تفسير سورة الحديد

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الحديد مكية، وقيل مدنية وآيها تسع وعشرون.

﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض﴾ التَّسبيحُ تنزيهُ الله تعَالى اعتِقاداً وقَولاً وعملاً عما لا يليق بجنابه مِنْ سبَح في الأرضِ والماء إذا ذهبَ وأبعدَ فيهمَا وحيثُ أُسندَ هَهُنا إلى غيرِ العُقلاءِ أيضاً فإنَّ ما في السمواتِ والأرضِ يعمُّ جميعَ ما فيهمَا سواءً كانَ مستقراً فيهما أو جُزءاً منهَما كما مرَّ في آيةِ الكرسيِّ أُريدَ به مَعْنى عامٌّ مجازيٌّ شاملٌ لما نطقَ به لسانُ المقالِ كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ولسان الحال كتسبيحِ غيرِهم فإنَّ كلَّ فردٍ من أفرادِ الموجوداتِ يدلُّ بإمكانِه وحدوثِه على الصانعِ القديمِ الواجبِ الوجودِ المُتَّصفِ بالكمالِ المُنزهِ عن النُّقصانِ وهُو المرادُ بقولِه تعالى وَإِن مّن شَىْء إلايسبح بِحَمْدَهِ وهُو متعدَ بنفسِه كما في قوله تعالى وسبحوه واللام إمامزيده للتأكيدِ كما في نصحتُ لَهُ وشكرتُ لَهُ أو للتعليلِ أي فَعَل التسبيحَ لأجلِ الله تعالَى وخَالِصاً لوجهِه ومجيئُه في بعض الفواتحِ ماضياً وفي البعضِ مضارعاً للإيذانِ بتحقّقِه في جميعِ الأوقاتِ وفيهِ تنبيهٌ على أنَّ حقَّ مَنْ شأنُه التسبيحُ الاختياريُّ أنْ يُسبِّحهُ تعالَى في جميعِ أوقاتِه كما عليهِ الملأُ الأَعلى حيثُ يُسَبّحُونَ الليلَ والنهارَ لاَ يفترُونَ ﴿وَهُوَ العزيز﴾ القادرُ الغالبُ الذي لاَ يُمانعُه ولا يُنازِعُه شيءٌ ﴿الحكيم﴾ الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ والجملةُ اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبلَهُ مشعرٌ بعلة الحكمِ وكَذا قولُه تعالَى
﴿لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي التصرُّفِ الكليِّ فيهَما وفيمَا فيهما مِنَ الموجوداتِ من حيثُ الإيجادُ والإعدامُ وسائرُ التصرفاتِ مما نعلمه ومالا نعلمه وقوله تعالى ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ استئنافٌ مبينٌ لبعضِ أحكامِ المُلكِ والتصرفِ وجعلُه حالاً من ضميرٍ لهُ ليسَ كَما ينبغِي ﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء﴾ منَ الأشياء التي من جملتها ما ذكِرَ منَ الإحياءِ والإماتِه ﴿قَدِيرٌ﴾ مبالِغٌ في القُدرة
﴿هُوَ الأول﴾ السابقُ على سائرِ الموجُوداتِ لِما أنَّه مُبدئها ومُبدعُها ﴿والأخر﴾ الباقي بعدَ فنائِها حقيقةً أوْ نظر إلى ذاتها مع قطعِ النظرِ عن مُبقيها فإن جميعَ الموجوداتِ المُمكنةِ إذا قُطعَ النظرُ عن علتِها فهيَ فانيةٌ ﴿والظاهر﴾ وجُوداً لكثرة
203
٧ ٤
دلائلِه الواضحةِ ﴿والباطن﴾ حقيقةً فلا تحومُ حولَهُ العقولُ والواوُ الأُولى والأخيرةُ للجمعِ بينَ الوصفينِ المُكتنفينِ بهمَا والوُسطى للجمعِ بين المجموعينَ فهو متصفٌ باستمرارِ الوجودِ في جميعِ الأوقاتِ والظهورِ والخفاءِ ﴿وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ﴾ لاَ يعزُب عنْ علمِه شيءٌ منَ الظَّاهرِ وَالخفيِّ
204
﴿هو الذي خلق السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ بيانٌ لبعضِ أحكامِ ملكِهما وقد مرَّ تفسيرُه مِراراً ﴿يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ مرَّ بيانُه في سورةِ سبأ ﴿وهو معكم أين ما كُنتُمْ﴾ تمثيلٌ لإحاطة علمِه تعالى بهم وتصويرٌ لعدمِ خروجِهم عنه أينما دارُوا وقولُه تعالى ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ عبارةٌ عن إحاطتِه بأعمالِهم فتأخيرُه عن الخلقِ لما أنَّ المرادَ به ما يدور علبه الجزاءُ من العلم التابعِ للمعلوم لا لما قيلَ من أنه دليلٌ علَيه وقولُه تعالى
﴿لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لقولِه تعالى ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي إليهِ وحده لا إلى غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً ترجعُ جميعُ الأمورِ على البناءِ للمفعولِ من رجَعَ رَجْعاً وقرىء على البناء للفاعل منْ رجعَ رُجُوعاً
﴿يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار في الليل﴾ مرَّ تفسيرُه مراراً وقولُه تعالى ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ﴾ أيْ مبالغٌ في العلمِ ﴿بِذَاتِ الصدور﴾ أي بمكنوناتِها اللازمةِ لها بيانٌ لإحاطةِ علمِه تعالَى بمَا يُضمرونَهُ من نيَّاتِهم بعدَ بيانِ إحاطتِه بأعمالهم التي يظهرونها
﴿آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ أي جعلكم خلفاءَ في التصرفِ فيهِ من غيرِ أنْ تملكوه حقيقةً عبر عمَّا بأيديهم من الأموالِ والأرزاقِ بذلكَ تحقيقاً للحقِّ وترغيباً لهم في الإنفاقِ فإنَّ من علم أنها لله عزَّ وجلَّ وإنَّما هُو بمنزلةِ الوكيلِ يَصرِفها إلى ما عيّنه الله تعالى من المصارفِ هانَ عليه الإنفاق أو جلعكم خلفاء ممَّن قبلكَم فيما كَانَ بأيديهم بتوريثِه إيَّاكُم فاعتبرُوا بحالِهم حيثُ انتقلَ منهم إليكُم وسينتقلُ منكُم إلى مَنْ بعدكُم فلا تبخلوا به ﴿فالذين آمنوا مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ﴾ حسبمَا أُمروا به ﴿لَهُمْ﴾ بسببِ ذلكَ ﴿أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وفيِه من المبالغات مالا يَخفْى حيثُ
204
} ٠ ٨
جعل الجملة الأسمية وأُعيدَ ذكرُ الإيمانِ والإنفاقِ وكُررَ الإسنادُ وفُخم الأجرُ بالتنكير ووصفَ بالكبيرِ وقولُه عزَّ وجلَّ
205
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله﴾ استئنافٌ مسوقٌ لتوبيخِهم على ترك الإيمانِ حسبَما أمروا به بإنكارِ أنْ يكون لهم في ذلك عذرٌ ما في الجملةِ على أنَّ لا تؤمنونَ حال من الضمير في لكُم والعاملُ ما فيه من مَعْنى الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ حصلَ لكُم غيرَ مؤمنينَ على توجيه الإنكارِ والنَّفي إلى السببِ فقط مع تحقق المسببِ لا إلى السببِ والمسبَّب جميعاً كَما في قوله تعالى وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى فإنَّ همزةَ الاستفهامِ كَما تكونُ تارةً لإنكارِ الواقعِ كَما في أتضرِبُ أباكَ وأخرى لإنكار الوقوعِ كما في أأضربُ أبي كذلكَ ما الاستهامية قد تكونُ لإنكارِ سببِ الواقعِ ونفْيِه فقطْ كما فيما نحنُ فيهِ وفي قوله تعالى مالكم لاترجون لِلَّهِ وَقَاراً فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ محُققاً فإنَّ كلاً من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرَّجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكر ونفي سببه وقد تكونُ لإنكارِ سببَ الوقوعِ ونفيَه فيسريانِ إلى المسببِ أيضاً كَما في قوله تعالى وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ إلى آخرهِ فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ مفروضا قعا فإنَّ عدمَ العبادةِ أمرٌ مفروضٌ حتماً قد أنكرَ ونُفيَ سببُه فانتفَى نفسُه أيضاً وقوله تعالى ﴿والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ﴾ حالٌ من ضميرِ لا تُؤمنون مفيدةٌ لتوبيخِهم على الكُفرِ معَ تحققِ ما يُوجبُ عدمَهُ بعدَ توبيخِهم عليهِ مع عدمِ ما يُوجبه أيْ وأيُّ عذرٍ في تركِ الإيمانِ والرسولُ يدعُوكم إليهِ وينبهكم عليهِ وقولُه تعالى ﴿وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم﴾ حالٌ من مفعولِ يدعُوكم أيْ وقد أخذَ الله تعالَى ميثاقَكُم بالإيمانِ من قبلُ وذلك بنصب الأدلةِ والتمكينِ من النظرِ وقُرىءَ وقَدْ أُخذَ مبنياً للمفعولِ برفعِ ميثاقكُم ﴿إِن كُنتُم مؤمنين﴾ الموجب ما فإنَّ هذَا موجبٌ لا موجبَ وراءَهُ
﴿هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ﴾ حسبَما يعنُّ لكُم من المصالح ﴿آيات بَيّنَاتٍ﴾ واضحاتٍ ﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾ أي الله تعالَى أو العبدُ بها ﴿مّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ ﴿وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ حيثُ يهديكُم إلى سعادةِ الدراين بإرسالِ الرسولِ وتنزيلِ الآياتِ بعد نصبِ الحُججِ العقليةِ وقولُه تعالَى
﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ توبيخٌ لهم على تركِ
205
} ﴿
الإنفاقِ المأمورِ به بعدَ توبيخِهم على ترك الإيمانِ بإنكار أن يكون لهم في ذلكَ أيضاً عذرٌ من الأعذارِ وحذفُ المفعولِ لظهورِ أنَّه الذي بُيِّنَ حالُه فيما سبقَ وتعيينُ المُنفَقِ فيهِ لتشديدِ التوبيخِ أى وايى شيءٍ لكُم في أنْ لا تنفقُوا فيمَا هُو قربةٌ إلى الله تعالَى ما هو في الحقيقةِ وإنَّما أنتُم خلفاؤُه في صرفِه إلى ما عيَّنهُ من المصارفِ وقوله تعالى {ولله ميراث السماوات والأرض﴾
حالٌ من فاعلِ لا تنفقوا ومفعلوه مؤكدةٌ للتوبيخِ فإنَّ تركَ الإنفاقِ بغير سببٍ قبيحٌ منكرٌ ومع تحقق ما يوجبُ الإنفاقَ أشدُّ في القبحِ وأدخلُ في الإنكارِ فإنَّ بيانَ بقاءِ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرض من الأموالِ بالآخرةِ لله عزَّ وجلَّ من غيرِ أنْ يبقَى من أصحابِها أحدٌ أقوى في إيجابِ الإنفاقِ عليهم من بيان أنَّها لله تعالى في الحقيقةِ وهم خُلفاؤه في التصرف فيها كأنَّه قيلَ وما لكُم في ترك إنفاقِها في سبيلِ الله والحالُ أنَّه لا يبقَى لكُم منها شيءٌ بل يبقى كلُّها لله تعالَى وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ وتربية المهابةِ وقولُه تعالى ﴿لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل﴾ بيانٌ لتفاوت درجاتِ المنفقينِ حسبَ تفاوتِ أحوالِهم في الإنفاقِ بعدَ بيانِ أنَّ لهم أجراً كبيراً على الإطلاقِ حثَّاً لهم على تحرِّي الأفضلِ وعطفُ القتالِ على الإنفاقِ للإيذانِ بأنَّه من أهمِّ موادِّ الإنفاقِ مع كونِه في نفسِه من أفضلِ العباداتِ وأنه لا يخلُو من الإنفاقِ أصلاً وقسيمُ مَنْ أنفقَ محذوفٌ لظهورِه ودلالةِ ما بعدَهُ عليهِ وقُرىءَ قبلَ الفتحِ بغير مِنْ والفتحُ فتحُ مكَة ﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى مَن أنفقَ والجمعُ بالنظرِ إلى مَعْنى مَنْ كَما أنَّ إفرادَ الضميرَيْن السابقينِ بالنظرِ إلى لفظِها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم وعلوِّ طبقتِهم في الفضلِ ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ أي أولئكَ المنعوتونَ بذينكَ النعتينِ الجميلينِ ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾ وأرفعُ منزلةً ﴿مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا﴾ لأنَّهم إنما فعلُوا ما فعلُوا من الإنفاق والقتالِ قبل عزةِ الإسلامِ وقوةِ أهلِه عند كمالِ الحاجةِ إلى النصرة بالنفسِ والمالِ وهم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصار الذينَ قالَ فيهم النبيُّ ﷺ لو أنفقَ أحدُكم مثلَ أحدٍ ذهباً ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَهُ وهؤلاءِ فعلُوا ما فعلُوا بعد ظهورِ الدينِ ودخولِ الناس فيه أوفواجا وقلةِ الحاجةِ إلى الإنفاقِ والقتالِ ﴿وَكُلاًّ﴾ أي وكلَّ واحدٍ من الفريقينِ ﴿وَعَدَ الله الحسنى﴾ أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا الأولينَ فقطْ وقُرِىءَ وكلٌّ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي وكلٌّ وعدَهُ الله تعالَى ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ بظواهرِه وبواطنهِ فيجازيكُم بحسبِه وقيلَ نزلتِ الآيةُ في أبي بكر رضي الله تعالَى عنه فإنَّه أولُ مَنْ آمنَ وأولُ من أنفقَ في سبيلِ الله وخاصمَ الكفَّارَ حتى ضُربَ ضرباً أشرفَ به على الهلاكِ وقولُه تعالَى
206
﴿مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا﴾ ندبٌ بليغٌ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيلِه بعد الأمرِ به والتوبيخِ على تركِه وبيانِ درجاتِ المنفقينَ أي مَنْ ذَا الذي ينفقَ مالَه في سبيلِه تعالَى رجاءَ أنْ يعوضَهُ فإنَّه كمنْ يُقرضُه وحُسنُ الإنفاقِ بالإخلاصِ فيه وتحرِّي أكرمِ المالِ وأفضلِ الجهاتِ ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ بالنصب على جوابِ الاستفهامِ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ أيقرضُ الله أحدٌ فيضاعفَهُ له أي فيعطيهِ أجرَهُ أضعافاً ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ أي
206
} ٣ ١ {
وذلكَ الأجرُ المضمومُ إليهِ الأضعافُ كريمٌ في نفسِه حقيقٌ بأنْ يتنافسَ فيه المتنافسونَ وإنْ لم يُضاعفْ فكيفَ وقد ضُوعفَ أضعافاً كثيرة وقُرِىءَ بالرفعِ عطفاً على يقرضُ أو حملاً على تقديرِ مبتدأٍ أيْ فهو يضاعفه وقرئ يُضعفَهُ بالرفعِ والنصبِ
207
﴿يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات﴾ ظرفٌ لقولِه تعالَى وله أجرٌ كريمٌ أو لقوله تعالى فيضاعفَهُ أو منصوبٌ بإضمارٍ اذكُرْ تفخيماً لذلك اليومِ وقولُه تعالى ﴿يسعى نُورُهُم﴾ حالٌ من مفعولِ تَرَى قيلَ نورَهم الضياءُ الذي يُرَى ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم﴾ وقيلَ هو هُداهُم وبأيمانِهم كتبَهم أي يسعَى إيمانُهم وعملهم الصالُح بينَ ايديهم وف أيمانِهم كتبُ أعمالِهم وقيلَ هو القرآنُ وعنِ ابنِ مسعو د رضى الله عنْهُ يُؤتَون نورَهُم على قدرِ أعمالهم فمنهُم مَنْ يُؤتى نوره كالنخلة ومنهم مَن يُؤتَى كالرجل القائمِ وأدناهُم نوراً مَنْ نورُه على إبهامِ رجلهِ ينطفىءُ تارةً ويلمعُ أُخرَى قالَ الحسنُ يستضيئونَ به على الصراطِ وقال مقاتلٌ يكونُ لهم دليلاً إلى الجنَّةِ ﴿بُشْرَاكُمُ اليوم جنات﴾ مقدرٌ بقولٍ هو حالٌ أو استئنافٌ أيْ يقالُ لهم بُشراكُم أي ما تبشرونَ بهِ جنَّاتٌ أو بُشراكم دخول الجنة ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك﴾ أي ما ذُكرَ من النُّورِ والبُشرى بالجناتِ المخلدةِ ﴿هُوَ الفوز العظيم﴾ الذِي لا غايةَ وراءَهُ وقرىءَ ذلكَ الفوز العظيمُ
﴿يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات﴾ بدلٌ مِن يومَ تَرَى ﴿للذين آمنوا انظرونا﴾ أي انتظرونَا يقولونَ ذلكَ لما أنَّ المؤمنينَ يُسرَع بِهم إلى الجنَّةِ كالبرقِ الخاطفِ على ركابٍ تزفُّ بهم وهؤلاءِ مشاةٌ أو انظروا إلينَا فإنَّهم إذا نظروا إليهم استقبولهم بوجوهِهم فيستضيئونَ بالنُّورِ الذي بينَ أيديِهم وقُرِىءَ أَنِظرُونا من النَّظِرةِ وهي الإمهالُ جعلَ اتئادَهم في المُضيِّ إلى أنْ يلحقُوا بهم إنظاراً لهم ﴿نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ أي نستضىءْ منه وأصلُه اتخاذُ القبسِ ﴿قِيلَ﴾ طَرداً لهم وتهكماً بهِم من جهة المؤمنينَ أو من جهة الملائكةِ ﴿ارجعوا وَرَاءكُمْ﴾ أي إلى الموقف ﴿فالتمسوا نُوراً﴾ فإنَّه من ثمَّ يُقتبسُ أو إلى الدُّنيا فالتمسُوا النورَ بتحصيل مباديِه من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ أو ارجعوا خائبينَ خاسئينَ فالتمسُوا نوراً آخرَ وقد علمُوا أنْ لا نورَ وراءَهُم وإنما قالُوه تخييباً لهم أَوْ أرادُوا بالنورِ ما وراءَهُم من الظُّلمةِ الكثيفةِ تهكماً بهم ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم﴾ بينَ الفريقينِ ﴿بِسُورٍ﴾ أي حائطٍ والباءُ زائدةٌ ﴿لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ﴾ أي باطنُ السُّورِ أو البابِ وهو الجانبُ الذي يلي الجنَّةَ ﴿فِيهِ الرحمة وظاهره﴾ وهو الطرفُ الذي يَلي النَّارَ ﴿مِن قَبْلِهِ﴾ من جهتِه ﴿العذاب﴾ وقُرِىءَ فضَرَبَ على البناءِ للفاعلِ
207
} ٦ ١٤
208
﴿ينادونهم﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا يفعلونَ بعد ضربِ السُّورِ ومشاهدةِ العذابِ فقيلَ يُنادونَهم ﴿أَلَمْ نَكُن﴾ في الدُّنيا ﴿مَّعَكُمْ﴾ يريدونَ به موافقتَهم لهُم في الظَّاهرِ ﴿قَالُواْ بلى﴾ كنتُم معنَا بحسبِ الظاهرِ ﴿ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ محنتموها بالنفاق وأهكلتموها ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ بالمؤمنينَ الدوائرَ ﴿وارتبتم﴾ في أمرِ الدِّينِ ﴿وَغرَّتْكُمُ الأمانى﴾ الفارغةُ التي من جُمْلتها الطمعُ في انتكاس أمرِ الإسلامِ ﴿حتى جَاء أَمْرُ الله﴾ أي الموتُ ﴿وَغَرَّكُم بالله﴾ الكريمِ ﴿الغرور﴾ أي غرَّكُم الشيطانُ بأنَّ الله عفوٌّ كريمٌ لا يُعذبكم وقُرِىءَ الغُرورُ بالضمِّ
﴿فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فدية﴾ فداء وقرئ تُؤخذُ بالتاءِ ﴿وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي ظاهراً وباطنا ﴿مأواكم النار﴾ لا تبرحُونَها أبداً ﴿هِىَ مولاكم﴾ أي أَوْلَى بكُم وحقيقتُه مكانُكُم الذي يُقالُ فيهِ هو أَوْلى بكُم كما يقالُ هو مِئْنةُ الكرمِ أي مكانٌ لقولِ القائلِ إنَّه لكريمٌ أو مكانُكم عن قريبٍ من الولي وهو القرب أو ناصركُم على طريقةِ قولِه... تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيع... أو متوليكم تتولاكم كَما توليتُم موجباتِها ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي النَّارُ
﴿ألم يأن للذين آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله﴾ استئنافٌ ناعٍ عليهم تثاقلَهُم في أمورِ الدِّينِ ورخاوةِ عقدِهم فيها واستبطاءٌ لا نتدابهم لما نُدبوا إليهِ بالترغيبِ والترهيبِ ورُويَ أنَّ المؤمنينَ كانُوا مُجْدبين بمكةَ فلمَّا هاجرُوا أصابُوا الرزقَ والنعمةَ وفترُوا عمَّا كانُوا عليهِ فنزلتْ وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه ما كانَ بينَ إسلامِنا وبينَ أنْ عُوتبنا بهذهِ الآيةِ إلا أربعُ سنينَ وعنِ ابن عباس رضي الله عنُهمَا أنَّ الله استبطأَ قلوبَ المؤمنينَ فعاتَبهُم على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةً من نزولِ القُرآنِ أيْ ألم نجىء وقتُ أنْ تخشعَ قلوبُهم لذكرِه تعالَى وتطمئنَ به ويسارعُوا إلى طاعتِه بالامتثال بأوامره والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ منْ غير توانٍ ولا فتورٍ منْ أنى الأمرُ إذَا جاءَ أناهُ أي وقته وقُرِىءَ ألم يئِنْ من آنَ يئينُ بمعنى أنَى وقُرِىءَ ألمَّا بان وفيه دلالة على أن المنفى ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق﴾ أي القرآنِ وهو عطفٌ على ذكرِ الله فإنْ كان هو المرادبه أيضا فالعطف لتغاير العنواين فإنَّه ذكرٌ وموعظةٌ كما أنَّه حقٌّ نازلٌ منَ السماءِ وإلاَّ فالعطفُ كما في قولِه تعالى إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ زَادَتْهُمْ إيمانا ومَعْنى الخشوعِ له الانقيادُ التامُّ لأوامره ونواهيِه والعكوفُ على العملِ بما فيهِ من الأحكامِ التي من جُملتها ما سبَقَ وما لَحِق من الإنفاق في
208
} ٩ ١٧
سبيل الله تعالى وقرئ نزل من التنزيلِ مبنياً للمفعول ومبنياً للفاعلِ وأنزلَ ﴿وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ﴾ عطفٌ على تخشعَ وقُرىء بالتاءِ على الالتفاتِ للاعتناءِ بالتحذيرِ وقيلَ هو نهيٌ عن مماثلةِ أهلِ الكتابِ في قسوةِ القلوبِ بعد أنْ وبخوا وذلك أنَّ بني إسرائيلَ كانَ الحقُّ يحولُ بينَهُم وبينَ شهواتِهم وإذَا سمعُوا التوراةَ والإنجيل خشعوالله ورقَّتْ قلوبُهم ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد﴾ أي الأجلُ وقُرِىءَ الأمدُّ بتشديدِ الدالِ أي الوقتُ الأطولُ وغلبهم الجفاءُ وزالتْ عنْهم الروعةُ التي كانتْ تأتيهُم من الكتابينِ ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فَهِىَ كالحجارةِ أَوْ أَشَدُّ قسوةً ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون﴾ أي خارجونَ عن حدودِ دينهم رافضونَ لما في كتابِهم بالكُلِّيةِ
209
﴿اعلموا أن الله يحيي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ تمثيلٌ لإحياءِ القلوبِ القاسيةِ بالذكرِ والتلاوةِ بإحياءِ الأرضِ الميتةِ بالغيثِ للترغيبِ في الخشوعِ والتحذيرِ عن القساوةِ ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ﴾ التي من جُمْلتِها هذهِ الآياتُ ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ كي تعقلُوا ما فيهَا وتعملُوا بموجبِها فتفوزُوا بسعادةِ الدارينِ
﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات﴾ أي المتصدقين والمتصدقات وقدر قُرِىءَ كذلكَ وقُرِىءَ بتخفيفِ الصادِ من التصديقِ أي الذينَ صدقُوا الله ورسولَه ﴿وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ قيلَ هُو عطفٌ على مافي المصدقينَ من مَعْنى الفعلِ فإنه حُكمِ الذين اصدَّقُوا أو صَدَقُوا عَلى القراءتينِ وعُقبَ بأنَّ فيهِ فصلاً بين أجزاءِ الصلةِ بأجنبيَ وهو المُصدِّقاتِ وأُجيبَ بأنَّ المَعْنى أنَّ الناسَ الذينَ تصدَّقُوا وتصدقن وأقرصوا فهو عطفٌ على الصلةِ من حيثُ المَعْنى من غيرِ فصلٍ وقيلَ إنَّ المُصدِّقاتِ ليسَ بعطفٍ على المُصدِّقينِ بل هُو منصوبٌ على الاختصاصِ كأنه قيلَ إنَّ المصدقينَ على العموم تغليباً وأخصُّ المصدقاتِ من بينهُم كما تقولُ إنَّ الذينَ آمنُوا ولا سيَّما العلماء منهُم وعملُوا الصالحاتِ لهم كَذا لكنْ لا على أنَّ مدارَ التخصيصِ مزيدُ استحقاقِهنَّ لمضاعفةِ الأجرِ كما في المثال المذكورِ بل زيادةُ احتياجهنَّ إلى التصدقِ الداعيةُ إلى الاعتناءِ بحثهنَّ على التصدقِ لما روي أنه عليه الصلاة والسَّلامُ قالَ يا معشرَ النِّساءِ تصدَّقن فإنِّي أرُيتُكنَّ أكثرَ أهلِ النَّارِ وقيلَ هو صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ معطوفٍ على المصدقينَ كأنَّه قيل والذين أقرضوا القرص الحسنُ عبارةٌ عنِ التصدقِ من الطيبِ عن طيبةِ النفسِ وخلوصِ النيةِ على المستحقِّ للصدقةِ ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ﴾ على البناءِ للمفعول مُسنداً إلى ما بعدَهُ من الجارِّ والمجرورِ وقيلَ إلى مصدرِ مَا في حيزِ الصِّلةِ على حذفِ مضافٍ أيْ ثوابُ التصدقِ وقُرِىءَ على البناء للفاعل أي يُضاعِفُ الله تعالَى وقُرِىءَ يُضعَّفُ بتشديدِ العينِ وفتحِها ﴿وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ مرَّ ما فيه من الكلام
﴿والذين آمنوا بالله ورسوله﴾
209
} ٠
كافةً وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الإيمانِ بهم في خاتمةِ سورةِ البقرةِ ﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الموصولِ الذي هُو مبتدأٌ وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه قد مر سره مرارا وهو مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ثالث خبره ﴿الصديقون والشهداء﴾ وهُو معَ خبرِه خبرٌ للثانِي وهو مع خبره خبر للأول أو هم ضمير الفصل وما بعده خبر لأولئك والجملة خبر للموصولِ أي أُولئكَ ﴿عِندَ رَبّهِمْ﴾ بمنزلة الصديقينَ والشهداءِ المشهورينَ بعلوِّ الرُّتبةِ ورفعةِ المحلِّ وهُم الذينَ سبقُوا إلى التصديقِ واستُشْهِدوا في سبيلِ الله تعالى أو هم المبالغونَ في الصدقِ حيثُ آمنُوا وصدَّقُوا جميعَ أخبارهِ تعالَى ورسلِه والقائمونَ بالشهادةِ لله تعالى بالوحدانيةِ ولهم بالإيمانِ أو على الأممِ يومَ القيامةِ وقولُه تعالى ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ بيانٌ لثمراتِ ما وُصفوا بهِ من نعوتِ الكمالِ على أنَّه جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ محلُّها الرفعُ على أنَّه خبرٌ ثانً للموصولِ أو الخبرُ هو الجارُّ وما بعدَهُ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ والضميرُ الأولُ على الوجهِ الأولِ للموصولِ والأخيرانِ للصديقينَ والشهداءُ أيْ مثلُ أجرِهم ونورِهم المعروفينِ بغايةِ الكمالِ وعزةِ المنالِ وقد حذفَ أداةَ التشبيةِ تنبيهاً على قوةِ المماثلةِ وبلوغِها حدَّ الإتحادِ كما فعلَ ذلكَ حيثُ قيل هم الصديقونَ والشهداءُ وليستِ المماثلةُ بين ما للفريقِ الأولِ من الأجرِ والنورِ وبين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الأضعافِ وأمَّا على الوجهِ الثاني فمرجعُ الكلّ واحدٌ والمَعْنى لهمُ الأجرُ والنورُ الموعودان لَهُم أجرُهم الخ ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفةِ القبيحةِ ﴿أصحاب الجحيم﴾ بحيثُ لا يفارقونَها أبداً
210
﴿اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الأموال والأولاد﴾ بعدما بُيِّنَ حالُ الفريقينِ في الآخرةِ شُرحَ حالُ الحياةِ الدُّنيا التي اطمأنَّ بها الفريقُ الثَّاني وأُشيرَ إلى أنَّها من محقرات الأمورِ التي لا يركنُ إليها العقلاءُ فضلاً عن الاطمئنانِ بَها وأنَّها مع ذلكَ سريعةُ الزَّوالِ وشيكةُ الاضمحلالِ حيثُ قيلَ ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار﴾ أي الحُرَّاثَ ﴿نَبَاتُهُ﴾ ٦ أي النباتُ الحاصلُ بهِ ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ أي يجفُّ بعدَ خضرتِه ونضارتِه ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ بعدَ ما رأيتَهُ ناضراً مُونِقاً وقُرىءَ مُصفارَّاً وإنما لم يقلْ فيصفرُّ إيذاناً بأنَّ اصفرارَهُ مقارنٌ لجفافِه وإنما المترتبُ عليه رؤيتُه كذلكَ ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً﴾ هشيماً مُتكسراً ومحلُّ الكافِ قيلَ النصبُ على الحاليةِ من الضميرِ في لعبٌ لأنَّه في معنى الوصف وقيل الرفع على أنه خبرٌ بعدَ خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف أي مثل الحياةِ الدُّنيا كمثلِ الخ وبعدَ ما بُيِّنِ حقارةُ أمرِ الدُّنيا تزهيداً فيها وتنفيراً عن العكوفِ عليها أُشيرَ إلى فخامة شأنِ الآخرةِ وعظمِ ما فيها من اللذاتِ والآلامِ ترغيباً في تحصيلِ نعيمِها المقيمِ وتحذيراً
210
} ٣ ٢ ﴿
من عذابها الأليم وقد ذكرُ العذابِ فقيلَ {وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾
لأنَّه من نتائجِ الانهماكِ فيما فصل من أحوال الحياة الدُّنيا ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة ﴿مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ﴾ عظِيمٌ لا يُقادرُ قَدرُه ﴿وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور﴾ أي لمن اطمأنَّ بها ولم يجعلْها ذريعةً إلى الآخرةِ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ الدُّنيا متاعُ الغرورِ إنْ ألهتكَ عن طلب الآخرةِ فأمَّا إذَا دعتكَ إلى طلبِ رضوانِ الله تعالَى فنعمَ المتاعُ ونعمَ الوسيلةُ
211
﴿سَابِقُواْ﴾ أي سارِعُوا مسارعةَ المسابقينَ لأقرانِهم في المضمار ﴿إلى مَغْفِرَةٍ﴾ عظيمةٍ كائنةٍ ﴿مّن رَّبّكُمْ﴾ أي إلى موجباتِها من الأعمال الصَّالحةِ ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض﴾ أي كعرضِهما جميعاً وإذا كانَ عرضُها كذلكَ فماظنك بطولِها وقيلَ المرادُ بالعرضِ البسطةُ وتقديمُ المغفرةِ على الجنة لتقدم التخليةِ على التحليةِ ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ﴾ فيه دليلٌ على أنَّ الجنةَ مخلوقةٌ بالفعلِ وأنَّ الإيمانَ وحدَهُ كافٍ في استحقاقها ﴿ذلك﴾ الذي وعدَ من المغفرةِ والجنةِ ﴿فَضَّلَ الله﴾ عطاؤُه ﴿يُؤْتِيهُ﴾ تفضلاً وإحساناً ﴿مَن يَشَآء﴾ إيتاءَهُ إيَّاهُ من غيرِ إيجابِ ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ ولذلكَ يُؤتى مَن يشاءُ مثلَ ذلكَ الفضلِ الذي لا غايةَ وراءَه
﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض﴾ كجدب ووعاهة في الزروع والثمارِ ﴿وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ﴾ كمرضٍ وآفةٍ ﴿إِلاَّ فِى كتاب﴾ أى إلا متكوبة مثبتةً في علمِ الله تعالى أو في اللَّوحِ ﴿مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ أي نخلقَ الأنفسَ أو المصائبَ أو الأرضَ ﴿إِنَّ ذلك﴾ أي إثباتَها في كتابٍ ﴿عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ لاستغنائِه فيهِ عن العُدَّةِ والمدة
﴿لكي لا تَأْسَوْاْ﴾ أي أخبرناكُم بذلكَ لئلاَّ تحزنُوا ﴿على مَا فَاتَكُمْ﴾ من نعمِ الدُّنيا ﴿ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ أي أعطاكُم الله تعالَى منها فإنَّ من علمَ أنَّ الكلَّ مقدرٌ يفوتُ ما قُدِّرَ فواتُه ويأتي ما قُدِّرَ إتيانُه لا محالةَ لا يعظُم جزعُه على ما فاتَ ولا فرحُه بما هُو آتٍ وقُرِىءَ بما أَتاكُم من الإتيانِ وفي القراءةِ الأُولى إشعارٌ بأنَّ فواتَ النعمِ يلحقُها إذا خُلِّيتْ وطباعَها وأمَّا حصولُها وبقاؤُها فلا بُدَّ لهما من سببٍ يُوجدها ويُبقيها وقُرِىءَ بما أُوتيتُم والمرادُ بهِ نفيُ الأَسَى المانعِ عن التسليم لأمر الله تعالى والفرحِ الموجب للبطر ولاختيال ولذلكَ عقبَ بقولِه تعالى ﴿والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ فإنَّ من فرحَ بالحظوظ الدنيويةِ وعظُمتْ في نفسه اختالَ وافتخَر بها لا محالةَ وفي تخصيص التذييلِ بالنَّهي عن الفرح المذكورِ إيذانٌ بأنَّه أقبحُ من الأَسَى
211
} ٦ ٢٤
212
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل﴾ بدلٌ من كلِّ مختالٍ فإنَّ المختالَ بالمالِ يضنُّ به غالباً ويأمرُ غيرَهُ به أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى ﴿وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد﴾ فإنَّ معناهُ ومَنْ يُعرضُ عن الإنفاقِ فإنَّ الله عني عنْهُ وعنْ إنفاقه محمودٌ في ذاتِه لا يضرُّه الإعراضُ عن شكرهِ بالتقربِ إليهِ بشيءٍ من نعمهِ وفيه تهديدٌ وإشعارٌ بأنَّ الأمر بالإنفاق لمصلحة المُنفقِ وقُرِىءَ فإنَّ الله الغنيُّ
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ أي الملائكةَ إلى الأنبياءِ أو الأنبياءَ إلى الأممِ وهُو الأظهرُ ﴿بالبينات﴾ أي الحججِ والمعجزاتِ ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب﴾ أي جنسَ الكتابِ الشاملِ للكُلِّ ﴿والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط﴾ أي بالعدلِ رُوي أنَّ جبريلَ عليه اللسلام نزل الميزان فدفعَهُ إلى نوحٍ عليهِ السَّلامُ وقالَ مُرْ قومَكَ يزنُوا بهِ وقيلَ أُريدَ به العدلُ ليقامَ بهِ السياسةُ ويدفعَ به العُدوانُ ﴿وَأَنزْلْنَا الحديد﴾ قيلَ نزلَ آدم عليه السلام من الجنَّةِ ومعَهُ خمسةُ أشياءَ منْ حديدٍ السندانُ والكلبتانِ والميقعةُ والمطرقةُ والإبرةُ ورُويَ ومعَهُ المرُّ والمِسحاتُ وعنِ الحسنِ وأنزلنَا الحديدَ خلقنَاهُ كقولِه تعالَى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ وذلكَ أنَّ أوامرَهُ تعالَى وقضايَاهُ وأحكامَهُ تنزل من السماءِ وقولُه تعالى ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ لأن آلات الحرب إنَّما تتخذُ منْهُ ﴿ومنافع لِلنَّاسِ﴾ إذْ مَا من صنعةٍ إلاَّ والحديدُ أو ما يُعملُ بالحديدِ آلتُها والجملةُ حالٌ من الحديدِ وقولُه تعالَى ﴿وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ﴾ عطفٌ على محذوفٌ يدلُّ عليه ما قبلَهُ فإنَّه حالٌ متضمنةٌ للتعليلِ كأنَّه قيلَ ليستعملُوه وليعلمَ الله علماً يتعلقُ به الجزاءُ من ينصره ورسوله باستعمالِ السيوفِ والرماحِ وسائِر الأسلحةِ في مجاهدةِ أعدائِه أومتعلق بمحذوفٍ مؤخرٍ والواوُ اعتراضيةٌ أي وليعلمَ الله مَنْ ينصرُه ورسلَهُ أنزلَه وقيلَ عطف على قوله تعالى ليقومَ النَّاسُ بالقسطِ وقولُه تعالى ﴿بالغيب﴾ حالٌ من فاعلِ ينصرُ أو مفعولِه أي غائباً عنْهم أو غائبينَ عنه وقولُه تعالى ﴿إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ﴾ اعتراضٌ تذييليٌّ جىءَ به تحقيقاً للحقِّ وتنبيهاً على أنَّ تكليفَهُم الجهادَ وتعريضَهُم للقتالِ ليسَ لحاجتِه في إعلاءِ كلمتِه وإظهارِ دينِه إلى نصرتِهم بلْ إنَّما هُو لينتفعُوا بهِ ويصلُوا بامتثال الأمر فيه إلى الثوابِ وإلاَّ فهُو غنيٌّ بقردته وعزتِه عنهُم في كلِّ ما يُريده
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم﴾ نوعُ تفصيلٍ لَما أُجمل في قولِه
212
} ٧
تعالَى لقد أرسلنَا رسلنَا إلخ وتكريرُ القسمِ لإظهار مزيدِ الاعتناءِ بالأمر أيْ وبالله لَقْد أرسلناهُمَا ﴿وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب﴾ بأن استنبأناهُم وأوحينَا إليهم الكتبَ وقيلَ المرادُ بالكتابِ الخطُّ بالقلمِ ﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي من الذرية أو من المرسل إليهم المدلولِ عليهم بذكر الإرسالِ والمرسلينَ ﴿مُّهْتَدٍ﴾ إلى الحقِّ ﴿وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون﴾ خارجونَ عن الطريق المستقيمِ والعدولُ عن سنن المقابلةِ للمبالغةِ في الذمِّ والإيذانِ بغلبةِ الضُّلالِ وكثرتِهم
213
﴿ثم قفينا على آثارهم بِرُسُلِنَا﴾ أي ثُمَّ أرسلنَا بعدَهُم رسلنَا ﴿وَقَفَّيْنَا بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ أي أرسلنَا رسولاً بعد رسولٍ حتَّى انتهى إلى عيسَى ابنِ مريمَ عليه السَّلامُ والضميرُ لنوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ أُرسِلا إليهم أو من عاصرهم من الرُّسلِ لا للذريةِ فإنَّ الرسلَ المُقفَّى بهم من الذرية ﴿وآتيناه الإنجيل﴾ وقرئ بفتحِ الهمزةِ فإنَّه أعجميٌّ لا يلزم فه مراعاةُ أبنيةِ العربِ ﴿وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رأفة﴾ وقرئ رآفةً على فَعَالةٍ ﴿وَرَحْمَةً﴾ أي وفَّقناهُم للتراحمِ والتعاطفِ بينهُم ونحوه في شأن أصحابِ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ منصوب أما يعفل مضمر يفسره والظاهر أيْ وابتدعُوا رهبانيةً ﴿ابتدعوها﴾ وإمَّا بالعطفِ على ما قبلهَا وابتدعُوها صفةٌ لها أى وجلعنا في قلوبهم رأفة روحمة ورهبانيةً مبتدعة من عندهم أى ووفقناهم للتراحم بينهُم ولابتداعِ الرهبانيةِ واستحداثها وهي المبالغةُ في العبادةِ بالرياضةِ والانقطاع عن النَّاسِ ومعناهَا الفعلةُ المنسوبةُ إلى الرَّهبانِ وهو الخائفُ فَعْلانُ من رَهبَ كخشيانَ من خَشِي وقُرِىءَ بضمِّ الراءِ كأنَّها نسبةٌ إلى الرُّهبانِ وهو جمعُ راهبٍ كراكبٍ ورُكبان وسببُ ابتداعِهم إيَّاها أنَّ الجبابرةَ ظهروُا على المؤمنينَ بعدَ رفعِ عيسَى عليهِ السَّلامُ فقاتلُوهم ثلاث مرات فقاتلوا حتَّى لم يبقَ منُهم إلا قليلٌ فخافُوا أنْ يُفتتنُوا في دينِهم فاختارُوا الرَّهبانيةَ في قُللِ الجبالِ فارِّينَ بدينِهم مُخلصينَ أنفسَهُم للعبادةِ وقولُه تعالَى ﴿مَا كتبناها عَلَيْهِمْ﴾ جملةٌ مستأنفةٌ وقيلَ صفةٌ أُخْرى لرهبانيةٍ والنفيُ على الوجهِ الأولِ متوجِةً إلى أصلِ الفعلِ وقوله تعالى ﴿إلا ابتغاء رضوان الله﴾ استثناءٌ منقطعٌ أي مافرضناها نحنُ عليهم رأساً ولكنُهم رأسا ابتدعُوها ابتغاءَ رضوانِ الله فذمَّهم حينئذٍ بقولِه تعالى ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ من حيثُ أنَّ النذرَ عهدٌ مع الله لا يحلُّ نكثُه لا سيَّما إذَا قُصدَ به رضاهُ تعالَى وعلى الوجهِ الثانِي متوجهٌ إلى قيدِه لا إلى نفسه ولاسثتناء متصلٌ من أعمِّ العللِ أي ما كتبنَاها عليهم بأن وفقناهم لا بتداعها لشيءٍ من الأشياءِ إلا ليبتغُوا بها رضوانَ الله ويستحقُّوا بها الثوابَ ومن ضرورةِ ذلكَ أن يحافظُوا عليَها ويراعُوها حقَّ رعايتها فما رَعَاها كلُّهم بلْ بعضهم ﴿فآتينا الذين آمنوا مِنْهُمْ﴾ إيماناً صحيحاً وهو الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم بعدَ رعايةِ رهبانيتِهم لا مجردَ رعايتِها فإنَّها بعدَ البعثةِ لغوٌ مَحضٌ
213
} ٩ ٢٨
وكفرٌ بَحْتٌ وأنَّى لها استتباعُ الأجرِ ﴿أَجْرَهُمْ﴾ أي ما يخُصُّ بهم من الأجرِ ﴿وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون﴾ خارجونَ عن حدِّ الاتباعِ وحملُ الفريقينِ على منِ مضَى من المراعينَ لحقوقِ الرهبانية قبل النسخ والمخلين إذْ ذاكَ بالتثليثِ والقولِ بالاتحادِ وقصدِ السمعةِ من غيرِ تعرضٍ لإيمانِهم برسولِ الله ﷺ وكفرِهم به ممَّا لا يُساعدُه المقامُ
214
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ أي بالرسلِ المتقدمةِ ﴿اتقوا الله﴾ فيما نهاكُم عنْهُ ﴿وآمنوا بِرَسُولِهِ﴾ أي بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ وفي إطلاقهِ إيذانٌ بأنَّه عَلَمٌ فَردٌ في الرسالةِ لا يذهبُ الوهمُ إلى غيرِه ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ نصيبينِ ﴿مّن رَّحْمَتِهِ﴾ لإيمانِكم بالرسولِ وبمَنْ قبلَهُ من الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لكنْ لا على مَعْنى أنَّ شريعتَهُم باقيةٌ بعد البعثةِ بلْ على أنَّها كانتْ حقَّة قبلَ النسخِ ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ يومَ القيامةِ حسبما نطق به قوله تعالى يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ما أسلفتُم من الكُفر والمَعَاصِي ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالِغٌ في المغفرةِ والرحمةِ وقولُه تعالَى
﴿لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ متعلقٌ بمضمونِ الجملةِ الطلبيةِ المتضمنةِ لمَعْنى الشرطِ إذِ التقديرُ إنْ تتقُوا الله وتُؤمنوا برسوله يُؤتكم كَذَا وكَذَا لئلاَّ يعلمَ الذينَ لم يُسلموا مّنْ أَهْلِ الكتابِ أي ليعلمُوا ولا مزيدةٌ كما ينبىءُ عنه قراءةُ ليلعم ولكي يعلمَ ولأن يعلمَ بإدغامِ النونِ في الياءِ وأنْ في قولِه تعالَى ﴿إِلاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مِن فَضْلِ الله﴾ مخففةٌ من الثقيلة واسمُها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والجملةُ في حيز النصبِ على أنَّها مفعولُ يعلمَ أيْ ليعلمُوا أنَّه لا ينالونَ شيئاً مما ذُكِرَ من فضله من الكفلين والنورِ والمغفرةِ ولا يتمكنون من نيله حيثُ لم يأتُوا بشرطه الذي هُو الإيمانُ برسوله وقولُه تعالَى ﴿وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله﴾ عطفٌ على أنْ لا يقدرونَ وقولُه تعالَى ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء﴾ خبرٌ ثانٍ لأَنَّ وقيلَ هُو الخبرُ والجارُّ حالٌ لازمةٌ وقولُه تعالى ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ اعتراض تذييلى لمضمون ما قبلَهُ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الأمرُ بالتقوى والإيمانِ لغير أهلِ الكتابِ فالمَعْنى اتقُوا الله واثبتُوا على إيمانكم برسول الله ﷺ يُؤتكُم ما وعدَ مَنْ آمنَ مِنْ أهلِ الكتابِ من الكفلينِ في قولِه تعالَى أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ولا ينقصكُم من مثلِ أجرِهم لأنَّكُم مثلُهم في الإيمانينِ لا تفرقون بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ ورُويَ أنَّ مُؤمني أهلِ الكتابِ افتخرُوا على سائرِ المؤمنينَ بأنَّهم يُؤتون أجرَهُم مرتين وادَّعوا الفضل عليهم فنزلت وقرىء لِيَلاَ بقلب الهمزة ياء لا نفتاحها بعد كسرةٍ وقُرِىءَ بسكونِ الياءِ وفتحِ اللامِ كاسمِ المرأةِ وبكسرِ اللامِ مع سكونِ الياءِ وقُرِىءَ أنْ لا يقدرُوا هَذا وقد قيل لاَ غيرُ مزيدةٍ وضميرُ لا يقدرونَ للنبيِّ عليه
214
المجادلة ﴿
الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابِه والمَعْنى لئلا يعتقدَ أهلُ الكتابِ أنَّه لا يقدرُ النبيُّ عليه الصلاةَ والسَّلامُ والمؤمنونَ به على شيءٍ مِن فَضْلِ الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُوتُوه من سعادةِ الدارينِ على أنَّ عدمَ علمِهم بعدمِ قُدرتِهم على ذلكَ كنايةٌ عن علمهِم بقدرتِهم عليه فيكونُ قولُه تعالَى وَأَنَّ الفضلَ بيدِ الله إلخ عطفاً على أنْ لا يعلمَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الحديدِ كُتبَ من الذينَ آمنُوا بالله ورسلِه {بسم الله الرحمن الرحيم﴾
215
Icon