تفسير سورة الفيل

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

وكان لهذه الهزيمة أثر كبير في التاريخ وبين العرب، فأعظموا قريشا، وقالوا: هم أهل اللَّه، قاتل اللَّه عنهم، وكفاهم العدو، وازدادوا تعظيما للبيت، وإيمانا بمكانه عنه اللَّه «١».
وأراد اللَّه بهذا الحادث تعظيم بيته، وإعلاء شأنه، وتهيئة أمة العرب لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله.
وكان ذلك الحدث التاريخي المهم في عام ميلاد النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، سنة ٥٧٠ م، أي كان بين عام الفيل ومبعث النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعون سنة. وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة، وقد بلغت حدّ التواتر حينئذ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قصة أصحاب الفيل
[سورة الفيل (١٠٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)
الإعراب:
أَلَمْ تَرَ معناه الإيجاب أي قد علمت لأن همزة الاستفهام لما دخلت على لَمْ وهي حرف نفي، والاستفهام كالنفي، اجتمع نفيان، فلما دخل النفي على النفي، انقلبت إيجابا.
وكَيْفَ: في موضع نصب بفعل بعده، ولا يجوز أن يعمل فيه تَرَ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده. وجملة كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ سدت مسدّ مفعولي تَرَ لأنها من رؤية القلب بمعنى العلم، نحو: رأيت اللَّه غالبا. ورَبُّكَ: فاعل فَعَلَ.
(١) المرجع السابق: ص ٥٧
406
طَيْراً أَبابِيلَ إما جمع لا واحد له من لفظه كأساطير، أو واحده «إبّيل» أو إبّول، كعجاجيل وحدها عجّول.
كَعَصْفٍ في موضع نصب، على أنه مفعول ثان ل فَجَعَلَهُمْ أي صيّرهم.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ.. الاستفهام للتقرير والتعجيب، أي أعجب.
فَعَلَ رَبُّكَ إشادة بقدرة اللَّه تعالى، والخطاب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله رَبُّكَ تشريف له.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت الأداة، وحذف وجه الشبه.
الْفِيلِ، تَضْلِيلٍ، أَبابِيلَ، سِجِّيلٍ، مَأْكُولٍ توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ أي تعلم، والخطاب للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو إن لم يشهد تلك الواقعة، لكنه شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها، فإنها من الإرهاصات لأنها وقعت في السنة التي ولد فيها الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. بِأَصْحابِ الْفِيلِ أصحاب الفيل العظيم الذي كان اسمه «محمود». وهم أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، وجيشه الذين أرادوا هدم الكعبة لصرف الحجاج العرب عن مكة إلى كنيسة بناها أبرهة بصنعاء، وسماها «القلّيس». فحين توجهوا لهدم الكعبة، أرسل اللَّه عليهم ما قصه في هذه السورة.
أَلَمْ يَجْعَلْ أي جعل. كَيْدَهُمْ مكرهم وتدبيرهم بتخريب الكعبة وتعطيلها. فِي تَضْلِيلٍ تضييع وإبطال وهلاك وخسارة. طَيْراً ما طار في الهواء، صغيرا أو كبيرا.
أَبابِيلَ جماعات متفرقة. سِجِّيلٍ طين متحجر. كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع يبقى بعد الحصاد، أكلته الدواب وداسته وأفنته، أو كتبن أكلته الدواب وراثته.
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ألم تعلم علم اليقين، وكأنك شاهدت الواقعة، بما صنع ربّك العظيم القدير بأصحاب الفيل، حيث دمرهم اللَّه، وحمى بيته الحرام، أفلا يجدر بقومك أن يؤمنوا باللَّه؟! وقد شاهد أناس
407
منهم الواقعة، حيث أقبل قوم من النصارى الأحباش الذين ملكوا اليمن، إلى الحجاز، يريدون تخريب الكعبة، فلما قربوا من مكة، وأرادوا دخولها، أرسل اللَّه عليهم جماعات من الطيور محمّلة بحجارة، ألقوها عليهم، فأهلكتهم.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ أي أفسد خطتهم ومؤامرتهم، والمعنى: ألم تر أن ربك جعل مكرهم وتدبيرهم وسعيهم في تخريب الكعبة، واستباحة أهلها، في تضليل عما قصدوا إليه، وفي ضياع وإبطال، حتى لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، بل أهلكهم اللَّه تعالى. والكيد: هو إرادة مضرة بالغير على الخفية.
وإذا علم قومك هذا الأمر، فليخافوا أن يعاقبهم اللَّه بعقوبة مماثلة، ما داموا يصرون على الكفر باللَّه تعالى وبرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وكتابه الكريم، ويصدون الناس عن سبيل الإيمان الحق باللَّه عزّ وجلّ.
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي وبعث اللَّه عليهم جماعات متفرقة من الطيور السود، جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئا إلا دمره وهشمه.
وهي حجارة صغيرة من طين متحجر، كالحمصة وفوق العدسة، فإذا أصاب أحدهم حجر منها، خرج به الجدري أو الحصبة، حتى هلكوا.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ أي فجعلهم فضلات وبقايا مثل ورق الزرع أو الشجر إذا أكلته الدواب، ثم راثته، فأهلكهم جميعا.
أخرج البخاري أنه: «لما أطل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش، بركت ناقته، فزجروها، فألحت، فقالوا: خلأت
408
القصواء، أي حرنت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل». ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه إلا أجبتهم إليها، ثم زجرها، فقامت».
وفي الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم فتح مكة: «إن اللَّه حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فيبلّغ الشاهد الغائب».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- هذا الخطاب، وإن كان للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولكنه عام، أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع منتي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟! ٢- دلت الواقعة على قدرة اللَّه الصانع وعلمه وحكمته، وعلى شرف محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة، تأسيسا لنبوتهم، وإرهاصا لها، ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله «١». قال أبو حيان: كان صرف ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد صلّى اللَّه عليه وسلّم إرهاصا بنبوته إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول من خوارق العادات، والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد ظلل (أحبط) كيدهم، وأهلكهم بأضعف جنوده، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل «٢».
٣- دلت القصة أيضا على تكريم اللَّه للكعبة، وإنعامه على قريش بدفع
(١) تفسير الرازي: ٣٢/ ٩٧
(٢) البحر المحيط: ٨/ ٥١٢
409
العدو عنهم، فكان يجب عليهم المبادرة إلى الإيمان برسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعبادة اللَّه، وشكره على نعمائه.
٤- كان إرسال الطير عليهم إرهاصا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأما بعد تقرير نبوته فلم يكن هناك حاجة إلى الإرهاص، لذا لم يعذب الحجّاج بتخريب البيت، ولأنه لم يكن قاصدا التخريب، وإنما أراد شيئا آخر، وهو قتل ابن الزبير.
٥- شبه تدميرهم وإهلاكهم وصيرورتهم بعد قصف الطير بالحجارة بصورة قبيحة حقيرة، تدل على حقارة كفرهم، وصغار نفوسهم، وهوانهم على اللَّه، وتلك الصورة ورق يابس أو تبن تعصف به الريح، أكلته الدواب وراثته، أي كفضلات البهائم، وذلك يدل أيضا على فنائهم التام لأنه أراد تشبيه تقطيع أوصالهم بتفريق أجزاء الروث.
إلا أن هذا التشبيه جاء على منهج القرآن في أدبه الرفيع، مثل قوله تعالى في تشبيه عيسى وأمه: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة ٥/ ٧٥].
وإنما سلط اللَّه العذاب على أصحاب الفيل، ولم يسلطه على كفار قريش الذين ملؤوا الكعبة أوثانا لأن أصحاب الفيل قصدوا التخريب، وهذا تعد على حق العباد، ووضع الأوثان فيها قصدوا به التقرب إلى اللَّه، وهو مع ذلك تعدّ على حق اللَّه تعالى، وحق العباد مقدّم على حق اللَّه تعالى.
٦- قال ابن مسعود: لما رمت الطير بالحجارة، بعث اللَّه ريحا، فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة، فقال:
فإنك لو رأيت ولم تريه لدى جنب المغمّس ما لقينا
خشيت اللَّه إذ قد بث طيرا وظلّ سحابة مرّت علينا
410
ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء اللَّه منهم. وقد تقدم في القصة التاريخية أن أميرهم أبرهة رجع وشرذمة قليلة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وذلك للعبرة والعظة.
٧- قال ابن إسحاق: لما ردّ اللَّه الحبشة عن مكة، عظّمت العرب قريشا وقالوا: أهل اللَّه، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم فكان ذلك نعمة من اللَّه عليهم.
411

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة قريش
مكيّة، وهي أربع آيات.
تسميتها:
سميت سورة قريش تذكيرا لهم بنعم اللَّه عليهم في مطلع السورة: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ...
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين:
١- كلتا السورتين تذكير بنعم اللَّه على أهل مكة، فسورة الفيل تشتمل على إهلاك عدوهم الذي جاء لهدم البيت الحرام أساس مجدهم وعزهم، وهذه السورة تذكر نعمة أخرى اجتماعية واقتصادية، حيث حقق اللَّه بينهم الألفة واجتماع الكلمة، وأكرمهم بنعمة الأمن والاستقرار، ونعمة الغنى واليسار والإمساك بزمام الاقتصاد التجاري في الحجاز، بالقيام برحلتين صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن.
٢- هذه السورة شديدة الاتصال بما قبلها، لتعلق الجار والمجرور في أولها بآخر السورة المتقدمة: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.. أي لإلف قريش أي أهلك اللَّه أصحاب الفيل، لتبقى قريش، ولذا كانتا في مصحف أبيّ سورة واحدة. ولكن في المصحف الإمام فصلت هذه السورة عن التي قبلها، وكتب بينهما: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
412
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وباتت كلّها تدعو بحق كأن لها على الحبشان دينا