تفسير سورة الجن

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الجن من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الجن مكية وهي عشرون وثمان آيات.

سورة الجن
وهي ثمان وعشرون آية مكية
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)
قوله تعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ يعني: قل يا محمد أوحى الله إلي، وأخبرني الله تعالى في القرآن. أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وهم تسعة من أهل نصيبين، من أهل اليمن، من أشرافهم. والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين السماء أي: بين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فقالوا: ما هذا إلا لشيء حدث فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء. فوجدوا النفر الذين خرجوا نحو تهامة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بنخلة، وهو يصلي مع أصحابه صلاة الفجر، فاستمعوا منه، فقالوا: هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، فأنزل الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ يعني: طائفة وجماعة من الجن، فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا يعني: قالوا بعد ما رجعوا إلى قومهم. إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يعني: عزيزاً شريفاً كريماً، ويقال: عزيزاً لا يوجد مثله.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ يعني: يدعو إلى الهدى، وهو الإسلام. ويقال: إلى الصواب، والتوحيد، والأمر والنهي. ويقال: يدل على الحق. فَآمَنَّا بِهِ يعني: صدقنا بالقرآن. ويقال: آمنا بالله تعالى. وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً يعني: إبليس، يعني: لن نشرك بعبادته أحداً من خلقه.
ثم قال عز وجل: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي: ارتفع عظمة ربنا ويقال: ارتفع ذكره، ويقال: ارتفع ملكه وسلطانه. مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً يعني: لم يتخذ زوجة ولا ولداً،
كما زعم الكفار. واتفق القراء في قوله: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ على نصب الألف، لأن معناه قل:
أوحي إلي بأنه استمع. واتفقوا في قوله: إِنَّا سَمِعْنا على الكسر، لأنه على معنى الابتداء.
واختلفوا فيما سوى ذلك. قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر كلها بالنصب بناء على قوله:
أَنَّهُ اسْتَمَعَ، إلا في حرفين أحدهما فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ بالكسر، والأخرى قوله: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بالكسر على معنى الابتداء. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير كلها بالكسر، إلا في أربعة أحرف: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا، وَأَنَّ الْمَساجِدَ، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ. قرأ عاصم في رواية أبي بكر، ونافع في إحدى الروايتين هكذا، إلا في قوله وأنه لما قام عبد الله وإنما اختاروا الكسر لهذه الأحرف، بناء على قوله: إِنَّا سَمِعْنا وقال أبو عبيد: ما كان من قول الجن، فهو كسر، ومعناه وقالوا: إنه تعالى وقالوا: أَنَّهُ كانَ يَقُولُ وما كان محمولاً على قوله أوحى فهو نصب على معنى أوحي إلي أنه ثم قال: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً يعني: جاهلنا يعني: إبليس- لعنه الله- ويقال: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعني: كفرة الجن. عَلَى اللَّهِ شَطَطاً يعني: كذباً وجوراً من المقال.
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٥ الى ١٧]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)
وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧)
ثم قال عز وجل: وَأَنَّا ظَنَنَّا يعني: حسبنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني: نتوهم أن أحداً لا يكذب على الله، وإلى هاهنا حكاية كلام الجن.
504
يقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يعني: في الجاهلية يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ، وذلك أن الرجل إذا نزل في فضاء من الأرض، كان يقول أعوذ بسيد هذا الوادي، فيكون في أمانهم تلك الليلة. فَزادُوهُمْ رَهَقاً يعني: زادوا للجن عظمة وتكبروا، ويقولن:
بلغ من سُؤُدُدنا أن الجن والإنس يطلبون منا الأمان، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ يعني: كفار الجن حسبوا كما حسبتم يا أهل مكة، أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً يعني: بعد الموت، يعني:
إنهم كانوا غير مؤمنين، كما أنكم لا تؤمنون. ويقال: إنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً يعني: رسولاً. فقد أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلم.
ثم رجع إلى كلام الجن، فقال: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ يعني: صعدنا وأتينا السماء لاستراق السمع. فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً يعني: حفاظاً أقوياء من الملائكة.
وَشُهُباً يعني: رُمينا نجماً متوقداً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ يعني: كنا نقعد فيما مضى للاستماع من الملائكة، ما يقولون فيما بينهم من الكوائن. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً يعني: نجماً مضيئاً. والرصد: الذي أرصد للرجم يعني: النجم. وروى عبد الرزاق، عن معمر قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أفرأيت قوله: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قال: غلظ وشدد أمرها حين بُعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قال الجن بعضهم لبعض: وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ؟ يعني:
يبعثه فلم يؤمنوا فيهلكوا أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً؟ يعني: خيراً وصواباً، فيؤمنوا ويهتدوا.
ويقال: لا ندري أخيراً أريد بأهل الأرض أو الشرحين حرست السماء، ورُمينا بالنجوم، وَمُنعنا السمع؟ ويقال: أريد عذاباً بمن في الأرض، بإرسال الرسول بالتكذيب له، أو أراد بهم ربهم خيراً ببيان الرسول لهم هدى وبياناً.
ثم قال عز وجل: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ يعني: الموحدين والمسلمين. وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ يعني: ليسوا بموحدين. كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً يعني: فينا أهواء مختلفة وملل شتى. وقال القتبي: يعني: فرقاً مختلفة، وكل فرقة قدة مثل القطعة في التقدير، والطرائق: جمع الطريق.
قوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا يعني: علمنا وأيقنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ يعني: لا يفوت أحد من الله تعالى. وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً، لا يقدر الهرب منه.
قال الله عزّ وجلّ: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى يعني: القرآن يقرؤه محمد صلّى الله عليه وسلم، آمَنَّا بِهِ يعني: صدقنا بالقرآن ويقال: بالنبي صلّى الله عليه وسلم ويقال: صدقنا بالله تعالى فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ قال بعضهم هذا من كلام الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم فمن يصدق بوحدانية الله تعالى، فَلا يَخافُ بَخْساً يعني: نقصاناً من ثواب عمله، وَلا رَهَقاً يعني: ذهاب عمله. وهذا كقوله تعالى فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً. [طه: ١١٢] ويقال: هذا كلام الجن بعضهم لبعض، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً. والرهق: الظلم أن يجعل ثواب عمله لغيره. والبخس النقصان من ثواب عمله.
505
قوله تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ يعني: المصدقين بوحدانية الله تعالى، وَمِنَّا الْقاسِطُونَ يعني: العادلين عن طريق الهدى ويقال: الْقاسِطُونَ يعني: الجائرين. يقال:
قسط الرجل، إذا جار. وأقسط، إذا عدل. كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ثم قال:
فَمَنْ أَسْلَمَ يعني: أقر بوحدانية الله تعالى وأخلص بالتوحيد له، فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً يعني: نوراً وتمنوا وقصدوا ثواباً.
ثم قال عز وجل: أَمَّا الْقاسِطُونَ
يعني: العادلين عن الطريق، الجائزين، كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
يعني: وقوداً- قال الله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. قال مقاتل: لو استقاموا على طريقة الهدى، يعني: أهل مكة، لَأَسْقَيْناهُمْ مَّاء غَدَقاً يعني: كثيراً من السماء، كقوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ٩٦] ثم قال عز وجل: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يعني: لنبتليهم به، كقوله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: ٣٣] الآية. وقال قتادة: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، يعني:
آمنوا لوسّع الله عليهم الرزق وقال القتبي: هذا مثل ضربه الله تعالى للزيادة في أموالهم ومواشيهم، كقوله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ ثم قال: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يعني:
توحيد ربه ويقال: يكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلم والقرآن، يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً يعني: يكلفه الصعود على جبل أملس. وقال مقاتل: عَذاباً صَعَداً أي: شدة العذاب. وقال القتبي: يعني: شاقاً وقال قتادة: صعوداً من عذاب الله تعالى، لا راحة فيه.
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١٨ الى ٢٨]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
506
ثم قال عز وجل: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ. قال الحسن: يعني: الصلاة لله تعالى وقال قتادة: كانت اليهود والنصارى يدخلون كنائسهم، ويشركون بالله تعالى. فأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يخلص الدعوة له إذا دخل المسجد. وقال القتبي: قوله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ يعني:
السجود لله. ويقال: هي المساجد بعينها يعني: بنيت المساجد، ليعبدوا الله تعالى فيها. فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً يعني: لا تعبدوا أحداً غير الله تعالى. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم يَسْلُكْهُ بالياء، والباقون بالنون، وكلاهما يرجع إلى معنى واحد. يقال: سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته، إذا أدخلته.
قوله عز وجل: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلم لما قام إلى الصلاة ببطن نخلة. يَدْعُوهُ يعني: يصلي لله تعالى، ويقرأ كتابه. كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعني:
يركب بعضهم بعضاً، ويقع بعضهم على بعض. ثم قال عز وجل: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي. قرأ حمزة، وعاصم: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي على معنى الأمر، يعني: قل يا محمد إنما أدعوا ربي، يعني: أعبده. وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قرأ الباقون على معنى الخبر عنهم. قرأ ابن عامر في رواية هشام عَلَيْهِ لِبَداً بضم اللام، والباقون بكسرها ومعناهما واحد. وقال القتبي:
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي: يتلبدون به رغبة في استماع القرآن. يقال: لبدت به، أي: لصقت به، ومعناه: كادوا أن يلصقوا به.
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً يعني: لا أقدر لكم خذلاناً ولا هداية. قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ يعني: لن يمنعني من عذاب الله أحد إن عصيته، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً يعني: ملجأ ولا مفراً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ يعني: فذلك الذي يجيرني من عذاب الله ويقال في الآية تقديم، ومعناه قل: لا أملك لكم ضرا إلا أن أبلغكم رسالات ربي، يعني: ليس بيدي شيء من الضر والنفع والهداية، إلا بتبليغ الرسالة.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في التوحيد، ولم يؤمن به، فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي: مقيمين في النار أبداً، يعني: دائماً. وقد تم الكلام. ثم قال عز وجل: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من العذاب يعني: لما رأوا العذاب، ويقال: معناه أمهلهم حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا وفي الآخرة، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً يعني: مانعاً من العذاب.
وَأَقَلُّ عَدَداً يعني: رجالاً.
فقالوا: متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد؟ فنزل: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ يعني: ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب، أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً؟ يعني: أجلاً ينتهي إليه.
507
قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ يعني: هو عالم الغيب، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً يعني:
هو الذي يعلم وقت نزول العذاب، ولا يطلع على غيبه أحداً من خلقه. قوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني: إلا من اختار لرسالته، فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، ليكون دلالة لنبوته. فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً يعني: من الملائكة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن خلفه، ليحفظوه من الشياطين لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ يعني:
ليعلموا الرسول أن الذي أنزل إليه من رسالات الله وذلك أن الملائكة لو لم يرصدوهم، لما يستمعوا حين يقرأ جبريل، ثم يفشون ذلك قبل أن يخبرهم الرسول، فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق، ولا يكون للأنبياء دلالة، ثم لا يقبل قولهم.
وروى أسباط، عن السدي في قوله: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً إذا بعث إليه تعالى نبياً، جعل معه حفظة من الملائكة. فإذا جاء الوحي من الله تعالى، قالت الملائكة: هذا من الله. فإذا جاءه الشيطان، قالت الحفظة: هذا من الشيطان.
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ يعني: ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا الرسالة لأنهم تمازحوا من استراق السمع. وقال سعيد بن جبير: لم يجيء جبريل قط بالقرآن، إلا ومعه أربعة من الحفظة. ثم قال عز وجل: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ يعني: الله تعالى عالم بما عند الأنبياء ويقال: عالم بهم. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً يعني: عدد الملائكة، وعلم نزول العذاب ووقته وغير ذلك والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
508
Icon