تفسير سورة الحديد

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يخبر تعالى أنه يسبّح له ما في السماوات والأرض، أي من الحيوانات والنباتات، كما قال في الآية الأُخْرِى :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ أي الذي قد خضع له كل شيء، ﴿ الحكيم ﴾ في خلقه وأمره وشرعه، ﴿ لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي هو المالك المتصرف في خلقه، فيحيي ويميت، ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن ﴾ وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية أنها أفضل من ألف آية، روى أبو داود، عن أبي زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري؟ قال : ما هو؟ قلت : والله لا أتكلم به. قال، فقال لي : عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري؟ قال : ما هو؟ قلت : والله لا أتكلم به. قال، فقال لي : أشيء من شك؟ قال، وضحك، قال : ما نجا من ذلك أحد، قال : حتى أنزل الله تعالى :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ ﴾ [ يونس : ٩٤ ]، وقد اختلف عبارات المفسرين في هذه الآية، وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولاً، وقال البخاري، قال يحيى : الظاهر على كل شيء علماً، والباطن على كل شيء علماً، روى الإمام أحمد، عن أبي هريرة « أن رسول الله ﷺ كان يدعو عند النوم :» اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلاّ أنت، أعوذ بكل من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر « ».
وروى الترمذي، عن أبي هريرة قال :« بينما نبي الله ﷺ جالس وأصحابه إذا أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله ﷺ :» هل تدرون ما هذا؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :» هذا العنان، هذه روايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه «، ثم قال :» هل تدرون ما فوقكم؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :» فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف «، ثم قال :» هل تدرون كم بينكم وبينها؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :» بينكم وبينها خمسمائة سنة «، ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :« فإن فوق ذلك سماء بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع سماوات - ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض »، ثم قال :« هل تدرون ما فوق ذلك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :« فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء مثل ما بين السماءين » ثم قال :« هل تدرون ما الذي تحتكم؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :« فإنها الأرض »، ثم قال :« هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :« فإن تحتها أرضاً أُخْرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة »، ثم قال :« والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم حبلاً إلى الأرض السفلى لهبط على الله »، ثم قرأ :﴿ هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ «
2485
وفسَّر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقالوا : إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه، انتهى كلامه. وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث بسنده، عن الحسن، عن أبي هريرة، « عن النبي ﷺ فذكره، وعنده :» وبعد ما بين الأرضين مسيرة سبعمائة عام «، وقال :» لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى السابعة لهبط على الله «، ثم قرأ :﴿ هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ »، وقال ابن جرير عند قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ١٢ ] عن قتادة قال : التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض، فقال بعضهم لبعض : من أين جئت؟ قال أحدهم : أرسلني ربي عزّ وجلّ من السماء السابعة وتركته ثَمّ، قال الآخر : أرسلني ربي عزّ وجلّ من الأرض السابعة وتركته ثَمّ، قال الآخر : أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ، قال الآخر أرسلني ربي من المغرب وتركته ثمّ.
2486
يخبر تعالى عن خلقه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم أخبر تعالى باستوائه على العرش بعد خلقهن، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة الأعراف بما إنى عن إعادته هاهنا، وقوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض ﴾ أي يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر، ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ من نبات وزرع وثمار، كما قال تعالى :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء ﴾ أي من الأمطار، والثلوج والبرد والأقدار، والأحكام مع الملائكة الكرام، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ أي من الملائكة والأعمال، كما جاء في الصحيح :« يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل »، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي رقيب عليكم شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم، كما قال تعالى :﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ [ هود : ٥ ]، وقال تعالى :﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار ﴾ [ الرعد : ١٠ ]، فلا إله غيره ولا رب سواه، وقد ثبت في الصحيح « أن رسول الله ﷺ قال لجبريل لما سأله عن الإحسان :» أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك « »، وفي الحديث، « قال رجل : يا رسول الله ما تزكيه المرء نفسه؟ فقال :» يعلم أن الله معه حيث كان « وقال رسول الله ﷺ :» إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت « وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين :
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
وقوله تعالى :﴿ لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور ﴾، أي هو المالك للدنيا والآخرة كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى ﴾ [ الليل : ١٣ ] وهو المحمود على ذلك، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة ﴾ [ القصص : ٧٠ ]، وقال تعالى :﴿ الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة وَهُوَ الحكيم الخبير ﴾ [ سبأ : ١ ]، فجميع ما في السماوات والأرض ملك له، وأهلها عبيد أرقاء أذلاء بين يديه، كما قال تعالى :
2487
﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً ﴾ [ مريم : ٩٣ ]، ولهذا قال :﴿ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور ﴾ أي إاليه المرجع يوم القيامة فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة، كما قال تعالى :﴿ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ]، وقوله تعالى :﴿ يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل ﴾ أي هو المتصرف في الخلق، يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعاً ثم قيظاً ثم خريفاً، وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه ﴿ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي يعلم السرائر وإن دقت أو خفيت.
2488
أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، وحث على الأنفاق ﴿ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ أي مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته، وقوله تعالى :﴿ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك، أو يعصى الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان. روى مسلم، عن عبد الله بن الشخير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول :« ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت؟ أو لبست فأبليت؟ أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » وقوله تعالى :﴿ فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة، ثم قال تعالى :﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ ﴾ أي : وأيّ شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد روينا في الحديث « أن رسول الله ﷺ قال يوماً لأصحابه :» أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟ « قالوا : الملائكة، قال :» وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ « قالوا : فالأنبياء، قال :» وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ « قالوا : فنحن، قال :» وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها « وقوله تعالى :﴿ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ ﴾ كما قال تعالى :﴿ واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [ المائدة : ٧ ] ويعني بذلك بيعة الرسول ﷺ، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ أي حججاً واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات، ﴿ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ أي من ظلمات الجهل والكفر، إلى نور الهدى والإيمان، ﴿ وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس، ولما أمرهم أولاً بالإيمان والإنفاق، ثم حثهم على الأيمان، حثهم أيضاً على الإنفاق، فقال :﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض ﴾ ؟ أي أنفقوا و لاتخشوا فقراً وإقلالاً، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السماوات والأرض، وهو القائل :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين ﴾ [ سبأ : ٣٩ ]، ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ ﴾ [ النحل : ٩٦ ] فمن توكل على الله أنفق وعلم أن الله سيخلفه عليه، وقوله تعالى :﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ ﴾ أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله، وذلك أنه قبل فتح مكة كان الحال شديداً، فلم يكن يؤمن حنيئذٍ إلاّ الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهوراً عظيماً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾، والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا ( فتح مكة )، وعن الشعبي : أن المراد ( صلح الحديبية ).
2489
وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد، عن أنس قال :« كان بين ( خالد بن الوليد ) وبين ( عبد الرحمن بن عوف ) كلام، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي ﷺ، فقال :» ادعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحُد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم « ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكة. وعن أبي سعيد الخدري » أن رسول الله ﷺ قال :« يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم »، قلنا : من هم يا رسول الله، قريش؟ قال :« لا، ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً »، وأشار بيده إلى اليمن فقال :« هم أهل اليمن، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية »، فقلنا : يا رسول الله هم خير منا؟ قال :« والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه »، ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال :« ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ » وقوله تعالى :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾ يعني المنافقين قبل الفتح وبعده كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء، كما قال تعالى :﴿ لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ [ النساء : ٩٥ ] الآية، وهكذا الحديث الذي في الصحيح :« المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير » فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه، ولهذا قال تعالى :﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلاّ لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق، وفي الحديث :« سبق درهم مائة ألف »
2490
ولا شك أن الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه له الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزَّ وجلَّ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها.
قوله تعالى :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ قال عمر بن الخطاب : هو الإنفاق في سبيل الله، وقيل : هو النفقة على العيال، والصحيح أنه أعم من ذلك، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة، وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية، ولهذا قال تعالى :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾، كما قال في الآية الأُخرى ﴿ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] ﴿ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة يوم القيامة، عن عبد الله بن مسعود قال :« لما نزلت هذه الآية ﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال :» نعم يا أبا الدحداح «، قال : أرني يدك يا رسول الله، قال، فناوله يده، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط في ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال، فجاء أبو الدحداح، فناداها : يا أم الدحداح، قالت : لبيك، قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجلّ » وفي رواية « أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح »، ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول الله ﷺ قال :« كم من عِذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح ».
2491
يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين المتصدقين، أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى :﴿ يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة، وقال الضحاك : ليس أحد إلاّ يعطى نوراً يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفىء نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفىء نور المنافقين، فقالوا : ربنا أتمم لنا نورنا، وقال الحسن ﴿ يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ : يعني على الصراط. وقد روى ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء، « عن النبي ﷺ قال :» أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، فأعرف أُمتي من بين الأمم «، فقال له رجل : يا نبي الله كيف تعرف أُمتك من بين الأُمم؟ فقال :» أعرفهم، محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأُمم غيره، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم « » وقوله :﴿ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾، قال الضحّاك : أي وبأيمانهم كتبهم كمنا قال تعالى :﴿ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ [ الإسراء : ٧١ ]، وقوله :﴿ بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾، أي يقال لهم : بشراكم اليوم جنات أي لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ما كثين فيها أبداً ﴿ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ﴾. وقوله ﴿ يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة، والزلازل العظيمة، والأمور الفظيعة، وأنه لا ينجو يومئذٍ إلاّ من آمن بالله ورسوله وعمل بما أمر الله به، وترك ما عنه زجر.
روى ابن أبي حاتم، عن سليم بن عامر قال : خرجنا على جنازة في باب دمشق، ومعنا ( أبو أمامة الباهلي ) فلما صلى على الجنازة، وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة : أيها الناس، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر. وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الدود، وبيت الضيق، إلاّ ما وسع الله، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من اللهن فتَبيضّ وجوه، وتسوَدّ وجوه، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نوراً، ويترك الكافر والمنافق، فلا يعطيان شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال :
2492
﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾ [ النور : ٤٠ ] فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا :﴿ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً ﴾، وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال :﴿ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم، وقد ضرب بينهم بسور له باب ﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب ﴾ الآية، يقول سليم بن عامر : فما يزال المنافق مغتراً حتى يقسم النور، ويميز الله بين المنافق والمؤمن، وقال ابن عباس : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمن النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلاً على من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم، فأظلم الله على المنفاقين، فقالوا حينئذٍ :﴿ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون ﴿ ارجعوا وَرَآءَكُمْ ﴾ من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور، وروى الطبراني عن ابن مليكة عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط، فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم، وقال المؤمنون : ربنا أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً ».
وقوله تعالى :﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب ﴾ قال الحسن وقتادة : هو حائط بين الجنة والنار، وقال عبد الرحمن بن زيد : هو الذي قال الله تعالى :﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ﴾ [ الأعراف : ٤٦ ]، وهكذا روي عن مجاهد وهو الصحيح ﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة ﴾ أي الجنة وما فيها ﴿ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب ﴾ أي النار، والمراد بذلك سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب، وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وشك وحيرة، ﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ﴾ أي ينادي المنافقون المؤمنين : أما كنا معكم في الدار الدنيا نشهد معكم الجمعات؟ ونصلي معكم الجماعات؟ ونقف معكم بعرفات؟ ونحضر معكم الغزوات؟ ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ قالوا : بلى، أي فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى قد كنتم معنا ﴿ ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني ﴾، قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي، والشهوات ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ أي أخّرتم التوبة من وقت إلى وقت، وقال قتادة :﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ بالحق وأهله، ﴿ وارتبتم ﴾ أي بالبعث بعد الموت، ﴿ وَغرَّتْكُمُ الأماني ﴾ أي قلتم : سيغفر لنا، وقبل غرتكم الدنيا ﴿ حتى جَآءَ أَمْرُ الله ﴾ أي ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت، ﴿ وَغَرَّكُم بالله الغرور ﴾ أي الشيطان، وقال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار، ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين : إنكم كنتم معنا أي بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تراءون الناس ولا تذكرون الله إلاّ قليلاً، وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول :
2493
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾ [ المدثر : ٣٨-٤٢ ] ؟ فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ، ثم قال تعالى :﴿ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه. وقوله تعالى :﴿ مَأْوَاكُمُ النار ﴾ أي هي مصيركم وإليها منقلبكم، وقوله تعالى :﴿ هِيَ مَوْلاَكُمْ ﴾ أي هي أولى بكم من كل منزل، على كفركم وارتيابكم وبئس المصير.
2494
يقول تعالى : أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه، قال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، فقال :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله ﴾ الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله ﴾ الآية إلا أربع سنين، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ نهى الله تعالى المؤمنين، أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم، من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد، بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد، ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ أي من الأعمال، فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة، كما قال تعالى :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾ [ المائدة : ١٣ ] أي فسدت قلوبهم فقست، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصيلة والفرعية.
روى أبو جعفر الطبري، عن ابن مسعود قال :« إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم، واخترعوا كتاباً من بين أيديهم وأرجلهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتم، وقالوا : نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب، فمن آمن به تركناه، ومن كفر به قتلناه، قال : فجعل رجل منهم كتتاب الله في قرن، ثم جعل القرن بيد ثندوتيه فلما قيل له : أتؤمن بهذا؟ قال : آمنت به ويومىء إلى القرن بين يندوتيه، ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن ». وقوله تعالى :﴿ اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ فيه إشارة إلى أن الله يلين القلوب بعد قسوتها ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكيم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
يخبر الله تعالى عما يثيب به ﴿ المصدقين والمصدقات ﴾ بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة ﴿ وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ أي دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكوراً، ولهذا قال :﴿ يُضَاعَفُ لَهُمْ ﴾ أي يقال لهم الحسنة بعشرة أمثالها، ويزاد إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك، ﴿ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ أي ثواب جزيل ومآب كريم، وقوله تعالى :﴿ والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون ﴾ هذا تمام الجملة وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون، قال ابن عباس :﴿ أولئك هُمُ الصديقون ﴾ هذه مفصولة، ﴿ والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾، وقال ابو الضحى ﴿ أولئك هُمُ الصديقون ﴾. ثم استأنف الكلام، فقال :﴿ والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ ﴾، عن ابن مسعود قال : هم ثلاثة أصناف يعني :( المُصَدقين، والصديقين، والشهداء ) كما قال تعالى :﴿ وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين ﴾ [ النساء : ٦٩ ] ففرق بين الصديقين والشهداء، فدل على أنهما صنفان، ولا شك أن الصديق أعلى مقاماً من الشهيد، كما روى الإمام مالك، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله ﷺ قال :« » إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم « قال : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » وقال آخرون : بل المراد من قوله تعالى :﴿ أولئك هُمُ الصديقون والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ فأخبر عن المؤمنين بالله ورسوله بأنهم صديقون وشهداء، وقوله تعالى :﴿ والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي في جنات النعيم كما جاء في « الصحيحين » :« إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت » الحديث. وقوله تعالى :﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ أي لهم عند الله أجر جزيل، ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال، كما قال رسول الله ﷺ :« » الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدوّ فصدق الله فقتل، فذاك الذي ينظر الناس إليه، هكذا « ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول الله ﷺ وقلنسوة عمر، والثاني مؤمن لقي العدوّ فكأنما يضر ظهره بشوك الطلح جاءه سهم غرب فقتله فذاك في الدرجة الثانية، والثالث رجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الثالثة، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافاً لقي العدوّ فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة » وقوله تعالى :﴿ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم ﴾ لما ذكر السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم.
يقول تعالى موهناً أمر الحياة الدنيا ومحقراً لها :﴿ أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد ﴾ أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال تعالى :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب ﴾ [ آل عمران : ١٤ ]، ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال :﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ ﴾ وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ﴾ [ الشورى : ٢٨ ]، وقوله تعالى :﴿ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ﴾ أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها، ﴿ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً ﴾ أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفراً بعد ما كان خضراً نضراً، ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً، أي يصير يبساً متحطماً، هكذا الحياة الدنيا، تكون أولاً شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزاً شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى، كما قال تعالى :﴿ الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ﴾ [ الروم : ٥٤ ]، ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير، فقال :﴿ وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ ﴾ أي وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا عذاب شديد، أو مغفرة من الله ورضوان، وقوله تعالى :﴿ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور ﴾ أي هي متاع فانٍ، يغتبر بها من يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلىلدار الآخرة، قال رسول الله ﷺ :« موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرأوا :﴿ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور ﴾ ».
وروى الإمام أحمد، عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه سلم :« لَلْجنَّة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك » ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان، فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات فقال الله تعالى :﴿ سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض ﴾ والمراد جنس السماء والأرض كما قال تعالى في الآية الأُخْرى :﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، وقال هاهنا :﴿ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم ﴾، أي هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله عليهم، وإحسانه إليهم، كما قدمنا في الصحيح :
2497
« أن الفقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال :» وما ذاك؟ « قالوا : يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق قال :» أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين «، قال، فرجعوا فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :» ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء « ».
2498
يخبر تعالى عن قدرة السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال :﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ ﴾ أي في الآفاق وفي نفوسكم، ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ﴾ أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، وقال بعضهم : الضمير عائد على النفوس، وقيل عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة و البرية لدلالة الكلام عليها، كما روي عن منصور بن عبد الرحمن قال : كنت جالساً مع الحسن فقال رجل : سله عن قوله تعالى :﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ﴾، فسألته عنها، فقال : سبحان الله، ومن يشك في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة، وقال قتادة ﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض ﴾ قال : هي السنون يعني الجدب ﴿ وَلاَ في أَنفُسِكُمْ ﴾ يقول : الأوجاع والأمراض، قال : وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلخال عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق - قبحهم الله - روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله ﷺ وسلم يقول :« قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة »، وزاد ابن وهب :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء ﴾ [ هود : ٧ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ أي علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عزّ وجلّ، لأنه يعلم ما كان وما يكون، وقوله تعالى :﴿ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ ﴾ أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تيأسوا على ما فاتكم ﴿ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ ﴾ أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا بكدكم، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم الله أشراً وبطراً تفخرون بها على الناس، ولهذا قال تعالى :﴿ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ أي مختال في نفسه متكبر فخور، أي على غيره، وقال عكرمة :« ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً »، ثم قال تعالى :﴿ الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل ﴾ أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه، ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ أي عن أمر الله وطاعته ﴿ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد ﴾، كما قال :﴿ إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ إبراهيم : ٨ ].
يقول تعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات ﴾ أي بالمعجزات، والحجج والباهرات، والدلائل القاطعات ﴿ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب ﴾ وهو انلقل الصدق ﴿ والميزان ﴾ وهو العدل الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة كما قال تعالى :﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]، وقال تعالى :﴿ فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا ﴾ [ الروم : ٣٠ ]، وقال تعالى :﴿ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان ﴾ [ الرحمن : ٧ ]، ولهذا قال في هذه الآية :﴿ لِيَقُومَ الناس بالقسط ﴾ أي بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، ﴿ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ أي وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله ﷺ بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية وكلها جدال مع المشركين، وبيان إيضاح للتوحيد، وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من خالف، شرع الله الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، وقد روى الإمام أحمد، عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ :« بعثت بالسيف بن يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم » ولهذا قال تعالى :﴿ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان ونحوها ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ أي في معايشهم كالسكة والفأس والمنشار والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ وغير ذلك، قال ابن عباس : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم : السندان، والكلبتان، والميقعة يعني المطرقة، وقوله تعالى :﴿ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب ﴾ أي من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسوله ﴿ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ أي هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.
يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام، لم يرسل بعده رسولاً ولا نبياً إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، لم يرسل رسولاً إلا وهو من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب ﴾ ﴿ العنكروت : ٢٧ ] حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل :{ عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ [ البقرة : ٨٧ ] الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلام عليهما، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل ﴾ وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، ﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه ﴾ وهم الحواريون ﴿ رَأْفَةً ﴾ أي رقة وهي الخشية ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ بالخلق، وقوله :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها ﴾ أي ابتدعها أمّة النصارى، ﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ أي ما شرعناها وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله ﴾ فيه قولان ( أحدهما ) : أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جبير وقتادة، ( والآخر ) : ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، وقوله تعالى :﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين :( أحدهما ) : الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، ( والثاني ) : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة بقربهم إلى الله عزّ وجلّ. وقد روى ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود قال، قال رسول الله ﷺ :« » يا ابن مسعود « قلت : لبيك يا رسول الله، قال :» هل علمت أن بني إسرائيل تفرقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أُخْرَى لم تكن لها قوة بالقتال فقامت بين الملوك والجبابرة، فدعو إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أُخْرَى لم يكن لها قوة ولم تطق القيام بالقسط فلحقت بالجبال فتعبّدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ « وروى الإمام أحمد، عن إياس بن مالك أن النبي ﷺ قال :» لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمّة الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ « وفي رواية :» لكل أمّة رهبانية، ورهبانية هذه الأُمة الجهاد في سبيل الله « وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه » أن رجلاً جاءه فقال : أوصني، فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله ﷺ من قبلك، أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذلك الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض «.
عن أبي موسى الأشعري قال، « قال رسول الله صلى الله عليه سلم :» ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران «. وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى عليه هذه الآية في حق هذه الأمة :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ﴾ أي ضعفين ﴿ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾، وزادهم ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ يعني هدى يتبصر به من العمى الجهالة ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ ففضلهم بالنور والمغفرة. وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم ﴾ [ الأنفال : ٢٩ ]، وما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد، عن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ :» مَثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالاً فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود، ثم قال : من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارة، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم، فغضبت النصارى واليهود، وقالوا : نحن أكثر عملاً وأقل عطاء، قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئاً؟ قالوا : لا، قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء « وروى البخاري، عن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال :» مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قوماً يعملون له عملاً، يوماً إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا : لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم : لا تفعلوا أكملوا بقية عملمكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم، فقال : أكملوا يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر، قالوا : ماعملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال : أكملوا بقية عملكم، فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا، فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذه النور « ولهذا قال تعالى :﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله ﴾ أي ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا إعطاء من ما منع الله، ﴿ وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم ﴾. قال ابن جرير :﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب ﴾ أي ليعلم، وعن ابن مسعود أنه قرأها : لكي يعلم لأن العرب تجعل ( لا ) صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، فالسابق كقوله :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ]، ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ].
Icon