهم معروفًا (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)، يعنون: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه.
وقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) ذكر أهل التأويل أن هذا نزل في أبي طالب عم النبي، وذلك أن أبا طالب قال: يا معشر بني هاشم، أطيعوا محمدًا وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟! " قال: فقال: ما تريد يا ابن أخي؟ قال: " أريد منك كلمة واحدة في آخر يوم من الدنيا: أن تقول: لا إله إلا اللَّه؛ أشهد لك بها عند اللَّه " قال: يا ابن أخي، قد علمت أنك صادق، ولكن أكره أن يقال: جزع عن الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك وأخيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق؛ لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ فلان وفلان؛ فأنزل اللَّه ذلك: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، فهو على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: أن الهدى البيان،
وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (٥٧) فيه دلالة أن غير الزوجة يجوز أن يسمى أهلا.
قال عامة أهل التأويل: أهله: بناته.
وفي قوله: (قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ) دلالة خلق أفعال العباد؛ حيث أخبر أنه قدرها من الغابرين، والغبور والبقاء فعلها، فأخبر أنه قدر ذلك منها وخلق.
وقوله: (مِنَ الْغَابِرِينَ) أي: الباقين في عذاب اللَّه.
وفي حرف ابن مسعود: (ولقد وفينا إليه أهله كلهم إلا عجوزا في الغابرين).
وقوله: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) أي: ساء مطر المنذرين الذين لم يقبلوا الإنذار، ولم تنفعهم النذارة.
* * *
قوله تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦٤) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (٦٦)
وقوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أمر نبيه بالحمد له والثناء عليه على هلاك أعداء الرسل الخالية.
ثم قال: (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) وهم الرسل والأنبياء، صلوات اللَّه عليهم.
وجائز أن يكون أمره إياه بالحمد له والثناء عليه لما أنعم عليه من أنواع النعم، منها ما ذكر من هلاك أعداء الرسل وإبقاء أوليائهم؛ تخويفا لأعداء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يهلكوا كما أهلك أعداء الرسل الخالية.
أو أن يكون أمره إياه بالحمد له والثناء عليه؛ لما أنعم عليه في نفسه من أنواع النعم من النبوة والرسالة والهداية ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى): يحتمل الرسل؛ كقوله: (وَسَلَامٌ عَلَى
125
ولو كان بيانا على ما يقولون لكان رسول اللَّه يقدر أن يبين له وقد بين.
لكن الجبائي يحتج لهم فيتأول ويقول: إن رسول اللَّه كان يحرص أن يدخله الجنة فيقول: إنك لا تهدي طريق الجنة له حتى يدخلها، أو كلام يشبه هذا، وذلك بعيد.
وقال جعفر بن حرب: هذا ليس في ابتداء الهداية، ولكن في اللطائف التي تخرج مخرج الثواب لهم لما كان منهم من الاهتدء في البداء والأنف؛ كقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى...) الآية، فيخبر أنك لا تملك الهداية اللطيفة التي تخرج مخرج الثواب أن تهديهم.
فيقال له: أخبرنا عن تلك الزيادة التي تخرج مخرج الثواب لهم لما كان منهم من الاهتداء في الابتداء تنفع لهم دون الابتداء.
فإن قالوا: نعم.
فيقال لهم: فذلك عليه أن يفعل بهم؛ إذ من قولهم: إن عليه أن يعطي كل كافر ما ينفعه ويصلح له في دينه، فكيف منع ذلك وهو ينفعهم؟!
والثاني: يقال لهم: إن تلك الزيادة التي تخرج مخرج الثواب لهم واللطائف على ما كان منهم في الابتداء يستوجبها أو لا يستوجبها، فإن كان يستوجبها فلا معنى للمنع على قولهم؛ لأنهم يقولون: إن على اللَّه أن يعطي ذلك، وإن كان لا يستوجبها، فلا معنى لقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) على قولهم؛ فيبطل الاحتجاج به على قولهم.
وعندنا زيادة الهداية وابتداؤها سواء، وهو على ما أخبر رسوله أنه لا يهديه، ولكن لو كان الهداية بيانًا - على ما قالوا - لكان قد بين لهم؛ فدل ذلك منه أن ثم هداية سوى البيان عند اللَّه إذا أعطاها العبد يصير بها مؤمنًا، وهي التوفيق والعصمة والسداد، وذلك لا يملك رسول اللَّه إنشاء ذلك وابتداعه، بل اللَّه هو المالك بذلك.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
وقوله: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا): دل قولهم: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى
182
مَعَكَ) على أنهم عرفوا أن ما جاء به رسول اللَّه ويدعوهم إليه هو الهدى، حيث قالوا: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ).
وقوله: (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا): يخرج قولهم هذا على وجهين:
أحدهما: أن نهلك ونفنى جوعًا إذا خالفنا أهل الآفاق في الدِّين؛ لأن أرزاقهم وما به قوام أبدانهم إنما يحمل ويمار من الآفاق، فيقولون: إنا إذا اتبعنا الهدى معك وخالفنا في الدِّين أهل الآفاق، منعونا الميرة فنهلك ونموت جوعًا؛ فذلك تخطفهم من الأرض.
والثاني: قالوا ذلك مخافة أن يغزوا ويؤسروا أو يقتلوا إذا خالفوا أهل الآفاق والأطراف في الدِّين واتبعوا الهدى مخافة الأسر والقتل، فأجابهم اللَّه ورد عليهم اعتلالهم في الوجهين، فقال: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) يقول - واللَّه أعلم -: إنا جعلناهم في الحرم آمنين، وما يمتار إليهم من أنواع الثمرات باللطف لا بموافقة الدِّين؛ ألا ترى أنهم مع موافقة الدِّين كانوا يتخطفون الناس منهم؛ حيث قال في آية أخرى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أخبر أنهم مع موافقتهم في الدِّين يتخطفون؛ دل أنه إنما جعل لهم الحرم مأمنا والميرة إليهم باللطف لا بالموافقة في الدِّين؛ حتى لا يتعرض لأهل الحرم في الحرم ولا خارجه بشيء منه، ولا يتعرض -أيضًا- من دخل الحرم بشيء؛ ليعلم أنه إنما كان كذلك باللطف من اللَّه لا بالموافقة في الدِّين.
والثاني: أنه مع ما كانوا يعبدون الأصنام دون اللَّه فيه لا يمنعهم الرزق ويؤمنهم فيه، فلأن يفعل ذلك بهم عند عبادتهم لله وتركهم عبادة غيره أحق أن يرزقوا ويأمنوا فيه.
وقوله: (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ): قال أهل التأويل: (ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي: من كل جنس ونوع من الثمرات يجيء إليه.
وظاهره: أن يجيء إليه من كل شيء أرفعه وأنفعه وذلك ثمرته؛ لأن ثمرة كل شيء أرفعه وأنفعه، يقال: ثمرة الشيء كذا وثمرة هذا الكلام كذا، أي: ما ينتفع من هذا: هذا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أي: ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ما يحمل إليهم من الآفاق، ويجيء إليهم من الثمرات والأطعمة إنما هو باللطف لا بموافقة الدِّين؛ وكذلك لا يعلمون أن أمنهم فيه باللطف لا بموافقة الدِّين، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: كفرت معيشتها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم ترض معيشتها، وفيه إضمار " في "، أي: (بطرت في معيشتها) فانتصب لانتزاع حرف " في "، وتأويله - واللَّه أعلم - أي: كم أهلكنا قرية بطر أهلكها في معيشتها، حتى صرفوا شكر ما أنعم عليهم، وجعلوا عبادتهم لغير الذي جعل لهم السعة والرخاء، فأنتم يا أهل مكة إذا بطرتم أشركتم في سعتكم وخصبكم تهلكون؛ كما أهلك من كان قبلكم، وهو كما قال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ...) الآية.
وقوله: (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا): من القريات، قريات إذا أهلك أهلها أسكن غيرهم فيها نحو: قريات فرعون وغيره، جعل مساكنهم لبني إسرائيل حيث قال: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ...) الآية، وقوله: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ)، ومن القريات ما جعلها خربة هعطلة لم يسكن غيرهم فيها نحو قريات لوط وغيره.
وقوله: (وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) أي: الباقين، والوارث: هو الباقي في اللغة على ما ذكرنا آنفًا في غير موضع.
وقوله: (وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) يخرج على وجهين:
أحدهما: إخبار عن هلاك أهل الأرض وفنائهم ويبقى هو؛ كقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، والثاني: إخبار عن هلاك أُولَئِكَ وجعلها لغيرهم، أي: للمتقين؛ كقوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، واللَّه أعلم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) أي: نؤخذ، وقوله: (يُجْبَى إِلَيْهِ) من الجباية، أي: يجمع، يقال: جبيت أجبي جباية وجبيا، وأجبى يجبي، أي: حاز يحوز، (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) أي: لم ترض بمعيشتها.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: أشرت.
وقالا: (فِي أُمِّهَا رَسُولًا) أي: في أكثرها وأعظمها قدرا وهي مكة، والنبي منهم والكتاب أنزل عليهم.
وقالا: و (أُمِّهَا): كلمة لا يتكلم بها أحد يعنون بالكسر.
وقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩) جائز أن يكون تلك القرى التي أخبر أنه غير مهلكها حتى يبعث في أمها رسولا -:
الْمُرْسَلِينَ). ويحتمل الأمر بالسلام على أصحابه وجميع المؤمنين؛ كقوله: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ)، أمر رسوله بالسلام على المرسلين وعلى أصحابه وعلى المؤمنين.
ثم في قوله: (اصْطَفَى) دلالة: أن لا أحد يستوجب الصفوة إلا باللَّه؛ حيث قال: (اصْطَفَى).
وقوله: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي: الذي فعل هذا بالأمم الخالية من الهلاك للأعداء وإبقاء الرسل والأولياء، أم الأصنام التي تشركون في عبادته، وهي لا تملك شيئًا من ذلك؛ يقول - واللَّه أعلم -: إنكم تعلمون أن اللَّه يملك ما ذكر من إهلاك أعدائه وإبقاء رسله، والأصنام التي تعبدونها دونه لا تملك شيئًا، فكيف تشركونها في ألوهيته؟! وإلا لم يذكر جواب قوله: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) جوابه أن يقولوا: بل اللَّه خير.
وكذلك روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن ثبت -: أنه كان إذا قرأ هذه الآية، قال: " بل اللَّه خير وأبقى وأجل وأكرم ".
وقوله: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) يذكرهم بهذا؛ لوجهين:
أحدهما: يذكر قدرته وسلطانه في خلق ما ذكر من السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإنبات النبات من الأرض، وإخراجه على إقرارهم أن اللَّه خالق ذلك لا غيره، فيقول: فإذا علمتم أن اللَّه هو خالق ذلك كله، فكيف أشركتم غيره ممن لا يملك ذلك، ولا يقدر في تسمية الإلهية والعبادة؟!
والثاني: يخبر عن اتساق الأمور والتدبير فيهما جميعًا، واتصال منافع أحدهما بالآخر، على تباعد ما بينهما؛ ليعلم أن منشئهما ومدبرهما واحد لا عدد، فإذا عرفتم ذلك فكيف أشركتم غيره فيهما؟! وهو كقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
وهذا الحرف على الثنوية والدهرية وهَؤُلَاءِ لقولهم بالعدد وإنكارهم الواحد، والأول على المقرين بالواحد إلا أنهم أشركوا الأصنام في التسمية والعبادة.
وقوله: (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الحدائق: الحيطان، والبساتين: ما دون الحيطان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحدائق: الحوائط التي خصت بالأشجار، والبساتين: هي الملتفة بها.
126
القريات اللاتي هن حول مكة، لا يهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا.
قيل: في أعظمها - وهي مكة - رسولا (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، فإن كان هذا؛ فيكون الإهلاك لها الانتزاع من أيديهم، وجعلها في أيدي أهل الإسلام على ما كان؛ لأن اللَّه كان يفتح على رسوله قرية فقرية وبلدة فبلدة، حتى جعل الكل في أيدي المسلمين، وهو ما قال: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) وهو وعد فتح مكة، وذلك إهلاكهم.
والثاني: جائز أن يكون هذا في كل القرى وجميع الرسل: أنه كان لا يهلكها بالكفر نفسه، حتى يبعث في أكبرها وأعظمها - وهي المصر - رسولا يتلو عليهم آياته، وذلك يشبه قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وإنَّمَا ذكر بعث الرسول في أمها؛ لأنه إذا بعث الرسول في أعظمها - وهو المصر - ينتشر وينتهي إلى الآفاق والصغائر منها والقرى؛ لما أنهم يدخلون المصر لحوائجهم؛ فيتهيأ للرسول تلاوة الآيات عليهم والدعاء لهم، وإذا كان في بعض القرى لا يتهيأ لهم ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) أي: معاندون مكابرون، لا نهلكهم إهلاك تعذيب بنفس الكفر في الدنيا، حتى يكون منهم العناد والمكابرة، إنما يعذبون عذاب الكفر في الآخرة وهو عذاب الأبد.
وقوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٠) إنهم كانوا يتفاخرون بما أوتوا من السعة ومتاع الحياة الدنيا، وأهل الزهد والتقوى آثروا الباقي الموعود في الآخرة على متاع الحياة الدنيا وزينتها؛ ولذلك قال: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (٦١) فجواب هذا أن يقال: بل الموعود الحسن الملاقى بالذي له عاقبة خير من المتاع الفاني الذي ليست له عاقبة، لكنه لم يذكر له جوابًا، فجوابه ما ذكرنا.
ثم كل استفهام كان من اللَّه فهو على الإيجاب في الحقيقة ليس على الاستفهام.
وقوله: (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي: يحضرون في النار.
وقيل: من المحضرين، أي المعذبين، وكلاهما واحد.
185
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحدائق: البساتين والرياض، والحديقة: الروضة.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الحدائق: البساتين واحدها: حديقة، سميت بذلك لأنها تحدق بها، أي: تحيط (ذَاتَ بَهْجَةٍ): حسن المنظر.
وجائز أنها سميت ذات بهجة لما يبتهج صاحبها إذا نظر إليها ويسر.
وقوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) أي: ما تقدرون أنتم أن تنبتوا شجرها، فمن هو دونكم أشد وأبعد، فكيف أشركتم في العبادة وتسمية الإلهية من هو دونكم في كل شيء؟! وقوله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: لا إله مع اللَّه.
(بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ): يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: يحتمل (يَعْدِلُونَ) أي: يجعلون من لا يملك ما ذكر عديلا لله.
والثاني: (يَعْدِلُونَ) أي: يعدلون عن اللَّه، ويميلون إلى غيره من العدول، والله أعلم.
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١)
يقرون عليها، ويتعيشون فيها ويبيتون، (وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا): ينتفعون بها أنواع المنافع ويشربون، (وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ)، أي: الجبال لئلا تميد بهم، (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل بين بحر فارس والروم جزيرة العرب حاجزًا، وسميت: جزيرة؛ لما جزر الماء فيها، أي: ذهب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بحر الشام وبحر العراق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) بين العذب والمالح حاجزًا بلطفه، لا يختلط هذا بهذا ولا هذا بهذا؛ لطفا منه، يذكرهم نعمه عليهم ولطفه: أن كيف أشركتم في عبادته وألوهيته من لا يملك ذلك، وصرفتم شكرها إلى غير المنعم؟!
(أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: لا إله مع اللَّه.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): لأن من لا ينتفع بما يعلم فكأنه جاهل، نفى عنهم العلم لتركهم الانتفاع به؛ كما نفى عنهم السمع والبصر واللسان والعقل؛ لتركهم الانتفاع بهذه الجوارح والحواس، وإن كانت لهم هذه الجوارح؛ فعلى ذلك جائز نفي العلم عنهم لتركهم الانتفاع به.
والثاني: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) لما لا يتكلفون النظر فيما ذكر، أو لا يعلمون أن بينهما حاجزا، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢) يخرج على الصلة بقوله: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)؛ كأنه يقول: من يملك إجابة المضطر وكشف السوء عنه وجعلكم الخلفاء في الأرض خير، أمَّن لا يملك من ذلك شيئًا؟ فجواب ذلك أن يقولوا: بل الذي يملك ذلك خير ممن لا يملك ولا يقدر على ذلك.
أو يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما:
أحدهما: أنكم تعلمون أن الذي يجيب المضطر ويكشف السوء هو اللَّه تعالى، لا الأصنام التي تعبدونها، فكيف أشركتموها في الألوهية والعبادة؟!
والثاني: أنه إذا أجاب دعوة المضطر وكشف السوء والأحزان ومنع؛ فدل بقاء ذلك كله واتساق الأمر أنه واحد لا شريك له؛ فهذا على الثنوبة، والأول على المشركين؛ لإشراكهم غيره في العبادة له وتسميته الإله.
وقوله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: لا إله مع اللَّه (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ).
وعلى ذلك يخرج قوله: (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) على الوجوه التي ذكرناها؛ وكذلك قوله: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي من يقدر على ما تقدم ذكره يملك البعث بعد الموت وإحياءكم؛ يلزمهم البعث بهذا أي: من يقدر على هذا يقدر على ما ذكر.
(أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: لا إله مع اللَّه، بل اللَّه هو المتفرد بذلك دون من يعبدون ويشر كون.
وقوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ (٦٤) أي: من لج في هذا أو أنكر ذلك وادعى الشرك فيه لغيره، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في مقالتكم.
وقوله: (بُشْرًا) من البشارة و " نُشْرًا " بالنون من التفريق والرفع.
وقوله: (خُلَفَاءَ الْأَرْضِ): يخلفون من قبلهم من الأمم؛ قال أبو معاذ: وواحد خلفاء خليف، وواحد الخلائف خليفة، والخليف من الخالف كالعليم من العالم.
وقوله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) يقول - واللَّه أعلم - يفعل ذلك، أي يرزقكم، وينزل لكم من السماء ماء، وينبت من الأرض ما تأكلون، ويرعى أنعامكم، أو مع اللَّه إله يهديكم في ظلمات البر والبحر، ويرسل لكم الريح بشرًا، أو يجيب المضطر ويكشف السوء عنه، وكل ما ذكر، أي: ليس معه إله سواه، بل اللَّه يفعل ذلك وحده، فكيف أشركتم غيره في إلهيته وعبادته، على علم منكم أن الذي تعبدون من دونه لا يملك شيئا أن يفعل ذلك
128
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).
قوله: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) الذين في زعمكم أنهم شركائي، حيث أشركتموهم في العبادة وتسمية الألوهية، وإلا لم يكن لله شريك فيقول: أين هَؤُلَاءِ الذين زعمتم أنهم شركائي.
ثم قوله: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) إنما يقال لهم لقولهم: (مَا نعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فيقول: أين شفاعة من زعمتم أنهم شفعاؤكم عند اللَّه، وأين قربتكم وزلفاكم بعبادتكم إياها حيث زعمتم أن عبادتكم إياها تقربهم إلى اللَّه زلفى؛ أين ذلك لكم منهم؟
وقولِه: (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣) يحتمل قوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الذي قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ).
وجائز أن يكون قوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي: وجب عليهم العذاب؛ كقوله: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)، أي: وجب العذاب عليهم؛ وكقوله: (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا)، أي: وجب العذاب عليهم بما ظلموا ونحوه.
ثم اختلفوا في الذين حق عليهم القول:
فمنهم من يقول: هم رؤساء الكفرة وأئمتهم الذين أضلوا أتباعهم ودعوهم إلى الضلال.
ومنهم من يقول: هم شياطين الجن.
وللفريقين جميعًا في الكتاب ذكر:
قال في أئمتهم: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا)، وقال: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا)، وأمثال هذا كثير.
وقال في شياطين الجن: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وقال: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ...) الآية، ونحوه كثير أيضًا.
وقوله: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا): يقولون: (أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا) يعتذرون: أنه لم يكن منا إليهم إلا الدعاء والإشارة إلى الغواية؛ وهو كقول إبليس اللعين
186
[ الآية ٦٣ ] وعلى ذلك يخرج قوله :﴿ أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ﴾ على الوجوه التي ذكرناها.
وخطبته يومئذ حيث قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ...) الآية؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ يقولون لم يكن منا إليهم سوى الدعاء بلا برهان ولا حجة فاتبعونا؛ فلا تلومونا ولوموا أنفسكم؛ حيث تركتم إجابة الرسل ومعهم براهين وحجج، وأجبتمونا بلا حجة ولا برهان، فأغويناكم كما غوينا، ولو كنا على الهدى لهديناكم، كقولهم: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ).
وقوله: (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ): إنما يتبرءون أنا لم نأمرهم بالعبادة لنا، وإلا كانوا عبدوهم.
ثم إن للمعتزلة أدنى تعلق بهذه الآية؛ لأنهم يقولون: إنما أضافوا الغواية إلى أنفسهم حيث قالوا: (أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا)؛ دل أن اللَّه لا يغوي أحدا.
فيقال لهم: إنا لا نضيف ولا نجيز إضافهَ الغواية إلى اللَّه فيما يخرج مخرج الذم له، وإنما نضيف فيما يخرج مخرج المدح له والثناء عليه، ثم قد أضاف إبليس الغواية إليه، ولم ينكر عليه حيث قال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)، في غير موضع وقال: (يُضِلُّ مَن يشَآءُ)، ونحوه كثير في القرآن، فما خرج مخرج أن مدح له والثناء عليه يضاف إليه، وما خرج مخرج الذم له فلا، وقد ذكرنا هذا في غير موضع، واللَّه أعلم.
وقوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يوم قال لإبليس: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ثم قالت الشياطين في الآخرة: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا) يعنون: كفار بني آدم، هَؤُلَاءِ الذين أضللناهم عن الهدى كما ضللنا تبرأنا إليك منهم يا رب (مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ)، فتبرأت الشياطين ممن كان يعبدها، فقالوا: لم نأمرهم بعبادتنا، وقيل لكفار بني آدم: (ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ (٦٤) يقول: سلوا الآلهة التي سميتموها: آلهة أهم آلهة؛ (فَدَعَوْهُمْ) أي: سألوهم، فلم تجبهم الآلهة بأنها آلهة.
وقوله: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا، أي: معي شركاء على ما ذكرنا من قبل، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) يحتمل شركاءكم في الخلقة، أو شركاءكم في العبادة ادعوهم؛ ليشفعوا لكم ويقربوكم إلى اللَّه على ما زعمتم في الدنيا، (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ)، أي: لم يشفعوا لهم ولم يستجيبوا لهم؛ لما لم يجعل في وسعهم الإجابة لهم واجبًا كائنًا في الآخرة.
وقوله: (وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ): تأويله، أي: لو رأوا العذاب في الدنيا لكانوا يهتدون، ولكن لم يروه؛ هذا وجه.
بكم؟! يذكر سفههم وقلة بصرهم ومعرفتهم.
ثم قال: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) أن مع اللَّه إلفا فعل ذلك بكم (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ثم قال: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) كأنه قال - واللَّه أعلم - لرسوله: قل لا يعلم ممن تعبدون من أهل السماوات ومن في الأرض الغيب إلا اللَّه؛ لأن بعضهم كان يعبد أهل السماوات وهم الملائكة، وبعضهم كانوا يعبدون من في الأرض؛ يقول: لا يعلم ممن تعبدون من دون اللَّه من في السماوات والأرض الغيب، إنما يعلم الغيب اللَّه.
ثم قوله: (الْغَيْبَ) يخرج على وجهين:
أحدهما: ما يغيب بعضهم من بعض؛ يقول: ما يغيب بعضهم من بعض فهو يعلم ذلك.
والثاني: لا يعلم الغيب إلا اللَّه، أي: ما كان وما يكون إلى أبد الآبدين لا يعلم ذلك إلا اللَّه وإن أعلموا وعلموا ذلك.
ومنهم من صرف الغيب إلى البعث والساعة، يقول: لا يعلم الساعة أحد متى تكون إلا اللَّه.
وقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ): قال أهل التأويل: وما يشعر أهل مكة متى يبعثون، لكن لو كان الجهل عن وقت البعث، فأهل مكة وغيرهم من أهل السماوات وأهل الأرض في جهلهم بوقت البعث شرعًا سواء، لا أحد يعلم مِن أهل السماوات والأرض أنه متى يبعث، إلا أن تكون الآية في منكري البعث، فحينئذ جائز صرفه إلى بعض دون بعض، فأما في وقت البعث فالناس في جهلهم بوقت البعث سواء، وهو ما قال في آية أخرى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا...) الآية، أخبر أنه لم يطلِعْ أحد على علم ذلك عند اللَّه.
وقوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (٦٦) اختلف في قراءته وتأويله:
أما القراءة: فإنه قرأ بعضهم: (ادَّارَكَ) بالتشديد والألف.
وقرأ بعضهم: (ادَّرَكَ) بإسقاط الألف والتشديد.
وقرأ بعضهم: (بلى) بإثبات الياء في (بلى)، على الوقف عليها، و (أَأَدَّرَكَ) على الاستفهام: (بلى أَأَدرَكَ).
ومنهم من قرأ على الاستفهام: (آدْرَكَ) على غير إثبات الياء في حرف (بَل) وعلى
129
غير قطع منه.
فمن قرأ: (ادَّارَكَ) بالتشديد على غير الاستفهام، يقول: معناه: تدارك واجتمع، أي: تدارك علمهم في الآخرة، يقول: أبلغ علمهم بالآخرة.
أي: لم يدرك ولم يبلغ علمهم، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ)، يسفههم ويجهلهم، يقول: ما بلغ علمهم بالآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ)، أي: أم ادَّارك علمهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ)، أي: خاب علمهم عن الآخرة، وادرك في الآخرة حين لم ينفعهم.
وعن الحسن قال: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ)، أي: اضمحل علمهم وذهب، وعن ابن عباس وغيره قالوا: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ)، بل أجمع علمهم بأن الآخرة كائنة، وهم مشركو العرب.
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا) قال: يقولون مرة: الآخرة كائنة ثم يشكون فيها فيقولون: ما ندري أكائنة أم لا؟
(بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) يعني: جهلة بها.
وجائز أن يسمى الشاك في شيء: عَمِيا.
وأَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ يقولان: (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) أي: تدارك ظنهم في الآخرة، وتتابع في القول.
(بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) أي: من علمها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل الأدب: لا تستقيم قراءة من قرأ بإثبات الياء في (بلى) والصلة بالأول؛ لأن (بلى) بالياء إنما يقال في الإيجاب والإثبات، وما تقدم من الكلام هو على الإنكار والنفي، وذلك غير مستقيم في اللغة والكلام.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
130
ووجه آخر: أنهم لم يصدقوا بالعذاب في الدنيا، ولو صدقوه لاهتدوا مخافة نزول العذاب بهم.
والثالث: لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ... ) اختلف فيه: قال قائلون: إنما يسألون عن إجابتهم الرسل ماذا أجبتموهم؟ على علم منه أنهم ماذا أجابوا هم، (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦) أي: الإجابة، فلا يتهيأ لهم الإجابة لهول ذلك وفزعهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما يسألون عن الحجة والعذر الذي به كانوا تركوا إجابة الرسل، فيقول لهم: لأي حجة وعذر تركتم إجابتهم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ)، أي: الحجج والعذر، لما لم يكن لهم الحجة والعذر في تركهم إجابتهم.
(فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل بعضهم بعضا، بل يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا على ما ذكر في الكتاب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) بالحجة والبرهان؛ لما لا حجة لهم ولا برهان، أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج؛ لأن اللَّه أدحض حججهم وكلل ألسنتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يتساءلون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتساءلون في الدنيا؛ كقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). واللَّه أعلم بذلك.
ثم إن بعض المعتزلة تكلموا فيه وقالوا: لو كان الأمر على ما قاله القدريون والجبريون في المشيئة والإرادة، لكان يسهل لهم الاحتجاج، ويهون لهم العذر، فيقولون: يا ربنا أجبنا ما نفذ من مشيئتك وإرادتك، وما مضى من قضائك وكتابتك علينا؛ إذ كنت أنت قضيت وكتبت علينا وشئت وأردت ما كان منا من التكذيب لهم وترك الإجابة، فلم يكن لنا تخلص مما شئت أنت وقضيت علينا.
إلى هذا الخيال يذهب جعفر بن حرب، وهذا تعليم لأُولَئِكَ الكفرة الحجاج بالباطل والكذب بين يدي رب العالمين للتكذيب الذي كان منهم.
ثم يقال: لو كان لهم ذلك الحجاج على زعمكم، فلا يكون ذلك لهم بقولنا، ولكن إنما يكون بكتاب اللَّه وسنة رسوله وقول المسلمين أجمع حيث قالوا: (ما شاء اللَّه كان
188
[ الآية ٦٦ ] وقوله تعالى :﴿ بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ﴾ اختلف في قراءته وتأويله. أما القراءة١ فإنه قرأ بعضهم﴿ ادَّارك ﴾ بالتشديد والألف، وقرأ بعضهم : بل أدْرك بإسقاط الألف والتشديد، وقرأ بعضهم : بلى بإثبات الياء في بلى وعلى الوقف عليها، و : أدَّارك على الاستفهام : بلى. أدّارك ؟
ومنهم من قرأ على الاستفهام : بل ادارك على غير إثبات الياء في حرف : بل وعلى غير قطع منه.
فمن قرأ : ادّارك بالتشديد على غير الاستفهام فيقول : معناه تدراك واجتمع، أي تدارك علمهم في الآخرة. يقول : أبَلغ٢ علمهم في الآخرة ؟ أي لم يدرك ولم يبلغ [ في الدنيا ]٣ ﴿ بل هم في شك منها بل هم منها عمون ﴾ بسفههم٤ وبجهلهم. يقول : ما بلغ علمهم بالآخرة.
وقال بعضهم : بل ادّرك علمهم في الآخرة ؟ أي أم أدرك علمهم ؟ وقال بعضهم : بل أدرك علمهم في الآخرة، أي غاب علمهم عن الآخرة، وأدرك في الآخرة حين لم ينفعهم.
وعن الحسن [ أنه ]٥ قال : بل أدْرَكَ علمهم [ أي اضمحل ]٦ وذهب.
وعن ابن عباس وغيره [ أنهم ]٧ قالوا : بل ادّارك علمهم في الآخرة [ بل اجتمع علمهم بأن الآخرة ]٨ كائنة، وهم مشركوا العرب ﴿ بل هم في شك ﴾ قال : يقولون مرة : الآخرة كائنة، ثم يشكون فيها، فيقولون : ما ندري أكائنة هي أم لا ﴿ بل هم منها عمون ﴾ يعني : جهلة بها.
وجائز أن يسمى الشاك في شيء أعمى٩.
وأبو عوسجة والقتبي يقولان ﴿ بل ادارك علمهم ﴾ أي تدارك ظنهم في الآخرة، وتتابع بالقول١٠ ﴿ بل هم منها عمون ﴾ أي من علمها.
وقال بعضهم : من أهل الأدب : لا تستقيم قراءة من قرأ بإثبات الياء في بلى والصلة بالأول ؛ لأن بلى بالياء إنما يقال في الإيجاب والإثبات، وما تقدم من الكلام، هو على الإنكار والنفي، وذلك غير مستقيم في اللغة والكلام.
١ - انظر معجم القراءات القرآنية ج٤/ ٣٦٥- ٣٦٧..
٢ - في الأصل وم: أبلغ..
٣ - ساقطة من الأصل وم..
٤ - من في الأصل: ليفهم..
٥ - ساقطة من الأصل وم..
٦ - من م، ساقطة من الأصل..
٧ - ساقطة من الأصل وم..
٨ - من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٩ - في الأصل وم: عميا..
١٠ - في م: في القول..
الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٤) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٧٥)
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) كأنهم قالوا ذلك لأحد وجهين:
إما استهزاء بما يخبرهم الرسل أنكم تبعثون، أو قالوا ذلك احتجاجا بما احتجوا به على الرسل بقولهم الذي قالوا: (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) يحتجون فيقولون: لقد وعد آباؤنا بالبعث كما وعدنا نحن، ثم لم نرهم بعثوا منذ ماتوا؛ فعلى ذلك نحن وإن وعدنا فلا نبعث كما لم تبعث آباؤنا.
ثم قال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) يقول - واللَّه أعلم -: لو سرتم في الأرض فنظرتم إلى ما حل بمكذبي الرسل من العذاب، والرسل إنما كانوا يدعون إلى توحيد اللَّه، والإقرار بالبعث بعد الموت، فكل ذلك ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل بالبعث وغيره؛ فيكون قوله: (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ليس على حقيقة الأمر بالسير، ولكن على ما ذكرنا، أي: لو سرتم لعرفتم ما حل بهم بتكذيبهم، أو أن يكون الأمر بالسير في الأرض أمرا بالتفكر فيما نزل بأُولَئِكَ، الأمر بالنظر في عاقبة أمرهم أمر بالاعتبار فيهم، وفي أمر أُولَئِكَ أمر بهذا؛ ليزجرهم ذلك عن مثل صنيعهم وفعلهم.
وقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) قال قائلون: قوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) بما يحل بهم من العذاب، إن لم يحزنوا هم على أنفسهم ولم يرحموها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن لم يسلموا؛ كقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)؛ وكقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وأمثال ذلك، كادت نفسه تهلك وتتلف؛ إشفاقًا عليهم بما ينزل بهم بتركهم الإسلام، فقال: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، ليس على النهي، ولكن على تسكين نفسه وتقريرها على ما هي عليه؛ لئلا تتلف وتهلك، وهو ما قال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
وقوله: (وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ): هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لا تكن في ضيق مما يستهزئون بك، ويسخرون بما توعدهم من العذاب
131
وما لم يشأ لم يكن)، وبكتاب اللَّه ما ذكر في غير آي من القرآن (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)، وقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا...) الآية، وأمثاله مما لا يحصى من الآيات، فلئن كان لهم ذلك إنما يكون بما ذكرنا لا بقولنا.
وأصله: أنه لا يكون لهم هذا النوع من الاحتجاج؛ لأنهم وقت فعلهم لا يفعلون بان اللَّه شاء ذلك لهم أو قضى وكتب ذلك عليهم، وهم يودون ويحبون وقت فعلهم أن يشاء اللَّه ذلك منهم ويرضى، فإذا كانوا وقت فعلهم لا يفعلون لذلك، فكيف يكون لهم الحجاج على ما كانوا عليه يفعلون لا لذلك؟!
لكن هذا منهم ثعليم الكذب لهم ليكذبوا بين يدي رب العالمين على ما ذكر.
وأصل قولنا في هذا: أنا نقول: إنه شاء من كل ما علم أنه يكون منه ويختار، وكذلك قضى وكتب على كل ما علم أنه يكون منه؛ إذ لا يجوز أن يشاء منه خلاف ما علم أنه يكون؛ لأن فيه أحمد وجهين:
إما الجهل بالعواقب.
وإما العجز فيه.
وذانك عن اللَّه منفيان، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا.
وأصلهما: ما روي عن أبي حنيفة - رحكمه اللَّه - أنه قال: بيننا وبين القدرية حرفان: أحدهما: أنا نقول لهم: إن اللَّه علم ما يكون أنه يكون، فإن قالوا: لا، كفروا؛ لأنهم جهلوا اللَّه، وإن قالوا: بلى، فيقال لهم: وشاء أن يكون ما علم أنه يكون، فإن قالوا: لا، كفروا؛ لأنهم يقولون: شاء أن يجهل، وذلك كفر، وإن قالوا: بلى شاء ذلك، لزمهم قولنا في المشيئة والإرادة لله في ذلك.
تال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (فَعَمِيَتْ) بالتخفيف، أي: خفيت، و (فَعُمِّيَتْ) بالتشديد، أي: أخفيت.
وقوله: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا (٦٧) أي: فأما من تاب، أي: رجع عما كان فيه من الشرك والكفر، وآمن بالذي دعاهم الرسل وأجابهم، وعمل صالِحًا فيما بينه وبين ربه.
(فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ): يحتمل رجوع (فَعَسَى) إلى ذلك الرجل الذي نعته، يقول: على رجاء القبول والفلاح يفعل ما يفعل من التوبة والعمل الصالح.
189
أو أن يقال ما قال أهل التأويل: إن (عَسَى) من اللَّه واجب، وهو ما ذكرنا أن كل استفهام كان من اللَّه فهو على اللزوم والوجوب؛ فعلى ذلك حرف (عسى)، و (لعل)، وإن كان حرف شك في الظاهر، فهو من اللَّه على الوجوب واليقين.
قال أبو معاذ: الفلاح في كلام العرب البقاء، ويقال: النجاة، وقد ذكرناه في غير موضع.
* * *
قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
وقوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ): يقول - واللَّه أعلم -: وربك يختار للرسالة من يشاء ويجتبيه لها، فيجعلهم رسلا.
(مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ): يقول: لم يكن لهم أن يختاروا هم، ولكن اللَّه يختار ويصطفي من يشاء ردًّا لقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ...) الآية، إلى هذا ذهب بعضهم.
وجائز أن يكون هذا في كل أمر، أي: وربك يختار ما يشاء ويأمر، وما كان لهم الخيرة من أمره أي: التخلص والنجاة من أمره؛ كقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا)، أي: أمر اللَّه ورسوله أمرًا، (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).
والقضاء هاهنا أمر، لكنه يحتمل وجهين:
أحدهما: على الوقف على قوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)، والابتداء من قوله: (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) من أمرهم، فإن كان على هذا فيكون (ما) هاهنا (ما) جحد، أي: لم يكن لهم الخيرة من أمرهم.
والثاني: على الصلة: ليس على الحجاج، فيكون تأويله: وربك يخلق ما يشاء ويختار الذي لهم الخيرة أن يكون، الوقف على هذا على قوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)، ثم يقول (وَيَخْتَارُ) الذي لهم (الْخِيَرَةُ).
قال أبو معاذ: قرئ (الْخِيْرَةُ) بجزم الياء وبتحريكها (الْخِيَرَةُ).
ثم قوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) على المعتزلة من وجهين:
أحدهما: ما أجمعوا عليه أن اللَّه قد شاء جميع ما يفعله العباد من الخيرات والطاعات، فإذا شاء ذلك دل أنه خلقها لهم، أخبر أنه يخلق ما يشاء وقد شاء الخيرات؛ فدل ذلك على خلق أفعال العباد.
لكنهم يقولون: قوله: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) إذا خلقه؛ وكذلك يقولون في قوله: (وَاللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): إن خلقه أو كلام نحو هذا.
قلئن جاز لهم هذا من الزيادة جاز لكل أحد مثله، فذلك بعيد.
وعلى قولهم أكثر الأشياء ليست بمخلوقة لله، وهو على أكثر الأشياء غير قدير؛ لأن أفعال الخلق لا شك أنها أكثر من أنفسهم، فأخبر أنه على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وأن هذا منه خرج مخرج الامتداح له والثناء له بما له من السلطان والقدرة على الخلق كلهم، فلو كان على ما يقوله المعتزلة لم يكن هذا مدحًا له ولا ثناء بالسلطان والقدرة؛ إذ هو على قولهم على أكثر الأشياء ليس بقادر على ما ذكرنا.
ثم نزه نفسه وبرأها عما قالوا فيه وأشركوا غيره في ألوهيته وربوبيته وفي عبادته فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، وقال: (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٦٩) هذا يخرج على الوعيد لهم والتنبيه؛ ليكونوا على حذر فيما يسرون وما يعلنون، والله أعلم.
وقوله: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
قوله: (وَلَهُ الْحُكْمُ) كقوله: (وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)، وقد ذكرنا أن قوله: (وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) من أمرهم أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: له الاختيار في أمرهم؛ لا لهم الاختيار في أمرهم، ولا يملكون هم ما يختار لهم دفعه.
والثاني: هو يختار لهم الخيرة في أمرهم؛ لأنه هو العالم بمصالح أمورهم وما يرجع إلى الأوفق والأنفع وهم لا يعرفون ذلك، فعلى ذلك قوله: (وَلَهُ الْحُكْمُ) في الدنيا والآخرة لأن أنفس الخلائق له دونهم، فله الحكم في أمورهم وأفعالهم؛ كما له الحكم في أحوالهم؛ لأنه لا يلحقه الخطأ في حكمه؛ إذ هو عالم بذاته، ولا تلحقه التهمة أيضا في دفع مضرة أو جر نفع؛ لأنه غني بذاته فله الحكم في الدارين جميعًا، واللَّه الموفق. وقوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ): هذا يخرج على وجوه:
أحدها: ما قاله أحس التأويل: إن أولياءه يحمدونه في الدنيا والآخرة في الجنة حيث قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ...) الآية، يقولونه إذا دخلوا الجنة.
والثاني: وقَالَ بَعْضُهُمْ (فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) يقول: في السماوات والأرض، وتصديقه
[ الآية ٧٠ ] وقوله تعالى :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ قال قائلون : قوله :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ بما يحل بهم من العذاب إن لم يحزنوا هم على أنفسهم ولم يرحموها.
وقال بعضهم : قوله ﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ إن لم يسلموا كقوله١ :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [ الكهف : ٦ ] وكقوله :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾ [ الشعراء : ٣ ] وقوله :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ [ فاطر : ٨ ] وأمثال ذلك.
كادت نفسه تهلك وتتلف إشفاقا عليهم بما ينزل بهم بتركهم الإسلام، فقال :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ [ وقال ]٢ ﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ [ فاطر : ٨ ] ليس على النهي، ولكن على تسكين نفسه وتقريرها على ما هي عليه لئلا تتلف وتهلك. وهو ما قال :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ﴾ [ القصص : ٥٦ ].
وقوله تعالى :﴿ ولا تكن في ضيق مما يمكرون ﴾ هذا يحتمل وجهين :
أحدهما :﴿ ولا تكن في ضيق مما ﴾ يستهزئون بكم ويسخرون بما توعدهم من العذاب والهلاك.
ألا ترى أنهم قالوا على إثر ذلك ﴿ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾ ؟ [ النمل : ٧١ ] قالوا ذلك له استهزاء بما يوعدهم. فكأنه قال لرسوله :﴿ ولا تكن في ضيق مما ﴾ يستهزئون بما توعدهم فإن الله يجزيهم جزاء استهزائهم بكم.
والثاني :﴿ ولا تكن في ضيق مما يمكرون ﴾ أي مما يريدون، ويهمون بقتلك، فإن الله يحفظك ويحوطك، فلا يصلون إليك مما يريدون من قتلك وإهلاكك، وهو ما قال :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ].
وفيه دلالة إثبات رسالته حين٣ أمنه، وأخبره أنه يحفظه ويعصمه من جميع الأعداء، وهو بين أظهرهم. فتلك آية من آيات النبوة والرسالة، والله أعلم.
١ - من م، في الأصل: لقوله..
٢ - ساقطة من الأصل وم..
٣ - في الأصل وم: حيث..
والهلاك؛ ألا ترى أنهم قالوا على أثر ذلك: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٧١) قالوا ذلك له استهزاء بما يوعدهم؛ فكأنه قال لرسوله: لا تكن في ضيق مما يستهزئون بما توعدهم؛ فإن اللَّه يجزيهم جزاء استهزائهم بك.
والثاني: (وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي: مما يريدون ويهمون قتلك؛ فإن الله يحفظك ويحوطك؛ فلا يصلون إليك بما يريدون من قتلك وإهلاكك، وهو ما قال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
وفيه دلالة إثبات رسالته؛ حيث أمنه وأخبره أنه يحفظه ويعصمه من جميع الأعداء وهو بين أظهرهم، فذلك آية من آيات النبوة والرسالة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): قد ذكرنا أنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وتكذيبًا بما كان يوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه، ثم كان يوعدهم مرة بعذاب ينزل بهم في الدنيا كما نزل بأوائلهم بتكذيبهم الرسل، ومرة يوعدهم بعذاب ينزل بهم في الآخرة، فيكذبونه في ذلك كله ويستهزئون به ويقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)؛ وكذلك قال أوائلهم لرسلهم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
ثم قال: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: قوله: (رَدِفَ لَكُمْ) بعد هذه الحال، وبعد هذا القول الذي قالوا: (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)، أي: ينزل بكم بعد هذه الحال بعض الذي تستعجلون وهو العذاب، وقوله: (رَدِفَ لَكُمْ) أي: يدنو منكم ويقرب.
والثاني: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) بعد الحزن والمكروه الذي يحل بكم بالموت (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) وهو عذاب القبر؛ لأنهم وقت الموت يحزنون ويكرهون لما شاهدوا وعاينوا من حالهم؛ ولذلك يسألون ربهم الرجوع والرد إلى المحنة ثانيًا؛ نحو قولهم: (رَبِّ ارْجِعُونِ)، وقولهم: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ)، ونحوه.
وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣) يحتمل قوله: (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) وجوهًا:
أحدها: ذو فضل في تأخير العذاب عنهم، ولكن أكثرهم لا يشكرون ذلك الفضل ولكن يستعجلون.
والثاني: ذو فضل على الناس في دينهم في بعثه وإرساله إليهم من يزجرهم ويصرفهم عما يستوجبون من عذاب اللَّه ومقته وهو الرسول، لكنهم لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه، بل يعاندونه ويكابرونه.
132
قول اللَّه: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وقوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ).
والثالث: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ): وهو أن جعل الدنيا مشتركة بين الأعداء والأولياء في نعيمها غير مفترقة ولا مختلفة، وأما الآخرة فقد فرق فيها بين الأولياء والأعداء؛ جعل للأولياء النعمة الدائمة وللأعداء العذاب الدائم، فله الحمد على ذلك.
والرابع: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) لما جعل الدنيا دار محنة والآخرة دار الجزاء لم يجعلها دار المحنة.
أو أن يكون قوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) أي: له الحمد من الخلق في كل حال وكل وقت؛ كقوله: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أنهم يحمدونه في بدء كل أمر وختمه، أو أن يكون له الحمد.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ): أو إن جعل النهار سرمدًا، أي: دائفا لا ليل فيه... إلى آخر ما ذكر من قوله: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) و (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) يخرج ذكره لوجهين:
أحدهما: في تسفيههم في صرف العبادة والشكر إلى الأصنام التي كانوا يعبدونها على علم منهم أنها لا تملك شيئا مما ذكر، من جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا، وتركهم عبادة من يعرفون أنه يملك ذلك كله؛ وكذلك ما ذكر في آية أخرى حيث قال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ...) الآية. يقول - واللَّه أعلم -: فإذا لا يملك ما تعبدون من دون اللَّه دفع ضر أراده اللَّه فيه وجعله رحمة، ولا دفع رحمة أرادها اللَّه وجعله ضرا، فكيف تعبدونها وتتركون عبادة من يملك جعل هذا هذا ودفع هذا بهذا؟ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: كيف تعبدون من لا يملك جعل الزمان كله ليلا دائمًا لا نهار فيه، وجعل النهار نهارا كله دائمًا لا ليل فيه، وتتركون عبادة من يملك ذلك كله يجعل وقت الراحة والفرار.
والثاني: يذكرهم عظيم نعمه ومنته حيث أنشأ هذا العالم محتاجًا إِلَى ما به قوام أنفسهم وأبدانهم في دينهم ودنياهم، ثم جعل ذلك كله على التعاون والتظاهر بعضهم بعضا ما لو
192
[ الآية ٧٢ ] وقوله١ تعالى :﴿ قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ﴾ هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : قوله :﴿ ردف لكم ﴾ بعد هذه الحال وبعد هذا القول الذي قالوا :﴿ بعض الذي تستعجلون ﴾ أي ينزل بكم بعد هذه الحال بعض الذي تستعجلون، وهو العذاب. وقوله :﴿ ردف لكم ﴾ أي يدنو منكم، ويقرب.
والثاني :﴿ قل عسى أن يكون ردف لكم ﴾ بعد الحزن والمكروه الذي يحل بكم بالموت ﴿ بعض الذي تستعجلون ﴾ وهو عذاب القبر، لأنهم وقت الموت يحزنون ويكرهون لما شاهدوا وعاينوا من حالهم. ولذلك يسألون ربهم الرجوع والرد على المحنة ثانيا نحو قولهم :﴿ رب ارجعون ﴾ [ المؤمنون : ٩٩ ] وقولهم :﴿ أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] ونحوه.
١ - في الأصل وم: ثم قال..
[ الآية ٧٣ ] وقوله تعالى :﴿ وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ يحتمل قوله :﴿ لذو فضل على الناس ﴾ وجوها :
أحدهما :﴿ لذو فضل ﴾ في تأخير العذاب عنهم ﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ ذلك الفضل، ولكن يستعجلون.
والثاني :﴿ لذو فضل على الناس ﴾ في دينهم في بعثه وإرساله إليهم من يزجرهم، ويصرفهم عما يستوجبون من عذاب الله ومقته، وهو الرسول. لكنهم لا [ يعترفون بهذا ]١ الفضل ولا يشكرونه، بل يعاندونه ويكابرونه.
والثالث٢ :﴿ لذو فضل على الناس ﴾ في ما أنعم عليهم في أموالهم وأنفسهم. لكنهم لا يشكرون في ذلك، بل يصرفون شكره على غير المنعم والله أعلم.
١ - في الأصل وم: يعرفون هذا..
٢ - في الأصل وم: أو..
أو لذو فضل على الناس فيما أنعم عليهم في أموالهم وأنفسهم، لكنهم لا يشكرون في ذلك، بل يصرفون شكره إلى غير المنعم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٤)
قوله: (تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: ما تكنون أنتم في صدوركم وتسترون فيها (وَمَا يُعْلِنُونَ)، أي: ما يبدون ويظهرون فيها، يعلم ذلك كله.
أو (مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ)، أي: ما تخفي أنفس الصدور وتستر فيها (وَمَا يُعْلِنُونَ): وما تحمل الصدور أصحابها على إبداء ما فيها وإظهاره، وهو ما ذكر في الخبر حيث قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح جميع بدنه وهو القلب "، والله أعلم.
وقوله: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٧٥) هذا يخرج على وجهين -أيضًا-:
أحدهما: ما من غائبة في السماء والأرض مما كان ويكون أبد الآبدين إلا كان ذلك مبينا في كتاب مبين، يخبر أنه كان لم يزل عالمًا بما كان منهم أبد الآبدين، وأنه عن علم بأفعالهم وصنيعهم خلقهم وأنشاهم، لا عن جهل وغفلة.
والأني: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي: ما من غائبة عن الخلق ما يغيب بعضهم من بعض ويستر بعضهم بعضا، (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ): إلا كان ذلك عند اللَّه محققا ظاهرًا مرقوبا، ينبههم؛ ليكونوا على حذر؛ يقول: إن ما يغيب بعضهم من بعض فهو عند اللَّه محفوظ رقيب لا يغيب عنه شيء؛ كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، واللَّه الموفق.
قَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) أي: أعجل لكم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (٨٢)
وقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قوله:
133
جعل ذلك على غير ذلك لا يقوم أنفسهم وأبدانهم بذلك؛ حيث جعل الليل وقتًا للراحة والسكون، والنهار وقتًا للتقلب والتعيش، ولو كان ذلك كله وقتًا للراحة لا يقوم أنفسهم أبدًا للتعيش والكسب، ولو كان كله وقتًا للتقلب والكسب لا راحة فيه لا تقوم أيضًا أنفسهم بذلك، لكنه - من رحمته وفضله - جعل لهم وقتًا للراحة، ثم جعله للكل لا لبعض دون بعض؛ وكذلك ما جعله وقتًا للتقلب إنما جعله كذلك للكل لا لبعض دون بعض؛ ليقوم لهم أسباب العيش، وما به قوام أنفسهم وأبدانهم، ولو كان ذلك كله وقتًا لأحدهما لم تقم أنفسهم، ولا بقي هذا العالم إلى الوقت الذي كتب له البقاء إلى ذلك الوقت وهو ما ذكر: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وقوله: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ)، و (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) إنما هو سمع عقل وقلب وبصر عقل؛ كانه يقول: أفلا تسمعون هذا بالعقل وأفلا تبصرون بالعقل، واللَّه أعلم؛ كقوله: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ...) الآية.
* * *
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) قد ذكرناه.
وهذه الآيات التي يكررها ويعيدها مرة بعد مرة من قوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)، وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، وقوله: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ)، وأمثال ذلك مما يكثر على علم منه أنهم لا يصدقونها، ولا يقبلونها ولا يستمعون إليها وإن كررت وأعيدت، غير مرة؛ فهو - والله أعلم - يخرج على وجهين:
أحدهما: لزوم الحجة لما مكنوا من الاستماع والسماع، وإن كانوا لا يستمعون إليها.
والثاني: يكون فيه عظة للمؤمنين من وجوه:
أحدها: ليشكروا على ما عصموا من عبادة غير اللَّه، ووفقوا إلى عبادة اللَّه المستحق لها؛ ليعرفوا عظيم نعمة اللَّه عليهم.
والثاني: ليحذروا عاقبتهم في الرجوع إلى ما هو عليه أُولَئِكَ الكفرة، على ما حذر الرسل والأنبياء وأولو العصمة عاقبتهم في الرجوع إلى ذلك؛ كقول إبراهيم: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، وأمثاله كثير.
والثالث: خوف المعاملة لئلا يعاملوا هم في العمل كما عامل أُولَئِكَ في الاعتقاد؛ لأن المؤمنين وإن خالفوا هم أُولَئِكَ الكفرة في الاعتقاد في إشراك غيره في العبادة فربما
193
يوافقونهم في العمل، فكررت هذه الأنباء والآيات عليهم وأعيدت مرة بعد مرة، وإن كان أُولَئِكَ لا يستمعون إليها للوجوه التي ذكرنا.
والرابع: كررت غير مرة لما لعلهم لا يقبلون في وقت ويقبلون في وقت، فيقولون: لو كررت وأعيدت لقبلنا، فكررت وأعيدت لئلا يقولوا بأنها لو أعيدت وكررت لقبلناها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) قيل: شهيدها رسولها؛ كقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ...) الآية، وقوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا)، ونحوه، سمي: شهيدًا؛ لأنه شهد على ما عملوا، وحضر ما كان منهم - واللَّه أعلم - من التكذيب والقبول والرد.
(فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ): في تسميتكم الأصنام: آلهة، أو في استحقاقها العبادة، أو في زعمكم: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عند اللَّه ونحو ذلك، يقول: هاتوا برهانكم وحجتكم على ما زعمتم.
وقوله: (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ): هذا أيضًا يحتمل وجوهًا:
أحدها: علموا أن الألوهية والربوبية لله.
أو علموا أن الشفاعة لله لا للأصنام التي عبدوها ليكونوا شفعاء لهم عند اللَّه؛ كقوله: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا).
أو أن يكون: أن الحق الذي عليهم وهي العبادة لله.
أو أن يكون ما جاء به الرسل من الحق إنما جاءوا به من عند اللَّه.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: ضل عنهم ما كانوا يأملون من عبادتهم تلك الأصنام من الشفاعة والزلفى.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
وقوله: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ... (٧٦) كأنه قال - واللَّه أعلم - يخوف أهل مكة، ويوعدهم ببغيهم على اللَّه وعلى رسوله بعذاب ينزل بهم؛ كما نزل بقارون ببغيه على موسى وقومه، أي: لم تنفعه قرابته من موسى ولا صلته به؛ لما ذكر أنه كان ابن عمه وكان ختنه: زوج أخته مريم؛ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: لا تنفعكم القرابة التي بينكم وبين رسول اللَّه ولا اتصالكم - به من عذاب اللَّه ومقته في الدنيا، إذا بغيتم عليه وتركتم اتباعه؛ كما لم تنفع القرابة التي بين قارون وموسى من عذاب اللَّه ومقته في الدنيا إذا بغى عليه، وكما لم تنفع أبوة أبي إبراهيم لأبي إبراهيم إذا بغى عليه وترك اتباعه، حيث تبرأ إبراهيم منه وحيث قال: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) الآية، وحيث لم تنفع لامرأة نوح ولوط الزوجية التي كانت بينهما وبين نوح ولوط من نزول العذاب ومقته بهما إذا تركتا اتباعهما وبغتا عليهما؛ فعلى ذلك يا أهل مكة لا ينفعكم من عذاب اللَّه ومقته قرابتكم برسول اللَّه - صلوات اللَّه عليه - ووصلتكم به، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَبَغَى عَلَيْهِمْ): اختلف أهل التأويل في بغيه عليهم:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن موسى طلب منه زكاة ما آتاه اللَّه من المال، فمنعه وأبى أن يعطيه.
195
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بغيه عليهم هو أن أعطى امرأة جُعلا لتقذفه بنفسها، فأراد أن يفضحه على رءوس الأخيار والملأ وأن يرجموه، فدفع اللَّه عنه وبرأه منه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما بغى عليه بكثرة ماله وولده، هذا يشبه أن يكون كأنه افتخر بكثرة ماله في دفع عذاب اللَّه ونقمته؛ كقول أهل مكة: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بغى عليه لأن النبوة جعلت في موسى والحبورة في هارون، ولم يجعل لقارون شيء، فاعتزل عن موسى واتبعه ناس كثير، فاعتدى عليه ونحو هذا كثير مما قالوه.
والأشبه أن يكون بغيه الذي ذكر عليه كبغي فرعون وهامان عليه؛ حيث قال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)؛ وكقوله: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ...) الآية، فكان منه ما كان من فرعون وهامان من التكذيب والرد لرسالته، وتسميته: ساحرًا كذابًا، فذلك هو البغي عليه.
أو لا يفسر البغي عليه؛ لأنه ذكر البغي ولم يبين ما ذلك البغي، واللَّه أعلم بذلك.
وقال قائلون: بغيه عليهم: هو أن زاد في ثيابهم شبرا، فذلك أيضا لا نعلمه فهو مثل الأول.
وقوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: مفاتحه: خزائنه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: جمع مفتاح وهو في الأصل مفاتيح.
وذكر أن كنوزه كانت كذا كذا ألفا، وأن مفاتيحه كان يحملها كذا كذا بغلا، وأنها من جلود كذا أو من كذا قدر كذا، فذلك أيضًا لا نعلمه ولا نفسره ولا نذكره إلا قدر ما ذكر في الكتاب؛ إذ ذكر في الكتاب الكنوز والمفاتح، وذكر أن العصبة تنوء بها وذلك للكثرة
196
(أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) مقطوع من قوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ كأنه قال: (يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: يبين لهم، ثم قال على الاستئناف: (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن هو موصول بعضه ببعض؛ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ) أي: يبين على بني إسرائيل أكثر ما اختلفوا فيه.
فإن كان على ما يقول هذا، فهم بأنفسهم يبينون الاختلاف الذي هم فيه لا يحتاج إلى أن يبين القرآن الذي هم فيه يختلفون؛ إذ هم يبينون ما اختلفوا فيه.
ولكن تأويله - واللَّه أعلم - إن هذا القرآن يبين لهم الحكم في أكثر ما يختلفون، أو يبين لهم الحق في أكثر ما يختلفون فيه.
وفي ظاهر الآية أنه يبين لهم أكثر الذي هم فيه يختلفون: أنه قد بقي شيء مما اختلفوا فيه لم يبين لهم؛ حيث قال: (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، لكن قوله: (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي: يبين لهم ما فيه نص القرآن، ولم يبين لهم ما فيه دليل القرآن، أو يبين لهم ما فيه نص القرآن ولم يبين ما فيه سنة القرآن ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنَّهُ... (٧٧) أي: القرآن الذي ذكر، (لَهُدًى وَرَحْمَةٌ) أي: هدى ورحمة، أي: هدى من الضلالة لمن اتبعه في الدنيا وعمل به، ورحمة في دفع العذاب عنهم في الآخرة، فيكون هو هدى ورحمة لمن آمن به.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) حكمه: هو عدله؛ كأنه يقول: إن ربك يقضي بينهم بعدله، لا يجور ولا يظلم في الحكم والقضاء.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ): الذي لا يعجزه شيء، (الْعَلِيمُ): الذي لا يخفى عليه شيء؛ عزيز بذاته عالم بذاته.
وقوله: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) أي: توكل على اللَّه واعتمد عليه، ولا تخف مكرهم وما يريدون ويقصدون أن يكيدوا بك؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وقوله: (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)؛ لأن معك حججا وبراهين، وليس مع أُولَئِكَ حجج وبراهين، وإن كان كل منهم يقول: إنا على الحق، فأنت على الحق المبين لا هم؛ لأن معك حججا وبراهين؛ فالذي أنت عليه حق، وإن الذي هم عليه باطل ليس بحق.
وقوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) قال بعض أهل التأويل: بلغنا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نادى يوم بدر: " يا فلان ويا فلان - وهم قتلى بعدما أمر أن يجمعوا
134
ما ذكر، ولكن لا نعلم قدره وعدده ما هو؟ ولا كم هو؟ وكذلك العصبة أيضًا لا نعلمه كم عدده؟ إلا أن أهل التأويل يقول بعضهم: من عشرة إلى أربعين، ويقول بعضهم: من عشرة إلى خمس وسبعين، وبعضهم: من عشرة إلى خمس عشرة ونحوه، لا نفسره ولا نذكر عدده سوى أنه اسم جماعة يتعصب بعضهم بعضًا يرجعون جميعًا إلى أمر واحد، وكذلك الشيعة هي جماعة يتشيع بعضهم بعضًا ويتبع بعضهم بعضًا؛ ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)، أي: يتعصب بعضنا بعضًا لا ندعه يأكله، ولئن لم نفعل ولم نحفظه (إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ).
وقوله: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ): اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: لتثقل بالعصبة تلك المفاتيح.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَتَنُوءُ) أي: تميل بها العصبة إذا حملتها من ثقلها.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)، أي: لتعجز العصبة عن حملها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تنوء: تثقل، والعصبة: جماعة.
وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تبطر ولا تأشر؛ إن اللَّه لا يحب البطرين الأشرين.
وجائز أن يكون قوله: (لَا تَفْرَحْ) أي: لا تفتخر على الناس بما آتاك اللَّه من المال ولا تتكبر عليهم، (لَا تَفْرَحْ) لا تسكن إليها، ولا تركن إلى ذلك، إن اللَّه لا يحب من ذكر.
وقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
كان كثرة ما آتاه اللَّه من المال أنسته الآخرة، وشغلته عنها وعن العمل لها، حتى حمله ذلك على الجحود والإنكار، فقالوا: وابتغ الدار الآخرة بما آتاك اللَّه.
(وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي: لا تنس من مالك نصيبك في الدنيا ولكن قدم لآخرتك.
197
قال الحسن في قوله: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) إلى آخره قال: أمر أن يأخذ من ماله قدر عيشه، ويقدم ما سوى ذلك لآخرته، وكذلك قال في قوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي: قدم الفضل وأمسك ما يبلغك.
(وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ): قال: يكفيك ما أحل اللَّه لك من الدنيا؛ فإن فيه غناء وكفاية.
وأصله: ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لك من الدنيا ما أكلت ولبست وأفنيت وما قدمت " جعل المقدم من الدنيا له، وأمَّا ما خلفه فهو لغيره.
وهكذا أمر الدنيا لم تخلق الدنيا لتبقى لأهلها أو يبقى أهلها فيها، ولكن إنما خلقت لتفنى هي أو يفنى أهلها، وخلقت الآخرة للبقاء، فنصيبه من الدنيا ما قدم وأنفق في طاعة اللَّه وفي سبيله ليس ما خلفه في هذه الدنيا.
وقوله: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) يحتمل قوله: (وَأَحْسِنْ) إلى نفسك في العمل للآخرة كما أحسن اللَّه إليك، وأحسن إلى الخلق كما أحسن اللَّه إليك.
وقوله: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ): هذا يدل أنه كان ينفق ماله إلا أنه كان ينفق في الصد عن سبيل اللَّه؛ حيث قال: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)، ولو كان في ترك الإنفاق لم يكن في ذلك بغي الفساد في الأرض.
ثم الواجب على من حضر الملوك وشهد مجالسهم من أهل العلم أن يخوفوا الملوك، ويواعدوهم بما أوعد قوم موسى قارون وخوفوه، ويأمروهم بالصلاح في أنفسهم وفي رعيتهم، كما أمر أُولَئِكَ قارون، وينهوهم كما نهاه أُولَئِكَ، فإن أجابوهم وإلا امتنعوا عنهم وكفوا أنفسهم عن الاختلاف إليهم، فإن لم يفعلوا فهم شركاؤهم في جميع ما يفعلون، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن قارون كان أخبر الناس بالتوراة وأعلمهم بها وسمي: قارون لذلك، وذكر أنه سمي: المنور؛ لحسن صوته بالتوراة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمى: منورًا لذكائه، واللَّه أعلم.
وقال): قوله: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي): وهو الكمياء، ذكر أنه يعالج
198
صنعة الذهب ويحسنها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) أي: على خبر عندي، قال ذلك على أثر قول أُولَئِكَ: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) إلى قوله تعالى: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) كأنهم أوعدوه بذهاب ذلك عنه وهلاكه، فقال - واللَّه أعلم -: إنما أوتيت ذلك على علم عندي، لم أوت جزافًا بلا سبب، وكأنه - واللَّه أعلم - نسي الآخرة بما أوتي من المال والكنوز، وترك الإنفاق في الخير، وكان ينفق في صد الناس عن سبيل اللَّه؛ ولذلك قال: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)، إلا أنه كان عارفًا باللَّه حيث قالوا له: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) وقالوا له: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) دل هذا منهم أنه كان عارفًا باللَّه تعالى.
وقوله: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا): ذكر هذا - واللَّه أعلم - لما أنه كان يفتخر ويستكبر على الناس بما أوتي من الأموال والكنوز والأتباع، ويحسب أنه يدفع العذاب الموعود في هذه الدنيا بذلك عن نفسه.
أو يظن أنه لما أوتي ذلك لا يعذب كظن أُولَئِكَ الكفرة حيث قالوا: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)؛ فجائز أن كان من قارون من الإعجاب بالكثرة والجمع ما ذكر بأُولَئِكَ، فقال عند ذلك: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا)، ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم من العذاب؛ فعلى ذلك أنت يا قارون، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ): اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسألون عن ذنوبهم؛ كقوله: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل هذه الأمة عن صنيع مجرمي الأمم الخالية.
وجائز ألا يسأل عن ذنوبهم؛ لأنهم لا يرون ما يعملون من الأعمال ذنوبًا، ولكن إنما يسألون عن الدليل الذي به لا يرون تلك الأعمال ذنبًا، واللَّه أعلم.
199
وقوله: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) قال عامة أهل التأويل: إنه خرج على بغال شهب، ومعه كذا كذا من الجواري على كذا كذا بغال شهب عليهن من الثياب كذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه خرج على براذين كذا بيض مع كذا كذا غلمان وجواري، ونحو ما ذكروا.
لكنا لا ندري على أي زينة خرج؟ ولكنا نعلم أنه خرج على الزينة التي يخرج أمثاله من الملوك، ولا نفسر أنه كذا على كذا، وكذلك لا نفسر العلم؛ ذكر أنه أوتي له من المال والكنز أنه كان عنده كذا من العلم، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) أي: أوتوا منافع العلم: لأنه قد يؤتى العلم ربما، ولا يؤتى من الانتفاع له به ما أوتي هَؤُلَاءِ؛ حيث قالوا لأُولَئِكَ: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) لم يكن من أُولَئِكَ إلا التمني أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون، ثم نهاهم الذين أوتوا منافع العلم والانتفاع به عن ذلك التمني، فدل ذلك أن التمني لا يسع الاشتغال به والطلب؛ حيث قالوا لهم: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ).
اختلف في قوله: (وَلَا يُلَقَّاهَا) كيف ذكره بالتأنيث، وإنما تقدم له ذكر الثواب، فألا قال: (وما يلقاه)؛ لكن اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يُلَقَّاهَا) كناية عن تلك المقالة التي كانت من أُولَئِكَ الذين أوتوا العلم لأُولَئِكَ الذين يريدون الحياة الدنيا، أي: لا يلقى تلك المقالة التي قالوها لأُولَئِكَ إلا الصابرون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن ذلك كناية عن الأعمال، أي: ولا يلقى تلك الأعمال ولا يوفق إليها إلا الصابرون.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (وَلَا يُلَقَّاهَا) أي: لا يوفق، ويقال: لا يرزق.
(الصَّابِرُونَ) يحتمل: المؤمنين أنفسهم؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: آمنوا.
ويحتمل: الصابرون: الذين صبروا أنفسهم وحبسوها على أداء ما افترض اللَّه عليهم،
200
ولم يؤتوا أنفسهم شهواتهم وهواها، واللَّه أعلم.
ثم كان في قوم موسى خصال ثلاث لم تكن تلك ومثلها في غيرهم من الأمم.
أحدها: ما ذكر من صلابة الذين أوتوا العلم، ويقينهم، وطمأنينتهم فيما وعدوا في الآخرة من الثواب، وصبرهم على أداء ما افترض اللَّه عليهم، وحبسوا أنفسهم عن مُنَاهم وشهواتهم، ولصلابتهم وقوتهم في الذين ما وعظوا قارون، حيث قالوا له: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ...) إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وهو كان يومئذ ملكا، ولما قالوا لأُولَئِكَ الذين يريدون الحياة الدنيا: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا).
والثاني: ما ذكر سحرة فرعون حين أوعدهم بالقطع والصلب والقتل بإيمانهم الذي آمنوا فقالوا: (لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ)، وقالوا: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)، وأمثال ذلك مما لم يبالوا حلول ما أوعدهم وخوفهم من أنواع العذاب.
والثالث: ما ذكر من الذي كان يكتم إيمانه؛ حيث قال: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)، وإنما أظهر ذلك حين قال فرعون: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، كأنه همَّ أن يقتله؛ ألا ترى أن ذلك الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه قال لهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) لم يبال هلاك نفسه بإظهاره الإيمان بعد أن أعان به اللَّه موسى، ونفع له بما قال، واستقبل فرعون وقومه بما استقبل.
فهذه خصال لم تذكر عن قوم قط من سوى قوم موسى مثلها.
ولذلك وصفهم ونعتهم بفضل الهداية والعدالة، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
وهكذا الواجب على كل مؤمن إذا أريد منه أخذ الإيمان، أو خاف على دينه أن يذهب به، أو أن يدخل فيه النقصان ألَّا يبذل ذلك، وإن خاف على نفسه تلفها وهلاكها وتعذيبها بأشد ما يكون من العذاب؛ ألا ترى أن اللَّه مدح أصحاب الأخدود بما احتملوا أشد العذاب وأسوأ القتل، ولم يتركوا الإيمان، ولم يعطوا أُولَئِكَ الكفرة ما أرادوا منهم، فهكذا الاختيار على كل مسلم أن يختار ما اختار أُولَئِكَ.
وهكذا الواجب على كل من يأتي الأمراء والسلاطين ويحضر مجالسهم من العلماء أن يعظوهم، ويأمروهم بكل ما يؤتى، وينهوهم عن كل محذور، ويدلوهم على كل خير وكل ما هو طاعة لله، كما فعل قوم قارون بقارون، وإلا لم يحضروا مجالسهم ولا أتوا
201
[ الآية ٨٠ ] [ وقوله تعالى ]١ :﴿ إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ﴾ قال بعض أهل التأويل : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى يوم بدر : يا فلان، ويا فلان، وهم قتلى بعدما أمر أن يجمعوا في قليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ ألم تكذبوا نبيكم، وتكفروا بربكم٢، وتقطعوا أرحامكم. فأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿ إنك لا تسمع الموتى ﴾.
لكن عندنا أن الله تعالى سمى [ الكفرة موتى ]٣ في غير آية٤ من القرآن لما لم يجهدوا أنفسهم في عبادة [ الله ]٥ ولا استعملوها في طاعته. فهم كالموتى، وسماهم صما لما لم يسمعوا الحق ولم يقبلوه، وسماهم بكما لما لم ينطقوا بالحق ولا تكلموا به، وسماهم عميا لما لم يبصروا الحق، وسماهم موتى لما لم يستعملوا أيديهم في الحق. فنفى عنهم هذه الحواس لما لم ينتفعوا بهذه الحواس، ولا استعملوها في ما أنشئت وخلقت، وإن كانت لهم هذه الحواس.
فعلى ذلك سماهم موتى وهلكى، وفي موضع آخر شبههم بالأنعام، وأخبر أنهم ﴿ أضل ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] لما لم يستعملوا أنفسهم في ما أنشئت هي له، ولم ينتفعوا بها.
فإن قيل : ما معنى قوله :﴿ ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ﴾ أخبر أنه لا يقدر على أن يسمع الصم إذا ولوا مدبرين، ولا يقدر على أن يسمع الصم، وإن أتوا مقبلين، ولم يولوا قيل : معناه، والله أعلم، أنهم صاروا صما لا ينتفعون بما سمعوا لإعراضهم وترك مكان٦ النظر فيه، ولو أقبلوا إليه لانتفعوا به، فيصير مسمعا لهم ؛ يخبر عن شدة تعنتهم ومكابرتهم أنهم كالصم المدبرين، لا يمكن إسماعهم وتفهيمهم بجهد : بالإشارة والإيماء والله أعلم بذلك.
١ - من م، ساقطة من الأصل..
٢ - من م، في الأصل: ربكم..
٣ - في الأصل وم: الكافر ميتا..
٤ - في الأصل وم: آي..
٥ - من م، ساقطة من الأصل..
٦ - في الأصل وم: المكان.
في قليب - هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟! ألم تكذبوا نبيكم وتكفووا بربكم وتقطعوا أرحامكم "؟! فأنزل اللَّه هذه الآية: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى).
لكن عندنا أن اللَّه تعالى سمى الكافر: ميتًا في غير آي من القرآن؛ لما لم يجهدوا أنفسهم في عبادة اللَّه ولا استعملوها في طاعته، فهم كالموتى، وسماهم: صُمًّا؛ لما لم يسمعوا الحق ولم يقبلوه، وسماهم: بُكما؛ لما لم ينطقوا بالحق ولا تكلموا به، وسماهم: عُميا؛ لما لم يبصروا الحق، وسماهم: موتى؛ لما لم يستعملوا أيديهم في الحق؛ فنفى عنهم هذه الحواس لما لم ينتفعوا بهذه الحواس، ولا استعملوها فيما أنشئت وخلقت وإن كانت لهم هذه الحواس؛ فعلى ذلك سماهم: موتى وهلكى، وفي موضع آخر شبههم بالأنعام وأخبر أنهم أضل؛ لما لم يستعملوا أنفسهم فيما أنشئت هي له، ولم ينتفعوا بها.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ): أخبر أنه لا يقدر على أن يسمع الصم إذا ولوا مدبرين، ولا يقدر أن يسمع الصم وإن أتوا مقبلين ولم يولوا؟
قيل: معناه - واللَّه أعلم - أنهم صاروا صُمًّا لا ينتفعون بما سمعوا لإعراضهم وترك إمكان النظر فيه، ولو أقبلوا إليه لانتفعوا به، فيصير مسمعا لهم؛ يخبر عن شدة تعنتهم ومكابرتهم أنهم كالصم المدبرين، لا يمكن إسماعهم بحال ولا تفهيمهم وإن جهد، وأما الصم المقبلون فإنهم قد يمكن إسماعهم وتفهيمهم بجهد بالإشارة والإيماء، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ... (٨١) وفي بعض القراءات: (وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم)، هذا يدل أن ليس كل الهدى البيان على ما قالت المعتزلة؛ لأنه لو كان الهدى كله بيانًا في جميع المواضع على ما قالوا هم، لكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقدر أن يبين للكفار عن ضلالتهم، وقد بين لهم، ثم أخبر رسوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ)، فدل هذا أن عند اللَّه هداية ولطفًا إذا سألوه وطلبوا منه ذلك وأعطاهم لاهتدوا به وآمنوا، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم.
135
طائعين، فلو فعلوا فإنهم يكونون شركاءهم.
وذكر عن بعض السلف أنه قال: في عيسى وقارون عبرة لمن اعتبر؛ إن عيسى - صلوات اللَّه عليه - زهد في الدنيا زهدًا، حتى لم يتخذ لنفسه مسكنًا يسكنه، ولا مقرّا يقر فيه، ولا اتخذ لنفسه ما يتعيش به، ولا اشتغل بشيء منها، فرفعه اللَّه إلى السماء، فجعل عيشه ومقره فيها في كرامة اللَّه وجواره.
وقارون كان يرغب في هذه الدنيا رغبة، وجهد في طلبها طاقته ووسعه، وركن إليها ركونًا، حتى خسفه اللَّه في الأرض، وأدخله فيها مع كنوزه وأتباعه، فيكون فيها إلى يوم القيامة؛ ففي ذلك عبرة وآية لكل راغب وزاهد، فيرغب الزاهد في الزهد فيها، وينزجر الراغب عن الرغبة فيها، واللَّه أعلم.
وقوله - تعالى -: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ... (٨١) بالبغي الذي بغى عليهم؛ أعني: على موسى وأصحابه.
وقوله: (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كأنه كان يفتخر بالمال والحواشي، ويتقوى بذلك في دفع عذاب اللَّه ونقمته؛ لذلك قال: (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، أي: لم يغن في دفع عذاب اللَّه عنه أتباعه وحواشيه، وهو كظنّ أُولَئِكَ: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، وكان ظنهم ذلك وقولهم إنما كان بوجهين:
أنهم ظنوا أن أموالهم وأتباعهم تدفع عنهم عذاب اللَّه ونقمئه كما تدفع نقمة بعضهم عن بعض فيما بينهم؛ كقول ذلك الرجل: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ).
والثاني: ظنوا أنهم إنما أعطوا هذه الأموال والأتباع في هذه الدنيا لكرامة لهم عند اللَّه؛ فلا يعذبون أبدًا.
وقوله: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢) كانوا تمنوا أن يعطوا مثل ما أعطي قارون (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ... وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) قال بعض أهل الأدب: (وَيْ) صلة، وإنما هو (كَأَنَّ) و (كَأَنَّهُ).
وقال مقاتل: (وَيْكَأَنَّهُ) أي: لكنه وَيْكَأَنَّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ) أي: اعلموا أن اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء،
202
وقوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي: ما تسمع إلا أهل الإيمان بالآيات وأهل الإسلام منهم، فأما أهل العناد والمكابرة فلا.
وقوله: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (٨٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي: إذا وقعت الحجة عليهم ولزمت فكذبوها أخرجنا لهم دابة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإذا وقعت السخطة والغضب عليهم أخرجنا لهم دابة.
وقال قائلون: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)، أي: إذا بلغوا في الكفر حدّا يعلم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا بعد ذلك (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً)، لكن قد ذكرنا في غير موضع: أن هذا لا يصح ولا يجوز؛ إذ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يزل عالما بما كان ويكون منهم أبد الآبدين، فليس علمه بأحوالهم بما يكون منهم إذا بلغوا ذلك الحد، بل لم يزل عالمًا بما يكون منهم، وهذا الحرف الذي يقول القائل يومئ إلى أنه إنما يعلم ذلك منهم إذا بلغوا ذلك الحد وقبل ذلك لا، فهو قبيح.
وقول من قال: إذا وقعت الحجة عليهم؛ فهو لا يحتمل أيضًا؛ لأن الحجة قد كانت قامت قبل ذلك الوقت، وليست تقوم الحجة عليهم في ذلك الوقت.
فيكون التأويل أحد وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا من وقوع العذاب، ووجوب العقوبة والسخطة عليهم؛ كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي: العذاب وجب عليهم.
والثاني: أي: إذا أتى وقت خروج الدابة التي وعدنا لهم أنها تخرج، أخرجناها لهم في ذلك الوقت، أي: لا يتقدم خروجها عن الوقت الموعود ولا يتأخر؛ كقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، وهكذا كل شيء جعل اللَّه لظهور ذلك وكونه وقتًا لا يتقدم ولا يتأخر ذلك الوقت؛ هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن يكون تأويل الآية.
وقوله: (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ): قراءة العامة بالتشديد: (تُكَلِّمُهُمْ) من التكليم والتحديث؛ وكذلك في بعض الحروف: تحدثهم وتنبئهم، وقد قرئ: (تَكْلِمُهُم) بالتخفيف وهو من الجراحة، وهو ما ذكر في الأخبار والقصص أن الدابة إذا خرجت تجرح الكافر، وتسمه بسمة وعلامة، حتى يعرف الكافر من المؤمن فيقال: يا مؤمن ويا كافر.
وسئل ابن عَبَّاسٍ عن ذلك؟ فقال: " تكلم المؤمن وتحدثه، وتجرح الكافر "، والله
أعلم.
ثم اختلف في قوله: (أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ)؛ اختلف في تلاوته، وتأويله: (أَنَّ النَّاسَ) بنصب الألف، و (إِنَّ النَّاسَ) بكسرها، فمن قرأ بالنصب: (أَنَّ النَّاسَ) وجعل ذلك القول من الدابة، ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: تقول الدابة: إن الناس كانوا بي وبخروجي لما وعدوا لا يوقنون أني أخرج، فهأنذا خرجت.
والثاني: أنها تخبر عن اللَّه وتنبئ أن الناس كانوا بالدابة وبغيرها من الآيات لا يوقنون.
ومن قرأ بالخفض (إِنَّ) يجعل ذلك القول من اللَّه ابتداءَ إخبارٍ: أنهم كانوا لا يزالون لا يوقنون.
وفي خروج الدابة أعظم آيات في إثبات رسالة رسول اللَّه ونبوته؛ لأنه أخبر أنها تخرج في وقت كذا؛ فتخرج على ما أخبر في ذلك الوقت على الوصف الذي وصف؛ فتدلهم على صدقه.
* * *
قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
وقوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا): يجمع القادة منهم والأتباع والمتبوعون، فيساقون إلى النار جميعًا؛ كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ...) الآية، وكقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا...) الآية؛ وكقوله: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ).
قال أهل التأويل: (يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، وقد ذكرنا الوزع فيما تقدم وما قيل فيه.
137
واعلموا أنه لا يفلح الكافرون، لكن اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء، ولكنه لا يفلح الكافرون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألم تر أن اللَّه يبسط الرزق، وألم تر أنه لا يفلح كذا.
وقال الزجاج: " وي " مقطوعة من (كأن) وهو حرف يفتتح به التندم، ثم ابتدأ بقوله: كأنه لا يفلح الكافرون.
ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في وجوب الأصلح على اللَّه؛ لأنهم ذكروا مِنَّة اللَّه في منعه إياهم ما تمنوا بالأمس مما أوتي قارون، فلو كان ما أعطي قارون أصلح له في دينه لم يكن في منعه عن هَؤُلَاءِ منة؛ دل أن ما أعطى قارون لم يكن أصلح له، بل المنع أصلح له، وأن ليس على اللَّه حفظ الأصلح للعباد في الدِّين.
وقوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) في ظاهرها: أن كل من لا يريد العلو في هذه الدنيا ولا الفساد فيها يكون من أهل نعمة اللَّه، وكذلك ما ذكر من الدار الآخرة، وجهنم هي من دار الآخرة أيضًا، لكن الآية تخرج على وجهين:
أحدهما: كأنها نزلت في رؤساء الكفرة وكبرائهم من الذين كانت همتهم في التكبر والتجبر على الرسل، والفساد فيها، في صرف الناس عن دين اللَّه واتباع الرسل، فقال - واللَّه أعلم -: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) - أي: الجنة - ليست لهَؤُلَاءِ، ولكن لمن تواضع للرسل، ودعا الناس إلى دين اللَّه واتباع الرسل.
والثاني: تكون الآية في الذين كانوا يعملون بالخيرات والطاعات منهم في نحو صلة الأرحام والصدقة على الفقراء والإنفاق في ذلك، فأخبر أنهم وإن كانوا يعملون بتلك الأعمال فإنما يعملون للدنيا والعلو فيها لا للآخرة، فتلك الدار الآخرة ليست لهم، إنما هي للذين يعملون ويريدون بها الدار الآخرة.
وقوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ): كأنه يقول: تلك الدار التي دعوا إليها ليست لمن ذكر، وهي الدار التي قال اللَّه فيها: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، فالدار الآخرة هي الدار التي دعوا إليها وهي الجنة؛ الدار الآخرة على الإطلاق: الجنة؛ كالكتاب المطلق كتاب اللَّه، والدِّين المطلق: دين اللَّه، ونحوه.
وقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي: تلك الدار الآخرة للمتقين.
وقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا... (٨٤) يخرج على وجوه:
203
وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) أي: حتى إذا جاءوا جميعًا واجتمعوا - يعني: الكفار - قال لهم: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا)، يحتمل (وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) أي: قد أحطتم بها علما أنها آيات، لكن كذبتم وأنكرتم أنها آيات عنادا ومكابرة؛ إذ يجوز أن ريكلم بالنفي على إثبات ضده؛ كقوله: (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: يعلم بضد ذلك وبخلاف ما تقولون أنتم، وذلك جائز في القرآن كثير.
أو أن يكون قوله: (وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) لما لم تتفكروا فيها، ولم تنظروا إليها نظر التعظيم والإجلال لكي تعرفوا، وأحطتم بها علما أنها آيات.
وإلا لو كان التأويل على ظاهر ما ذكر لكان لهم عذر في تكذيبها إذا لم يحيطوا بها علما؛ إذ من لم يحط العلم بالشيء فله عذر الرد وترك القبول، لكن يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما، واللَّه أعلم.
ثم قال: (أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): في تكذيب الآيات والأعمال التي عملوها بلا حجة، ولا برهان.
(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (٨٥) أي: وجب القول بالعذاب، ووقع ما وعدوا من العذاب بما ظلموا حيث قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، ونحوه.
وقوله: (فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ) أي: لا ينطقون بالحجة مما يكون لهم به عذر.
وقوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) أي: في الليل والنهار لآيات لقوم يؤمنون.
ثم الآيات التي ذكر فيهما تكون من وجوه:
أحدها: دلالة وحدانيته ودلالة علمه، وتدبيره وحكمته، ودلالة كرمه وجوده، ودلالة قدرته وسلطانه، ودلالة القدرة على البعث والإحياء بعدما صاروا رمادا وترابًا.
أما دلالة كرمه وجوده: ما جعل لهم في الليل والنهار منافع تدوم ما داموا هم.
ثم تلك المنافع تكون من وجهين:
أحدهما: جعل النهار للتقلب فيه والتصرف لمعاشهم وما به قوام دنياهم، وجعل الليل راحة لهم وسكونا، ولو جعلهما جميعا للتقلب ما قام به معاشهم وما به قوام أنفسهم وأبدانهم أبدًا؛ لأنه لا يلتئم ذلك إلا بالراحة، ولو جعلهما جميعًا للراحة لم يقم أمر معاشهم، فمن رحمته وفضله جعل أحدهما للراحة والآخر للتقلب، وهو ما ذكر في آية أخوى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).
والثاني: من النعمة التي ذكر أنه جعل الذي للتقلب إنما جعل ذلك للكل، لا للبعض
أحدها: ما قال أهل التأويل على التقديم والتأخير: فله منها خير، ومعناه: أن ما يكون له في الآخرة من الخير؛ إنما يكون بتلك الحسنة التي جاء بها في الدنيا وهي التوحيد.
والثاني: قوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: ما أعطوا في الآخرة من الخير والثواب خير مما يعطون في الدنيا بصبرهم، وحبسهم أنفسهم عن شهواتها وأمانيها.
والثالث: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: ثواب اللَّه وما أكرموا به خير مما عملوا في الدنيا.
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ والرابع: أن توفيقه إياهم وإرشاده خير مما عملوا.
أو أن يكون ذكر اللَّه وحمده خير مما ذكر؛ كقوله: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
وقوله: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ): قالوا جميعًا: السيئة: هي الشرك، (فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، هو التخليد في النار أبدًا، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ): فيما يجزون بها بل ظلموا أنفسهم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
وقوله: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ): اختلف في قوله: (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَرَضَ) أي: نزل عليك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فرض عليك العمل بالقرآن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فرض تبليغ ما أنزل عليك من القرآن والرسالة إلى الناس.
واختلف أيضًا في قوله: (لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: إلى مكة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعاد: هو البعث والساعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعاد: الجنة، ويقال: الموت؛ وكله البعث، والمعاد هو البعث في الظاهر.
وجائِز أن تسمى مكة: معادا؛ لما يعود الناس إليها مرة بعد مرة، كما تسمى: مثابة؛ لما يثوب الناس إليها مرة بعد مرة.
لكن من يقول بأن المعاد هو مكة يقول: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما أمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر إليها اشتاق إلى بلده ومولده ومولد آبائه، فنزل جبريل عليه بهذه الآية بشارة في العود إليها ظاهرًا عليهم، قاهرًا، فاتحًا له مكة؛ هذا تأويل من يقول بأن المعاد هو مكة.
وجائز أن يكون على غير هذا، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: كأنه حزن على الفراق منهم إشفاقًا على هلاكهم لإخراجهم الرسول من بين أظهرهم؛ لأن الأمم السالفة إذا خرج من بينهم الرسل نزل بهم العذاب؛ فخاف أنهم لما أخرجوا من بين أظهرهم وأبوا إجابته أن يهلكوا أو يعذبوا؛ كقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، فبشر بهذا أن ترد إليها وستعود إليهم، فيتبعونك ويؤمنون بك، وهم لا يهلكون إهلاك استئصال وتعذيب كسائر الأمم.
والثاني: يذكر على الامتنان عليه؛ يقول: إن الذي أنزل عليك القرآن وألقاه عليك بعد ما لم تكن ترجو إلقاءه عليك وانزاله، ولكن برحمته ومنته ألقاه إليك وأنزله عليك حيث قال: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)؛ فعلى ذلك يردك إلى مكة بعدما لم تكن ترجو ردك وعودك إليها.
وإِن كان المعاد: هو البعث؛ فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: على البشارة؛ كأنه يقول: إن الذي فرض عليك القرآن يردك ويبعثك بمن كذبك وبمن صدقك، فينتقم من مكذبيك جزاء التكذيب، ويجزي من يصدقك جزاء التصديق.
والثاني: يذكره ويخاطبه، وانما يريد به قومه، أي: سيبعثون وسيعودون إليها، فيكون كالآيات التي يخاطب بها رسوله والمراد بها: قومه؛ فهو يخرج على الوعيد لهم، ألا ترى أنه قال: (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: ربي أعلم بمن جاء بالهدى فيجزيه جزاء الهدى، ومن هو في ضلال مبين فيجزيه جزاء ضلاله.
ويخرج ذكر هذا عند دعاء أُولَئِكَ الكفرة: أنهم على الحق والهدى، وأن آباءهم كانوا على الحق والهدى، وأنتم على ضلال، فيقول: (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) نحن أوأنتم؟! فهو على التحاكم إلى اللَّه أن يحكم بينهم، فيجزي كلا بما جاء به، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦) فهو يخرج على
دون البعض؛ وكذلك الذي هو مجعول الراحة، والقرآن إنما جعله كذلك للكل لا لقوم دون قوم، ولو جعل كذلك لكان لا يقوم أمر معاشهم، ولا ما به يقوم أبداتهم وأنفسهم، ولكن من رحمته وفضله جعل المجعول وقتًا للراحة للكل لا لبعض دون بعض؛ وكذلك المجعول للتقلب؛ ليظفر المشترون بالباعة والباعة بالمشترين؛ ليلتئم أمر معاشهم ودنياهم.
وأما دلالة وحدانيته: ما جعل منافع أحدهما متصلة بالآخر؛ إذ لا يقوم أحدهما إلا بالآخر على اختلاف جوهرهما؛ ليعلم أن مدبرهما ومنشئهما واحد؛ إذ لو كان عددا لكان ما أراد هذه إيصاله منع الآخر، فإن لم يكن ولكن جريا على سنن واحد واتساق واحد؛ دل أنه تدبير واحد لا عدد.
ودلالة علمه وحكمته: أنهما منذ كانا، كانا على ميزان واحد، وعلى تقدير واحد من غير تغير ولا تبدل يقع فيهما؛ دل أن لمنشئهما علما ذاتتا وحكمة ذاتية، لا علما مكتسبًا مستفادًا كعلم الخلق.
وأما دلالة القدرة والسلطان: لأنهما يقهران الخلق كله من الجبابرة والفراعنة شاءوا أو أبوا، حتى إذا أراد واحد منهم أن يمنع أحدهما أو ينقص من الآخر لم يقدر عليه.
أو إن اجتمعوا جميعًا على دفعهما أو دفع أحدهما دون الآخر لم يقدروا عليه؛ دل أن لمنشئهما قدرة وسلطانا؛ إذ من قدر على إنشاء هذا لا يعجزه شيء.
ودلالة القدرة على البعث: لأنه يتلف أحدهما ويذهب به حتى لا يبقى أثره، ثم يأتي بالآخر على تقدير الأول، فمن قدر على إنشاء هذا بعد ذهاب الآخر بكليته وذهاب أثره لقادر على إنشاء الخلق بعد فنائهم وهلاكهم، وأنه لا يعجزه شيء.
ثم لما جعل هذا ما ذكرنا وخلق ما خلق من المنافع التي ذكرنا لهذا العالم خلق هذا العالم للمحنة يأمرهم وينهاهم، وجعل لهم عاقبة فيها يثاب من أطاعه ويعاقب من عصاه؛ إذ لو لم تكن عاقبة لكان خلقهم عبثًا لا حكمة فيه؛ لأن من بني بناء للفناء والنقض خاصة لا لعاقبة يتأمل نفعه كان بناؤه عبثًا غير حكمة؛ فعلى ذلك خلق الخلق لا لعاقبة تقصد عبث ليس بحكمة.
والآيات لمن آمن بها وصدق، فأما من لم يؤمن وكذب بها فهي آيات عليهم لا لهم.
وقوله: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (٨٧) اختلف في النفخ ما هو؟ وفي عدده؟ واختلف في الصور أيضًا ما هو؟ وكيف هو؟!
أما الاختلاف في النفخ: فمنهم من يقول: ليس على حقيقة النفخ، ولكن إخبار عن خفة قيام القيامة على اللَّه؛ أخبر بالنفخ عنها؛ لأنه أخف شيء على الخلق وأهونه، فأخبر به عنها، وهو ما قال: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ)، شبه أمرها بلمح
139
البصر لما ليس شيء أخف على المرء من لمح البصر؛ فعلى ذلك النفخ عند قيامها لخفته على الخلق.
ومنهم من يقول: ذكر النفخ لسرعة نفاذ الساعة؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذا من النفخ، وهو ما قال: إلا صيحة، وإلا رجفة، ذكر ذلك وشبهها بالصيحة والرجفة لسرعة نفاذها؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذا من الصيحة والرجفة، فيقول: ليس على حقيقة النفخ، ولكن إخبار عن خفتها على اللَّه أو سرعة نفاذها على ما ذكرنا، وهو ما قال: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، ليس أنه ينفخ فيه نفخًا، ولكن يجعل كأنه قال: وجعلنا فيه من روحنا.
ومنهم من يقول: هو على حقيقة النفخ، فإن كان على هذا فهو أن يمتحن الملك من غير أن يقع له الحاجة إلى ذلك؛ نحو ما امتحن الكرام الكاتبين بكتابة أعمال الخلق وأفعالهم من غير وقوع الحاجة إليه، لكن امتحانًا منه ملائكته بذلك، أو أن يكونوا أحذر؛ إذ هو عالم بما كان وبما يكون كيف يكون؟ ومتى يكون وأي شيء يكون؟
وأما اختلافهم في عدد النفخ: قال قائل: إنه واحد يحتج بقوله: (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً).
ومنهم من يقول بالنفختين؛ يحتج بقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧). أخبر أنه يردف الأولى غيرها، ويحتج بقوله أيضًا: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى).
ومنهم من يقول بالنفخات الثلاث يقول: الأولى للفزع، والثانية للصعق على ما ذكرنا في الآية، والثالثة للإحياء.
ومنهم من يقول بالثلاث إلا أنه يجعل ذلك كله بعد الموت:
أحدها للفزع في القبور، والثانية للإحياء فيها، والثالثة للإخراج منها والنشر، ويقول هذا القائل بعذاب أهل القبر من النفخة الثانية إلى النفخة الثالثة؛ وعلى ذلك رويت أخبار في ذلك، فإن ثبتت فهو ذاك وإلا نقف فيه.
وأمَّا اختلافهم في الصور: قال قائلون: ينفخ في الخلق، والصور جمع صورة؛ قال: الزجاج: لا يحتمل هذا؛ لأن الصور على سكون الواو ليس هو من أفراد الصور ولا من جمعها؛ لأن الفرد هو صورة بالهاء وجمع الصورة صور - بتحريك الواو - على ما ذكر في الآية: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ).
ومنهم من يقول: هو قرن ينفخ فيه كقرن كذا، أو بوق كبوق كذا.
لكنا لا نفسر شيئًا مما ذكر من النفخ والصور أنه كذا، ولا نشير إلى شيء أنه ذا، إلا إن ثبت شيء من التفسير عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقال به وليس هو بشيء يوجب العمل به
140
وجهين: أحدهما: وما كنت ترجو - وإن كنت مطيعًا أي: خاضعًا - أن يلقى إليك الكتاب وينزل عليك وتصير رسولا، أي: لم تكن تطمع ذلك، ولكن اللَّه بفضله ورحمته جعلك رسولا نبيًّا.
والثاني: ما كنت ترجو أن تكون في قومك وقبيلتك رسالة فضلا أن ترجو وتطمع في نفسك؛ لأنهم ليسوا من بني إسرائيل ولا من أهل الكتاب، والرسالة من قبل كانت لا تكون إلا في بني إسرائيل، ولكن اللَّه جعل الرسالة في العرب، وفي نفسك برحمته وفضله، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ): هذا يخرج على وجوه:
أحدها: على النهي، أي: لا تكن ظهيرا وإن كان لا يكون للعصمة التي عصمه اللَّه؛ لأن العصمة لا تمنع النهي والأمر، بل منفعة العصمة إنما تكون عند النهي والأمر.
والثاني: على الأمن له والإياس أن يكون ظهيرًا لهم، كأنه يخاف لعله أن يكون ظهيرًا لهم في وقت من الأوقات، فأمنه اللَّه عن ذلك فقال: لا تخف فإنك لا تكون ظهيرًا لهم، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَلَا تَحْزَن عَلَيهِم)، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، على رفع الحزن والحسرة بتركهم الإيمان؛ فعلى ذلك الأول.
والثالث: أن الخطاب وإن كان له في الظاهر فالمراد منه غيره، على ما ذكرنا في غير آي من القرآن: أنه خاطب به رسوله والمراد به غيره؛ وكذلك بهذا.
وفي قوله: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) في هذا ما في الأول من الوجوه التي ذكرنا؛ وكذلك: هذا في قوله: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
وقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ... (٨٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كُلُّ شَيْءٍ) يرجى منفعته وشفاعته من دون اللَّه باطل، إلا ما ابتغي منه وعمل له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شيء هالك وزائل إلا هو؛ فإنه حي لا يموت دائم لا يزول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل أمر وجهة يتوجه إليها ويعمل به هالك إلا الجهة والوجه الذي أمر هو بالتوجيه إليه والعمل به، وهو قريب بالأول، واللَّه أعلم.
* * *
206
فيتكلف صحته أو سقمه، إنما هو شيء يجب التصديق به، فنقول بالنفخ والصور على ما جاء ولا نفسسر، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)، وقال في آية أخرى: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) إنما هو إخبار عن شدة هول ذلك اليوم؛ كقوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى...) الآية؛ وكقوله - تعالى -: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)، ونحوه.
وقوله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ): هم الشهداء في الأرض؛ وعلى ذلك روي في بعض الحديث أنه قال: " ما أعطي آدمي بعد النبوة أفضل من الشهادة، لا يسمع الشهيد الفزع يوم القيامة إلا كرجل قال لصاحبه: أتسمع، قال: أسمع كتأذين الصلاة ".
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الأنبياء والرسل.
لكن لا نقول نحن: إن أهل الثنيا هم كذا ولا نشير إلى أحد؛ لأنا لا نعلم ذلك إلا إن ثبت في ذلك خبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنقول به.
وجائز أن يكون الذين استثناهم عن الذين أخبر عنهم في آخر الآية أنهم يكونون آمنين من فزع ذلك اليوم وهوله، وهو ما قال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ).
وقوله: (وَكُلٌّ أَتَوْهُ): قرئ بالمد (آتُوهُ) وتطويله مضموم التاء فيه على مثال (فاعلوه)، وهو جمع (آت)؛ كقوله (إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، و (أَتَوْهُ) جمع (أتى) وهو من سيأتون.
وقرأ بعضهم بقصر الألف ونصب التاء على الإتيان: قد أتوه.
وقوله: (دَاخِرِينَ) قيل: صاغرين ذليلين، دخر، أي: ذل.
وقوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (٨٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: وهي تمر مر كذ!؛ لكثرتها وازدحامها يرنو الناظر إليها ويحسبها كأنها جامدة؛ وكذلك العسكر العظيم
141
يحسب الناظر إليه كأنه ساكن جامد؛ لكثرتهم وازدحامهم؛ فعلى ذلك الجبال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن لشدة ذلك اليوم وهوله وفزعه على الناس يحسبون كأنها جامدة، (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) وهو ما ذكر: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى...) الآية؛ لشدة ذلك اليوم ونزعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن الجبال لهول ذلك اليوم وفزعه تمرّ مر السحاب وسيره؛ كقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)، وأصله: إنما يذكر هذا وما تقدم من هول ذلك اليوم وشدته على الخلق؛ ليتعظوا وينزجروا.
وقوله: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَتْقَنَ): أحكم وأبرم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَتْقَنَ): أي: أحسن كل شيء.
قال بعض المعتزلة: كيف يكون الكفر حسنا وهو قبيح؛ لأنه شتم رب العالمين، ولا يجوز أن يقال: اللَّه خلق شتم نفسه وأحسن شتم نفسه، أو أحسن كفر الكافر وغير ذلك من الخرافات؟!
فيقال لهم: لا يقول أحد: إنه خلق الكفر وأحسنه أو أحسن شتم نفسه على هذا الإطلاق، من قال ذلك فهو كافر، ولكن يقول: فعل الكفر من الكافر قبيحًا، وخلق فعل المعصية من العاصي قبيحًا، لكنه من حيث خلقه ذلك وجعله حجة عليه حسنًا متقنًا محكمًا، وإن كان ذلك الفعل منه قبيحًا باطلا سفها جورا - أعني: من الكافر - ألا ترى أن من تكلف أن يعرف فعل الكفر منه سفهًا وجورا كان غير مذموم؛ لأنه يتكلف أن يعرف ما هو سفه في الحقيقة سفها، ويعرف ما هو حق حقا فهو من هذا الوجه عارف بحق وحكمة؛ لأن الحكمة توجب أن يعرف كل شيء على ما هو في نفسه حقيقة؛ فعلى ذلك خلق فعل الكفر من الكافر على الوجه الذي ذكرنا هو حسن متقن محكم، وإن كان من حيث فعل الكافر قبيحًا سفهًا باطلا، وهذا كما نصفه على الإطلاق: أنه رب كل شيء وخالق كل شيء، ولا نقول: يا خالق الأنجاس ويا رب الأقذار ونحوه، وإن كان هذا داخلا في الجملة أنه خالقها وربها؛ لأنه على الإطلاق يخرج مخرج المدح له والثناء وعلى التخصيص مخرج الذمِ له؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ): على أثر وصف الجبال بما وصف من انتقاضها
142
وإفسادها، وإخراجها عن الصفة التي أنشأها إلى ما ذكر لم يخرج من الإتقان والإحكام والإبرام؛ ليعلم أن ليس في إفساد الشيء خروج عن الإتقان إذا كان ذلك لحكمة، والله أعلم.
وقوله: (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ): وعيد لهم.
وقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩)
قالوا جميعًا: الحسنة هاهنا: التوحيد والإيمان.
وقوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا): قيل فيه بوجوه:
أحدها: من جاء بالتوحيد: توحيد ربه يوم البعث فله خير منها، ومجيئه ربه بالتوحيد إذا ختم به فله ما ذكر، شرط المجيء به، ولم يقل: من عمل بالحسنة فله كذا؛ لأن الرجل قد يعمل بالحسنات ثم يفسدها ويبطلها؛ فلا يثاب عليها؛ ليعلم أن ما ينتفع بالحسنات في الآخرة الحسنة التي ختم عليها وجاء بها ربه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: ما يعطى في الآخرة له من الثواب، والثواب والجزاء إنما يكون من الحسنة التي كانت منه في الدنيا منها يكون له جميع الخيرات في الآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: الذي أعطي له في الآخرة من الخيرات خير مما ترك في الدنيا من النعم وصبر عليها، فذلك خير مما ترك، كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ)، كذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: رؤية الرب ولقاؤه خير مما أعطي غيرها من الخيرات، على ما يكون في الدنيا رؤية الملك ولقاؤه على الرعية أعظم وأفضل عندهم من غيره من الكرامات وإن عظمت وجلت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك الثواب والجزاء في الآخرة خير مما عملوا به من الخيرات في الدنيا؛ لأن الثواب وجوبه الفضل والرحمة لا الاستيجاب والاستحقاق؛ إذ في الحكمة والعقل وجوب العمل، وليس فيهما وجوب الثواب، فما هو سبيله فضل اللَّه خير مما هو غيره.
لكنه عورض بأن ما كان سبيل وجوبه الحكمة والعقل خير مما كان سبيل وجوبه الإفضال؛ إذ ما كان سبيل وجوبه الحكمة والعقل لا يسع تركه، وما كان سبيل وجوبه الإفضال له تركه، لكنه قال: إن قوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)، أي: في طباعكم ووهمكم ذلك
الثواب خير من ذلك، لا أنه في الحقيقة خير؛ وهو كقوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، أي: في طباعكم، وعندكم أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ إذ ليس شيء أهون على اللَّه من شيء، ولكن عندكم أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) أخبر أنهم إذا أتوا ربهم بالتوحيد يكونون آمنين من فزع ذلك اليوم وهوله.
وقوله: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ... (٩٠) أي: بالشرك، (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ): المنكب على الوجه: هو الملقى على الوجه، كقوله: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ).
وقوله: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: ما تجزون إلا بأعمالكم.
* * *
قوله تعالى (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
وقوله: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا).
قوله: (حَرَّمَهَا) يحتمل وجهين:
يحتمل (حَرَّمَهَا) أي: منعها من الاستلاب والاختطاف فيها؛ كقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ)، ليس على التحريم حتى لا يحل له ذلك، ولكن على المنع والحظر، أي: منعنا منه المراضع.
والثاني: على التحريم نفسه، وهو ما جعل في كل أحد من الكافر والمسلم في الجاهلية والإسلام حرمة ذلك المكان؛ حتى لا يتناول أحد من صيد تلك البقعة ومن شجرها وحشيشها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ... (٩٢) أيضًا عليكم كأنهم أوعدوه بوعيد وخوفوه به، وطلبوا منه الموافقة لهم، فقال عند ذلك لهم: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، وهو رب كل شيء، أي: أمرت أن أكون عبدا له، لا أجعل نفسي عبدا لغيره، وأمرت -أيضًا- أن أجعل نفسي سالمًا له، لا أجعل لأحد فيها شركا كما جعلتم أنتم - أيضا - ذلك كله.
وأمرت -أيضًا- أن أتلو القرآن عليكم، فأنا أتلوه عليكم كذبتموني أو لم تكذبوني، فإني لا أخاف كيدكم ولا مكركم، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) دلالة لزوم الرسالة؛ لأن أهل مكة وغيرهم قد أقروا جميعًا بحرمة تلك البقعة من أوائلهم وأواخرهم، فما
[ الآية ٩١ ] وقوله تعالى :﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها ﴾ قوله :﴿ حرمها ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما١ : حرمها، أي منعها من الاستلاب والاحتفاظ فيها كقوله :﴿ وحرمنا عليه المراضع ﴾ [ القصص : ١٢ ] ليس على التحريم حتى لا يحل له ذلك، ولكن على المنع والحظر، أي منعنا منه المراضع.
والثاني : على التحريم نفسه، وهو ما جعل لكل٢ أحد من الكافر والمسلم في الجاهلية والإسلام حرمة ذلك المكان حتى لا يتناول أحد من صيد تلك البقعة ومن شجرها وحشيشها، والله أعلم.
١ - في الأصل م: يحتمل..
٢ - في الأصل: كل..
[ الآية ٩٢ ] وقوله تعالى :﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾ ﴿ وأن أتلوا القرآن ﴾ أيضا عليكم. كأنهم أوعدوه بوعيد، وخوفوه به، وطلبوا منه الموافقة لهم. فقال عند ذلك لهم :﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ﴾ وهو رب كل شيء، أي أمرت أن أكون عبدا له، لا أجعل نفسي عبدا لغيره، وأمرت أيضا أن أجعل نفس سالما له، لا أجعل لأحد فيها شركا كما جعلتم أنتم أيضا بذلك كله، وأمرت أيضا أن أتلو القرآن عليكم. فأنا أتلوه عليكم، كذبتموني، أو لم تكذبوني فإني لا أخاف كيدكم ولا مكركم، والله أعلم.
وفي قوله :﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها ﴾ دلالة لزوم الرسالة لأن أهل مكة وغيرهم قد أقروا جميعا بحرمة تلك البقعة من أوائلهم وأواخرهم. فما عرفوا ذلك إلا بالرسل. دل أن أوائلهم أقروا١ بالرسالة والنبوة. فعلى ذلك يلزم هؤلاء الإقرار/ ٣٩٤- ب/ بها، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ﴾ يخبر أن من آمن، وقبل الهدى، فإنما يفعل ذلك لمنفعة نفسه ﴿ ومن ضل ﴾ أيضا فإنما يكون ضرره عليه كقوله :﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
وقوله تعالى :﴿ فقل إنما أنا من المنذرين ﴾ أي ليس علي إلا الإنذار. فأما [ غير ذلك فذلك ]٢ عليكم كقوله :﴿ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ﴾ [ النور : ٥٤ ] وقوله :﴿ وما عليك من حسابكم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ].
١ - في الأصل وم: يقرون..
٢ - من م، في الأصل: على غير ذلك فلك..
عرفوا ذلك إلا بالرسل؛ دل أن أوائلهم يقرون بالرسل والنبوة، فعلى ذلك يلزم هَؤُلَاءِ الإقرار بها، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ): يخبر: أن من آمن وقبل الهدى فإنما يفعل ذلك لمنفعة نفسه، ومن ضل -أيضًا- فإنما يكون ضرره عليه؛ كقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).
وقوله: (فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي: ليس عليَّ إلا الإنذار، فأما غير ذلك فذلك عليكم؛ كقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، وقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ).
وقوله: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا... (٩٣) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: سرِيهم آيات وحدانيته وربوبيته، وآيات رسالته.
وقوله: (فَتَعْرِفُونَهَا) أي: بالآيات ما ذكر؛ كقوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ).
والثاني: سيريهم ما وعد لهم من النصر والمعونة ليعرفوه عيانًا على ما عرفوه خبرا.
وقوله - تعالى -: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا الحرف توبيخ للظالم وتعيير وزجر، وتعزية للمظلوم وتسل له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا الحرف ترمخيب وترهيب.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (رَدِفَ لَكُم)، أي: تبعكم، واللام زائدة؛ كأنه قال: ردفكم، واللَّه أعلم بالصواب.
* * *
Icon