تفسير سورة الغاشية

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ هَلْ أَتَاكَ ﴾ أشار المفسر إلى أن ﴿ هَلْ ﴾ بمعنى قد، وقوله: ﴿ أَتَاكَ ﴾ أي في هذه السورة، فالماضي إخبار عما وقع له في الحال، ويصح أن يراد بالاستفهام، والتعجب والتشويق إلى استماع حديثها المذكور بقوله: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ﴾ الخ، قوله: ﴿ ٱلْغَاشِيَةِ ﴾ من الغشاء وهو الغطاء، ومنه الغشاوة وهي شيء يغطي العين. قوله: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ﴾ الخ، استئناف واقع في جواب سؤال مقدر تقديره وما حديث الغاشية، و ﴿ وُجُوهٌ ﴾ مبتدأ سوغ الابتداء به وقوعه في معرض التفصيل، و ﴿ خَاشِعَةٌ ﴾ خبره.
﴿ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾ خبران آخران. قوله: ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم إذ غشيت، فالتنوين عوض عن جملة. إن قلت: إنه لم يتقدمها جملة يصح أن يكون التنوين عوضاً عنها. أجيب: بأن تقدمها لفظ الغاشية، وهو في معنى الجملة، لأن أل موصولة باسم الفاعل، فكأنه قال التي غشيت، فالتنوين عوض عن هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها. قوله: (عبر بها عن الذوات) أي فهو مجاز مرسل من التعبير عن الكل بالجزء، خص الوجه لأنه أشرف الأعضاء، ولأنه يظهر عليه ذلك أولاً. قوله: (بالسلاسل والأغلال) أي بسبب جر السلاسل وحمل الأغلال، وكذلك يخوضون في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلال النار، قال تعالى:﴿ إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾[غافر: ٧١-٧٢] وهذا جزاء لما ارتكبوه من إراحة أبدانهم في اللذات والشهوات قال سعيد بن جبير: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى، فأعملها الله تعالى وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثقال وحمل الأغلال والوقوف حفاة عراة في العرصات، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. قوله: (بضم التاء وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان، والضمير للوجوه على كل. قوله: ﴿ نَاراً حَامِيَةً ﴾ أي لأنه أوقد عليها مدة طويلة، ففي الحديث:" أحمى عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة ". قوله: ﴿ آنِيَةٍ ﴾ أي بلغت أناها في الحرارة، والمعنى انتهى حرها. قوله: ﴿ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ﴾ قال أبو الدرداء والحسن: إن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع، حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع، وهو ذو غصة فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية، لا هنيئة ولا مريئة، فإذا أدنوه من وجوههم، سلخ جلود وجوههم وشواها، فإذا وصل بطونهم قطعها، فذلك قوله تعالى﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ ﴾[الكهف: ٢٩] وقوله تعالى:﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾[محمد: ١٥].
إن قلت: كيف حصر الطعام هنا في الضريع، مع أنه في الحاقة قال:﴿ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾[الحاقة: ٣٦]؟ أجيب أن العذاب ألوان، والمعذبون أنواع، فمنهم من يكون طعامه الزقوم، ومنهم من يكون طعامه الضريع، ومنهم ما يكون الغسلين، وهكذا. قوله: ﴿ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴾ كل منهما صفة لضريع، والمعنى: لا يحصل السمن لآكله، ولا يدفع عنه جوعاً.
قوله: (حسنة) أي ذات بهجة وحسن، وقيل: متنعمة، والجمع حاصل فهي حسية ومتنعمة. قوله: ﴿ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴾ اللام بمعنى الباء، متعلقة براضية الواقعة خبراً ثانياً عن الوجوه، والمعنى: أنهم راضون بأعمالهم لما رأوا من الجزاء عليه. قوله: (حساً) أي لأن الجنة درجات على عدد آي القرآن، بعضها أعلى من بعض، فبين الدرجتين مثل ما بين السماء والأرض، وقوله: (ومعنى) أي وهو الشرف والرفعة. قوله: (بالياء والتاء) أي ولكن الفعل على الياء مبني للمفعول لا غير، وعلى التاء فهو مبني للفاعل والمفعول، فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله: ﴿ لاَغِيَةً ﴾ صفة للجماعة، أي جماعة لاغية، ويصح أن يكون مصدراً كالعاقبة والعافية كقوله:﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ﴾[الواقعة: ٢٥].
قوله: ﴿ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴾ أي على وجه الأرض من غير أخدود، لا ينقطع جريها أبداً، والمراد بالعين الجنس الصادق بالأنهار المتقدم ذكرها في سورة محمد عليه السلام. قوله: ﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴾ قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، مرتفعة في السماء ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها، تواضعت حتى يجلس عليها ثم ترتفع إلى مواضعها. قوله: ﴿ وَأَكْوَابٌ ﴾ جمع كوب. قوله: (لا عرى لها) أي ولا خرطوم. قوله: (معدة لشربهم) أي فكلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة بالشراب، ويصح أن المراد موضوعة بين أيديهم يلتذذون بالنظر إليها، ويصح أن المراد موضوعة عن حد الكبر فهي متوسطة، وحينئذ فيكون نظير قوله تعالى:﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾[الإنسان: ١٦].
قوله: ﴿ وَنَمَارِقُ ﴾ جمع نمرقة بضم النون والراء وكسرهما لغتان. قوله: (وسائد) جمع وسادة وهي المعروفة بالمخدة. قوله: ﴿ مَصْفُوفَةٌ ﴾ أي فوق الطنافس. قوله: ﴿ وَزَرَابِيُّ ﴾ جمع زريبة بتثليث الزاي. قوله: (طنافس) جمع طنفسة بتثليث الفاء والطاء، ففيه تسع لغات صفة لبسط، وتسمى أيضاً السجادة، فلها ثلاثة أسماء: سجادة وطنفسة وزريبة.
قوله: ﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ استئناف مقرر لما مضى من حديث الغاشية، والهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه، والتقدير: أعموا فلا ينظرون، وهو استفهام إنكاري توبيخي، وخصت الإبل لكثرة منافعها، كأكل لحمها وشرب لبنها والحمل عليها وركوبها والتنقل عليها إلى البلاد البعيدة، وعيشها بأي نبات أكلته، كالشجر والشوك، وصبرها على العطش عشرة أيام فأكثر، وطواعيتها لكل من قادها ولو صغيراً، ونهوضها وهي باركة بالأحمال الثقيلة، ولا تؤذي من وطئته برجلها، وتتأثر بالصوت الحسن مع غلظ أكبادها، ولا شيء من الحيوانات جمع هذه الأشياء غيرها، ولكونها أفضل ما عند العرب، جعلوها دية القتل، والإبل اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما له واحد من معناه، كبعير وناقة وجمل. قوله: ﴿ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ ﴿ كَيْفَ ﴾ منصوب بـ ﴿ خُلِقَتْ ﴾ على الحال، والجملة بدل اشتمال من الإبل، فهي في محل جر. قوله: ﴿ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴾ أي فوق الأرض من غير عمد. قوله: ﴿ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴾ أي على وجه الأرض، نصباً راسخاً لا يتزلزل. قوله: (فيستدلون بها) إلخ، الحكمة في تخصيص هذه الأشياء بالذكر، أن القرآن نزل على العرب، وكانوا يسافرون كثيراً في الأودية والبراري منفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكر، فأول ما يقع بصره على البعير الذي هو راكبه، فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء، وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى تحت لم ير غير الأرض، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد، ولا يحمله الكبر على ترك النظر. قوله: (وصدرت) أي هذه الأربعة. قوله: (وإن لم ينقض) أي ما قاله أهل الهيئة من قواعدهم التي ذكروها، وقوله: (ركناً) أي قاعدة من قواعد الشرع، فلا يضر في العقيدة، لأن علماء الهيئة قالوا: إن الأرض كرة بطبعها وحقيقتها، كالبيضة في السماوات السبع، محيطة بالأرض من كل جانب، والعرش محيط بالجميع، ولكن الله تعالى أخرج الأرض عن طبعها بفضله وكرمه، بتسطيح بعضها لإقامة الحيوانات عليها رحمة بهم.
قوله: ﴿ فَذَكِّرْ ﴾ مفرع على ما تقدم من ذكر دلائل التوحيد. قوله: ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴾ تعليل للأمر بالتذكير. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أي بمسلط) هذا تفسير للقراءتين. قوله: (وهذا قبل الأمر بالجهاد) أي فهو منسوخ بآية السيف. قوله: (لكن) ﴿ مَن تَوَلَّىٰ ﴾ الخ، أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، والاستدراك لدفع توهم أنهم متروكون في الآخرة كالدنيا، وذلك أنه أمر بعدم التعرض لهم في مبدأ الأمر، فربما يتوهم أنهم في الآخرة كذلك، أفاد أنه وإن أمهلهم في الدنيا، لا يفلتهم من العذاب في الآخرة. قوله: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴾ تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر. قوله: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ أي بمقتضى وعيدنا لا وجوباً علينا، وثم للتراخي في الرتبة لا في الزمان، فإن الترتيب الزماني بين ﴿ إِيَابَهُمْ ﴾ و ﴿ حِسَابَهُمْ ﴾ لا بين كون ﴿ إِيَابَهُمْ ﴾ إليه تعالى.
﴿ حِسَابَهُمْ ﴾ عليه تعالى، فإنهما أمران مستمران، وجمع الضمير في ﴿ إِيَابَهُمْ ﴾ و ﴿ حِسَابَهُمْ ﴾ باعتبار معنى من.
Icon