تفسير سورة النّور

نيل المرام تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة النور من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

سورة النور «١» آياتها أربع وستون آية
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: أنزلت سورة النور بالمدينة.
[الآية الأولى]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢).
الزَّانِيَةُ: الزّنا: هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح.
وقيل: هو إيلاج في فرج مشتهي طبعا محرم شرعا.
والزانية: هي المرأة المطاوعة للزنا، الممكنة منه كما تنبىء عنه الصيغة لا المكرهة. وكذلك وَالزَّانِي.
فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما «٢» : الجلد: الضرب، يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل
(١) قال القرطبي: مدنية بالإجماع، والمقصود من هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر (١٢/ ١٥٨).
(٢) قال أكثر أهل التفسير: هذا عام يراد به خاص. والمعنى: الزانية والزاني من الأبكار، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة.
وقال بعضهم: هو عام على كل من زنى، من بكر ومحصن، واحتجّ بحديث عبادة وبحديث عليّ- عليه السلام- أنه جلد شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة وقال: جلدتها بكتاب الله عز وجل ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اه.
وعلى هذا رأي أهل الظّاهر، قال ابن كثير: وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم برجم هذه المرأة- وهي
385
بطعنه إذا ضرب بطنه ورأسه إذا ضرب رأسه.
مِائَةَ جَلْدَةٍ: وهو حد الزاني الحر البالغ البكر وكذلك الزانية.
وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد وهو [تغريب] «١» عام «٢»، وبه قال الشافعي واختصه مالك بالرجل دون المرأة، وجعله أبو حنيفة إلى رأي الإمام.
وأما المملوك والمملوكة فجلد كل واحد منهما خمسون جلدة ولقوله سبحانه:
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: ٢٥]، وهذه نص في الإماء، وألحق بهن العبيد لعدم الفارق.
وأما من كان محصنا من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة وبإجماع أهل العلم، وبالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه وهو: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة «٣».
وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة «٤».
وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في ذلك في «شرحه للمنتقى» «٥».
وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء «٦».
ووجه تقديم الزانية على الزاني أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى
زوجة الرجل الذي استأجر الأجير فزنى بامرأته- ورجم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما عزا، والغامديّة، وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه جلدهم قبل الرجم، وإنها وردت الأحاديث الصحاح بالاقتصار على رجمهم، وليس فيها ذكر الجلد، وهذا مذهب جمهور العلماء اه. (ابن كثير ٦/ ٥)، ومعاني القرآن (٣/ ٤٩٥).
(١) حرّف في المطبوع إلى (تعذيب) وهو خطأ، وصوّبناه من فتح القدير (٤/ ٤).
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (١٦٩٠) : عن عبادة مرفوعا، قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
(٣) رواه البخاري (١٢/ ١٣٧)، ومسلم (١١/ ١٩١، ١٩٢) عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب.
(٤) قد بينّا هذا القول المأخوذ من حديث عبادة المتقدّم وهو رأي أهل الظّاهر، والصواب الراجح: قول الجمهور بأن هذا الحديث منسوخ لرجمه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما عزا والغامدية ولم يثبت أنه جمع لهما بين الجلد والرّجم.
قلت: وأما حديث علي فمحمول على أنه ظنّ أنها بكر فجلدها، ثم أخبر بأنها متزوجة فرجمها، فليس فيه حجة لأهل الظاهر.
(٥) انظر: نيل الأوطار (٧/ ٢٤٩، ٢٥٧).
(٦) هما الآيتان (١٥- ١٦) من السورة. [.....]
386
كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن وقيل: وجه التقديم أن المرأة هي الأصل في الفعل وقيل: لأن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب، وقيل: لأن العار فيهن أكثر إذ موضوعهن الحجبة والصيانة فقدم ذكرها تغليظا واهتماما.
والخطاب في هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل: للمسلمين أجمعين لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعا والإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامتها.
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ: هي الرقة والرحمة.
وقيل: هي أرق الرحمة.
ومعنى فِي دِينِ اللَّهِ: في طاعته وحكمه «١»، كما في قوله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف: ٧٦].
ثم قال مثبتا للمأمورين ومهيجا لهم:
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: كما يقول الرجل للرجل يحضه على أمر: إن كنت رجلا فافعل كذا أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحدود.
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) أي ليحضره زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما واشتهار فضيحتهما.
والطائفة: الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطواف. وأقل الطائفة ثلاثة، وقيل: اثنان، وقيل: واحد، وقيل: أربعة، وقيل: عشرة.
[الآية الثانية]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) «٢».
(١) قال مجاهد وعطاء والضحاك: أي في تعطيل الحدود. وانظر: الطبري (١٨/ ٦٧)، وابن كثير (٦/ ٦)، والدر المنثور (٥/ ١٨).
(٢) قال أبو جعفر النحاس: «في هذه الآية ثلاثة أحكام على القاذف: منها جلده، وترك قبول شهادته،
387
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ: استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة قذفا.
والمراد بالمحصنات النساء، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم.
ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة.
وقد جمع شيخ شيخنا الشوكاني في ذلك رسالة رد بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك.
وقيل: إن الآية تعم الرجال والنساء، والتقدير الأنفس المحصنات، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٢٤]، فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى.
وقيل: أراد بالمحصنات الفروج كما قال: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الأنبياء: ٩١]، فتتناول الآية الرجال والنساء تغليبا.
وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب.
والمراد بالمحصنات هنا العفائف. وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني.
وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة في كتب الفقه منها ما هو مأخوذ من دليل، ومنها ما هو مجرد رأي بحت.
وذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا حدّ على من قذف كافرا أو كافرة.
وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: إنه يجب عليه الحد وكذا ذهبوا إلى أن العبد يجلد أربعين جلدة.
وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة: يجلد ثمانين جلدة.
قال القرطبي «١» : وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما.
وتفسيقه. (معاني القرآن ٤/ ٥١٠).
(١) انظر: التفسير (١٢/ ١٩٧).
388
وقد ثبت في الصحيح عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إن من قذف مملوكة بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال».
ثم ذكر سبحانه شرطا لإقامة الحد على من قذف المحصنات، فقال:
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ: يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن.
ولفظ ثُمَّ يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف، وبه قال الجمهور وخالف في ذلك مالك.
وظاهر الآية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين وخالف في ذلك الحسن ومالك، [وإذا] «١» لم يكمل الشهود أربعة وأبوا قذفه يحدون حد القذف.
وقال الحسن والشعبي: لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة.
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً: الجلد: الضرب كما تقدم، والمجالدة: المضاربة في الجلود أو بالجلود ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما.
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً: أي فأجمعوا لهم بين الأمرين الجلد وترك قبول الشهادة، لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم بقوله:
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها «٢».
(١) حرف ما بين [] في المطبوع إلى (ما إذا) والصواب ما أثبت من فتح القدير (٤/ ٨).
(٢) اختلف في ردّ شهادة القاذف، فالجمهور على قبول شهادته إذا تاب، وقال الحنفية: لا تقبل شهادته ولو تاب وصار أصلح الصالحين، لقوله سبحانه: أَبَداً فإنها تفيد الدّوام والاستمرار.
وانظر: (القرطبي ١٢/ ١٧٩).
والقول الثاني: أن يكون الاستثناء من قوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي إلا من تاب، فإنه تقبل شهادته.
وهذا قول مسروق وعطاء ومجاهد، وطاووس.
ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك، وهذا قول أهل المدينة.
والقول الثالث: يروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة.
فإذا تاب وظهرت توبته لم يحدّ، وقبلت شهادته، وزال عنه التفسيق، لأنه قد صار ممّن يرض من الشهداء، وقد قال عز وجل: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
389
والفسق: هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية.
[الآيات: الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩).
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون بما رموهن به من الزنا «١».
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ: التي تزيل عنه حد القذف.
أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) : في ما رماها به من الزنا.
وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) : في ذلك.
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ: الدنيوي، وهو الحد.
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ: أي الزوج، لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨).
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ: الزوج، مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) فيما رماها به من الزنا.
وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونه أصل الفجور ومادته، ولأن النساء يكثرن اللعنة في العادة، ومع استكثارهن منها لا يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلاف الغضب.
[طه: ٨٢].
وبالجملة قال الفقهاء أن الحدّ لا يسقط عمّن قذف محصنا عفيفا باتفاق حتى ولو تاب، لأن التوبة لا تسقط عنه الحد، وإنما يسقط عنه الفسق وردّ الشهادة على خلاف بينهم في ذلك. وانظر:
البحر (٦/ ٤٣٢) وروح المعاني (١٨/ ١٠٢)، ومعاني القرآن للنحاس (٣/ ٥٠١، ٥٠٤)، وزاد المسير (٦/ ١٧)، واللباب (١٥٤)، والنكت للماوردي (٣/ ١١٣).
(١) ينظر خبر الإفك في: صحيح البخاري (٤٧٤٩) (٨/ ٣٠٦)، والفتح الرباني للساعاتي (١٨/ ٢١٨)، وجامع الأصول لابن الأثير (٢/ ٢٥٠)، والطبري (١٨/ ٦٨)، والنكت والعيون (٣/ ١١٣)، وزاد المسير (٦/ ١٧)، والقرطبي (١٢/ ١٩٧)، وابن كثير (٣/ ٢٦٨)، واللباب (١٥٤)، والدر المنثور (٥/ ٢٤)، والتفسير المأثور عن عمر بن الخطاب (ص ٥٦٦).
وفي الملاعنة أحاديث كثيرة «١».
وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب «٢» وعلي «٣» وابن مسعود «٤» قالوا: لا يجتمع المتلاعنان أبدا.
وقد بسطنا الكلام على ذلك في «شرحنا لبلوغ المرام» فليرجع إليه.
[الآية السابعة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ زجر الله سبحانه عن دخول البيوت بغير استئذان، لما في ذلك من مخالطة الرجال للنساء فربما يؤدي إلى الزنا أو القذف، فإن الإنسان يكون في بيته ومكان خلوته على حالة قد لا يجب أن يراه عليها غيره فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية هي قوله:
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا: الاستئناس: الاستعلام والاستخبار أي حتى تستعلموا من في البيت.
والمعنى: حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم، فإذا علمتم ذلك دخلتم.
وقيل: الاستئناس الاستئذان «٥».
(١) صحيح: رواه البخاري (٤٧٤٨)، (٣/ ١٤٨٤)، ومسلم (١٠/ ١٢٧) من حديث عبد الله بن عمر.
وانظر: الدر المنثور (٥/ ٢٤)، والتفسير المأثور عن عمر بن الخطاب (٥٦٤).
(٢) إسناده ضعيف: علته: انقطاع بين إبراهيم النخعي وعمر.
ورواه عن الرزاق في «المصنف» (١٢٤٣٣)، والبيهقي في «الكبرى» (٧/ ٤١٠).
(٣) إسناده ضعيف: علته قيس بن الرّبيع: صدوق تغيّر عند كبره، وأدخل عليه ما ليس من حديثه.
وعاصم بن أبي النّجود القارئ: حسن الحديث.
رواه عبد الرزاق (١٢٤٣٦)، والبيهقي (٧/ ٤١٠).
(٤) إسناده ضعيف: رواه عبد الرزاق في «المصنف» (١٢٤٣٤)، والبيهقي في «الكبرى» (٧/ ٤١٠)، وعلته في الضعف كسابقه.
(٥) قال مجاهد: هو التنحنح، والتّنخّم.
وقال الطبري: قال آخرون معنى الآية: حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم وما أشبهه،
وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها: قد بينه صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ مرة أو ثلاثا «١».
واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام أو العكس؟ فقيل: يقدم الاستئذان فيقول: أأدخل سلام عليكم، لتقديم الاستئناس في الآية على السلام.
وقال الأكثرون: إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول: السلام عليكم أأدخل؟
وهو الحق، لأن البيان منه صلّى الله عليه وآله وسلّم للآية كان هكذا.
وقيل: إن وقع بصره على إنسان قدم السلام وإلا قدّم الاستئذان.
ذلِكُمْ: أي الاستئناس والتسليم، أي دخولكم معهما.
خَيْرٌ لَكُمْ: من الدخول بغتة.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) : أن الاستئذان خير لكم، والمراد بالتذكر الاتعاظ والعمل بما أمروا به.
[الآية الثامنة]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠).
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ: خصّ للمؤمنين مع تحريمه على غيرهم، لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر بهم أحق بها من غيرهم وأولى بذلك ممن سواهم.
وقيل: إن في الآية دليلا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات. كما يقول بعض أهل العلم.
يَغُضُّوا معنى غض البصر: إطباق الجفن على العين بحيث يمنع الرؤية.
حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم (الطبري ١٨/ ١١١). [.....]
(١) حديث صحيح: رواه أبو داود (٥١٧٦)، والترمذي (٢٧١٠)، وأحمد في «المسند» (٣/ ٤١٤)، من حديث صفوان بن أمية مرفوعا.
وقال أبو عيسى: حسن غريب.
قلت: إن كان ابن جريج مدلسا، فقد صرّح بالسماع في روايته لهذا الحديث فزالت الشبهة في تدليسه.
392
مِنْ أَبْصارِهِمْ: هي التبعيضية وإليه ذهب الأكثرون وبينوه بأن المعنى غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل.
وقيل: وجه التبعيض أنه يعفى للناظر أول نظرة تقع من غير قصد، وقيل غير ذلك «١».
وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه.
و: معنى: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ: أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم.
وقيل: المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا يحل له رؤيتها. ولا مانع من إرادة المعنيين، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج.
وقيل: وجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر، فإنه لا يحرم منه إلا ما استثنى، بخلاف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه، فإنه لا يحل منه إلا ما استثنى.
وقيل: الوجه أن غض البصر كله كالمتعذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق. والإشارة بقوله:
ذلِكَ إلى ما ذكر من الغض والحفظ وهو مبتدأ وخبره.
أَزْكى لَهُمْ: أي أطهر لهم من دنس الريبة وأطيب من التلبس بهذه الدنية.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) : لا يخفى عليه شيء من صنيعهم، وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه.
(١) قال جرير بن عبد الله: سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك» رواه مسلم (٦/ ١٨١)، وأبو داود (٨/ ٦١)، والترمذي (٢٩١٦) وأحمد (٤/ ٣٦١) وانظر: الطبري (١٨/ ١١٧)، والسيوطي في الدر (٥/ ٤٠) وكذلك المشكل لمكي (٢/ ١٢٠)، والتبيان (٢/ ١٥٥)، وزاد المسير (٦/ ٣٠).
393
[الآية التاسعة] وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١).
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ: خص الله سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد، لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليبا، كما في سائر الخطابات القرآنية. وظهر التضعيف في (يغضضن) ولم يظهر في يَغُضُّوا لأن لام الفعل من الأول متحركة، ومن الثاني ساكنة، وهما في موضع جزم جوابا للأمر.
وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج، والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه.
ومعنى يغضضن كمعنى يغضوا فيستدل به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهن، وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ: أي ما يتزيّن به من الحلية وغيرها، وفي النهي عن إبداء الزينة نهي عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى، ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال:
إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها: واختلف الناس في ظاهر الزينة ما هو؟
فقال ابن مسعود وسعيد بن جبير: وهو الثياب، وزاد سعيد الوجه.
وقال عطاء والأوزاعي: الوجه والكفان.
وقال ابن عباس وقتادة والمسوّر بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك فإنه يجوز للمرأة أن تبديه.
وقال ابن عطية: إن المرأة لا تبدي شيئا من الزينة وتخفي كل شيء من زينتها، ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة، ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني
394
النهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما مما على الكف والقدمين من الحلية ونحوها، وإن كان المراد بالزينة مواضعها كان الاستثناء راجعا إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك.
وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها لفحوى الخطاب، فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين، وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح والاستثناء يكون من الجمع «١».
(١) فائدة: نذكر تحقيقا مختصرا في تفسير هذه الآيات من كلام بعض أهل التفسير فنقول:
١- قال الحافظ ابن الجوزي في زاد المسير: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي لا يظهر منها لغير محرّم، وزينتهنّ على ضربين خفية كالسوارين والقرطين والقلائد ونحو ذلك.
وظاهرة: وهي المشار إليها بقوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وفيه سبعة أقوال:
أحدها: أنها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه، وفي لفظ آخر هو الرّداء.
الثاني: أنها الكف والخاتم والوجه.
الثالث: الكحل والخاتم، ورواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وأخذ ابن الجوزي في سرد الأقوال الواردة والمروية في ذلك إلى أن قال: الوجه والكفان، قاله الضحاك.
قال القاضي أبو يعلى: والقول الأول أشبه، يعني ما ورد عن ابن مسعود أنها الثياب، وفي لفظ الرداء.
وقد نصّ عليه أحمد فقال: الزّينة الظاهرة الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظّفر، ويقيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فإنه ينظر في الحالتين إلى وجهها خاصّة، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز، لا لشهوة ولا لغيرها، وسواء في ذلك الوجه والكفّان وغيرهما من البدن.
فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟
فالجواب: إن في تغطيته مشقة فعفى عنه.
وانظر: زاد المسير (٦/ ٣٢، ٢٣٦).
٢- الحافظ ابن كثير صدّر كلامه بقول ابن مسعود بأن تفسير إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها هو الرداء والثياب، لأنهما لا يمكن إخفاؤهما حسب عادات العرب مما سلف، ونقل عن الحسن البصري وابن سيرين وأبي الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم أنهم قالوا بقول ابن مسعود، وذكر في رواية عن ابن مسعود أن الزّينة زينتان: زينة لا يراها إلا الزّوج وهي الخاتم والسوار، وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب.
وقال ابن كثير: ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور.. وانظر: تفسير ابن كثير (٣/ ٢٨٢، ٢٨٥).
٣- الحافظ شيخ الإسلام ابن جرير الطبري: ابن جرير هو شيخ المفسرين ومع ذلك فهو من أشهر القائلين بجواز كشف الوجه والكفين، فقد نقل عدة روايات عن ابن مسعود وعن الحسن
395
قال القرطبي في «تفسيره» «١» : الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة، والمكتسبة ما تحاوله المرأة من تحسين خلقها كالثياب والحلي والكحل والخضاب. ومنه قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: ٣١]، وقول الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ: الخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها.
والجيوب: جمع جيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، مأخوذ من الجوب وهو القطع.
قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة، فكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على
وابن عباس وغيرهم تفيد الجواز في كشف الوجه والكفين، واختار هذا القول.
فقد قال رحمه الله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ولا يظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهن وهما زينتان: إحداهما ما خفي، وذلك كالخلخال والسوارين، والأخرى: ما ظهر منها، وذلك مختلف في المعنى منه.
ثم أسرد قول القائلين بأن المراد بالزينة الثياب الظاهرة كما روى عن ابن مسعود من عدة روايات، وقول الحسن بأنها الثياب، وعبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود أنه قال: الرداء.
ثم قال رحمه الله وقال آخرون: الظاهر من الزينة التي أبيح لها أن تبديه الكحل والخاتم والسواران والوجه.
وذكر قول سعيد بن جبير عن ابن عباس، وكذلك رواية عبد الله بن هرمز عن سعيد بن جبير أنه فسّر إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها بالوجه والكف.
وبالجملة فترى الروايات التي ذكر ابن جرير تفسر ما ظَهَرَ مِنْها بالزينة الظاهرة من الكحل والخاتم والقرط والسوار، أو بالثياب والرداء كابن مسعود، وبالوجه والكفين كسعيد بن جبير وابن عباس.
ثم اختار ابن جرير قائلا:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال، عني بذلك الوجه والكفّين، يدخل في ذلك إذا كان كذلك الكحل والخاتم والسوار والخضاب.
وعلل الطبري ذلك بقوله: لو كان الوجه عورة لما كشفته في الصلاة. وانظر: الطبري (١٨/ ٩٢، ٩٦).
(١) انظره في (١٢/ ٢٢٩).
396
الجيوب ليسترن بذلك ما كان يبدو، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق، وقد فسّر الجمهور الجيوب بما ذكرنا وهو المعنى الحقيقي.
وقال مقاتل: إن معنى عَلى جُيُوبِهِنَّ: على صدورهن فيكون في الآية مضاف محذوف، أي على مواضع جيوبهن «١».
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ: البعل: هو الزوج والسيد في كلام العرب، وقدم البعولة لأنهم المقصودون بالزينة ولأن كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم، ومثله قوله سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) [المؤمنون: ٥- ٦].
أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ فجوز للنساء أن يبدين الزينة لهؤلاء لكثرة المخالطة وعدم خشية الفتنة، لما في الطباع من النفرة عن القرائب.
وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما: أنهما كانا لا ينظران إلى أمهات المؤمنين، ذهابا منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي قوله: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الأحزاب: ٥٥]، والمراد بأبناء بعولتهن ذكور أولاد الأزواج، ويدخل في قوله: أَبْنائِهِنَّ أولاد الأولاد- وإن سفلوا- وأولاد بناتهن- وإن سفلوا- وكذلك آباء البعولة وآباء الآباء وآباء الأمهات- وإن علوا- وكذلك أبناء أبناء البعولة- وإن سفلوا- وكذلك الإخوة والأخوات.
وذهب الجمهور إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم، وليس في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب، وقال الشعبي وعكرمة: ليس العم والخال من المحارم.
أَوْ نِسائِهِنَّ: هي المختصات بهن الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة، ويدخل في ذلك الإماء، ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لهن أن يبدين زينتهن لهن لأنهن لا يتحرجن من وصفهن للرجال، وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات.
(١) انظر: الطبري (١٨/ ٩٢)، وزاد المسير (٦/ ٣٦)، والنكت (٣/ ١٢٢)، ومعاني النحاس (٤/ ٥٢٥، ٥٢٧).
397
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ: ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين أو كافرين، وبه قال جماعة من أهل العلم، وإليه ذهبت عائشة وأم سلمة وابن عباس ومالك.
وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد.
وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وهو قول عطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين، وروي عن ابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة وابن جريج.
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ: المراد بهم الذين يتبعون القوم فيصيبوا من طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء. قاله مجاهد وعكرمة والشعبي.
وأصل الإربة والأرب والمأربة: الحاجة والجمع مآرب.
قيل: المراد بغير أولي الإربة الحمقاء الذين لا حاجة لهم في النساء.
وقيل: البله، وقيل: العنّين.
وقيل: الخصي. وقيل: المخنث «١».
وقيل: الشيخ الكبير. ولا وجه لهذا التخصيص بل المراد بالآية ظاهرها وهم من يتبع أهل البيت ولا حاجة له في النساء ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال، فيدخل في هؤلاء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ: الطفل: يطلق على المفرد والمثنى والمجموع والمراد به هنا الجنس الموضوع موضع الجمع بدلالة وصفه بوصف الجمع.
وفي مصحف أبيّ أَوِ الطِّفْلِ على الجمع، يقال للإنسان: طفل ما لم يراهق الحلم.
(١) قال في «المصباح» : الإرب والإربة بالكسر: الحاجة، والإرب بالكسر يستعمل في الحاجة، وفي العضو، والجمع: آراب مثل حمل وأحمال، وفي الحديث: «كان أملككم لإربه» أي لنفسه عن الوقوع في الشهوة. اه.
وانظر: نهاية ابن الأثير (١/ ٣٦).
398
ومعنى لم يظهروا: لم يطلعوا، من الظهور بمعنى الاطلاع. كذا قال ابن قتيبة.
وقيل: معناه لم يبلغوا حد الشهوة. قاله الفراء والزجاج «١».
واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدى الوجه والكفين من الأطفال؟
فقيل: لا يلزم لأنه لا تكليف عليه وهو الصحيح.
وقيل: يلزم لأنه قد يشتهي المرأة.
وهكذا اختلف في عورة الشيخ الكبير الذي قد سقطت شهوته، والأولى بقاء الحرمة كما كانت، فلا يحل النظر إلى عورته ولا يحل له أن يكشفها.
وقد اختلف العلماء في حد العورة؟
قال القرطبي «٢» : أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجال والمرأة، وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها- على خلاف في ذلك.
وقال الأكثر: إن عورة الرجل من سرته إلى ركبتيه.
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ: أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال، فيعلمون أنها ذات خلخال.
قال الزجاج: وسمع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها.
[ثم] «٣» أرشد عباده إلى التوبة من المعاصي فقال سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: فيه الأمر بالتوبة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة.
وقيل: إن المراد بالتوبة التناهي عما كانوا يعملونه في الجاهلية. والأول أولى لما تقرر في السنة من: «أن الإسلام يجب ما قبله».
(١) قال القرطبي (١٢/ ٢٣٦) : لَمْ يَظْهَرُوا أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن، وقيل: لم يبلغوا أن يطيقوا النساء، يقال: ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت على كذا أي قهرته اه.
(٢) في «تفسيره» (١٢/ ٢٣٧).
(٣) ما بين [المعقوفين] زيادة لتمام السياق.
399
[الآية العاشرة] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢).
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ: الأيّم: التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، والجمع أيامى «١».
والأيّم: بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة.
قال أبو عبيد: يقال رجل أيّم وامرأة أيّم، وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال، والخطاب في الآية للأولياء.
وقيل: للأزواج. والأول أرجح.
وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة «٢».
واختلف أهل العلم في النكاح: هل هو مباح؟ أو مستحب؟ أو واجب؟ فذهب
(١) قال الضحاك: هنّ اللّواتي لا أزواج لهن، يقال: رجل أيّم، وامرأة أيّم.
(٢) قال القنوجي المصنف في «الروضة الندية» (٢/ ٣، ٤) ! بعد أن سرد أدلة مشروعية النكاح أقول:
الحاصل أن من كان محتاجا إلى النكاح أو كان فعله له أولى من تركه من دون احتياج فلا ريب أن أقل الأحوال أن يكون في حقه مندوبا للأدلة الواردة فيه.
ومن لم يكن محتاجا إليه ولا كان فعله أولى له كالحصور والعنين فقد يكون مكروها، إذا كان يخشى الاشتغال عن الطاعات من طلب العلم أو غيره مما يحتاج إليه أهله. أو كانت المرأة تتضرر بترك الجماع من دون أن تقدم على المعصية، وأما إذا كان في غنية بحيث لا يشتغل عن الطاعات، وكانت المرأة لا تتضرر بترك الجماع، ولا يحصل له بالنكاح نفع فيما يرجع إلى الباءة، فالظاهر أنه مباح، وإن لم يأت من الأدلة ما يقتضي هذه التفاصيل فثمّ أدلة أخرى تقتضيها وقواعد كلية، ولو قيل: أنه لا يكون في تلك الصورة مباحا، بل مكروها لما ورد في العزبة والعزلة آخر الزمان لم يكن بعيدا من الصواب اه.
وقال تقي الدين الحصني رحمه الله: «وفي الحديث الأمر بالنكاح لمن له استطاعة وتاقت نفسه إليه وهو أمر ندب عند الشافعية وكافة العلماء، قاله النووي.
وعند أحمد يلزمه الزواج أو التسري إذا خاف العنت وهو الزنا، وهو وجه لنا، وحجة من قال بعدم الوجوب قوله عز وجل: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣] أناط الحكم باحتبارنا واستطابتنا، والواجب ليس كذلك.. (كفاية الأخيار ص ٣٤٦) ط. دار الخير دمشق.
وانظر: مغني المحتاج للشربيني (٣/ ١٢٥، ١٢٦).
400
إلى الأول الشافعي وغيره «١».
وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة.
وإلى الثالث بعض أهل العلم- على تفصيل لهم في ذلك. فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه وإلا فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية.
وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح: «ومن رغب عن سنتي فليس مني» «٢»، ولكن مع القدرة عليه وعلى مؤنه.
والمراد بالأيامى هنا: الأحرار والحرائر، وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله:
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ: والصلاح: هو الإيمان. وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك.
وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه، وإنما يزوجه مالكه.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح.
وقال مالك: لا يجوز. ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: أي لا يمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل أو المرأة أو أحدهما فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك.
قال الزجاج: حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ولا يلزم أن هذا يكون حاصلا لكل فقير إذا تزوج، فإن ذلك مقيد بالمشيئة. وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا.
وقيل: المعنى أنه يغنيه بغنى النفس.
وقيل: المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى.
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ١٠٤)، ومسلم (٩/ ١٧٥، ١٧٦) عن أنس مرفوعا.
(٢) انظر: البحر المحيط (٦/ ٤٥١)، والطبري (١٨/ ١٢٧)، والقرطبي (١٢/ ٢٤٥)، وابن الجوزي (٦/ ٣٧). [.....]
401
ويدل عليه قوله سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: ٢٨]، فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك.
وجملة: وَاللَّهُ واسِعٌ: مؤكدة لما قبلها مقررة لها، والمراد أنه سبحانه ذو سعة لا ينقص من سعة ملكه من يغنيه من عباده.
عَلِيمٌ (٣٢) بمصالح خلقه، يغني من يشاء ويفقر من يشاء «١».
[الآية الحادية عشرة] وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣).
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ: المكاتبة في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما، فإذا أداه فهو حر.
وظاهر قوله: فَكاتِبُوهُمْ أن العبد إذا طلب المكاتبة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعد، وهو:
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً: والخير: هو القدرة على أداء ما كوتب عليه وإن لم يكن له مال.
وقيل: هو المال فقط، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاووس ومقاتل.
وذهب إلى الأول ابن عمر وابن زيد، واختاره مالك والشافعي والفرّاء والزجاج.
قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال.
وقال الزجاج: لما قال فيهم كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة.
(١) انظر: الطبري (١٨/ ١٢٩)، وابن كثير (٦/ ٥٦، ٥٧)، والقرطبي (١٢/ ٢٥١)، وزاد المسير (٦/ ٣٧).
402
وقال النخعي: إن الخير: الدين والأمانة، وروي مثل هذا عن الحسن.
وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة.
قال الطحاوي: وقول من قال: إنه مال، لا يصح عندنا لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال! قال: والمعنى عندنا إن علمتم فيهم خيرا أي الدين والصدق.
قال أبو عمرو بن عبد البر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال: إن علمتم فيهم مالا، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال: علمت فيه المال. هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في الآية.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه قد ذهب إلى ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور من الوجوب عكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك وأهل الظاهر فقالوا: يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيرا.
وقال الجمهور من أهل العلم: لا يجب ذلك، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ولم يجبر عليه فكذا الكتابة لأنها معاوضة.
ولا يخفى عليك أن هذه حجة واهية وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأولون، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره ابن جرير «١».
ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين فقال:
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ: ففي هذا أمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة: إما بأن يعطوهم شيئا من المال، أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه.
وظاهر الآية عدم تقرير ذلك بمقدار. وقيل: الثلث وقيل: الربع، وقيل: العشر. ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم وسياق الكلام معهم فإنهم المأمورون بالكتابة.
وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: وَآتُوهُمْ لجميع الناس.
(١) انظر الطبري (١٨/ ١٢٩)، وابن كثير (٦/ ٥٦، ٥٧)، والقرطبي (١٢/ ٢٥١)، وزاد المسير (٦/ ٣٧).
403
وقال زيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم، كما في قوله سبحانه: وَفِي الرِّقابِ [البقرة: ١٧٧].
وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة.
ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال:
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ: والمراد بالفتيات هنا الإماء، وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر.
والبغاء: الزنا مصدر بغت المرأة تبغا بغاء إذا زنت. وهذا مختص بزنا النساء فلا يقال للرجل إذا زنا: إنه بغى.
وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً: لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادتهن للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها: مكروهة على الزنا.
والمراد بالتحصن هنا: التعفف والتزوج.
وقيل: إن هذا القيد راجع إلى الأيامى، وفي الكلام تقديم وتأخير.
وقيل: هذا الشرط ملغى.
وقيل: هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه، فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف. وليس تخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف.
وقيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن. وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ولا للحرام، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح والصغيرة، فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن، إلا أن يقال: إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد! فقد قال الحبر ابن عباس: إن المراد بالتحصن التعفف والتزوج، وتابعه على ذلك غيره «١».
(١) انظر أقوال أهل التفسير في: القرطبي (١٢/ ٢٥٥).
404
ثم علل سبحانه هذه النهي بقوله: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا: وهو ما تكتسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل خارج مخرج الغالب.
والمعنى أن هذا الغرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا فائدة له أصلا ولا يصدر مثله عن العقلاء.
فلا يدل هذا التعليل على أنه لا يجوز له أن يكرهها إذا لم يكن مبتغيا بإكراهها عرض الحياة الدنيا.
وقيل: إن هذا التعليل للإكراه من اعتبار أن عادتهم كانت كذلك لا أنه مدار النهي عن الإكراه لهن وهذا يلاقي المعنى الأول ولا يخالفه.
وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) هذا مقرر لما قبله ومؤكد له «١».
والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير «٢» : فإن الله غفور رحيم (٣٣) لهن.
قيل: وفي هذا التفسير بعد لأن المكرهة على الزنا غير آثمة؟
وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة، إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار.
وقيل: إن المعنى فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم، إما مطلقا أو بشرط التوبة.
[الآية الثانية عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨).
(١) انظر الطبري (١٨/ ١٣٥).
(٢) انظر: المحتسب لابن جني (٢/ ١٠٨)، وقد عدّ هذه القراءة لهنّ غفور رحيم من القراءات الشاذّة، وإنما هي كتفسير للآية.
405
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: الخطاب للمؤمنين ويدخل المؤمنات فيه تغليبا كما في غيره من الخطابات.
قال العلماء: هذه الآية خاصة ببعض الأوقات.
واختلفوا في المراد بقوله: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ: على أقوال:
الأول: أنها منسوخة. قاله سعيد بن المسيب.
وقال سعيد بن جبير: إن الأمر فيها للندب لا للوجوب.
وقيل: كان ذلك واجبا حيث كانوا لا أبواب لهم ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس «١».
وقيل: إن الأمر هاهنا للوجوب، وأن الآية محكمة غير منسوخة، وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء.
ولما سئل الشعبي عنها: أمنسوخة هي؟ قال: لا والله! فقال السائل: إن الناس لا يعملون بها؟ قال: الله المستعان.
وقال القرطبي «٢» : وهو قول أكثر العلماء، وقال أبو عبد الرحمن السلمي: إنها خاصة بالنساء.
وقال ابن عمر: هي خاصة بالرجال دون النساء.
والمراد بقوله: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ: العبيد والإماء.
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ: أي من الأحرار.
ومعنى ثَلاثَ مَرَّاتٍ: ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، وعبّر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو سبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات. وانتصاب ثلاث على الظرفية الزمانية، أي في ثلاث أوقات، أو
(١) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٣١٨).
(٢) انظر تفسيره: (١٢/ ٣٠٣).
406
منصوب على المصدرية أي ثلاثة استئذانات.
ورجح هذا أبو حيان فقال: والظاهر من قوله ثلاث مرات ثلاث استئذانات لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات. ويرد بأن الظاهر هنا متروك لقرينة التفسير بالثلاثة الأوقات.
فقال: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، وربما يبيت عريان أو على حالة لا يحب أن يراه غيره فيها.
وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ. و (من) في قوله: مِنَ الظَّهِيرَةِ: للبيان، أو بمعنى في، أو بمعنى اللام، والمعنى حين وضعكم ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حرّ الظهيرة، وذلك عند انتصاف النهار فإنهم قد يتجردون عن الثياب لأجل القيلولة.
ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ: وذلك لأنه وقت التجرد من الثياب والخلوة بالأهل «١».
ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل فقال: ثَلاثُ عَوْراتٍ: كائنة، لَكُمْ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ: يا أهل البيوت.
وَلا عَلَيْهِمْ: أي المماليك والصبيان.
جُناحٌ: أي إثم في الدخول بغير استئذان، لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والاطلاع على العورات.
ومعنى بَعْدَهُنَّ بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منها. وهذه الجملة مستأنفة مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ الجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان.
قال الفراء: هذا كقولك في الكلام: هم خدمكم وطوافون عليكم، أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم.
(١) انظر: ابن جرير (١٨/ ١٦٢)، وابن كثير (٦/ ٨٩، ٩٠)، والقرطبي (١٢/ ٣٠٣)، والدر المنثور (٥/ ٥٦).
407
بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي بعضكم يطوف أو طائف على بعض «١».
والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه: العبيد على الموالي، والموالي على العبيد، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها. والإشارة بقوله:
كَذلِكَ، إلى مصدر الفعل الذي بعده كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز، أي مثل ذلك التبيين.
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ: الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ كثير العلم بالمعلومات.
حَكِيمٌ (٥٨) : كثير الحكمة في أفعاله.
[الآية الثالثة عشرة]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠).
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً: أي العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر، واحدتها قاعد بلا هاء، ليدل حذفها على أنه قعود الكبر.
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ: التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه، لا الثياب التي على العورة الخاصة. وإنما جاز لهن ذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا رغبة للرجال فيهن، فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن.
ثم استثنى حالة من حالاتهن فقال: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ: أي غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: ٣١]، والمعنى من غير أن يردن بإظهار مواضع الجلابيب إظهار زينتهن ولا متعرضات بالتزين لينظر إليهن الرجال.
(١) انظر: معاني الفراء (٢/ ٢٩٠)، والسبعة لابن مجاهد (ص ٤٥٩)، والكشاف (٢/ ٨٧)، والمجاز لأبي عبيدة (٢/ ٦٩)، والقرطبي (١٢/ ٣٠٩)، والدر المنثور للسيوطي (٥/ ٥٧).
408
والتبرج: التكشف والظهور للعيون.
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ: أي وأن يتركن وضع الثياب مطلقا فهو:
خَيْرٌ لَهُنَّ: من وضعها «١».
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) أي كثير السماع والعلم أو بليغهما «٢».
[الآية الرابعة عشرة] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١).
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ: اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي محكمة؟ أو منسوخة؟ قال بالأول جماعة من العلماء، وبالثاني جماعة.
وقيل: إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يحرجون من ذلك وقالوا: لا ندخلها وهم غيّب، فنزلت هذه الآية رخصة لهم.
فمعنى الآية نفي الحرج عن الزمنى وفي أكلهم من بيوت أقاربهم وبيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو.
قال النحاس: وهذا القول من أجل ما روي في الآية لما فيه عن الصحابة والتابعين
(١) قال في «التسهيل» (٣/ ١٥٥) :«أباح الله لهذا الصنف من العجائز، ما لم يبح لغيرهن من وضع الثياب، قال ابن مسعود: إنما أبيح لهن وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، وإنما أبيح لهن وضع الثياب بشرط ألا يقصدن إظهار الزينة، تلتزمه الشابّات من الستر اه.
(٢) وانظر: الطبري (١٨/ ١٦٧)، والقرطبي (١٢/ ٣٠٩).
409
من التوقيف «١».
وقيل: إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرجون عن مواكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم فنزلت.
وقيل: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه.
وقيل: المراد بهذا الحرج المرفوع عن هؤلاء هو الحرج في الغزو: أي لا حرج على هؤلاء في تأخرهم عن الغزو، وقيل: كان الرجل إذا أدخل أحدا من هؤلاء الزمناء إلى بيته، فلم يجد فيه شيئا يطعمهم إياه، ذهب بهم إلى بيوت قرابته فيتحرج الزمناء من ذلك فنزلت الآية.
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ: أي ولا حرج عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين.
أَنْ تَأْكُلُوا: أنتم ومن معكم.
والحاصل أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مواكلة الأصحاء أو دخول بيوتهم فيكون وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ متصلا بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر وعدم العرج وعدم المرض فقوله: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ابتداء كلام غير متصل بما قبله.
ومعنى: مِنْ بُيُوتِكُمْ: البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم، فتدخل بيوت الأولاد، كذا قال المفسرون. لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته، ولذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد وذكر غيرها فقال:
أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ: قال النحاس: وعارض بعضهم هذا فقال: هذا تحكم على كتاب الله سبحانه!! بل الأولى، في الظاهر، أن يكون الابن مخالفا لهؤلاء «٢».
(١) انظر: الطبري (١٨/ ١٦٩)، والفراء (٢/ ٢٩١)، ومعاني النحاس (٤/ ٥٥٨)، وابن كثير (٦/ ٩٣)، والقرطبي (١٢/ ٣١٢)، والبحر المحيط (٦/ ٤٧٤)، والألوسي (١٨/ ١٢٨)، والدر المنثور (٥/ ٥٨).
(٢) انظر: معاني النحاس (٤/ ٥٥٨، ٥٥٩).
410
ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد، بالنسبة إلى الآباء، لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث: «أنت ومالك لأبيك» «١»، وحديث: «ولد الرجل من كسبه» «٢».
ثم قد ذكر الله سبحانه هنا بيوت الإخوة والأخوات، بل الأعمام والعمات، بل الأخوال والخالات، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء ولا ينفيه عن بيوت الأولاد؟! وقيد بعضهم جواز الأكل من بيوتهم كلهم بالإذن منهم.
وقال آخرون: ولا يشترط الإذن. قيل: وهذا إذا كان الطعام مبذولا وإن كان محرزا دونهم لهم أكله.
ثم قال سبحانه: أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ: أي البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها وذلك كالوكلاء والعبيد والخزان فإنهم يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وأعطاهم مفتاحه. وقيل: المراد بها بيوت المماليك.
والمفاتح: جميع مفتح «٣».
أَوْ صَدِيقِكُمْ: وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه، والصديق يطلق على الواحد والجمع.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً: جمع شتّ بمعنى التفرق يقال: شت القوم أي تفرقوا. وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله، أي ليس عليكم جناح أن تأكلوا مجتمعين أو مفترقين.
(١) حديث صحيح: رواه ابن ماجة (٢٢٩١)، والطحاوي في «الشرح» (٤/ ١٥٨)، (٦١٥٠)، وفي «المشكل» (٢/ ٢٣٠) وانظر: تخريجنا له في «بر الوالدين» للطرطوشي- ط- دار الكتب العلمية- بيروت. [.....]
(٢) حديث صحيح: رواه أحمد (٦/ ٣١، ٤١، ١٢٧، ١٩٣، ٢٠١) وأبو داود (٣٥٢٨)، والترمذي (١٣٥٨)، وابن ماجة (٢٢٩٠)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (١/ ٤٠٦، ٤٠٧) والدارمي (٢/ ٢٤٧)، والحاكم (٢/ ٤٦)، وقال أبو عيسى: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح، ووافقه الذهبي.
(٣) انظر: ابن كثير (٦/ ٦٣)، والبحر المحيط (٦/ ٤٧٤)، وروح المعاني (١٨/ ٢١٩)، والقرطبي (١٢/ ٣١٣)، والتسهيل (٣/ ١٥٥).
411
وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلا يؤاكله فيأكل معه، وبعض العرب كان لا يأكل إلا مع الضيف فنزل: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أي غير البيوت التي تقدم ذكرها، وهذا بيان أدب آخر أدّب به عباده.
فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ: أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم.
وقيل: المراد البيوت المذكورة سابقا.
وعلى القول الأول فقال الحسن والنخعي: هي المساجد، والمراد سلموا على من فيها من صنفكم، فإذا لم يكن في المساجد أحد فقيل: يقول: السلام على رسول الله، وقيل: يقول: السلام عليكم مريدا للملائكة وقيل: يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال بالقول الثاني- أعني أنها البيوت المذكورة سابقا- جماعة من الصحابة والتابعين. وقيل: المراد بالبيوت هنا هي جميع البيوت المسكونة وغيرها، فيسلم على أهل المسكونة. وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه.
قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح «١».
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً: أي تطيب بها نفس المستمع.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) : تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها.
[الآية الخامسة عشرة] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢).
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ: أي المؤمنين يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
(١) انظر: الطبري (١٨/ ١٧٤)، والبحر (٦/ ٤٧٤)، والقرطبي (١٢/ ٣١٨)، وزاد المسير (٦/ ٦٧).
412
لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ: أي الأمور التي تهمهم.
فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وامنع من تشاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها.
ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم بقوله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ: فيه إشارة إلى أن الاستئذان، وإن كان بقدر مسوغ، فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) : أي كثير الرحمة والمغفرة بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية.
قال المفسرون: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء منهم.
قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده.
قال الزجاج: أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلا بإذنه وللإمام أن يأذن وله أن لا يأذن على ما يرى، لقوله: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ.
قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن «١».
(١) انظر: الطبري (١٨/ ١٧٧)، وابن الجوزي (٦/ ٦٨)، وابن كثير (٦/ ٩٦)، والفراء (٢/ ٢٦٢)، وابن عطية (١٠/ ٥٥٦).
413
Icon