تفسير سورة الأحقاف

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة ﴿ سورة الأحقاف ﴾ في جميع المصاحف وكتب السنة، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبد الله بن عباس. روى أحمد بن حنبل بسند جيد عن ابن عباس قال أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف، وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين.
وكذلك وردت تسميتها في كلام عبد الله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود قال : أقرأني رسول الله سورة الأحقاف الحديث.
وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها قلا يعد من أسمائها. ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
ووجه تسميتها ﴿ الأحقاف ﴾ ورود لفظ الأحقاف فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية قال القرطبي : باتفاق جميعهم، وفي إطلاق كثير من المفسرين. وبعض المفسرين نسبوا استثناء آيات منها الى بعض القائلين، فحكى ابن عطية استثناء آيتين هما قوله تعالى ﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ﴾ إلى ﴿ الظالمين ﴾ فإنها أشارت إلى إسلام عبد الله بن سلام وهو إنما أسلم بعد الهجرة، وقوله ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾. وفي الإتقان ثلاثة أقوال باستثناء آيات ثلاث منها الاثنتان اللتان ذكرهما ابن عطية والثالثة ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾ إلى قوله ﴿ خاسرين ﴾. وسيأتي ما يقتضي أنها نزلت بعد مضي عامين من البعثة وأسانيد جميعها متفاوتة. وأقواها ما روي في الآية الأولى منها، وسنبين ذلك عند الكلام عليها في مواضعها.
وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات.
وعدت آيها عند جمهور أهل الأمصار أربعا وثلاثين، وعدها أهل الكوفة خمسا وثلاثين والاختلاف في ذلك مبني على أن ﴿ حم ﴾ تعتبر آية مستقلة أو لا.
أغراضها
من الأغراض التي اشتملت عليها أنها افتتحت مثل سورة الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه منزل من عند الله.
والاستدلال بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالإلهية، وعلى إثبات جزاء الأعمال.
والإشارة إلى وقوع الجزاء بعد البعث وأن هذا العالم صائر إلى فناء.
وإبطال الشركاء في الإلهية. والتدليل على خلوهم عن صفات الإلهية.
وإبطال أن يكون القرآن من صنع غير الله.
وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستشهاد الله تعالى على صدق رسالته واستشهاد شاهد بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام.
والثناء على الذين آمنوا بالقرآن وذكر بعض خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر وحسدهم الذي بعثهم على تكذيبه.
وذكرت معجزة إيمان الجن بالقرآن.
وختمت السورة بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأقحم في ذلك معاملة الوالدين والذرية مما هو من خلق المؤمنين، وما هو من خلق أهل الضلالة.
والعبرة بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة، وأن الله أخذهم بكفرهم وأهلك أمما أخرى فجعلهم عظة للمكذبين وأن جميعهم لم تغن عنهم أربابهم المكذوبة.
وقد أشبهت كثيرا من أغراض سورة الجاثية مع تفنن.

وَالْعِبْرَةُ بِضَلَالِهِمْ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَأَهْلَكَ أُمَمًا أُخْرَى فَجَعَلَهُمْ عِظَةً لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَرْبَابُهُمُ الْمَكْذُوبَةُ.
وَقَدْ أَشْبَهَتْ كَثِيرًا مِنْ أَغْرَاضِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ مَعَ تفنّن.
[١]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ غَافِرٍ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِثْلُ نَظَائِرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ مِنْ سور الْقُرْآن.
[٢]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي أول الجاثية.
[٣]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٣]
مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)
لَمَّا كَانَ مِنْ أَهَمِّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، لِتَوَقُّفِ حُصُولِ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ عَلَى إِثْبَاتِهِمَا، جُعِلَ قَوْلُهُ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ [الْأَحْقَاف: ٢] تَمْهِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَجُعِلَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَحَلَّ اتِّفَاقٍ، وَرُتِّبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إِلَّا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ، وَتَقْتَضِي مُلَابَسَتُهُ لِلْحَقِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ خَلْقًا عَبَثًا بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَعْقُبُهُ جَزَاءٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمَخْلُوقُونَ. وَاسْتِثْنَاءُ بِالْحَقِّ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، أَي مَا خلقنَا هما إِلَّا فِي حَالَةِ الْمُصَاحَبَةِ لِلْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُقَدَّرِ فِي مُتَعَلِّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَالِ
7
التَّعْجِيبُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَطْفًا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْإِعْرَاضِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ إِذْ هُوَ مَعْلُومٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا خَلْقًا كَائِنًا بِمُلَابَسَةِ الْحَقِّ فِي حَالِ إِعْرَاضِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَلْقُ بِالْحَقِّ.
وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَالْمعْنَى: مَا خلقنَا هما إِلَّا فِي حَالَةِ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ لَهُمَا وَتَعْيِينِ أَجْلٍ لَهُمَا. وَإِعْرَاضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ.
وَعَطْفُ وَأَجَلٍ مُسَمًّى عَلَى بِالْحَقِّ، عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَعَطْفِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى مَلَائِكَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٨] لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحُدُوثِ عَلَى قَبُولِ الْفَنَاءِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ فَهِيَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَأَنَّ تَعَرُّضَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلْفَنَاءِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ لِأَنَّ انْعِدَامَ هَذَا الْعَالَمِ يَقْتَضِي بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ يَخْلُفَهُ عَالَمٌ آخَرُ أَعْظَمُ مِنْهُ، عَلَى سُنَّةِ تُدَرُّجِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْكَمَالِ، وَقَدْ كَانَ ظَنُّ الدَّهْرِيِّينَ قِدَمَ هَذَا الْعَالَمِ وَبَقَاءَهُ أَكْبَرَ شُبْهَةٍ لَهُمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:
٢٤]. فَالدَّهْرُ عِنْدَهُمْ مُتَصَرِّفٌ وَهُوَ بَاقٍ غَيْرُ فَانٍ، فَلَوْ جَوَّزُوا فَنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ لَأَمْكَنَ نُزُولُهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي حَيَاةً ثَانِيَةً. فَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ مُرْتَبِطَةٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ هُمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ مِنْ وَعِيدِ يَوْمِ الْبَعْثِ.
وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ بِ أُنْذِرُوا. وَالتَّقْدِيرُ: عَمَّا أُنْذِرُوهُ مُعْرِضُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً فَلَا يُقَدَّرُ بَعْدَهَا ضَمِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ عَنْ إِنْذَارِهِمْ مُعْرِضُونَ فَشَمِلَ كُلَّ إِنْذَارٍ أُنْذِرُوهُ.
وَتَقْدِيمُ عَمَّا أُنْذِرُوا عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ مُعْرِضُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا أُنْذِرُوا وَيَتْبَعُ ذَلِكَ رِعَايَة الفاصلة.
8

[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٤]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ على بطلَان نفي صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ. فَجُمْلَةُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ أَمْرٌ بِإِلْقَاءِ الدَّلِيلِ عَلَى إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ وَهُوَ أَصْلُ ضَلَالِهِمْ.
وَجَاءَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأُسْلُوبِ المناظرة فَجعل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاجِهًا لَهُمْ بِالِاحْتِجَاجِ لِيَكُونَ إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَةِ حُجَّتِهِ، وَكَذَلِكَ جَرَى الِاحْتِجَاجُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِطَرِيقَةِ أَمْرِ التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ الْآيَة. وأَ رَأَيْتُمْ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى:
أَخْبِرُونِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٠] قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ.
وَقَوْلُهُ: أَرُونِي تَصْرِيحٌ بِمَا كَنَّى عَنْهُ طَرِيقُ التَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ وَمُوقِعُ جُمْلَةِ أَرُونِي فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ أَرَأَيْتُمْ.
وَالْأَمْرُ فِي أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْخِيرِ وَالتَّعْجِيزِ كِنَايَةٌ عَنِ النَّفْيِ إِنْ لَمْ يَخْلُقُوا مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا فَلَا تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُرُونِي شَيْئًا خَلَقُوهُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا من رُؤُوس مَسَائِلِ الْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ مُطَالَبَةُ الْمُدَّعِي بِالدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ. وماذا بِمَعْنَى مَا الَّذِي خَلَقُوهُ، فَ (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَ (ذَا) بِمَعْنَى الَّذِي. وَأَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ نَابَ عَنِ الْمَوْصُولِ. وأصل التَّرْكِيب: مَاذَا الَّذِي خَلَقُوا، فَاقْتَصَرَ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ وَحَذْفُ اسْم الْمَوْصُول غَالِبا فِي الْكَلَامِ وَقَدْ يَظْهَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]. وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ (ذَا) بَعْدَ (مَا) أَوَ (مَنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَاذَا خَلَقُوا إِنْكَارِيٌّ. وَجُمْلَةُ مَاذَا خَلَقُوا بَدَلٌ مِنْ
9
جُمْلَةِ أَرُونِي وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُرُودِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بَعْدَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ مَخْلُوقًا لَهُمْ بَطَلَ أَنْ يَكُونُوا آلِهَةً لِخُرُوجِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْ خَلْقِهِمْ، وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهَا خَلْقٌ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا
يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٩١، ١٩٢].
وأَمْ حَرْفُ إِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ انْتِفَاءُ الشَّرِكَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِكَةِ فِي السَّمَاوَاتِ دُونَ انْتِفَاءِ الْخَلْقِ كَمَا أُوثِرَ انْتِفَاءُ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ مُشَاهَدَةٌ لِلنَّاسِ ظَاهِرٌ تَطَوُّرُهَا وَحُدُوثُهَا وَأَنْ لَيْسَ لِمَا يَدْعُونَهُمْ دُونَ اللَّهِ أَدْنَى عَمَلٍ فِي إِيجَادِهَا، وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ السَّمَاوِيَّةُ فَهِيَ مَحْجُوبَةٌ عَنِ الْعُيُونِ لَا عَهْدَ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ وَجُودِهَا وَلَا تَطَوُّرِهَا فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْأَصْنَامِ فِي إِيجَادِ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَدَعِ الْمُشْرِكُونَ تَصَرُّفًا لِلْأَصْنَامِ إِلَّا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْأَرْضِ مِنْ جَلْبِ نَفَّعٍ أَوْ دَفَعِ ضُرٍّ اقْتَصَرَ فِي نَفْيِ تَصَرُّفِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَصْنَامِ شَرِكَةٌ فِي أُمُورِ السَّمَاوَاتِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ ذَلِكَ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٤٠] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ فَانْظُرْ ذَلِكَ.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَبِالْإِقْرَارِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ بِقَوْلِهِ:
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَجُمْلَةُ ائْتُونِي بِكِتابٍ فِي مَوْقِعِ مَفْعُولٍ ثَانٍ لِفِعْلِ أَرَأَيْتُمْ، كُرِّرَ كَمَا يَتَعَدَّدُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَمَنَاطُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِانْعِدَامِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَيُسَمَّى الْإِفْحَامَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ لَا بِتَأْثِيرِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا بِأَقْوَالِ الْكُتُبِ، فَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٤٠] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِ (كِتَابٍ) أَيْ كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمَقْرُوءَةِ. وَهَذَا قَاطِعٌ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ادِّعَاءَ أَنَّ لِأَصْنَامِهِمْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ ذِكْرًا غَيْرَ الْإِبْطَالِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عِبَادَتِهَا، فَلَا يُوجَدُ فِي الْكُتُبِ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا فِي
10
الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِمَّا عَدَمُ ذِكْرِهَا الْبَتَّةَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ.
وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْضَارِ وَلَوْ كَانَ فِي مَجْلِسِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي أَذْهَانِ أَصْحَابِ الْمُحَاجَّةِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ مُعَاوَدَةً. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِوَصْفِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ لِيَسُدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمُعَارَضَةِ بِأَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ يُصْنَعُ لَهُمْ، كَمَا قَالُوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ
هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: ٣١].
وأَثارَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَوْ بَقِيَّةٌ بَقِيَتْ عِنْدَكُمْ تَرْوُونَهَا عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ السَّابِقِينَ غَيْرُ مَسْطُورَةٍ فِي الْكُتُبِ. وَهَذَا تَوْسِيعٌ عَلَيْهِمْ فِي أَنْوَاعِ الْحُجَّةِ لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَقْطَعَ لِدَعْوَاهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلْهَابٌ وَإِفْحَامٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ آتِينَ بِحُجَّةٍ لَا مِنْ جَانِبِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جَانِبِ النَّقْلِ الْمَسْطُورِ أَوِ الْمَأْثُورِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٥٠] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ.
[٥، ٦]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ تَلْقِينِ الِاحْتِجَاجِ، فَلَمَّا أَمَرِ اللَّهُ تَعَالَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُحَاجَّهُمْ بِالدَّلِيلِ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ وَضَلَالِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً
إِلَخْ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ.
ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ. وَالْمعْنَى: لَا أحد أَشَدُّ ضَلَالًا وَأَعْجَبُ حَالًا مِمَّنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ دُعَاءَهُ فَهُوَ أَقْصَى حَدٍّ مِنَ الضَّلَالَةِ.
11
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَادَّعُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ بِلَا دَلِيلٍ وَاخْتَارُوا الشُّرَكَاءَ مِنْ حِجَارَةٍ وَهِيَ أَبْعَدُ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ قَبُولِ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَالتَّصَرُّفِ ثُمَّ يَدْعُونَهَا فِي نَوَائِبِهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تُجِيبُ ثُمَّ سَمِعُوا آيَاتِ الْقُرْآنِ تُوَضِّحُ لَهُمُ الذِّكْرَى بِنَقَائِصِ آلِهَتِهِمْ، فَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِهَا وَزَعَمُوا أَنَّهَا سِحْرٌ ظَاهِرٌ فَكَانَ ضَلَالُهُمْ أَقْصَى حَدٍّ فِي الضَّلَالِ.
ومَنْ لَا يَسْتَجِيبُ الْأَصْنَامُ عُبِّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ مُعَامَلَةً لِلْجَمَادِ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ إِذْ أُسْنِدَ إِلَيْهَا مَا يُسْنَدُ إِلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَلِأَنَّهُ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِجْرَاؤُهَا مَجْرَى الْعُقَلَاءِ فَكَثُرَتْ فِي الْقُرْآنِ مُجَارَاةُ اسْتِعْمَالِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا جَعْلُ ضَمَائِرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ وَقَوْلِهِ: غافِلُونَ وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ.
وَجَعْلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ غَايَةً لِانْتِفَاءِ الِاسْتِجَابَةِ. كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا. وَعُبِّرَ عَنْ نِهَايَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِ يَوْمِ الْقِيامَةِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَ بِالْخَبَرِ هُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ كَمَا
عَلِمَتْ وَهُمْ يَثْبُتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة.
وضميرا كانُوا فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يعودا إِلَى مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُعَادُونَ أَصْنَامَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يَجِدُونَهَا مِنْ أَسْبَابِ شَقَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَا إِلَى مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى حَيَاةً يَوْمَئِذٍ فَتَنْطِق بالتبرّي عَن عُبَّادِهَا وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: ١٤] وَقَالَ:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الْفرْقَان: ١٧- ١٩].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ جَارِيًا عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِمُشَابَهَتِهَا لِلْأَعْدَاءِ وَالْمُنْكِرِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى شَقَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١].
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ إِلَخْ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
12
وَمِنْ بَدِيعِ تَفَنُّنِ الْقُرْآنِ تَوْزِيعُ مُعَادِ الضَّمَائِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ تَمَاثُلِهَا فِي اللَّفْظِ وَهَذَا يَتَدَرَّجُ فِي مُحَسِّنِ الْجَمْعِ مَعَ التَّفْرِيق وأدق.
[٧]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٧]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ [الْأَحْقَاف:
٥]، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْعَدِّ لِوُجُوهِ فَرْطِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ تُتْلَى عَلَيْهِمْ صَبَاحَ مَسَاءَ تُبَيِّنُ لَهُمْ دَلَائِلَ خُلُوِّ الْأَصْنَامِ عَنْ مُقَوِّمَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَهَا وَتَحْدُو بِهِمْ إِلَى الْحَقِّ فَيُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ مَا فَهِمُوهُ مِنْهَا تَأَثُّرٌ سِحْرِيٌّ، وَأَنَّهَا سِحْرٌ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ بَلْ زَادُوا بُهْتَانًا فَزَعَمُوا أَنَّهُ مُبِينٌ، أَيْ وَاضِحٌ كَوْنُهُ سِحْرَاً. وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى إِبْطَالِ ضَلَالٍ آخَرَ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَهُوَ ضَلَالُ التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: ١، ٢] إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَبِأَنَّهُ سَبَبُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْحَقِّ لَامُ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمَقُولِ لَهُ أَيْ قَالَ بَعْضُ الْكَافِرِينَ لِبَعْضٍ فِي شَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَمَنْ أُجِّلَ إِيمَانُهُمْ. وَالْحَقُّ: هُوَ الْآيَاتُ، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْآيَاتِ إِلَى إِظْهَارِ لَفْظِ الْحَقِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّ رَمْيَهَا بِالسِّحْرِ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. ولَمَّا جاءَهُمْ تَوْقِيتٌ لِمَقَالَتِهِمْ، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِفَوْرِ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَكُلَّمَا جَاءَتْهُمْ، أَيْ دُونَ تَدَبُّرٍ وَلَا إجالة فكر.
[٨]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٨]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)
إِضْرَابُ انْتِقَالٍ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ ضَلَالِ أَقْوَالِهِمْ.
13
وَسَلَكَ فِي الِانْتِقَالِ مَسْلَكَ الْإِضْرَابِ دُونَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْإِضْرَابَ يُفِيدُ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ لَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: دَعْ قَوْلَهُمْ: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَحْقَاف: ٧]، وَاسْتَمِعْ لِمَا هُوَ أَعْجَبُ وَهُوَ قَوْلُهُمُ: افْتَراهُ، أَيِ افْتَرَى نِسْبَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ السِّحْرَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَقَالَتِهِمْ. وَالنَّفْيُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ يَتَسَلَّطُ عَلَى سَبَبِ الْإِنْكَارِ، أَيْ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُفْتَرًى وَلَيْسَ مُتَسَلِّطًا عَلَى نِسْبَةِ الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ صَادِرٌ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ الِافْتِرَاءُ الْمَزْعُومُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ [الْأَحْقَاف: ٧]، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ افْتَرَى الْقُرْآنَ فَزَعَمَ أَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقَدْ أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَابِ مَقَالَتِهِمْ بِمَا يَقْلَعُهَا مِنْ جَذْرِهَا، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلْ جُمْلَةً جَارِيَةً مَجْرَى جَوَابِ الْمُقَاوَلَةِ لِوُقُوعِهَا فِي مُقَابَلَةِ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَجُعِلَ الِافْتِرَاءُ مَفْرُوضًا بِحَرْفِ إِنِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ نَادِرَ الْوُقُوعِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَفْرُوضٌ فِي مَقَامٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى دَلَائِلَ تَقْلَعُ الشَّرْطَ مِنْ أَصْلِهِ.
وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ تَمْلِكُونَ، أَيْ شَيْئًا يُمْلَكُ، أَيْ يُسْتَطَاعُ، وَالْمُرَادُ: شَيْءٌ مِنَ الدَّفْعِ فَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَرُدُّوا عَنِّي شَيْئًا يَرِدُ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى (لَا أَمْلِكُ شَيْئًا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧].
وَالتَّقْدِيرُ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَاقَبَنِي اللَّهُ مُعَاقَبَةً لَا تَمْلِكُونَ رَدَّهَا. فَقَوْلُهُ: فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، لِأَن معنى فَلا تَمْلِكُونَ لِي لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ ضُرِّ اللَّهِ عَنِّي، فَاقْتَضَى أَنَّ الْمَعْنَى: إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَاقَبَنِي اللَّهُ وَلَا تَسْتَطِيعُونَ دَفْعَ عِقَابِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ فِي اسْتِعْمَالِ (لَا أملك لَك شَيْئًا) وَنَحْوِهِ أَنْ يُسْنِدَ فِعْلُ
14
الْمِلْكِ إِلَى الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لِلدَّفْعِ عَنْ مَدْخُولِ اللَّامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفِعْلِ الْمِلْكِ كَقَوْلِه تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الْأَعْرَاف: ١٨٨] وَقَوْلِهِ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: ٤]، أَوْ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى عَامٍّ نَحْوُ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِسْنَادُ فَعْلِ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمُخَاطِبِينَ وَهُمْ أَعدَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسُوا بِمَظِنَّةِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَنْصِبِ الْحَكَمِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَمُوا بِأَنَّهُ افْتَرَى الْقُرْآنَ فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ يزْعم أَن يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى أَنْ يُبَلِّغَ إِلَى النَّاسِ شَيْئًا عَنِ اللَّهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٧]. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ التَّقَوُّلَ عَلَى اللَّهِ يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ يَخْتَلُّ بِهِ نِظَامُ الْخَلْقِ، وَاللَّهُ يَغَارُ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَجْلِبُهَا الْمَظَالِمُ وَالْعَبَثُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِقْدَامٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَهُمْ يَدْفَعُونَهُ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، أَوْ حِيلَةٍ وَمُصَانَعَةٍ. وَأَمَّا التَّقَوُّلُ عَلَى اللَّهِ فَيُوقِعُ النَّاسَ فِي حَيْرَةٍ بِمَاذَا يَتَلَقَّوْنَهُ فَلِذَلِكَ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ وَيُزِيلُهُ.
وَجُمْلَةُ هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً لِأَنَّ جُمْلَةَ فَلا تَمْلِكُونَ لِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِحَالِ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ.
وَذَلِكَ هُوَ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الطَّعْنِ وَالْقَدْحِ وَالْوَصْفِ بِالسِّحْرِ أَوْ بِالِافْتِرَاءِ أَو بالجنون، فَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ الْقُرْآنُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي افْتَراهُ أَو الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي افْتَراهُ أَوْ مَجْمُوعُ أَحْوَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا
مُخْتَلَفُ خَوْضِهِمْ. وَمُتَعَلِّقُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مَحْذُوفٌ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ. وَالْإِفَاضَةُ فِي الْحَدِيثِ: الْخَوْضُ فِيهِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ وَهِيَ مَنْقُولَةٌ مِنْ: فَاضَ الْمَاءُ إِذَا سَالَ. وَمِنْهُ حَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ مُشْتَهِرٌ شَائِعٌ، وَالْمَعْنَى: هُوَ أَعْلَمُ بِحَالِ مَا تُفِيضُونَ فِيهِ.
15
وَجُمْلَةُ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِكَوْنِهِ أَعْلَمَ مِنْهُمْ بِكُنْهِ مَا يُفِيضُونَ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى تَفْوِيضِ الْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْخَوْضِ الْبَاطِلِ وَوَعِيدٌ.
وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، أَيِ الْمُخْبِرُ بِالْوَاقِعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاكِمُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَالِنَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بَيْنَهُمَا بَلْ لِأَحَدِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٤١].
وَإِجْرَاءُ وَصْفَيِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَيْهِ تَعَالَى اقْتَضَاهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَوْض بِالْبَاطِلِ.
[٩]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٩]
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
أُعِيدَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: ٤] الْآيَاتِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلهم: افْتَراهُ [الْأَحْقَاف: ٨] مِنْ إِحَالَتِهِمْ صِدْقَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ إِحَالَةً دَعَتْهُمْ إِلَى نِسْبَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [الْأَحْقَاف: ٨] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِارْتِقَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَدٍّ إِلَى أَقْوَى مِنْهُ فَكَانَ هَذَا كَالتَّعَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: ١٠]. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٨١- ٨٤] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ إِلَى قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٦] وَقَوْلُهُ:
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٨] إِلَخْ.
وَالْبِدْعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسِكُونُ الدَّالِ، مَعْنَاهُ الْبَدِيعُ مِثْلُ: الْخِفِّ يَعْنِي الْخَفِيفَ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
16
يَزِلُّ الْغُلَامُ الْخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ
وَمِنْهُ: الْخِلُّ بِمَعْنَى الْخَلِيلِ. فَالْبِدْعُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى الْبَادِعِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى:
«الْبَدِيعُ» خَالِقُ الْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعُهَا. فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُ مُحْدِثًا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الرُّسُلِ.
ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ مَا كُنْتُ آتِيًا مِنْهُمْ بَدِيعًا غَيْرَ مُمَاثِلٍ لَهُمْ فَكَمَا سَمِعْتُمْ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ أَخْبَرُوا عَنْ رِسَالَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَكَذَلِك أَنا فَلَمَّا ذَا يَعْجَبُونَ مِنْ دَعْوَتِي. وَهَذِهِ الْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى نَصَارَى زَمَانِنَا الَّذِينَ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِمَطَاعِنَ لَا مَنْشَأَ لَهَا إِلَّا تَضْلِيلٌ وَتَمْوِيهٌ عَلَى عَامَّتِهِمْ لِأَنَّ الطَّاعِنِينَ لَيْسُوا مِنَ الْغَبَاوَةِ بِالَّذِينَ يَخْفَى عَلَيْهِمْ بُهْتَانُهُمْ كَقَوْلِهِمْ إِنَّهُ تَزَوَّجَ النِّسَاءَ، أَوْ أَنَّهُ قَاتَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ أَنَّهُ أَحَبَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ تَتْمِيمٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يسْأَلُون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُغَيَّبَاتٍ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ إِذَا ضَلَّتْ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَنْ أَبِي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَأَمَرَ الله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِهِمْ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الْأَعْرَاف: ١٨٨].
وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا وَإِتْمَامًا لِمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ بِأَنَّ قُصَارَى مَا يَدْرِيهِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا يُعْلِمُهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِهِ، وَمِثْلُ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ وَأَنَّ وَرَاءَ الْمَوْتِ بَعْثًا.
وَمِثْلُ أَنَّهُ سَيُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: ١]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَدَعْ مَا أَطَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا مِنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَمِنْ كَوْنِهَا مَنْسُوخَةً أَوْ مُحْكَمَةً وَمِنْ حُكْمِ نَسْخِ الْخَبَرِ.
وَوَجْهُ عَطْفِ وَلا بِكُمْ عَلَى بِي بِإِقْحَامِ (لَا) النَّافِيَةِ مَعَ أَنَّهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِفِعْلِ صِلَةِ مَا الْمَوْصُولَةِ وَلَيْسَ فِي الصِّلَة نفي، فَلَمَّا ذَا لَمْ يَقُلْ: مَا يُفْعَلُ بِي وَبِكُمْ
17
لِأَنَّ الْمَوْصُولَ وَصَلْتَهُ لَمَّا وَقَعَا مَفْعُولًا لِلْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْرِي تَنَاوَلَ النَّفْيُ مَا هُوَ فِي حَيِّزِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ فَصَارَ النَّفْيُ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ فَحَسُنَ إِدْخَالُ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى الْمَعْطُوفِ، كَمَا حَسُنَ دُخُولُ الْبَاءِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُزَادَ فَيُجَرُّ بِهَا الِاسْمُ الْمَنْفِيُّ الْمَعْطُوفُ عَلَى اسْمِ (إِنَّ) وَهُوَ مُثْبَتٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى
[الْأَحْقَاف: ٣٣] لِوُقُوعِ أَنَّ الْعَامِلَةِ فِيهِ فِي خَبَرِ النَّفْيِ وَهُوَ أَوَلَمْ يَرَوْا وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ [الْبَقَرَة: ١٠٥] فَإِنَّ خَيْرٍ وَقَعَ مَعْمُولًا لِفِعْلِ يُنَزَّلَ وَهُوَ فِعْلٌ مُثْبَتٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا انْتَفَتْ وِدَادَتُهُمُ التَّنْزِيلَ صَارَ التَّنْزِيلُ كَالْمَنْفِيِّ لَدَيْهِمْ.
وَعَطْفُ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ. وَالْمَعْنَى: وَمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ لَا مُفْتَرٍ، فَالْقَصْرُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِرَدِّ قَوْلهم افْتَراهُ.
[١٠]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
أُعِيدَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ حُجَّةً أُخْرَى لَعَلَّهَا تَرُدُّهُمْ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: ٤] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْأَحْقَاف: ٨] وَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٩] الْآيَةَ.
وَهَذَا اسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي دَرَجَاتِ النَّظَرِ فَقَدْ بَادَأَهُمْ بِأَنَّ مَا أَحَالُوهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِمُحَالٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ أَوَّلَ النَّاسِ جَاءَ بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ.
ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَدْ كَفَرْتُمْ بِذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَقْحَمَ فِي هَذَا أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِوُقُوعِ الرِّسَالَاتِ وَنُزُولِ
18
الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُلِ، وَآمَنَ بِرِسَالَتِي كَيْفَ يَكُونُ انْحِطَاطُكُمْ عَنْ دَرَجَتِهِ، وَقَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ فَأَعْرَضْتُمْ عَنْهُ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٧]، وَهَذَا تَحْرِيكٌ لِلْهِمَمِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ فُصِّلَتْ [٥٢] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ سِوَى أَنَّ هَذِهِ أَقْحَمَ فِيهَا قَوْلَهُ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ لَهُمْ مُخَالَطَةٌ مَعَ بَعْضِ الْيَهُودِ فِي مَكَّةَ وَلَهُمْ صِلَةٌ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ فَلَمَّا ظَهَرَتْ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَسْأَلُونَ مَنْ لَقَوْهُ مِنَ الْيَهُودِ عَنْ أَمْرِ الْأَدْيَانِ وَالرُّسُلِ فَكَانَ الْيَهُودُ لَا مَحَالَةَ يُخْبِرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ رِسَالَةِ مُوسَى وَكِتَابِهِ وَكَيْفَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى فِرْعَوْنَ. فَالْيَهُودُ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ
برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا هُوَ ممائل لحَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ وَفِيهِ مَا يَكْفِي لِدَفْعِ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ.
فَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ تَقْرِيرَيٌّ لِلتَّوْبِيخِ وَمَفْعُولَا أَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفَانِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ظَالِمِينَ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي إِنْ كانَ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ إِلَى مَا يُوحَى إِلَيَّ فِي قَوْلِهِ آنِفًا إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَحْقَاف: ٩]. وَجُمْلَةُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَرَأَيْتُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ لِأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَاقِعٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْجَدَلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَفَتَرَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فِي ضَلَالٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ تَعْلِيلٌ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى: أَتَظُنُّونَ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَقَدْ كَفَرْتُمْ بِذَلِكَ فَشَهِدَ شَاهد على حقّية ذَلِكَ تُوقِنُوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِكُمْ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وَضَمِيرَا كانَ ومِثْلِهِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مَرَّاتٍ مِنْ قَوْلِهِ:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: ٢] وَقَوْلِهِ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الْأَحْقَاف: ٤].
19
وَجُمْلَةُ وَاسْتَكْبَرْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَشَهِدَ شاهِدٌ إِلَخْ وَجُمْلَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْمِثْلُ: الْمُمَاثِلُ وَالْمُشَابِهُ فِي صِفَةٍ أَوْ فِعْلٍ، وَضَمِيرُ مِثْلِهِ لِلْقُرْآنِ فَلَفْظُ مِثْلِهِ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَرِيحِ الْوَصْفِ، أَيْ عَلَى مُمَاثِلٍ لِلْقُرْآنِ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ نَحْوِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ الْمِثْلُ هُوَ كِتَابُ التَّوْرَاةِ أَوِ الزَّبُورُ مِنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْمِثْلُ عَلَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ لَفَظُ (مِثْلُ)، فَيَكُونُ لَفْظُ (مِثْلُ) بِمَنْزِلَةِ الْمُقْحَمِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْعَرَبِ: «مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ»، وَكَمَا هُوَ أَحَدُ مَحْمَلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]. فَالْمَعْنَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ فِيمَا حَوَاهُ.
وَيَجُوزُ يَكُونَ ضَمِيرُ مِثْلِهِ عَائِدًا عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ.
فَالْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ شَاهِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، أَيْ أَيُّ شَاهِدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ
إِنْبَاءٌ لَهُمْ بِمَا كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ بِهِ مَعَ الْيَهُودِ. وَبِهَذَا فَسَّرَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِيعَابِ» فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ:
الْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْآيَةَ.
وَمِثْلُ قَوْلِ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي بَابِ فَضْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ الْآيَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: لَا أَدْرِي قَالَ مَالِكٌ: الْآيَةُ أَوْ فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ مَسْرُوقٌ: لَيْسَ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ
20
الشَّعْبِيُّ مِثْلَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأُمِرَ بِوَضْعِهَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَقَعُ مِنْ إِيمَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَيَكُونُ هُوَ الْمُرَادَ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي جَرَّأَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى إِنْكَارِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: ٣١] وَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] حِينَ عَلِمُوا أَنْ قَدْ لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ بِنُزُولِ مَا سَلَفَ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَا قبله مَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، أَيْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا لَا يُرْجَى لَهُ زَوَالٌ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَهَذَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْطِ غَيْرِ الْمَجْزُومِ بِوُقُوعِهِ مُجَارَاةً لِحَالِ الْمُخَاطَبِينَ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ جِمَاحِهِمْ لِيَنْزِلُوا لِلتَّأَمُّلِ وَالْمُحَاوَرَةِ.
[١١]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١١]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ.
هَذَا حِكَايَةُ خَطَأٍ آخَرَ مِنْ أَخْطَاءِ حُجَجِ الْمُشْرِكِينَ الْبَاطِلَةِ وَهُوَ خَطَأٌ مَنْشَؤُهُ الْإِعْجَابُ بِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورُهُمْ بِدِينِهِمْ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنْ لَا خَيْرَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَرُوا الْأَخْذَ بِهِ ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ وَهُمْ يَعُدُّونَهُمْ مُنْحَطِّينَ عَنْهُمْ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ [٥٣]، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود ٢٧]، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ آثَارِ اسْتِكْبَارِهِمْ فَنَاسَبَ قَوْله:
وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: ١٠].
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا لَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، هُوَ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَقْدِيرُهُ: مُخَصِّصِينَ أَوْ مُرِيدِينَ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمرَان: ١٥٦]، وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ
21
السَّابِقَةِ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَحْقَاف: ٧]. وَلَيْسَتْ هِيَ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِ بِالْقَوْلِ نَحْوَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الْكَهْف: ٧٢] الْمُسَمَّاةَ لَامَ التَّبْلِيغِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي كانَ عَائِدٌ إِلَى مَا عد إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: ١٠] وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَفْهُومُ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَحْقَاف: ٩]. وَالسَّبْقُ أُطْلِقَ عَلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يُحَصِّلَهُ آخَرُ، شُبِّهَ بِأَسْرَعِ الْوُصُولِ بَيْنَ الْمُتَجَارِينَ، وَالْمُرَادُ: الْأَخْذُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ. وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ:
سَبَقُونا عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِي حَكَتْهُ الْآيَةُ أَرَادُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِثْلَ بِلَالٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسُمَيَّةَ، وَزِنِّيرَةَ (بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ مُشَبَّعَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ) أَمَةٌ رُومِيَّةٌ كَانَتْ مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمِمَّنْ عذبهنّ الْمُشْركُونَ وَمن أَعْتَقَهُنَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ زِنِّيرَةُ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي جَمَعَهَا الْقُرْآنُ فِي ضَمِيرِ سَبَقُونَا.
وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١).
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، أَيْ فَقَدِ اسْتَوْفَوْا بِمَزَاعِمِهِمْ وُجُوهَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالُوا: سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَحْقَاف: ٧] وَقَالُوا افْتَراهُ [الْأَحْقَاف: ٨]،
وَقَالُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ، وَبَقِيَ أَنْ يَقُولُوا هُوَ إِفْكٌ قَدِيمٌ.
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى أَنَّ مَزَاعِمَهُمْ كُلَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْ كُفْرِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ بُقُولِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَوْلِهِ: وَكَفَرْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: ١٠] وَقَوله: وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: ١٠] وَقَوْلِهِ:
وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ الْآيَةَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ رَامِيَةً إِلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَكْذِيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَوْزِيعُ أَسْبَابِهَا عَلَى مُخْتَلِفِ الْمَقَالَاتِ مُشْعِرًا بِأَنَّ جَمِيعَهَا أَسْبَابٌ لِجَمِيعِهَا.
22
وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِذْ لَمْ تَحْصُلُ هِدَايَتُهُمْ بِالْقُرْآنِ فِيمَا مَضَى فَسَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا هُوَ إِفْكٌ قَدِيمٌ إِذْ لَا مَطْمَعَ فِي إِقْلَاعِهِمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَمَّا كَانَتْ إِذْ ظَرْفًا لِلزَّمَنِ الْمَاضِي وَأُضِيفَتْ هُنَا إِلَى جُمْلَةٍ وَاقِعَةٍ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي كَمَا يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ بِحَرْفِ لَمْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مِنْ تَصَارِيفِ أَقْوَالِهِمُ الضَّالَّةِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْهُمْ فِي سُوَرٍ أُخْرَى نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، فَمَعْنَى فَسَيَقُولُونَ سَيَدُومُونَ عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
فَالِاسْتِقْبَالُ زَمَنٌ لِلدَّوَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَتَكْرِيرِهَا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الزخرف: ٢٧] فَإِنَّهُ قَدْ هَدَاهُ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا أَرَادَ سَيُدِيمُ هِدَايَتَهُ إِيَّايَ. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِخْبَارَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُم فَسَيَقُولُونَ هَذَا وَلَمْ يَقُولُوهُ فِي الْمَاضِي إِذْ لَيْسَ لِهَذَا الْإِخْبَارِ طَائِلٌ. وَإِذْ قَدْ حُكِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَا يُرَادِفُ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِذْ.
وَحَيْثُ قُدِّمَ الظَّرْفُ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَامِلِهِ أُشْرِبَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ إِشْرَابٌ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ، وَكَثِيرٌ فِي إِذْ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِذْ لِلتَّعْلِيلِ، وَتَتَعَلَّقُ إِذْ بِ (يَقُولُونَ) وَلَا تَمْنَعُ الْفَاءُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَإِنَّمَا انْتَظَمَتِ الْجُمْلَةُ هَكَذَا لِإِفَادَةِ هَذِهِ الخصوصيات البلاغية، فالوا وللعطف وَالْمَعْطُوفُ فِي مَعْنَى شَرْطٍ وَالْفَاءُ لِجَوَابِ الشَّرْطِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: وَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ!
وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَارٍ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْأَمَالِي» دُونَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، فَإِنَّهُ تَكَلَّفَ لَهُ تَكَلُّفًا غير شاف.
23

[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٢]

وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)
اتَّبَعَ إِبْطَالَ تُرَّهَاتِهِمُ الطَّاعِنَةِ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُفِيدِ زِيَادَةَ الْإِبْطَالِ لِمَزَاعِمِهِمْ بِالتَّذْكِيرِ بِنَظِيرِ الْقُرْآنِ وَمَثِيلٍ لَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ «التَّوْرَاةُ» مَعَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَزِيَّتِهِ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ إِذْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، فَعُطِفَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِارْتِبَاطِهَا بِهَا فِي إِبْطَالِ مَزَاعِمِهِمْ وَفِي أَنَّهَا نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الْأَحْقَاف: ١٠] كَمَا تَقَدَّمَ.
فَفِي قَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِبْطَالٌ لِإِحَالَتِهِمْ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَحْيَ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ سَابِقَةٌ مَعْلُومَةٌ أَشْهَرُهُ «كِتَابُ مُوسَى»، أَيِ «التَّوْرَاةُ» وَهُمْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ نُبُوءَتُهُ مِنَ الْيَهُودِ. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَتَقْدِيمُ مِنْ قَبْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مَحل الْقَصْد مِنَ الْجُمْلَةِ.
وَعُبِّرَ عَنِ «التَّوْرَاةِ» بِ كِتابُ مُوسى بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ وَهُوَ «التَّوْرَاةُ» لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الْإِضَافَةُ إِلَى اسْمِ مُوسَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى بَشَرٍ كَمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلْمِيحًا إِلَى مَثَارِ نَتِيجَةِ قِيَاسِ الْقُرْآنِ عَلَى «كِتَابِ مُوسَى» بِالْمُشَابِهَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
وإِماماً وَرَحْمَةً حَالَانِ مِنْ كِتابُ مُوسى، وَيَجُوزُ كَوْنُهُمَا حَالَيْنِ مِنْ مُوسى وَالْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ.
وَالْإِمَامُ: حَقِيقَتُهُ الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْعَامِلُ مِقْيَاسًا لِعَمَلِ شَيْءٍ آخَرَ وَيُطْلَقُ إِطْلَاقًا شَائِعًا عَلَى الْقُدْوَةِ قَالَ تَعَالَى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: ٧٤]. وَأَصْلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ اسْتِعَارَةٌ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ، وَاسْتُعِيرَ الْإِمَامُ لِكِتَابِ مُوسَى لِأَنَّهُ يُرْشِدُ إِلَى مَا يَجِبُ عَمَلُهُ فَهُوَ كَمَنْ يُرْشِدُ وَيَعِظُ، وَمُوسَى إِمَامٌ أَيْضًا بِمَعْنَى الْقُدْوَةِ.
وَالرَّحْمَةُ: اسْمُ مَصْدَرٍ لِصِفَةِ الرَّاحِمِ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ فَهِيَ، رِقَّةٌ فِي النَّفْسِ تَبْعَثُ عَلَى سَوْقِ الْخَيْرِ لِمَنْ تَتَعَدَّى إِلَيْهِ. وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِهَا اسْتِعَارَةٌ لِكَوْنِهِ
24
سَبَبًا فِي نَفْعِ
الْمُتَّبِعِينَ لِمَا تَضْمَنَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاسْتِعَارَةِ، وَمُوسَى أَيْضًا رَحْمَةٌ لِرِسَالَتِهِ كَمَا وصف مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧].
وَقَوْلُهُ: وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ إِلَخْ هُوَ الْمَقِيسُ عَلَى كِتابُ مُوسى. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ بِالذِّكْرِ فَهُوَ كَالْحَاضِرِ بِالذَّاتِ.
وَالْمُصَدِّقُ: الْمُخْبِرُ بِصِدْقِ غَيْرِهِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْمُصَدِّقِ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ مُخْبِرٌ بِأَحَقِّيَّةِ كُلِّ الْمَقَاصِدِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ السَّالِفَةُ. وَهَذَا ثَنَاءٌ عَظِيمٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ احْتَوَى عَلَى كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَجَاءَ مُغْنِيًا عَنْهَا وَمُبَيِّنًا لِمَا فِيهَا. وَالتَّصْدِيقُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَى مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْهَا. وَمَا حُرِّفَ فَهْمُهُ بِهَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨].
وَزَادَهُ ثَنَاءً بِكَوْنِهِ لِساناً عَرَبِيًّا، أَيْ لُغَةً عَرَبِيَّةً فَإِنَّهَا أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَنْفَذُهَا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ وَأَحَبُّ اللُّغَاتِ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهَا أَشْرَفُ وَأَبْلَغُ وَأَفْصَحُ مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا كِتَابُ مُوسَى، وَمِنَ اللُّغَةِ الَّتِي تكلّم بهَا عِيسَى وَدَوَّنَهَا أَتْبَاعُهُ أَصْحَابُ الْأَنَاجِيلِ. وَأُدْمِجَ لَفْظُ لِساناً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِعَرَبِيَّتِهِ عَرَبِيَّةُ أَلْفَاظِهِ لَا عَرَبِيَّةُ أَخْلَاقِهِ وَتَعَالِيمِهِ لِأَنَّ أَخْلَاقَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مُخْتَلِطَةٌ من محَاسِن ومساو فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نفى عَنْهَا الْمسَاوِي، وَلِذَلِكَ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»
. وَغَلَبَ إِطْلَاقُ اللِّسَانِ عَلَى اللُّغَةِ لِأَنَّ أَشْرَفَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللِّسَانُ هُوَ الْكَلَامُ قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيم: ٤]، وَقَالَ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [مَرْيَم: ٩٧].
وَقَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَجُوزُ أَنْ يتَعَلَّق ب وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالْبِشَارَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا فِي كِتابُ مِنْ مَعْنَى
25
الْإِرْشَادِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالْبِشَارَةِ. وَهَذَا أَحْسَنُ لِيَكُونَ لِتُنْذِرَ عِلَّةً لِلْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ وَحَالِهِ.
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] وَيَلْحَقُ بِهِمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالْمُحْسِنِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَتْقِيَاءُ لِأَنَّ الْمُرَادَ ظُلْمُ النَّفْسِ وَيُقَابِلُهُ الْإِحْسَانُ. وَالنِّذَارَةُ مَرَاتِبُ وَالْبِشَارَةُ مِثْلُهَا.
وبُشْرى عَطْفٌ عَلَى مُصَدِّقٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَهُوَ بُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ، أَيِ الْكِتَابُ، وَهَذَا النَّظْمُ يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ وَالتَّتْمِيمِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ لِتُنْذِرَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ خطابا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْصُلُ وصف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مُنْذِرٌ وَوَصْفُ كِتَابِهِ بِأَنَّهُ بُشْرى وَفِيهِ احْتِبَاكٌ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْكِتَابِ فَإِسْنَادُ الْإِنْذَار إِلَى الْكتاب مجَاز عَقْلِي.
[١٣، ١٤]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أُوثِرَ بِصَرِيحِهِ جَانِبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُسْتَمِعِينَ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا الْبُشْرَى تَطَلَّعُوا إِلَى صِفَةِ الْبُشْرَى وَتَعْيِينِ الْمُحْسِنِينَ لِيَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي حَقِّ مَوَاضِعِهَا، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْبُشْرَى هِيَ نَفْيُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْمُحْسِنِينَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فِي أَعْمَالِهِمْ. وَأُشِيرَ بِمَفْهُومِهِ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّ فِيهِ مَفْهُومَ الْقَصْرِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ. وَتَعْرِيفُهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا حُسْنَ مُعَامَلَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ بِتَوْحِيدِهِ وَخَوْفِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ إِلَى حُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ مَعْنَى ثُمَّ اسْتَقامُوا.
26
وَجِيءَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِفِعْلٍ قالُوا لِإِيجَازِ الْمَقُولِ وَغِنْيَتِهِ عَنْ أَنْ يُقَالَ: اعْتَرَفُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَأَطَاعُوهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوا مَعْنَاهُ إِذِ الشَّأْنُ فِي الْكَلَامِ الصِّدْقُ وَعَمِلُوا بِهِ لِأَنَّ الشَّأْنَ مُطَابَقَةُ الْعَمَلِ لِلِاعْتِقَادِ.
ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ: وَهُوَ الِارْتِقَاءُ وَالتَّدَرُّجُ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ الِاسْتِقَامَةِ أَشَقُّ مِنْ حُصُولِ الْإِيمَانِ لِاحْتِيَاجِهَا إِلَى تَكَرُّرِ مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ وَاعْتِقَادُهُ يَحْصُلُ دَفْعَةً لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ مُلَاحَظَةٍ. فَهَذَا وَجْهُ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ مِنْ جِهَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ أَرْقَى دَرَجَةً مِنَ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَرْطٌ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْعَمَلِ وَلِذَلِكَ عَطَفَ بِ ثُمَّ الَّتِي لِلتَّرَاخِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٢- ١٧]، فَالِاعْتِبَارَانِ مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ الْمَسُوقِ فِيهِ الْكَلَامُ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ هُنَا وَهُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ.
وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى خَبَرِ الْمَوْصُولِ وَهُوَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَأَفَادَ تَسَبُّبُ ذَلِكَ فِي أَمْنِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ. وعَلَيْهِمْ خَبَرٌ عَنْ خَوْفٍ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ وَيُصِيبُهُمْ وَيَلْحَقُهُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لِتَخْصِيصِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ نَحْوِ: مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا، أَيْ أَنَّ الْحُزْنَ مُنْتَفٍ عَنْهُمْ لَا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْغَيْرِ: مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي مَرَاتِبِ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، فَجِنْسُ الْخَوْفِ ثَابِتٌ لِمَنْ عَدَاهُمْ عَلَى مَرَاتِبِ تَوَقُّعِ الْعِقَابِ حَتَّى فِي حَالَةِ الْوَجَلِ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ فِيهِمْ وَمِنْ تَوَقُّعِ حِرْمَانِهِمْ مِنْ نَفَحَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاسْتِحْضَارُهُمْ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يَرِدُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِمَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
27
وأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْجَنَّةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ فِي الْجَنَّةِ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْجَنَّةُ لِمَا فِي أَصْحابُ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَمَا فِي الْإِضَافَةِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تَصْرِيحٌ بِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ تَعْلِيلِ الصِّلَةِ فِي الْخَبَرِ وَمِنَ اقْتِضَاءِ اسْمِ الْإِشَارَةِ جَدَارَتَهُمْ بِمَا بَعْدَهُ وَمَا أَفَادَهُ وَصْفُ أَصْحَابُ وَمَا أَفَادَتْهُ الْإِضَافَةُ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْعِنَايَةِ بِالتَّنْوِيهِ بِهِمْ.
[١٥]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً
تَطَلَّبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَجْهَ مُنَاسِبَةِ وُقُوعِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَسْتَجِيبَ بَعْضُ النَّاس للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكْفُرُ بِهِ بَعْضُهُمْ كَمَا اخْتَلَفَ حَالُ النَّاسِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ
عَسَاكِرَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِقَامَةَ عَطَفَ الْوَصِيَّةَ بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا هُوَ مَقْرُونٌ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ مُقْنِعٍ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ. وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ عِنْدِي أَن هَذَا انْتِقَال إِلَى قَوْلٍ آخَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ كَلَامُهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَجِدَالِهِمْ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ بِمَحَلِّ الْقَصْدِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما إِلَى قَوْله: خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: ١٧، ١٨].
وَصِيغَ هَذَا فِي أُسْلُوبِ قِصَّةِ جِدَالٍ بَيْنَ وَالِدَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ وَوَلَدٍ كَافِرٍ، وَقِصَّةِ جِدَالٍ بَيْنَ وَلَدٍ مُؤْمِنٍ وَوَالِدَيْنِ كَافِرَيْنِ لِأَنَّ لِذَلِكَ الْأُسْلُوبِ وَقْعًا فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ مَعَ مَا رُوِيَ إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جِدَالٍ جَرَى بَين عبد الرحمان بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَبَيْنَ وَالِدَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِذِكْرِ هَذَا الْجِدَالِ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً إِلَى قَوْله: يُوعَدُونَ [الْأَحْقَاف: ١٥، ١٦] نَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ:
نَزَلَتْ فِي
28
أَبِي بَكْرٍ وَأَبِيهِ (أَبِي قُحَافَةَ) وَأُمِّهِ (أُمِّ الْخَيْرِ) أَسْلَمَ أَبَوَاهُ جَمِيعًا. وَقَدْ تَكَرَّرَتِ الْوِصَايَةُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فِي الْقُرْآنِ وَحَرَّضَ عَلَيْهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ فَكَانَ الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ أَجْلَى مَظْهَرًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا وَكَانَ مِنْ بَرَكَاتِ أَهْلِهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْلُغُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مَبْلَغًا فِي أُمَّةٍ مَبْلَغَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَتَقَدَّمَ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٨].
وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ، أَيْ وَصَّيْنَا النَّاسَ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ النَّاسِ الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِوَصَايَا اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا أُولئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [الْأَحْقَاف: ١٦] الْآيَةَ.
وَكَذَلِكَ هُوَ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْغَرَضِ كَمَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْحُسْنُ: مَصْدَرُ حَسُنَ، أَيْ وَصَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ كَذَلِكَ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ إِحْساناً. وَالنَّصْبُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ إِمَّا بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ وَإِمَّا بِتَضْمِينِ وَصَّيْنَا مَعْنَى: أَلْزَمْنَا.
وَالْكُرْهُ: بِفَتْحِ الْكَافِ وَبِضَمِّهَا مَصْدَرُ أَكْرَهُ، إِذَا امْتَعَضَ مِنْ شَيْءٍ، أَيْ كَانَ حمله مَكْرُوها لَهَا، أَيْ حَالَةَ حَمْلِهِ وَوِلَادَتِهِ لِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَرْهًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِفَتْحِ
الْكَافِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذِكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَانْتَصَبَ كُرْهاً عَلَى الْحَالِ، أَيْ كَارِهَةً أَوْ ذَاتَ كُرْهٍ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حَمَلَتْهُ فِي بَطْنِهَا مُتْعَبَةً مِنْ حَمْلِهِ تَعَبًا يَجْعَلُهَا كَارِهَةً لِأَحْوَالِ ذَلِكَ الْحَمْلِ. وَوَضَعَتْهُ بِأَوْجَاعٍ وَآلَامٍ جَعَلَتْهَا كَارِهَةً لِوَضْعِهِ. وَفِي ذَلِكَ الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ فَائِدَةٌ لَهُ هِيَ فَائِدَةُ وُجُودِهِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ حَالِ الْمُمْكِنِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى وُجُودِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي بِهِ حُصُولُ النِّعَمِ الْخَالِدَةِ.
وَأُشِيرَ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَمْلِ مِنْ إِرْضَاعِهِ الَّذِي بِهِ عِلَاجُ حَيَاتِهِ وَدَفْعُ أَلَمِ الْجُوعِ عَنْهُ
29
وَهُوَ عَمَلٌ شَاقٌّ لِأُمِّهِ فَذُكِرَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ وَالْإِرْضَاعِ لِأَنَّهَا لِطُولِهَا تَسْتَدْعِي صَبْرَ الْأُمِّ عَلَى تَحَمُّلِ كُلْفَةِ الْجَنِينِ وَالرَّضِيعِ.
وَالْفِصَالُ: الْفِطَامُ، وَذُكِرَ الْفِصَالُ لِأَنَّهُ انْتِهَاءُ مُدَّةِ الرِّضَاعِ فَذَكَرَ مَبْدَأَ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِقَوْلِهِ: وَحَمْلُهُ وَانْتِهَاءَ الرِّضَاعِ بِقَوْلِهِ: وَفِصالُهُ. وَالْمَعْنَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ شَهْرًا. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَفَصْلُهُ بِسُكُونِ الصَّادِ، أَيْ فَصْلُهُ عَنِ الرَّضَاعَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَمِنْ بَدِيعِ مَعْنَى الْآيَةِ جَمْعُ مُدَّةِ الْحَمْلِ إِلَى الْفِصَالِ فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا لِتُطَابِقَ مُخْتَلَفَ مُدَدِ الْحَمْلِ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةً وَهُوَ الْغَالِبُ، قِيلَ: كَانُوا إِذَا كَانَ حَمْلُ الْمَرْأَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَهُوَ الْغَالِبُ أَرْضَعَتِ الْمَوْلُودَ أَحَدَ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَذَلِكَ أَقْصَى أَمَدُ الْإِرْضَاعِ فَعَوَّضُوا عَنْ نَقْصِ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ شَهْرًا زَائِدًا فِي الْإِرْضَاعِ لِأَنَّ نُقْصَانَ مُدَّةِ الْحَمْلِ يُؤَثِّرُ فِي الطِّفْلِ هُزَالًا.
وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا الطَّيِّ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ قَدْ تَكُونُ دُونَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَوْلَا أَنَّهَا تَكُونُ دُونَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ لَحَدَّدَتْهُ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِظْهَارُ حَقِّ الْأُمِّ فِي الْبِرِّ بِمَا تَحَمَّلَتْهُ مِنْ مَشَقَّةِ الْحَمْلِ فَإِنَّ مَشَقَّةَ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَشَدُّ مِنْ مَشَقَّةِ الْإِرْضَاعِ فَلَوْلَا قَصْدُ الْإِيمَاءِ إِلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَكَانَ التَّحْدِيدُ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَجْدَرَ بِالْمَقَامِ. وَقَدْ جَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةَ مَعَ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ قَدْ يَكُونُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَنُسِبَ مِثْلُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَوْا عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَّا امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ فَوَلَدَتْ
لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَانْطَلَقَ زَوْجُهَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَذَكَرَ لَهُ فَبَعَثَ إِلَيْهَا عُثْمَانُ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهَا أَمَرَ بِرَجْمِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا
30
فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ: بلَى. قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، وَقَالَ: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فَلَمْ نَجِدْهُ بَقِيَ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. فَرَجَعَ عُثْمَانُ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بُنِيَ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ شُمُولَ الصُّوَرِ النَّادِرَةِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ هُوَ اللَّائِقُ بِكَلَامِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ الَّذِي أَنْزَلَهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَحْكَامِ الْحَمْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَمَعْنَاهَا مَعْنَى فَاءُ التَّفْرِيعِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِذْ كَانَتْ حَتَّى لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْغَايَةِ كَانَتْ مُؤْذِنَةً هُنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَدَرَّجَ فِي أَطْوَارِهِ مِنْ وَقْتِ فِصَالِهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ، أَيْ هُوَ مُوصًى بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا فِي الْأَطْوَارِ الْمُوَالِيَةِ لِفِصَالِهِ، أَيْ يُوصِيهِ وَلِيُّهُ فِي أَطْوَارِ طُفُولَتِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ وَصِيَّةِ اللَّهِ فِي وَقْتِ تَكْلِيفِهِ.
وَوُقُوعُ إِذا بَعْدَ حَتَّى لِيُرَتَّبَ عَلَيْهَا تَوْقِيتُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مِنَ الْخَبَرِ، أَيْ كَانَتِ الْغَايَةُ وَقْتَ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُ ذَلِكَ قَرِيبًا وَبَعِيدًا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٢].
وَلَمَّا كَانَ إِذا ظَرْفًا لِزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ كَانَ الْفِعْلُ الْمَاضِي بَعْدَهَا مُنْقَلِبًا إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَإِنَّمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَشْبِيهًا لِلْمُؤَكَّدِ تَحْصِيلُهُ بِالْوَاقِعِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ.
وإِذا تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، أَيْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فَإِذَا بَلَغَهُ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، أَيْ طَلَبَ الْعَوْنَ مِنَ اللَّهِ عَلَى زِيَادَةِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِأَنْ يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ أَنْ أَلْهَمَهُ الْإِحْسَانَ لِوَالِدَيْهِ.
31
وَمِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ عَلَى وَالِدَيْهِ أَنْ سَخَّرَ لَهُمَا هَذَا الْوَلَدَ لِيُحْسِنَ إِلَيْهِمَا، فَهَاتَانِ النِّعْمَتَانِ أَوَّلُ مَا يَتَبَادَرُ عَنْ عُمُومِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلْحَدِيثِ عَنْهُمَا.
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُؤَقَّتَ بِبُلُوغِ الْأَشُدِّ وَهُوَ فِعْلُ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي مِنْ جُمْلَةِ مَا وُصِّيَ بِهِ الْإِنْسَانُ، أَيْ أَنْ يُحْسِنَ إِلَى وَالِدَيْهِ فِي وَقْتِ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ. فَالْمَعْنَى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ حُسْنًا بِوَالِدَيْهِ حَتَّى فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ، أَيْ أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنِ الْإِحْسَانِ
إِلَيْهِمَا بِكُلِّ وَجْهٍ حَتَّى بِالدُّعَاءِ لَهُمَا. وَإِنَّمَا خَصَّ زَمَانَ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ لِأَنَّهُ زَمَنٌ يكثر فِيهِ الكلف بِالسَّعْيِ لِلرِّزْقِ إِذْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ زَوْجَةٌ وَأَبْنَاءٌ وَتَكْثُرُ تَكَالِيفُ الْمَرْأَةِ فَيَكُونُ لَهَا فِيهِ زَوْجٌ وَبَيَّتٌ وَأَبْنَاءٌ فَيَكُونَانِ مَظِنَّةَ أَنْ تَشْغَلَهَمَا التَّكَالِيفُ عَنْ تَعَهُّدِ وَالِدَيْهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فَنُبِّهَا بِأَنْ لَا يَفْتُرَا عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ.
وَمَعْنَى قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ بِذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِمَا بِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ الدُّعَاءُ لِنَفْسِهِ عَنِ الدُّعَاءِ لَهُمَا وَبِأَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمَا بِظَهْرِ الْغَيْبِ مِنْهُمَا حِينَ مُنَاجَاتِهِ رَبَّهُ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمَا فِي الْمُوَاجَهَةِ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ كَمَا فِي طَرِيقَةِ الْفَحْوَى فِي النَّهْيِ عَنْ أَذَاهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاء: ٢٣].
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي الْمُشَاهَدَةِ وَالْغَيْبَةِ وَبِجَمِيعِ وَسَائِلِ الْإِحْسَانِ الَّذِي غَايَتُهُ حُصُولُ النَّفْعِ لَهُمَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً
[الْإِسْرَاء: ٢٤] وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بِالدُّعَاءِ لِلْأَبَوَيْنِ وَعَدَ بِإِجَابَتِهِ عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِقَوْلِهِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»
. وَمَا شُكْرُ الْوَلَدِ رَبَّهُ عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى وَالِدَيْهِ إِلَّا مِنْ بَابِ نِيَابَتِهِ عَنْهُمَا فِي هَذَا الشُّكْرِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الْوَلَدُ عَنْ وَالِدَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ
32
عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ، قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهُ»
، وَهُوَ حَجٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى أَبِيهَا لِعَجْزِهِ.
وَالْأَشُدُّ: حَالَةُ اشْتِدَادِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَهُوَ جَمْعٌ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِمُفْرَدٍ. وَقِيلَ مُفْرَدُهُ: شِدَّةٌ بِكَسْرِ الشِّينِ وَهَاءِ التَّأْنِيثِ مِثْلُ نِعْمَةٍ جَمْعُهَا أَنْعُمٌ، وَلَيْسَ الْأَشُدُّ اسْمًا لِعَدَدٍ مِنْ سِنِي الْعُمْرِ وَإِنَّمَا سِنُو الْعُمْرِ مَظِنَّةً لِلْأَشُدِّ. وَوَقْتُهُ مَا بَعْدَ الثَلَاثِينَ سَنَةً وَتَمَامُهُ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى بَلَغَ أَشُدَّهُ قَوْلَهُ: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَيْ بَلَغَ الْأَشُدَّ وَوَصَلَ إِلَى أَكْمَلِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى [الْقَصَص: ١٤]، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ بَلَغَ أَشُدَّهُ لِأَنَّ إِعَادَةَ فِعْلِ بَلَغَ تُبْعِدُ احْتِمَالَ التَّأْكِيدِ وَحَرْفُ الْعَطْفِ أَيْضًا يُبْعِدُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ.
وأَوْزِعْنِي: أَلْهِمْنِي. وَأَصْلُ فِعْلِ أَوزَعَ الدَّلَالَةُ عَلَى إِزَالَةِ الْوَزَعِ، أَيِ الِانْكِفَافِ عَنْ عَمَلٍ مَا، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإِزَالَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
ونِعْمَتَكَ اسْمُ مَصْدَرٍ مُضَافٍ يَعُمُّ، أَيْ أَلْهِمْنِي شُكْرَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدِيَّ مِنْ جَمِيعِ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ كَالْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَمِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالصِّحَّةِ وَالْجِدَّةِ.
وَمَا ذُكِرَ مِنَ الدُّعَاءِ لِذُرِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اسْتِطْرَادٌ فِي أَثْنَاءِ الْوِصَايَةِ بِالدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ بِأَنْ لَا يَغْفُلَ الْإِنْسَانُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ بِأَنْ يَصْرِفَ عِنَايَتَهُ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَرَفَهَا إِلَى أَبَوَيْهِ لِيَكُونَ لَهُ مِنْ إِحْسَانِ ذُرِّيَّتِهِ إِلَيْهِ مِثْلُ مَا كَانَ مِنْهُ لِأَبَوَيْهِ وَإِصْلَاحُ الذُّرِّيَّةِ يَشْمَلُ إِلْهَامَهُمُ الدُّعَاءَ إِلَى الْوَالِدِ.
وَفِي إِدْمَاجِ تَلْقِينِ الدُّعَاءِ بِإِصْلَاحِ ذُرِّيَّتِهِ مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَلْقَى مِنْ إِحْسَانِ أَبْنَائِهِ إِلَيْهِ مِثْلَ مَا لَقِيَ أَبَوَاهُ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ دَعْوَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ مَرْجُوَّةُ الْإِجَابَةِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ»
، وَفِي رِوَايَةٍ «لِوَلَدِهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ مُتَعَدِّدَةٌ طُرُقُهُ.
33
وَاللَّامُ فِي وَأَصْلِحْ لِي لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ أَصْلَحْ فِي ذُرِّيَّتِي لِأَجْلِي وَمَنْفَعَتِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١]. وَنُكْتَةُ زِيَادَةِ هَذَا فِي الدُّعَاءِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ تَعَرَّضَ إِلَى نَفَحَاتِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ إِصْلَاحَ ذُرِّيَّتِهِ وَعَرَّضَ بِأَنَّ إصلاحهم لفائدته، وهذ تَمْهِيدٌ لِبِسَاطِ الْإِجَابَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا ابْتَدَأْتَنِي بِنِعْمَتِكَ وَابْتَدَأْتَ وَالِدِيَّ بِنِعْمَتِكَ وَمَتَّعْتَهُمَا بِتَوْفِيقِي إِلَى بِرِّهِمَا، كَمِّلْ إِنْعَامَكَ بِإِصْلَاحِ ذُرِّيَّتِي فَإِنَّ إِصْلَاحَهُمْ لِي. وَهَذِهِ تَرْقِيَاتٌ بَدِيعَةٌ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ.
وَمَعْنَى ظَرْفِيَّةِ فِي ذُرِّيَّتِي أَنَّ ذُرِّيَّتَهُ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الظَّرْفِ يَسْتَقِرُّ فِيهِ مَا هُوَ بِهِ الْإِصْلَاحُ وَيَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَمَكُّنَ الْإِصْلَاحِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَتَغَلْغُلَهُ فِيهِمْ. وَنَظِيرُهُ فِي الظَّرْفِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: ٢٨].
وَجُمْلَةُ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ كَالتَّعْلِيلِ لِلْمَطْلُوبِ بِالدُّعَاءِ تَعْلِيلَ تَوَسُّلٍ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِالنِّعْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَبِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ وَيُغْنِي غِنَاءَ الْفَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ: الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ تَوْبَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَبِكَوْنِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ تَبِعَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ. وَقَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَسْلَمْتُ كَمَا قَالَ: تُبْتُ
إِلَيْكَ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ وَهُوَ التَّجَدُّدُ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُتَجَدِّدَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ دُفْعَةً فَيَسْتَقِرُّ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ، وَفِيهِ الرَّعْيُ عَلَى الْفَاصِلَةِ. هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِمَا تُعْطِيهِ تَرَاكِيبُهَا وَنَظْمُهَا دُونَ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَمُّلٍ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَهْلٍ لِوِصَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَالِدَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُمَا إِنْ كَانَا مُؤمنين.
[١٦]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها [الْأَحْقَاف: ١٤]. وَكَوْنُهُ إِشَارَةَ جَمْعٍ وَمُخْبِرَةٌ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ الْجَمْعِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ
34
الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الْأَحْقَاف: ١٥] غَيْرُ مُعَيَّنٍ بَلِ الْمُرَادُ الْجِنْسُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِغْرَاقِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْوَصْفِ وَالْحَثِّ يُحْدِثُ تَرَقُّبَ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ فَائِدَةِ ذَلِكَ فَكَانَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يتَقَبَّل عَنْهُمْ إِلَى آخِرِهِ جَوَابًا لِتَرْقِيَةٍ.
وَعُمُومُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا يُكْسِبُ الْجُمْلَةَ فَائِدَةَ التَّذْيِيلِ، أَيِ الْإِحْسَانُ بِالْوَالِدَيْنِ وَالدُّعَاءُ لَهُمَا وَلِلذُّرِّيَّةِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا عَمِلُوا. وَقَدْ تُقَبِّلَ مِنْهُمْ كُلُّ مَا هُوَ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا. وَالتَّقَبُّلُ: تَرَتُّبُ آثَارِ الْعَمَلِ مِنْ ثَوَابٍ عَلَى الْعَمَل واستجابة للدُّعَاء.
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَلَّى تَلْقِينَهُ مِثْلُ الدُّعَاءِ الَّذِي فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَدُعَاءِ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ يُتَقَبَّلُ بِحَرْفِ (عَنْ)، وَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (مِنْ) تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْمَدْعُوِّ لَهُمْ وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَالذُّرِّيَّةُ، لِأَنَّ دُعَاءَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِأُولَئِكَ بِمَنْزِلَةِ النِّيَابَةِ عَنْهُمْ فِي عِبَادَةِ الدُّعَاءِ وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِالنِّيَابَةِ مُتَقَبَّلًا عُلِمَ أَنَّ عَمَلَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ مُتَقَبَّلٌ أَيْضًا فَفِي الْكَلَامِ اخْتِصَارٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أُولَئِكَ يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ وَيُتَقَبَّلُ عَنْ وَالِدَيْهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُتَقَبَّلُ ويتجاوز بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً مَبْنِيَّيْنِ لِلنَّائِبِ وَأحسن مَرْفُوعٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ وَلَمْ يُذْكَرِ الْفَاعِلُ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُتَقَبِّلَ هُوَ اللَّهُ وَقَرَأَهُمَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِنُونَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَنَصْبِ أَحْسَنَ.
وَقَوْلُهُ: فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ كَائِنِينَ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ حِينَ يُتَقَبَّلُ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا وَيُتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مُتَقَبَّلٌ
أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ وَيُتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَذُكِرَ هَذَا لِلتَّنْوِيهِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْفَرِيقِ الْمُشَرَّفِينَ كَمَا يُقَالُ: أَكْرَمُهُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَانْتَصَبَ وَعْدَ الصِّدْقِ عَلَى الْحَالِ مِنَ التَّقَبُّلِ وَالتَّجَاوُزِ الْمَفْهُومِ مِنْ مَعَانِي يُتَقَبَّلُ وَيُتَجَاوَزُ، فَجَاءَ الْحَالُ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ كَمَا أُعِيدَ
35
عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]، أَيِ الْعَدْلُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.
وَالْوَعْدُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ ذَلِكَ مَوْعِدُهُمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَهُ.
وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى الصِّدْقِ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى (مِنْ)، أَيْ وَعْدٌ مِنَ الصِّدْقِ إِذْ لَا يَتَخَلَّفُ. والَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ صِفَةُ وَعْدَ الصِّدْقِ، أَيْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا بِالْقُرْآنِ فِي الْآيَاتِ الْحَاثَّةِ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَعَلَى الشُّكْرِ وَعَلَى إصْلَاح الذُّرِّيَّة.
[١٧]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٧]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)
هَذَا الْفَرِيقُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَبْدُوءَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الْأَحْقَاف: ١٥]. وَهَذَا الْفَرِيقُ الَّذِي كَفَرَ بِرَبِّهِ وَأَسَاءَ إِلَى وَالِدَيْهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ وَالِدَيْهِ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي الْآيَةَ.
فَجُمْلَةُ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ [الْأَحْقَاف: ٧] إِلَخْ انْتِقَالٌ إِلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أُصُولُ شِرْكِهِمْ وَهِيَ مَقَالَةُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ فَالْوَجْهُ جَعْلُهُ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ:
وَاذْكُرِ الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يُلَائِمُ كُلَّ الْوُجُوهِ. وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ [الْأَحْقَاف: ١٨] خَبَرًا عَنْهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الِاثْنَيْنِ فِي مَرْجِعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ.
والَّذِينَ هُنَا اسْمٌ صَادِقٌ عَلَى الْفَرِيقِ الْمُتَّصِفِ بِصِلَتِهِ. وَهَذَا وَصْفٌ لِفِئَةٍ مِنْ
36
أَبْنَاءٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَسْلَمَ آبَاؤُهُمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَأَغْلَظُوا لَهُمُ الْقَوْلَ فَضُمُّوا إِلَى الْكُفْرِ بِشَنِيعِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ قَبِيحٌ لِمُنَافَاتِهِ الْفِطْرَةَ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا لِأَنَّ حَالَ الْوَالِدَيْنِ مَعَ أَبْنَائِهِمَا يَقْتَضِي مُعَامَلَتَهُمَا بِالْحُسْنَى، وَيَدُلُّ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ قَوْلِهِ فِي آخِرِهَا أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ إِلَى آخِرِهِ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَعْنِي شَخْصًا مُعَيَّنًا وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا فَرِيقٌ أَسْلَمَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يُسْلِمُوا حِينَئِذٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنٍ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْكَعْبَةِ الَّذِي سَمَّاهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمان بَعْدَ أَنْ أسلم عبد الرحمان قَالُوا: كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مُشْرِكًا وَكَانَ يَدْعُوهُ أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُذَكِّرَانِهِ بِالْبَعْثِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا بِكَلَامٍ مِثْلِ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَيَقُولُ: فَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَأَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَيْنَ عَامِرُ بْنُ كَعْبٍ، وَمَشَايِخُ قُرَيْشٍ حَتَّى أَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ. لَكِنْ لَيْسَتِ الْآيَةُ خَاصَّةً بِهِ حَتَّى تَكُونَ نَازِلَةً فِيهِ، وَبِهَذَا يُؤَوَّلُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِمَا قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الحكم لعبد الرحمان هُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ فِيهِ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما. وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِشَارَة عبد الرحمان عَلَى مَرْوَانَ أَخْذَهُ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالْعَهْدِ لَهُ بِالْخِلَافَةِ.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ مَرْوَانُ ابْن الْحَكَمِ عَلَى الْحِجَازِ اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ أَيْ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ فَقَالَ لَهُ عبد الرحمان بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَهِرَقْلِيَّةً أَيْ أَجَعَلْتُمُوهَا وِرَاثَةً مِثْلَ سَلْطَنَةِ هِرَقْلَ فَقَالَ: خُذُوهُ فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي، فَقَالَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي أَيْ بَرَاءَتِي. وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما عبد الرحمان بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَآخِرُ الْآيَةِ يَقُولُ:
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ إِلَى خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: ١٨] فَذَكَرَ اسْمَ الْإِشَارَةِ لِلْجَمْعِ، وَقَضَى عَلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِالْخُسْرَانِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ كَانَ مُشْرِكًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين. وأيّاما
37
كَانَ فَقَدْ أسلم عبد الرحمان قَبْلَ الْفَتْحِ فَلَمَّا أَسْلَمَ جَبَّ إِسْلَامُهُ مَا قَبْلَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الْآيَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَعِيدٌ وَكُلُّ وَعِيدٍ فَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ تَحَقُّقُهُ بِأَنْ يَمُوتَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ غَيْرَ مُؤْمِنٍ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ. وَتُلَقَّبُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ بِمَسْأَلَةِ الْمُوَافَاةِ، عَلَى أَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَائِدَةٌ إِلَى الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَأُفٍّ: اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى: أَتَضَجَّرُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ أَقَلِّ الْأَذَى فَيَكُونُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ وَالِدَيْهِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا أَوْغَلَ فِي الْعُقُوقِ الشَّنِيعِ وَأَحْرَى بِالْحُكْمِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٢٣]. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أُفٍّ بِكَسْرِ الْفَاءِ مُنَوَّنًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ أُفٍّ بِفَتْحِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ أُفِّ بِكَسْرِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَهِيَ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ فَإِنَّهُ بِوَزْنِ مِصْرَاعٍ مِنَ الرَّمَلِ عَرُوضُهُ مَحْذُوفَةٌ، وَضَرْبُهُ مَحْذُوفٌ، وَفِيهِ الْخَبْنُ وَالْقَبْضُ، وَيُزَادُ فِيهِ الْكَفُّ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَحَفْصٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ إِنْكَارٌ وَتَعَجَّبٌ. وَالْإِخْرَاجُ: الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَجُعِلَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ وَهِيَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي قَيْدًا لِمُنْتَهَى الْإِنْكَارِ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَالِ مُضِيِّ الْقُرُونِ.
وَالْقُرُونُ: جَمْعُ قَرْنٍ وَهُوَ الْأُمَّةُ الَّتِي تَقَارَبَ زَمَانُ حَيَاتِهَا،
وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»
الْحَدِيثَ، وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً [الْقَصَص: ٧٨].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَحَالَ أَنْ يُخْرَجَ هُوَ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ مَضَتْ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ وَطَالَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَهَذَا مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ فِي مَعْنَى الْبَعْثِ أَوْ
38
مِنَ الْمُغَالَطَةِ فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّ وَعْدَ الْبَعْثِ لَمْ يُوَقَّتْ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَلَا أَنَّهُ يَقَعُ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَتَعِدانِنِي بِنُونَيْنِ مُفَكَّكَيْنِ وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِإِدْغَامِ النُّونَيْنِ.
وَمَعْنَى يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يَطْلُبَانِ الْغَوْثَ مِنَ اللَّهِ، أَيْ يَطْلُبَانِ مِنَ اللَّهِ الْغَوْثَ بِأَنْ يَهْدِيَهُ، فَالْمَعْنَى: يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ لَهُ. وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَيْلَكَ آمِنْ بَيَانًا لِمَعْنَى اسْتِغَاثَتِهِمَا وَلَكِنَّهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ. وَكَلِمَةُ وَيْلَكَ كَلِمَةُ تَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ.
وَالْوَيْلُ: الشَّرُّ. وَأَصْلُ وَيْلَكَ: وَيْلٌ لَكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَة: ٧٩]، فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ وَأَرَادُوا اخْتِصَارَهُ حَذَفُوا اللَّامَ وَوَصَلُوا كَافَ الْخِطَابِ بِكَلِمَةِ (وَيْلٍ) وَنَصَبُوهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَفِعْلُ آمِنْ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيِ اتَّصَفْ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَجُمْلَةُ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَتَعْرِيضٌ لَهُ بِالتَّهْدِيدِ مِنْ أَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِ وَعْدُ اللَّهِ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ وَغَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْقِصَّةِ الْبَاطِلَةِ أَوِ الْمَكْذُوبَةِ كَمَا يُقَالُ: خُرَافَةٌ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٢٤] وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فِي سُورَة الْفرْقَان [٥].
[١٨]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُشِيرًا إِلَى الَّذِي قَالَ لَدَيْهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فَرِيقٌ، فَجَاءَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْجَمَاعَةِ بِتَأْوِيلِ الْفَرِيقِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولئِكَ إِشَارَةً إِلَى الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَحْقَاف:
١٧]، وَهُمُ الَّذِينَ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِيِ بَكْرٍ ذَكَرَهُمْ حِينَ قَالَ: فَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَأَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَشَائِخُ قُرَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْفَرِيقِ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ حَالِهِمُ الْعَجِيبَةِ.
وَتَعْرِيفُ الْقَوْلُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهُوَ قَوْلٌ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْقَوْلِ فِي نَحْوِ آيَةِ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٤، ٨٥]، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر:
١٩]، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَوْلٌ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: ٧] الْآيَةَ. وَإِطْلَاقُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَشِيقٌ لِصُلُوحِيَّةِ.
وَإِقْحَامُ كانُوا خاسِرِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ خَاسِرُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ خُسْرَانَهُمْ مُحَقَّقٌ فَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِجَعْلِهِمْ كَائِنِينَ فِيهِ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ فَوْزًا لَيْسَ بَعْدَهُ نَكَدٌ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَشُبِّهَتْ حَالَةُ ظَنِّهِمْ هَذَا بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي قَلَّ رِبْحُهُ مِنْ تِجَارَتِهِ فَكَانَ أَمْرُهُ خُسْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي الْبَقَرَةِ [١٦].
وَإِيرَادُ فِعْلِ الْكَوْنِ بِقَوْلِهِ: كانُوا خاسِرِينَ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى خاسِرِينَ لِأَنَّ
(كَانَ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَسَارَةَ متمكنة مِنْهُم.
[١٩]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٩]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ يتَقَبَّل عَنْهُم [الْأَحْقَاف: ١٦] ثُمَّ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [الْأَحْقَاف: ١٨] إِلَخْ.
وَتَنْوِينُ (كُلٍّ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَمَّا تُضَافُ إِلَيْهِ كُلٌّ وَهُوَ مُقَدَّرٌ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ وَلِكُلِّ الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِ الْبَارِّ بِوَالِدَيْهِ وَالْكَافِرِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْعُقُوقِ
40
دَرَجَاتٌ، أَيْ مَرَاتِبُ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْخَبَرِ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ جَزَاءِ الْخَيْرِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَدَرَكَاتٌ فِي الشَّرِّ لِأَهْلِ الْكُفْرِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ بِالدَّرَجَاتِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ الدَّرَجَةَ مَرْتَبَةٌ فِي الْعُلُوِّ وَهُوَ عُلُوٌّ اعْتِبَارِيٌّ إِنَّمَا يُنَاسِبُ مَرَاتِبَ الْخَيْرِ وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ السُّفْلَى فَهِيَ الدَّرَكَةُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: ١٤٥]. وَوَجْهُ التَّغْلِيظِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ أَهْلِ الْخَيْرِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلُوا تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمرَاد ب مِمَّا عَمِلُوا جَزَاءُ مَا عَمِلُوا فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ. وَالدَّرَجَاتُ: مَرَاتِبُ الْأَعْمَالِ فِي الْخَيْرِ وَضِدُّهُ الَّتِي يَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى وَفْقِهَا. وَيَجُوزُ كَوْنُ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً، وَمَا عَمِلُوا نَفْسَ الْعَمَلِ فَلَا يُقَدَّرُ مُضَافٌ وَالدَّرَجَاتُ هِيَ مَرَاتِبُ الْجَزَاءِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَمَقَادِيرُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَهِيَ تَتَفَاوَتُ بِالْكَثْرَةِ وَبِالسَّبْقِ وَبِالْخُصُوصِ، فَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا وَأَنْكَرَ الْبَعْثَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ هُوَ دُونَ دَرَجَةِ الَّذِي بَادَرَ بِالْإِسْلَامِ وَبِرِّ وَالِدَيْهِ وَمَا يَعْقُبُ إِسْلَامَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الدَّرَجَاتِ.
وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ كُلِّهَا بِقَدْرٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلِنُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ هُوَ عِلَّةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَتَقْدِيرُهُ: قَدَّرْنَا جَزَاءَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ دَرَجَاتِهِمْ لِنُوَفِّيَهُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ نُجَازِيهِمْ تَامًّا وَافِيًا لَا غَبْنَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِنُوَفِّيَهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ مُرَادًا بِهِ الْعَوْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ احْتِرَاسٌ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَوْفِيَةِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الْفَرِيقُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعُقُوبَةِ لِئَلَّا يُحْسَبَ أَنَّ التَّوْفِيَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ أَشَدَّ مِمَّا تَقْتَضِيه
أَعْمَالهم.
41

[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٠]

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
انْتِقَالٌ إِلَى وَعِيدِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْكُفْرِ بِحَذَافِرِهِ، وَذَلِكَ زَائِدٌ عَلَى الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُتَعَلِّقِ بِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ مَعَ عُقُوقِهِمُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الْأَحْقَاف: ١٧] الْآيَاتِ.
وَالْكَلَامُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَيُقَالُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ، وَمُنَاسِبَةُ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى لَا يُظْلَمُونَ [الْأَحْقَاف: ١٩]، أَيْ لَا يُظْلَمُونَ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّنَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ شِئْنَا لَعَجَّلْنَا لَهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْرِمْهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نِعْمَةَ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا نِعْمَةٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَتَؤَوَّلَ بِأَنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ، أَيْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَاقِبَتَهَا سَيِّئَةٌ. وَنِعْمَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مُعَامَلَةٌ بِفَضْلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مُعَامَلَةٌ بِعَدْلِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ.
وَانْتَصَبَ يَوْمَ يُعْرَضُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَالْعَرْضُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٨] وَقَوْلِهِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٤٦] وَفِي قَوْلِهِ: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها فِي سُورَةِ الشُّورَى [٤٥].
وَإِذْهَابُ الطَّيِّبَاتِ مُسْتَعَارٌ لِمُفَارَقَتِهَا كَمَا أَنَّ إِذْهَابَ الْمَرْءِ إِبْعَادٌ لَهُ عَن مَكَان لَهُ.
وَالذَّهَابُ: الْمُبَارَحَةُ. وَالْمَعْنَى: اسْتَوْفَيْتُمْ مَا لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِمَا حَصَلَ لَكُمْ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَمُتْعَتِهَا فَلَمْ تَبْقَ لَكُمْ طَيِّبَاتٌ بَعْدَهَا لِأَنَّكُمْ لَمْ تَعْمَلُوا لِنَوَالِ طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ إِعْذَارٌ لَهُمْ وَتَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِمْ لَا يُظْلَمُونَ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ.
فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْيَوْمَ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ إِلَّا جَزَاء سيّىء
42
أَعْمَالِكُمْ، وَلَيْسَتِ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَلَا لِلتَّسَبُّبِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا إِذَا تَوَخَّى حَلَالَهَا وَعَمِلَ بِوَاجِبِهِ الدِّينِيِّ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الزُّهْدُ فِي الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ أَرْفَعَ دَرَجَةً وَهِيَ دَرَجَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَاصَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لَأَنَا أَعْلَمُ
بِخَفْضِ الْعَيْشِ وَلَوْ شِئْتُ لَجَعَلْتُ أَكْبَادًا، وَصَلَائِقَ وَصِنَابًا وَكَرَاكِرَ وَأَسْنِمَةً (١) وَلَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ نَعَى عَلَى قَوْمٍ فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها. وَأَنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ وَاجِبِهِ مِنْ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْأُمَّةِ فَيَقَعَ فِي التَّفْرِيطِ وَيُؤَاخَذَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُمَرَ حِينَ دَخَلَ الشَّامَ قَدَّمَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ طَعَامًا طَيِّبًا. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا لَنَا فَمَا لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا وَلَمْ يَشْبَعُوا مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ؟
فَقَالَ خَالِدٌ: لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَبَكَى عُمَرُ. وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا فِي الْمُقَامِ وَذَهَبُوا بِالْجَنَّةِ لَقَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا بَعِيدًا.
وَالْهُونِ: الْهَوَانُ وَهُوَ الذُّلُّ وَإِضَافَةُ عَذابَ إِلَى الْهُونِ مَعَ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ تُجْزَوْنَ.
وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِكْبَارِ، الِاسْتِكْبَارُ على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلى قَبُولِ التَّوْحِيدِ.
وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الدِّينِ وَعَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ يَأْخُذُ الْمُسْلِمُ بِحَظٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْجُرْمَيْنِ فَيَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْ جَزَائِهِمَا الَّذِي لَقِيَهُ الْكَافِرُونَ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ.
وَالْفُسُوقُ: هُنَا الشِّرْكُ.
_________
(١) الصلائق بالصَّاد جمع صليقة وَهِي الشَّاة المصلوقة، أَي المشوية، وَالصِّنَاب بِكَسْر الصَّاد وَنون مُخَفّفَة وموحدة صباغ من خَرْدَل وزبيب يُؤْدم بِهِ اللَّحْم. والكراكر جمع كركرة بكافين مكسورين غُدَّة فِي صدر الْبَعِير تلاصق الأَرْض إِذا برك وَهِي لحم طيب.
43
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَذْهَبْتُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَأَذْهَبْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَام التوبيخي.
[٢١]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢١]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
سِيقَتْ قِصَّةُ هُودٍ وَقَوْمِهِ مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الْأَحْقَاف: ٣] مَعَ مَا أُعْقِبَتْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف:
٤] الَّذِي يُقَابِلُهُ قَوْلُ هُودٍ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ثُمَّ قَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٩] الَّذِي يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، ذَلِكَ كُلُّهُ
بِالْمَوْعِظَةِ بِحَالِ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ. وَسِيقَتْ أَيْضًا مَسَاقَ الْحُجَّةِ عَلَى رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عِنَادِ قَوْمِهِ بِذِكْرِ مِثَالٍ لِحَالِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ بِحَالِ عَادٍ مَعَ رَسُولِهِمْ. وَلَهَا أَيْضًا مَوْقِعُ التسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَلَقَّاهُ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْعِنَادِ وَالْبُهْتَانِ لِتَكُونَ مَوْعِظَةً وَتَسْلِيَةً مَعًا يَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ.
وَلَا تَجِدُ كَلِمَةً أَجْمَعَ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَعَ كَلِمَةِ اذْكُرْ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِمَعْنَى الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ بِأَنْ يُرَادَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ، وَلِمَعْنَى الذُّكْرِ بِالضَّمِّ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ تِلْكَ الْحَالَةَ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ لَهُ وَأَمْثَالُهَا لِأَنَّ فِي التَّذَكُّرِ مَسْلَاةً وَأُسْوَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ فِي سُورَةِ ص [١٧]. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَذَكَّرُوا مَا يَعْرِفُونَ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ مِمَّا قَصَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ مِنْ قَبْلُ وَتَذَكَّرَ هُوَ لَا مَحَالَةَ أَحْوَالَ رُسُلٍ كَثِيرِينَ ثُمَّ جَاءَتْ قِصَّةُ هُودٍ مِثَالًا لِذَلِكَ. وَمُشْرِكُو مَكَّةَ إِذَا تَذَكَّرُوا فِي حَالِهِمْ وَحَالِ عَادٍ وَجَدُوا الْحَالَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فَيَجْدُرُ بِهِمْ أَنْ يَخَافُوا مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ عَادٍ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِينَ جَاءَهُمْ رَسُولٌ بَعْدَ
44
رِسَالَةِ نُوحٍ الْعَامَّةِ وَقَدْ كَانَتْ رِسَالَةُ هُودٍ وَرِسَالَةُ صَالِحٍ قَبْلَ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَأْتِي بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِمْ إِشَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ إِلَى أُمَمٍ أُخْرَى مِنَ الْعَرَبِ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الْأَحْقَاف: ٢٧] الْآيَةَ.
وَأَخُو عَادٍ هُوَ هُودٌ وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَعَبَّرَ عَنْهُ هُنَا بِوَصْفِهِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا ذِكْرُ التَّمْثِيلِ وَالْمَوْعِظَةِ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّهُمْ أَمْثَالُ عَادٍ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولٍ مَنْ أُمَّتِهِمْ.
وَالْأَخُ يُرَادُ بِهِ الْمُشَارِكُ فِي نَسَبِ الْقَبِيلَةِ، يَقُولُونَ: يَا أَخَا بَنِي فُلَانٍ، وَيَا أَخَا الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمُلَازِمُ وَالْمُصَاحِبُ، يُقَالُ: أَخُو الْحَرْبِ وَأَخُو عَزَمَاتٍ.
وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا»
وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: ١٦٠، ١٦١]. وَلَمْ يَكُنْ لُوطٌ مِنْ نَسَبِ قَوْمِهِ أَهْلِ سَدُومَ.
وإِذْ أَنْذَرَ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهِيَ هُنَا نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَخَا عَادٍ، أَيِ اذْكُرْ زَمَنَ إِنْذَارِهِ قَوْمَهُ فَهِيَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَذِكْرُ الْإِنْذَارِ هُنَا دُونَ الدَّعْوَةِ أَوِ الْإِرْسَالِ لِمُنَاسَبَةِ تَمْثِيلِ حَالِ قَوْمِ هُودٍ بِحَالِ قوم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الْأَحْقَاف: ٣].
وَالْأَحْقَافُ: جَمْعُ حِقْفٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ الرَّمْلُ الْعَظِيمُ الْمُسْتَطِيلُ وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَحْقَافِ مَنَازِلَ عَادٍ وَكَانَتْ مُشْرِفَةً عَلَى الْبَحْرِ بَيْنَ عُمَانَ وَعَدَنَ. وَفِي مُنْتَهَى الْأَحْقَافِ أَرْضُ حَضْرَمَوْتَ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٥].
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَنْذَرَ وَجُمْلَةِ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ الْمُفَسَّرَةِ بِهَا. وَقَدْ فُسِّرَتْ جُمْلَةُ أَنْذَرَ بجملة أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِلَخْ.
وَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّ أَنْذَرَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
45
وَمَعْنَى خَلَتِ النُّذُرُ سَبَقَتِ النُّذُرُ أَيْ نُذُرُ رُسُلٍ آخَرِينَ. وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نِذَارَةٍ بِكَسْرِ النُّونِ. ومِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بِمَعْنَى قَرِيبًا مِنْ زَمَانِهِ وَبَعِيدًا عَنْهُ، فَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَعْنَاهُ الْقُرْبُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: ٤٦]، أَيْ قَبْلَ الْعَذَابِ قَرِيبًا مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: ٣٨]، وَقَالَ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النِّسَاء: ١٦٤]. وَأَمَّا الَّذِي مِنْ خَلْفِهِ فَنُوحٌ فَقَدْ قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: ٦٩]، وَهَذَا مُرَاعَاةً لِلْحَالَةِ الْمَقْصُودِ تَمْثِيلُهَا فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٩] أَيْ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلٌ مِثْلَ مَا خَلَتْ بِتِلْكَ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، أَيْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بِسَبَبِ شِرْكِكُمْ. وَعَذَابُ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ يَحْتَمِلُ الْوَعِيدَ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِعَذَابِ يَوْمِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي عُجِّلَ لَهُمْ. وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِالْعِظَمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْعَظِيمَةِ، فَالْوَصْفُ مجَاز عَقْلِي.
[٢٢]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٢]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [الْأَحْقَاف: ٢١]، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ قالُوا مَفْصُولًا عَلَى طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعَارٌ لِلْقَصْدِ بِطَلَبِ أَمْرٍ عَظِيمٍ، شُبِّهَ طَرُوُّ الدَّعْوَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو بِهَا بِمَجِيءٍ جَاءَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَالْأَفْكُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الصَّرْفُ، وَأَرَادُوا بِهِ مَعْنَى التَّرْكُ، أَيْ لِنَتْرُكَ عِبَادَةَ آلِهَتِنَا. وَهَذَا الْإِنْكَارُ تَعْرِيضٌ بِالتَّكْذِيبِ فَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَصَرَّحُوا بِتَكْذِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ.
وَالْمَعْنَى: ائْتِنَا بِالْعَذَابِ الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ، أَيْ عَذَابِ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَإِنَّمَا صَرَفُوا مُرَادَ هُودٍ بِالْعَذَابِ إِلَى خُصُوصِ عَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَبِهَذَا يُؤْذِنُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً [الْأَحْقَاف: ٢٤] وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: ٢٤].
وَأَرَادُوا: ائْتِنَا بِهِ الْآنَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَكْذِيبٍ بِأَنَّ عِبَادَةَ آلِهَتِهِمْ تَجُرُّ لَهُمُ الْعَذَابَ.
ومِنَ الصَّادِقِينَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ بِالصِّدْقِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٤]، أَيْ إِنْ كُنْتَ فِي قَوْلِكَ هَذَا مِنَ الَّذِينَ صَدَقُوا، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِهِ فَمَا أَنْتَ بصادق فِيهِ.
[٢٣]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٣]
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣)
لَمَّا جَعَلُوا قَوْلَهُمْ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الْأَحْقَاف: ٢٢] فَصْلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِيمَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ كَوْنِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تُوجِبُ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلهم فَأْتِنا مُقْتَضِيًا الْفَوْرَ، أَيْ طَلَبَ تَعْجِيلِهِ لِيَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ إِذِ الشَّأْنُ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ إِظْهَارِ صِدْقِهِ لَهُمْ.
وَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ بِالْعَذَابِ إِلَيْهِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ فِي إِتْيَانِ الْعَذَاب أَن يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُعَجِّلَهُ، أَوْ جَعَلُوا الْعَذَابَ فِي مَكِنَتِهِ يَأْتِي بِهِ مَتَى أَرَادَ، تَهَكُّمًا بِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ إِنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مُقْتَضِيًا أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تُعَاوُنًا وَتُطَاوُعًا، أَيْ فَلَا تَتَأَخَّرْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الِاقْتِضَاءِ قَوْلُهُ لَهُمْ حِينَ نُزُولِ الْعَذَابِ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: ٢٤] فَلِذَلِكَ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ عِلْمُ وَقْتِ إِتْيَانِ الْعَذَابِ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِلْمُ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ، أَو التَّعْرِيف عوض عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وَقْتِ الْعَذَابِ. وَهَذَا الْجَوَابُ يَجْرِي
عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا لِأَنَّ جَمِيعَهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِوَقْتِهِ.
وَالْحَصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ كَقَوْلِهِ: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَاف: ١٨٧] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا
47
الْحَصْرِ شُمُولُهُ نَفْيَ الْعِلْمِ بِوَقْتِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ رَدًّا على قَوْلهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.
وعِنْدَ هُنَا مَجَازٌ فِي الِانْفِرَادِ بِالْعِلْمِ، أَيْ فَاللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِالْوَقْتِ الَّذِي يُرْسِلُ فِيهِ الْعَذَابَ لِحِكْمَةٍ فِي تَأْخِيرِهِ.
وَمَعْنَى وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ أَنَّهُ بُعِثَ مُبَلِّغًا أَمْرَ اللَّهِ وَإِنْذَارَهُ وَلَمْ يُبْعَثْ لِلْإِعْلَامِ بِوَقْتِ حُلُولِ الْعَذَابِ كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: ٤٢- ٤٥]، فَقَوْلُهُ:
أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَجُمْلَةِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ.
وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أَنَّهُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ وَلَكِنَّكُمْ تَجْهَلُونَ صِفَاتِ اللَّهِ وَحِكْمَةَ إِرْسَالِهِ الرُّسُلَ، فَتَحْسَبُونَ أَنَّ الرُّسُل وسائط لإنها اقْتِرَاحِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرِيَهُمُ الْعَجَائِبَ وَيُسَاجِلَهُمْ فِي الرَّغَائِبِ، فَمَنَاطُ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ مَعْمُولُ خَبَرِ (لَكِنَّ) وَهُوَ قَوْماً تَجْهَلُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ يَجْهَلُونَ، فَإِدْخَالُ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِئَلَّا يُبَادِرَهُمْ بِالتَّجْهِيلِ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِهِمْ، فَجَعَلَ جَهْلَهُمْ مَظْنُونًا لَهُ لِيَنْظُرُوا فِي صِحَّةِ مَا ظَنَّهُ مِنْ عَدَمِهَا. وَإِنَّمَا زِيدَ قَوْماً وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَجْهَلُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْجَهَالَةِ مِنْهُمْ حَتَّى صَارَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا عَمَّتْ جَمِيعَ الْقَبِيلَةِ كَمَا قَالَ لُوطٌ لِقَوْمِهِ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود: ٧٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأُبَلِّغُكُمْ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِتَخْفِيفِ اللَّامِ. يُقَالُ: بَلَّغَ الْخَبَرَ بِالتَّضْعِيفِ وَأَبْلَغَهُ بِالْهَمْزِ، إِذَا جعله بَالغا.
48

[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٥]

فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْهَا، أَيْ فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِصَابَتَهُمْ بِالْعَذَابِ ورأوه عَارض قَالُوا: هَذَا عارِضٌ إِلَى آخِرِهِ، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَيُسَمَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ فَصِيحَةً، وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ مَا حَدَثَ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ هُودًا وَبَيْنَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَذُكِرَ فِي كُتُبِ تَارِيخِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ شَدِيدٌ سِنِينَ، وَأَنَّ هُودًا فَارَقَهُمْ فَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ وَمَاتَ بِهَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ دُفِنَ فِي الْحِجْرِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.
وَقَوْلُهُمْ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَطَرِ. وَوَرَدَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٢] قَوْلُ هُودٍ لَهُمْ: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَقِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةٌ فِي تَفْسِيرِنَا لِسُورَةِ هُودٍ.
وَضَمِيرُ رَأَوْهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَعِدُنا [الْأَحْقَاف: ٢٢]، وَهُوَ الْعَذَابُ. وَأَطْلَقَ عَلَى الْمَرْئِيِّ ضَمِيرَ الْعَذَابِ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ سَبَبُ الْعَذَابِ وَهُوَ مَا حَمَلَتْهُ الرِّيحُ. وعارِضاً حَالٌ مِنْهُ، وَالْعَارِضُ: السَّحَابُ الَّذِي يَعْتَرِضُ جَوَّ السَّمَاءِ أَيْ رَأَوْهُ كَالْعَارِضِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَارِضَ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَيْفَ قَدْ أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ. ومُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ نعت ل عارِضاً.
وَالِاسْتِقْبَالُ: التَّوَجُّهُ قُبَالَةَ الشَّيْءِ، أَيْ سَائِرًا نَحْوَ أَوْدِيَتِهِمْ.
وَأَوْدِيَةٌ: جَمْعُ وَادٍ جَمْعًا نَادِرًا مِثْلَ نَادٍ وأندية. وَيُطلق الواد عَلَى مَحِلَّةِ الْقَوْمِ وَنُزُلِهِمْ إِطْلَاقًا أَغْلَبِيًّا لِأَنَّ غَالِبَ مُنَازِلِهِمْ فِي السُّهُولِ وَمُقَارِّ الْمِيَاهِ. وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَمَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ تَحَاوُرٍ وَرَفْعِ صَوْتِهِ عَلَى أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الْوَادِي. وَجَمَعَ الْأَوْدِيَةَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ مَنَازِلِهِمْ وَانْتِشَارِهَا.
49
وَالْعَارِضُ فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا: السَّحَابُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْأُفُقِ كَالْجَبَلِ، ومُمْطِرُنا نَعْتٌ لِ عارِضٌ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ هُودٍ إِنْ كَانَ هُودٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ رِجَالِهِمْ رَأَى مَخَائِلَ الشَّرِّ فِي ذَلِكَ السَّحَابِ. قِيلَ: الْقَائِلُ هُوَ بَكْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ قَوْمِ عَادٍ.
قَالَ لَمَّا رَآهُ: «إِنِّي لَأَرَى سَحَابًا مُرْمَدًا لَا تَدَعُ مِنْ عَادٍ أَحَدًا» لَعَلَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنْ إِنْذَارِ هُودٍ حِينَ رَأَى عَارِضًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ وَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَلَّ الْعَذَابُ بِهِمْ، أَوْ كَانَ قَدْ آمَنُ
مِنْ قَبْلُ فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ بِخَارِقِ عَادَةٍ. وَإِنَّمَا حُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِتَمْثِيلِ قَائِلِ الْقَوْلِ كَالْحَاضِرِ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ سَمِعَ كَلَامَهُمْ وَعَلِمَ غُرُورَهُمْ فَنَطَقَ بِهَذَا الْكَلَامِ تَرْوِيعًا لَهُمْ. وَهَذَا مِنِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ:
دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وِدِّي وَجِيرَتِي بِذِي الشَّيِّطَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيَا
فَتَخَيَّلَ دَاعِيًا يَدْعُوهُ فَالْتَفَتَ، وَهَذَا مِنَ التَّخَيُّلِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.
وَجُعِلَ الْعَذَابُ مَظْرُوفًا فِي الرِّيحِ مُبَالَغَةً فِي التَّسَبُّبِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ أَشَدُّ مُلَابَسَةً بَيْنَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ مِنْ مُلَابَسَةِ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ. وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وكُلَّ شَيْءٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي كَثْرَةِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّ (كُلًّا) تَأْتِي كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٩٧].
وَالْمَعْنَى: تُدَمِّرُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُدَمِّرَهُ الرِّيحُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالدِّيَارِ.
وَقَوْلُهُ: بِأَمْرِ رَبِّها حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُدَمِّرُ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ تَقْرِيبُ كَيْفِيَّةِ تَدْمِيرِهَا كُلَّ شَيْءٍ، أَيْ تَدْمِيرًا عَجِيبًا بِسَبَبِ أَمْرِ رَبِّهَا، أَيْ تَسْخِيرِهِ الْأَشْيَاءَ لَهَا فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.
50
وَأُضِيفَ الرَّبُّ إِلَى ضَمِيرِ الرِّيحِ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ فَالْأَمْرُ هُنَا هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ.
فَأَصْبَحُوا أَيْ صَارُوا، وَأَصْبَحَ هُنَا مِنْ أَخَوَاتِ صَارَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّ تَدْمِيرَهُمْ كَانَ لَيْلًا فَإِنَّهُمْ دُمِّرُوا أَيَّامًا وَلَيَالِيَ، فَبَعْضُهُمْ هَلَكَ فِي الصَّبَاحِ وَبَعْضُهُمْ هَلَكَ مَسَاءً وَلَيْلًا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَرى لِمَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ حِينَئِذٍ إِتْمَامًا لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ دَمَارِهِمُ الْعَجِيبَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي وَقْتِ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَسَاكِنِ: آثَارُهَا وَبَقَايَاهَا وَأَنْقَاضُهَا بَعْدَ قَلْعِ الرِّيحِ مُعْظَمَهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرِّيحَ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ سَاكِنِي مَسَاكِنِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أَيْ مِثْلَ جَزَاءِ عَادٍ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَاف: ٢٦].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَرى بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَبِنَصْبِ مَساكِنُهُمْ وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ وَبِرَفْعِ مَساكِنُهُمْ وَأَجْرَى عَلَى الْجَمْعِ
صِيغَةَ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ الْجَمْعَ مُسْتَثْنًى بِ إِلَّا وَهِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَين الْفِعْل.
[٢٦]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٦]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
هَذَا اسْتِخْلَاصٌ لِمَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَثَلِ عَادٍ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِهْلَاكِ عَادٍ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِ مَنْ هُمْ دُونَهُمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْعَدَدِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مِثْلَهُمْ مُسْتَجْمِعِينَ قُوَى الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا الِانْتِفَاعَ بِقُوَاهُمْ فَجَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
51
وَاسْتَهْزَءُوا بِهَا وَبِوَعِيدِهِ فَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَقُرَيْشٌ يَعْلَمُونَ أَنَّ حَالَهُمْ مِثْلُ الْحَالِ الْمَحْكِيَّةِ عَن أُولَئِكَ فليتهيّأوا لِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ. وَلِإِفَادَةِ هَذَا الِاسْتِخْلَاصِ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ فِي قالُوا أَجِئْتَنا [الْأَحْقَاف: ٢٢] وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَوَاهِبِ عُقُولِهِمْ.
وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ مَعَ أَنَّ مُفَادَهُ لَا شَكَّ فِيهِ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْجِيبِ.
وَالتَّمْكِينُ: إِعْطَاءُ الْمَكِنَةِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ) وَهِيَ الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ. يُقَالُ: مَكَّنَ مِنْ كَذَا وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: مَكَّنَهُ فِي كَذَا، إِذَا جَعَلَ لَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى مَدْخُولِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ فَيُفَسَّرُ بِمَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الظَّرْفِ قَالَ تَعَالَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦].
فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا لَهُمُ الْقُدْرَةَ فِي الَّذِي لَمْ نُمَكِّنْكُمْ فِيهِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يُمَكَّنُ فِيهِ الْأَقْوَامُ وَالْأُمَمُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [٦] فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا.
وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ فِيما مَوْصُولَةٌ. وإِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ.
وَمَعْنَى مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ: مَكَّنَّاكُمْ فِي مِثْلِهِ أَوْ فِي نَوْعِهِ فَإِنَّ الْأَجْنَاسَ وَالْأَنْوَاعَ مِنَ الذَّوَاتِ حَقَائِقُ مَعْنَوِيَّةٌ لَا تَتَغَيَّرُ مَوَاهِبُهَا وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِوُجُودِهَا فِي الْجُزْئِيَّاتِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ مَكَّنَّاكُمْ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الصَّادِقِ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي مُكِّنَتْ مِنْهَا عَادٌ. وَمِنْ بَدِيعِ النَظْمِ أَنْ جَاءَ النَّفْيُ هُنَا بِحَرْفِ إِنْ النَّافِيَةِ مَعَ أَنَّ النَّفْيَ بِهَا أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا مِنَ النَّفْيِ بِ (مَا) النَّافِيَةِ قَصْدًا هُنَا لِدَفْعِ الْكَرَاهَةِ مِنْ تَوَالِي مِثْلَيْنِ فِي النُّطْقِ وَهُمَا (مَا) الْمَوْصُولَةُ وَ (مَا) النَّافِيَةُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ عَوَّضُوا الْهَاءَ
عَنِ الْأَلِفِ فِي (مَهْمَا)، فَإِنَّ أَصْلَهَا: (مَا مَا) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا)
52
الظَّرْفِيَّةِ وَ (مَا) الزَّائِدَةِ لِإِفَادَةِ الشَّرْطِ مِثْلَ (أَيْنَمَا). قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَلَقَدْ أَغَثَّ أَبُو الطَّيِّبِ فِي قَوْلِهِ:
لَعَمْرُكَ مَا مَا بَانَ مِنْكَ لِضَارِبٍ (١) وَأَقُولُ وَلَمْ يَتَعَقَّبِ ابْنُ جِنِّي وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ شَرَحَ الدِّيوَانَ مِنْ قَبْلُ عَلَى الْمُتَنَبِّي وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي ضَرُورَاتِ شِعْرِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَقَوْلِ خِطَامٍ الْمُجَاشِعِيِّ:
وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤْثَفَيْنْ وَلَا يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ لِلْمُوَلَّدِينَ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ (مَا) نَافِيَةً وَأَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ تَأْكِيدَهَا تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، فَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (إِنْ) بَعْدَ (مَا) أَحْرَى كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ مَا إِنْ أُبِينُهُ وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُصْهُمْ شَيْءٌ مِنْ شَأْنه أَي يُخِلَّ بِإِدْرَاكِهِمُ الْحَقَّ لَوْلَا الْعِنَادُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَيْ أَنَّكُمْ حَرَمْتُمْ أَنْفُسَكُمُ الِانْتِفَاعَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَعُقُولِكُمْ كَمَا حُرِمُوهُ، وَالْحَالَةُ مُتَّحِدَةٌ وَالسَّبَبُ مُتَّحِدٌ فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ كَذَلِكَ. وَإِفْرَادُ السَّمْعِ دُونَ الْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٦] وَقَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣١].
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ زَائِدَةٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى انْتِفَاءِ الْجِنْسِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ شَيْءٍ الْمَجْرُورُ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ نَائِبًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِغْنَاءِ، وَحَقُّ شَيْءٍ النَّصْبُ وَإِنَّمَا جُرَّ بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ.
_________
(١) تَمَامه: باقتل مِمَّا بَان مِنْك لعائب.
وَوَقع المصراع الأول فِي «الْكَشَّاف» لعمرك، وراوية الدِّيوَان يرى: أَن مَا وَجعل ابْن جنّي والمعري فِي شرحيهما على الدُّيُون اسْم أنّ ضمير شَأْن محذوفا ليستقيم اقتران الْبَاء بقوله باقتل الَّذِي هُوَ بِحَسب الظَّاهِر خبر عَن (أنّ) وَلَعَلَّ التفادي من تكلّف جعل اسْم (أَن) ضمير شَأْن هُوَ الَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيّ لتغيير الْكَلِمَة الأولى من المصراع الأول.
53
وَ (إِذْ) ظَرْفٌ، أَيْ مُدَّةُ جُحُودِهِمْ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْلِيلِ لِاسْتِوَاءِ مُؤَدَّى الظَّرْفِ
وَمُؤَدَّى التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّيْءَ مِنَ الْإِغْنَاءِ مُعَلِّقًا نَفْيَهُ بِزَمَانِ جَحْدِهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ إِضَافَةِ إِذْ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، عُلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ الزَّمَانِ تَأْثِيرًا فِي نَفْيِ الْإِغْنَاءِ.
وَآيَاتُ اللَّهِ دَلَائِلُ إِرَادَتِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِهِمْ وَمِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَقَدِ انْطَبَقَ مِثَالُهُمْ عَلَى حَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ حَقِيقَةَ الْآيَاتِ بِالْمَعْنَيَيْنِ.
وَحَاقَ بِهِمْ: أَحَاطَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الْعَذَابُ، عَدَلَ عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَسُوء نظرهم.
[٢٧]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٧]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧)
أَتْبَعَ ضَرْبَ الْمَثَلِ بِحَالِ عَادٍ مَعَ رَسُولِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَثَلَ لَيْسَ وَحِيدًا فِي بَابِهِ فَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَقْوَامًا آخَرِينَ مِنْ مُجَاوَرِيهِمْ تُمَاثِلُ أَحْوَالُهُمْ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ قُرَاهُمْ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُونَهَا وَيَسْمَعُ عَنْهَا الَّذِينَ لَمْ يَرَوْهَا، وَهِيَ قُرَى ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَسَبَأٍ وَقَوْمِ تُبَّعٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ أَخا عادٍ [الْأَحْقَاف: ٢١] إِلَخْ. وَكُنِّيَ عَنْ إِهْلَاكِ الْأَقْوَامِ بِإِهْلَاكِ قُرَاهُمْ مُبَالَغَةً فِي اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا أُهْلِكَتِ الْقَرْيَةُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا كَنَّى عَنْتَرَةُ بِشَكِّ الثِّيَابِ عَنْ شَكِّ الْجَسَدِ فِي قَوْلِهِ:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: ٤].
وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ تَنْوِيعُهَا بِاعْتِبَارِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَأَصْلُ مَعْنَى التَّصْرِيفِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ لِأَنَّهُ
مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّرْفِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ. وَكُنِّيَ بِهِ هُنَا عَنِ التَّبْيِينِ وَالتَّوْضِيحِ لِأَنَّ تَعَدُّدَ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ يَزِيدُ الْمَقْصُودَ وُضُوحًا. وَمَعْنَى تَنْوِيعِ الْآيَاتِ أَنَّهَا تَارَةً تَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالْمُجَادَلَةِ النَّظَرِيَّةِ، وَتَارَةً بِالتَّهْدِيدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَأُخْرَى بِالْوَعِيدِ، وَمَرَّةً بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ وَشُكْرِهَا. وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ التَّرَجِّي وَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ رَجَاءَ رُجُوعِهِمْ.
وَالرُّجُوعُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ، وَالرَّجَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الطَّلَبِ، أَيْ تَوْسِعَةً لَهُمْ وَإِمْهَالًا لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَّعِظُوا. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ فَهُمْ سَوَاءٌ فِي تَكْوِينِ ضُرُوبِ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ زِيَادَةً عَلَى مَا صُرِّفَ لَهُمْ
مِنْ آيَاتِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَالْكَلَامُ عَلَى (لَعَلَّ) فِي كَلَامِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِل الْبَقَرَة.
[٢٨]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٨]
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِعَذَابِ عَادٍ الْمُفَصَّلِ، وَبِعَذَابِ أَهْلِ الْقُرَى الْمُجْمَلِ، فُرِّعَ عَلَيْهِ تَوْبِيخٌ مُوَجَّهٌ إِلَى آلِهَتِهِمْ إِذْ قَعَدُوا عَنْ نَصْرِهِمْ وَتَخْلِيصِهِمْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ تَوْجِيهُ التَّوْبِيخِ إِلَى الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ عَلَى طَرِيقَةِ تَوْجِيهِ النَّهْيِ وَنَحْوِهِ لِغَيْرِ الْمَنْهِيِّ لِيَجْتَنِبَ الْمَنْهِيُّ أَسْبَابَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِمْ لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلْ كَذَا، وَلَا أَرَيَنَّكَ هُنَا.
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّوْبِيخِ تَخْطِئَةُ الْأُمَمِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ لِلنَّصْرِ وَالدَّفْعِ وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ تَعْرِيضًا بِالسَّامِعِينَ الْمُمَاثِلِينَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ آلِهَةٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِتْمَامًا لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّوْبِيخِ بِطَرِيقِ التَّنْظِيرِ وَقِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ آلَ إِلَى مَعْنَى نَفْيِ النَّصْرِ.
وَحَرْفُ لَوْلَا إِذَا دَخَلَ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ كَانَ أَصْلُهُ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّحْضِيضِ، أَيْ تَحْضِيضِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ لَوْلَا عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِذَا كَانَ
55
الْفَاعِلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ بِالْكَلَامِ كَانَتْ لَوْلَا دَالَّةً على التوبيخ وَنَحْو إِذْ لَا طَائِلَ فِي تَحْضِيضِ الْمُخَاطَبِ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، كَقَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ:
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا
وَعُومِلَتِ الْأَصْنَامُ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ بِإِطْلَاقِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهِمْ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وقُرْباناً مُصْدَرٌ بِوَزْنِ غُفْرَانٍ، مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ حِكَايَةً لِزَعْمِهِمُ الْمَعْرُوفَ الْمَحْكِيَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣]. وَهَذَا الْمَصْدَرُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ اتَّخَذُوا وَمَفْعُولِهِ، ومِنْ دُونِ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِ اتَّخَذُوا. ودُونِ بِمَعْنَى الْمُبَاعَدَةِ، أَيْ مُتَجَاوِزِينَ اللَّهَ فِي اتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ آلِهَةً وَهُوَ حِكَايَةٌ لِحَالِهِمْ لزِيَادَة تشويهها وتشبيعها.
وبَلْ بِمَعْنَى لَكِنْ إِضْرَابًا وَاسْتِدْرَاكًا بَعْدَ التَّوْبِيخِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ مَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً وَلَا قَرَّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لِيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ، أَيْ بَلْ غَابُوا عَنْهُمْ وَقْتَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ.
وَالضَّلَالُ أَصْلُهُ: عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلطَّرِيقِ وَاسْتُعِيرَ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِالْحُضُورِ اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً، أَيْ غَابُوا عَنْهُمْ وَلَوْ حَضَرُوا لَنَصَرُوهُمْ، وَهَذَا نَظِيرُ التَّهَكُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٦٤].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَذلِكَ إِفْكُهُمْ فَهُوَ فَذْلَكَةٌ لِجُمْلَةِ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ وَقَرِينَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: ضَلُّوا عَنْهُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً مَنْ زَعَمَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً وَأَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِفْكُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.
وَالِافْتِرَاءُ: نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ وَهُوَ ابْتِكَارُ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ وَيُرَادِفُ الِاخْتِلَاقَ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فَرْيِ الْجِلْدِ، فَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الَّذِي يَقُولُهُ، فَعَطْفُ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ
56
عَلَى إِفْكُهُمْ عَطْفُ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ، فَإِنَّ زَعْمَهُمُ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كَذِبٌ مَرْوِيٌّ مِنْ قَبْلُ فَهُوَ إِفْكٌ.
وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ فَذَلِكَ افْتِرَاءٌ اخْتَرَعُوهُ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ افْتِرَاءَهُمْ رَاسِخٌ فِيهِمْ. وَمَجِيءُ يَفْتَرُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ افتراءهم متكرر.
[٢٩- ٣٢]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : الْآيَات ٢٩ إِلَى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
هَذَا تأييد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ سَخَّرَ اللَّهُ الْجِنَّ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِالْقُرْآنِ فَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدَّقًا عِنْدَ الثَّقَلَيْنِ وَمُعَظَّمًا فِي الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِرَسُولٍ قَبْلَهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْجِنِّ تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْجِنَّ وَهُمْ مِنْ عَالَمٍ آخَرَ عَلِمُوا الْقُرْآنَ وَأَيْقَنُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ وَهُمْ مِنْ عَالَمِ الْإِنْسِ وَمِنْ جنس
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ وَمِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ لَمْ يَزَالُوا فِي رَيْبٍ مِنْهُ وَتَكْذِيبٍ وَإِصْرَارٍ، فَهَذَا مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ لِأَحْوَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ مَوْعِظَتُهُمْ بِحَالِ مُمَاثَلِيهِمْ فِي الْكُفْرِ مِنْ جِنْسِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ إِيمَانِ الْجِنِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: ١٨].
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ أَخا عادٍ [الْأَحْقَاف: ٢١] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ هُنَا إِذْ صَرَفْنا بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
57
وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ. وَأَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَهُ لِتَسْجِيلِ بُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَهْتَدِي وَلِتُكْتَبَ تَبِعَتُهُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أرسل مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِنِّ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْجِنَّ حَضَرُوا بِعِلْمٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ.
فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ فَلَمَّا كَانُوا بِنَخْلَةَ، اسْمُ مَوْضِعٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَكَانَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فِيهِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا».
وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «افتقدنا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَقُلْنَا مَا فُعِلَ بِهِ اغْتِيلَ أَوْ وَاسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ حَتَّى إِذَا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ بِهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ فَقَالَ «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ»
. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْحَادِثُ خَارِقُ عَادَةٍ وَهُوَ معْجزَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٠].
وَالصَّرْفُ: الْبَعْثُ. وَالنَّفَرُ: عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْعِشْرِينَ. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْجِنِّ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْإِنْسِ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ.
وَجُمْلَةُ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْجِنِّ وَحَيْثُ كَانَتِ الْحَالُ قَيْدًا لِعَامِلِهَا وَهُوَ صَرَفْنا كَانَ التَّقْدِيرُ: يَسْتَمِعُونَ مِنْكَ إِذا حَضَرُوا لديك فَصَارَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا مُؤَدَّى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. فَالْمَعْنَى: صَرَفْنَاهُمْ إِلَيْكَ لِيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ.
وَضَمِيرُ حَضَرُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ حَضَرُوا إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ تَعْدِيَةٌ
مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَضَرُوا قَارِئَ الْقُرْآنِ وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأَنْصِتُوا أَمْرٌ بِتَوْجِيهِ الْأَسْمَاعِ إِلَى الْكَلَامِ اهْتِمَامًا بِهِ لِئَلَّا يَفُوتَ مِنْهُ شَيْء. و
58
فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ»
، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ فِي خُطْبَتِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ»
، أَيْ قَالُوا كُلُّهُمْ: أَنْصِتُوا، كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُهَا لِلْبَقِيَّةِ حِرْصًا عَلَى الْوَعْيِ فَنَطَقَ بِهَا جَمِيعُهُمْ.
وقُضِيَ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ. وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ قُضِيَتْ قِرَاءَتُهُ، أَيِ انْتهى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقِرَاءَةِ حِينَ حَضَرُوا وَبِانْتِهَائِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ تَمَّ مُرَادُ اللَّهِ مَنْ صَرْفِ الْجِنِّ ليستمعوا الْقُرْآن ف (ولّوا)، أَيِ انْصَرَفُوا مِنْ مَكَانِ الِاسْتِمَاعِ وَرَجَعُوا إِلَى حَيْثُ يَكُونُ جِنْسُهُمْ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِ قَوْمِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ، نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْأُنْسِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّبِيهَةِ بِحَالَةِ النَّاسِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْمِ عَلَى أُمَّةِ الْجِنِّ نَظِيرُ إِطْلَاقِ النَّفَرِ عَلَى الْفَرِيقِ مِنَ الْجِنِّ الْمَصْرُوفِ إِلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ.
وَالْمُنْذِرُ: الْمُخْبِرُ بِخَبَرٍ مُخِيفٍ.
وَمَعْنَى وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ رَجَعُوا إِلَى بَنِي جِنْسِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي حَضْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتسمعون الْقُرْآنَ فَأَبْلَغُوهُمْ مَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا فِيهِ التَّخْوِيفُ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ. وَالتَّبْشِيرُ لِمَنْ عَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لَهُمْ حُضُورَهُمْ لِقِرَاءَةِ سُورَةٍ جَامِعَةٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ كَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ.
وَجُمْلَةُ قالُوا يَا قَوْمَنا إِلَى آخِرِهَا مُبَيِّنَةٌ لِقَوْلِهِ: مُنْذِرِينَ. وَحِكَايَةُ تَخَاطُبِ الْجِنِّ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ كَلَامٍ عَرَبِيٍّ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ لِلْجِنِّ مَعْرِفَةً بِكَلَامِ الْإِنْسِ، وَكَذَلِكَ فَعْلُ قالُوا مَجَازٌ عَنِ الْإِفَادَةِ، أَيْ أَفَادُوا جِنْسَهُمْ بِمَا فَهِمُوا مِنْهُ بِطُرُقِ الِاسْتِفَادَةِ عِنْدَهُمْ مَعَانِيَ مَا حُكِيَ بِالْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْل: ١٨]. وابتدأوا إِفَادَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوا كِتَابًا تَمْهِيدًا لِلْغَرَضِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَوَصْفِهِ لِيَسْتَشْرِفَ الْمُخَاطَبُونَ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ.
59
وَوَصَفَ الْكِتَابَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى دُونَ: أُنْزِلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ «التَّوْرَاةَ» آخِرُ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الشَّرَائِعِ نَزَلَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ بَعْدَهُ فَكُتُبٌ مُكَمِّلَةٌ لِلتَّوْرَاةِ وَمُبَيِّنَةٌ لَهَا مِثْلُ «زبور دَاوُد» و «إنجيل عِيسَى»، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ جَدِيدٌ بَعْدَ «التَّوْرَاةِ» فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ جَاءَ بِهَدْيٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْهُ بَيَانُ التَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُ مُصَدِّقٌ
لِلتَّوْرَاةِ وَهَادٍ إِلَى أَزْيَدَ مِمَّا هَدَتْ إِلَيْهِ «التَّوْرَاة».
ولِما بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ: يَهْدِي إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ ضِدَّ الْبَاطِلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ: مَا يُسْلَكُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمُعَامَلَةِ. وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ عَنِ الْقَصْدِ مِنْ سَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ الْحَقِّ مَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَيُرَادُ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ وَتَزْيِيفِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهَا كَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي إبلاغ متبعها إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ.
وَإِعَادَتُهُمْ نِدَاءَ قَوْمِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَ النِّدَاءِ وَهُوَ أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى قَوْمِهِمْ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامُ قَوْمِهِمْ بِمَا لَقُوا مِنْ عَجِيبِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِهَذَا، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَغْرَاضِ وَتَجَدُّدَ الْغَرَضِ مِمَّا يَقْتَضِي إِعَادَةَ مِثْلِ هَذَا النِّدَاءِ كَمَا يُعِيدُ الْخَطِيبُ قَوْلَهُ: «أَيُّهَا النَّاسُ» كَمَا وَقَعَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَاسْتُعِيرَ أَجِيبُوا لِمَعْنَى: اعْمَلُوا وَتَقَلَّدُوا تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِمَا فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِإِجَابَةِ نِدَاءِ الْمُنَادِي كَمَا فِي الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيم: ٢٢] أَيْ إِلَّا أَنْ أَمَرْتُكُمْ فَأَطَعْتُمُونِي لِأَنَّ قَوْمَهُمْ لَمْ يَدْعُهُمْ دَاعٍ إِلَى شَيْءٍ، أَيْ أَطِيعُوا مَا طُلِبَ مِنْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوهُ.
وداعي اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى. وَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ داعِيَ اللَّهِ مَجَازًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى طَلَبِ الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ اللَّهِ، فَشُبِهَ ذَلِكَ بِدُعَاءٍ إِلَى اللَّهِ وَاشْتُقَّ مِنْهُ وَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ
60
داعِيَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ وَهِيَ تَابِعَةٌ لِاسْتِعَارَةِ الْإِجَابَةِ لِمَعْنَى الْعَمَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ داعِيَ اللَّهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِالْقُرْآنِ. وَعَطْفُ وَآمِنُوا بِهِ عَلَى أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ.
وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ، أَيْ وَآمِنُوا بِاللَّهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ مَعَ يَغْفِرْ لَكُمْ ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أَوْ عَائِدٌ إِلَى دَاعِيَ اللَّهِ، أَيْ آمِنُوا بِمَا فِيهِ أَوْ آمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجِنَّ مَأْمُورُونَ بِالْإِسْلَامِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذُنُوبِكُمْ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ فَتَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ أَجِيبُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُجَابٌ بِفِعْلِ يَغْفِرْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ يَغْفِرْ لَكُمْ بَعْضَ ذُنُوبِكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ احْتِرَازًا فِي الْوَعْدِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَحَقَّقُوا تَفْصِيلَ مَا يُغْفَرُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا لَا يُغْفَرُ إِذْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا بَعْضَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُحِيطُوا بِمَا فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ عَلَى رَأْيِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ يَرَوْنَ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا تُزَادُ فِي النَّفْيِ. وَأَمَّا مِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ فَهِيَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يُجِرْكُمْ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَجَارَهُ مِنْ ظُلْمِ فُلَانٍ، بِمَعْنَى مَنَعَهُ وَأَبْعَدَهُ.
وَحِكَايَةُ اللَّهِ هَذَا عَنِ الْجِنِّ تَقْرِيرٌ لِمَا قَالُوهُ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْجِنِّ إِدْرَاكًا لِلْمَعَانِي وَعَلَى أَنَّ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ وَاجِبٌ عَلَى الْجِنِّ اعْتِقَادُهُ لِأَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ بِالْإِلَهِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ هُوَ الْإِدْرَاكُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْمُدْرَكَاتِ إِذَا تَوَجَّهَتْ مَدَارِكُهُمْ إِلَيْهَا أَوْ إِذَا نُبِّهُوا إِلَيْهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ إِبْلِيسَ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ نُبِّهُوا إِلَيْهَا بِصَرْفِهِمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَهُمْ قَدْ نَبَّهُوا قَوْمَهُمْ إِلَيْهَا بِإِبْلَاغِ مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلَى حَسَبِ هَذَا الْمَعْنَى يَتَرَتَّبُ الْجَزَاءُ بِالْعِقَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجْدَة:
١٣]، وَقَالَ فِي خِطَابِ الشَّيْطَانِ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥]، فَأَمَّا فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ فَغَيْرُ لَائِقَةٍ بِجِنْسِ الْجِنِّ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْقُرْآنِ مُؤَاخَذُونَ إِذَا لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ.
61
وَاخْتَلَفُوا فِي جَزَاءِ الْجِنِّ عَلَى الْإِحْسَانِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْجِنِّ ثَوَابٌ إِلَّا أَنْ يُجَارُوا مِنْ عَذَابِ النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا تُرَابًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالضَّحَّاكُ: كَمَا يُجَازَوْنَ عَلَى الْإِسَاءَةِ يُجَازَوْنَ عَلَى الْإِحْسَانِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَحَكَى الْفَخْرُ أَنَّ مُنَاظَرَةً جَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا جَدْوَى لَهَا وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ اعْتِقَادُ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى أَنَّ الْعَالِمَ إِذا مرّت بهَا الْآيَاتُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَهْمُهَا.
وَمَعْنَى فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ عِقَابِ اللَّهِ عَلَى عَدَمِ إِجَابَتِهِ دَاعِيَهُ، فمفعول بِمُعْجِزٍ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: داعِيَ اللَّهِ أَيْ فَلَيْسَ بِمُعْجِزِ اللَّهِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ [١٢] أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً وَهُوَ نَفْيٌ لِأَنْ يَكُونَ يَعْجِزُ طَالِبُهُ، أَيْ نَاجِيًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعِقَابِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ فَجَرَى عَلَى أُسْلُوبِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَإِلَّا فَإِنَّ مَكَانَ الْجِنِّ غَيْرُ مُعَيَّنٍ. ولَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ، أَيْ لَا نَصِيرَ
يَنْصُرُهُ عَلَى اللَّهِ وَيَحْمِيهِ مِنْهُ، فَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى النَّجَاةِ بِالِاسْتِعْصَامِ بِمَكَانٍ لَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ قُدْرَةُ اللَّهِ، وَلَا بِالِاحْتِمَاءِ بِمَنْ يَسْتَطِيعُ حِمَايَتَهُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ. وَذِكْرُ هَذَا تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ هَذِهِ حَالَهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ لِتَسَبُّبِ مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [لُقْمَان: ٥]. وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مَجَازِيَّةٌ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ تَلَبُّسِهِمْ بِالضَّلَالِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ فِي وِعَاءٍ هُوَ الضَّلَالُ. وَالْمُبِينُ: الْوَاضِحُ، لِأَنَّهُ ضَلَالٌ قَامَتِ الْحُجَجُ وَالْأَدِلَّةُ عَلَى أَنه بَاطِل.
62

[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٣٣]

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)
عَوْدٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: ١٧، ١٨] فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِمَصِيرِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ ضَلَالِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ وَهُوَ الضَّلَالُ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى إِحَالَةِ الْبَعْثِ، بَعْدَ أَنْ أُطِيلَ فِي إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَفِي إِبْطَالِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ وتكذيبهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا عَوْدٌ عَلَى بَدْءٍ فَقَدِ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الْأَحْقَاف: ٣] الْآيَةَ وَيَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ إِلَى قَوْلِهِ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَحْقَاف: ١٧].
وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ. وَأُخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ بَيْنَ أَفْعَالِ الْعِلْمِ هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ مُشَاهَدَةٌ، وَهِيَ دَلَالَةُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ عَدَمٍ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْرَضَ بِالْعَقْلِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ كَامِلُ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ.
وَوَقَعَتْ أَنَّ مَعَ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ يَرَوْا. وَدَخَلَتِ الْبَاءُ الزَّائِدَةُ عَلَى خَبَرِ أَنَّ وَهُوَ مُثبت وموكّد، وَشَأْنُ الْبَاءِ الزَّائِدَةِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ، لِأَنَّ أَنَّ وَقَعَتْ فِي خَبَرِ الْمَنْفِيِّ وَهُوَ أَوَلَمْ يَرَوْا.
وَوَقَعَ بَلى جَوَابًا عَنِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَلَا يُرِيبُكَ فِي هَذَا مَا شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ فِي تَأْوِيلِ النَّفْيِ، وَهُوَ هُنَا اتَّصَلَ بِفِعْلٍ مَنْفِيٍّ بِ (لَمْ) فَيَصِيرُ نَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ بِحَرْفِ (نَعَمْ) دُونَ بَلى، لِأَنَّ كَلَامَ الْمُعْرِبِينَ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ فِي قُوَّةِ مَنْفِيٍّ عِنْدَ الْمُسْتَفْهِمِ بِهِ، وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ يُعَامِلُ مُعَامَلَةَ النَّفْيِ فِي الْأَحْكَامِ. وَكُونُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى شَيْءٍ لَا يَقْتَضِي أَنْ يُعْطَى جَمِيعَ أَحْكَامِهِ.
63
وَمَحَلُّ التَّعْجِيبِ هُوَ خَبَرُ أَنَّ وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَالْمُشْرِكُونَ لَا يُنْكِرُونَهُ فَلَا تَعْجِيبَ فِي شَأْنِهِ. وَوُقُوعُ الْبَاءِ فِي خَبَرِ أَنَّ وَهُوَ بِقادِرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ وَهُوَ حَرْفُ أَنَّ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ فِعْلِ يَرَوْا الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ فَسَرَى النَّفْيُ لِلْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ، فَقُرِنَ بِالْبَاءِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَفِي «الْكَشَّافِ» «قَالَ الزَّجَّاجُ لَوْ قُلْتَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ جَازَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَيْسَ الله بِقَادِر» اهـ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٧٩] يُرِيدَانِ أَنَّهَا زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى وَجْهِ النُّدُورِ.
وَأَمَّا مَوْقِعُ الْجَوَابِ بِحَرْفِ بَلى فَهُوَ جَوَابٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْجِيبُ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حِكَايَةً عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى، فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: بَلى تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَلْقِينًا لِمَا يُجِيبُونَهُمْ بِهِ. وَحَرْفُ بَلى لَمَّا كَانَ جَوَابًا كَانَ قَائِمًا مَقَامَ جُمْلَةٍ تَقْدِيرُهَا: هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى.
وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ يَعْيَ مُضَارِعُ عَيِيَ مِنْ بَابِ رَضِيَ، وَمَصْدَرُهُ الْعِيُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْعَمَلِ أَوْ عَنِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ الْعِيُّ فِي الْكَلَامِ، أَيْ عُسْرُ الْإِبَانَةِ. وَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ هُنَا بَلَاغَةٌ لِيُفِيدَ انْتِفَاءَ عَجْزِهِ عَنْ صُنْعِهَا وَانْتِفَاءَ عَجْزِهِ فِي تَدْبِيرِ مَقَادِيرِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا، فَكَانَتْ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ صَالِحَةً لِتَعْلِيقِ الْخَلْقِ بِالْعِيِّ بِمَعْنَيَيْهِ.
وَكثير من أيمة اللُّغَةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْعِيَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّعَبِ وَعَنْ عَجْزِ الرَّأْيِ وَعَجْزِ الْحِيلَةِ.
وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ: الْعِيُّ خَاصٌّ بِالْعَجْزِ فِي الْحِيلَةِ وَالرَّأْيِ. وَأَمَّا الْإِعْيَاءُ فَهُوَ التَّعَبُ مِنَ الْمَشْيِ وَنَحْوِهِ، وَفِعْلُهُ أَعْيَا، وَهَذَا مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الرَّاغِبُ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ».
وَظَاهِرُ الْأَسَاسِ: أَنَّ أَعْيَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَعَدِّيًا، أَيْ هَمْزَتُهُ هَمْزَةُ تَعْدِيَةٍ فَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ.
64
وَزَعَمَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ مِثْلَهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ. قُلْتُ: وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَنَازُعِ الْعَامِلَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا وَلَمْ يَعْيَ دَالًّا عَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِدَقَائِقِ مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيُوجِدَهُمَا وَافِيَيْنِ بِهِ. وَتَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى إِيجَادِهِمَا بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى أَوْ يَكُونُ إِيكَالُ أَمْرِ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِهِمَا إِلَى عِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَنْبِيهَهُمْ إِلَى مَا فِي نِظَامِ خَلْقِهِمَا مِنَ الدَّقَائِقِ وَالْحِكَمِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا لُزُومُ الْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. وَعَلَيْهِ أَيْضًا تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ يَعْيَ بِالْبَاءِ مُتَعَيِّنَةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِقادِرٍ بِالْمُوَحَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ يَقْدِرُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ مِنَ الْقُدْرَةِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ يَقْدِرُ فِي مَحَلِّ خَبَرِ أَنَّ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ بَلى لِأَنَّ هَذِهِ تُفِيدُ الْقُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ (أَنَّ) لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ أَنْ يُمْكِنَ إِحْيَاءُ اللَّهِ الْمَوْتَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَحَالُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَنْكَرُوا عُمُومَ قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ جِيءَ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِوَصْف بِقادِرٍ، وَفِي الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِوَصْفِ قَدِيرٌ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ دَلَالَةٍ عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ وصف قَادر.
[٣٤]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٣٤]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عَرْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّارِ مِنْ آثَارِ الْجَزَاءِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْبَعْثِ، فَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ أَعْقَبَ بِمَا
يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالْإِنْذَارِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُقَالُ لَهُمْ مِمَّا لَا ممندوحة لَهُمْ عَنْ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِمْ جَمْعًا بَيْنَ مَا رَدَّ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَوْله: بَلى (١) [الْأَحْقَاف: ٣٣] وَمَا يَرُدُّونَ فِي عِلْمِ أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِمْ: بَلى وَرَبِّنا. وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَحْقَاف: ٣٣] إِلَخْ. وَأَوَّلُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ قَوْلُهُ: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ لِأَنَّهُ مَقُولُ فِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَيُقَالُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ
يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ فِي الْأَذْهَانِ.
وَذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ بِالْمَوْصُولِ إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ بِدَلِيل قَوْله بعده قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ. وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ وَتَنْدِيمٌ عَلَى مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجَزَاءَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ، وَقَالُوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: ٥٩]، وَإِنَّمَا أَقْسَمُوا عَلَى كَلَامِهِمْ بِقَسَمِ وَرَبِّنا قَسَمًا مُسْتَعْمَلًا فِي الندامة والتغليظ لِأَنْفُسِهِمْ وَجَعَلُوا الْمُقْسَمَ بِهِ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ تَحَنُّنًا وَتَخَضُّعًا.
وَفَرَّعَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ. وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهَانَةِ.
[٣٥]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَعْلِهِمُ الْقُرْآنَ مُفْتَرًى وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ
[الْأَحْقَاف: ٧]، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مَنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِعَادٍ. فَأمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنْ أَذًى، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِالرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ.
_________
(١) فِي المطبوعة: فَلهُ.
66
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فَصِيحَةً. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَعَلِمْتَ كَيْفَ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَانْتَصَرْنَا بِرُسُلِنَا فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا.
وَأولُوا الْعَزْمِ: أَصْحَابُ الْعَزْمِ، أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهِ. وَالْعَزْمُ: نِيَّةٌ مُحَقَّقَةٌ عَلَى عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ دُونَ تَرَدُّدٍ. قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: ١٥٩] وَقَالَ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَة: ٢٣٥]. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ يَعْنِي نَفْسَهُ:
إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبًا
وَالْعَزْمُ الْمَحْمُودُ فِي الدِّينِ: الْعَزْمُ عَلَى مَا فِيهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَصَلَاحُ الْأُمَّةِ، وَقِوَامُهُ الصَّبْرُ على الْمَكْرُوه وباعث التَّقْوَى، وَقُوَّتُهُ شِدَّةُ الْمُرَاقَبَةِ بِأَنْ لَا يَتَهَاوَنَ الْمُؤْمِنُ عَنْ مُحَاسَبَتِهِ نَفْسَهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: ١٨٦] وَقَالَ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥]. وَهَذَا قَبْلَ هُبُوطِ آدَمَ إِلَى عَالَمِ التَّكْلِيفِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ مِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الرُّسُلِ تَبْعِيضِيَّةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ الرُّسُلِ أُولُو عَزْمٍ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ مِنَ بَيَانِيَّةً.
وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الصَّبْرِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ بِصَبْرِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِثْلُهُمْ لِأَنَّهُ ممتثل أَمر رَبِّهِ، فَصَبْرُهُ مَثِيلٌ لِصَبْرِهِمْ، وَمَنْ صَبَرَ صَبْرَهُمْ كَانَ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ.
وَأَعْقَبَ أَمْرَهُ بِالصَّبْرِ بِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ الِاسْتِعْجَالِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ، أَيْ لَا تَطْلُبْ مِنَّا تَعْجِيلَهُ لَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ يُنَافِي الْعَزْمَ وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ تَطْوِيلًا لِمُدَّةِ صَبر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْبِ عَزْمِهِ قُوَّةً.
وَمَفْعُولُ تَسْتَعْجِلْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، تَقْدِيرُهُ: الْعَذَابُ أَوِ الْهَلَاكُ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لَامُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ لِأَجْلِهِمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا تَسْتَعْجِلْ لِهَلَاكِهِمْ. وَجُمْلَةُ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ
67
عَنْ الِاسْتِعْجَالِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ بِأَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي وُقُوعِهِ تَطْوِيلُ أَجْلِهِ وَلَا تَعْجِيلُهُ، قَالَ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيُّ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَ قَوْلَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ
وَهُمْ عِنْدَ حُلُولِهِ مُنْذُ طُولِ الْمُدَّةِ يُشْبِهُ حَالُهُمْ حَالَ عَدَمِ الْمُهْلَةِ إِلَّا سَاعَةً قَلِيلَةً.
ومِنْ نَهارٍ وَصْفُ السَّاعَةِ، وَتَخْصِيصُهَا بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّ سَاعَةَ النَّهَارِ تَبْدُو لِلنَّاسِ قَصِيرَةً لِمَا لِلنَّاسِ فِي النَّهَارِ مِنَ الشَّوَاغِلِ بِخِلَافِ سَاعَةِ اللَّيْلِ تَطُولُ إِذْ لَا يَجِدُ السَّاهِرُ شَيْئًا يَشْغَلُهُ. فَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ كَمَا
فِي حَدِيثِ الْجُمُعَة قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ»
، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَالسَّاعَةُ جُزْءٌ مِنَ الزَّمَنِ.
بَلاغٌ.
فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ بَلَاغٌ لِلنَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ لِيَعْلَمَ كُلٌّ حَظَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ:
بَلاغٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا بَلَاغٌ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعُنْوَانِ وَالطَّالِعِ نَحْوِ مَا يُكْتَبُ فِي أَعْلَى الظَّهِيرِ: «ظَهِيرٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ»، أَوْ مَا يُكْتَبُ فِي أَعْلَى الصُّكُوكِ نَحْوِ: «إِيدَاعُ وَصِيَّةٍ»، أَوْ مَا يُكْتَبُ فِي التَّأْلِيفِ نَحْوِ مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» «وُقُوتُ الصَّلَاةِ». وَمِنْهُ مَا يُكْتَبُ فِي أَعَالِي الْمَنْشُورَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ كَلِمَةُ: «إِعْلَانٌ».
وَقَدْ يَظْهَرُ اسْمُ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢]، وَقَوْلِ سِيبَوَيْهٍ: «هَذَا بَابُ عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ»، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٦].
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عَلَى طَرِيقَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالتَّحْصِيلِ مِثْلُ جُمْلَةِ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَة: ١٩٦]، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [الْبَقَرَة: ١٣٤].
68
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ.
فَرْعٌ عَلَى جُمْلَةِ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ إِلَى مِنْ نَهارٍ، أَيْ فَلَا يُصِيبُ الْعَذَابُ إِلَّا الْمُشْرِكِينَ أَمْثَالَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَة: ١٣٠].
وَمَعْنَى التَّفْرِيعِ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ مِمَّا سَمِعْتَ أَنَّهُ لَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٩]، وَقَوله: لتنذر الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَحْقَاف: ١٢، ١٣]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الْأَحْقَاف: ٢٧] الْآيَةَ.
وَالْإِهْلَاكُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، فَإِنَّ مَا حُكِيَ فِيمَا مَضَى بَعْضُهُ إِهْلَاكٌ حَقِيقِيٌّ مِثْلُ مَا فِي قِصَّةِ عَادٍ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى، وَبَعْضُهُ مُجَازِيٌّ وَهُوَ سُوءُ الْحَالِ، أَيْ عَذَابُ الْآخِرَةِ: وَذَلِكَ فِيمَا حُكِيَ مِنْ عَذَابِ الْفَاسِقِينَ.
وَتَعْرِيفُ الْقَوْمُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُفِيدٌ الْعُمُومَ، أَيْ كُلُّ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فَيَعُمُّ مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الْقُرْآنُ فَكَانَ لِهَذَا التَّفْرِيعِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ يُهْلَكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِتَغْلِيبِ إِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي لَمَّا يَقَعْ عَلَى إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، أَيِ الْقَوْمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ الْآيَةَ، فَيَكُونُ إِظْهَارًا فِي
مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ إِهْلَاكِهِمْ أَنَّهُ الْإِشْرَاكُ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا الْفِسْقُ عَنِ الْإِيمَانِ وَهُوَ فِسْقُ الْإِشْرَاكِ. وَأَفَادَ الِاسْتِثْنَاءُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَهْلِكُونَ هَذَا الْهَلَاكَ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
69

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٧- سُورَةُ مُحَمَّدٍ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةَ مُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ تُرْجِمَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَلِكَ فِي التَّفَاسِيرِ قَالُوا: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْقِتَالِ.
وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» سُورَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْأَشْهُرُ الْأَوَّلُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا اسْم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهَا فَعُرِفَتْ بِهِ قَبْلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٤] الَّتِي فِيهَا وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَة الْقِتَال فَلِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ الْقِتَالِ، وَلِأَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، مَعَ مَا سَيَأْتِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ [مُحَمَّد: ٢٠] أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَا هَذِهِ السُّورَةُ فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْقِتَالِ تَسْمِيَةً قُرْآنِيَّةً.
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَصَاحِبُ «الْإِتْقَانِ». وَعَنِ النَّسَفِيِّ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَلَعَلَّه وهم ناشىء عَمَّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ [مُحَمَّد: ١٣] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى حِرَاءٍ، أَيْ فِي الْهِجْرَةِ. قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَعُدَّتِ السَّادِسَةَ وَالتِسْعِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَقَبْلَ سُورَةِ الرَّعْدِ.
وَآيُهَا عُدَّتْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ.
71
Icon