تفسير سورة الحديد

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
أهداف سورة الحديد
سورة الحديد مدنية وآياتها ٢٩ آية، نزلت بعد سورة الزلزلة
وهي سورة تعالج التقوى والصدق والإيمان، وتحث على الصدقة والبذل، والإخلاص في التضحية، وتحذر من غرور الدنيا وفتنتها.
جاء في ظلال القرآن :
هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها، هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله فلا تضن عليها بشيء، ولا تحتجز دونها شيئا... لا الأرواح ولا الأموال، ولا خلجات القلوب، ولا ذوات الصدور... وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض، موازينها هي موازين الله، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين، كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله، فتخشع لذكره وترتجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه. ١.
مطلع السورة
بدأت السورة ببيان قدرة الله العلي القدير، فهو الخالق الرازق، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وهو سبحانه أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، وظاهر في كل ما تراه العين من سماء وأرض وجبال وبحار، وباطن فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو خالق الكون كله، وهو القائم على حفظه، والمهيمن على جميع أمره، والمطلع على خفايا النفوس، والمحاسب على القليل والكثير، والمجازي على الفتيل والقطمير.
ولما كان مدار السورة على تحقيق الإيمان في القلب، وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى، ومن خلوص وتجرد، ومن بذل وتضحية، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس على نسق مؤثر، أشبه ما يكون بنسق السور المكية، حافل بالمؤثرات ذات الإيقاع الآسر للقلب والحس والمشاعر.
" وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير، تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه، فيها تعريف به مع الإيحاء الآسر بالخلوص له، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفردة، وسيطرتها المطلقة على الوجود، ورجعة كل شيء إليها في نهاية المطاف، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور " ٢.
أدلة التوحيد
الآيات الأولى من السورة ( ١-٦ ) يمكن أن تكون عناصر لأدلة التوحيد وصفات الله العلي القدير.
فكل شيء في الكون يتجه إليه بالعبادة، ويعلن خضوعه وانقياده لقدرة الله : فالسماء مرفوعة، والأرض مبسوطة، والبحار جارية، والهواء مسخر، والشمس مسيرة، والقمر باهر، والكوكب زاهر، وكل شيء في مداره يسير معلنا قدرة القدير، مسبحا بلسان الحال، مظهرا لله العبادة والخضوع.
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾. ( الحديد : ١-٣ ).
والقلب يهتز عند قراءة هذه الآيات وما بعدها، يهتز من جلال القدرة الإلهية المؤثرة، المبدعة لكل شيء، المحيطة بكل شيء، المهيمنة على كل شيء، العليمة بكل شيء.
يهتز إجلالا للخالق القادر العليم الخبير، المطلع على خفايا الصدور، يهتز القلب حين يجول في الوجود كله فلا يجد إلا الله، ولا يرى إلا الله، ولا يحس بغير الله، ، ولا يعلم له مهربا من قدرته، ولا مخبأ من علمه، ولا مرجعا إلا إليه، ولا متوجها إلا لوجهه الكريم.
تثبيت الإيمان
الآيات ( ٧-١١ ) دعوة إلى صدق الإيمان وتأكيده، وحث على الإنفاق في سبيل الله. وظاهر من سياق السورة أنها كانت تعالج حالة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة، فإلى جانب المهاجرين والأنصار، الذين ضربوا أروع الأمثال في تحقيق الإيمان، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم في إخلاص نادر وتجرد كامل، إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة كانت هناك في الجماعة الإسلامية فئة أخرى يصعب عليها البذل في سبيل الله، وتشقّ عليها تكاليف العقيدة في النفس والمال، وتزدهيها قيم الحياة الدنيا وزينتها، فلا تستطيع الخلاص من دعوتها وإغرائها.
وهؤلاء بصفة خاصة نجد هذه الآيات تدعوهم إلى الإيمان وتحثهم عليه، وتهتف بهم تلك الهتافات الموحية، لتخلص أرواحهم من الإغراء، والخلود إلى الأرض، وترفعها إلى مستوى الإيمان الحق فيخاطبهم القرآن بقوله :﴿ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. ( الحديد : ٧-٨ ).
مشاهد الآخرة
تعرض الآيات ( ١٢-١٥ ) صورة وضيئة للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة :
﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ... ﴾ ( الحديد : ١٢ ).
والمشهد هنا جديد بين المشاهد القرآنية، إنه مشهد عجيب : هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم، ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعا لطيفا هادئا، ذلك نورهم يشع منهم ويفيض بين أيديهم، فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت، وأشعت نورا يمتد منها فيُرى أمامها ويُرى عن يمينها، إنه النور الذي أخرجها الله وبه من الظلمات، والذي أشرق في أرواحها فعلت طينتها، أو لعله نور الأعمال الصالحة التي عملتها في الدنيا، ثم تبشرهم ملائكة الرحمن بجنات تجري من تحتها الأنهار ينعمون فيها بالخلود والفوز العظيم.
ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف.. إن هناك المنافقين والمنافقات في حيرة وضلال، وفي مهانة وإهمال، وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات، ويقولون لهم : انظروا إلينا لنقتبس من نوركم، فيجيب المؤمنون بأن النور هنا هو نور العمل الصالح الذي عمل في الدنيا، فالدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل، والجزاء الحق هنا من جنس العمل، ولذلك يحال بين المؤمنين والكافرين، ويذهب المؤمنون إلى الرحمة والرضوان، ويذهب المنافقون إلى عذاب النار وبئس المصير.
القلوب الخاشعة
الربع الثاني من سورة الحديد يشتمل على الآيات ( ١٦-٢٩ ) وفيها دعوة المؤمنين إلى أن تكون قلوبهم خاشعة قانتة، تهتز لآيات الله وما نزل من الحق، ويستجيب لنداء السماء، وتؤثر الآخرة على الدنيا والباقية على الفانية.
ومضمون الآيات – كما ترى – امتداد لموضوع السورة الرئيسي : تحقيق حقيقة الإيمان في النفس حتى ينبثق عنها البذل الخالص في سبيل الله.
ويستهل الربع برنّة عتاب من الله سبحانه للمؤمنين الذين لم يصلوا إلى المرتبة السامية في الإيمان، وتلويح لهم بما كان من أهل الكتاب قبلهم من قسوة في القلوب وفسق في الأعمال، وتحذير من هذا المآل الذي انتهى إليه أهل الكتاب بطول الأمد عليهم، مع إطماعهم في عون الله الذي يحيي القلوب كما يحيي الأرض بعد موتها، قال تعالى :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... ﴾ ( الحديد : ١٦ ).
وتتبع هذه الدعوة إلى الخشوع والتقوى، دعوة تالية إلى إقراض الله قرضا حسنا، مع بيان ما أعده الله لمن يقرضونه في الدنيا من العوض المضاعف والأجر الكريم. ( انظر الآيتين : ١٨-١٩ ).
والآية ( ٢٠ ) رسم رائع، وميزان عادل يضع قيم الدنيا كلها في كفة، وقيم الآخرة في كفة... حيث تبدو قيم الأرض لعبا خفيفة الوزن، وترجح كفة الآخرة ويبدو فيها الجد الذي يستحق الاهتمام.
ومن ثم تهتف الآية ( ٢١ ) بهم ليسابقوا على قيم الأخرى.. في جنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين.
والآيتان ( ٢٢، ٢٣ ) درس مفيد في الإيمان بالقضاء والقدر، وبيان أن الأجل بيد الله الذي خلق النفوس وكتب أجلها ورزقها، حتى لا نكثر الأسى على ما فاتنا، ولا نكثر الفرح بما جاءنا فالقلب الموصول بالله ثابت في المحن، راض في المنح.
وتعرض الآيات ( ٢٥-٢٧ ) طرفا من تاريخ دعوة الله في الأرض، تبدو فيه وحدة المنهج واستقامة الطريق، وأن الذي يحيد عنه في كل عهد هم الفاسقون.
وفي الآية قبل الأخيرة من السورة هتاف ودعوة للمؤمنين لتقوى الله، وصدق الإيمان برسوله، وبذلك يعطيهم الله نصيبين من رحمته، ويجعل لهم نورا يمشون به ويغفر لهم، ففضل الله ليس وقفا على أهل الكتاب كما يزعمون، إنما هو بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وهكذا تبدو السورة من أولها إلى آخرها مترابطة الحلقات، في خط واحد ثابت، تتوالى إيقاعاتها على القلوب، منوعة ومتشابهة، فيها من التكرار القدر اللازم لتعميق أثر الإيقاع في القلب وطرقه وهو ساخن، وتلوين هذه المؤثرات أمام المخاطبين.
لعلهم يتقون أو يُحدث لهم ذِكرا. ( طه : ١١٣ ).
" وبعد.. فهذه السورة نموذج من النماذج القرآنية الواضحة في خطاب القلوب البشرية، واستجاشتها بأسلوب عميق التأثير، وهي في بدئها وسياقها وختامها، وفي طريقة تناولها للموضوع وسيرها فيه جولة بعد جولة هي في هذا درس بديع للدعاة يعلمهم كيف يخاطبون الناس، وكيف يوقظون الفطرة، وكيف يستحيون القلوب " ٣
قال الفيروزبادي :
معظم مقصود السورة : الإشارة إلى تسبيح جملة المخلوقين والمخلوقات، في الأرض والسماوات، وتنزيه الحق في الذات والصفات، وأمر المؤمنين بإنفاق النفقات والصدقات، وذكر حيرة المنافقين والمنافقات في ساحة القيامة، وبيان خسة الدنيا وعز الجنات، وتسلية الخلق عند هجوم النكبات والمصيبات " ٤
في قوله تعالى :
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾. ( الحديد : ٢٢-٢٣ ).

دلائل القدرة الإلهية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١ ) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢ ) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٣ ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٤ ) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( ٥ ) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٦ ) ﴾
تمهيد :
سورة الحديد سورة عنيت بتثبيت العقيدة، وحشد الدلائل على قدرة الله تعالى، فهو سبحانه المنزّه عن النظير والمثيل، وهو المالك للسماوات والأرض، وبيده الحياة والموت، وهو ظاهر في كل ما تراه العيون، وهو باطن فلا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهو خالق الكون في ست مراحل، حيث كان الكون كرة ملتهبة، مرّت بها ستة بلايين سنة، حتى صارت صالحة للحياة، وكانت السماء صمّاء لا تمطر، والأرض رتقاء لا تنبت، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، وأجرى الهواء، وسخّر الشمس والقمر، والليل والنهار، وجعل الكون صالحا لحياة الإنسان عليه، وهو عالم بما ينزل في الأرض من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها كالزرع والمعادن والبترول لمصلحة الناس، ويجب إخراج زكاته، وهو عالم بما ينزل من السماء كالمطر والملائكة، وبما يصعد إليها من الدعاء.
وهو سبحانه يطيل الليل في الشتاء، بحيث يمتد إلى ١٤ ساعة، وينقص النهار حتى يصل إلى ١٠ ساعات، ثم يحدث العكس في الصيف، حيث يقصر الليل ويطول النهار، وهو مطّلع على خفايا النفوس، ومحاسب على خفيات السرائر.
المفردات :
سبّح : نزّه الله ومجدّه وقدّسه.
العزيز : القوي الغالب على كل شيء.
الحكيم : الذي يفعل أفعاله وفق الحكمة والصواب.
التفسير :
١- ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
نزّه الله ومجّده وعظّمه ما في السماوات من الملائكة والأبراج والأفلاك، والسحاب والشمس والقمر، والفضاء والهواء، وما في الأرض من النبات والأنهار والبحار والأشجار، والرمال والإنسان، والحيوان، والطيور والوحوش، والزواحف والهوام، وهو العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد، الحكيم في تصرفاته وأفعاله.
والتسبيح يكون بلسان المقال مثل تسبيح الإنسان والجانّ والملائكة وسائر العقلاء.
وقد يكون التسبيح بلسان الحال، بمعنى أن دلالة المخلوقات التي في الكون، فيها إشارة إلى يد القدرة العليا التي تمسك بزمام هذا الكون، وتحفظ نظامه، وتدل بما فيه من نظام وإحكام على قدرة القدير، وحكمة العزيز، ومن التسبيح بلسان الحال : ارتفاع السماء، وحركة الشمس والقمر، والليل والنهار، والنجوم والأبراج والأفلاك، وجميع ذرات الأرضين، وما فيها من جبال وبحار، وشجر ودواب وغير ذلك، كلها مسبحة خاشعة خاضعة لذاته.
قال تعالى :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... ﴾ ( الإسراء : ٤٤ )
قال المفسرون : قد جاء في بعض فواتح السور ( سبّح لله ) بلفظ الماضي، وفي بعضها ( يسبح لله ) بلفظ المضارع، وفيه إشارة إلى كون جميع الأشياء مسبحة لله أبدا في الماضي، وستكون مسبحة في المستقبل.
قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ... ﴾ ( الحج : ١٨ )
تمهيد :
سورة الحديد سورة عنيت بتثبيت العقيدة، وحشد الدلائل على قدرة الله تعالى، فهو سبحانه المنزّه عن النظير والمثيل، وهو المالك للسماوات والأرض، وبيده الحياة والموت، وهو ظاهر في كل ما تراه العيون، وهو باطن فلا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهو خالق الكون في ست مراحل، حيث كان الكون كرة ملتهبة، مرّت بها ستة بلايين سنة، حتى صارت صالحة للحياة، وكانت السماء صمّاء لا تمطر، والأرض رتقاء لا تنبت، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، وأجرى الهواء، وسخّر الشمس والقمر، والليل والنهار، وجعل الكون صالحا لحياة الإنسان عليه، وهو عالم بما ينزل في الأرض من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها كالزرع والمعادن والبترول لمصلحة الناس، ويجب إخراج زكاته، وهو عالم بما ينزل من السماء كالمطر والملائكة، وبما يصعد إليها من الدعاء.
وهو سبحانه يطيل الليل في الشتاء، بحيث يمتد إلى ١٤ ساعة، وينقص النهار حتى يصل إلى ١٠ ساعات، ثم يحدث العكس في الصيف، حيث يقصر الليل ويطول النهار، وهو مطّلع على خفايا النفوس، ومحاسب على خفيات السرائر.
المفردات :
يحيي : يحيي النّطف، فيجعلها أشخاصا عُقلاء فاهمين ناطقين.
ويُميت : يميت الأحياء، وهو على كل من الإحياء والإماتة قدير.
التفسير :
٢- ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
٣- لله تعالى وحده ملك السماء وما فيها، وملك الأرض وما عليها وما فيها، فهو المالك الحقيقي لهذا الكون، ومُلك غير الله مُلك عارض، أما مُلك الله لهذا الكون، وحفظه وعنايته بهذا الكون، فذلك مُلك دائم، وهو سبحانه ذو قدرة بالغة، لا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء وإماتة، وإعزاز وإذلال.
وقريب من ذلك ما ورد في آية الكرسي :
﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... ﴾ ( البقرة : ٢٥٥ ).
تمهيد :
سورة الحديد سورة عنيت بتثبيت العقيدة، وحشد الدلائل على قدرة الله تعالى، فهو سبحانه المنزّه عن النظير والمثيل، وهو المالك للسماوات والأرض، وبيده الحياة والموت، وهو ظاهر في كل ما تراه العيون، وهو باطن فلا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهو خالق الكون في ست مراحل، حيث كان الكون كرة ملتهبة، مرّت بها ستة بلايين سنة، حتى صارت صالحة للحياة، وكانت السماء صمّاء لا تمطر، والأرض رتقاء لا تنبت، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، وأجرى الهواء، وسخّر الشمس والقمر، والليل والنهار، وجعل الكون صالحا لحياة الإنسان عليه، وهو عالم بما ينزل في الأرض من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها كالزرع والمعادن والبترول لمصلحة الناس، ويجب إخراج زكاته، وهو عالم بما ينزل من السماء كالمطر والملائكة، وبما يصعد إليها من الدعاء.
وهو سبحانه يطيل الليل في الشتاء، بحيث يمتد إلى ١٤ ساعة، وينقص النهار حتى يصل إلى ١٠ ساعات، ثم يحدث العكس في الصيف، حيث يقصر الليل ويطول النهار، وهو مطّلع على خفايا النفوس، ومحاسب على خفيات السرائر.
المفردات :
الأول : السابق على سائر الموجودات.
الآخر : الباقي عند فنائها.
الظاهر : الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت.
الباطن : الذي خفيت عنّا ذاته فلم ترها العيون، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، ومشرق بجماله وكماله، وظاهر بغلبته على مخلوقاته، وتسخيرها لإرادته، وباطن بعلمه بما خفي منها، فلا تخفى عليه خافية.
التفسير :
٣- ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
أورد ابن كثير طائفة من الأحاديث عند تفسير هذه الآية، منها ما يأتي :
عن العرباض بن سارية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال : " إن فيهن آية أفضل من ألف آية " ٥.
٤- والآية المشار إليها في الحديث هي – والله أعلم – قوله تعالى :﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
وقد أخرج الحافظ أبو يعلى الموصلي، عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه، فيفرش له مستقبل القبلة، فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى ثم همس، ما أدرى ما يقول، فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال : " اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، إله كل شيء، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول الذي ليس قبلك شيء، وأنت الآخر الذي ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر " ٦. وأخرجه مسلم، وأحمد.
فالله تعالى أول ليس لوجوده بداية، ولا لبقائه نهاية.
قال تعالى :﴿ كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾. ( الرحمن : ٢٦-٢٧ ).
وهو سبحانه ظاهر للعقول بالأدلة والبراهين، وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد.
وهو سبحانه باطن فلا تدركه الأبصار، ولا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته.
﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
قد أحاط الله بكل شيء علما، أحاط علمه بكل ذرة في الكون، لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو بكل شيء عليم.
تمهيد :
سورة الحديد سورة عنيت بتثبيت العقيدة، وحشد الدلائل على قدرة الله تعالى، فهو سبحانه المنزّه عن النظير والمثيل، وهو المالك للسماوات والأرض، وبيده الحياة والموت، وهو ظاهر في كل ما تراه العيون، وهو باطن فلا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهو خالق الكون في ست مراحل، حيث كان الكون كرة ملتهبة، مرّت بها ستة بلايين سنة، حتى صارت صالحة للحياة، وكانت السماء صمّاء لا تمطر، والأرض رتقاء لا تنبت، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، وأجرى الهواء، وسخّر الشمس والقمر، والليل والنهار، وجعل الكون صالحا لحياة الإنسان عليه، وهو عالم بما ينزل في الأرض من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها كالزرع والمعادن والبترول لمصلحة الناس، ويجب إخراج زكاته، وهو عالم بما ينزل من السماء كالمطر والملائكة، وبما يصعد إليها من الدعاء.
وهو سبحانه يطيل الليل في الشتاء، بحيث يمتد إلى ١٤ ساعة، وينقص النهار حتى يصل إلى ١٠ ساعات، ثم يحدث العكس في الصيف، حيث يقصر الليل ويطول النهار، وهو مطّلع على خفايا النفوس، ومحاسب على خفيات السرائر.
المفردات :
ستة أيام : ستة أطوار، أو ست مراحل، وربما ستة بلايين سنة.
استوى : جلس، والاستواء هنا بمعنى استولى.
العرش : أصله : سرير المُلك، وفي الإصلاح الديني، خلق عظيم محيط بالعالم، منه تنزل التدبيرات الإلهية.
يلج : يدخل.
يعرج : يصعد
التفسير :
٤- ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
تسابق المسلمون إلى العمل بالقرآن الكريم، وقد آمنوا بالمحكم، وفوضوا إلى الله تعالى المتشابه، واندفعوا إلى تحقيق مطالب الإيمان، ففتحوا البلاد، ونشروا دين الله في الأرض، وبعد الفتوح والهدوء وجدنا البحث في الصفات وفي المتشابه.
فالسلف يقولون : نؤمن بها كما وردت، ونفوض المراد إلى الله تعالى.
مثل قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾.
قال الإمام مالك :
الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
أي أننا نؤمن بآيات الصفات كما جاءت، بلا تشبيه ولا تعطيل، نؤمن بأن الله على العرش، كيف شاء وكما شاء، بلا حدّ ولا صفة يبلغها واصف.
أما مذهب الخلف فيقولون : حاشا وكلا أن ينزل الله قرآنا، ويطلب منا تدبّره وفهمه والاستنباط منه، ثم نمنع أنفسنا من تأويله بمعان تليق بذاته تعالى، مثل :
﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾... ( الفتح : ١٠ ). ﴿ ولتصنع على عيني ﴾. ( طه : ٣٩ ). ﴿ ثم استوى على العرش ﴾. ( الحديد : ٤ ).
فيؤولون ذلك بقولهم : قدرة الله فوق قدرتهم، ولتربّى بعنايتي وتوفيقي، ثم استولى وغلب وقهر ومَلَك العرش، وهو خلق عظيم محيط بالعالم، منه تنزل التدبيرات الإلهية.
جاء في تفسير المنار :
والمعنى الكليّ المفهوم من العرش أنه مركز نظام الكون، ومصدر التدبير له، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم : استوى على عرشه، بمعنى ملك أو استقام أمر الملك له، وثُلَّ عرشه، بمعنى هلك وزال ملكه، ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادة وشكلا، وهي من عالم الشهادة، وصنع أيدي البشر، أما عرش الرحمن فهو من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا، وحسبنا أن نفهم الجملة، ونستفيد العبرة.
خلق السماوات والأرض
المتأمل في الآيات التي تحدثت عن خلق السماوات والأرض وعن خلق الكون، يخلص إلى النقاط الآتية :
١- وجود مراحل ست للخلق عموما.
٢- تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل خلق الأرض.
٣- خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة، كانت تشكل كتلة متماسكة، انفصلت أجزاؤها بعد ذلك.
٤- تعدد السماوات، وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض.
٥- وجود خلق وسيط بين السماوات والأرض.
٦- إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولي في العلم الحديث، والدخان على حسب إشارة القرآن للدلالة على الحالة الغازية للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى.
وآيات القرآن الكريم يفسر بعضها بعضا، ويكمل بعضها بعضا، وقد أفاد القرآن أن الكون كان كرة ملتهبة ملتصقة ببعضها، وكانت السماء رتقاء لا تُمطر، والأرض صمّاء لا تنبت، ففتق الله السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات، وسخّر الهواء والفضاء، والشمس والقمر، والأنهار والبحار والنبات، ليعمر الكون بإرادة الله.
قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾. ( الأنبياء : ٣٠-٣٣ ).
معنى الآية :
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ... ﴾
أي : خلق الكون في مقدار ستة أيام من أيام لله تعالى، ولو شاء لخلق السماوات والأرض في لمح البصر، لكنه أراد أن يعلّم عباده الحكمة والصبر، والأخذ بالأسباب، وإتباع السنن الإلهية في الجدّ والعمل والدأب، وانتظار الوقت المناسب لإنضاج الثمرة، أو اكتمال العمل.
وقد انعقد في الولايات المتحدة الأمريكية مؤتمر للبحث في عمر الدنيا، وعمر الإنسان على هذا الكوكب، وذلك في أبريل سنة ١٩٩٣م، ومن نتائج المؤتمر أن عمر الكون ١٣ بليون سنة، وأن عمر الإنسان في هذا الكون ٧ ملايين سنة، أي أن خلق الكون قد استمر ٦ بلايين سنة، حتى هدأت القشرة الملتهبة، وأصبح الكون صالحا لحياة الإنسان، ثم استخلف الله آدم لعمارة الأرض واستغلال طاقاتها، وقدر الله في الأرض أرزاقها وأقواتها، وحثّ الإنسان على أداء الصلاة، ثم السعي على كسب الأرزاق.
قال تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾. ( الجمعة : ١٠ ).
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ... ﴾
ثم استولى على الملك، يدبّره ويوصل كل شيء فيه إلى كماله.
﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا.. ﴾
يعلم ما بداخل الأرض من مطر وأموات وبذور وحشرات، وهوام وكنوز وغيرها، علما تفصيليا، ويعلم الله، َمَا يَخْرُجُ مِنْهَا. من نبات ونفائس، ومعادن ونحوها، كما قال تعالى :
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾. ( الأنعام : ٥٩ ).
﴿ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ... ﴾ من الأرزاق والملائكة والرحمة والعذاب.
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا. وما يصعد إليها من كلم طيب ودعوات وعبادات، أو ذرات البخار، أو جن يسترق السمع، أو أرواح تصعد إلى بارئها.
قال تعالى :﴿ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه... ﴾ ( فاطر : ١٠ )
وقال تعالى :﴿ ألا يعلم من خلق... ﴾ ( الملك : ١٤ ).
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ... ﴾
هو سبحانه مع خلقه جميعا بعلمه وقدرته، وتدبيره وإحاطته إحاطة تامة بجميع الموجودات.
قال تعالى :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾. ( يونس : ٦١ ).
﴿ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
هو سبحانه مطلع وشاهد، ورقيب وحسيب، تنكشف أمامه جميع الموجودات انكشافا تاما دون سبق خفاء فهو سبحانه سميع بصير.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". ٧
وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
تمهيد :
سورة الحديد سورة عنيت بتثبيت العقيدة، وحشد الدلائل على قدرة الله تعالى، فهو سبحانه المنزّه عن النظير والمثيل، وهو المالك للسماوات والأرض، وبيده الحياة والموت، وهو ظاهر في كل ما تراه العيون، وهو باطن فلا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهو خالق الكون في ست مراحل، حيث كان الكون كرة ملتهبة، مرّت بها ستة بلايين سنة، حتى صارت صالحة للحياة، وكانت السماء صمّاء لا تمطر، والأرض رتقاء لا تنبت، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، وأجرى الهواء، وسخّر الشمس والقمر، والليل والنهار، وجعل الكون صالحا لحياة الإنسان عليه، وهو عالم بما ينزل في الأرض من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها كالزرع والمعادن والبترول لمصلحة الناس، ويجب إخراج زكاته، وهو عالم بما ينزل من السماء كالمطر والملائكة، وبما يصعد إليها من الدعاء.
وهو سبحانه يطيل الليل في الشتاء، بحيث يمتد إلى ١٤ ساعة، وينقص النهار حتى يصل إلى ١٠ ساعات، ثم يحدث العكس في الصيف، حيث يقصر الليل ويطول النهار، وهو مطّلع على خفايا النفوس، ومحاسب على خفيات السرائر.
التفسير :
٥- ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.
هو المالك لأمرهما، والمدبّر لشئونهما، والنافذ حكمه فيهما، وإليه مصير جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه.
إنه هو سبحانه المعز المذل، القابض الباسط، المعطي المانع، الكون في قبضته، والسماوات والأرض في ملكوته وحفظه، وإليه مرجع الخلائق جميعا، فيحاسبهم على أعمالهم، ويجازيهم على الإحسان إحسانا، وعلى السوء سوءا.
قال تعالى :﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾. ( القصص : ٧٠ ).
تمهيد :
سورة الحديد سورة عنيت بتثبيت العقيدة، وحشد الدلائل على قدرة الله تعالى، فهو سبحانه المنزّه عن النظير والمثيل، وهو المالك للسماوات والأرض، وبيده الحياة والموت، وهو ظاهر في كل ما تراه العيون، وهو باطن فلا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهو خالق الكون في ست مراحل، حيث كان الكون كرة ملتهبة، مرّت بها ستة بلايين سنة، حتى صارت صالحة للحياة، وكانت السماء صمّاء لا تمطر، والأرض رتقاء لا تنبت، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، وأجرى الهواء، وسخّر الشمس والقمر، والليل والنهار، وجعل الكون صالحا لحياة الإنسان عليه، وهو عالم بما ينزل في الأرض من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها كالزرع والمعادن والبترول لمصلحة الناس، ويجب إخراج زكاته، وهو عالم بما ينزل من السماء كالمطر والملائكة، وبما يصعد إليها من الدعاء.
وهو سبحانه يطيل الليل في الشتاء، بحيث يمتد إلى ١٤ ساعة، وينقص النهار حتى يصل إلى ١٠ ساعات، ثم يحدث العكس في الصيف، حيث يقصر الليل ويطول النهار، وهو مطّلع على خفايا النفوس، ومحاسب على خفيات السرائر.
المفردات :
يُولج : يُدخل.
٦- ﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، فهو سبحانه يقلّب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته ومشيئته، فتارة يطول الليل إلى ١٤ ساعة، ويقصر النهار إلى ١٠ ساعات، وتارة يحدث العكس، يقصر الليل ويطول النهار، وتارة يتركهما متعادلين، وحينا يجعل الفصل شتاء أو ربيعا، وحينا يكون صيفا أو خريفا، ويقلّب الطقس فتراه بردا ممطرا عاصفا، وتراه تارة أخرى مشمسا هادئا، ومرة حارّا لافحا، ومرة معتدلا، وهو سبحانه العليم بالسرائر والضمائر، والمطلع على النوايا والخفايا، وفي ذلك حث على الإخلاص، والشكر لله على ما أولى وأنعم.
الحث على الصدقة
﴿ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( ٧ ) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( ٨ ) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ٩ ) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ١٠ ) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ١١ ) ﴾
المفردات :
مستخلفين فيه : جعلكم سبحانه خلفاء عنه في التصرف من غير أن تملكوه.
التفسير :
٧- ﴿ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِير ﴾.
سبق أن بينت الآيات السابقة أن الملك بيد الله، فهو سبحانه الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو مطلع على النوايا والخفايا، وهنا نجد تربية إلهية للمؤمنين :
﴿ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... ﴾
اصدقوا في إيمانكم بالله، وأنه وحده هو الخالق المستحق للعبادة، واصدقوا في إيمانكم بمحمد رسول الله، وقد يُطلب من المؤمن الإيمان، بمعنى : زيدوا في إيمانكم وبالغو في تضحياتكم، والتزموا بطاعة أوامر الله ورسوله، وأخلصوا النية.
قال تعالى :﴿ يأيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله... ﴾ ( النساء : ١٣٦ ).
﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه... ﴾
في النظم الشيوعية نجد العناية متجهة لتفخيم أمر المجتمع وحقوقه، وفي النظم الرأسمالية تتجه العناية إلى حرية الفرد في تثمير ماله، أما النظام الإسلامي فقد اهتم بحق الفرد في التملك، وحرّم العدوان على مال الآخرين، فحرم السرقة والغصب، والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، ثم أوجب للمجتمع حقا في الزكاة والصدقة والنذر والكفارات، فأوجد التعاون بين الفرد والمجتمع، بحيث إنه جعل الغني موظفا، اجتماعيا في ماله، فالمال مال الله، والغني مستخلف عن الله، في رعاية المال وتثميره، وإخراج الزكاة والصدقة منه.
أخرج الإمام مسلم، والإمام البخاري، عن عبد الله بن الشخير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم : مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟ أو تصدقت فأمضيت ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " ٨
﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.
فالذين صدّقوا وآمنوا بربهم ورسوله، وأنفقوا مما منحهم الله، ومما جعلهم مستخلفين فيه، لهم ثواب عظيم، وأجر كبير وهو الجنة، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون.
المفردات :
وقد أخذ ميثاقكم : قيل : هو الميثاق الأول وهم في ظهر آدم، بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل : الميثاق هو أنه منحكم العقول، ونصب لكم الأدلة، ومكنكم من النظر فيها.
التفسير :
٨- ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
أي شيء يمنعكم من الإيمان بالله، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم قائم بينكم بالدعوة التوضيح، والحث على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ؟
﴿ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ.... ﴾
ركب الله فيكم العقول والأفكار، وأودع فيكم التأمل والنظر، وحثكم على استخدام الفكر والرأي، واللب والفؤاد، وبذلك ينتقل الإنسان إلى شاهد على أن هذا الكون لم يُخلق سدى، ولن يترك عبثا، وأن وراء الكون البديع يد الله المبدع الخالق.
قال الشاعر :
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
وقيل : معنى : وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ....
إشارة إلى عهد الله على بني آدم، حين أخذ الذرية من ظهر آدم عليه السلام، وأخذ عليها العهد والميثاق أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا... ﴾ ( الأعراف : ١٧٢ ).
﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
إن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات، فالآن أحرى الأوقات، لقيام الحجج والبراهين عليكم.
أخرج البخاري في كتاب الإيمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه : " أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا " ؟ قالوا : الملائكة. قال : " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم " ؟ قالوا : فالأنبياء. قال : " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم " ؟ قالوا : فنحن. قال : " وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعحب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم، يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " ٩
قال ابن كثير :
وقوله تعالى :﴿ وقد أخذ ميثاقكم ﴾.
كما قال تعالى :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا... ﴾ ( المائدة : ٧ ).
ويعني بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
الآيات البينات : القرآن.
التفسير :
٩- ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.
الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا الهدى والبيان، حاملا دلائل الإيمان، حاملا أخبار البشرية، وخلق الكون، وخلق آدم، واستخلافه في الأرض، وتاريخ البشرية، وأخبار الرسل مع أقوامهم، ومشاهد القيامة، والبعث والحشر، والجزاء والحساب، والجنة والنار، وكل هذه الآيات البينات من شأنها أن تُخرجكم من ظلمات الكفر والجهالة إلى نور الإيمان ورسالة الإسلام.
﴿ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.
في تشريعاته وتيسيراته، ومن رحمته الهداية وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، ومن رحمته رفع الحرج، فأباح التيمم للمريض عند عدم قدرته على استخدام الماء، وأباح الفطر للمريض والمسافر في رمضان، ثم القضاء أو الفدية.
قال تعالى :﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج... ﴾ ( المائدة : ٦ ).
وقال سبحانه :﴿ يُريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر... ﴾ ( البقرة : ١٨٥ ).
ومن رحمته قبول التوبة من عباده.
قال تعالى :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء... ﴾ ( الأعراف : ١٥٦ ).
فما أعظم رأفته، وما أعظم رحمته، فقد قسم الرحمة مائة جزء، أنزل جزءا واحدا في الدنيا يتراحم به الناس، وادّخر تسعة وتسعين جزءا، يرحم بها عباده يوم القيامة.
المفردات :
الفتح : فتح مكة.
الحسنى : المثوبة الحسنى، وهي النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
التفسير :
١٠-﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
أي شيء يمنعكم من الإنفاق في مرضاة الله، ونصر دينه، وتأييد رسوله، وتبليغ دعوته، ودعم الجهاد في تأييد الإسلام ومرضاة الرحمن ؟
والحياة الدنيا محدودة، فستنتهي أعماركم، ويؤول المال إلى وارثكم، وفي ذلك الوقت لا تستطيعون الإنفاق، وفي الأثر :( إن مالك ما قدّمت، ومال وارثك ما أخّرت ).
أو أن الناس جميعا ستفنى، والله هو الباقي وحده، وسيؤول إليه سبحانه ملك السماوات والأرض، فملك البشر عارية محدودة، وملك الله باق خالد.
قال تعالى :﴿ كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾. ( الرحمن : ٢٦-٢٧ ).
وقال تعالى :﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ... ﴾ ( الحديد : ٧ ).
فالمال مال الله، والإنسان مستخلف عليه لتثميره ووضعه في حقه، وكان الرجل من الصالحين يقول : هذا مال الله عندي، ويقول : لله عندي سبعة أولاد، وسبعون ألفا من الدراهم.
والخلاصة :
أنفقوا من أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السماوات والأرض.
﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ... ﴾
كان الإسلام غريبا في مكة، مكث فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما، وكل من آمن به مائتا رجل وامرأة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة بدأ الجهاد والقتال، وخاض النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه اثنتين وخمسين غزوة وسريّة، مع أن مدة المدينة كلها كانت عشر سنوات، أي أنه كان لا يمضي شهران في المتوسط إلا والمسلمون يخوضون غمار غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سرية مع أمير من الصحابة، وكان الوقت فيه عسرة ومشقة، وقلة في المال، فمن تطوّع بماله ونفسه في تلك الفترة، وفي وقت الجهد والمشقة والكفاح، كان أصدق قصدا، وأرغب فيما عند الله، ثم فتحت مكة سنة ٨ ه، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وجاء المال وجاءت المغانم، وغنم المسلمون مغانم كثيرة في فتح حنين والطائف، فقارن القرآن بين من أنفق قبل الفتح وضحّى بنفسه وماله، مثل أبي بكر الصديق الذي قدّم ماله كله ابتغاء مرضاة الله، ومن قدم ماله وجاهد بنفسه بعد الفتح.
قال تعالى : أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا...
من أنفق المال وقاتل في سبيل الله قبل فتح مكة، أو قبل صلح الحديبية، أعظم أجرا وثوابا ورضوانا من الله، من الذين أنفقوا أموالهم وبذلوا أنفسهم بعد فتح مكة، أو بعد صلح الحديبية.
وجمهور العلماء على أن المراد بالفتح فتح مكة، وقيل : الفتح : صلح الحديبية.
قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.
﴿ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى... ﴾
أي : كلا من الذين أنفقوا وجاهدوا قبل الفتح، والذين أنفقوا وجاهدوا بعد الفتح، وعدهم الله الثواب العظيم والجنة، أو عز الدنيا وشرف الآخرة، وإن كان بينهم تفاوت في مقدار الجزاء.
كما قال تعالى :﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾. ( النساء : ٩٥ ).
وفي الحديث الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ".
لقد استوى الاثنان في الخير، وفي الجزاء بالحسنى والجنة، لكن الله فاوت بين الاثنين في الفضل، وفضّل من أنفق وجاهد في وقت المشقة، وقلة العدد وقلة المال، حيث كان الإخلاص أظهر، والرغبة فيما عند الله أوضح، ومع ذلك جعل الله سبحانه جزاء حسنا لمن أنفق بعد الفتح وقاتل.
قال تعالى في ختام الآية :
﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
هو سبحانه مطلع على القلوب والنفوس، عالم بالنّوايا، يعلم السر وأخفى، وهو المجازي على أعمالكم، فأخلصوا له النية.
المفردات :
يقرض الله : ينفق ماله في سبيله رجاء ثوابه.
التفسير :
١١- ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾.
هذا استفهام للحث والتحضيض على الإنفاق في سبيل الله، وفي سائر وجوه الخير، فالآية عامة في كل خير، أي : من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يعوّضه الله أضعافا كثيرة إلى سبعمائة ضعف، مع الكرامة والبشرى بالجنة.
وقد كان للسابقين إلى الإسلام النصيب الأوفى من هذا القرض، وذلك الجزاء الكريم.
أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبّوا أصحابي، فو الذي نفس محمد بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه " ١٠.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ.. ﴾. قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال : إني أقرضت ربّي حائطي ( بستاني )، وكان له حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال : فجاء أبو الدحداح، فناداها : يا أم الدحداح، قالت لبيك، اخرجي فقد أقرضته ربّي عز وجل.
وفي رواية أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كم من عذق رداح، في الجنة لأبي الدحداح ".
وجاء في مختصر تفسير ابن كثير :
( العِذق ) : القنو من النخل، والعنقود من العنب.
و( رداح ) : ضخم مخصب.
من مشاهد القيامة
﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٢ ) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( ١٣ ) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( ١٤ ) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
تمهيد :
تصف الآيات مشهدا من مشاهد القيامة، فالمؤمنون يجدون أمامهم نور الأعمال الصالحة، ووجوههم مشرقة كالقمر، ويتحرك النور أمامهم، ومن جهة أيمانهم، وتبشّرهم الملائكة بالجنة وأنهارها ونعيمها، والخلود فيها، والفوز برضوان الله تعالى.
أما المنافقون فلا يجدون نورا، وهم في ظلام دامس مطبق عليهم، وهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ثم يمرّ المؤمنون عليهم والنور يسير أمامهم، فيقول المنافقون للمؤمنين : انظروا إلينا حتى نهتدي بنوركم ونسير فيه إلى الجنة، فيقول المؤمنون للمنافقين : ارجعوا إلى الدنيا، فإنّ العمل الصالح في الدنيا هو سبب النور اليوم، وهو تهكم بهم، فإنهم لا يستطيعون الرجوع إلى الدنيا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
ثم يوضع حائط بين أهل الجنة وأهل النار، من جهة أهل الجنة رحمة ونعمة، ومن جهة المنافقين عذاب وشدة، وهنا يبدأ حوار بين المنافقين والمؤمنين، فيقول المنافقون للمؤمنين : ألم نكن معكم في الدنيا، في الصلاة والجهاد وغير ذلك ؟ فيقول المؤمنون : كنتم معنا بأجسامكم، ولم تكونوا معنا بقلوبكم، حيث غرّتكم المظاهر والشهوات، وغرّكم الشيطان، وزين لكم الكفر والنفاق، والشك في دين الإسلام، حتى جاءكم الموت وأنتم على النفاق والكفر، فاليوم لا يقبل منكم فدية كما كان في الدنيا، ولا مأوى لكم إلا النار وبئس المصير.
المفردات :
يسعى : يمضي مسرعا.
نورهم : نور العمل الصالح الذي يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة.
بشراكم : ما تبشرون به.
التفسير :
١٢- ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
هذا مشهد عظيم، حين ترى المؤمنين والمؤمنات يتلألأ النور من أمامهم وعن أيمانهم، إنه نور العمل الصالح، يسير أمامهم ليستضيئوا به على الصراط، وتكون وجوههم مضيئة كإضاءة القمر في سواد الليل، وتبشّرهم الملائكة بالبساتين والنعيم المقيم، والأنهار التي تجري من تحتهم : أنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل، وأنهار من ماء نقي نظيف، وتبشرهم الملائكة بالخلود الأبديّ السرمديّ، وبالفوز بالجنة ونعيمها، وبالرضوان الإلهي، والكرامة والنعمة، فهم أهل للنعيم الحسي في الجنة، مع النعيم المعنوي في الكرامة والرضا الإلهي، ورضوان من الله أكبر... ( التوبة : ٧٢ ).
﴿ لقد فاز المتقون فوزا عظيما ﴾.
أخرج ابن أبي شيبة وغيره، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود أنه قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى.
تمهيد :
تصف الآيات مشهدا من مشاهد القيامة، فالمؤمنون يجدون أمامهم نور الأعمال الصالحة، ووجوههم مشرقة كالقمر، ويتحرك النور أمامهم، ومن جهة أيمانهم، وتبشّرهم الملائكة بالجنة وأنهارها ونعيمها، والخلود فيها، والفوز برضوان الله تعالى.
أما المنافقون فلا يجدون نورا، وهم في ظلام دامس مطبق عليهم، وهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ثم يمرّ المؤمنون عليهم والنور يسير أمامهم، فيقول المنافقون للمؤمنين : انظروا إلينا حتى نهتدي بنوركم ونسير فيه إلى الجنة، فيقول المؤمنون للمنافقين : ارجعوا إلى الدنيا، فإنّ العمل الصالح في الدنيا هو سبب النور اليوم، وهو تهكم بهم، فإنهم لا يستطيعون الرجوع إلى الدنيا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
ثم يوضع حائط بين أهل الجنة وأهل النار، من جهة أهل الجنة رحمة ونعمة، ومن جهة المنافقين عذاب وشدة، وهنا يبدأ حوار بين المنافقين والمؤمنين، فيقول المنافقون للمؤمنين : ألم نكن معكم في الدنيا، في الصلاة والجهاد وغير ذلك ؟ فيقول المؤمنون : كنتم معنا بأجسامكم، ولم تكونوا معنا بقلوبكم، حيث غرّتكم المظاهر والشهوات، وغرّكم الشيطان، وزين لكم الكفر والنفاق، والشك في دين الإسلام، حتى جاءكم الموت وأنتم على النفاق والكفر، فاليوم لا يقبل منكم فدية كما كان في الدنيا، ولا مأوى لكم إلا النار وبئس المصير.
المفردات :
انظرونا : انتظرونا أو أمهلونا.
نقتبس : أصل الاقتباس : طلب القبس، أي : الجذوة من النار، والمراد نستضيء ونهتدي بنوركم.
السور : الحاجز.
من قبله : من جهته.
التفسير :
١٣- ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾.
ما أشد هول هذا اليوم، إنه يوم الجزاء، فالدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل.
والمعنى :
انظر يا كل من يتأتى منه النظر، الجزاء الحسن للمؤمنين، نورهم يسعى أمامهم وعن يمينهم، وتبشرهم الملائكة بالجنة، ويُحبس المنافقون في ظلام دامس :﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ ( النور : ٤٠ ).
عندئذ يمر المؤمنون في موكب التكريم والتعظيم، والنور المبين، فيقول المنافقون للمؤمنين : انتظرونا حتى نستضيء بجزء من نوركم، ونسير فيه إلى الجنة، فيقول المؤمنون لهم : ارجعوا إلى الدنيا، فاعملوا العمل الصالح الذي يكسبكم النور يوم القيامة، وهو تهكم بهم لأنه لا رجعة إلى الدنيا أبدا بعد القيامة، كما أن اللبن يعود إلى الضرع بعد أن يُحلب منه، ولله در القائل :
صاح هل ريِْتَ أو سمعت براع ردّ في الضرع ما قرى في الحلاب
لقد كان المنافقون يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا، فرد الله لهم جزاء وفاقا، وذلك ما عناه سبحانه بقوله :﴿ الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون ﴾. ( البقرة : ١٥ ).
﴿ فضرب بينهم سور له باب... ﴾
أي : ضُرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجز له باب يحجز بين أهل الجنة وأهل النار.
﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ... ﴾.
يفصل الله تعالى بين أهل الجنة وأهل النار بهذا السور الذي يحجز بين الفريقين، جانب السور الذي يلي المؤمنون فيه الجنة والرحمة والثواب والنعيم، وظاهر هذه السور وجانبه الذي يلي المنافقين والكفار يكون من جهته العذاب الأليم.
قال ابن كثير : هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب، وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وشك وحيرة.
تمهيد :
تصف الآيات مشهدا من مشاهد القيامة، فالمؤمنون يجدون أمامهم نور الأعمال الصالحة، ووجوههم مشرقة كالقمر، ويتحرك النور أمامهم، ومن جهة أيمانهم، وتبشّرهم الملائكة بالجنة وأنهارها ونعيمها، والخلود فيها، والفوز برضوان الله تعالى.
أما المنافقون فلا يجدون نورا، وهم في ظلام دامس مطبق عليهم، وهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ثم يمرّ المؤمنون عليهم والنور يسير أمامهم، فيقول المنافقون للمؤمنين : انظروا إلينا حتى نهتدي بنوركم ونسير فيه إلى الجنة، فيقول المؤمنون للمنافقين : ارجعوا إلى الدنيا، فإنّ العمل الصالح في الدنيا هو سبب النور اليوم، وهو تهكم بهم، فإنهم لا يستطيعون الرجوع إلى الدنيا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
ثم يوضع حائط بين أهل الجنة وأهل النار، من جهة أهل الجنة رحمة ونعمة، ومن جهة المنافقين عذاب وشدة، وهنا يبدأ حوار بين المنافقين والمؤمنين، فيقول المنافقون للمؤمنين : ألم نكن معكم في الدنيا، في الصلاة والجهاد وغير ذلك ؟ فيقول المؤمنون : كنتم معنا بأجسامكم، ولم تكونوا معنا بقلوبكم، حيث غرّتكم المظاهر والشهوات، وغرّكم الشيطان، وزين لكم الكفر والنفاق، والشك في دين الإسلام، حتى جاءكم الموت وأنتم على النفاق والكفر، فاليوم لا يقبل منكم فدية كما كان في الدنيا، ولا مأوى لكم إلا النار وبئس المصير.
المفردات :
بلى : حرف جواب، يأتي جوابا لاستفهام منفى، كما في الآية، أو ردّا لنفي نحو : إنك لم تكن معي أمس، فتقول : بلى قد كنت معك.
فتنتم أنفسكم : الفتن : إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار، أي : أهلكتم أنفسكم بالمعاصي والشهوات.
تربصتم : انتظرتم بالمؤمنين مصائب الزمان
وارتبتم : شككتم في أمر البعث وفي أمر الدين.
الأماني : الأباطيل من طول الآمال، والطمع في انتكاس الإسلام.
الغرور : الشيطان.
التفسير :
١٤- ﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾.
ينادي المنافقون على المؤمنين قائلين لهم : ألم نكن معكم في الدنيا نصلي معكم الجمع والجماعات، ونقف معكم على جبل عرفات، ونقاتل معكم في الغزوات، ونصلي كما تصلّّّّون، ونصوم كما تصومون، ونسير معكم فيما تفعلون ؟
﴿ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ.... ﴾
أي : قال لهم المسلمون : نعم كنتم معنا في الظّاهر، ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق والخداع، والاستكثار من متعة الدنيا وزينتها، فعرّضتم أنفسكم للنار.
وتربّصتم : انتظرتم بالمؤمنين الدوائر، وظننتم أن أمر الإسلام إلى زوال.
وارتبتم : شككتم في أمر الدّين، ولم يتمكن الإيمان في قلوبكم.
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ : خدعتكم الأباطيل والأماني الكاذبة، بسعة رحمة الله لأمثالكم.
حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ : حتى فاجأكم الموت وأنتم على باطنكم.
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ : خدعكم الشيطان عن أنفسكم، وزين لكم التمرد والمعاصي والابتعاد عن الإسلام وتبعاته.
قال المفسرون : الغرور( بفتح الغين ) الشيطان، لأنه يغرّ ويخدع الإنسان.
قال تعالى :﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا... ﴾ ( فاطر : ٥-٦ ).
تمهيد :
تصف الآيات مشهدا من مشاهد القيامة، فالمؤمنون يجدون أمامهم نور الأعمال الصالحة، ووجوههم مشرقة كالقمر، ويتحرك النور أمامهم، ومن جهة أيمانهم، وتبشّرهم الملائكة بالجنة وأنهارها ونعيمها، والخلود فيها، والفوز برضوان الله تعالى.
أما المنافقون فلا يجدون نورا، وهم في ظلام دامس مطبق عليهم، وهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ثم يمرّ المؤمنون عليهم والنور يسير أمامهم، فيقول المنافقون للمؤمنين : انظروا إلينا حتى نهتدي بنوركم ونسير فيه إلى الجنة، فيقول المؤمنون للمنافقين : ارجعوا إلى الدنيا، فإنّ العمل الصالح في الدنيا هو سبب النور اليوم، وهو تهكم بهم، فإنهم لا يستطيعون الرجوع إلى الدنيا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
ثم يوضع حائط بين أهل الجنة وأهل النار، من جهة أهل الجنة رحمة ونعمة، ومن جهة المنافقين عذاب وشدة، وهنا يبدأ حوار بين المنافقين والمؤمنين، فيقول المنافقون للمؤمنين : ألم نكن معكم في الدنيا، في الصلاة والجهاد وغير ذلك ؟ فيقول المؤمنون : كنتم معنا بأجسامكم، ولم تكونوا معنا بقلوبكم، حيث غرّتكم المظاهر والشهوات، وغرّكم الشيطان، وزين لكم الكفر والنفاق، والشك في دين الإسلام، حتى جاءكم الموت وأنتم على النفاق والكفر، فاليوم لا يقبل منكم فدية كما كان في الدنيا، ولا مأوى لكم إلا النار وبئس المصير.
المفردات :
فدية : ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك.
مأواكم النار : مقامكم ومنزلكم الذي تأوون إليه.
مولاكم : أولى بكم.
المصير : المآل والعاقبة.
التفسير :
١٥- ﴿ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
فاليوم : وهو يوم القيامة، ويوم الجزاء، يتمنى الكافر أن يفتدي نفسه من العذاب بالدنيا وما فيها لو كان يملكها، وهو يوم لا محسوبية فيه ولا شفاعة، ولا تقبل فيه فدية : وهي ما يبذل لحفظ النفس عند النّائبة والمصيبة، أي : لن يقبل من المنافقين ملء الأرض ذهبا، ولا من الذي كفروا بالدّين، ليفتدوا أنفسهم من العذاب.
﴿ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
مقامكم ومنزلكم وإقامتكم الدائمة في نار جهنم.
هي مولاكم : هي أولى بكم، ولا وليّ لكم سواها، وبئس المرجع والمنقلب في نار جهنم، نعوذ بالله من حال أهل النار.
وفي الحديث الصحيح : " إن الله تعالى يقول للكافر : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟ فيقول : نعم يا ربّ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك، وأنت في ظهر أبيك آدم، ألا تشرك بي، فأبيت إلاّ الشرك " ١١
وجاء في تفسير القرطبي : السعيد من لا يغترّ بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل.
خشوع القلوب
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ١٦ ) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ١٧ ) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ١٨ ) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١٩ ) ﴾
تمهيد :
تستنهض الآيات همم المسلمين وتحثهم على العناية بالقرآن، وتنفيذ أوامر الإسلام، وتنهاهم عن الفتور والكسل، وعن التواني في تنفيذ أحكام الإسلام، وألا يفعلوا كما فعل اليهود والنصارى حين طال عليهم العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم، وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه.
ثم تفيد الآيات أنه لا يأس ولا قنوط من رحمة الله، فكما أن الله يحيي الأرض الميتة بالماء، فتهتزّ وتنبت نباتا رابيا، كذلك عندما يدخل الهدى إلى القلب، يتحول من الجفاء إلى الإيمان، ومن الكنود إلى الطاعة، ومن اتباع الهوى إلى طاعة الله تعالى، ثم ذكرت التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.
المفردات :
ألم يأن : ألم يجيء ويحن الوقت ؟ الآن الآن قبل ألا يكون آن.
الخشوع : الخشية والخوف.
ذكر الله : مواعظه.
الحق : القرآن.
الذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى.
الأمد : الزمن الممتد.
قست قلوبهم : صلبت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة.
فاسقون : خارجون على حدود دينهم، رافضون لما جاء فيه من أوامر ونواه.
التفسير :
١٦- ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وتحتاج إلى التذكير والموعظة لتقلع عن الغرور بالدنيا والارتكان إليها، ولتذكر الآخرة ومواقفها والعمل لها.
ومعنى الآية :
ألم يأن الأوان، ألم يحن الوقت ليجدد المؤمنون التوبة إلى الله تعالى، والرجوع إليه، والاعتصام بحبله، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه ؟
أما حان الوقت لتخشع قلوب المؤمنين لمواعظ الله وآياته، التي ترقّق القلوب، وتدمع العيون، وتذكّر الآخرة ؟
أما حان الوقت للنظر في كتاب الله نظر تأمل وعبادة، ورقّة وطاعة ؟
أما حان الوقت للتمسك بالقرآن، وبعُرى الإسلام، والابتعاد عن اتباع اليهود والنصارى الذين طال عليهم العهد، وبعدت المدة الزمنية بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم وتحجّرت، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، لا ترق ولا تلين لسماع التوراة والإنجيل ؟
﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
وكثير من أهل الكتاب خارجون على تعاليم السماء، ضعفت صلتهم بكتب الله، واتخذوا كتاب الله وراءهم ظهريا.
قال ابن كثير :
نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم، من اليهود والنصارى، لمّا تطاول عليهم الزمن بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد " ١٢.
وقال ابن عباس : استبطأ الله قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ... ١٣ ﴾ الآية.
تمهيد :
تستنهض الآيات همم المسلمين وتحثهم على العناية بالقرآن، وتنفيذ أوامر الإسلام، وتنهاهم عن الفتور والكسل، وعن التواني في تنفيذ أحكام الإسلام، وألا يفعلوا كما فعل اليهود والنصارى حين طال عليهم العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم، وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه.
ثم تفيد الآيات أنه لا يأس ولا قنوط من رحمة الله، فكما أن الله يحيي الأرض الميتة بالماء، فتهتزّ وتنبت نباتا رابيا، كذلك عندما يدخل الهدى إلى القلب، يتحول من الجفاء إلى الإيمان، ومن الكنود إلى الطاعة، ومن اتباع الهوى إلى طاعة الله تعالى، ثم ذكرت التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.
المفردات :
يُحيي الأرض : يجعلها خصبة بالنبات والزرع.
موتها : جدبها وقفرها.
الآيات : البينات والحجج.
تعقلون : تتدبرون.
التفسير :
١٧- ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
القلوب إذا أهملت صدأت وخمدت، ولكن لن ييأس المؤمن من فضل الله وهدايته، ولن يملّ من التوبة والرجوع إليه سبحانه، فكما أن الأرض الجافة الصلبة إذا نزل عليها الماء اخضرت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، فكذلك يحيي الله القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالهم ببراهين القرآن ودلائله، ونور الهداية وإشراق التوجيه، وفضل العناية الإلهية.
قد أوضحنا لكم لآيات والحجج كي تتدبروها، وتعقلوا ما فيها من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك.
تمهيد :
تستنهض الآيات همم المسلمين وتحثهم على العناية بالقرآن، وتنفيذ أوامر الإسلام، وتنهاهم عن الفتور والكسل، وعن التواني في تنفيذ أحكام الإسلام، وألا يفعلوا كما فعل اليهود والنصارى حين طال عليهم العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم، وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه.
ثم تفيد الآيات أنه لا يأس ولا قنوط من رحمة الله، فكما أن الله يحيي الأرض الميتة بالماء، فتهتزّ وتنبت نباتا رابيا، كذلك عندما يدخل الهدى إلى القلب، يتحول من الجفاء إلى الإيمان، ومن الكنود إلى الطاعة، ومن اتباع الهوى إلى طاعة الله تعالى، ثم ذكرت التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.
المفردات :
المصدقين : المتصدقين بأموالهم على البائسين وذوي الحاجة.
القرض الحسن : الدفع بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله.
التفسير :
١٨- ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾.
يحث القرآن على الصدقة والتصدّق ابتغاء وجه الله، وتذكر الآية هنا أن المتصدقين والمتصدقات الذين تصدقوا بأموالهم رغبة خالصة فيما عند الله، فكأنهم أقرضوا أموالهم لله في الدنيا، لينالوا ثواب ذلك في الآخرة، فأي شرف وأي فضل أعظم من ذلك.
إن المتصدق يضع المال في يد الله قبل أن يضعه في يد الفقير، فينميه ويباركه، ويضاعفه أضعافا كثيرة، ويعطي على الحسنة عشرا إلى سبعمائة ضعف، وفوق ذلك أجر كريم، وجزاء عظيم، وكرامة عظمى لهؤلاء الذين صدقوا في إيمانهم، وقدموا أموالهم رخيصة في مرضاة الله تعالى، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والليث بن سعد وأمثالهم.
والمصدّق هو المتصدق، أُدغمت التاء في الصاد، ويمكن أن يراد بالمصدّقين الذين تكرر صدقهم مع الله في عبادتهم ومعاملاتهم وسلوكهم، فاستحقوا لقب المصدقين، أي أهل الصدق مع الله تعالى، فهي من التصديق لا من الصدقة، ويمكن أن ينطبق الوصفان على شخص واحد، فهو يتصدق كثيرا ابتغاء وجه الله، وهو صادق مع الله، كثير التصديق لكلام الله، ومن أصدق من الله حديثا.
تمهيد :
تستنهض الآيات همم المسلمين وتحثهم على العناية بالقرآن، وتنفيذ أوامر الإسلام، وتنهاهم عن الفتور والكسل، وعن التواني في تنفيذ أحكام الإسلام، وألا يفعلوا كما فعل اليهود والنصارى حين طال عليهم العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم، وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه.
ثم تفيد الآيات أنه لا يأس ولا قنوط من رحمة الله، فكما أن الله يحيي الأرض الميتة بالماء، فتهتزّ وتنبت نباتا رابيا، كذلك عندما يدخل الهدى إلى القلب، يتحول من الجفاء إلى الإيمان، ومن الكنود إلى الطاعة، ومن اتباع الهوى إلى طاعة الله تعالى، ثم ذكرت التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.
المفردات :
الصّديق : من كثر منه الصدق وصار سجية له.
الشهداء : من قتلوا في سبيل الله، واحدهم شهيد.
التفسير :
١٩- ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾.
إذا صدق المؤمن في إيمانه وتصديقه بالله ورسله، فتح الله أمامه أبواب الرقي إلى الدرجات العلى، فالإيمان لمن صدق لا لمن سبق، ليس في الإسلام كهنوت أو خصوصية تقصر الرقيّ إلى الدرجات العلى على أسر معينة أو فئة معينة.
فسلمان الفارسي صدق في إيمانه، فقال صلى الله عليه وسلم : " سلمان منا آل البيت " ١٤. ومثل ذلك صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وتخلّف عن ركب الرسالة أبو لهب القرشيّ.
وهنا يسجّل القرآن وساما للمؤمنين الصادقين في إيمانهم، فيجعلهم في درجة الصدّيقين، وفي درجة الشهداء الذين ضحّوا بأرواحهم وأنفسهم في سبيل الله، فأدخلهم الله الجنة، وجعل أرواحهم في حواصل طير خضر تسبح حول الجنة، وتأكل من ثمارها، وتشرب من رحيقها المختوم، كما ورد في الحديث الصحيح.
والمفسرون لهم رأيان في تفسير هذه الآية :
الرأي الأول :
أن لها موضوعين فقط هما : المؤمنون، والكافرون.
والمعنى :
والذين آمنوا بالله ربا وخالقا وإلها واحدا أحدا، وآمنوا بالرسل أجمعين ولم يفرقوا بين أحد منهم : هؤلاء هم الصديقون الذين صدقوا في إيمانهم فحازوا درجة الصدّيقية، ودرجة الشهادة في سبيل الله.
قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسوله فهو صدّيق وشهيد. ( عن تفسير الفخر الرازي ).
الرأي الثاني :
معنى الآية كالآتي :
والذين آمنوا بالله ورسله هم في منزلة الصديقين، والذين استشهدوا في سبيل الله هم في منزلة عليا عند الله تعالى، لهم أجر الشهادة في سبيل الله، ولهم النور الموعود الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
أي أن الآية أشارت إلى ثلاثة أصناف :
١- ﴿ الذين آمنوا بالله ورسله لهم درجة الصديقين ﴾.
٢- الشهداء عند الله تعالى في أعلى الجنان لهم ثوابهم ونورهم.
٣- الذين كفروا بآيات الله أولئك أصحاب الجحيم.
وقد أورد الحافظ ابن كثير الرأيين في تفسيره، واستشهد للرأي الثاني بقوله :
قال أبو الضحى : أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ. ثم استأنف الكلام فقال :﴿ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾.
وعن ابن مسعود قال : هم ثلاثة أصناف : المصدّقون، والصديقون، والشهداء، كما قال تعالى :﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾. ( النساء : ٦٩، ٧٠ ).
وفي الآية نجد أربعة أصناف : الأنبياء، الصديقين، الشهداء، الصالحين.
والأمر في حقيقته راجع إلى فضل الله ونعمته وألطافه وكرمه.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة ترفع من شأن من صدّق بالله ورسله، وتبيّن أنه في الغرف العليا في الجنة، التي يتطلع أهل الجنة إليها، كما نتطلع إلى نجوم السماء.
روى الشيخان، ومالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم ". قالوا : يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال : " بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين ". ١٥
الشهداء :
أما منزلة الشهداء فقد تكرر ذكرها في القرآن الكريم، والسنّة المطهرة، لقد جادوا بأرواحهم وأنفسهم في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، فجعلهم الله عنده أحياء، كما قال تعالى :﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. ( آل عمران : ١٦٩-١٧١ ).
وأخرج الشيخان وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أحد يدخل الجنة يحبّ أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة " ١٦.
من المنتخب في تفسير القرآن
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾.
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، أولئك هم الصديقون والشهداء، منزلة وعلوّ مرتبة، لهم ثواب ونور يوم القيامة، مثل ثواب الصديقين والشهداء ونورهم، والذين كفروا وكذبوا بآيات الله أولئك هم أصحاب النار لا يفارقونها أبدا.
مقارنة
بينما نجد المؤمنين الصادقين في إيمانهم ترتفع أقدارهم ودرجاتهم في معيّة الله وكرامته، مع الثواب الجزيل، والنور المبين، نجد جزاء الكافرين الذين كذبوا بآيات الله، وجحدوا حقائق الإيمان، وكفروا بالله ورسله، نجد أنهم يلازمون الجحيم كأنهم أصحابها، لا يفارقونها أبدا : أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.
اللهم إنا نعوذ بك من النار ومن عذاب النار، ومن كل عمل يقربنا إلى النار، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار، بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار.
صفة الدنيا
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( ٢٠ ) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ٢١ ) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( ٢٢ ) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( ٢٣ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٢٤ ) ﴾
تمهيد :
القرآن الكريم كتاب هداية، وهو تنزيل الحكيم الحميد، وهو سبحانه يتخوّل١٧ عباده بالموعظة، فتتحول القلوب إلى الإيمان واليقين بأن الدنيا متاع، وهي عرض عابر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة حياة مستمرة، تستحق التضحية والجهاد، وقد رسم القرآن صورة للدنيا في سرعة زوالها، وعاجل تحوّلها، بزرع أخضر نام، يعجب به الزّراع، ثم يتحول الزرع إلى الشيخوخة والكبر، حين يحين موسم الحصاد، وتنتهي حياة الزرع، كما تنتهي حياة الإنسان.
هذه هي الدنيا، أشبه بلعب الأطفال، ولهو اللاهين، وزينة عابرة في الملبس والمظهر، ثم تنتهي الدنيا، وتبقى الآخرة وجها لوجه، وفيها العذاب الشديد للكافرين، والمغفرة والرحمة للمؤمنين.
ثم حث القرآن على التسابق في عمل الخير في الدنيا، للوصول إلى جنة واسعة أعدها الله للمتقين، تفضلا منه ونعمة، ثم تستمر الآيات في الدعوة إلى تكامل الشخصية، والشكر على النعماء، والصبر على البأساء، والرضا بأسباب القضاء، فقد كتب الله في الأزل على كل نفس عمرها ورزقها ومستقبلها، حتى لا تحزن حزنا مفرطا على مفقود، ولا تفرح فرحا مطغيا على موجود.
المفردات :
اللعب : ما لا ثمرة له كلعب الصبيان.
اللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمّه.
زينة : كالملابس الفاخرة يتزين بها أهلها.
تفاخر : بالأنساب والأموال، أو تكبّر وتعال.
تكاثر في الأموال : مباهاة بكثرة العدد والعُدَد.
الغيث : المطر.
الكفار : الزرّاع.
يهيج : يبتدئ في اليبس والجفاف بعد خضرته ونضارته.
حطاما : هشيما متكسرا من يبسه.
الغرور : الخديعة.
التفسير :
٢٠-﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾.
الدنيا إلى فناء، وهي مزرعة للآخرة، وينبغي أن يعرف المؤمنون حقيقة الدنيا، هي مظاهر كلعب الأطفال، ولهو الشباب، وزينة النساء، وتفاخر بين أهل الدنيا بالملبس والمظهر، أو التفاخر بالأموال والأولاد، أو التباهي بما ملك الإنسان أو حازه، فالدنيا ليست مذمومة في ذاتها، لأنها يمكن أن تكون وسيلة لمرضاة الله، وللصدقة وعمل الخير، ولكن المذموم هو الغرور بالدنيا وحبها، والرغبة المسرفة في المظهر والمنصب، والجاه والسلطان، بدون نية صالحة.
روي عن سعيد بن جبير أنه قال : الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى، وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
مثال الدنيا
الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، فهي تحلى لتمرّ، وتعطي لتأخذ، وقد حذرنا القرآن من الغرور بالدنيا والتشبع بها، فالمغرور من غرته الدنيا عن الآخرة، ومن اعتبر الدنيا غايته فأخذ يركض وراء ما فيها من مال وجاه وسلطان مع أنه زائل، والمتعلق بالدنيا كالطفل المتعلق باللعب واللهو، والزينة والمظهر، فإذا بلغ مرحلة الرجولة العقلية رأى بعين قلبه أن الدنيا إلى فناء، وأن الآخرة إلى بقاء، وإذا غرّت الدنيا الكفار والفجار والسطحيين في إيمانهم، فينبغي ألا تغر المؤمنين الصادقين.
﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا.... ﴾
أي : ما مثل الدنيا في سرعة تحوّلها وفنائها وانقضائها، إلا كمثل زرع أصابه غيث من المطر النافع، فاخضرّ ونما، وصار بهجة للناظرين، يعجب الزراع ويجعلهم في غبطة وحبور، وبهجة وسرور، لكن خضرة الزرع وجماله وشبابه لا تدوم، فبعد فترة محدودة يقترب موسم الحصاد، فيصفرّ الزرع، ويدنو قطف الثمرة، وتتحول الأوراق إلى قش متكسّر يابس، ثم تكون هشيما تذروه الرياح.
ملحوظة :
الكفار : الزرّاع، وسمي الزارع كافرا، لأنه يكفر النبات، فيستره بالأرض، ويسقيه حتى ينبت، وسمي الكافر بالله كافرا، لأنه ستر نعمة الله عليه وجحدها، فلم يؤمن بالله.
ثم ذكر القرآن هنا عاقبة المنهمكين في الدنيا، المغترين بلهوها وعبثها وزينتها، المنشغلين بها عن الإيمان والجهاد وطلب ما عند الله، وذكر عاقبة المتقين المعرضين عن الغرور بالدنيا، الطالبين لرضوان ربّهم، فقال :﴿ وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ... ﴾
أي : هذه هي الدنيا الفانية، ثم يفتح القرآن العيون على الآخرة، والناس فيها صنفان : صنف في عذاب شديد دائم لمن كفر بالله وأهمل تعاليمه، وصنف في مغفرة من الله تعالى، وبحبوحة من رضوانه، لأنه أطاع ربّه وعمل بأوامره، وجعل دنياه مزرعة لآخرته.
روى ابن جرير، وجاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " موضع سوط في الجنة، خير من الدنيا وما فيها، اقرؤوا :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. ١٨ ﴾
وأخرج البخاري، وأحمد، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَلجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك " ١٩
قال ابن كثير في تفسير الآية :
هكذا الدنيا، تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوز شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أوّل عمره وعنفوان شبابه، غضا طريّا، لين الأعطاف، بهيّ المنظر، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى. أ. ه.
قال تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾. ( الروم : ٥٤ ).
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾.
ما هذه الحياة الدنيا إلى متاع فان زائل، خادع لمن ركن إليها واغترّ بها، وظن أنها غاية ونهاية، فمن ألهته الدنيا عن الآخرة فهو المغبون، ومن نظر إلى الدنيا نظرة فاحصة، فاعتبرها وسيلة وتزوّد منها بالصالحات فهو الناجح.
إن لله عبادا فطنا *** طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا
لما رأوها ليست *** لحي سكنا
حسبوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا
ويقول الآخر :
إنما الدنيا كبيت *** نسجته العنكبوت
كل ما فيها لعمري *** عن قريب سيموت
إنما يكفيك منها *** أيها الراغب قوت
ونحن إذا نظرنا إلى روح الإسلام، نجد أنه لا يدعو إلى الانعزالية، ولا إلى رفض الدنيا، وإنما يريد الإسلام مسلما متوازنا، يعمر الدنيا بالعلم والزراعة والصناعة، والتفوق الطبي والعلمي والأخلاقي ليكون نموذجا رائعا يعمر الدنيا بالقيم والعمل والأمل. ولذلك قال الله تعالى :﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا... ﴾ ( القصص : ٧٧ ).
وفي الحديث الصحيح : " إن لربك عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقّه " ٢٠
وفي القرون الوسطى الإسلامية وردت مواعظ كثيرة، وأشعار متعددة، تزهّد الناس في الدنيا، والغنى والتفوّق والتقدم، وأصيب الناس بالتواكل والكسل، والزهد والانحطاط، ولا أقول التواضع، بينما نهض الغرب وقويت جيوشه وأساطيله، فاستعمر بلاد الإسلام، ورأينا مصر والسودان والعراق تحت حكم إنجلترا، ورأينا الجزائر والمغرب والشام تحت حكم فرنسا، ثم جاءت الصحوة الإسلامية الحديثة، فاختفت نغمة الزهد الأبله، والمسكنة والانحطاط، ورأينا دعوة للأمة الإسلامية إلى استرداد مكانها ومكانتها، لتكون بحق كما قال الله تعالى :﴿ كنتم خير أمة أُخرجت للناس... ﴾( آل عمران : ١١٠ ).
وكما قال سبحانه :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا... ﴾ ( البقرة : ١٤٣ ).
ومن هذه الوسطية ألا نترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، بل نعمل للدنيا لنكون فيها سادة وقادة، وأعزّاء أقوياء، ونجعل من الدنيا وسيلة لإعزاز ديننا وأنفسنا.
وفي الحديث الشريف : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ".
وقد تكرر في القرآن الكريم وصف الدنيا، وسرعة تحوّلها، وغرور أهلها بها، ثم تفلّتها من بين أيديهم، مثل قوله تعالى :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾. ( الكهف : ٤٥-٤٦ ).
وإلى جوار ذلك دعوة رائدة إلى العمل والتفوّق.
قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾. ( الكهف : ٣٠ ).
والخلاصة :
علينا أن نملك الدنيا ثم نزهد فيها، ونجعلها وسيلة لعزّ الدنيا وسعادة الآخرة، وأن يكون المسلم صاحب شخصية متوازنة، تعمل للدنيا بدون طمع أو جشع، وتعمل للآخرة بكل قصد سليم ونية صالحة، ودعاء خالص لله : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ( البقرة : ٢٠١ ).
تمهيد :
القرآن الكريم كتاب هداية، وهو تنزيل الحكيم الحميد، وهو سبحانه يتخوّل١٧ عباده بالموعظة، فتتحول القلوب إلى الإيمان واليقين بأن الدنيا متاع، وهي عرض عابر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة حياة مستمرة، تستحق التضحية والجهاد، وقد رسم القرآن صورة للدنيا في سرعة زوالها، وعاجل تحوّلها، بزرع أخضر نام، يعجب به الزّراع، ثم يتحول الزرع إلى الشيخوخة والكبر، حين يحين موسم الحصاد، وتنتهي حياة الزرع، كما تنتهي حياة الإنسان.
هذه هي الدنيا، أشبه بلعب الأطفال، ولهو اللاهين، وزينة عابرة في الملبس والمظهر، ثم تنتهي الدنيا، وتبقى الآخرة وجها لوجه، وفيها العذاب الشديد للكافرين، والمغفرة والرحمة للمؤمنين.
ثم حث القرآن على التسابق في عمل الخير في الدنيا، للوصول إلى جنة واسعة أعدها الله للمتقين، تفضلا منه ونعمة، ثم تستمر الآيات في الدعوة إلى تكامل الشخصية، والشكر على النعماء، والصبر على البأساء، والرضا بأسباب القضاء، فقد كتب الله في الأزل على كل نفس عمرها ورزقها ومستقبلها، حتى لا تحزن حزنا مفرطا على مفقود، ولا تفرح فرحا مطغيا على موجود.
المفردات :
في الأرض : كالجدب والفاقة.
التفسير :
٢١- ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
بادروا وسارعوا مسارعة المتسابقين إلى أسباب مغفرة الله لكم، وذلك بالتوبة النصوح، والعمل الصالح، وإخلاص النية، وبادروا وسارعوا إلى عمل صالح يكون وسيلة لجنّة واسعة، عرضها كعرض السماء والأرض معا، وإذا كان هذا قدر عرضها، فما ظنك بطولها ؟
هذه الجنة أعدّها الله، وجعلها كاملة الأوصاف، فيها ألوان النعيم، والحور العين، والأنهار والأشجار، والظلال والآرائك، وألوان الطعام والشراب والفاكهة، وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها الخلود الأبديّ السرمدي، وقد أعدها الله للذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوا بذلك عن يقين، وعملوا بما أمر الله، واجتنبوا نواهيه.
﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ... ﴾
هو تفضّل منه ورحمة، وحنان وعناية، وعطف وبر بالصالحين، فهو الذي هداهم ووفقهم، ثم أعدّ لهم الجنة، فضلا منه ونعمة.
﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
والله تعالى صاحب الفضل العظيم الواسع، فما أجل أنعمه، وما أعظم فضله، وما أجل هدايته وتوفيقه، ﴿ وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها... ﴾ ( إبراهيم : ٣٤ ).
يقول أحد السلف الصالح : أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها، يطلبها منا ثم يعطينا عليها الجنة، إن هذا لفضل عظيم.
يشير إلى قوله تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة... ﴾ ( التوبة : ١١١ ).
فيا سعادة من أدرك السباق، ومن حظي بالإيمان واليقين، ومن فاز بجنة عرضها كعرض السماوات السبع والأرضين، ويا سعادة من أنعم الله عليه بفضله، وهو سبحانه صاحب الفضل العظيم.
جاء في الحديث الصحيح : أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، وبالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال : " وما ذاك " ؟ قالوا : يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال : " أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثلما صنعتم ؟ تسبّحون وتحمدون وتكبرون دُبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين "، قال : فرجعوا، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ٢١.
فالسعيد حقا من تعرض لفضل الله وعنايته، وحبه ورعايته، فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
وإذا العناية لاحظتك عيونها ثم فالمخاوف كلهن أمان
ويقول الشاعر :
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وإذا كان من الله عون للفتى تهيأ له في كل أمر مراده
إن ثمن دوام الإخلاص، واليقين بالله، والحرص على رضاه، والبعد عن معصيته، وإظهار العجز والضعف أمام قدرته، والحرص على أن ينظر منك إلى قلب طاهر، ونفس مطمئنة وزهد في الدنيا، وحرص على الآخرة، واتباع لهدى القرآن، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيم للصحابة والتابعين، وغيرة على الإسلام والمسلمين، حتى تحظى بحبّه ورضاه.
قال تعالى : يحبّهم ويحبّونه... ( المائدة : ٥٤ ).
وفي الحديث الصحيح : " ما تقرب عبدي إليّ بشيء أحبّ إليّ من أداء ما افترضته عليه، ولا يرى عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن سألني لأعطينه " ٢٢
تمهيد :
القرآن الكريم كتاب هداية، وهو تنزيل الحكيم الحميد، وهو سبحانه يتخوّل١٧ عباده بالموعظة، فتتحول القلوب إلى الإيمان واليقين بأن الدنيا متاع، وهي عرض عابر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة حياة مستمرة، تستحق التضحية والجهاد، وقد رسم القرآن صورة للدنيا في سرعة زوالها، وعاجل تحوّلها، بزرع أخضر نام، يعجب به الزّراع، ثم يتحول الزرع إلى الشيخوخة والكبر، حين يحين موسم الحصاد، وتنتهي حياة الزرع، كما تنتهي حياة الإنسان.
هذه هي الدنيا، أشبه بلعب الأطفال، ولهو اللاهين، وزينة عابرة في الملبس والمظهر، ثم تنتهي الدنيا، وتبقى الآخرة وجها لوجه، وفيها العذاب الشديد للكافرين، والمغفرة والرحمة للمؤمنين.
ثم حث القرآن على التسابق في عمل الخير في الدنيا، للوصول إلى جنة واسعة أعدها الله للمتقين، تفضلا منه ونعمة، ثم تستمر الآيات في الدعوة إلى تكامل الشخصية، والشكر على النعماء، والصبر على البأساء، والرضا بأسباب القضاء، فقد كتب الله في الأزل على كل نفس عمرها ورزقها ومستقبلها، حتى لا تحزن حزنا مفرطا على مفقود، ولا تفرح فرحا مطغيا على موجود.
المفردات :
في أنفسكم : كالمرض وموت الأحباب.
في كتاب : هو اللوح المحفوظ.
نبرأها : نخلقها.
التفسير :
٢٢- ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير ﴾.
الكون كلّه في قبضة الله، وفي تقديره وفي علمه، فالله تعالى هو خالق الكون، وهو خالق الإنسان، وهو المدبّر والمنظم لهذا الكون، بما فيه من سماء وأرض، وإنس وجن، وحيوان وطيور، وزواحف ووحوش، وأنهار وبحار، وفلاة وأشجار، وسائر الموجودات، وما يقع من مصيبة في الأرض من فساد زراعة أو عاهة في الزرع، أو غرق أو حريق، أو في الأنفس من مرض أو فقر أو عاهة، إلا وهو مكتوب في الأزل، فقد قدّر الله مقادير الأشياء من قبل أن يخلق السماء والأرض، وأحكم كل شيء وفصّله تفصيلا، وكل شيء كائن في علمه تعالى وتقديره من قبل أن يحدث، وذلك أمر هيّن عليه، وإن كان صعبا على البشر.
تمهيد :
القرآن الكريم كتاب هداية، وهو تنزيل الحكيم الحميد، وهو سبحانه يتخوّل١٧ عباده بالموعظة، فتتحول القلوب إلى الإيمان واليقين بأن الدنيا متاع، وهي عرض عابر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة حياة مستمرة، تستحق التضحية والجهاد، وقد رسم القرآن صورة للدنيا في سرعة زوالها، وعاجل تحوّلها، بزرع أخضر نام، يعجب به الزّراع، ثم يتحول الزرع إلى الشيخوخة والكبر، حين يحين موسم الحصاد، وتنتهي حياة الزرع، كما تنتهي حياة الإنسان.
هذه هي الدنيا، أشبه بلعب الأطفال، ولهو اللاهين، وزينة عابرة في الملبس والمظهر، ثم تنتهي الدنيا، وتبقى الآخرة وجها لوجه، وفيها العذاب الشديد للكافرين، والمغفرة والرحمة للمؤمنين.
ثم حث القرآن على التسابق في عمل الخير في الدنيا، للوصول إلى جنة واسعة أعدها الله للمتقين، تفضلا منه ونعمة، ثم تستمر الآيات في الدعوة إلى تكامل الشخصية، والشكر على النعماء، والصبر على البأساء، والرضا بأسباب القضاء، فقد كتب الله في الأزل على كل نفس عمرها ورزقها ومستقبلها، حتى لا تحزن حزنا مفرطا على مفقود، ولا تفرح فرحا مطغيا على موجود.
المفردات :
تأسوا : تحزنوا.
ما فاتكم : من نعيم الدنيا.
ما آتاكم : ما أعطاكم.
المختال : المتكبر بسبب فضيلة تراءت له في نفسه.
فخور : كثير الفخر بالأشياء العارضة كالمال والجاه.
التفسير :
٢٣- ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾.
لقد أبدع الله القضاء والقدر، وكتب على كل نفس عمرها وأجلها وحظها، وفقرها أو غناها، وشقاءها أو سعادتها، حتى لا يحزن إنسان على مفقود حزنا يخرجه عن الاعتدال والتماسك، لأن أجلها قد خُطّ في الأزل، فإذا انتقلت نفس إلى الموت أو الهلاك فإنما تُحقق ما كتب عليها في الأزل.
﴿ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ... ﴾
أي : لا تفرحوا فرحا مطغيا يخرجكم عن حدّ الاعتدال، ويخرجكم عن الشكر لله صاحب النعمة، إلى البطر والاختيال والتباهي بما حدث، كأنه من صنع الإنسان.
ونلاحظ أن الحزن على المفقود فطرة إنسانية، والفرح بالنعمة فطرة إنسانية، فكيف ينهى الله عن الحزن على المفقود، أو الفرح بالموجود ؟
والجواب : إنما نهى الله عن الحزن الذي يجرّ إلى الجزع والقنوط والهلع، وينسي الإنسان القضاء والقدر، وأن كل نفس قد كتب عليها ما يصيبها، وهي لا تزال حملا في بطن أمّها، وقد خُطّ في القدر كل شيء يصيبها، وكذلك الفرح فطرة في النفس، تحتاج إلى اليقين بأن الله هو المعطي والمتفضل والمانح لهذه النعمة، لكن بعض الناس يختال ويفتخر، ويتطاول على عباد الله بأنعم الله، ويجره ذلك إلى الطغيان ويُلْهيه عن الشكر.
قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح، ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا.
ولا يصح النهي عن شيء من طبائع البشر، كالفرح والحزن والغضب، وإنما النهي وارد على مقدمات الغضب، وتعاطي أسبابه، وقد أمر الإنسان عند الغضب أن يتذكر هوان الدنيا، وأن متاعها قليل، وأنها إلى فناء حتى يهدأ غضبه، وكذلك عند الحزن يتذكر القضاء والقدر، وثواب الصبر على المصيبة، وأجر الصابرين الراضين المؤمنين، الذين يفوضون إلى الله الأمور، وكذلك عند الفرح والسرور يذكر المؤمن فضل الله عليه، فيزداد شكرا وعرفانا وتواضعا، ويقينا بأن مصدر النعمة هو الله تعالى.
وفي الحديث الصحيح : " عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته نعماء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " ٢٣
فالمؤمن الحق هو نور الله في الأرض، والمؤمن متجانس مع هذا الكون، والمؤمن خليفة الله حقا في أرضه، وهو قدر من أقدار الله، وهو راض عن الله، وهو شاكر على النعماء، صابر على البأساء، راض بالقضاء والقدر، خيره وشره، حلوه ومره.
وغير المؤمن تخرجه المصيبة عن اتزانه وتماسكه، وربّما جره ذلك إلى المرض أو الانتحار أو الانكسار، وغير المؤمن ينظر إلى النعمة على أنها من كدّه وعلمه وخصوصيته، وربما نسي الشكر، وربما نسي أن الفضل لله، وهو صاحب الفضل الكبير.
تمهيد :
القرآن الكريم كتاب هداية، وهو تنزيل الحكيم الحميد، وهو سبحانه يتخوّل١٧ عباده بالموعظة، فتتحول القلوب إلى الإيمان واليقين بأن الدنيا متاع، وهي عرض عابر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة حياة مستمرة، تستحق التضحية والجهاد، وقد رسم القرآن صورة للدنيا في سرعة زوالها، وعاجل تحوّلها، بزرع أخضر نام، يعجب به الزّراع، ثم يتحول الزرع إلى الشيخوخة والكبر، حين يحين موسم الحصاد، وتنتهي حياة الزرع، كما تنتهي حياة الإنسان.
هذه هي الدنيا، أشبه بلعب الأطفال، ولهو اللاهين، وزينة عابرة في الملبس والمظهر، ثم تنتهي الدنيا، وتبقى الآخرة وجها لوجه، وفيها العذاب الشديد للكافرين، والمغفرة والرحمة للمؤمنين.
ثم حث القرآن على التسابق في عمل الخير في الدنيا، للوصول إلى جنة واسعة أعدها الله للمتقين، تفضلا منه ونعمة، ثم تستمر الآيات في الدعوة إلى تكامل الشخصية، والشكر على النعماء، والصبر على البأساء، والرضا بأسباب القضاء، فقد كتب الله في الأزل على كل نفس عمرها ورزقها ومستقبلها، حتى لا تحزن حزنا مفرطا على مفقود، ولا تفرح فرحا مطغيا على موجود.
٢٤-﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾.
الله تعالى لا يحب كل مختال فخور، أي لا يحب كل متكبر متباه بماله أو ولده أو جاهه أو جماله، لأنه لا يرى لغيره حقا عليه، ثم بيّن صفات هذا المختال الفخور ومن على شاكلته، بأنهم هم الذين يبخلون على عباد الله بزكاة أموالهم، ويضنون بالصّدقة والعطاء والمساعدة، والمساهمة في رعاية الفقراء والمساكين، ثم يحثون غيرهم على البخل، حتى يشيع البخل بين الناس.
﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾.
ومن يعرض عن الله وعن شكره، وعن إعطاء حق الله في ماله وجاهه، فإن الله وحده هو الغني عن عباده، المحمود على حسن فعاله، لا يضره بخل البخيل، ولا تنفعه طاعة الطائع.
قال تعالى على لسان موسى عليه السلام :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾. ( إبراهيم : ٨ ).
وقال عز شأنه :﴿ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾. ( فاطر : ١٥ ).
***
الغاية من بعثة الرسل
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطْ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٢٥ ) ﴾
المفردات :
أرسلنا رسلنا : أرسلنا الأنبياء إلى الأمم.
البينات : المعجزات والحجج.
الكتاب : أريد به الجنس، أي : كتب الشرائع كالتوراة، والإنجيل، والقرآن، والصحف.
الميزان : العدل.
القسط : الحق.
وأنزلنا الحديد : خلقناه، وأخرجناه من المعادن.
بأس شديد : قوة نافعة متعددة، تتخذ منه آلات الحرب والصناعات الثقيلة، والمباني الضخمة ونحو ذلك.
منافع للناس : يدخل في صناعات كثيرة مفيدة للناس.
وليعلم الله : علم مشاهدة ووجود في الخارج.
من ينصره ورسله : من ينصر دينه وينصر رسله، باستخدام الأسلحة وآلات الحرب من الحديد في مجاهدة الكفار.
بالغيب : ينصرونه ولا يبصرونه بعيونهم.
تمهيد :
أرسل الله الرسل، وأنزل معهم كتب السماء، وهي في جملتها كتاب واحد يحثّ على الفضائل، وينهى عن الرذائل، ويوضح العقيدة في الإلهيات والنبوات، ويوضح الشريعة في العبادات والمعاملات، وأمر الله بالعدل في القضاء، وأنزل الحديد لتأديب الخارجين على دين الله أو شريعته، وهذا إشارة إلى أن الكتاب يمثل سلطة التشريع، والعدل يمثل سلطة القضاء، وإنزال الحديد يمثل السلطة التنفيذية.
التفسير :
٢٥- ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطْ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز ﴾.
تالله لقد أرسلنا رسلنا لهداية الناس وإرشادهم إلى توحيد الله تعالى، واتباع مكارم الأخلاق، واجتناب الرذائل والمنكرات، وأعطينا الرسل المعجزات التي تؤيدهم وتصدّقهم، فهي بمثابة قول الله تعالى لعباده : صدق عبدي في كل ما يبلّغ عني، وقد أعطى الله كل نبي معجزة مناسبة له، مثل ناقة صالح، وعصا موسى مع تسع آيات بينات، كاليد والجراد والطوفان، والضفادع والدم والسنين، وغرق فرعون وملئه، وأعطى عيسى إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وإحياء الموتى بإذن الله، وأعطى محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن المعجز المتحدّى به، المهيمن على الكتب السابقة، ومعه معجزات أخرى، كما أمر الله الرسل بالعدل في الأحكام، ليتبع الناس ما أمروا به من الحق والعدل والإنصاف، وتقوم حياتهم على ذلك، فيتعاملون مع بعضهم البعض بالعدل والإنصاف والقسط، في جميع أمورهم الدينية والدنيوية، فهم الحراس على تنفيذ الأحكام، واحترام الشرائع، واتباع الرسل.
﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... ﴾
أراد الله لعباده أن يكونوا حماة لدينه، مدافعين عنه بكل سلاح وبكل قوة، والسورة تسمى بأهم شيء فيها، أو أغرب شيء فيها، لذلك سميت هذه السورة بسورة الحديد، وكأن الله تعالى يرشد عباده إلى تسخير الحديد في صناعاتهم الثقيلة والخفيفة، وأدوات الطعام ومرافق المنازل، وأساس المباني والعمارات، ومرافق الحياة الاقتصادية، وآلات الزراعة، والأسلحة المتعددة، والقطارات والبواخر، والطائرات والسيارات، فالحديد معدن متفاوت الثمن، متفاوت المنافع، ما بين حديد التسليح، وتروس الساعة، وهو وسيلة الدفاع عن الدولة ضد المعتدين، ومن الإعجاز أنك تجد الحديد مستخدما في البندقية والرشاش والرادار والدبابة والغواصة والطائرة، وأدوات كشف الألغام، وما يكتشف في المستقبل عن مزايا هذا المعدن، والنواحي المتعددة التي لم تكن تخطر على بال القارئ لهذه الآية وقت نزول القرآن، مما يدل على اشتمالها على الإعجاز الغيبي، لأن الذي أنزلها هو العليم بعباده.
وفي الآية دعوة للمؤمنين إلى التحصن بالقوة لحماية دينهم ولإرهاب أعدائهم.
كما قال تعالى :﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾. ( الأنفال : ٦٠ ).
﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾.
ليشاهد الله، ويعلم علم مشاهدة ووجود، من ينصر الله باتباع أمره، والمسارعة إلى الجهاد في سبيل الله، وينصر رسله بإخلاص ونية صالحة، تقصد وجه الله بعملها، متيقنة بوجود ربها ورقابته، وإن لم تبصره بعينها، ولكنها تراقبه بقلوبها ويقينها.
﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾.
فهو سبحانه قوي قادر، عزيز قاهر غالب، يستطيع دفع عدوان الظالمين، ولكنه حث عباده على الجهاد والتضحية والفداء، وبذل النفس والنفيس في مرضاة الله ونصرة الرسل، وإحقاق الحق والعدل، لينالوا شرف الدنيا وسعادة الآخرة.
روى الإمام أحمد، وأبو داود، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بُعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجعلت الذّلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم " ٢٤
ما أحوج المسلمين إلى قراءة كتاب ربهم، قراءة تفهم ووعي، ليتخذوا منه زادا نافعا مفيدا، يأخذ بأيديهم إلى العزة والمنعة، والتفوق الديني والدنيوي.
وحدة الشرائع في أصولها، وصلة الإسلام بما قبله
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ٢٦ ) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ٢٧ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٢٨ ) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ٢٩ ) ﴾
تمهيد :
بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأمر الخلق بنصرتهم، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة، ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم، ووحدة التشريع، ووحدة الكتاب، أي الكتب السماوية الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ثم ذكر أن من آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن له نصيبين من رحمة الله، لإيمانه برسوله ثم إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أن النبوة فضل من الله، لا يختص بها قوما دون قوم، وفي ذلك رد على اليهود الذين ادّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة لا تخرج منهم إلى غيرهم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
المفردات :
جعلنا في ذريتهما النبوة : جعلنا في ذرية نوح وإبراهيم النبوة.
والكتاب : الكتب الأربعة : التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن.
فمنهم مهتد : من الذرية، أو من المرسل إليهم.
فاسقون : خارجون عن الطريق المستقيم.
التفسير :
٢٦- ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
أي : أرسلنا نوحا إلى قومه، وأرسلنا إبراهيم إلى قوم آخرين، ولم يرسل الله رسولا بعد نوح إلا من ذريته، ولم يرسل الله رسولا بعد إبراهيم إلا من ذريته وسلالته، كما قال سبحانه في الآية الأخرى :﴿ وجعلنا ذريته النبوة والكتاب... ﴾ ( العنكبوت : ٢٧ ).
والآية تشير إلى وحدة الرسالات والنبوات، ووحدة الكتب السماوية في مضمونها وتشريعاتها ووصاياها، فهي كتب الله لهداية عباد الله، لكن البشر انقسموا إلى فريقين : فريق مهتد بهدى السماء فله أجره وثوابه، وفريق خرج عن الطريق المستقيم وعليه وزره وعقابه.
وقد تميز عهد نوح بالطوفان الذي يعتبر طورا جديدا في مسيرة الإنسانية، ولذلك قيل عنه إنه آدم الثاني، أما إبراهيم فهو أبو الملّة، فله موقف مع أبيه، وموقف مع ابنه حيث ارتحل به إلى مكة، ثم نبع زمزم، وقصة السعي بين الصفا والمروة، وذبح الأضحية في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لإحياء ذكرى عزيمة إبراهيم على ذبح ولده، ويمكن التأمل في شجرة الأنبياء في التوضيح التالي :
( الخطاطة )
تمهيد :
بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأمر الخلق بنصرتهم، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة، ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم، ووحدة التشريع، ووحدة الكتاب، أي الكتب السماوية الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ثم ذكر أن من آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن له نصيبين من رحمة الله، لإيمانه برسوله ثم إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أن النبوة فضل من الله، لا يختص بها قوما دون قوم، وفي ذلك رد على اليهود الذين ادّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة لا تخرج منهم إلى غيرهم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
المفردات :
قفينا : أتبعنا.
الإنجيل : الكتاب الذي أنزله الله على عيسى وفيه شريعته.
رأفة : دفع الشر باللطف واللّين.
ورحمة : جلب الخير والمودة والحسنى.
رهبانية : هي الانقطاع عن الناس للعبادة، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب، واعتزال النساء، والتعبد في الغيران والكهوف.
ابتدعوها : استحدثوها ولم تكن في دينهم.
إلا ابتغاء رضوان الله : استثناء منقطع، أي : لكنّهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله.
فما رعوها : لم يرعها الجميع، ولم يحافظوا عليها.
فآتينا الذين آمنوا : آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح.
منهم : من أتباعه.
فاسقون : خارجون عن حال الاتباع.
التفسير :
٢٧- ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
بعد نوح وإبراهيم أرسلنا رسلنا تترى، رسولا بعد رسول، كما ذكر القرآن الكريم جهاد الرسل وكفاحهم في دعوة أقوامهم إلى الإيمان، وتحمّل الرسل الإيذاء، وصبروا وصابروا حتى نصرهم الله.
وكان عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل، وقد بشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعطاه الله الإنجيل مشتملا على صيحات روحانية، وسكب الله في قلوب أتباع عيسى ( الرأفة ) وهي الشفقة واللين، و( الرحمة ) وهي التعاطف فيما بينهم، كما قال سبحانه عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم : رحماء بينهم. ( الفتح : ٢٩ ).
وتعرض أبتاع عيسى للقتل والتعذيب، فاختاروا طائعين ( الرهبانية ) وهي ترك الشهوات والنساء ولذائذ الطعام، وهاجروا إلى الصوامع والأديرة في الصحراء، متعبدين لله تعالى، وما طلب الله منهم ذلك، وما فرضه عليهم، لكنهم نذروه والتزموا به أمام الله، رغبة في رضوانه ومرضاته.
ثم تحولت الرهبانية بعد فترة إلى طقوس خالية من الروح، والله لا ينظر إلى الصورة والشكل، وإنما ينظر إلى القلب، وما يسكن في الروح والفؤاد.
﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ... ﴾
والاستثناء هنا منقطع، والمعنى : ما كتبنا عليهم الرهبانية، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله، ونلحظ إنصاف القرآن الكريم لأتباع عيسى، حيث وصفهم بالرأفة والرحمة و والرهبانية، والتقشّف رغبة في مرضاة الله.
ونجد مثل ذلك في القرآن الكريم، والحديث الشريف، كما حفظ التاريخ صورا يرويها بها الرواة عن النجاشي، وعن وفد نجران، وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق مُذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق.
﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا... ﴾
فما حافظوا على هذه الرهبانية التي ألزموا أنفسهم بها، ولم يستمروا في إخلاصهم وتجردهم، ورغبتهم في مرضاتهم لربهم، " بل أصبحت الرهبانية في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح، واتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم " ٢٥
﴿ فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان، وكثير من هؤلاء المترهبين، فَاسِقُونَ. خارجون عن حدود الله وطاعته، بأكلهم أموال الناس بالباطل، وبسلوكهم المنحرف.
روى الحافظ أبو يعلى، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تشدّدوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم فشدِّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ".
﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ... ﴾
وروى الإمام أحمد، عن إياس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل " ٢٦
وقد أورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة في تفسير هذه الآية، وكذلك ابن جرير الطبري والقرطبي، وهي تفيد أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وأن ثلاث فرق من أتباع عيسى عليه السلام التزموا بالحق وأتباع الدين الحق.
الفرقة الأولى : قاتلت الجبابرة، فقُتلت وصبرت ونجت.
الفرقة الثانية : لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقتلت وقطّعت بالمناشير، وحرّقت بالنيران، فصبرت ونجت.
الفرقة الثالثة : لم تكن لها قوة، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت، وهم الذين ذكر الله تعالى : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ...
أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير بطريق أخرى ولفظ آخر.
وأخرج الإمام أحمد أن أبا سعيد الخدري قال : يا رسول الله، أوصني، فقال صلى الله عليه وسلم : " أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض " ٢٧
تمهيد :
بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأمر الخلق بنصرتهم، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة، ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم، ووحدة التشريع، ووحدة الكتاب، أي الكتب السماوية الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ثم ذكر أن من آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن له نصيبين من رحمة الله، لإيمانه برسوله ثم إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أن النبوة فضل من الله، لا يختص بها قوما دون قوم، وفي ذلك رد على اليهود الذين ادّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة لا تخرج منهم إلى غيرهم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
المفردات :
برسوله : محمد صلى الله عليه وسلم.
كفلين : نصيبين، والكفل : الحظّ والنصيب.
التفسير :
٢٨- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
نلاحظ أن سورة الحديد تطرق القلوب طرقا متتابعا مفيدا، وتدعو إلى الإيمان، وتحثّ على الخشوع لذكر الله، وتحث على اتباع الرسل، والجهاد في سبيل الله.
وفي الآيتين الأخيرتين من السورة – أي في هذه الآية والتي تليها – نجد دعوة راشدة تقول : يا أيها الذين آمنوا بالله، الزموا التقوى ومراقبة الله، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم يؤتكم الله نصيبين من رحمته الواسعة، ونصيب واحد نعمة كبيرة، لكن الله جعل للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبين وافرين من رحمته.
﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ... ﴾
إنه فضل وراء فضل، والمعنى : يهبكم الله نورا لهدايتكم إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم، والإنسان مهما أوتي من العقل محتاج إلى هداية الله ونوره وفضله.
قال المفسرون :
يجعل لكم نورا تمشون به على الصراط تهتدون به في الآخرة، وهدى تبصرون به العمى والجهالة في الدنيا.
وقال في ظلال القرآن :
﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ... ﴾
وهي هبة لدنيّة يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه، وتؤمن حق الإيمان برسوله، هبة تنير تلك القلوب فتشرق، وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز، ومن وراء الأشكال والمظاهر، ولا تلتوي بها الطريق.. نُورًا تَمْشُونَ بِهِ...
﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي، فالإنسان مهما وُهب من النور إنسان يدركه التقصير، فيحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله. أه.
﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
عظيم المغفرة، واسع الرحمة.
﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
كان أهل الكتاب يقولون : إن سلسلة الرسل كلها في نسل يعقوب – الملقب بإسرائيل – والكتاب والشرع ليس إلا لنا، والله خصّنا بهذه المنزلة من بين جميع العالمين.
سبب النزول
أخرج ابن جرير، عن قتادة قال : بلغنا أنه لما نزلت :
﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ... ﴾ حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله :﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ... ﴾
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد، قال : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منا نبي فيقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا، فأنزل الله : لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ...
يعني بالفضل : النبوة، وتفيد آيات القرآن الكريم أن أهل الكتاب كانوا يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه :
﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا... ﴾ ( البقرة : ١٣٥ ).
﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى... ﴾ ( البقرة : ١١١ ).
فبيّن القرآن أن النبوة والرسالة والفضل الإلهي منحة من الله يمنحها لمن يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وقد ضاعف الله الأجر والثواب، والنور والمغفرة للمؤمنين الذين صدقوا في إيمانهم بالله، وصدّقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فجعل لهم أجران، حتى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على ردّ أي شيء من فضل الله، وأن النبوة والرسالة، والفضل الإلهي بيد الله، يعطيه من يشاء من عباده، وقد اختار الله محمدا صلى الله عليه وسلم لرسالته، وجعله الرسول الخاتم، وأنزل عليه آخر كتبه، وأعطى لأمته ثوابا مضاعفا، فضلا منه ونعمة، والله تعالى، ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. العطاء الواسع والجزاء الأوفى.
أخرج البخاري، ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مواليه فله أجران، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها فله أجران " ٢٨.
وقد ذكر بعض المفسرين أن الله تعالى لما أنزل الآيات ( ٥٢، ٥٣، ٥٤ ) من سورة القصص، وفيها ما يفيد أن أهل الكتاب لهم أجران، حيث قال تعالى :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا... ﴾ ( القصص : ٥٤ ).
قالوا : يا معشر المسلمين، أما من آمن منا بكتابكم فله أجران، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم.
فأنزل الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ردا على قولهم :{ ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم ﴾.
وأفاد الزمخشري في تفسير الكشاف :
أن الله أعطى المسلمين أجرين لأنهم آمنوا بالرسل السابقين جميعا فلهم أجر، وآمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلهم أجر ثان.
وكذلك أهل الكتاب : إذا آمنوا بأنبيائهم وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فلهم أجران، فإذا لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد حُرموا من كل أجر، لأن رسلهم بشرت بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر القرآن ذلك على لسان عيسى :﴿ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدّقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ﴾. ( الصف : ٦ ).
فإذا لم يؤمن الكتابيّ بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه يُحرم كل أجر، حيث خالف وصية نبيه، ثم لكفره بمحمد رسول الله وخاتم النبيين.
ونتذكر هنا كلام أصحاب علوم القرآن :( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )، فنجد أن الآية عامة تشمل المسلمين وتشمل أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلهم جميعا كفلان ونصيبان من رحمة الله وفضله، والله ذو الفضل العظيم.
من تفسير ابن كثير
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ. أي : ضعفين. مِنْ رَحْمَتِهِ. وزادهم : وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ... يعني : هدى يتبصر به من العمى والجهالة وَيَغْفِرْ لَكُمْ. ففضّلهم بالنور والمغفرة.
وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾. ( الأنفال : ٢٩ ).
ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا، فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت اليهود، ثم قال : من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت النصارى، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذين عملتم، فغضبت النصارى واليهود، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء، قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا : لا، قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء " ٢٩
وروى البخاري عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قوما يعملون له عملا، يوما إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا : لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم : لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم، فقال : أكملوا يومكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر، قالوا : ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال : أكملوا بقية عملكم، فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا، فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " ٣٠
ولهذا قال تعالى :﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾.
تمهيد :
بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأمر الخلق بنصرتهم، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة، ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم، ووحدة التشريع، ووحدة الكتاب، أي الكتب السماوية الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ثم ذكر أن من آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن له نصيبين من رحمة الله، لإيمانه برسوله ثم إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أن النبوة فضل من الله، لا يختص بها قوما دون قوم، وفي ذلك رد على اليهود الذين ادّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة لا تخرج منهم إلى غيرهم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
المفردات :
لئلا يعلم : لكي يعلم.
ألا يقدرون : أي : لا ينالون شيئا مما ذكر من فضل الله وهو النبوة، ولا يستطيعون التصرف فيه.
التفسير :
﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾. أي : ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا إعطاء ما منع الله.
﴿ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
قال بن جرير :﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ... ﴾ أي : ليعلم، وعن ابن مسعود أنه قرأها :( لكي يعلم ) لأن العرب تجعل ( لا ) صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، فالسابق كقوله :﴿ ما منعك ألا تسجد... ﴾ ( الأعراف : ١٢ ).
وكقوله تعالى :﴿ وما يُشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾. ( الأنعام : ١٠٩ )٣١
Icon