تفسير سورة الهمزة

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الهمزة
مكية وآيها تسع بلا خلاف في الامرين

سورة الهمزة
مكية وآيها تسع بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها أن الإنسان سوى من استثنى في خسر بيّن عز وجل فيها أحوال بعض الخاسرين فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ تقدم الكلام على إعراب مثل هذه الجملة والهمزة الكسر كالهزم واللمز الطعن كاللهز شاعا في الكسر من أعراض الناس والغض منهم واغتيابهم والطعن فيهم، وأصل ذلك كان استعارة لأنه لا يتصور الكسر والطعن الحقيقيان في الأجسام فصار حقيقة عرفية ذلك وبناء فعلة يدل على الاعتياد فلا يقال: ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود قال زيادة الأعجم:
إذا لقيتك عن شحط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الإخوان. وأخرج ابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد: الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في الأنساب. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية الهمز في الوجه واللمز في الخلف، وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن جريج الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان. وقيل غير ذلك وما تقدم أجمع.
وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» بسكون الميم فيهما
على البناء الشائع في معنى المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم ويهمز ويلمز ونزل ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في أبيّ بن خلف، وعلى ما أخرج عن السدي في أبيّ بن عمر والثقفي الشهير بالأخنس بن شريق فإنه كان مغتابا كثير الوقيعة وعلى ما قال ابن إسحاق في أمية بن خلف الجمحي وكان يهمز النبي صلّى الله عليه وسلم ويعيبه، وعلى ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في جميل بن عامر، وعلى ما قيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وغضه منه، وعلى قول في
460
العاص بن وائل ويجوز أن يكون نازلا في جميع من ذكر لكن استشكل نزولها في الأخنس بأنه على ما صححه ابن حجر في الإصابة أسلم وكان من المؤلفة قلوبهم فلا يتأتى الوعيد الآتي في حقه فإما أن لا يصح ذلك أو لا يصح إسلامه. وأيضا استشكلت قراءة الباقر رضي الله تعالى عنه بناء على ما سمعت في معناها وكون الآية نازلة في الوليد بن المغيرة ونحوه من عظماء قريش وبه اندفع ما في التأويلات من أنه كيف عيب الكافر بهذين الفعلين مع أن فيه حالا أقبح منهما وهو الكفر وأما ما أجاب به من أن الكفر غير قبيح لنفسه بخلافهما فلا يخفى ضعفه لأن فوت الاعتقاد الصحيح أقبح من كل شيء قبيح. وقوله تعالى الَّذِي جَمَعَ مالًا بدل كل بدل من كل، وقيل بدل بعض من كل وقال الجاربردي: يجوز أن يكون صفة له لأنه معرفة على ما ذكره الزمخشري في قوله تعالى وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: ٢١] إذ جعل جملة معها سائق حالا من كل نفس لذلك ولا يخفى ما فيه. ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا على الذم وتنكير مالًا للتفخيم والتكثير، وقد كان عند القائلين أنها نزلت في الأخنس أربعة آلاف دينار وقيل عشرة آلاف وجوز أن يكون للتحقير والتقليل باعتبار أنه عند الله تعالى أقل وأحقر شيء. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والأخوان «جمّع» بشد الميم للتكثير وهو أوفق بقوله تعالى وَعَدَّدَهُ أي عده مرة بعد أخرى حبا له وشغفا به. وقيل: جعله أصنافا وأنواعا كعقار ونقود حكاه في التأويلات. وقال غير واحد: أي جعله عدة ومدخرا لنوائب الدهر ومصائبه.
وقرأ الحسن والكلبي «وعدده» بالتخفيف فقيل معناه وعده فهو فعل ماض فكّ إدغامه على خلاف القياس كما في قوله:
مهلا أعاذل هل جربت من خلقي إني أجود لأقوام وإن ضننوا
وقيل: هو اسم بمعنى العدد المعروف معطوف على مالَهُ أي جمع ماله وضبط عدده وأحصاه وليس ذلك على ما في الكشف من باب: علفتها تبنا وماء باردا، لأن جمع العدد عبارة عن ضبطه وإحصائه فلا يحتاج إلى تكلف. وعلى الوجهين أيّد بالقراءة المذكورة المعنى الأول لقراءة الجمهور. وقيل هو اسم بمعنى الأتباع والأنصار يقال: فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم وهو معطوف على ماله أيضا أي جمع ماله وقومه الذين ينصرونه. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ جملة حالية أو استئنافية وأخلده وخلده بمعنى أي تركه خالدا أي ماكثا مكثا لا يتناهى أو مكثا طويلا جدا والكلام من باب الاستعارة التمثيلية، والمراد أن المال طول أمله ومناه الأماني البعيدة فهو يعمل من تشييد البنيان وغرس الأشجار وكري الأنهار ونحو ذلك عمل من يظن أن ماله أبقاه حيا، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتعبير بالماضي للمبالغة في المعنى المراد. وجوز أن يراد أنه حاسب ذلك حقيقة لفرط غروره واشتغاله بالجمع والتكاثر عما أمامه من قوارع الآخرة أو لزعمه أن الحياة والسلامة عن الأمراض والآفات تدور على مراعاة الأسباب الظاهرة، وأن المال هو المحور لكرتها والملك المطاع في مدينتها. وقيل: المراد أنه يحسب المال من المخلدات ولا نظر فيه إلى أن الخلود دنيوي أو أخروي ذكرا أو عينا إنما النظر في إثبات هذه الخاصة للمال والغرض منه التعريض بأن ثم مخلدا ينبغي للعاقل أن يكب عليه وهو السعي للآخرة وهو بعيد جدا ولذا لم يجعل بعض الأجلّة التعريض وجها مستقلا. وزعم عصام الدين أنه يحتمل أن يكون فاعل أخلد الحاسب ومفعوله المال، أي يظن أن يحفظ ماله أبدا ولا يعرف أنه معرض للحوادث أو للمفارقة بالموت كما قيل: بشر مال البخيل بحادث أو وارث وهو لعمري مما لا عصام له كَلَّا ردع له عن ذلك الحسبان الباطل أو عنه وعن جمع المال وحبه
461
المفرط على ما قيل، واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز وتعقب بأنه بعيد لفظا ومعنى وأنا لا أرى بأسا في كون ذلك ردعا له عن كل ما تضمنته الجمل السابقة من الصفات القبيحة. وقوله تعالى لَيُنْبَذَنَّ جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن بسبب أفعاله المذكورة فِي الْحُطَمَةِ أي في النار التي من شأنها أن تحطم كل من يلقى فيها، وبناء فعلة لتنزيل الفعل لكونه طبيعيا منزلة المعتاد. والحطم كسر الشيء كالهشم ثم استعمل لكل كسر متناه وأنشدوا:
إنا حطمنا بالقضيب مصعبا يوم كسرنا أنفه ليغضبا
ويقال: رجل حطمة أي أكول تشبيها له بالنار ولذا قيل في أكول كأنما في جوفه تنور وفسر الضحاك الحطمة هنا بالدرك الرابع من النار. وقال الكلبي: هي الطبقة السادسة من جهنم. وحكى القشيري عنه أنها الدرك الثاني. وقال الواحدي: هي باب من أبواب جهنم، وزعم أبو صالح أنها النار التي في قبورهم وليس بشيء. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ لتهويل أمرها ببيان أنها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه والحسن بخلاف عنه وابن محيصن وحميد وهارون عن أبي عمرو «لينبذان» بضمير الاثنين العائد على الهمزة وماله. وعن الحسن أيضا «لينبذن» بضم الذال وحذف ضمير الجمع فقيل هو راجع لكل همزة باعتبار أنه متعدد وقيل له ولعدده أي اتباعه وأنصاره بناء على ما سمعت في قراءته هناك. وعن أبي عمرو «لننبذنه» بنون العظمة وهاء النصب ونون التأكيد. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه «في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة» نارُ اللَّهِ خبر مبتدأ محذوف والجملة لبيان شأن المسئول عنها أي هي نار الله الْمُوقَدَةُ بأمر الله عز وجل وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشده تألما بأدنى أذى يمسه، أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة والملكات القبيحة ومنشأ الأعمال السيئة فهو أنسب بما تقدم من جميع أجزاء الجسد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال في الآية: تأكل كل شيء منه حتى تنتهي إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده ابتدأ خلقه، وجوز أن يراد الاطلاع العلمي والكلام على سبيل المجاز وذلك أنه لما كان لكل من المعذبين عذاب من النار على قدر ذنبه المتولد من صفات قلبه قيل إنها تطالع الأفئدة التي هي معادن الذنوب فتعلم ما فيها فتجازي كلّا بحسب ما فيه من الصفة المقتضية للعذاب. وأرباب الإشارة يقولون: إن ما ذكر إشارة إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد العذاب إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة وتمام الكلام مر في سورة البلد فِي عَمَدٍ جمع عمود كما قال الراغب والفرّاء. وقال أبو عبيدة: جمع عماد وفي البحر وهو اسم جمع الواحد عمود. وقرأ الأخوان وأبو بكر عمد بضمتين وهارون عن أبي عمرو بضم العين وسكون الميم وهو في القراءتين جمع عمود بلا خلاف. وقوله تعالى مُمَدَّدَةٍ صفة عمد في القراءات الثلاث أي طوال، والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المجرور في عَلَيْهِمْ أي كائنين في عمد ممددة أي موثقين فيها مثل المقاطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كائنون في عمد موثقون فيها وهي والعياذ بالله تعالى على ما روي عن ابن زيد عمد من حديد. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها من نار. واستظهر بعضهم أن العمد تمدد على
462
الأبواب بعد أن تؤصد عليهم تأكيدا ليأسهم واستيثاقا في استيثاق.
وفي حديث طويل أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعا: أن الله تعالى بعد أن يخرج من النار عصاة المؤمنين وأطولهم مكثا فيها من يمكث سبعة آلاف سنة يبعث عز وجل إلى أهل النار ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار وعمد من نار، فيطبق عليهم بتلك الأطباق ويشد بتلك المسامير وتمدد تلك العمد ولا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ولا يخرج منه غم، وينساهم الجبار عز وجل على عرشه ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ولا يستغيثون بعدها أبدا وينقطع الكلام فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا».
وفيه فذلك قوله تعالى إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار. وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بمؤصدة حالا من الضمير فيها كما قال صاحب الكشف وحكاه الطيبي. وفي الإرشاد عن أبي البقاء أنه صفة لمؤصدة. وقال بعض: لا مانع عليه أن يكون صلة مؤصدة على معنى الأبواب أوصدت بالعمد وسدت بها وأيد بما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية أدخلهم في عمد وتمددت عليهم في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب ثم إن ما ذكر لإشعاره بالخلود وأشدية العذاب يناسب كون المحدث عنهم كفارا همزوا ولمزوا خير البشر صلّى الله عليه وسلم وما تقدم من حمل العمد على المقاطر قيل يناسب العموم لأن المغتاب كأنه سارق من اعراض الناس فيناسب أن يعذب بالمقاطر كاللصوص فلا يلزم الخلود. وقد يقال: من تأمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب فإنه لما بولغ في الوصف في قوله تعالى هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قيل الْحُطَمَةُ للتعادل ولما أفاد ذلك كسر الأعراض قوبل بكسر الأضلاع المدلول عليه بالحطمة وجيء بالنبذ المنبئ عن الاستحقار في مقابلة ما ظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة ولما كان منشأ جمع المال استيلاء حبه على القلب جيء في مقابله تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ولما كان من شأن جامع المال المحب له أن يأصد عليه قيل في مقابله إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ولما تضمن ذلك طول الأمل قيل في مقابله عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ وقد صرح بذلك بعض الأجلّة فليتأمل والله تعالى أعلم.
463
Icon