تفسير سورة الحديد

تفسير التستري
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب تفسير التستري المعروف بـتفسير التستري .
لمؤلفه سهل التستري . المتوفي سنة 283 هـ

السورة التي يذكر فيها الحديد
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٣ الى ٤]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [٣] قال: اسم الله الأعظم مكنى عنه في ست آيات من أول سورة الحديد من قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [٣] وليس المعنى في الأسماء إلا المعرفة بالمسمى، والمعنى في العبادة إلا المعرفة في العبودية. ومعنى الظاهر ظاهر العلو والقدرة والقهر، والباطن الذي عرف ما في باطن القلوب من الضمائر والحركات.
قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ [٤] قال: باطن الآية الأرض نفس الطبع، فيعلم ما يدخل القلب الذي فيها له من الصلاح والفساد.
وَما يَخْرُجُ مِنْها [٤] من فنون الطاعات، فتبين آثارها وأنوارها على الجوارح.
وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ [٤] عليها من آداب الله تعالى إياه. وَما يَعْرُجُ فِيها [٤] إلى الله من الروائح الطيبة والذكر.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٦ الى ٧]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
قوله تعالى: وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [٦] قال: باطنها الليل نفس الطبع والنهار نفس الروح، فإذا أراد الله تعالى بعبده خيراً ألّف بين طبعه ونفس روحه على إدامة الذكر، فأظهر ذلك على مقابلة أنوار الخشوع.
قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [٧] قال: يعني ورثكم من آبائكم وملككم، فأنفقوا عيش أنفسكم الطبيعية من الدنيا في طاعته وطاعة رسوله.
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا [٧] أعمارهم في الوجوه التي أمرهم الله بالإنفاق فيها.
لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [٧] وهو البقاء مع الباقي في جنته ورضاه.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١١ الى ١٣]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣)
قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [١١] قال: أعطى الله عباده فضلاً، ثم سألهم قرضاً حسناً، والقرض الحسن المشاهدة فيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «اعبد الله كأنك تراه» «١».
وحكي عن أبي حازم أنه قال: إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا من أوان كسادها، فإذا جاء يوم نفاقها لم تقدروا منها على قليل ولا على كثير «٢».
(١) صحيح البخاري: الإيمان، ٥٠ وصحيح مسلم: الإيمان، ٨ وسنن أبي داود رقم ٤٦٩٥.
(٢) الحلية ٣/ ٢٤٢ وصفوة الصفوة ٢/ ١٦٣.
قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [١٢] قال: نور المؤمن يسعى بين يديه، له هيبة في قلوب الموافقين والمخالفين، يعظمه الموافق ويعظم شأنه، ويهابه المخالف ويخافه، وهو النور الذي جعله الله تعالى لأوليائه، ولا يظهر ذلك النور لأحد إلا إن انقاد له وخضع، وهو من نور الإيمان، ثم وصف المنافقين أنهم يقولون لهم: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [١٣] فنمضي معكم على الصراط فإنا في الظلمة، فتقول لهم الملائكة: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [١٣] بعقولكم التي كنتم تدبرون بها أموركم في الدنيا، فيرجعون إلى ورائهم، فيضرب الله بين أنفسهم وبين عقولهم سوراً وقد ستر الخيرة، فلا يصلون إلى طريق هدى، حتى إذا انتهوا في السير على الصراط سقطوا في جهنم خالدين فيها.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٥ الى ١٦]
فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)
قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [١٥] يعني لا يؤخذ منكم فداء عن أنفسكم.
قال ابن سالم: خدمت سهل بن عبد الله ستين سنة، فما تغير في شيء من الذكر أو غيره، فلما كان آخر يوم من عمره قرأ رجل بين يديه هذه الآية: فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [١٥] فرأيته ارتعد واضطرب حتى كاد يسقط، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك وقلت: لم يكن عهدي بك هذا. فقال: نعم يا حبيبي قد ضعفت. فقلت: ما الذي يوجب قوة الحال؟ فقال: لا يرد عليه وارد إلا هو يبتلعه بقوته، فمن كان كذلك لا تغيره الواردات، وإن كانت قوية. وكان يقول: حالي في الصلاة وقبل الدخول فيها سواء. وذلك أنه كان يراعي قلبه، ويراقب الله تعالى بسره قبل دخوله، فيقوم إلى الصلاة بحضور قلبه وجمع همته.
قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [١٦] قال: ألم يحن لهم أوان الخشوع عند سماع الذكر، فيشاهدوا الوعد والوعيد مشاهدة الغيب.
قوله تعالى: فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [١٦] قال يعني باتباع الشهوة.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٠]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
قوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [٢٠] قال: الدنيا نفس نائمة، والآخرة نفس يقظانة. قيل: فما النجاة منها؟ قال: أصل ذلك العلم، ثم ثمرته مخالفة الهوى في اجتناب المناهي، ثم مكابدة النفس على أداء الأوامر على الطهارة من الأدناس، فيورث السهولة في التعبد والحلول بعده في مقامات العابدين، ثم يذيقه الله ما أذاق أولياءه وأصفياءه وهي درجة المذاق.
قال: وذكر لنا أن إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام أصابه يوماً عطش شديد في مفازة يوم شديد الحر، فنظر إلى حبشي يرعى الإبل فقال: هل عندك ماء؟ فقال: يا إبراهيم أيما أحب إليك الماء أو اللبن؟ فقال: الماء. قال: فضرب بقدمه على صخرة فنبع الماء، فتعجب
إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأوحى الله إلى إبراهيم: لو سألني هذا الحبشي أن أزيل السماوات والأرض لأزلتهما. فقال: ولم ذلك يا رب؟ قال: لأنه ليس يريد من الدنيا والآخرة غيري.
وقال عامر بن عبد القيس: وجدت الدنيا أربع خصال فأما خصلتان فقد طابت نفسي عنهما: النساء وجمع الماء، وأما الخصلتان فلا بد منهما وأنا مصرفهما ما استطعت: النوم والطعام «١».
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٣]
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣)
قوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ [٢٣] قال: في هذه الآية دليل على الرضا في الشدة والرخاء.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)
قوله عزَّ وجلَّ: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [٢٧] قال: الرهبانية مأخوذة من الرهبة، وهو الخوف، ومعناه ملازمة الخوف من غير طمع. مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ [٢٧] أي ما تعبدناهم بذلك.
قوله عزَّ وجلَّ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [٢٨] قال: يعني الرحمة وعين الرحمة، فالسر سر المعرفة، والعين عين الطاعة لله ولرسوله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
(١) الحلية ٢/ ٩٠- ٩١ وكتاب الزهد الكبير ٢/ ٦٣- ٦٤ وكتاب الزهد لابن أبي عاصم ص ٢٢٣- ٢٢٤ وشعب الإيمان ٥/ ٣٩ والطبقات الكبرى ٧/ ١١١.
Icon