ﰡ
دنا للناس وقت حسابهم بقرب مجيء يوم القيامة، وهم غافلون عن هول ذلك اليوم، ساهون لا يتفكرون في عقابتهم.. فإن يوم الحساب آتٍ لا محالة.
ثم بين الله ما يدل على غفلتهم واعراضهم بقوله:
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾.
ما يُنزل الله من قرآن يجدّد لهم فيه الذكر، ويُحْدِث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على اسماعهم التنبيه والموعظةَ لعلّهم يتعظون، الا زادهم ذلك لعباً واستهزاء. ولقد بالغوا في اخفاء نجواهم وتآمرهم على الرسول الكريم، فهل محمدٌ إلا بشرٌ مثلكم!
﴿أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾.
اتصدّقون محمداً وتذهبون الى مجلس السحر وأنتم تعلمون انه ساحر!؟.
قال لهم الرسول وقد أطلعه الله على حديثهم الذي أسرّوه: إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فيَّ فإن ربّي يَعلم كل ما يقال في السماء والأرض، لا يخفى عليه شيء.
ثم بين اللهُ خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدَّمَ من أن النبي ساحر بقوله تعالى:
﴿بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون﴾.
إنهم لم يثبُتوا على صفة له، ولا على رأي يرونه.... كيف يصِفون هذا القرآن، وكيف يتقونه. قالوا في أول الأمر إن محمداً بشَرٌ مثلكم، ثم قالوا إن ما جاء به سِحر، ثم قالوا إنه أحلامٌ مختلطةٌ يراها محمد ويرويها عليكم، ثم عادوا وقالوا إن هذا الذي يجيء به كذبٌ مفترى، بل هو شاعر، فإذا كان رسولاً حقيقياً فليأَتِنا بمعجزة مادية تدل على صدقه، كما أُرسِل الانبياء الأولون مؤيدين بالمعجزات. إنهم حائرون لا يدرون بماذا يصفون هذا الرسول والقرآن، فينتقلون من ادّعاء الى ادّعاء، ومن تعليلٍ إلى تعليل، ولا يستقرون على رأي.
﴿مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾.
إن القرى التي أهلكناها لم تؤمن مع أنّنا أرسلنا إليهم رسُولنا بالمعجزات المادية، فأهلكناهم، فهل يؤمن هؤلاء من قومك إذا جاءهم ما يطلبون!!.
قال قتادة: قال أهل مكة للنبيّ ﷺ اذا كان ما تقولُه حقاً ويسرّك ان نؤمن، فحوِّل لنا الصَّفا ذهبا. فأتاه جبريل فقال: ان شئتَ كانَ الذي سألك قومُك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا، لم يُنظَروا (يعني ان الله يهلكهم حالا) وان شئتَ استأنيتَ بقومك، قالك بل أستأني بقومي. فانزل الله:
﴿مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ.. الآية﴾.
بيّن الله تعالى لهم جواباً لشُبهتهم أن الرسولَ لا يكون بشراً بقوله:
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾
وما أرسلْنا قبلك يا محمد من الرسُل إلا رجالاً من البشَر نوحي اليهم الدِّينَ ليبلّغوه الى الناس، فاسألوا أيها المنكِرون أهلَ العلم بالكتب المنزلة ان كنتم لا تعلمون.
ثم بيّن الله كون الرسل بشَرا كسائر الناس في أحكام الطبيعة البشرية فقال:
﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ﴾.
وما جعلنا الرسُلَ الذين قبلك أجساداً تخالفُ أجسادَ البشر، فقد كانوا لا يعيشون دون طعام، وما كانوا مخلَّدين، بل إنهم كغيرهم من الناس كلّفهم اللهُ بتليغ الرسالة.
قراءات
قرأ عاصم: نوحي بالنون، والباقون: يوحَى بالياء وفتح الحاء.
﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا المسرفين﴾.
إنا ارسلْنا رسلاً من البشر وصدّقناهم وعدَنا فنصرناهم على المكذّبين، وأنجيناهم هم ومن آمن معهم، وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم في تكذيبهم برسالة أنبيائهم.
وبعد أن حقق اللهُ رسالته ﷺ ببيان أنه كسائر الرسل الكرام - شرع يحقق فضل القرآن الكريم، ويبيّن نفعه للناس.
﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
لقد أنزلنا إليكم القرآن ورفعنا فيه ذِكركم أيها العرب، وفيه مجدكم وعِظَتُكم بما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق، وفاضل الآداب وسديد الشرائع والأحكام، أفلا تتفكرون؟، ومَنْ هم العربُ لولا القرآن؟ هو الذي جعلهم أمةً ذاتَ حضارة ودين قويم، بعد ان كانوا خاملين يعيشون في ظلام الهمجية والجاهلية.
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ.....﴾.
والقصمُ أشدُّ حركات القطع، والتعبيرُ به يشير إلى شدة وقع الضربة على تلك القرى.
وكثير من أهل القرى أهلكناهم بسبب كفرهم وتكذيبهم لأنبيائهم، ثم أنشأنا بعد إهلاكهم أُمماً أخرى أحسنَ منهم حالاً ومالاً.
ثم بيّن حالهم حين حلول البأس بهم فقال:
﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾.
فلما أيقنوا أن العذابَ واقعٌ بهم لا محالة سارعوا الى الهروب، فخرجوا منها يركضون.... ولكن الى اين!
﴿لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾.
يُقال لهم على سبيل الاستهزاء والتهكم: لا تهربوا أيها المنكرون، فلن يعصِمكم من عذاب الله شيء، ارجعوا الى ما كنتم فيه من نعيم وترف ومساكن طيبة، لعلّكم تسألون عن ذلك كلّه فيم أنفقتموه.
﴿قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
حين يئسوا من الخلاص قالوا: يا هلاكنا إنّا كنا ظالمين. بهذا كانوا يحاولون التوبة والاعتذار، ولكن فات الآوان. ﴿فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ﴾ فما زالوا يردّدون هذه المقالة، ويصيحون بها حتى جعلناهم بالعذاب كالزَّرع المحصود، خامدين لا حياة فيهم.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾.
لقد خلق اللهُ سبحانه هذا الكون لحكمة عنده، لا لعباً ولا لهوا... خَلَقَه بنظام محكَم، وصنعٍ بديع. فتكوينُ العالم وإبداع هذا الخلق مؤسس على قواعدَ أصيلة، وغايات جليلة محكمة.
﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾.
ولو أراد الله تعالى ان يتخذ لهواً لاتخذه من عنده، ولكن هذا مستحيل عليه، ولن يفعله، ولا يليق به. وانما خَلَقَنا اللهُ لحكمة، وصوَّرَنا لغايةٍ سامية.
﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ﴾.
بل أمْرُنا الذي يليق بنا أن لا يكون هناك لهو، وإنما هو جِدٌّ فنقذف الحقَّ في وجه الباطل فيمحوه ويبطله، فإذا هو هالك زائل، والويلُ لكم أيها الكافرون من وصفِكم ربكم بصفاتٍ لا تليق بهن وافترائكم على الله ورسوله.
هذه هي سُنّة الحاية الأصلية، الحقُّ دائما يعلو، واذا تفشّى الباطل وعلا امره فانما يكون ذلك من تقصير منا، وتخاذلٍ في أمرنا، وبعدٍ عن ديننا، وفي الحديث الشريف: «للباطل صولة ثم يضمحلّ».
﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ﴾.
للهِ وحده كل ما في هذا الكون خَلْقاً ومُلْكا، فمن حقه وحده أن يُعبَدَ. والملائكة عنده يعبدونه حقاً ولا يستكبرون عن عبادته والخضوع له، ولا يكِلّون ولا يتعبون.
﴿يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾.
فهم دائبون في العبادة ليلَ نهار، لا يتخلَّل تسبحّهم وتنزيههم لله فتورٌ ولا ملل.
﴿أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ﴾.
بل عبدوا غيرَ الله، واتخذوا آلهةً من هذه الأرض من الأصنام وغيرها. كيف يعبدون هذه الأصنام وهي لا تستطيع إعادة الحياة!
ثم أقام الدليلَ العقلي على التوحيد ونفيِ تعدُّد الآلهة فقال:
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾.
لو كان في السموات والارض إله آخر غير الله لوقع الاضطرابُ والفساد في هذا الكون، واختلّ النظام فيه بتعدد الآراء، واختلاف الأوامر.
﴿فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ﴾.
فتنزيهاً لله ربّ العرش المحيط بهذا الكون، عما يقول هؤلاء المشركون.
﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
الله تعالى هو الحاكم المطلق، لا معقّب لحكمه، وإرادته طليقةٌ لا يحدّها قيد من إرادةٍ اخرى، فهو لا يحاسَب ولا يسأل عما يفعل، فهو الحكيم العليم، لا يخطىء في فعل شيء، والخلقُ جميعهم يُسألون.
أعاد الاستنكار مرةً أخرى لبشاعة ما يقولون، ولإظهار جهلهم فقال:
﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً....﴾.
بعد هذه الأدلّة التي ظهرت تقولون: إن لله شركاءَن فأين الدليل؟ هاتوا دليلكم على صحة ما تقولون. ان هذا القرآن قد جاءَ مذكّرا لأُمتي بما يجب عليها، هذه كتب الأنبياء التي جاءت لتذكر الأممَ من قبلي - كلّها تشهد على توحيد الله، وليس فيها ذِكر للشركاء الذين تزعمون.
ولما كانوا لا يجِدون لهم شُبهة فضلاً عن حجة، ذمَّهم الله على جهلهم بمواضع الحق فقال:
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾.
بل أكثُر هؤلاء لا يميزون بين الحق والباطل، وهذا هو السبب في إعراضهم وتجافيهم عن سماع الحق.
ثم أكّد ما تقدّم من أدلة التوحيد فقال:
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون﴾.
ان الرسلَ جميعاً أُرسلوا بالتوحيد، فهو قاعدة العقيدة منذ ان بعثَ الله الرسلَ للناس، لا تبديل فيه ولا تحويل، فأخلِصوا لله العبادة.
وبعد أن بين سبحانه بالدلائل القاطعة أنه منزّهٌ عن الشريك والشبيه، أردف ذلك ببراءته من اتخاذ الولد فقال:
﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾.
وقال بعض مشركي العرب وهم بعض خُزاعة وجُهينة وبنو سَلَمة: ان الملائكة بناتُ الله، فردَّ الله عليهم بقوله: سبحانه، تنزَّه عن أن يكون له ولد، بل الملائكةُ الذين عنده هم عبادٌ مكرَّمون مقرَّبون.
﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾.
لا يتكلّمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه في ذلك ولا يتعدون حدود ما يأمرهم به.
ثم علّل سبحانه هذه الطاعة بعلمِهِم أن ربَّهم محيطٌ بهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم فقال:
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾.
ان الله يعلم كل أحوالهم واعمالهم، وما قدّموه وما أخّروه، وهم لا يشفعون الا لمن رضي الله عنهـ، وهم من خوف الله والإشفاق من عقابه دائماً حذِرون.
﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين﴾.
ومن يقل من الملائكة إني إله، فذلك جزاؤه جهنم، ومثل هذا الجزاءِ نجزي كلَّ من يتجاوز حدود الله من الظالمين.
قال بعض المفسرين: عنى بهذا إبليسَ حيث ادَّعى الشرِكَة ودعا إلى عبادة نفسِه وكان من الملائكة، ولم يقلْ أحدٌ من الملائكة إني إله غيره.
لقد ذكر الله هنا ستة أدلة تثبت وجودَ الخالق الواحد القادر، ولو تدبَّرها المنصِفون، وعقَلَها الجاحدون، لم يجدوا مجالاً للإنكار.
الأول: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾.
أولم يعلم الذين كفروا ولم يبصروا الحق، أن السمواتِ والأرضَ كانتا في بدء خَلْقِهما ملتصتين في صورة كتلة واحدة ففصلناهما حتى صارتا في هذا النظام! وهو ما يسمونه: النظام الشمسي، ويتكون من الشمس، يدور حولها تسعة كواكب سيارة هي: عطارد، والزُّهرة، والأرض، والمريخ، والمشتري، وزحَل، وأورانوس، ونبتون، وبلوتو، وعدد من الأقمار يدور حول كل من هذه الكواكب.
ويدخل ضمن هذه الأسرة عدد من الاجسام الصغيرة تقع بين مداري المريخ والمشتري، وتدور حول الشمس كسربٍ من الطير، ومن بينهما المذنّبات، والشُهُب التي نرى الكثير منها يتهاوى في الليل نحو الأرض، ويتمزّق عند احتكاكه بالغلاف الجوي المحيط بها.
أما بقية الأجرام التي نراها في السماء ليلاً تزين سطح القبة السماوية فهي النجوم، وهي شموس لا حصر لها، والكثيرُ منها يَكْبُرُ شمسَنا. وهي بعيدة جدا لا نستطيع الوصول اليها بكل ما لدينا من وسائل حديثة، والبحث فيها يطول.
ولعلماء الفلك نظريات عددة في كيفية انفصال هذه الأجرام عن بعضها البعض، لكن هذا الموضع ليس موضع بحثه. والقرآن الكريم كتاب يهدي الانسان الى سعادته في دنياه وآخرته وليس كتاب نظريات في الفلسفة والعلم والفلك وغيره، وان كان ما يرِدُ فيه لا يخالف أحدث نظريات العلم والفلك، واكبر دليل على ذلك هذه الآية العظيمة.
الثاني: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
وخلقنا من الماء كلَّ ما في هذا العالَم من حياة، فالماء مصدر الحياة لكل نامٍ، إنساناً كان او حيواناً او نباتا، فهل بعد كل هذا يعرضون، فلا يؤمنون بانه لا اله الا الله!
وتقرر هذه الآية حقيقةً علمية ثابتة، وهي ان الماء هو المكوِّن الهام في تركيب مادة الخلية، وهي وَحْدة البناء في كل كائن حيّ. ولقد اثبت علم الكيمياء الحيوية ان الماء لازم لحدوث التفاعلات والتحولات التي تتم داخل اجسام الأحياء.
وأثبت علم وظائف الاعضاء ان الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها لا تتوافر له مظاهر الحياة ومقوماتها.
الثالث: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾.
وجعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تضطرب بمن عليها من الخلق، وجعلنا فيها طرقاً فسيحة، ومسالكَ واسعة، لكي يهتدوا بها في سيرهم الى أغراضهم.
وهذه المعلومات معجزة في الآية ترشِد الى ان القرآن وحيٌ يوحى، لن احداً لم يكن يعلم عن هذه المعلومات شيئا في العصر الذي نزلت فيه.
ولما ارتفعت الجبال حدثت السهور والأودية والممرات بين الجبال وشواطىء البحار والمحيطات والهضاب، وكانت سُبلاً وطرقا. وهذا هو الدليل الرابع حيث يقول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾.
وجعلنا في الارض طرقاً بين جبالها يسلكها الناس من قُطر الى قطر ومن إقليم الى آخر، ليهدوا بذلك الى مصالحهم وأمورهم في هذه الحياة الدنيا.
الخامس: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾.
وجعلنا السماءَ فوقهم كالسقف المرفوع، وحفظناها من أن تقع كما في الآية الاخرى، ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [الحج: ٦٦]. او يقع ما فيها عليهم، وهم مع ذلك منصرفون عن النظر في آياتنا الدالَّ على قدرتنا وحكمتنا.
فالآية تقرر أن السمواتِ وما فيها من أجرام محفوظةُ بكيانها متماسكةٌ لا خلل فيها، وفق نظام بديع لا يتخلف ولا يتبدل. وقد جعل الله لهذه الأرض غلافاً جوياً يحفظها وتتبع الاشعاعات الضارة من أن تصل إليها، وجعل فوق الغلاف الجوي أجرام السماء على أبعاد مختلفة تحتفظ بنظام دورانها وكيانها منذ القدم وإلى ما شياء الله.
﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
والله خلق لكم الليلَ والنهار نعمةً منه عليكم فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم، وخلَقَ الأرض والشمس والقمر تجري في افلاكها، لكل جرم سماوي مدارُه الخاص يسبح فيه. وأجرام السماء كلها لا تعرض السكون، وتتحرك في مدارات خاصة.
بعد ذكر هذه الأدلة على وجود الخالق الواحد القادر، بيّن سبحانه وتعالى في كتابه للناسِ أن هذه الدنيا لم تُخلَق للخلود والدوام، وانما للابتلاء والامتحان، ولتكون وسيلةً الى الآخرة التي هي دار الخلود فقال:
﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾.
وما جعلنا لأحدٍ من البشر قبلك ايها النبي الخلود في هذه الدنيا، فكل من على هذه الأرض ميت، كما قال تعالى ايضا: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ إفإنْ متَّ فهم يخلُدون في هذه الحياة!!.
نزلت هذه الآية لما تضايق كبراء قريش من الرسول الكريم فقالوا: نتربّص به الموتَ فنستريح منه.
ثم اكد الله الأمرَ وبيّن انه لا يَبقى أحد في هذه الدنيا فقال:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.
كل نفس لا بد ان تذوق الموت، إنما نعاملكم في هذه الحياة معاملة المختبِر بما يصيبكم من شر او خير، ونعلم الشاكر للخير والصابر على البلاء.
روى مسلم في صحيحه «ان الرسول الكريم قال:» عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمنين، إن اصابتْه سرّاء شَكَرَ فكان خيراً له، وان اصابته ضرّاء صَبَرَ فكان خيرا له «
﴿وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ﴾.
واذا رآك المشركون ايها النبي يسخرون منك ويستهزئون، لأنك سفّهت أحلامهم وأتيتهم بالدِّين القويم، ويقول بعضهم لبعض: اهذا الذي يذكر آلهتكم بالعيب! وكيف يعجبون من ذلك وهم كافرون بالله الذي خلقهم وأنعم عليهم!
﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾.
خلق الله الإنسانَ وفي طبيعته العجلة، فهو دائماً يستعجل الأمور لأنه طُبع على العجلة، فيريد ان يجد كل ما يجول في خاطره حاضراً. والعَجَلة مذمومة، وفي المثل: ان في العجلة الندامة، والعجلة من الشيطان. فتمهلوا أيها المشركون ولا تستعجِلوا طلب العذاب، سأُريكم آياتي الدالّةَ على صحة رسالة النبي محمدن وما ينذركم به من عذاب في الدنيا والآخرة.
وهم في كل اوقاتهم وحالاتهم مستعجلون.
﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
فهم يسألون النبي ﷺ ومن معه من المؤمنين: متى يجيئنا هذا الوعدُ بعذاب الدنيا والآخرة الذي تَعِدوننا به ان كنتم صادقين فيما تقولون؟
لذا بيّن الله شدةَ جهلهم بما يستعجلو، وعظيمَ حماقتهم لهذا الطلب فقال:
﴿لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾.
لو يعلم هؤلاء الكفار ما سيكون حالُهم في النار، يوم لا يستطيعون دَفْعَ النار عن ان تلفح وجوههم وتشوي ظهورهم، ولا يجدون من ينصرهم وينقذهم - لو يعلمون كل هذا ما قالوا ذلك، ولا استعجلوا العذاب، وهذا هو الجواب وهو محذوف...
ثم بيّن أن هذا الذي يستعجلونه غيرُ معلوم ولا يأتي الا فجأة فقال:
﴿بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾.
ان الساعة لا تأتي إلا بغتةً، تفاجئهم فتحيّرهم وتدهشهم، ولا يستطيعون ردَّها، او تأخيرعها، ولا هم يُمهَلون حتى يتوبوا ويعتذروا فقد فات الأوان.
ثم سلّى رسولَه الكريم على استهزائهم به فقال: ﴿وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
إن ما حَدَثَ لك من استهزاء قد حدث قبلك: فحلّ بالّذين سخِروا من رسلهم العذابُ والبلاء، فلْعلموا أن مصير المستهزئين بالرسل معروف، وعاقبتَهم وخيمةٌ، وسيكون لك النصر المبين، وفي وسرة الانعام ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ [الآية: ٣٥]. وقد نصره الله وصدق وعده.
﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾.
سَلأْهُم أيها الرسول: من يحفظكم في الليل والنهار من عذابِ الرحمن إن نزل بكم؟ ان الله هو الحارص وسفتُه الرحمةُ الكبرى، بل هم عن القرآن الذي يذكّرهم بما ينفعهم، ويدفع العذاب عنهم - منصرفون.
ثم يعيد السؤال في صورة اخرى وهو سؤال للأنكار والتوبيخ: ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا﴾ كلاَّ فهؤلاء الآلهة لا يستطيعون أن يُعِينوا أنفسهم حتى يعينوا غيرهم.
﴿وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ﴾.
ولا هم يُجارون ويُحفظون منا.
ثم بين الله تفضُّله عليهم مع سوء ما أتوا به من الاعمال فقال:
﴿بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون﴾.
إننا لم نعجَّل لهم العذابَ بل استدرجناهم ومتعناهم حتى طالت أعمالهم وهم في الغفلة فنسوا عهدَنا، وجهِلوا مواقع نعمتنا، فاغترّوا بذلك. أفلا يرى هؤلاء المشركون أنّا نقصد الأرض فتنقصها من اطرافها بالفَتْح ونصرِ المؤمنين، ونقتَطعُها من أدي المشركين. افهم الغالبون، ام المؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر والتأييد؟
بعد ان بين الله هول ما يستعجلون، وحالَهم السيئة حين نزوله بهم، ثم نعى عليهم جهلهم وإعراضهم عن ذِكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار - أمَرَ رسولَه الكريم ان يقول لهم: إنما أخبركم به قد جاءَ من عند الله فقال:
﴿قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي﴾.
قل أيها النبي لهؤلاء الجاحدين السادرين في غَيِّهم: إنما أحذّركم بالوحي الصادق الصادر عن الله، فإن كنتم تسخرون من أمرِ الساعة وأهوالها، فانها من وحي الله وامره، لا من وحي الخيال.
ثم أردَفَ بأن الانذار مع مثل هؤلاء لا يجدي فتيلا، فهم كالصمّ الذي لا يسمعون داعي الله فقال:
﴿وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾.
وكيف يُجدي الإنذارُ من كان أصم لا يسمع! وكيف يسمع الطرش النداءَ حين يوجّه اليهم! وكل من لا يستجيب لداعي الله فهو أصم ولو كان يسمع ويرى.
﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
وحين يسمهم أقل العذاب يوم القيامة يدعون على أنفسِهم بالويلِ والثبور ويقولون: إنا كنا ظالمين لأنفسنا بكفرنا، ويندمون على ما فَرَطَ منهم، لكنه لن ينفعهم الندم ولا الاعتراف بعد فوات الأوان.
ثم يبين في خاتمةهذا الحوار ما سيقع من أحداث يوم القيامة وحين يأتي ما أُنذروا به فيقول:
﴿وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ﴾.
في ذلك اليوم العظيم نضع الموازينَ العادلة الدقيقة التي تُحصي كل شيء، ويأخذُ كل انسان حقه كاملاً، ولا تُظلم نفسٌ شيئا، ولو كان العمل بوزن حبةِ الخردل، وحبة الخردل جزء من الف جزء من الغرام، فان الكيلو غرام يحتوي على ٩١٣ الف حبة، وهذا صغُر وزنٍ لحبة نبات عُرف حتى الآن. فإن كان الانسانُ اخترع الكمبيوتر، الذي يحصي أدقّ المعلوما فإن الله عنده ما هو أدق منه وأعدل. ولا يخفى ما في هذه الآية من التحذير الشديد والوعيد.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «ولا تُسمع الصم الدعاء» بضم التاء وكسر الميم. والباقون: ولا يَسْمعُ الصمُّ بفتح الياء والميم، وضم الصم.. وقرأ نافع: وان كان مثقالُ حبة برفع مثقال، والباقون: مثقالَ بالنصب.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾.
يبين الله تعالى هنا أن الرسل كلّهم من البشر وهي السُنّة المطّردة، وأن نزول الكتاب على الرسول محمد ﷺ ليس بدعةً مستغربة، فقد أنزلْنا على موسى وهارونَ الفرقانَ، وهو التوراة.
ثم يذكر صفاتِ المتقيم:
﴿¤لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ﴾.
والمتقون هم الذي يخافون ربَّهم في السرّ والغيب والعلانية، وهم مع ذلك خائفون وَجِلون من عذاب يوم القيامة، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالضياء ويسيرون على هداه.
﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾.
وهذا القرآن الذي انزلنا على محمد الأمين كما انزلنا الذكر على موسى وهارون، ذكر لكم فيه البركة والخير، وموعظة لمن يتعظ بها، أفبعد ان علمتم شيأنه وعظمته تنكروه، وانتم أولى الناس بالايمان به!
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾.
لقد أعطينا إبراهيمَ النبوة والهداية الى التوحيد الخالص، من قبلِ موسى وهارون، وكنّا عالمين بفضائله التي تؤهله لحمل الرسالة.
كان ابراهيم من أهل «فدان آرام» بالعراق، وكان قومه أهلَ أوثان، وكان أبوه نجارا ينحت التماثيل ويبيعها لمن يعبدها من قومه، وقد أنا رالله قلب إبراهيم وهداه الى الرشد فعلم ان الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع.
﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟﴾
اذكر أيها النبي حين استنكر إبراهيمُ عبادة الأصنام وقال لأبيه وقومه: ما هذه الاصنام التي تعبدونها وتظلون ملازمين لها؟
﴿قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾
لم يجدوا جواباً مقنعاً فلجأوا إلى التشبّت بالتقليد، لذلك قالوا: إننا نعبدها كما عَبَدها آباؤنا من قبل، فنحن مقلّدون لهم.
فكان ابراهيم معهم صريحا، واجابهم ببيان سوء ما يصنعون:
﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
لم يقنع ابراهيم بجوابهم هذا، وقال لهم إنكم أنتم وآباؤكم في ضلال واضح بعبادتكم لهذه التماثيل التي لا تنفع ولا تضر.
فأجابوه إجابة مستفهِمٍ متعجّب مما يمسع ويرى:
﴿قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين؟﴾.
لمّا سمعوا ما في كلام ابراهيم مما يدل على تحقير آلهتهم، استبعدوا ان يكون جادّاً فيما يقول، فقالوا: هل ما تقوله هو الحق، أم أنت هازل من اللاعبين!؟.
عند ذاك ردّ عليهم ببيان الحق وذكر الإله الذي يستحق العبادة.
﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين﴾.
قال: جئتكم بالحق لا باللعب. ثم بيّن لهم ان الإله المستحق للعبادة هو ربُّ السموات والأرض الذي خلق كل شيء، فمن حق هذا الإله وحده أن يُعبد، وانا على ما اقول لكم من الشاهدين.
وبعد ان أقام البرهان على إثبات الحق نوى الشر في نفسه لهذه الآلهة التي جمدوا على عبادتها، ولم تُفدْهم موعظةٌ ولا برهان عن الغواية بها، فأقسَمَ في نفسه ان يُلحق الأذى بها فقال:
﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾.
أقسَم ابراهيم بالله انه سيكيد الأصنامَ بأن يكسرها بعد ذهابهم من معبدهم. وأقبل عليها فكسرها جميعا الا الكبير فتركه. وقد اراد بهذه الطريقة ان يُفْهم القومَ مركز آلهتهم، ويقيم الحجة عليهم في أن تلك الاصنام لا تنفع ولا تضر. فها هي لم تستطع ان تردّ الأذى عن نفسها.
أما تركُ ابراهيم كبيرها قائماً فذلك لكي يسألوه اذا كان يجيب او يتكلم.
قراءات
قرأ الكسائي: جذاذاً بكسر الجيم. والباقون: جذاذا بضم الجيم.
﴿قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾.
وعاد القوم الى معبدهم فرأوا أصنامهم مكسَّرة قطعا، إلا كبيرهمن فقالوا: من الذي اعتدى على آلهتنا ففعل بها هذا العمل المنكر!؟ إنها لَجُرأة عظيمة وانه لمن الظالمين. قال بعضهم: سمعنا شاباً يذكرهم بالشتم والتحقير يدعى إبراهيم.
﴿قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ﴾.
واتفقوا أن يحاكموه علناً على رؤوس الأشهاد فقالوا: أحضِروه أمام جميع الناس ليشهدوا عليه وتكون شهادتهم عليه حجةً لنا. فلما أتوا به قالوا له: أأنت كسرتَ هذه الآلهة وجلْتَهم قظعا؟ وطلبوا منه ان يعترف بذنبه.
فأجابهم جواباً ذكياً لطيفا، أدهشهم وحيّرهم إذ قال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا﴾ فاسألوه واسألوا أصنامكم ليُخبروكم إن كانوا يتكلمون. فكانت مقالةُ إبراهيم عليه السلام حجةً شديدة الوقع في نفوسهم وحيرّتهم ولم يعرفوا ما يقولون.
﴿فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون﴾
فكأنهم أفاقوا نم غفلتهم لحظات، فراحوا يلومون أنفسَهم ويقولون: حقيقةً إنكم أنتم الظالمون، كيف نعبدُ آلهة لا تدفع الأذى عن نفسها!
﴿ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ﴾.
ثم عادوا إلى جهالتهم كأنهم وقفوا على رؤوسهم، وانقلبوا من الرشاد الى الضلال، وقالوا لإبراهيم: أنت تعلم ان هؤلاء لا يتكلمون فكيف تطلبُ منا ان نسألهم؟
وهنا ظهرت حجةُ ابراهيم واضحة، ورأى الفرصة سانحة لإلزامهم الحجة فقال: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
فقال إبراهيم متهكماً عليهم: لقد أقررتُم أن هذه الأصنام لا تنطق ولا تردّ أذى ولا تنفع، ومع ذلك تعبدونها من دون الله، متى ترتدّ اليكم عقولكم! أفٍّ لكم وقبحاً لآلهتكم.
ولما بان عجزُهم وظهر الحقّ أخذتهم العزّةُ بالإثم كما تأخذ الطغاة حين يفقدون الحجة، فلجأوا الى استعمال القسوة. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:
﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾.
هنا لجأوا الى منطق العُتاة وفعل الطغاة، فقالوا: احرِقوا إبراهيم هذا بالنار، وانصروا آلهتكم عليه بهذا العقاب، إن كنتم تريدون نصرها.
ولكن الله تعالى أبطَلَ كيدهم، ودفع عنه الهلاك بمعونته وتأييده فقال:
﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين﴾.
أوقَدوا ناراً عظيمة ليحرقوه ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فلم تضرّه بإذن الله، ونجا منها، وكانت معجزةً كبرى لابراهيم. لقد أرادوا ان يبطشوا به ويهلكوا بالنار، فنجّيناه ورددنا كيدهم في نحورهم وجعلناهم الخاسرين.
ونقل كثير من المفسرين كلاماً كثيراً في سيرة ابراهيم من الاساطير القديمة نضرب عنه صفحا لعدم الفائدة منه.
ونجّينا إبراهيم ولوطاً الذي آمن معه وهاجرا الى الأرض المباركة، وهي أرض الشام، فنزل إبراهيم جنوبي القدس في الخليل من أرض فلسطين، ونزل لوط في سدوم وعاموراء وهي منطقة البحر الميت. ووهبنا لإبراهيم إسحاق، ثم زدناه نافلةً يعقوبَ بن اسحاق، وكلاهما من الصالحين. وجعلناهم أئمة يهدون الناس الى الحق بأمرِنا، وأوحينا اليهم فعل الخيرات ليعلِّموا الناس وان يقيموا الصلاة ويؤدوا الزكاة، وكانوا هم من اهتدى بهم لنا عابدين.
لقد ترك إبراهيم عليه السلام وطناً واهلاً وقوما، فعوضه الله وطناً خيرا من وطنه، وجعل ابنه اسحاق، وحفيده يعقوب اهلاً خيرا من أهله السابقين.
أما لوط فقد منحه الله حكمةً ونبوة وعلماً ونجذاه من القرية التي كانت تعمل الخبائث وهي اللواطة، ان أهلها كانوا قوم سوء خارجين عن الدين، وقد سبقت قصة لوط مفصَّلة في سورة الاعراف، وسورة هود.
ونوحاً إذ دعا على قومه بالهلاك فاستجبنّا له فنجّيناه وأهلَه من الغمّ الشديد،
﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
وقد ذكر نوح في ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم. وذكرت قصته مفصلة في سورة الاعراف وسورة هود وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح.
﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾.
اذكر أيها الرسول نبأ داود وسليمان حين حكما في الزرع الذي رعته غنمٌ لقومٍ آخرين غير صاحب الزرع فأفسدتْه، وكان ربك شاهداً عليماً بما حكم به داود وسليمان.
﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾
وقد فهّمنا سليمانَ الحكم الصوابَ وآتيناه الحكمة والعلم جميعا.
وقصة الحكم:
أن غنماً رعت في زرع بالليل فأفسدته، فقضى داود بأن صاحب الزرع يأخذ الغنم مقابل زرعه. فلما علم سليمان بالحكم، قال: الحكم ان تبقى الغنم مع صاحب الزرع ينتفع بلبنها وصوفها، ويكلَّف صاحبُ الغنم بأن يحرث الارض ويزرعها حتى اذا استوى الزرع سلّمه الى صاحبه وساترد غنمه. وكان هذا الحكم هو الصواب. ولما علم داود بالحكم استحسنه وأمضاه.
﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾
وسخّرنا الجبال والطير لداود يسبِّحن معه بتسبيحٍ لا يسمعه البشرَ، وكنا فاعلين ذلك بقدرتنا. وهذا التسبيح لا نفهمه نحن. وفي سورة الإسراء الآية ٤٥، ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ فعلماؤنا الأقدمون كانوا يقولون ان هذا التسبيح مَجازي، وذلك علدم معرفتهم. وكيف يكون مجازياً، واللهُ تعالى في عدد من الآيات يحدّثنا عن تسبيح الكون والذرّات وكل شيء للخالق العظيم!!
يقول الدكتور عماد الدين خليل في مجلة العربي العدد ٢٥٩ رجب ١٤٠٠ حزيران ١٩٨٠.
«واننا لنقف هنا خاشعين أمام واحد من جوانب الإعجاز القرآني، تلك المجموعة من الآيات الكريمة التي تحدثنا عن تسبيح الكون والذرات للخالق العظيم، من سورة الحشر والصف والاسراء.... ان التسبيح ها هنا لا يقتصر على كون الذرات والاجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعها الله فيها، فهي تسبّح بحمد الله سبحانه، فهنالك ما هو أبعد من هذا وأقرب الى مفهوم التسبيح الحي أو التقديس الواعي. إن هذه الأشياء المادية تملك ارواحاً، وهي تمارس تسبيحها وتقديسها بالروح وربما بالوعي الذي لا نستطيع استيعاب ماهيته. وان هذا ليقودنا الى مقولة» اوينقتون «:» ان مادّة العالم هذه مادة عقلية «، كما يقودنا الى الآية الكريمة ﴿ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ....﴾.
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾.
وعلّمنا داودَ صنعة الدروع لتكون لباساً يمنعكم في الحرب ويَقيكم من شدّة بعضكم لبعض فاشكروا الله على هذه النِعم التي أنعم بها عليكم.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحفص: لتحصنكم بالتاء، وقرأ ابو بكر: لنحصنكم بالنون، والباقون: ليحصنكم بالياء.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾.
وسخّرنا لسليمانَ الريحَ عاصفة شديدة الهبوب تارة وليّنةً رُخاءً تارة أخرى، تجري بحسب رغبته الى أي بقعة في أرض الشام المباركة، وكنّا بكل شيء عالمين، لا تغيب عنا صغيرة ولا كبيرة.
﴿وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾
وسخّرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في الماء الى أعماق البحار، ليستخرجوا له اللؤلؤ والمرجان، ويعملون له ما يريد من بناء الحصون والقصور والمحاريب والتماثيل كما جاء في سورة سبأ ١٢ ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾ ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ من التمرّد على أمر سليمان، فهم لا ينالون أحداً بسوء.
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ﴾.
اذكر أيها النبي قصة أيوب حين دعا ربه وقد أضناه المرض، ومسّه البلاء، فقال: يا رب، قد أصابني الضر وأنت الكريم الجواد، وانت أرحم الراحمين. فاستجبنا له دعاءه، وعافيناه ورفعنا عنه الضر، وأعطيناه أولاداً بقدْر من مات من أولاده، وزدناه مثلهم، رحمةً به من فضلنا، وتذكرة لغيره من العابدين.
وقصة أيوب من القصص الرائعة، والنصوصُ القرآنية تشير الى مجملها دون تفصيل. وقد ذُكر صاحبها في القرآن أربع مرات: في سورة النساء، والأنعام، والانبياء، وص. وله سِفر خاص به في العهد القديم يحتوى على ٤٢ إصحاحا في خمسة فصور كبيرة:
الأول: يتضمن تقوى ايوب وأملاكه واقرابه وصفاته
الثاني: يتضمن ما جرى بينه وبين أصحابه من الجدال.
الثالث: يذكر أقوال الحكمة التي نطق بها «الياهو» اصغر اصحاب ايوب.
الرابع: يذكر مخاطبة الله إياه من العاصفة.
الخامس: يتضمن خضوعه وشفاءه وتعويض ما فقده من المال والأهل.
وأيوب من أنبياء العرب كان يسكن أرض «عُوص» في شرق فلسطين او في حوران. وهو من بني ابراهيم كما جاء في سورة الأنعام الآية ٨٤ ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ﴾ وسِفر ايوب عربي الأصل بما فيه من أسماء للأشخاص والأماكن، ومن وصف لبادية الشام وحيواناتها ونباتاتها.... يقول الأب لويس شيخو في كتابه: النصرانية وآدابها، وهو يذكر علم النجوم: ولنا شاهدٌ في سِفر أيوب على معرفة العرب لأسماء النجوم وحركاتها في الفلك، إذ كان ايوب النبي عربي الأصل عاش غربي الجزيرة حيث امتحن الله صبره.
ويقول الدكتور جواد علي في كتابه: تاريخ العرب قبل الاسلام.. من القائلين بأن سفر أيوب عربي الاصل والمتحمسين في الدفاع عن هذا الرأي المستشرقُ «مرجليوث». وقد عالج هذا الموضع بطريقة المقابلات اللغوية ودرساة الاسماء الواردة في سفر ايوب. وقد اكد هذا الرأي كثير من المؤرخين.
وخلاصة قصته انه كان صاحب أموال كثيرة، وابتلاه الله بان أذهبَ اموالَه حتى صار فقيرا، وابتلاه بجسده حتى نفر عنه أقاربه، وبقي طريحاً مدة من الزمن، وهو صابر مستمرٌّ على عبادته وشكره لربه. ثم ان الله تعالى عافاه ورزقه وردّ له احسن مما ذهب عنه من المال والولد.
اذكُر أيها النبي اسماعيل وادريس وذا الكفل، كل منهم كان من الصابرين على احتمال التكاليف والشدائد، وكل هؤلاء ادخلناهم جناتِ النعيم، إنهم من عبادنا الصالحين.
﴿وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين﴾.
واذكر ايها الرسول يونسَ، صاحبَ الحوت، حين بعثه الله الى أهل «نينوى» في العراق، فدعاهم الى توحيد الله وعبادته فأبَوا عليه وتمادوا في كفرهم، فغضب منهم وتركهم. وركب مع قوم في سفينة، فهاج البحر وكان لا بد من إلقاء أحدٍ ممن في السفينة، فوقعت القرعة على يونس، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين﴾ [الصافات: ١٤١]، فألقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت. فدعا ربه وهو في الظلمات، واعتراف بأنه من الظالمين، فاستجاب الله له دعاءه، ونجّاه من ذلك الكرب الشديد. هكذا ننجي المؤمنين الذي يعترفون باخطائهم ويدعون ربهم مخلصين.
قراءات:
قرأ يعقوب: فظن ان لن يُقدَر عليه بضم الياء وفتح الدال. والبقاون: نقدر بفتح النون وكسر الدال.
﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ﴾.
اذكر يا محمد خبر زكريا حين نادى ربّه وطلب منه أن يرزقه ولدا، فرزقه يحيى من خيرة الأنبياء. وأصلحنا له زوجته بأن جعلناها تلد، فهم أهل بيت صالحون، يعملون الخير ويعبدوننا رغبة منهم في رحمتنا، وخوفا من عذابنا. وقد مر ذكر زكريا في سورة آل عمران، وسورة مريم.
﴿والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
كذلك اذكر يا محمد مع هؤلاء الأبرار قصة مريم التي صانت نفسها، فألقينا فيها سرّاً من أسرارنا، ومعجزة كبيرة بأن حملت دون زوج، وجعلنا امرها هي وابنها آية للناس يستدلّون بها على قدرة الله وحكمته.
بعد عرض سُنن الله الكونية، الشاهدة بوحدة الخالق، وسنن الله في ارسال الرسل بالدعوات الشاهدة بوحدة العقيدة - يؤكد القرآن الكريم هنا وحدة الأمة والإله، وان الله لا يضيع عمل عاملٍ مخلص، ثم يعرض مشهداً من القيامة، ومصير المشركين والشركاء في ذلك اليوم.
﴿إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون﴾.
الخطاب هنا لجميع الناس، ان هذه ملّتكم ملة واحدة، وأنا ربكم ايها الناس، فعليكم ان تدينوا جميعاً بدِين التوحيد الذي جاء به جمع الانبياء. فاعبدوني دون جميع هذه الآلة والأوثان. وأمةً بالنصب حال.
﴿وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾.
مع كل هذا الإرشاد تفرَّق اكثرُ الناس بحسب شهواتهم، وصاروا شِيعاً مختلفة، منهم الجاحدون ومنهم المشركون، وكلّهم راجعون الينا، فمن يعمل الأعمال الصالحةَ وهو مؤمن بالله فلا ينقص شيء من سعيه، بل سيوفّاه كاملا ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٣٠].
﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾.
ان كل أهل قريةٍ اهلكناهم في الدنيا لا بد ان يرجعوا الينا ليلاقوا جزاءهم يوم القيامة فالجزاء على الاعمال إنما يتم في الآخرة ولو قدِّم منه شيء في الدنيا. وهذه الآية أشكلت على المفسرين، وقال بعضهم إنها مشكلة، وتعذر معناها: وحرام على أهل قرية حكمنا باهلاكها ان يُقبل لهم من عمل لأنهم لا يتوبون، وقال بعضهم: وحرم الله على اية قرية اهلكها الله أن يعيدها الى الدنيا...
قراءات:
قرأ ابو بكر وحمزة والكسائي: وحرم بكسر الحاء واسكان الراء. والباقون: وحرام بفتح الحاء والراء والف بعدها والمعنى واحد.
﴿حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ﴾.
لا يزال الأمر يجري على ما قدّمنا، نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين ونشكر سعيهم، ونهلك القرى الظالمة، ونحرم رجوعهم بعد الهلاك الى ان يُفتح سدُّ يأجوج ومأجوج، وتراهم يسرعون من كل مرتفع من الارض. وهذا الأمر من علامات اقتراب الساعة، كما جاء في سورة الكهف ٩٨ ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً﴾ قراءات:
قرأ ابن عامر: فُنُّحتْ بالتشديد. والباقون: فُتِحت بالتخفيف.
﴿واقترب الوعد الحق فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾
لقد َرُبَ مجيء يوم القيامة، وعندها تشخَص أبصار الذين كفروا من شدة الهول، فيصيحون قائلين: يا هلاكنا قد كنا في غفلة من هذا اليوم، بل كنا ظالمين لأنفسنا بالكفر العناد.
﴿لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ﴾.
لو كان هؤلاء الأصنام الذين عبدتموهم من دون الله آلأهة ما دخلو النار، وكلُّكم: العابدون والمعبودون المزيفون - في النار مخلَّدون. ولكم في النار زفير ونَفَس متقطع، من شدة ما ينالكم من العذاب، ولن تسمعوا شيئا يسرّكم.
بعد ان ذكر اللهُ حالَ أهلِ النار وعذابهم بسبب شِركهم بالله، بيّن أحوال السعداء من المؤمنين بالله، والذين قدَموا صالح الأعمال فقال:
﴿إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾.
ان الذين وفّقناهم لأتّباع الحق وعمل الخير، وسبقت لهم منّا البِشارة بالجنة، أولئك لا يدخلون النار ولا يقربونها، ولو أن بعضهم عُبد مِن دونِ الله كالمسيح بن مريم، فإنه لا دخْل له بعصيان من عَبده.
إنهم لا يسمعون صوت النار، وهم في سرور دائم وفيما تشتهيه انفسهم خالدون.
﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾.
لا يحزنهم الهولُ الأكبر الذي يخيف الكفار، وتستقبلهم الملائكةُ بالتهنئة البشرى بالنجاة، قائلين لهم: هذا هو اليوم الذي وعدكم اللهُ به.
﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾.
يوم نطوي السماءَ كام تُوطى الورقة في الكتاب، ونعيد الخلق الى الحساب والجزاء، وهو علينا هيّن، فكما بدأناهم نعيدُهم، قد وعدْنا بذلك وعداً حقا، لا بد من تحققه وإنا لذلك لفاعلون.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: للكتب بالجمع. وبالباقون: للكتاب بالمفرد.
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون﴾.
لقد كتب الله عنده وأثبتَ في قديم عِلمه، ثم أثبتَ في الكتب السماوية من بعدِ ذلك أن الارض لا يعمرها من عباده الا من يصلح لعمارتها، وهذه سُنة من سنن الله لا تتخلَّف ولا تتبدَّل. كما قال تعالى ايضا: ﴿إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨]، ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض﴾ [النور: ٥٥].
﴿إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
ان فيما ذكرنا من أخبار الأنبياء مع أقوامهم، وأخبار الجنة والنار - لكفايةً في التذكير والاعتبار لقوم يتعظون بالعبر وينتفعون بالنذر.
وما أرسلناك يا محمد بهذا الدِّين القويم، والقرآن الكريم الا رحمة عامة للعالمين.
﴿قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾.
قل يا محمد لمشركي قومك وللناس اجمعين، ان الله أوحى إلي أنه لا إله إلا هو اله واحد، فأسلموا اليه واخضعوا جميعا.
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾.
فإن أعرضوا عن اتباع دعوتك، فقل لهم: لقد أعلمتكم جميعاً برسالتي وما أمرني به ربي ولا أدري ما توعدون به من البعث والحساب أهو قريب أم بعيد.... إن علمه عند الله.
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾.
ان الله يعلم كل ما يقال مما تجهرون به وما تكتمون في أنفسكم.
﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾
وما أدري سببَ تأخير جزائكم، لعلّه اختبار لكم يمتحنكم به الله، ويؤخركم ليمتعكم بلذائذ الحياة الى حينٍ قدره الله بحسب حكمته.
وهنا في ختام هذه السورة يتوجه الرسول الى ربه وقد أدى الأمانة وبلّغ الرسالة فيطلب من ربه حكمه الحق بينه وبين قومه، ويستعينه على كيدهم وتكذيبهم.
﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾.
يا رب، احكُم بيني وبين من بلّغتم الوحيَ بالعدل، والله الرحمن هو المستعان به على ما تصفون من الشرك والضلال وما تزخرفون من أباطيل.