تفسير سورة الحديد

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الحديد :
في هذه السورة دعوة إلى الإخلاص في الإيمان، والبذل في سبيل الله، وتحذير للمسلمين من قسوة القلوب والاستغراق في الدنيا وأغراضها كما صار إليه أهل الكتاب، وحض على الخير والتسابق فيه مع الاعتماد على الله، وتنديد بالبخلاء المختالين، وتنويه بالمؤمنين المخلصين، وتقريع وإنذار للمنافقين بمناسبة موقف ممض وقفه بعض مرضى القلوب المنافقين. وفيها تشبيهات واستطرادات إلى حكمة إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد العدل، وما كان من أمر الأمم السابقة وانحراف أكثرهم مما فيه توطيد لفكرة السلطان وهدفه. وفيها إشارة تنويهية إلى أخلاق الذين اتبعوا عيسى عليه السلام، مع الإشارة إلى فسق كثير منهم أيضا.
وفصول السورة غير منقطعة عن بعضها بحيث يسوغ القول بأنها نزلت متابعة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أنها نزلت بعد سورة الزلزلة التي يروى أن سورة النساء نزلت بعدها وقبل سورة محمد. ومعظم رواة ترتيب النزول يجعلون ترتيبها مثل ترتيبها في هذا المصحف ( ١ )١، في حين أن فيها آية تفيد بصراحة أنها نزلت بعد الفتح الذي يتفق معظم المؤولين على أنه فتح مكة ( ٢ )٢. وليس في السورة ما يمكن أن يساعد على القول بأن فصولا منها نزلت قبل هذا الفتح. وهذا ما جعلنا نؤخر ترتيبها عن الترتيب المروي ؛ للتوفيق بين ظروف نزولها ونزول سورة الممتحنة التي نزلت بعد صلح الحديبية وقبيل الفتح المكي.
ولقد وردت كلمة الفتح في سورة النصر، والجمهور على أنه فتح مكة أيضا غير أن الإشارة جاءت فيها بأسلوب التذكير والتنويه، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن السورة هي آخر سور القرآن نزولا. وقد ذكر ذلك الزمخشري. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أنها نزلت في حجة الوداع التي لم يعش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها إلا نحو ثمانين يوما. وروى حديثا عن ابن عباس أن السورة لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة رضي الله عنها وقال : إنه قد نعيت إلى نفسي. وحديثا عن عبد الله بن عقبة :( أن ابن عباس سأله : أتعلم آخر سورة نزلت من القرآن ؟ قال : نعم. إنها :( إذا جاء نصر الله }. فقال : صدقت. وحديثا عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( نعيت إلي نفسي بها وإني مقبوض هذه السنة ). وقال النيسابوري : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعش بعد نزولها إلا سبعين يوما ؛ حيث تتضافر هذه الروايات على أنها نزلت قبل قليل من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت بعد فتح مكة بنحو سنتين، ولقد احتوت سورة التوبة آيات تفيد بصراحة أنها نزلت بعد فتح مكة منها هذه الآية :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ......... ﴾ ( ٣ ) وهذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.......................... ﴾ ( ٢٨ ).
وبناء على ما تقدم وضعنا سورة الحديد بعد سورة الممتحنة ؛ لأن الفتح المكي وقع بعد نزول هذه السورة وفي ظروف نزول سورة الحديد. والله تعالى أعلم.
١ انظر روايات ترتيب نزول السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩..
٢ انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والزمخشري والخازن وابن كثير والطبرسي..

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١ ) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢ ) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٣ ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٤ ) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( ٥ ) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٦ ) ﴾ ( ١ – ٦ ).
عبارة الآيات واضحة. وباستثناء صفتي الظاهر والباطن، فقد ورد مثلها في سور عديدة مكية ومدنية. وهي هنا مجموعة رائعة قوية بسبيل تعداد صفات الله تعالى وعظمته وما أودعه في كونه من نواميس وبيان شمول ملكه وعلمه وقدرته. وإحاطته بجميع ما في الكون من مخلوقات وما يقع من هذه المخلوقات من أعمال وحركات ظاهرة وخفية وباطنة. وتقرير كون مرد كل شيء إليه أولا وآخرا.
وليس هناك روايات خاصة في مناسبتها. والمتبادر أن مما استهدفته لفت نظر الإنسان وإيقاظ ضميره وتوجيهه نحو الله، وأنها مقدمة تمهيدية لما احتوته الآيات التالية من دعوة وأمر وتقرير وحث وعتاب، وهذا من أساليب القرآن المألوفة المتكررة.
وصفتا ﴿ والظاهر والباطن ﴾ تأتيان في الآيات لأول مرة. ولقد شرحهما الطبري فقال : إن الظاهر بمعنى الظاهر على كل شيء دونه، أو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه. وإن الباطن بمعنى باطن جميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه. وروى البغوي أن عمر رضي الله عنه سأل عنها كعبا فقال : معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن. وروى بطرقه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بدعاء فيه تفسير للصفتن وهو :( اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. اقض عني الدين واغنني من الفقر ). وقد روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا عن أبي هريرة الذي قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر فاطمة بترديد الدعاء الذي تضمنه حينما جاءت تسأله خادما.
ولقد علقنا على موضوع خلق السماوات والأرض في ستة أيام في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار. وإن كان من شيء يحسن قوله هنا : هو أن الآية التي ذكر فيها ذلك مع الآيات الأخرى هي بسبيل التنبيه على عظمة الله وقدرته وإحاطته بكل شيء في كونه وتسبيح كل ما في السماوات والأرض له. وكون ذلك يوجب على الإنسان الخضوع له وتقديسه وتسبيحه من باب الأولى ؛ لما اختصه الله به من خصائص وكرم من تكرمات.
﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( ٧ ) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٨ ) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٩ ) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ١٠ ) ﴾ ( ٧ – ١٠ ).
تعليق على الآية :
﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ......................... ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. والمستلهم من روحها وفحواها أنها موجهة إلى المؤمنين في الدرجة الأولى ثم إلى السامعين عامة. وقد تضمنت :
( ١ ) دعوة لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق من المال الذي جعلهم الله خلفاء ووكلاء عليه، فالذين يفعلون ذلك منهم لهم أجر من الله عظيم.
( ٢ ) وسؤالا استنكاريا على سبيل الحث والعتاب عما يمنعهم عن الإيمان بالله، ورسوله يدعوهم إلى ذلك، وهو قد أخذ قبل ذلك ميثاقا به إن كانوا حينما أعطوا هذا الميثاق مؤمنين حقا.
( ٣ ) وتنبيها على أن الله تعالى إنما ينزل على عبده النبي آياته ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وأنه إنما يفعل ذلك ؛ لأنه بهم رؤوف رحيم.
( ٤ ) وسؤالا استنكاريا آخر على سبيل الحث والعتاب أيضا عما يمنعهم عن إنفاق أموالهم في سبيل الله، في حين أن كل ما في السماوات والأرض هو ملك لله تعالى.
( ٥ ) وتقريرا على سبيل الحث والبيان بأن هناك فرقا عظيما بين الذين أنفقوا أموالهم وقاتلوا قبل الفتح وبين الذين فعلوا ذلك بعده، وبأن الأولين أعظم درجة وأجرا عند الله مع تقرير كون الآخرين أيضا موعودين من الله كالأولين بالأجر والحسنى على كل حال، وهو الذي يعلم علم كل ما يفعله الناس ويقدمونه بين يديهم.
ويتبادر لنا أن جملة :﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ هي في مقامها في معنى ( وما لكم لا تثقون ولا تتيقنون بما يأمركم الله، وتطيعونه فيه ) وليست تنديدا بعدم إيمانكم مبدئيا بالله ولا دعوة لهم إلى ذلك ؛ لأن الخطاب في الجملة والآيات عامة لأناس مؤمنين بالله ورسوله مبدئيا. فيكون العتاب الذي انطوى في الجملة هو بسبب عدم تحقق ما يوجبه الإيمان فيهم من ثقة ويقين وطاعة. وجملة :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ تدعم ذلك. كما تدعمه جملة :﴿ وقد أخذ ميثاقكم ﴾ من حيث إنها تعني ( أنكم بإيمانكم الأصلي بالله ورسوله قد أعطيتم ميثاقا بالتحقيق بما يوجبه هذا الإيمان ). وبهذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا يزول ما قد يورد من إشكال عليه صيغة الكلام. والله تعالى أعلم.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات إلا ما رواه البغوي عن الكلبي من أن الآية ( -١٠ ) نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ؛ لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد روى المفسر حديثا بطرقه عن ابن عمر قال :( كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل عليه جبريل فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح. قال : فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك : أراض أنت في فقرك أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أأسخط على ربي. إني عن ربي راض، إني عن ربي راض ) وفحوى الروايات لا يتضمن مناسبة خاصة لنزول الآية كما هو واضح. والحديث بعد لم يرد في الصحاح.
ومع عظم احترامنا للصديق رضي الله عنه وتضحياته واعتقادنا بأنه أهل لكل ثناء ورضاء ربانيين، فالذي نستلهمه من روح الآيات وفحواها أن ما احتوته الآية المذكورة يشمل أكثر من شخص واحد، وأنها تعني الطبقة السابقة إلى الإيمان والبذل من مهاجرين وأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة هذه :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ ( ١٠٠ ). ونرجح أنها نزلت في مناسبة موقف مرجح من المواقف التي كان يقفها بعض المسلمين المستجدين وخاصة بين مرضى القلوب، ويظهرون فيها ترددا في البذل في سبيل الله وتباطؤا في الجهاد، وتقصيرا في الإخلاص والطاعة والتفاني الواجب عليهم نحو الله ورسوله مما حكته آيات كثيرة في سور عديدة سابقة مثل آيات سورة البقرة ( ٢٦٤ – ٢٦٧ ) والنساء :( ٧١ – ٨٧ و ٩٠ – ١٠٠ و ١١٤ – ١١٥ و ١٤٠ – ١٤٧.................... } وآيات من هذه السورة تأتي بعد فأوحى الله تعالى فيه إلى نبيه بهذه الآيات لتحتوي ما احتوته من إنكار وتذكير وتنويه وعتاب وحث وتنديد وتنبيه بعد المقدمة السابقة التي احتوت ما احتوته من بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومطلق تصرفه في الكون بما في ذلك نفوس الناس وأموالهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال :( كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ) ( ١ )١. حيث ينطوي في هذا الحديث صورة ما من الصور التي شاءت حكمة التنزيل المقايسة بها بين الإنفاق والقتال قبل الفتح وبعده وتأييده لما قلناه. مع التنبيه على أننا ننزه خالد بن الوليد رضي الله عنه عن صفة النفاق ومرض القلب. وكل ما هناك أنه قد أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، وأن الموقف المروي عنه إن صح فإنه نتيجة جدته في الإسلام وحسب ( ٢ )٢. ولقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مسلما باختياره وعن قناعة ( ١ )٣. ورسخ في الإسلام مع الأيام حتى صار من أقوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا وإخلاصا وجهادا.
ومهما يكن من أمر، فإن الآيات احتوت صورا من صور السيرة النبوية في العهد المدني ولو لم تكن بارزة الخطوط، وإن أسلوبها ومضمونها وروحها معا تلهم أنها استهدفت تقرير تقصير المخاطبين وترددهم في الإخلاص التام في الإيمان والطاعة والاستجابة والإنفاق، وقصد التنديد بهم، والتنبيه على أنهم لا عذر لهم في ذلك، ولا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم يتلو عليهم آيات الله ويبلغهم وحيه. وقد احتوت أسلوبا من أساليب معالجة الموقف وتهذيب أخلاق المسلمين وتنقيتها وتطهيرها ودعوة قوية إلى الإنفاق والجهاد وتصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفناء فيه. كما احتوت في الوقت نفسه تنويها بالرعيل الأول السابقين وما كان منهم من تفان وإخلاص وتضحيات وبذل في أصعب الظروف وأخطر المواقف هو بمثابة تسجيل لذلك وأسباب لما قرره الله تعالى من رضائه عنهم في الآية ( ١٠٠ ) من سورة التوبة التي سبقت الإشارة إليها. ولقد احتوت الآيات التي أوردنا أرقامها قبل قليل وغيرها مثل آيات سورة البقرة ( ٢٠٤ – ٢٠٦ ) وآل عمران ( ١٣٨ – ١٦٨ ) والنور ( ٤٧ – ٤٥ ) والمجادلة ( ٨ – ٩ ) والصف ( ٢ – ٣ ) صورا أوضح يمكن أن تتضح بها تلك الصور. وجميعها قد مر تفسيرها وشرحها. وفي سورة التوبة آيات أخرى فيها مثل هذه الصور بل آيات فيها تصنيف رائع لواقع الجماعات الإسلامية في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين ( ١ )٤ عن التابعين من أهل التأويل في جملة :﴿ وقد أخذ ميثاقكم ﴾ حيث قال بعضهم : إنها تعني العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم، والذي ذكره في آية سورة الأعراف هذه :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا......................... ﴾ ( ١٧٢ ). وحيث قال بعضهم : إنها تعني ما أودع الله فيهم من عقول ونصب لهم من أدلة فصار كل عاقل راشد بمثابة معاهدة الله على الإيمان به بما وهبه من عقل ورشد، ومن هذه الأقوال ما ساقه بعض المفسرين قولا لهم ( ١ )٥.
ويتبادر لنا أن الأوجه أن تكون كما ذكرنا قبل في صدد تذكيرهم بمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام ؛ حيث يكونون بذلك قد أعطوا الله عز وجل ميثاقا على الإيمان والإخلاص والتضحية والبذل والجهاد والطاعة في المعروف. والله أعلم.
ومع أن هناك من قال : إن الفتح المذكور في الآية ( ١٠ ) هو فتح الحديبية – وقد سماه الله فتحا في سورة الفتح – فإن معظم أهل التأويل والمفسرين متفقون على أنه فتح مكة ( ٢ )٦. وحديث الإمام أحمد ثم حديث أبي سعيد اللذان نقلناهما عن ابن كثير مما يؤيد ذلك ؛ لأن خالد بن الوليد كان في يوم الحديبية مشركا محاربا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين. وهذا فضلا عن أن هناك وقائع عديدة بعد الحديبية قاتل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون وبذلوا جهودا ونفقات عظيمة في سبيلها، كما أن الزحف على مكة اقتضى حشدا كبيرا وجهدا بالغا ونفقات جسيمة ( ٣ )٧.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى كما هو المتبادر يثير في قلوب المسلمين في كل وقت الإخلاص واليقين. ويحفزهم إلى التضحية بالمال والنفس والتسابق في ذلك. وبخاصة في الأزمات والشدائد التي تكون مثل هذه التضحية فيها أشد لزاما. ولقد شاءت حكمة التنزيل مع ذلك أن تنوه بالذين يفعلون ذلك في غير الأزمات والشدائد أيضا ؛ حيث ينطوي في هذا تلقين بليغ بوجوب البذل والتضحية في كل وقت ومال واستحقاق من يفعل ذلك الحسنى من الله عز وجل.
وجملة :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ رائعة المدى في هتافها بأصحاب الأموال بأنهم ليسوا إلا وكلاء لله تعالى وخلفاءه فيها، وبأن عليهم أن يطيعوا الله مالكها الأصلي فينفقوا في سبيله على كل ما أمرهم الإنفاق عليه من نصرة دينه ومساعدة المحتاجين من خلقه. وهو هنا قد يجعل ولي أمر المؤمنين والمحتاجين من المسلمين أقوى صوتا في مطالبة أصحاب الأموال بالإنفاق في سبيل الله والمحتاجين.
١ روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أبي سعيد فيه شيء من ذلك قال: (كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) التاج ج ٣ ص ٢٧٢. ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد التمار (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، فقلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا هم أرق أفئة وألين قلوبا وأشار بيده إلى اليمن فقال: هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية، فقلنا: يا رسول الله هم خير منا. قال: والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل ذهب ينفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصفيه، ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال: ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) وروح الأحاديث يلهم أنها في صدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهناك أحاديث أخرى في فضلهم أيضا أوردناها في سياق سورة الفتح السابقة لهذه السورة. انظر التاج ج ٣ ص ٢٧٠ وما بعدها..
٢ مما رواه ابن هشام (ج ٣ ص ٣١٩) أن كلا من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد خرجا بعد قليل من صلح الحديبية يريد الوفود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدخول في الإسلام. وقد التقيا في الطريق فسأل عمرو خالدا إلى أين؟ فقال له: إلى المدينة فأسلم، فإن الرجل نبي وحتى متى؟ فقال له: وأنا كذلك قد خرجت لهذا. والمأثور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه سيف الله. انظر (أشهر مشاهير الإسلام ج ١ ص (١٤٩) تأليف رفيق العظيم)..
٣ انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي..
٥ انظر الكتب السابقة الذكر..
٦ انظر المصدر نفسه..
٧ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٥٢ وما بعدها..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧:﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( ٧ ) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٨ ) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٩ ) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ١٠ ) ﴾ ( ٧ – ١٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ......................... ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. والمستلهم من روحها وفحواها أنها موجهة إلى المؤمنين في الدرجة الأولى ثم إلى السامعين عامة. وقد تضمنت :
( ١ ) دعوة لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق من المال الذي جعلهم الله خلفاء ووكلاء عليه، فالذين يفعلون ذلك منهم لهم أجر من الله عظيم.
( ٢ ) وسؤالا استنكاريا على سبيل الحث والعتاب عما يمنعهم عن الإيمان بالله، ورسوله يدعوهم إلى ذلك، وهو قد أخذ قبل ذلك ميثاقا به إن كانوا حينما أعطوا هذا الميثاق مؤمنين حقا.
( ٣ ) وتنبيها على أن الله تعالى إنما ينزل على عبده النبي آياته ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وأنه إنما يفعل ذلك ؛ لأنه بهم رؤوف رحيم.
( ٤ ) وسؤالا استنكاريا آخر على سبيل الحث والعتاب أيضا عما يمنعهم عن إنفاق أموالهم في سبيل الله، في حين أن كل ما في السماوات والأرض هو ملك لله تعالى.
( ٥ ) وتقريرا على سبيل الحث والبيان بأن هناك فرقا عظيما بين الذين أنفقوا أموالهم وقاتلوا قبل الفتح وبين الذين فعلوا ذلك بعده، وبأن الأولين أعظم درجة وأجرا عند الله مع تقرير كون الآخرين أيضا موعودين من الله كالأولين بالأجر والحسنى على كل حال، وهو الذي يعلم علم كل ما يفعله الناس ويقدمونه بين يديهم.
ويتبادر لنا أن جملة :﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ هي في مقامها في معنى ( وما لكم لا تثقون ولا تتيقنون بما يأمركم الله، وتطيعونه فيه ) وليست تنديدا بعدم إيمانكم مبدئيا بالله ولا دعوة لهم إلى ذلك ؛ لأن الخطاب في الجملة والآيات عامة لأناس مؤمنين بالله ورسوله مبدئيا. فيكون العتاب الذي انطوى في الجملة هو بسبب عدم تحقق ما يوجبه الإيمان فيهم من ثقة ويقين وطاعة. وجملة :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ تدعم ذلك. كما تدعمه جملة :﴿ وقد أخذ ميثاقكم ﴾ من حيث إنها تعني ( أنكم بإيمانكم الأصلي بالله ورسوله قد أعطيتم ميثاقا بالتحقيق بما يوجبه هذا الإيمان ). وبهذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا يزول ما قد يورد من إشكال عليه صيغة الكلام. والله تعالى أعلم.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات إلا ما رواه البغوي عن الكلبي من أن الآية ( -١٠ ) نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ؛ لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد روى المفسر حديثا بطرقه عن ابن عمر قال :( كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل عليه جبريل فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح. قال : فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك : أراض أنت في فقرك أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أأسخط على ربي. إني عن ربي راض، إني عن ربي راض ) وفحوى الروايات لا يتضمن مناسبة خاصة لنزول الآية كما هو واضح. والحديث بعد لم يرد في الصحاح.
ومع عظم احترامنا للصديق رضي الله عنه وتضحياته واعتقادنا بأنه أهل لكل ثناء ورضاء ربانيين، فالذي نستلهمه من روح الآيات وفحواها أن ما احتوته الآية المذكورة يشمل أكثر من شخص واحد، وأنها تعني الطبقة السابقة إلى الإيمان والبذل من مهاجرين وأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة هذه :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ ( ١٠٠ ). ونرجح أنها نزلت في مناسبة موقف مرجح من المواقف التي كان يقفها بعض المسلمين المستجدين وخاصة بين مرضى القلوب، ويظهرون فيها ترددا في البذل في سبيل الله وتباطؤا في الجهاد، وتقصيرا في الإخلاص والطاعة والتفاني الواجب عليهم نحو الله ورسوله مما حكته آيات كثيرة في سور عديدة سابقة مثل آيات سورة البقرة ( ٢٦٤ – ٢٦٧ ) والنساء :( ٧١ – ٨٧ و ٩٠ – ١٠٠ و ١١٤ – ١١٥ و ١٤٠ – ١٤٧.................... } وآيات من هذه السورة تأتي بعد فأوحى الله تعالى فيه إلى نبيه بهذه الآيات لتحتوي ما احتوته من إنكار وتذكير وتنويه وعتاب وحث وتنديد وتنبيه بعد المقدمة السابقة التي احتوت ما احتوته من بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومطلق تصرفه في الكون بما في ذلك نفوس الناس وأموالهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال :( كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ) ( ١ )١. حيث ينطوي في هذا الحديث صورة ما من الصور التي شاءت حكمة التنزيل المقايسة بها بين الإنفاق والقتال قبل الفتح وبعده وتأييده لما قلناه. مع التنبيه على أننا ننزه خالد بن الوليد رضي الله عنه عن صفة النفاق ومرض القلب. وكل ما هناك أنه قد أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، وأن الموقف المروي عنه إن صح فإنه نتيجة جدته في الإسلام وحسب ( ٢ )٢. ولقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مسلما باختياره وعن قناعة ( ١ )٣. ورسخ في الإسلام مع الأيام حتى صار من أقوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا وإخلاصا وجهادا.
ومهما يكن من أمر، فإن الآيات احتوت صورا من صور السيرة النبوية في العهد المدني ولو لم تكن بارزة الخطوط، وإن أسلوبها ومضمونها وروحها معا تلهم أنها استهدفت تقرير تقصير المخاطبين وترددهم في الإخلاص التام في الإيمان والطاعة والاستجابة والإنفاق، وقصد التنديد بهم، والتنبيه على أنهم لا عذر لهم في ذلك، ولا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم يتلو عليهم آيات الله ويبلغهم وحيه. وقد احتوت أسلوبا من أساليب معالجة الموقف وتهذيب أخلاق المسلمين وتنقيتها وتطهيرها ودعوة قوية إلى الإنفاق والجهاد وتصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفناء فيه. كما احتوت في الوقت نفسه تنويها بالرعيل الأول السابقين وما كان منهم من تفان وإخلاص وتضحيات وبذل في أصعب الظروف وأخطر المواقف هو بمثابة تسجيل لذلك وأسباب لما قرره الله تعالى من رضائه عنهم في الآية ( ١٠٠ ) من سورة التوبة التي سبقت الإشارة إليها. ولقد احتوت الآيات التي أوردنا أرقامها قبل قليل وغيرها مثل آيات سورة البقرة ( ٢٠٤ – ٢٠٦ ) وآل عمران ( ١٣٨ – ١٦٨ ) والنور ( ٤٧ – ٤٥ ) والمجادلة ( ٨ – ٩ ) والصف ( ٢ – ٣ ) صورا أوضح يمكن أن تتضح بها تلك الصور. وجميعها قد مر تفسيرها وشرحها. وفي سورة التوبة آيات أخرى فيها مثل هذه الصور بل آيات فيها تصنيف رائع لواقع الجماعات الإسلامية في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين ( ١ )٤ عن التابعين من أهل التأويل في جملة :﴿ وقد أخذ ميثاقكم ﴾ حيث قال بعضهم : إنها تعني العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم، والذي ذكره في آية سورة الأعراف هذه :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا......................... ﴾ ( ١٧٢ ). وحيث قال بعضهم : إنها تعني ما أودع الله فيهم من عقول ونصب لهم من أدلة فصار كل عاقل راشد بمثابة معاهدة الله على الإيمان به بما وهبه من عقل ورشد، ومن هذه الأقوال ما ساقه بعض المفسرين قولا لهم ( ١ )٥.
ويتبادر لنا أن الأوجه أن تكون كما ذكرنا قبل في صدد تذكيرهم بمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام ؛ حيث يكونون بذلك قد أعطوا الله عز وجل ميثاقا على الإيمان والإخلاص والتضحية والبذل والجهاد والطاعة في المعروف. والله أعلم.
ومع أن هناك من قال : إن الفتح المذكور في الآية ( ١٠ ) هو فتح الحديبية – وقد سماه الله فتحا في سورة الفتح – فإن معظم أهل التأويل والمفسرين متفقون على أنه فتح مكة ( ٢ )٦. وحديث الإمام أحمد ثم حديث أبي سعيد اللذان نقلناهما عن ابن كثير مما يؤيد ذلك ؛ لأن خالد بن الوليد كان في يوم الحديبية مشركا محاربا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين. وهذا فضلا عن أن هناك وقائع عديدة بعد الحديبية قاتل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون وبذلوا جهودا ونفقات عظيمة في سبيلها، كما أن الزحف على مكة اقتضى حشدا كبيرا وجهدا بالغا ونفقات جسيمة ( ٣ )٧.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى كما هو المتبادر يثير في قلوب المسلمين في كل وقت الإخلاص واليقين. ويحفزهم إلى التضحية بالمال والنفس والتسابق في ذلك. وبخاصة في الأزمات والشدائد التي تكون مثل هذه التضحية فيها أشد لزاما. ولقد شاءت حكمة التنزيل مع ذلك أن تنوه بالذين يفعلون ذلك في غير الأزمات والشدائد أيضا ؛ حيث ينطوي في هذا تلقين بليغ بوجوب البذل والتضحية في كل وقت ومال واستحقاق من يفعل ذلك الحسنى من الله عز وجل.
وجملة :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ رائعة المدى في هتافها بأصحاب الأموال بأنهم ليسوا إلا وكلاء لله تعالى وخلفاءه فيها، وبأن عليهم أن يطيعوا الله مالكها الأصلي فينفقوا في سبيله على كل ما أمرهم الإنفاق عليه من نصرة دينه ومساعدة المحتاجين من خلقه. وهو هنا قد يجعل ولي أمر المؤمنين والمحتاجين من المسلمين أقوى صوتا في مطالبة أصحاب الأموال بالإنفاق في سبيل الله والمحتاجين.
١ روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أبي سعيد فيه شيء من ذلك قال: (كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) التاج ج ٣ ص ٢٧٢. ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد التمار (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، فقلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا هم أرق أفئة وألين قلوبا وأشار بيده إلى اليمن فقال: هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية، فقلنا: يا رسول الله هم خير منا. قال: والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل ذهب ينفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصفيه، ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال: ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) وروح الأحاديث يلهم أنها في صدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهناك أحاديث أخرى في فضلهم أيضا أوردناها في سياق سورة الفتح السابقة لهذه السورة. انظر التاج ج ٣ ص ٢٧٠ وما بعدها..
٢ مما رواه ابن هشام (ج ٣ ص ٣١٩) أن كلا من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد خرجا بعد قليل من صلح الحديبية يريد الوفود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدخول في الإسلام. وقد التقيا في الطريق فسأل عمرو خالدا إلى أين؟ فقال له: إلى المدينة فأسلم، فإن الرجل نبي وحتى متى؟ فقال له: وأنا كذلك قد خرجت لهذا. والمأثور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه سيف الله. انظر (أشهر مشاهير الإسلام ج ١ ص (١٤٩) تأليف رفيق العظيم)..
٣ انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي..
٥ انظر الكتب السابقة الذكر..
٦ انظر المصدر نفسه..
٧ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٥٢ وما بعدها..


استطراد إلى خبر فتح مكة وما جرى
في سياقه من أحداث وما كان له من أثر
والمناسبة سانحة للاستطراد إلى خبر فتح مكة فنقول : إن هذا الفتح الذي تم بعد سنين من صلح الحديبية على جلالة شأنه وخطورته لم يرد فيه في القرآن إلا الإشارة الخاطفة التي تقرر أنه كان واقعا في الآية ( ١٠ ) من هذه السورة ومثلها وفي مداها في سورة النصر. ثم إشارة تدل على أن مكة قد دخلت في حوزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وسلطانهم في آية سورة التوبة هذه :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ.................................. ﴾ ( ٣ ).
وهذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا............ ﴾ ( ٢٨ ). وكل ما يرد للبال في هذا الصدد أن حكمة التنزيل لم تر في هذا الفتح من مواضع العبرة والعظة والتعليم والتسكين والتنديد والتنويه ما يستلزم قرآنا، وهي المواضع التي استهدفتها الفصول التي أشير فيها إلى وقائع الجهاد والفتح على ما شرحناه في سياق وقائع بدر وأحد والأحزاب والحديبية وبني قريظة وبني النضير في سورة الأنفال وآل عمران والأحزاب والفتح والحشر.
وملخص ما ذكرته الروايات عن هذا الفتح ( ١ )١، أنه قد تم في الثلث الأخير من شهر رمضان من السنة الهجرية الثامنة، وأن السبب المباشر له نقض قبيلة بني بكر التي كانت داخلة في عهد قريش في ميثاق صلح الحديبية وغارتها على قبيلة بني خزاعة التي كانت داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وقتلها بعض أفرادها بمساعدة وتشجيع بعض القرشيين. وقد ذهب وفد خزاعي إلى المدينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وقع عليهم وناشدوه النصرة فوعدهم خيرا، وأدركت قريش أن عملها نقض للعهد، فسارع أبو سفيان إلى المدينة ليوثق العهد. فكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرد عليه فطلب من أبي بكر التوسط فأبى، ثم من عمر فأبى، ثم أتى علي بن أبي طالب وفاطمة فأبيا، فجاء إلى باب المسجد يائسا وهتف ( أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ) ثم عاد، ولما تم ما أراده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حشد وإعداد، زحف على رأس جيش بلغت عدته نحو عشرة آلاف من مسلمي المدينة والقبائل مثل أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم وفزارة. وكان الزحف لعشر ليال خلون من رمضان.
ولما أعلم المكيون بمسيره استنفروا حلفاءهم من هوازن وثقيف وبني بكر والأحابيش. ووصل زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة قبل أن يصل القسم الأقوى من الحلفاء أي هوازن وثقيف. فرأى أهل مكة أن لا قبل لهم بما جاءهم واستسلموا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكمه ولم يقع إلا اشتباك جزئي في ناحية من أنحاء مكة مع فريق من القوة الزاحفة وأسفر عن بعض القتلى، ولما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أرسل أمرا بالكف فكان، ولقد خرج أبو سفيان قبيل الإسلام ليتحسس الأخبار فلقي عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس، وكان قد أسلم وظل في مكة يكتم إسلامه بموافقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله : ما وراءك ؟ فقال له : هذا رسول الله في عشرة آلاف فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك. ثم قال له : أنت في جواري وأردفه وراءه، وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم على يديه. وكرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر مناديا ينادي :( من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ) كما أمر من ينادي :( من دخل الحرم فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهو آمن ). ولقد رأى أبو سفيان ما لا قبل له به وما لم يخطر بباله حتى لقد قال للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فأجابه : ويحك هي نبوة الله ونصره. وكان سعد بن عبادة أحد زعماء الخزرج من قواد بعض الأجنحة وحملة الرايات، فلما دخل مكة أخذ يهتف ( اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة ) فأخبر عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهتافه وقال له : ما نأمن أن تكون له في قريش صولة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا أن يدركه فيأخذ الراية منه فيكون هو الذي يدخل بها. ولما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة عمد توا إلى الكعبة فطهرها من الأصنام، وكان في جوفها وحولها نحو ٣٦٠ صنما، ووجد على جدرانها صورا لإبراهيم وهو يستقسم الأزلام، وصورا لعيسى والملائكة فأمر بطمسها. وفي ثاني يوم احتشد الناس حول الكعبة فخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم خطبة بدأها بقوله :( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ). ثم قال :( ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، يا معشر قريش : إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب. ﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ ( الحجرات : ١٣ ) يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم. فأجابوا : خير أخ كريم وابن أخ كريم فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ).
وأخذ أهل مكة يقبلون بعد ذلك على مبايعة النبي ويعلنون إسلامهم. وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد لهدم العزى وعمرو بن العاص لهدم سواع وسعيد ابن زيد لهدم مناة في أطراف مكة. وعدا خزاعي على مشرك من هذيل في أثناء ذلك، فقتله فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا فقال :( أيها الناس، إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد من بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار، ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا. ثم قال : يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد قتلتم قتيلا، ولسوف أؤدي ديته، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله ).
ولقد كان تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وموافقة في أثناء الفتح رائعة عظيمة استهدف بها تأنيس الناس بالإسلام وتوطيد كلمة الله وحرماته مع توطيد الأخوة والمساواة الإسلامية والإنسانية معا.
ولقد كان من بركات صلح الحديبية أن ازدادت قوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين واتسعت دائرة الإسلام، وتمكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خضد شوكة اليهود في مستعمراتهم خارج المدينة. ولقد كان ضعف قريش يزداد موازيا لازدياد قوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتساع دائرة الإسلام، فكان هذا الزحف العظيم الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بعد سنتين من ذلك الصلح، بعد أن زحفت قريش وحلفاؤها في السنة الخامسة على المدينة بزحف مماثل، فكان ما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الأحزاب التي أشير إليها في سورة الأحزاب.
ولقد انهدم بفتح مكة السد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام وبين سائر العرب فتدفق سيل وفودهم بعده على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب. ودخل معظم اليمن في دين الله وسلطانه بالإضافة إلى معظم شمال الجزيرة وشرقها وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس ثلاثين ألفا نحو مشارف الشام، فيما سمي في تاريخ السيرة بغزوة تبوك، فوطد هيبة السلطان الإسلامي في هذه المشارف، وأخذ الإسلام ينتشر بين قبائلها وكانت هذه الغزوة من خطوات حركة الفتح الكبرى التي تمت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد أخذ الأنصار يتساءلون عما إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وقد نصره الله على قريش ويسر له فتح مكة أم القرى – يعود ثانية إلى المدينة أم يبقى في مكة، ويتخذها مقرا له، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجمع زعمائهم وقال لهم :( معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم ) حيث سجل بهذا الموقف تقديره العظيم لما كان من نصرهم له وإيوائهم لأصحابه المهاجرين، ولما كان للهجرة إلى المدينة من بركات عظمى كان هذا الفتح من بعضها.
وقد عين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتى من فتيان مكة اسمه عتاب بن أسيد واليا. وكان في اختياره دون المسنين من رجال مكة الحكمة والسداد، وكان من بني أمية فأراد مع ذلك أن يتألف قلوبهم، ومن طريف ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين لهذا الوالي درهما كل يوم لنفقته فقام خطيبا وقال :( يا أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد ). ويبدو أن الفتى لم يكن من الأغنياء. ولعل هذا من أسباب اختياره.
ومما روته الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل أشخاص، ولو كانوا معلقين بستار الكعبة ؛ لما كان من شدة كفرهم وأذاهم. منهم عبد الله بن خطل الذي عدا على مولى له فقتله بدون حق ثم ارتد والتحق بالمشركين. والحويرث بن نقيذ الذي كان اعتدى على بنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما هاجرتا من مكة للالتحاق بأبيهما، فتحسس راحلتيهما وأسقطهما إلى الأرض.
ومقيس بن صبابة الذي قتل أنصاريا وارتد ولحق بالمشركين.
وعبد الله بن سعد أخا عثمان بن عفان في الرضاعة الذي كان كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فافترى على الله ورسوله وارتد ولحق بالمشركين وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل اللذان كانا شديدي الخصومة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة. وقد نفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالثلاثة الأولين. وشفع عثمان بن عفان بأخيه لدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : إنه ندم وعاد إلى الإسلام فقبل شفاعته ( ١ )٢. وفر صفوان وعكرمة من مكة فلم يظفر بهما واستشفع فيهما بعض المسلمين على أن يأتيا ويسلما، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة فجاءا وأسلما.
وروت الروايات فيما روت أن رجلين من بني مخزوم استجارا بأم هانئ عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأراد علي أن يقتلهما فأغلقت الباب، ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته. فقال : قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت، فجاء الرجلان وأسلما.
وفي الكتب الخمسة أحاديث ورد فيها شيء من ما روته الروايات من الأحداث والصور. في بعضها مغايرة لما جاء في الروايات وفي بعضها من صور أخرى. من ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس قال :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمة المدينة فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا ) ( ١ )٣. وحديث رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال :( لما سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح وبلغ قريشا خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال
١ انظر تفسير البغوي والطبرسي وابن كثير والخازن لسورة النصر وانظر سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٣ – ١٦٧ وابن سعد ج ٣ ص ١٨١ – ١٩٨ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٢٣ – ٣٤٤..
٢ مما روته الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صمت فترة بعد استشفاعه عثمان بأخيه، ثم قبل الشفاعة، وقال لمن حوله: لقد صمت ليقوم بعضكم فيضرب عنقه. فقال له رجل: هلا أومأت إلي يا رسول الله فقال له: إن النبي لا يقتل بالإشارة. فأوردنا الرواية والله أعلم بصحتهما..
٣ التاج ج ٤ ص ٣٨٣..
﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ١١ ) ﴾ ( ١١ ).
عبارة الآية واضحة. وليس هناك رواية خاصة بنزولها، ونرجح أنها نزلت مع الآيات السابقة لأن صلتها بها وثيقة، فإن لم تكن نزلت منها فيكون والله أعلم نزلت عقبها، والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. وبسبيل توكيد ما احتوته هذه الآيات من حث على البذل والهتاف بأصحاب الأموال بأن أموالهم وإن كانت هي لله وهم عليها خلفاء فإن الله تعالى ليعد بذلها قرض يقرضونه له يضاعف لهم عليه الأجر الكريم.
وفي هذا ما فيه من روعة وتلقين مستمر المدى، وقد تكرر فحوى الآية لتجدد المناسبات التي اقتضتها، وقد نبهنا على مداها في سياق تفسير سورة المزمل التي جاءت فيها لأول مرة بما يغني عن التكرار.
﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٢ ) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا ( ١ ) نَقْتَبِسْ ( ٢ ) مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( ١٣ ) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( ١٤ ) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٥ ) ﴾ ( ١٢ – ١٥ ).
في الآيات : حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة ؛ حيث يسعى النور بين يدي الأولين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم، وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم : ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر، ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين، وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين، وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا ؟ فيقولون لهم : نعم. ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور، وقد غرتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عز وجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله، فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه، وحيث قال لهم : إنه لن يؤخذ منكم ولا من الكافرين فدية ولن ينصركم ناصر، وستكون النار هي مثواكم ومولاكم وبئست هي من مثوى ومولى.
ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره : إن كلمة ﴿ وبأيمانهم ﴾ في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطي للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم : إنها مع كلمة ﴿ بين أيديهم ﴾ عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم، وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية، وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة.
ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكورة في الآية الثانية، وهو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود. وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة.
وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة. وهو الوجيه والصواب. والله أعلم.
تعليق على الآية :﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم........................ ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد. وكلمة :﴿ يوم ﴾ التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول : إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم.
وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد وتقريع وإنذار للمنافقين، وفيها قرائن على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة أنها بسبيل الإشارة إلى مواقف مزعجة من مرضى القلوب والمستجدين. ففي تلك الآيات تنديد وعتب وتعجب ونفي لعذر المترددين والمقصرين وفي هذه الآيات حكاية لما سوف يرد به على المنافقين حينما يستغيثون بالمؤمنين ويعتبون عليهم لتخليهم عنهم.
والرد قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى، فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات. فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة، فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة.
وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنية سابقة. ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة. وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل : يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك ؟ فقال : أعرفهم محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ) والحديث لم يرد في الصحاح. وإذا صح فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح العمل لإحراز خير الدرجات عند الله في الآخرة.
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ) وروي أن عبد الله بن مسعود قال :( يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى ) وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح. فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم، وقد انطويا على حث على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا.
ولقد جاء في الآية ( ٨ ) من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة متشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم :﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ( ٨ ) ﴾ وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء، وإنما بشرى بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار..
وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان. والله تعالى أعلم.
( ١ ) انظرونا : بمعنى انتظرونا.
( ٢ ) نقتبس : نأخذ قبسا من نوركم نشعل به مشاعلنا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٢ ) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا ( ١ ) نَقْتَبِسْ ( ٢ ) مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( ١٣ ) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( ١٤ ) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٥ ) ﴾ ( ١٢ – ١٥ ).
في الآيات : حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة ؛ حيث يسعى النور بين يدي الأولين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم، وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم : ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر، ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين، وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين، وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا ؟ فيقولون لهم : نعم. ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور، وقد غرتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عز وجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله، فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه، وحيث قال لهم : إنه لن يؤخذ منكم ولا من الكافرين فدية ولن ينصركم ناصر، وستكون النار هي مثواكم ومولاكم وبئست هي من مثوى ومولى.
ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره : إن كلمة ﴿ وبأيمانهم ﴾ في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطي للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم : إنها مع كلمة ﴿ بين أيديهم ﴾ عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم، وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية، وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة.
ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكورة في الآية الثانية، وهو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود. وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة.
وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة. وهو الوجيه والصواب. والله أعلم.
تعليق على الآية :﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم........................ ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد. وكلمة :﴿ يوم ﴾ التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول : إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم.
وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد وتقريع وإنذار للمنافقين، وفيها قرائن على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة أنها بسبيل الإشارة إلى مواقف مزعجة من مرضى القلوب والمستجدين. ففي تلك الآيات تنديد وعتب وتعجب ونفي لعذر المترددين والمقصرين وفي هذه الآيات حكاية لما سوف يرد به على المنافقين حينما يستغيثون بالمؤمنين ويعتبون عليهم لتخليهم عنهم.
والرد قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى، فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات. فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة، فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة.
وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنية سابقة. ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة. وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل : يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك ؟ فقال : أعرفهم محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ) والحديث لم يرد في الصحاح. وإذا صح فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح العمل لإحراز خير الدرجات عند الله في الآخرة.
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ) وروي أن عبد الله بن مسعود قال :( يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى ) وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح. فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم، وقد انطويا على حث على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا.
ولقد جاء في الآية ( ٨ ) من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة متشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم :﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ( ٨ ) ﴾ وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء، وإنما بشرى بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار..
وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان. والله تعالى أعلم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٢ ) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا ( ١ ) نَقْتَبِسْ ( ٢ ) مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( ١٣ ) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( ١٤ ) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٥ ) ﴾ ( ١٢ – ١٥ ).
في الآيات : حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة ؛ حيث يسعى النور بين يدي الأولين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم، وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم : ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر، ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين، وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين، وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا ؟ فيقولون لهم : نعم. ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور، وقد غرتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عز وجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله، فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه، وحيث قال لهم : إنه لن يؤخذ منكم ولا من الكافرين فدية ولن ينصركم ناصر، وستكون النار هي مثواكم ومولاكم وبئست هي من مثوى ومولى.
ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره : إن كلمة ﴿ وبأيمانهم ﴾ في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطي للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم : إنها مع كلمة ﴿ بين أيديهم ﴾ عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم، وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية، وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة.
ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكورة في الآية الثانية، وهو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود. وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة.
وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة. وهو الوجيه والصواب. والله أعلم.
تعليق على الآية :﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم........................ ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد. وكلمة :﴿ يوم ﴾ التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول : إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم.
وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد وتقريع وإنذار للمنافقين، وفيها قرائن على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة أنها بسبيل الإشارة إلى مواقف مزعجة من مرضى القلوب والمستجدين. ففي تلك الآيات تنديد وعتب وتعجب ونفي لعذر المترددين والمقصرين وفي هذه الآيات حكاية لما سوف يرد به على المنافقين حينما يستغيثون بالمؤمنين ويعتبون عليهم لتخليهم عنهم.
والرد قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى، فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات. فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة، فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة.
وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنية سابقة. ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة. وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل : يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك ؟ فقال : أعرفهم محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ) والحديث لم يرد في الصحاح. وإذا صح فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح العمل لإحراز خير الدرجات عند الله في الآخرة.
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ) وروي أن عبد الله بن مسعود قال :( يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى ) وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح. فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم، وقد انطويا على حث على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا.
ولقد جاء في الآية ( ٨ ) من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة متشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم :﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ( ٨ ) ﴾ وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء، وإنما بشرى بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار..
وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان. والله تعالى أعلم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٢ ) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا ( ١ ) نَقْتَبِسْ ( ٢ ) مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( ١٣ ) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( ١٤ ) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٥ ) ﴾ ( ١٢ – ١٥ ).
في الآيات : حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة ؛ حيث يسعى النور بين يدي الأولين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم، وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم : ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر، ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين، وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين، وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا ؟ فيقولون لهم : نعم. ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور، وقد غرتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عز وجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله، فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه، وحيث قال لهم : إنه لن يؤخذ منكم ولا من الكافرين فدية ولن ينصركم ناصر، وستكون النار هي مثواكم ومولاكم وبئست هي من مثوى ومولى.
ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره : إن كلمة ﴿ وبأيمانهم ﴾ في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطي للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم : إنها مع كلمة ﴿ بين أيديهم ﴾ عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم، وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية، وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة.
ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكورة في الآية الثانية، وهو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود. وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة.
وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة. وهو الوجيه والصواب. والله أعلم.
تعليق على الآية :﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم........................ ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد. وكلمة :﴿ يوم ﴾ التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول : إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم.
وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد وتقريع وإنذار للمنافقين، وفيها قرائن على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة أنها بسبيل الإشارة إلى مواقف مزعجة من مرضى القلوب والمستجدين. ففي تلك الآيات تنديد وعتب وتعجب ونفي لعذر المترددين والمقصرين وفي هذه الآيات حكاية لما سوف يرد به على المنافقين حينما يستغيثون بالمؤمنين ويعتبون عليهم لتخليهم عنهم.
والرد قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى، فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات. فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة، فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة.
وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنية سابقة. ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة. وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل : يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك ؟ فقال : أعرفهم محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ) والحديث لم يرد في الصحاح. وإذا صح فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح العمل لإحراز خير الدرجات عند الله في الآخرة.
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ) وروي أن عبد الله بن مسعود قال :( يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى ) وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح. فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم، وقد انطويا على حث على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا.
ولقد جاء في الآية ( ٨ ) من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة متشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم :﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ( ٨ ) ﴾ وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء، وإنما بشرى بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار..
وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان. والله تعالى أعلم.

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( ١٦ ).
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت سؤالا استنكاريا ينطوي على معنى التنديد عما إذا كان لم يحن الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله ويخضعون للحق الذي أنزله الله على رسوله. وأن يحذروا من أن يكونوا كمن سبقهم من أهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن فانحرف كثير منهم عن جادة الحق وتمردوا على أوامر الله تعالى وكانوا فاسقين.
تعليق على الآية :
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ..................... ﴾ الخ.
وما فيها من تلقين وعظة
لم يرو الطبري روايات خاصة في سبب نزول هذه الآية. ولكن البغوي روى ثلاث روايات ( ١ )١. واحدة عن الكلبي تذكر أن الآية الأولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي أن يحدثهم عما في التوراة من عجائب فأنزل الله :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ ( يوسف : ٣ ) فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابيا متشابها مثاني ﴾ ( الزمر : ٢٣ ) فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ ( الحديد : ١٦ ). وثانيا معزوة إلى ابن مسعود تذكر أنه قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين ( ٢ )٢. وثالثة معزوة إلى ابن عباس تذكر أنه قال : إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
والروايات الثلاث غريبة. فالأولى تذكر أن الآية في حق المنافقين في المدينة، ثم تذكر نزول آيتين في مناسبة نزولها ونزولهما قبلها في المدينة أيضا. الآيتان من سورتين مكيتين وأولاهما الآية ( ٣ ) من سورة يوسف وثانيهما الآية ( ٢٣ ) من سورة الزمر ( ١ )٣. والرواية الثانية تقتضي أن تكون الآية مكية لأن عبد الله بن مسعود أسلم في بدء الدعوة في مكة. والعهد المكي استمر ثلاث عشرة سنة. والآية مدنية في سياق مدني الطابع والمدى. وهذا فضلا عما كان عليه الرعيل الأول في مكة الذين منهم ابن مسعود من استغراق في ذكر الله تعالى وعبادته وإيمان شديد بما أنزل الله. كما وصفتهم آيات مكية عديدة مثل آيات سورة الذاريات ( ١٧ – ١٩ ) وسورة المعارج ( ٢٢ – ٣٥ ) وسورة الزمر ( ٢٣ ) وسورة الفرقان ( ٦٣ – ٦٤ ) وسورة المؤمنون ( ١ – ١٠ ) وسورة الرعد ( ٢٠- ٢٤ ). والرواية الثالثة تقتضي أن تكون نزلت في السنة الأولى بعد الهجرة. وباستثناء المنافقين فقد كان المؤمنون مخلصين كل الإخلاص ومستغرقين كل الاستغراق، ولم يكن مضى على المنافقين مدة تتحمل مخاطبتهم بالأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها. فالآيات السابقة مباشرة انطوت على مقايسة بين حالة المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة، وتنديد ضمني بالمنافقين المرتابين المتربصين المغترين بالأماني وإنذار لهم. والآيات التي قبل هذه الآيات انطوت على عتاب لبعض المسلمين على عدم قوة إخلاصهم ويقينهم وعدم إنفقاهم في سبيل الله. وتساؤل عمن يقرض الله فيضاعف له الأجر، فجاءت هذه الآيات تهتف بالفريق المقصر المرتاب المتباخل عما إذا لم يحن وقت إخلاصه وخشوع قلبه لذكر الله وما أنزل من الحق حتى لا يكون كأهل الكتاب الذي قست قلوبهم بمرور الزمن مع توكيد التنويه بالفريق المخلص المتفاني.
وترتيب السورة وذكرها الفتح يعنيان أنها نزلت في السنة الهجرية الثامنة أو التاسعة، وأن معظم القرآن كان قد نزل. وهذا وقت يتحمل ذلك الهتاف بالنسبة للمقصرين المرتابين الواقفين مواقف غير مستحبة من الذين عاهدوا الله ورسوله على الإسلام مما حكته الآيات الكثيرة التي نزلت قبلها والتي أوردنا أرقامها وسورها قبل قليل. ولقد ذكرنا في ذيل الصفحة السابقة أن الرواية الثانية من مرويات مسلم عن ابن مسعود. وأحاديث مسلم من الصحاح. ولكن هذا ليس من شأنه أن يمنع الاستبعاد والاستغراب بل والشك أيضا.
هذا، وتحذير المؤمنين في الآية الأولى من أن يكونوا كأهل الكتاب مستمد على ما هو المتبادر من واقع أهل الكتاب بانحرافهم ونزاعهم وتحريفهم لكتب الله وبعدهم وتمردهم عن أوامر الله وشرائعه ونسيانهم كثيرا مما أنزل الله على أنبيائهم مما حكته آيات كثيرة في سور المائدة والنساء وآل عمران والبقرة.
وهو تحذير مستحكم ؛ لأن هذا الواقع كان تحت نظر المسلمين ومشاهداتهم ومسموعاتهم وكان موضع انتقادهم، بل موضع انتقاد العرب قبل الإسلام على ما انطوى في بعض الآيات منها آية فاطر هذه :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ﴾ ( ٤٢ ). وآية الأنعام :﴿ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾ ( ١٥٧ ).
ومع ما لمحناه من خصوصية الظرف الذي نزلت فيه الآية وصلتها بأحوال بعض فئات المسلمين في العهد النبوي المدني، فإن الهتاف الذي فيها يظل واردا داويا مستمر المدى موجها إلى جميع المسلمين في كل ظرف ومكان كلما انحرفوا أو انحرفت منهم فئة عن كتاب الله وسنة رسوله. مذكرا إياهم بما فيهما من المثال الذي يشاهدونه من أهل الكتاب الذين ظلموا منحرفين عن رسالات رسلهم وكتب الله المنزلة عليهم. مهيبا بهم ألا يكونوا مثلهم لئلا تفسد قلوبهم وأن يخشعوا لذكر الله وما أنزل الله على رسوله من الحق وما صدر عن رسول الله من الحكمة ليكون في ذلك هدى لهم إلى سبيل الخير والسعادة والنجاح في الدنيا والآخرة.
١ أورد الخازن وابن كثير والطبرسي هذه الروايات أيضا. وهو متأخرون عن البغوي بمدة طويلة..
٢ هذا الحديث من مرويات مسلم في فصل التفسير انظر التاج ج ٤ ص ٢٢٧..
٣ روى المصحف الذي اعتمدناه أن آية سورة يوسف مدنية. وقد فندنا الرواية في سياق تفسير سورة يوسف. وليس هناك خلاف في مكية آية الزمر..
﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ١٧ ) ﴾ ( ١٧ ).
عبارة الآية واضحة. وقد وجه الخطاب فيها إلى مخاطبين قريبين لتلفت نظرهم إلى قدرة الله تعالى على إحياء الأرض حتى بعد موتها. وتنبههم إلى أنه تعالى إنما يضرب لهم الأمثال في آيات لعلهم يدركون مغزاها ومرماها وينتفعون من عبرها ومواعظها.
ولا يروي المفسرون في نزول الآية رواية خاصة. والراجح أن الخطاب فيها موجه إلى المخاطبين في الآيات التي قبلها وهم المؤمنون وأنها متصلة بهذه الآيات.
ولقد قال الزمخشري في تأويلها : قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وإنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض. وروى الخازن عن ابن عباس في تأويلها قوله : إن الله يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها لينة محببة ويحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة كما هو شأن المطر بالنسبة للأرض. وشيء من هذا قاله مفسرون آخرون. والمتبادر على ضوء هذا التأويل الوجيه أن في الآية معنى تعقيبيا على الآية السابقة لها مباشرة يهدف إلى فتح الأمل في الذين أوشكوا أن تقسو قلوبهم كما قست قلوب أهل الكفار من قبلهم برحمة الله ليتلاقوا أمرهم بارعواء عن غفلتهم والاتعاظ بما أنزل الله لهم من الآيات البينات المبينات.
( ١ ) المصدقين والمصدقات : المتصدقين والمتصدقات.
﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ( ١ ) وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ١٨ ) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ( ٢ ) وَالشُّهَدَاء ( ٣ ) عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١٩ ) ﴾ ( ١٨ – ١٩ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ....... ﴾ الخ
والآية التي بعدها
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها بالمتصدقين والمتصدقات الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله ويقرضونه قرضا حسنا ووعدا بالأجر المضاعف الكريم لهم عند الله، ثم تنويها بالذين آمنوا بالله ورسوله ؛ حيث يستحقون بذلك اسم ( الصديقين ) وبالشهداء في سبيله الذين لهم الأجر والنور عند الله، في حين تكون الجحيم عقابا ومصيرا للكافرين المكذبين.
ولا يروي المفسرون رواية في نزولها فيما اطلعنا عليه. وقد رأينا البغوي يروي عن الضحاك أحد علماء التابعين أن الآية الأولى عنت ثمانية نفر من الأمة سبقوا أهل الأرض في الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة، وإن لهم تاسعا ألحقه الله بهم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا.
ومع الاحترام العظيم للتسعة فإنه يلحظ أن هناك عددا غير يسير من الرجال والنساء قد أسلموا وصدقوا وتعرضوا للأذى قبل حمزة وعمر. منهم خديجة أم المؤمنين وعبد الرحمن بن عوف وفاطمة بنت الخطاب وعبد الله بن مسعود وخباب وعمار وأبو سلمة وزوجته وأبو عبيدة وغيرهم وغيرهم. والآيات إلى هذا منسجمة مع بعضها وبسبيل التنويه والبشرى للفئات الثلاث مع الإنذار للكافرين والمكذبين بصورة عامة. ومثل هذا التخصيص لا يؤخذ به إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس هناك حديث وثيق بذلك.
والآيتان على كل حال تنطويان على صورة رائعة لفريق من الرجال والنساء السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله الذين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا في سبيل الله بإخلاص وفناء واستغراق. ولعل حكمة التنزيل استهدفت بهما الاستدراك على ما تضمنته الآيات السابقة من صور غير مستحبة لفريق من المسلمين استحقوا ذلك الهتاف والعتاب على ما شرحناه آنفا ؛ لتقرر أن هناك فريقا من المسلمين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا وأخلصوا وفنوا في سبيل الله ودينه وطاعة رسوله.
( ٢ ) الصديقون : هناك من قال : إن الكلمة تعني لغويا كثيري الصدق والتصديق، وأنها عنت السابقين الأولين لكثرة وشدة تصديقهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد وصف مريم بالصديقة في آية سورة المائدة ( ٧٥ ) وجاءت كلمة الصديقين في آية سورة النساء هذه :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ ( ٦٩ ). وقد تكون الكلمة تعني طبقة استغرقت في طاعة الله فصارت ذات حظوة عنده بعد النبيين. ومع ذلك فمجيئها بعد جملة :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله ﴾ تعني أن المخلصين من هؤلاء هم الصديقون.
( ٣ ) الشهداء : هناك من قال إن الكلمة عنت الذين قتلوا في سبيل الله. وهناك من قال : إنها عنت الأنبياء والملائكة الذين يشهدون على الناس يوم القيامة. وهناك من قرأ :﴿ الصديقون والشهداء ﴾ كجملة واحدة وقال : إنها تفيد أن كل مؤمن مخلص صديق شهيد. وهناك من قال : إن كلا منهما تعني فئة غير الأخرى وقد رجح الطبري هذا، وترجيحه وجيه. ونرجح إلى هذا أنها عنت الذين قتلوا في سبيل الله.
﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ( ١ ) وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ١٨ ) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ( ٢ ) وَالشُّهَدَاء ( ٣ ) عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١٩ ) ﴾ ( ١٨ – ١٩ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ....... ﴾ الخ
والآية التي بعدها
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها بالمتصدقين والمتصدقات الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله ويقرضونه قرضا حسنا ووعدا بالأجر المضاعف الكريم لهم عند الله، ثم تنويها بالذين آمنوا بالله ورسوله ؛ حيث يستحقون بذلك اسم ( الصديقين ) وبالشهداء في سبيله الذين لهم الأجر والنور عند الله، في حين تكون الجحيم عقابا ومصيرا للكافرين المكذبين.
ولا يروي المفسرون رواية في نزولها فيما اطلعنا عليه. وقد رأينا البغوي يروي عن الضحاك أحد علماء التابعين أن الآية الأولى عنت ثمانية نفر من الأمة سبقوا أهل الأرض في الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة، وإن لهم تاسعا ألحقه الله بهم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا.
ومع الاحترام العظيم للتسعة فإنه يلحظ أن هناك عددا غير يسير من الرجال والنساء قد أسلموا وصدقوا وتعرضوا للأذى قبل حمزة وعمر. منهم خديجة أم المؤمنين وعبد الرحمن بن عوف وفاطمة بنت الخطاب وعبد الله بن مسعود وخباب وعمار وأبو سلمة وزوجته وأبو عبيدة وغيرهم وغيرهم. والآيات إلى هذا منسجمة مع بعضها وبسبيل التنويه والبشرى للفئات الثلاث مع الإنذار للكافرين والمكذبين بصورة عامة. ومثل هذا التخصيص لا يؤخذ به إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس هناك حديث وثيق بذلك.
والآيتان على كل حال تنطويان على صورة رائعة لفريق من الرجال والنساء السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله الذين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا في سبيل الله بإخلاص وفناء واستغراق. ولعل حكمة التنزيل استهدفت بهما الاستدراك على ما تضمنته الآيات السابقة من صور غير مستحبة لفريق من المسلمين استحقوا ذلك الهتاف والعتاب على ما شرحناه آنفا ؛ لتقرر أن هناك فريقا من المسلمين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا وأخلصوا وفنوا في سبيل الله ودينه وطاعة رسوله.
( ١ ) الكفار : هنا بمعنى الزراع. ومن معاني كفر الأصلية : ستر وغطى، والزارع يستر بذره ويغطيه.
( ٢ ) حطاما : مكسرا مهشما من اليبس بعد الاصفرار.
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ ( ١ ) نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ( ٢ ) وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( ٢٠ ) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ٢١ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢١ ).
عبارة الآيتين واضحة كذلك. وقد تضمنتا :
( ١ ) وصفا تقريرا للحياة الدنيا بالنسبة للبشر بكونها لعبا ولهوا وزينة وموضوع تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد.
( ٢ ) تمثل كذلك في حقيقته ونهايته كالماء الذي ينزل إلى الأرض فينبت به نبات رائع يسر به الزراع ثم يتعاظم، ولكنه لا يلبث أن يصفر ويغدو حطاما مهشما.
( ٣ ) وتقريرا تنبيهيا آخر ينطوي على الأمر الجد، وهو أمر الآخرة حيث يلقى الناس فيها مصائرهم إما عذابا شديدا وإما غفرانا من الله ورضوانا، وحينئذ يدركون أن الحياة الدنيا لم تكن إلا متاعا قصير الأمد، خداع المظهر.
( ٤ ) ودعوة تعقيبية على ذلك التقرير موجهة إلى المخاطبين بأن يسارعوا – والحالة هذه – إلى اصطناع الأسباب إلى غفران الله ورضوانه وجنة عرضها كعرض السماء والأرض قد هيئت للذين يؤمنون بالله ورسله. وهذا من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

تعليق الآية :

﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ............... ﴾ الخ.
والآية التالية لها وما فيها من تلقين
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان أيضا بالآيات السابقة سياقا وهدفا، وأن المخاطبين فيهما هم المسلمون. وظاهر من فحواهما وروحهما أنهما بسبيل الموعظة والحث على التسابق إلى نيل رضاء الله عز وجل بالبذل والإخلاص. والكف عن التقصير والتردد اللذين ندد بهما في الآيات السابقة.
ومع ما يلحظ من صلة الآيتين بالموقف الراهن في العهد النبوي حين نزولهما، فإن إطلاق العبارة والنداء فيهما يجعلهما خطابا مستمر المدى لكل الناس ولكل المسلمين بخاصة في كل ظرف ومكان ليكون لهم بما فيهما من عظة وحث وإيجاب للكف عن التقصير والتردد في الإخلاص والبذل والاستغراق في دين الله والطاعة لله ولرسوله، أكثر وأشد من الاستغراق في متع الحياة وزينتها والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد.
ولقد تكرر تمثيل الحياة الدنيا بهذا الأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى في مواضع سابقة. وجاء هنا في معرض التنديد بالمقصرين والمترددين في الإخلاص والبذل كما جاء في المواضع السابقة في معرض الدعوة إلى الله، وعدم التصامم عنها ركونا إلى ما يتمتع به المدعوون من جاه ومال وقوة دنيوية. ونقول هنا ما قلناه في صدد المناسبات السابقة : إن الآيات ليست في صدد التزهيد في الدنيا وطيباتها والكسب والمال والولد. وكل ما في الأمر أن فيها تنبيها على عدم ميل المرء إلى الدنيا وجعل أعراضها أكبر همه وقصارى آماله. وعلى عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله ونحو الناس. ويجعله يغفل عن الآخرة وحسابها وهي دار الخلود في حين أن أمد الحياة الدنيا قصير جدا بالنسبة لكل إنسان يعيش فيها. والأسلوب بهذا البيان علاج روحاني شاف يفيد الإنسان في جميع ظروفه وبخاصة حينما تطغى المادة على الروح وتطغي أغراض الدنيا الغرارة مثل الإنسانية العليا وتقسي القلوب وتنزع منها خشية الله تعالى.
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ ( ١ ) نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ( ٢ ) وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( ٢٠ ) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ٢١ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢١ ).
عبارة الآيتين واضحة كذلك. وقد تضمنتا :
( ١ ) وصفا تقريرا للحياة الدنيا بالنسبة للبشر بكونها لعبا ولهوا وزينة وموضوع تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد.
( ٢ ) تمثل كذلك في حقيقته ونهايته كالماء الذي ينزل إلى الأرض فينبت به نبات رائع يسر به الزراع ثم يتعاظم، ولكنه لا يلبث أن يصفر ويغدو حطاما مهشما.
( ٣ ) وتقريرا تنبيهيا آخر ينطوي على الأمر الجد، وهو أمر الآخرة حيث يلقى الناس فيها مصائرهم إما عذابا شديدا وإما غفرانا من الله ورضوانا، وحينئذ يدركون أن الحياة الدنيا لم تكن إلا متاعا قصير الأمد، خداع المظهر.
( ٤ ) ودعوة تعقيبية على ذلك التقرير موجهة إلى المخاطبين بأن يسارعوا – والحالة هذه – إلى اصطناع الأسباب إلى غفران الله ورضوانه وجنة عرضها كعرض السماء والأرض قد هيئت للذين يؤمنون بالله ورسله. وهذا من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

تعليق الآية :

﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ............... ﴾ الخ.
والآية التالية لها وما فيها من تلقين
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان أيضا بالآيات السابقة سياقا وهدفا، وأن المخاطبين فيهما هم المسلمون. وظاهر من فحواهما وروحهما أنهما بسبيل الموعظة والحث على التسابق إلى نيل رضاء الله عز وجل بالبذل والإخلاص. والكف عن التقصير والتردد اللذين ندد بهما في الآيات السابقة.
ومع ما يلحظ من صلة الآيتين بالموقف الراهن في العهد النبوي حين نزولهما، فإن إطلاق العبارة والنداء فيهما يجعلهما خطابا مستمر المدى لكل الناس ولكل المسلمين بخاصة في كل ظرف ومكان ليكون لهم بما فيهما من عظة وحث وإيجاب للكف عن التقصير والتردد في الإخلاص والبذل والاستغراق في دين الله والطاعة لله ولرسوله، أكثر وأشد من الاستغراق في متع الحياة وزينتها والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد.
ولقد تكرر تمثيل الحياة الدنيا بهذا الأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى في مواضع سابقة. وجاء هنا في معرض التنديد بالمقصرين والمترددين في الإخلاص والبذل كما جاء في المواضع السابقة في معرض الدعوة إلى الله، وعدم التصامم عنها ركونا إلى ما يتمتع به المدعوون من جاه ومال وقوة دنيوية. ونقول هنا ما قلناه في صدد المناسبات السابقة : إن الآيات ليست في صدد التزهيد في الدنيا وطيباتها والكسب والمال والولد. وكل ما في الأمر أن فيها تنبيها على عدم ميل المرء إلى الدنيا وجعل أعراضها أكبر همه وقصارى آماله. وعلى عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله ونحو الناس. ويجعله يغفل عن الآخرة وحسابها وهي دار الخلود في حين أن أمد الحياة الدنيا قصير جدا بالنسبة لكل إنسان يعيش فيها. والأسلوب بهذا البيان علاج روحاني شاف يفيد الإنسان في جميع ظروفه وبخاصة حينما تطغى المادة على الروح وتطغي أغراض الدنيا الغرارة مثل الإنسانية العليا وتقسي القلوب وتنزع منها خشية الله تعالى.
( ١ ) من قبل أن نبرأها : من قبل أن نخلقها. ومن المؤولين من جعل الضمير عائدا إلى النفس والأرض، ومنهم من جعله عائدا إلى المصيبة. وضمير المفرد قد يجعل عودته إلى المصيبة أوجه.
﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( ١ ) إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( ٢٢ ) لِكَيْلَا تَأْسَوْا ( ٢ ) عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( ٢٣ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٢٤ ) ﴾ ( ٢٢ – ٢٤ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير وجه الخطاب فيه إلى مخاطبين قريبين بأن كل ما يقع على الأرض وما يصيب نفوس الناس من مصيبة هو في كتاب عند الله مكتوب قبل وقوعها. وهذا من الأمور اليسيرة على الله عز وجل المتسقة مع شمول قدرته وعلمه.
( ٢ ) وتقرير آخر بأن الله تعالى يبين لهم هذه الحقيقة حتى لا يداخلهم الحزن والأسى مما يفوتهم من خيرات ولا يبطرهم الفرح بما ينالونه من خيرات. مع التنبيه إلى أن الله تعالى لا يحب المتكبرين المتفاخرين المزهوين بما قد يحرزونه من خير ثم يبخلون عن البذل ويحرضون غيرهم على احتذاء حذوهم، وبأنه غني عن الذين يعرضون عن استجابة أوامره، حميد شاكر لمن يستجيب إليها.

تعليق على الآية :

﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا.......................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وتعقيبا، وأن الخطاب فيها موجه بدوره إلى المسلمين موضوع الخطاب السابق. وهي بنوع خاص على ما تلهمه روحها بسبيل تقرير كون ما يحرزه الناس من خير وسعة رزق هو من فضل الله تعالى وليس لهم فضل فيه يبرر لهم الاغترار والتبجح والزهو والبخل به عن المحتاجين وسبيل الله. وكونهم غير قادرين على منع ضياعه وتلفه، فلا موجب للبخل فيه والتقصير في واجب شكر الله عليه. وقد تلمح من هنا صلة قوية بين أهداف هذه الآيات والآيات التي ندد فيها قبل ببعض الصور غير المستحبة وبخاصة الضن بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله. في حين أن المال الذي في أيدي الناس هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه وحسب.
وروح الآيات وفحواها يلهمان أن المصيبة المذكورة فيها هي من نوع ما ليس في مقدور الناس جلبه أو دفعه. ومعظم المفسرين أداروا الكلام عليها في هذا النطاق بحيث يصح القول : إنها لا صلة لها بما يصدر من الناس من أعمال يثابون ويعاقبون عليها في الدنيا والآخرة.
ويلمح في الآيات صفات أخرى من صفات المنافقين المرتابين المترددين المتربصين الذين كانوا موضوع الحملة والتنديد في الآيات السابقة أريد التنويه بها والتحذير منها، وهي الاختيال على الناس والكبر والغرور بما حازوه، والبخل به وأمر الناس بالبخل. وهذا يفعله البخلاء في الغالب لتبرير بخلهم.
وواضح أن في الآيات تلقينات مستمرة المدى تمد المسلم في كل ظرف بالثقة بالله والتسليم له والصبر على ما يصيبه من بلاء وعدم الجزع والأسى والشكر على ما يناله من خير وعدم الزهو والبطر والغرور به وعدم الخوف من عواقب البذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين وعدم الارتكاس في رذيلة الحض على البخل ومنع الخير عن الغير في أي حال.
وقد تكررت الآيات القرآنية التي احتوت هذه التلقينات في القرآن المكي والقرآن المدني معا ؛ حيث يبدو من ذلك التساوق في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها وإسلام النفس إلى الله في كل حال وظرف. واستهداف تربية المسلم والتسامي به إلى أوج الكمال النفساني والأخلاقي.
وقد أورد المفسرون أحاديث نبوية في سياق هذه الآيات بالتنديد بالبخل والاختيال والكبر والتفاخر. ولقد أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق سور الليل ولقمان والإسراء والنساء ( ١ )١، التي ورد فيها التنديد بهذه الأخلاق البغيضة ونبهنا على ما فيها من تساوق مع التلقين القرآني فنكتفي بهذه الإشارة.
هذا، ولما كانت الآيات قد جاءت بسبيل التسكين والتحذير في ظروف خاصة على ما شرحناه استلهاما من فحواها وسياقها، فنرى الأولى أن يوقف عند ذلك دون توسع في موضوع قدر الله وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة عليهم حتما ؛ لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها وسياقها، وكل ما فيها هو تقرير كون ذلك بعلم الله الأزلي الذي عبر عنه في الآية بكلمة :﴿ كتاب ﴾ والله أعلم.
وننبه على أن المفسرين والمؤولين الذين يروي المفسرون أقوالهم قالوا إن كلمة :﴿ كتاب ﴾ هنا عنت اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سوف يحدث في كون الله وخلقه. ولقد قالوا مثل هذا في سياق آيات أخرى وردت فيها كلمة :﴿ كتاب ﴾ بالمعنى الذي وردت فيه هنا. مثل آيات سورة الأنعام ( ٥٩ ) وهود ( ٦ ) والرعد ( ٢٩ ) والحج ( ٧٠ ) وفاطر ( ١١ ). ولقد علقنا على تعبير اللوح المحفوظ في سياق تفسير سورة البروج التي ورد فيها لأول مرة، كما علقنا على ما قالوه في سياق الآيات المذكورة آنفا. فنكتفي بهذه الإشارة دون التكرار.
( ٢ ) لكيلا تأسوا : لكيلا تحزنوا.
﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( ١ ) إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( ٢٢ ) لِكَيْلَا تَأْسَوْا ( ٢ ) عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( ٢٣ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٢٤ ) ﴾ ( ٢٢ – ٢٤ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير وجه الخطاب فيه إلى مخاطبين قريبين بأن كل ما يقع على الأرض وما يصيب نفوس الناس من مصيبة هو في كتاب عند الله مكتوب قبل وقوعها. وهذا من الأمور اليسيرة على الله عز وجل المتسقة مع شمول قدرته وعلمه.
( ٢ ) وتقرير آخر بأن الله تعالى يبين لهم هذه الحقيقة حتى لا يداخلهم الحزن والأسى مما يفوتهم من خيرات ولا يبطرهم الفرح بما ينالونه من خيرات. مع التنبيه إلى أن الله تعالى لا يحب المتكبرين المتفاخرين المزهوين بما قد يحرزونه من خير ثم يبخلون عن البذل ويحرضون غيرهم على احتذاء حذوهم، وبأنه غني عن الذين يعرضون عن استجابة أوامره، حميد شاكر لمن يستجيب إليها.

تعليق على الآية :

﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا.......................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وتعقيبا، وأن الخطاب فيها موجه بدوره إلى المسلمين موضوع الخطاب السابق. وهي بنوع خاص على ما تلهمه روحها بسبيل تقرير كون ما يحرزه الناس من خير وسعة رزق هو من فضل الله تعالى وليس لهم فضل فيه يبرر لهم الاغترار والتبجح والزهو والبخل به عن المحتاجين وسبيل الله. وكونهم غير قادرين على منع ضياعه وتلفه، فلا موجب للبخل فيه والتقصير في واجب شكر الله عليه. وقد تلمح من هنا صلة قوية بين أهداف هذه الآيات والآيات التي ندد فيها قبل ببعض الصور غير المستحبة وبخاصة الضن بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله. في حين أن المال الذي في أيدي الناس هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه وحسب.
وروح الآيات وفحواها يلهمان أن المصيبة المذكورة فيها هي من نوع ما ليس في مقدور الناس جلبه أو دفعه. ومعظم المفسرين أداروا الكلام عليها في هذا النطاق بحيث يصح القول : إنها لا صلة لها بما يصدر من الناس من أعمال يثابون ويعاقبون عليها في الدنيا والآخرة.
ويلمح في الآيات صفات أخرى من صفات المنافقين المرتابين المترددين المتربصين الذين كانوا موضوع الحملة والتنديد في الآيات السابقة أريد التنويه بها والتحذير منها، وهي الاختيال على الناس والكبر والغرور بما حازوه، والبخل به وأمر الناس بالبخل. وهذا يفعله البخلاء في الغالب لتبرير بخلهم.
وواضح أن في الآيات تلقينات مستمرة المدى تمد المسلم في كل ظرف بالثقة بالله والتسليم له والصبر على ما يصيبه من بلاء وعدم الجزع والأسى والشكر على ما يناله من خير وعدم الزهو والبطر والغرور به وعدم الخوف من عواقب البذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين وعدم الارتكاس في رذيلة الحض على البخل ومنع الخير عن الغير في أي حال.
وقد تكررت الآيات القرآنية التي احتوت هذه التلقينات في القرآن المكي والقرآن المدني معا ؛ حيث يبدو من ذلك التساوق في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها وإسلام النفس إلى الله في كل حال وظرف. واستهداف تربية المسلم والتسامي به إلى أوج الكمال النفساني والأخلاقي.
وقد أورد المفسرون أحاديث نبوية في سياق هذه الآيات بالتنديد بالبخل والاختيال والكبر والتفاخر. ولقد أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق سور الليل ولقمان والإسراء والنساء ( ١ )١، التي ورد فيها التنديد بهذه الأخلاق البغيضة ونبهنا على ما فيها من تساوق مع التلقين القرآني فنكتفي بهذه الإشارة.
هذا، ولما كانت الآيات قد جاءت بسبيل التسكين والتحذير في ظروف خاصة على ما شرحناه استلهاما من فحواها وسياقها، فنرى الأولى أن يوقف عند ذلك دون توسع في موضوع قدر الله وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة عليهم حتما ؛ لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها وسياقها، وكل ما فيها هو تقرير كون ذلك بعلم الله الأزلي الذي عبر عنه في الآية بكلمة :﴿ كتاب ﴾ والله أعلم.
وننبه على أن المفسرين والمؤولين الذين يروي المفسرون أقوالهم قالوا إن كلمة :﴿ كتاب ﴾ هنا عنت اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سوف يحدث في كون الله وخلقه. ولقد قالوا مثل هذا في سياق آيات أخرى وردت فيها كلمة :﴿ كتاب ﴾ بالمعنى الذي وردت فيه هنا. مثل آيات سورة الأنعام ( ٥٩ ) وهود ( ٦ ) والرعد ( ٢٩ ) والحج ( ٧٠ ) وفاطر ( ١١ ). ولقد علقنا على تعبير اللوح المحفوظ في سياق تفسير سورة البروج التي ورد فيها لأول مرة، كما علقنا على ما قالوه في سياق الآيات المذكورة آنفا. فنكتفي بهذه الإشارة دون التكرار.
﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( ١ ) إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( ٢٢ ) لِكَيْلَا تَأْسَوْا ( ٢ ) عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( ٢٣ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٢٤ ) ﴾ ( ٢٢ – ٢٤ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير وجه الخطاب فيه إلى مخاطبين قريبين بأن كل ما يقع على الأرض وما يصيب نفوس الناس من مصيبة هو في كتاب عند الله مكتوب قبل وقوعها. وهذا من الأمور اليسيرة على الله عز وجل المتسقة مع شمول قدرته وعلمه.
( ٢ ) وتقرير آخر بأن الله تعالى يبين لهم هذه الحقيقة حتى لا يداخلهم الحزن والأسى مما يفوتهم من خيرات ولا يبطرهم الفرح بما ينالونه من خيرات. مع التنبيه إلى أن الله تعالى لا يحب المتكبرين المتفاخرين المزهوين بما قد يحرزونه من خير ثم يبخلون عن البذل ويحرضون غيرهم على احتذاء حذوهم، وبأنه غني عن الذين يعرضون عن استجابة أوامره، حميد شاكر لمن يستجيب إليها.

تعليق على الآية :

﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا.......................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وتعقيبا، وأن الخطاب فيها موجه بدوره إلى المسلمين موضوع الخطاب السابق. وهي بنوع خاص على ما تلهمه روحها بسبيل تقرير كون ما يحرزه الناس من خير وسعة رزق هو من فضل الله تعالى وليس لهم فضل فيه يبرر لهم الاغترار والتبجح والزهو والبخل به عن المحتاجين وسبيل الله. وكونهم غير قادرين على منع ضياعه وتلفه، فلا موجب للبخل فيه والتقصير في واجب شكر الله عليه. وقد تلمح من هنا صلة قوية بين أهداف هذه الآيات والآيات التي ندد فيها قبل ببعض الصور غير المستحبة وبخاصة الضن بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله. في حين أن المال الذي في أيدي الناس هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه وحسب.
وروح الآيات وفحواها يلهمان أن المصيبة المذكورة فيها هي من نوع ما ليس في مقدور الناس جلبه أو دفعه. ومعظم المفسرين أداروا الكلام عليها في هذا النطاق بحيث يصح القول : إنها لا صلة لها بما يصدر من الناس من أعمال يثابون ويعاقبون عليها في الدنيا والآخرة.
ويلمح في الآيات صفات أخرى من صفات المنافقين المرتابين المترددين المتربصين الذين كانوا موضوع الحملة والتنديد في الآيات السابقة أريد التنويه بها والتحذير منها، وهي الاختيال على الناس والكبر والغرور بما حازوه، والبخل به وأمر الناس بالبخل. وهذا يفعله البخلاء في الغالب لتبرير بخلهم.
وواضح أن في الآيات تلقينات مستمرة المدى تمد المسلم في كل ظرف بالثقة بالله والتسليم له والصبر على ما يصيبه من بلاء وعدم الجزع والأسى والشكر على ما يناله من خير وعدم الزهو والبطر والغرور به وعدم الخوف من عواقب البذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين وعدم الارتكاس في رذيلة الحض على البخل ومنع الخير عن الغير في أي حال.
وقد تكررت الآيات القرآنية التي احتوت هذه التلقينات في القرآن المكي والقرآن المدني معا ؛ حيث يبدو من ذلك التساوق في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها وإسلام النفس إلى الله في كل حال وظرف. واستهداف تربية المسلم والتسامي به إلى أوج الكمال النفساني والأخلاقي.
وقد أورد المفسرون أحاديث نبوية في سياق هذه الآيات بالتنديد بالبخل والاختيال والكبر والتفاخر. ولقد أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق سور الليل ولقمان والإسراء والنساء ( ١ )١، التي ورد فيها التنديد بهذه الأخلاق البغيضة ونبهنا على ما فيها من تساوق مع التلقين القرآني فنكتفي بهذه الإشارة.
هذا، ولما كانت الآيات قد جاءت بسبيل التسكين والتحذير في ظروف خاصة على ما شرحناه استلهاما من فحواها وسياقها، فنرى الأولى أن يوقف عند ذلك دون توسع في موضوع قدر الله وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة عليهم حتما ؛ لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها وسياقها، وكل ما فيها هو تقرير كون ذلك بعلم الله الأزلي الذي عبر عنه في الآية بكلمة :﴿ كتاب ﴾ والله أعلم.
وننبه على أن المفسرين والمؤولين الذين يروي المفسرون أقوالهم قالوا إن كلمة :﴿ كتاب ﴾ هنا عنت اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سوف يحدث في كون الله وخلقه. ولقد قالوا مثل هذا في سياق آيات أخرى وردت فيها كلمة :﴿ كتاب ﴾ بالمعنى الذي وردت فيه هنا. مثل آيات سورة الأنعام ( ٥٩ ) وهود ( ٦ ) والرعد ( ٢٩ ) والحج ( ٧٠ ) وفاطر ( ١١ ). ولقد علقنا على تعبير اللوح المحفوظ في سياق تفسير سورة البروج التي ورد فيها لأول مرة، كما علقنا على ما قالوه في سياق الآيات المذكورة آنفا. فنكتفي بهذه الإشارة دون التكرار.
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٢٥ ) ﴾.
في الآية تقرير رباني : بأن الله قد أرسل رسله للناس بالحجج والبينات. وأنزل عليهم الكتب التي احتوت ما يجب أن يقوم به الناس لتوطيد الحق والعدل فيما بينهم. كما أنه خلق الحديد وألهمهم كيفية استعماله، وفيه وسائل القوة والتنكيل كما فيه منافع أخرى للناس وقد جعل الله كل هذا اختبارا للناس وقطعا لحجتهم وأعذارهم، وليمتاز منهم الذين ينصرون الله ورسله بتصديقهم وتأييدهم بما جاءوا به من الحقائق الإيمانية ولو كانت ماهيتها غائبة عنهم وأفهامهم غير مدركة لكنهها، وهو القوي العزيز المستغني عن الناس القادر على ما يريد.
تعليق على الآية :
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ..................... ﴾ الخ
وما فيها من تلقين
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. ومع أنها تبدو فصلا جديدا إلا أن احتمال اتصالها بالآيات السابقة لها اتصال تعقيب واستطراد وارد. ولا سيما أن الآيات السابقة احتوت دعوة إلى الجهاد والبذل في سبيل الله. وهذه الآية احتوت بيان هدف من أهداف هذه الدعوة وهو توطيد الحق والعدل بين الناس.
والآية بحد ذاتها جملة تامة احتوت تلقينات إيمانية واجتماعية وقضائية وسلطانية. وبجملة واحدة احتوت تقرير استهداف قيام السلطان في الأرض لتوطيد الحق والعدل بين الناس : فالله تعالى لم يدع الناس بدون تعليم وتنبيه، فأرسل رسله إليهم بالبينات الواضحة، وأنزل عليهم كتبه لتوطيد الحق والعدل بينهم، وجعل القوة الممثلة في الأسلحة الحديدية من الوسائل النافعة لمن ينحرف ويكابر ويعاند ويحاول مظاهرة البغي والباطل على الحق والعدل ولا يرضخ لمقتضياتهما، وكل ذلك إنما هو لخير الناس وصلاحهم.
ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين عن أهل التأويل الأولين في صدد الميزان والحديد اللذين أنزلهما الله على رسله ( ١ )١. حيث رووا أن الميزان هو الميزان المعروف الذي يتعامل الناس به في معايشهم، وأن الله قد أنزله مع جبريل على نوح وأمره أن يأمر قومه بالتعامل به، وحيث رووا أيضا أن الله قد أنزل مع آدم من الحديد السندان والكلبتين والمطرقة والميقعة. وحيث رووا حديثا مرفوعا عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أنزل الله أربع بركات من السماء إلى الأرض وهي : الحديد والنار والماء والملح ) وحيث رووا مع ذلك أن الميزان هذا بمعنى العدل وأن القصد من تعبير إنزال الحديد هو خلقه وتعليم الناس الانتفاع به في شتى الوجوه من حفر الأرض والجبال وبخاصة في صنع السلاح الذي فيه ردع للناس، وهو ما عبر عنه بجملة :﴿ فيه بأس شديد ﴾. والحديث النبوي لم يرد في الصحاح. والمتبادر أن التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع طبائع الأشياء. وقد روى المفسر القاسمي في محاسن التأويل للإمام ابن تيمية تنفيذا سديدا للتأويلات الأولى جاء فيه فيما جاء أن ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما يروى عن ابن عباس من إنزال الأدوات الحديدة على آدم ونوح كذب، وأن الناس يشهدون بعضهم وهم يصنعون بأيديهم هذه الأدوات من حديد المعادن الذي يعثرون عليه في الأرض والجبال، وأن تلك الأقوال مكابرة للعيان.
١ انظر تفسير الالطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي وابن كثير والخازن..
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ٢٦ ) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ٢٧ ) ﴾ ( ٢٦ – ٢٧ ).
تعليق على الآية :
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ.......................... ﴾ الخ
والآية التالية لها. وما فيهما من صور وتلقين وأهداف وتنويه بأخلاق النصارى عامة وما ورد في رهبانية النصارى والإسلام من أحاديث.
لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا معقبتين على الآية السابقة لهما تعقيبا بيانيا تضمن تقرير كون الله – جريا على ما اقتضته حكمته من إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد الحق والعدل بينهم – قد أرسل نوحا وإبراهيم. وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب. فاهتدى من اهتدى منهم وفسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق كثيرون، ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرون، ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرين، ثم أرسل عيسى ابن مريم وآتاه الإنجيل. وجعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة حتى إنهم فرضوا على أنفسهم ابتداعا شيئا لم يفرضه الله عليهم وهو الرهبانية والاعتزال للعبادة والتبتل والتعفف عن النساء ابتغاء رضوان الله تعالى وتزيدا في عبادته. ولكنهم لم يستمروا على رعايتها حق الرعاية. فمنهم من آمن وأخلص فآتاه الله أجره. وكثير منهم فسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق أيضا.
وينطوي في البيان التعقيبي الذي استهدفته الآيات – كما تبادر لنا – تقرير واقع الأمر عند نزول الآيتين بالنسبة لأهل الكتاب وبخاصة النصارى منهم كما هو ظاهر.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه بطرقه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم. وقد وازت فرقة من الثلاث الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فترهبوا فيها فهو قول الله عز وجل :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ قال : ما فعلوها ﴿ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ وهم الذين آمنوا بي وصدقوني. قال :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ قال : فهم الذين جحدوني وكذبوني ).
والحديث ليس من الصحاح. فإن صح جاء توضيحا للمقصود من الجملة الأخيرة في الآية الثانية وهم الذين آمنوا به وكفروا به فالأولون لهم أجرهم والآخرون فاسقون وهم الأكثر. وهذا كذلك متبادر من العبارة ولو لم يصح الحديث أيضا ؛ لأنها تقرر واقع النصارى عند نزول القرآن. ولا يمكن أن تنصرف عبارة :﴿ الذين آمنوا ﴾ إلا إلى الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإيمان فريق من النصارى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه حقيقة يقينية مؤيدة بنصوص قرآنية عديدة جاءت في سور سبق تفسيرها. ولقد كان عدد المؤمنين منهم في حياة النبي أقل من الجاحدين، وكانت النصرانية سائدة في بلاد الشام ومصر. فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسله وكتبه إلى ملوكهم فلم يستجيبوا إليها، وهذا وذاك مصداق ما جاء في الآية. والله تعالى أعلم.
وفي الحديث إن صح بالإضافة إلى ما فيه من أخبار متسقة مع المأثورات القديمة عن سير المسيحية ونزاعاتها وفرقها، وما كان من اضطهاد ملوك الرومان للنصارى أولا، ثم لمن خالف مذهبهم بعد أن اعتنقوا النصرانية ثانيا، وما جرى من قتال بين الفرق النصرانية ( ١ )١. تفسير لجملة :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾ يفيد أن الله تعالى لم يفرض عليهم الرهبانية بدءا، وإنما هم ابتدعوها وفرضوها على أنفسهم فأقرهم الله عليها ابتغاء رضوانه. وهذا ملموح من فحوى الآيات وروحها وبدلالة كلمة :﴿ ابتدعوها ﴾ إن لم يصح الحديث.
ولقد أراد فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبتدعوا رهبانية في الإسلام ابتغاء رضوان الله تقليدا للرهبان والقسيسين من النصارى الذين أثنت عليهم آيات سورة المائدة ( ٧٨ – ٨٩ ) فاقتضت حكمة التنزيل أن لا تشجعهم على ذلك ؛ لئلا يقعوا فيما وقع فيه النصارى من قبلهم. ولينصرفوا إلى ما هو الأنفع والأجدى لنشر دين الله وتعاليمه والجهاد في سبيله مما انطوى خبره وتلقينه البليغ في الآيات المذكورة وفي الأحاديث النبوية الواردة في صددها والتي منها :( لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ) على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات المذكورة.
وذكر النصارى على الوجه الذي ورد وإن كان يتبادر أنه من قبيل الاستطراد المألوف في النظم القرآني فإن فيه على كل حال معنى التنويه المستحب بما كان عليه النصارى إجمالا من دماثة خلق ورقة قلب وتسامح وتواضع بالقياس إلى اليهود الذين وصف القرآن أخلاقهم بما وصفها من قسوة وغلظة وخبث وأنانية ودس وعداء شديد صريح للمسلمين. ولعل فيه كذلك إشارة تنويهية إلى تلك الفئة التي كانت تقيم في الصوامع والديارات التي كانت منثورة في براري العراق والفرات والشام، والتي كان العرب يمرون بها في رحلاتهم غدوا ورواحا والتي كانوا قد فرغوا فيها للعبادة، واعتزلوا شهوات الدنيا وأعراضها وشرورها وبهارجها. والله أعلم ( ١ )٢.
وجملة :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ بالنسبة لنوح وإبراهيم عليهما السلام قد تفيد أن الله عز وجل اختص ذريتهما بذلك. وإذا صح هذا يكون ذلك لأول مرة في القرآن ؛ لأنه لم يسبق مثله. ومما يرد على البال أن مما استهدفه توكيد دخول جميع الأنبياء والرسل في مشمول ﴿ ذريتهما ﴾ فيدخل في ذلك الأنبياء الذين لم يعرف أنهم من نسل إبراهيم مثل هود وصالح وشعيب ولوط وإدريس وغيرهم ممن لم يرد ذكرهم في القرآن، وإنما أشير لهم إشارة عامة في جملة :﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾. في الآية ( ١٦٤ ) من سورة النساء وفي الآية ( ٧٨ ) من سورة غافر التي احتوت جملة قريبة. ولعل مما استهدف بهذا التوكيد الرد على بني إسرائيل الذين كانوا يدعون أن جميع الأنبياء من جنسهم ويزهون ويتبجحون بذلك على ما شرحناه في سياق آيات سورة الجمعة وغيرها، وعلى ما حكته روايات عديدة أوردناها في سياق ذلك. والله أعلم.
١ انظر كتابنا تاريخ الجنس العربي ج ٢ و ج ٤ وتاريخ سورية للدبس مجلد ٣ ج ٣ ومجلد ٣ ج ٤..
٢ اقرأ بحث الديارات في حرف الدال في معجم البلدان لياقوت واقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي أيضا..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ٢٦ ) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ٢٧ ) ﴾ ( ٢٦ – ٢٧ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ.......................... ﴾ الخ
والآية التالية لها. وما فيهما من صور وتلقين وأهداف وتنويه بأخلاق النصارى عامة وما ورد في رهبانية النصارى والإسلام من أحاديث.
لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا معقبتين على الآية السابقة لهما تعقيبا بيانيا تضمن تقرير كون الله – جريا على ما اقتضته حكمته من إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد الحق والعدل بينهم – قد أرسل نوحا وإبراهيم. وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب. فاهتدى من اهتدى منهم وفسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق كثيرون، ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرون، ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرين، ثم أرسل عيسى ابن مريم وآتاه الإنجيل. وجعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة حتى إنهم فرضوا على أنفسهم ابتداعا شيئا لم يفرضه الله عليهم وهو الرهبانية والاعتزال للعبادة والتبتل والتعفف عن النساء ابتغاء رضوان الله تعالى وتزيدا في عبادته. ولكنهم لم يستمروا على رعايتها حق الرعاية. فمنهم من آمن وأخلص فآتاه الله أجره. وكثير منهم فسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق أيضا.
وينطوي في البيان التعقيبي الذي استهدفته الآيات – كما تبادر لنا – تقرير واقع الأمر عند نزول الآيتين بالنسبة لأهل الكتاب وبخاصة النصارى منهم كما هو ظاهر.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه بطرقه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم. وقد وازت فرقة من الثلاث الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فترهبوا فيها فهو قول الله عز وجل :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ قال : ما فعلوها ﴿ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ وهم الذين آمنوا بي وصدقوني. قال :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ قال : فهم الذين جحدوني وكذبوني ).
والحديث ليس من الصحاح. فإن صح جاء توضيحا للمقصود من الجملة الأخيرة في الآية الثانية وهم الذين آمنوا به وكفروا به فالأولون لهم أجرهم والآخرون فاسقون وهم الأكثر. وهذا كذلك متبادر من العبارة ولو لم يصح الحديث أيضا ؛ لأنها تقرر واقع النصارى عند نزول القرآن. ولا يمكن أن تنصرف عبارة :﴿ الذين آمنوا ﴾ إلا إلى الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإيمان فريق من النصارى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه حقيقة يقينية مؤيدة بنصوص قرآنية عديدة جاءت في سور سبق تفسيرها. ولقد كان عدد المؤمنين منهم في حياة النبي أقل من الجاحدين، وكانت النصرانية سائدة في بلاد الشام ومصر. فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسله وكتبه إلى ملوكهم فلم يستجيبوا إليها، وهذا وذاك مصداق ما جاء في الآية. والله تعالى أعلم.
وفي الحديث إن صح بالإضافة إلى ما فيه من أخبار متسقة مع المأثورات القديمة عن سير المسيحية ونزاعاتها وفرقها، وما كان من اضطهاد ملوك الرومان للنصارى أولا، ثم لمن خالف مذهبهم بعد أن اعتنقوا النصرانية ثانيا، وما جرى من قتال بين الفرق النصرانية ( ١ )١. تفسير لجملة :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾ يفيد أن الله تعالى لم يفرض عليهم الرهبانية بدءا، وإنما هم ابتدعوها وفرضوها على أنفسهم فأقرهم الله عليها ابتغاء رضوانه. وهذا ملموح من فحوى الآيات وروحها وبدلالة كلمة :﴿ ابتدعوها ﴾ إن لم يصح الحديث.
ولقد أراد فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبتدعوا رهبانية في الإسلام ابتغاء رضوان الله تقليدا للرهبان والقسيسين من النصارى الذين أثنت عليهم آيات سورة المائدة ( ٧٨ – ٨٩ ) فاقتضت حكمة التنزيل أن لا تشجعهم على ذلك ؛ لئلا يقعوا فيما وقع فيه النصارى من قبلهم. ولينصرفوا إلى ما هو الأنفع والأجدى لنشر دين الله وتعاليمه والجهاد في سبيله مما انطوى خبره وتلقينه البليغ في الآيات المذكورة وفي الأحاديث النبوية الواردة في صددها والتي منها :( لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ) على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات المذكورة.
وذكر النصارى على الوجه الذي ورد وإن كان يتبادر أنه من قبيل الاستطراد المألوف في النظم القرآني فإن فيه على كل حال معنى التنويه المستحب بما كان عليه النصارى إجمالا من دماثة خلق ورقة قلب وتسامح وتواضع بالقياس إلى اليهود الذين وصف القرآن أخلاقهم بما وصفها من قسوة وغلظة وخبث وأنانية ودس وعداء شديد صريح للمسلمين. ولعل فيه كذلك إشارة تنويهية إلى تلك الفئة التي كانت تقيم في الصوامع والديارات التي كانت منثورة في براري العراق والفرات والشام، والتي كان العرب يمرون بها في رحلاتهم غدوا ورواحا والتي كانوا قد فرغوا فيها للعبادة، واعتزلوا شهوات الدنيا وأعراضها وشرورها وبهارجها. والله أعلم ( ١ )٢.
وجملة :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ بالنسبة لنوح وإبراهيم عليهما السلام قد تفيد أن الله عز وجل اختص ذريتهما بذلك. وإذا صح هذا يكون ذلك لأول مرة في القرآن ؛ لأنه لم يسبق مثله. ومما يرد على البال أن مما استهدفه توكيد دخول جميع الأنبياء والرسل في مشمول ﴿ ذريتهما ﴾ فيدخل في ذلك الأنبياء الذين لم يعرف أنهم من نسل إبراهيم مثل هود وصالح وشعيب ولوط وإدريس وغيرهم ممن لم يرد ذكرهم في القرآن، وإنما أشير لهم إشارة عامة في جملة :﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾. في الآية ( ١٦٤ ) من سورة النساء وفي الآية ( ٧٨ ) من سورة غافر التي احتوت جملة قريبة. ولعل مما استهدف بهذا التوكيد الرد على بني إسرائيل الذين كانوا يدعون أن جميع الأنبياء من جنسهم ويزهون ويتبجحون بذلك على ما شرحناه في سياق آيات سورة الجمعة وغيرها، وعلى ما حكته روايات عديدة أوردناها في سياق ذلك. والله أعلم.
١ انظر كتابنا تاريخ الجنس العربي ج ٢ و ج ٤ وتاريخ سورية للدبس مجلد ٣ ج ٣ ومجلد ٣ ج ٤..
٢ اقرأ بحث الديارات في حرف الدال في معجم البلدان لياقوت واقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي أيضا..

( ١ ) كفلين : بمعنى ضعفين على قول الجمهور.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ( ١ ) مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٨ ) لِئَلَّا يَعْلَمَ ( ٢ ) أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ ( ٣ ) عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ٢٩ ) ﴾ ( ٢٨ – ٢٩ ).
عبارة الآيتين واضحة.
وقد تضمنت الأولى التفاتا إلى المؤمنين منطويا على التعقيب والحث والبشرى : فعليهم – وقد عرفوا سنة الله تعالى وحكمته – أن يعتبروا ويتقوا الله ويلتزموا حدوده ويؤمنوا برسله إيمانا مخلصا ويتبعوا إرشاده. فإن فعلوا ضاعف الله لهم الأجر وجعل لهم نورا يمشون في ضوئه، فلا يضلون عن سبيل الحق القويم وغفر لهم ذنوبهم وهو الغفور الرحيم، وتضمنت الثانية شيئا من الالتفات إلى أهل الكتاب منطويا في الوقت نفسه على بشرى للمسلمين : ففي ما يوصي الله تعالى المؤمنين ويأمرهم به من تقوى الله والإيمان برسله ويعدهم به من مضاعفة الأجر لهم وتيسير النور الذي يسيرون على هداه وغفران ذنوبهم. ويكون في ذلك تنبيه لأهل الكتاب ليعلموا أنهم غير قادرين على منع فضل الله عن أحد ولا محتكريه. فالله تعالى هو صاحب الفضل وهو يتصرف فيه كما تقتضي حكمته وعدله فيؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا يتضمن قرينة بل دلالة على أن جملة :﴿ وآمنوا برسوله ﴾ لا تعني الإيمان البدني بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنهم مؤمنون به حينما وصفوا ب ﴿ الذين آمنوا ﴾ وإنما تعني الحث على قوة اليقين والوثوق والطاعة. وهي من هذه الناحية من باب الآيتين :( ٧ ) و ( ٨ ) من هذه السورة على ما شرحناه في سياقهما.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ الخ.
والآية التالية لها. وما فيهما من تلقين وما ورد في صددهما من أحاديث
روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن وفدا من نصارى الحبشة وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلموا. ورأوا ما عليه المسلمون من خصاصة فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحضروا شيئا من أموالهم ويعطوها للمحتاجين، فأذن لهم فذهبوا وأحضروها ووزعوها فأنزل الله آيات سورة القصص ( ٥٢ – ٥٥ ) هذه :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ( ٥٢ ) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( ٥٣ ) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ٥٤ ) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ( ٥٥ ) ﴾. فصاروا يفخرون على المسلمين من العرب ويقولون لهم : أجرنا مضاعف ؛ لأننا آمنا بكتابكم وكتابنا من قبله فأنزل الله الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فحسد المسلمون الحبشة المسلمين العرب فأنزل الله الآية الثانية.
والرواية لم ترد في الصحاح. ولقد روي أن آيات القصص المذكورة مدنية. ولعل ذلك متصل بهذه الرواية. ولقد توقفنا في سياق تفسير آيات القصص في رواية مدنيتها ونبهنا على ما تبادر لنا من دلائل على مكيتها بما يغني عن التكرار. ونزيد هنا فنقول : إن فحوى الآيتين لا يمكن أن ينطبق على ما جاء في الرواية، من حيث إن الرواية تقتضي أن تكون الآية الأولى ردا على فخر من بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بسبب آيات مدنية وضعت في سورة مكية. ثم وضع الرد في سورة مدنية. وأن يكون أهل الكتاب الذين آمنوا قد حسدوا المسلمين العرب فأنزل الله آية فيها رد عليهم مع أن فحوى الآية لا يمكن أن تفيد أنها عنت جماعة مؤمنين بالرسالة المحمدية.....................
والذي يتبادر لنا أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة التي تحكي حالة أهل الكتاب، وبخاصة النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبله ؛ لتهتف بالمسلمين أن يتقوا الله ويتيقنوا ويثقوا بكل ما جاء به رسوله ودعا إليه، فيستحقوا بذلك ضعفين من رحمة الله وغفرانه ونوره. ويكون في ذلك رد على أهل الكتاب غير المؤمنين الذين قد يحتجون بأنهم على هدى الله، وأنهم الحائزون وحدهم لرحمته وفضله.
والراجح أنه كان يقع حوار بين بعض المسلمين وأهل الكتاب حول من هو الأهدى والأفضل والمستحق لرحمة الله، فكان في الآية الثانية ترديد لذلك ووضع للأمر في نصابه الحق. وهناك آيات في سور سبق تفسيرها تذكر ما كان من تبجح أهل الكتاب بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وبأنهم الأهدى الذين لهم الجنة وحدهم إلخ كما جاء مثلا في آيات البقرة ( ١١١ و ١٢٠ و ١٢٥ ) والمائدة ( ١٨ ).
ولقد روى الطبري عن ابن زيد في تأويل جملة :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ إنها بمعنى يؤتكم رحمته مرتين مرة في الدنيا ومرة في الآخرة وعن الضحاك : إنها بمعنى يؤتكم أجرا على إيمانكم بالكتاب الأول وأجرا على إيمانكم بالقرآن. ومع أن القول الأول أوجه من الثاني فإنه يتبادر لنا أيضا أن الجملة على سبيل البشرى والتطمين بمضاعفة الله الأجر للمؤمنين المتقين. وهو ما تكرر بأساليب متنوعة مرت أمثلة كثيرة منها في السور التي سبق تفسيرها. والله أعلم.
وعلى كل حال ففي الآيتين تلقين مستمر المدى يستمد منه المسلم حافزا على تقوى الله لنيل أجره المضاعف والاهتداء بنوره الهادي. وإيذانا بأنه لا حرج على فضل الله ولا يحق لأحد أن يحتكره، فالله هو صاحب الفضل فيؤتيه من يشاء ممن استحقه بعلمه الصالح وتقواه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية فيها تمثيل مبشر للمسلمين، وهي ليست من الصحاح، ومع ذلك فلم نر بأسا من إيرادها لما فيها من تبشير وتطمين للمسلمين. منها حديث أخرجه الطبري عن عبد الله بن عمر قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر عمالا فقال : من يعمل من بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود، ثم قال : من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى، ثم قال : من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قراطين فعملتم ). وحديث أخرجه الطبري بطرقه عن عبد الله بن دينار قال :( سمعت ابن عمر يقول قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذه الأمة أو قال : مثل أمتي ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل قال : من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط قال اليهود : نحن فعملوا. ثم قال : من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قالت النصارى : نحن فعملوا. وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل على قيراطين ).
( ٢ ) لئلا يعلم : الجمهور على أن ( لا ) زائدة، وأن تقدير الجملة لأن يعلم أو لكي يعلم. وروح الآية يؤيد ذلك. وقد قرئت ( ليعلم ) وهذه في نفس المعنى المقصود.
( ٣ ) أن لا يقدرون : الجمهور على أن ( أن ) هي مخففة من أن وتقدير الجملة ( أنهم لا يقدرون ) أي لا يقدرون على منع فضل الله عن أحد. وعدم حذف نون المضارع دليل على صحة ذلك.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ( ١ ) مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٨ ) لِئَلَّا يَعْلَمَ ( ٢ ) أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ ( ٣ ) عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ٢٩ ) ﴾ ( ٢٨ – ٢٩ ).
عبارة الآيتين واضحة.
وقد تضمنت الأولى التفاتا إلى المؤمنين منطويا على التعقيب والحث والبشرى : فعليهم – وقد عرفوا سنة الله تعالى وحكمته – أن يعتبروا ويتقوا الله ويلتزموا حدوده ويؤمنوا برسله إيمانا مخلصا ويتبعوا إرشاده. فإن فعلوا ضاعف الله لهم الأجر وجعل لهم نورا يمشون في ضوئه، فلا يضلون عن سبيل الحق القويم وغفر لهم ذنوبهم وهو الغفور الرحيم، وتضمنت الثانية شيئا من الالتفات إلى أهل الكتاب منطويا في الوقت نفسه على بشرى للمسلمين : ففي ما يوصي الله تعالى المؤمنين ويأمرهم به من تقوى الله والإيمان برسله ويعدهم به من مضاعفة الأجر لهم وتيسير النور الذي يسيرون على هداه وغفران ذنوبهم. ويكون في ذلك تنبيه لأهل الكتاب ليعلموا أنهم غير قادرين على منع فضل الله عن أحد ولا محتكريه. فالله تعالى هو صاحب الفضل وهو يتصرف فيه كما تقتضي حكمته وعدله فيؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا يتضمن قرينة بل دلالة على أن جملة :﴿ وآمنوا برسوله ﴾ لا تعني الإيمان البدني بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنهم مؤمنون به حينما وصفوا ب ﴿ الذين آمنوا ﴾ وإنما تعني الحث على قوة اليقين والوثوق والطاعة. وهي من هذه الناحية من باب الآيتين :( ٧ ) و ( ٨ ) من هذه السورة على ما شرحناه في سياقهما.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ الخ.
والآية التالية لها. وما فيهما من تلقين وما ورد في صددهما من أحاديث
روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن وفدا من نصارى الحبشة وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلموا. ورأوا ما عليه المسلمون من خصاصة فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحضروا شيئا من أموالهم ويعطوها للمحتاجين، فأذن لهم فذهبوا وأحضروها ووزعوها فأنزل الله آيات سورة القصص ( ٥٢ – ٥٥ ) هذه :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ( ٥٢ ) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( ٥٣ ) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ٥٤ ) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ( ٥٥ ) ﴾. فصاروا يفخرون على المسلمين من العرب ويقولون لهم : أجرنا مضاعف ؛ لأننا آمنا بكتابكم وكتابنا من قبله فأنزل الله الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فحسد المسلمون الحبشة المسلمين العرب فأنزل الله الآية الثانية.
والرواية لم ترد في الصحاح. ولقد روي أن آيات القصص المذكورة مدنية. ولعل ذلك متصل بهذه الرواية. ولقد توقفنا في سياق تفسير آيات القصص في رواية مدنيتها ونبهنا على ما تبادر لنا من دلائل على مكيتها بما يغني عن التكرار. ونزيد هنا فنقول : إن فحوى الآيتين لا يمكن أن ينطبق على ما جاء في الرواية، من حيث إن الرواية تقتضي أن تكون الآية الأولى ردا على فخر من بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بسبب آيات مدنية وضعت في سورة مكية. ثم وضع الرد في سورة مدنية. وأن يكون أهل الكتاب الذين آمنوا قد حسدوا المسلمين العرب فأنزل الله آية فيها رد عليهم مع أن فحوى الآية لا يمكن أن تفيد أنها عنت جماعة مؤمنين بالرسالة المحمدية.....................
والذي يتبادر لنا أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة التي تحكي حالة أهل الكتاب، وبخاصة النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبله ؛ لتهتف بالمسلمين أن يتقوا الله ويتيقنوا ويثقوا بكل ما جاء به رسوله ودعا إليه، فيستحقوا بذلك ضعفين من رحمة الله وغفرانه ونوره. ويكون في ذلك رد على أهل الكتاب غير المؤمنين الذين قد يحتجون بأنهم على هدى الله، وأنهم الحائزون وحدهم لرحمته وفضله.
والراجح أنه كان يقع حوار بين بعض المسلمين وأهل الكتاب حول من هو الأهدى والأفضل والمستحق لرحمة الله، فكان في الآية الثانية ترديد لذلك ووضع للأمر في نصابه الحق. وهناك آيات في سور سبق تفسيرها تذكر ما كان من تبجح أهل الكتاب بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وبأنهم الأهدى الذين لهم الجنة وحدهم إلخ كما جاء مثلا في آيات البقرة ( ١١١ و ١٢٠ و ١٢٥ ) والمائدة ( ١٨ ).
ولقد روى الطبري عن ابن زيد في تأويل جملة :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ إنها بمعنى يؤتكم رحمته مرتين مرة في الدنيا ومرة في الآخرة وعن الضحاك : إنها بمعنى يؤتكم أجرا على إيمانكم بالكتاب الأول وأجرا على إيمانكم بالقرآن. ومع أن القول الأول أوجه من الثاني فإنه يتبادر لنا أيضا أن الجملة على سبيل البشرى والتطمين بمضاعفة الله الأجر للمؤمنين المتقين. وهو ما تكرر بأساليب متنوعة مرت أمثلة كثيرة منها في السور التي سبق تفسيرها. والله أعلم.
وعلى كل حال ففي الآيتين تلقين مستمر المدى يستمد منه المسلم حافزا على تقوى الله لنيل أجره المضاعف والاهتداء بنوره الهادي. وإيذانا بأنه لا حرج على فضل الله ولا يحق لأحد أن يحتكره، فالله هو صاحب الفضل فيؤتيه من يشاء ممن استحقه بعلمه الصالح وتقواه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية فيها تمثيل مبشر للمسلمين، وهي ليست من الصحاح، ومع ذلك فلم نر بأسا من إيرادها لما فيها من تبشير وتطمين للمسلمين. منها حديث أخرجه الطبري عن عبد الله بن عمر قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر عمالا فقال : من يعمل من بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود، ثم قال : من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى، ثم قال : من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قراطين فعملتم ). وحديث أخرجه الطبري بطرقه عن عبد الله بن دينار قال :( سمعت ابن عمر يقول قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذه الأمة أو قال : مثل أمتي ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل قال : من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط قال اليهود : نحن فعملوا. ثم قال : من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قالت النصارى : نحن فعملوا. وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل على قيراطين ).
Icon