تفسير سورة سورة الحديد من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الحديد
آياتها تسعة وعشرون وأربع ركوعات وهي مدنية
ﰡ
﴿ سبح لله ﴾ ذكر هاهنا وفي الحشر والصف بلفظ الماضي وفي الجمعة التغابن بلفظ المضارع إشعارا بأن التسبيح لله تعالى من مخلوقاته مستغرق بجميع الأوقات لا يختلف باختلاف الحالات ومجيء المصدر مطلقا في بني إسرائيل أبلغ في هذه الدلالة والتسبيح يتعدى بنفسه لأن معناه التنزيه والتبعيد من السوء منقول من سيح إذا ذهب وبعد وقد يتعدى باللام مثل نصحته ونصحت له، وجاز أن يكون تعديته باللام للإشعار بأن إيقاع الفعل ثبت لأجل الله خالصا لوجهه الكريم ﴿ ما في السماوات والأرض ﴾ يعم ذوي العقول وغيرهم وقيل المراد منه ما يأتي منه التسبيح ويصح وقيل المراد بالتسبيح من الجمادات ونحوها التسبيح الحالي يعني دلالتها على تنزه الصانع عن السوء والصحيح أن شيئا من الموجودات لا يخلو عن نوع من الحياة والعلم كما حققناه في تفسير سورة البقرة في قوله تعالى :﴿ وإن منها لما يهبط من خشية الله ﴾ فالتسبيح منها مقالي أيضا ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ حال يشعر بما هو المبتدأ. للتسبيح
﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾ فإنه هو الموجد لها والمتصرف فيها والجملة إما حال من مفعول سبح أو مستأنفة ﴿ يحي ويميت ﴾ استئناف أو خبر لمحذوف أي هو أو حال من المجرور في له ﴿ وهو على كل شيء ﴾ من الإحياء والإماتة وغيرهما ﴿ قدير ﴾ تام القدرة
﴿ هو الأول ﴾ قبل كل شيء ليس قبله شيء فإنه هو الموجود للأشياء محدثها كلها ﴿ والآخر ﴾ الباقي بعد فناء الأشياء ولو بالنظر إلى ذاتها قطع النظر عن غيرها فإن وجوده تعالى أصل لا يحتمل الانفكاك والزوال وجود غير مستعار في حكم الله وجود بالنظر إلى ذاته فهو الآخر بعد كل شيء ليس بعده شيء ﴿ والظاهر ﴾ فوق كل شيء ليس فوقه في الظهور شيء فإن منشأه الظهور الوجود ولا ظهور للمعدوم ووجوده كل شيء مستفاد منه وظل لوجوده فظهور كل شيء فرع لظهوره غير أنه تعالى لكمال ظهوره وشعشان بوجوده اختفى عن الأبصار لقصورها كما اختفى الشمس عن عين الخفاش واختفى الشمس أيضا في نصف النهار لشدة الظهور وكمال النور عن أعين الناس فمن أدنى تميز يعترف بوجوده تعالى : حتى الصبيان والمجانين كما يعترف الناس لوجود الشمس في النهار ﴿ والباطن ﴾ لكمال ظهوره وأيضا باطن كنه ذاته دون كل شيء ليسدونه شيء حتى عجز عمن دركه بصائر أولي الأبصار من النبيين والصديقين الأخيار.
روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أبي هريرة وأبو يعلى الموصلي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول وهو مضطجع ﴿ اللهم رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا عن الفقر ﴾ قال البغوي وسئل عمر رضي الله عنه عن هذه الآية فقال معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر علمه بالظاهر كعلمه بالباطن ﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ يستوي عند الظاهر والخفي
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ﴾ هذا من المتشابهات والأسلم فيه تفويض تأويله إلى الله تعالى والإيمان بما أراد ﴿ يعلم ما يلج في الأرض ﴾ كالندور والمعادن والأموات عند الحشر ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ كالأمطار والملائكة والأحكام والبركات ﴿ وما يعرج فيها ﴾ كالأبخرة والملائكة بأعمال العباد وأرواحهم ﴿ وهو معكم ﴾ معية غير متكفية ﴿ أين ما كنتم ﴾ فإن نسبة جميع الأمكنة إلى الله تعالى على السواء ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ فيجازيكم عليه
﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾ ذكره مع الإعادة كما ذكر مع الإبداء لأنه كالمقدمة لهما
﴿ وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾ بأن ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر
﴿ وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾ بأن ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر
﴿ وهو عليم بذات الصدور ﴾ أي بمكنوناتها ذكر السيوطي في جمع الجوامع عن علي رضي الله عنه في الدعاء لقضاء الحوائج أن يقرأ الفواتح من سورة الحديد وثلاث آيات من آخر الحشر ثم يقول يا من كذلك وليس أحد غيره كذلك إقض حاجتي كذلك
﴿ آمنوا ﴾ أيها الناس ﴿ بالله ﴾ الذي شأنه كما ذكرنا ﴿ ورسوله ﴾ ﴿ فإن الإيمان بالله على ما ينبغي لا يمكن إلا بتوسط الرسل { وأنفقوا ﴾ في سبيل الله ﴿ مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ أي بعض الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها وهو مخلوق مملوك الله تعالى أو التي استخلفكم عمن قبلكم في تملكها والتصرف فيها وسيخلفكم فيها غيركم ذكرها الله سبحانه بهذا العنوان للحث على الإنفاق وتوهينه على النفس ﴿ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا ﴾ في سبيله ﴿ لهم أجر كبير ﴾الفاء للتعليل وفيه مبالغات في الوعد حيث أورد الجملة الاسمية وأعاد ذكر الإيمان والإنفاق وبني الحكم على الضمير ونكر الأجر ووصفه الكبير
﴿ وما لكم لا تؤمنون بالله ﴾ جملة لا تؤمنون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيه معنى الفعل في مالكم أي تصنعون غير مؤمنين به وجملة مالك معترضة للتوبيخ ﴿ والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ﴾ حال من الضمير في لا تؤمنون يعني أي عذر لكم في ترك الإيمان والحال أن الرسول يدعوكم إليه بالحجج والآيات والبينات ﴿ وقد أخذ ميثاقكم ﴾ حال مرادف لما سبق أ من مفعول يدعوكم يعني والحال أنه قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان قبل ذلك حين أخرجوكم من ظهر آدم عليه السلام وقال :﴿ ألست بربكم قالوا بلى، شهدنا على أنفسنا ﴾ أو المعنى قد أخذ الله ميثاقكم على لسان من قبلكم من الأنبياء وفيما سبق من الكتب أن إذا ﴿ جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ وقيل أخذ ميثاقكم لإقامة الحجج والتمكين من المنظر، قرأ أبو عمر أخذ بضم الهمزة وكسر الخاء على البناء للمفعول وميثاقكم بالرفع والإسناد إليه والباقون على البناء للفاعل ونصب ميثاقكم ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ شرط حذف جزاءه تقديره عندي إن كنتم مؤمنين بالله على زعمكم فآمنوا بالله والرسول فإن الإيمان بالله على ما ينبغي لا يتصور إلا بتوسط الرسول وذلك أن الكفار أيضا كانوا مقرين بالله تعالى ويزعمون الأصنام شفعاء إليه تعالى في الصحيحين عن ابن عباس قال وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأربع ونهاهم بأربع أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال : شهادة أن لا إلاه إلا الله ومحمد رسول الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وقال احفظوهن وأخبروهن من ورائكم } قلت تقدير الكلام عندي أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع بعدما أمرهم بالإيمان وحده ثم فسر بالإيمان بالشهادتين وفسر الأربع المأمورة بقوله وإقام الصلاة يعني أمرهم بإقام الصلاة الحديث هذا الحديث يدل أن الإيمان بالله وحده لا يتصور إلا بعد الإيمان بالرسول، وقال البيضاوي تقدير الآية إن كنتم مؤمنين بموجب ما فإن هذا موجب له لا مزيد له، وقال البغوي إن كنتم مؤمنين يوما تاما فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا القيام الحجج والإعلام يبعثه محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن
﴿ هو الذي ينزل على عبده ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ آيات بينات ﴾ يعني القرآن أو غير ذلك من المعجزات الباهرة ﴿ ليخرجكم ﴾ هو أو عبده ﴿ من الظلمات ﴾ أي الكفر والجهل ﴿ إلى النور ﴾ أي الإيمان أو العلم ﴿ وإن الله بكم لرءوف رحيم ﴾ حيث أرسل إليكم رسوله فأنزل عليه آياته ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية
﴿ وما لكم ألا تنفقوا ﴾ وأي فائدة لكم يعني لا فائدة لكم في عدم الإنفاق ﴿ في سبيل الله ﴾ أي فيما يكون قربة إليه تعالى ﴿ ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ يعني والحال أن الله يرث كل شيء فيها ولا يبقى لأحد مال وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث أنه يستخلف عوضا يبقى وهو الثواب أولى وترك الإنفاق وجمع الأموال حتى ينتفع بها غيركم لا يفيدكم أصلا عن عائشة أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي منها يعني بعد الإنفاق قالت ما بقي منها إلا كتفا قال ﴿ بقي كلها غير كتفها ﴾ رواه الترمذي وصححه وعن ابن مسعود قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال : ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر } رواه البخاري والنسائي ﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ﴾ أي فتح مكة في قول أكثر المفسرين قال الشعبي هو صلح الحديبية ﴿ وقاتل ﴾ قبله حلا يستوي افتعال بمعنى التفاعل وفاعله من أنفق مع ما عطف عليه المحذوف يعني لا يستوي من أنفق قبل الفتح وقاتل قبله ومن أنفق بعد الفتح قاتل بعده ﴿ أولئك ﴾ الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا فيه ﴿ أعظم درجة ﴾ عند الله ثوابا وتقربا ﴿ من الذين أنفقوا من بعد ﴾ الفتح ﴿ وقاتلوا ﴾ حينئذ قال البغوي روى محمد ابن فضل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله.
وروى البغوي بسند في تفسيره المعالم عن ابن عمر قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أب بكر الصديق رضي الله عنه وعليه عباءة فدخلنا في صدرها بخلال فنزل عليه جبرائيل فقال مالي أرى أبا بكر عليه عباءة فدخلها فغي صدرها بخلال فقال أنفق ماله علي قبل الفتح قال فإن الله عز وجل يقول إقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر أسخط على ربي وإني عن ربي راض وكذا روى الواحدي في تفسيره قلت : هذه الآية بمنطوقه تدل على أفضلية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على من آمن بعد الفتح وأنفق حينئذ وبهمومه وسياقه يدل على أفضلية الصديق على سائر الصحابة وأفضلية الصحابة على سائر الناس فإن مدار الفضل على السبقة في الإسلام والإنفاق والجهاد كما يدل عليه قوله عليه الصلاة السلام ( من سن حسنة فأجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ) وقد أجمع العلماء على أن أبا بكر أول من أسلم وأظهر إسلامه على يده أشراف قريش وأول من أنفق الأموال العظام في سبيل الله وأول من احتمل الشدائد من الكفار ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبي بكر عندنا يد يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر } رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وعن ابن الزبير عن أبيه قال أسلم أب بكر وله أربعون ألفا أنفقها كلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله رواه أبو عمر وروى البخاري في حديث طويل ثم يدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي ويقرأ القرآن وروى البخاري أن عقبة ابن معيط لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي جعل رداءه في عنقه وخنقه فاطلع أبي بكر فدفع عنه وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات وروى أبو عمر نحوه وزاد فاخذ الكفار أبا بكر فضربوه ضربا شديدا فلما رجع أبو بكر إلى داره فكان كلما وضع يده على شعره سقط شعره مع يده ويقول تباركت يا ذا الجلال، وروى أبو عمرو في الاستيعاب إنه أعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله منهم بلال وعامر ابن فهيرة، وقال أب إسحاق إنه لما أسلم أبو بكر أظهر سلامه ودعى الناس إلى الله عز وجل وإلى رسوله وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه مجيبا سهلا فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم بدعائه فبما بلغني عثمان ابن عفان رئيس بني عبد الشمس وزبير العوام رئيس بني أسد وسعد ابن أبي وقاص وعبد الرحمان ابن عوف رئيسا لبني زهرة وطلحة ابن عبد الله رئيس بني تميم فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له وأسلموا وصلوا وانكسر شوكة قبائل قريش بإسلامهم قال أبو الحسن الأشعري تفضيل أبي بكر على غيره من الصحابة قطعي قلت قد أجمع عليه السلف وما حكى عن ابن عبد البر أن السلف اختلفوا في تفضيل أبي بكر وعلي فهو شيء غريب انفرد به عن غيره ممن هو أجل منه علما واطلاعا منهم الشافعي وقد ذكرنا أدلة تفضيل الشيخين نقلا وعقلا في السيف المسلول وله مواقف رفيعة في الإسلام كثباته على كمال تصديقه ليلة الإسراء وجوابه للكفار في ذلك وهجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك عياله وأطفاله وملازمته له في الغار وسائر الطريق وكلامه يوم بدر ويوم الحديبية حين اشتبه على غيره الأمر في تأخير دخول مكة وثباته مع كمال حزنه في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبه الناس وتسكينهم ثم قيامه في قصة البيعة لمصالح المسلمين واهتمامه في بعث جيش أسامة وقيامه في قتال أهل الردة وتجهيزه الجيوش إلى العراق والشام وآخر مناقبه أنه فوض الخلافة إلى عمر رضي الله عنه ﴿ وكلا ﴾ قرأ ابن عامر بالرفع والباقون بالنصب أي كل واحد من الفريقين من الصحابة الذين أنفقوا قبل الفتح والذين أنفقوا بعده ﴿ وعد الله الحسنى ﴾ لا يحل الطعن في أحد منهم ولا بد حمل مشاجراتهم على محمل حسنة وأغراض صحيحة أو خطأ في الاجتهاد وأيضا يدل صدر الآية على أفضلية الصحابة على من بعدهم بسبقهم في الإسلام والإنفاق والجهاد وروى الشيخان في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر فيجازي كلا على حسبه
﴿ من ذا الذي يقرض الله ﴾ أي يقرض عباد الله بحذف المضاف أو المعنى ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه فصار كمن يقرضه فاستعير لفظ القرض لبدل على التزام الجزاء ﴿ قرضا حسنا ﴾ بالإخلاص وتحري أكرم المال وأفضل الجهات له ﴿ فيضاعفه له ﴾ أي يعطي أجره ضعفا فاقرأ عاصم فيضاعفه من المفاعلة منصوبا على جواب الاستفهام باعتبار المعنى فكأنه قال يقرض الله أحد فيضاعفه له وقرأ ابن عامر ويعقوب فيضعفه من التفعيل منصوبا وقرأ ابن كثير فيضعفه من التفعيل مرفوعا عطفا على يقرض والباقون فيضاعفه من المفاعلة مرفوعا ﴿ وله أجر كريم ﴾ حال من الضمير المنصوب في فيضاعفه يعني والحال أن ذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه ينبغي أن يطلب وإن لم يضاعف فكيف وقد يضاعف أضعافا.
﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات ﴾ ظرف لقوله أو فيضاعفه أو متعلق بمقدر يعني أذكر ﴿ يسعى نورهم ﴾ أي يضيء نور التوحيد والطاعات معهم على الصراط وأينما كانوا ويكون ذلك دليلهم إلى الجنة وجملة يسعى حال من المؤمنين والمؤمنات ﴿ بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ قال بعض المفسرين أراد جميع جوانبهم فعبر بالبعض عن الكل ويؤيد هذا التأويل الدعاء المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقول إذا خرج للصلاة ( اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا عن يميني نورا وعن شمالي نوارا وخلفي نورا واجعلني نورا } رواه الشيخان وأبو داود والنسائي روى ابن ماجه عن ابن عباس وفي رواية عن مسلم وأبي داود والنسائي وزاد ﴿ في لساني نورا وأجعل من خلفي نورا ومن أمامي نورا واجعل من فوقي نورا ومن تحتي نورا اللهم أعطني نورا ﴾ فإن هذا الدعاء يقتضي إحاطة النور جميع جوانبه ولعل وجه تخصيص الجهتين بالذكر أن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين وقال الضحاك ومقاتل يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم كتبهم وقيل يجعل الله لهم نورا في الجهتين إشعارا بأنهم بحسناتهم سعدوا بصحائفهم البيض أفلحوا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأداناهم نورا من كان في إيهامه يتقد مرة ويطفيء أخرى وقال قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن وإلى الصنعاء فدون ذلك حتى أن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا بين القدمين.
فصل
في موجبات النور والظلمة : أخرج أبو داود والترمذي عن بريدة وابن ماجه عن أنس كليهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( بشر المشائبين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) وورد مثله في حديث سهل ابن سعد وزيد ابن الحارثة وابن عباس وابن عمر وحارثة ابن وهب وأبي أمامة وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبي موسى وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنها وروى أحمد والطبراني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من حافظ على الصلوات كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا برهانا وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان ) وروى الطبراني عن أبي سعيد مرفوعا ( قرأ سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة من مقامه إلى مكة وروى ابن مردويه عن ابن عمر ( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدميه إلى عناد السماء يضيء له يوم القيامة ) وروى أحمد وعن أبي هريرة مرفوعا ( من تلا آية كانت له نورا يوم القيامة ) و روى الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا ( الصلاة علي نور على الصراط وأخرج الطبراني في الأوسط ( من ذهب بصره في الدنيا جعل الله له نورا يوم القيامة إن كان صالحا ) وروى الطبراني عن عبادة ابن صامت مرفوعا في الحج ( أما حلق رأسيك فإنه ليس من شعرة يقع في الأرض إلا كانت له نورا يوم القيامة ) وروى البزار عن ابن مسعود مرفوعا ( إذا رميت الجمار كانت به نورا يوم القيامة ) وروى الطبراني بسند جيد عن أبي أمامة مرفوعا ( من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة ) روى البزار بسند جيد عن أبي هريرة مرفوعا ( من رمى بسهم في سبيل الله كان له نورا يوم القيامة ) وروى البيهقي في شعب الإيمان بسند منقطع عن ابن عمر مرفوعا ( ذاكرا لله في السوق له بكل شعرة نور يوم القيامة ) وروى الطبراني عن أبي هريرة مرفوعا ( من فرج عن مسلم كربة جعل الله له يوم القيامة شعبتين من نور على الصراط يستضيء بهما عالم لا يحصيهم إلا رب العزة ) وأخرج الشيخان عن ابن عمر ومسلم عن جابر والحاكم عن أبي هريرة وابن عمر والطبراني عن ابن زياد قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إياكم والظلم فإنه هو الظلمات يوم القيامة ) والله تعالى أعلم ﴿ بشراكم اليوم جنات ﴾ يعني يقول لهم ذلك من يلقيهم من الملائكة كانت الجملة في الأصل فعليه تقديره يبشركم اليوم بجنات فعدلت إلى الاسمية للدلالة على الاستمرار بشرى مبتدأ وجنات خبره واليوم ظرف البشرى أي المبشر به جنات أو بشراكم دخول جنات ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ صفة لجنات ﴿ خالدين فيها ﴾ حال من الجملة التي يفهم من الكلام السابق يعني يدخلونها خالدين فيها ولا يجوز أن يكون حالا من جنات وإلا لزم جريانه على غيره من هو له ﴿ ذلك ﴾ النور والبشرى بالجنات المخلدة ﴿ هو الفوز العظيم ﴾
﴿ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا ﴾ بدل من الإفعال من يوم ترى ﴿ انظرنا ﴾ قرأ حمزة بهمزة القطع وفتحها في الحالين وكسر الظاء من الإفعال من النظرة بمعنى المهلة كما في قوله تعالى حكاية عن إبليس ﴿ رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ يعني مهلونا جعل تأنيهم في المشي حتى يلحقوا بهم إمهالا لهم مجازا والباقون بحذف الأنف في الوصل وضمها في الابتداء بمعنى الانتظار في القاموس نظره وانتظره وتنظره تأني عليه ونظرة كفرجة التأخير، قال الله تعالى :﴿ فنظرة إلى ميسرة ﴾ والله تعالى أعلم ﴿ نقتبس من نوركم ﴾ مجزوم في جواب الأمر أي نستضيء بكم ونمشي في نوركم ولا يكون للمنافقين والكافرين نور يوم القيامة حيث لم يكن لهم نور الإيمان في الدنيا وهو المستفاد من القرآن ﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾ وبه قال الكلبي وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة الباهلي قال يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفة حتى يبعث الله بالنور أي المؤمن بقدر أعمالهم فيتبعه المنافقون ويقولون انظرونا نقتبس من نوركم، وأخرج عنه من وجه آخر في حديث طويل فيه فيغشى الناس ظلمة شديدة ثم يقسم النور فيعطي المؤمن نورا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئا وهو مثل ضرب الله في كتابه ﴿ أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾ فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل راجعوا ورائكم فالتمسوا نورا وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين قال يخدعون الله وهو خادعهم فيرجعون إلى المكان الذي قسم الله فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب الآية.
أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال بينما الناس في ظلمة إذا بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان دليلا لهم من الله إلى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم فأظلم على المنافقين فقالوا حينئذ للمؤمنين انظرونا تقتبس من نوركم فإنا كنا معكم في الدنيا قالوا ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا نورا هناك، وأخرج ابن المبارك من طريق مجاهد عن يزيد ابن شجرة قال إنكم تكتبون عند الله بأسمائكم وسيماكم ونجواكم ومجالسكم فإذا كان يوم القيامة نودي يا فلان ابن فلان لا نور لك، وقال البغوي إن الله يعطي المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم وهو قوله عز وجل ﴿ وهو خادعهم ﴾ فبينما هم يمشون إذا بعث الله ريحا وظلمة فأطفأ نور المنافقين فذلك قوله تعالى :﴿ يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ﴾ مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين كذا أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس بلفظ ليس أحد من الموحدين إلا يعطي نورا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفئ نوره وأما المؤمن فيشقق مما رأى من إطفاء نور المنافق فهو يقول ربنا أتمم لنا نورنا والطبراني عنه نحوه، وأخرج مسلم وأحمد والدارقطني في رواية من طريق ابن الزبير أنه سمع جابر ابن عبد الله فذكر حديثا طويلا وفيه ( ويعطي كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلا لبيب وحسك تأخذ ما شاء الله ثم يطفئ نور المنافقين } والمختار عندي أن المنافقين لا يكون لهم نورا أصلا كما يدل عليه القرآن وما تقدم من الأحاديث ولعل المراد بالمنافقين الذين يعطي لهم نورا فيطفئ قبل بلوغهم إلى الجنة في الأحاديث المتأخرة أصحاب الهواء من المؤمنين كالروافض والخوارج والقرينة على هذا المراد قوله عليه السلام في حديث ابن عباس ليس أحد من الموحدين إلا يعطي نورا والموحد لا يكون إلا بالشهادتين بإخلاص كما مر في حديث وفد عبد القيس أتدري ما الإيمان بالله وحده ؟ والله أعلم.
﴿ قيل ﴾ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون وقال قتادة يقول لهم الملائكة ﴿ ارجعوا وراءكم ﴾ أي إلى المكان الذي قسم فيه النور كما يدل عليه حديث أبي أمامة وابن عباس وذلك خديعة بهم أو المعنى ارجعوا ورائكم إلى الدنيا ﴿ فالتمسوا ﴾ هناك ﴿ نورا ﴾ بتحصيل الإيمان والمعارف الإلهية الأخلاق الفاضلة وكسب الطاعات فإن هذا النور ظهور ذلك ﴿ فضرب بينهم ﴾ بين المؤمنين والمنافقين ﴿ بسور ﴾ بحائط ﴿ له باب ﴾ يدخل فيه المؤمنون ﴿ باطنه ﴾ أي باطن السور أو الباب ﴿ من قبله ﴾ أي من جهة الظاهرة ﴿ العذاب ﴾ لأنه يلي النار قال البغوي : روى عن عبد الله ابن عمر قال إن السور الذي ذكر الله في القرآن بسور له باب هو سور بمن المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم وقال ابن شريح وكان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في البيت المقدس أنه الباب الذي قال الله تعالى عز وجل :﴿ فضرب بينهم بسور له باب ﴾ الآية
﴿ ينادونهم ﴾ يعني ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور حين حجب بينهم بالسور وبقوا في الظلمة ﴿ ألم نكن معكم ﴾ في الدنيا نصلي ونصوم ﴿ قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم ﴾ أي أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملوها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة ﴿ وتربصتم ﴾ بالمؤمنين الدوائر بمحمد صلى الله عليه وسلم الموت قتلتم يوشك أن يموت فتستريح منه ﴿ وارتبتم ﴾ شككتم في الدين وفيما أوعدكم به ﴿ وغرتكم الأماني ﴾ الأباطيل وما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين ﴿ حتى جاء أمر الله ﴾ يعني الموت ﴿ وغركم بالله الغرور ﴾ الشيطان أو الدنيا بأن الله كريم لا يعذبكم أو بأنه لا بعث ولا حساب، وقال قتادة ما زالوا على خدعتكم من الشيطان حتى قذفهم في النار
﴿ فاليوم لا يؤخذ ﴾ قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتاء لتأنيث المسند إليه والباقون بالياء لأن التأنيث غير حقيقي وقد وقع الفصل أيضا ﴿ منكم فدية ﴾ بدل وعوض ﴿ ولا من الذين كفروا ﴾ جهارا ﴿ مأواكم النار هي مولاكم ﴾ أي مكانكم الذي يقال فيه وهو أولى بكم أو ناصركم على طريقة قولهم تحية بينهم ضرب وجيع أو متوليكم أي يتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا ﴿ وبئس المصير ﴾ النار.
أخرج ابن شيبة في المصنف عن عبد العزيز ابن داود وابن أبي حاتم عن مقاتل ابن حبان أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاج والضحك فنزلت ﴿ ألم يأن للذين آمنوا ﴾ من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه وقته ﴿ أن تخشع ﴾ أي ترق وتلين وتخضع ﴿ قلوبهم لذكر الله ﴾ قال البغوي قال عبد الله ابن مسعود وما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين وقال ابن عباس إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاقبتهم على رأس ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن وأخرج ابن المبارك في الزهد عن سفيان عن الأعمش قال لما قدم أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من العيش بعدما كان بهم من الجهد، مكانهم وفتروا عن بعض ما كانوا فنزلت ﴿ ألم يأن ﴾ الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي عن القاسم قال مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا فنزل ﴿ الله نزل أحسن الحديث ﴾ ثم ملوا ملة فقالوا حدثنا يا رسول الله فأنزل الله ألم يأن الذين آمنوا الآية، وقال البغوي قال الكلبي ومقاتل نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت ﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ فأخبرهم أن القرآن أحسن من غيره فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزل ﴿ الله نزل أحسن الحديث ﴾ فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فقالوا حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت هذه الآية وعلى هذا فتأويل الآية ﴿ ألم يأن للذين آمنوا ﴾ في العلانية وباللسان تخشع سرائرهم وقلوبهم لذكر الله ﴿ وما نزل ﴾ قرأ نافع وحفص ويعقوب بتخفيف الزاء والباقون بالتشديد ﴿ من الحق ﴾ أي القرآن الموصول معطوف على ذكر الله عطف أحد الوصفين على الآخر يجوز أن يراد بالذكر ذكر الله سوى القرآن ﴿ ولا يكونوا ﴾ أي الذين آمنوا منضوب بأن معطوف على تخشع وجاز أن يكون مجزوما على أنه نهى معطوف على أمر مفهومه مما سبق فإن المقاد من قوله تعالى :﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم ﴾ ليخشع قلوب الذين آمنوا ولا يكونوا أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى :﴿ فطال ﴾ معطوف على أتوا ﴿ عليهم الأمد ﴾ أي الزمان بينهم وبين أنبيائهم أو طال عليهم الزمان بطول أمارهم في الكفر والمعاصي ﴿ فقست قلوبهم ﴾ معطوف على طال ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم لفرط القساوة جملة اسمية معطوف على فعلية وجاز أن يكون حالا وجملة ألم يأن مستأنفة
﴿ اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها ﴾ تمثيل لا حياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة أو لإحياء الأموات ترغيبا في الخشوع وزجرا عن القسوة ﴿ قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ﴾ لكي يكمل عقولكم
﴿ إن المصدقين والمصدقات ﴾ قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق أي المؤمنين والمؤمنات والباقون بالتشديد أي المتصدقين أدغمت التاء في الصاد ﴿ وأقرضوا الله قرضا حسنا ﴾ بطيب النفس والإخلاص عطف على معنى الفعل لأن المعنى الذين صدقوا أو تصدقوا وعطف القرض الحسن على التصدق للدلالة على أن المعتبر هو التصدق بالإخلاص فإن قيل عطف اقرضوا على الصلة في المصدقين وعطف المصدقات على الموصول ويلزم فيه العطف على الموصول قبل تمام الصلة وذلك غير جائز قلنا المصدقين والمصدقات اعتبر من حيث المعنى موصولا واحدا عطف على صلة أقرضوا والتقدير الناس تصدقوا وأقرضوا من الرجال والنساء وجاز أن يقدر للمصدقين والصدقات خبرا ثم يقدر موصولا آخر معطوفا عليه فيقال إن المصدقين والمصدقات يدخلون الجنة والذين أقرضوا الله الآية، وجاز أن يكون أقرضوا مطوفا على خبر مقدر تقديره أن المصدقين والمصدقات أنفقوا أموالهم وأقرضوا الله قرضا حسنا وعلى هذا يضاعف إما صفة لقرض أو مستأنف وجاز أن يكون التقدير أن المصدقين والمصدقات فازوا وقد أقرضوا وعلى هذا يكون وأقرضوا حالا ولا يرد على هذه الوجوه أشكال والله تعالى أعلم ﴿ يضاعف لهم ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف لهم من التفعيل والباقون من المفاعلة ولم يجزم يضاعف لأنه خبر إن وهو مسند إلى لهم أو إلى ضمير المصدر ﴿ ولهم أجر كريم ﴾ عطف على يضاعف أو حال من الضمير في لهم وقد مر مثله فيما سبق
﴿ والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون ﴾ أي المبالغون في الصديق أو الصدق فإنهم جميعها أخبار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الآية تدل على جواز إطلاق الصديق على كل مؤمن ومن هاهنا قال مجاهد كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق وشهيد وكذا قال عمرو ابن ميمون وللصديق إطلاق آخر أخص منه وهو من اكتسب كمالات النبوة بالوراثة والتبعية وهو المعنى من قوله تعالى ﴿ والشهداء ﴾ وللرسول أو على الأمم يوم القيامة عطف على الصديقين وقيل مبتدأ خبره ﴿ عند ربهم ﴾ وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة ﴿ فقيل هم الأنبياء لقوله { تعالى :{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ يروي ذلك عن ابن عباس وقول مقاتل ابن حبان وقال مقاتل ابن سليمان هم الذين استشهدوا في سبيل الله ﴿ لهم أجرهم ونورهم ﴾ أي الأجر والنور الموعدان لهم ﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ أي خالدين فيها دون غيرهم فإن الصحة تدل على الملازمة والتركيب يشعر بالاختصاص
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا ﴾ مبتدأ المراد ما يرغب فيها الناس في الحياة الدنيا بما لا يتوصل به إلى المنافع الآخرة ﴿ لعب ﴾ مع ما عطف عليه خبر يعني لا فائدة فيها فإنها كانت قليلة النفع نظرا إلى ما يفيد في الآخرة شريعة الزوال عد لعبا كأنه لا فائدة فيها أصلا ﴿ ولهم ﴾ يمنع الناس عما يهم لهم من الأمور الأخروية ﴿ وزينة ﴾ يتزينون به كالملابس الحسنة والمركب البهية والمنازل الرفيعة ﴿ وتفاخر بينكم ﴾ بالأنساب وغير ذلك مما لا مزية بها عند الله تعالى ﴿ وتكاثر في الأموال والأولاد ﴾ أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد وجملة إنما الحياة الدني الخ قائم مقام مفعولي اعلموا ﴿ كمثل غيث ﴾ خبر آخر المبتدأ. والكاف في محل الرفع ﴿ أعجب الكفار نباته ﴾ صفة الغيث تمثيل لأمور الدنيا في سرعة زوالها وقلة جدواها وإنما خص الإعجاب بالكفار لأن المؤمن إذا رأى شيئا معجبا انتقل إلى قدرة صانعه فأعجب بها والآن مطمح نظره إلى محاسن الأخروية فلا يمد عينه إلى زهرة الحياة الدنيا، وقيل المراد بالكفار والزراع ذكر في القاموس في معنى الكافر الزراع لأن معنى الكفر الستر والزارع يستر البذر في الأرض ﴿ ثم يهيج ﴾ عطف على أعجب أي ثم يبس بعاهة ﴿ فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ﴾ الحطام ما يكسر باليبس كذا في القاموس ﴿ وفي الآخرة عذاب شديد ﴾ ﴿ لأعداء الله لاشتغالهم ما يفيدهم في الآخرة بما هو لعب ولهو { ومغفرة من الله ورضوان ﴾ لأوليائه لتجافيهم عن دار الغرور وتهيئهم لدار الخلود ﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ لمن لم يستعملها الطلب الآخرة وأما من استعملها لطلب الآخرة فله متاع إلى ما هو خير منه
﴿ سابقوا ﴾ أي سارعوا مسارعة السابقين في المضمار بالإيمان والخوف والرجاء والأعمال الصالحة إلى ﴿ مغفرة من ربكم وجنة عرضها ﴾ أي بسطها ﴿ كعرض السماء والأرض ﴾ وقال السدي كعرض سبع السماوات وسبع أرضين يعني لو وصل بعضا ببعض وإذا كان العرض كذلك فطولها أكثر منه ﴿ أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله ﴾ فيه دليل على أن الجنة مخلوقة وإن الإيمان وحده كاف في استحقاقها وأن الإيمان بالله لا يعتد به ما لم يؤمن برسوله ﴿ ذلك ﴾ الموعود ﴿ فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ ويتفضل به على من يشاء من غير إيجاب فيه دليل على أن إدخال المؤمنين الجنة إنما هو بفضل الله تعالى ومبني على وعده غير واجب على الله تعالى كما قال به المعتزلة خذلهم الله أخرج أبو نعيم عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك أن لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أناصب عبدا الحساب يوم القيامة إن شاء أعذبه إلا عذبته وقل لأهلي معصيتي من أمتك لا تلقوا بأيديهم فإلى أغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي ) في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أن لا ينجي أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني برحمة منه وفضل ) وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لا يدخل الجنة أحدا عمله ) قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمته ).
ولمسلم من حديث جابر نحوه وقد ورد هذا من حديث أبي سعيد أخرجه أحمد وأبي موسى وشريك ابن طارق أخرجهما البزار وشريك ابن طريف وأسامة ابن شريك وأسد ابن كدر أخرجها الطبراني واستشكل هذا مع نحو قوله تعالى :﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ وأجيب بأن درجات الجنة متفاوتة تنال بتفاوت الأعمال وأصل دخولها والخلود فيها بفضل الله ورحمته ويؤيده ما أخرجه هناد في الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقيمون المنازل بأعمالكم وأخرج أبو نعيم عن عون ابن عبد الله مثله ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ فإنه لا يبعد منه التفضيل بذلك وإن عظم قدره.
﴿ ما أصاب من مصيبة ﴾ كجدب وعاهة وكائنة ﴿ في الأرض ولا في أنفسكم ﴾ كمرض وآفة وموت الأحباب صفة لمصيبة ﴿ إلا في كتاب ﴾ في موضع الحال أي كائنة في حال من الأحوال الإحال كونها مكتوبة في اللوح مثبة في علم الله تعالى :﴿ من قبل أن نبرأها ﴾ أي نخلقها والضمير للمصيبة أو للأرض أو للأنفس ﴿ إن ذلك ﴾ الإثبات مع كثرتها ﴿ على الله يسير ﴾ هين
﴿ لكيلا تأسوا ﴾ أي كتب فيه لئلا تحزنوا ﴿ على ما فاتكم ﴾ من نعم الدنيا ﴿ ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ منها فإن من علم أن الكل مقدر لا يجوز تغيره بأن عليه الأمر قرأ أبو عمرو بقصر الألف من الإتيان معادلا بقوله تعالى ما فاتكم والباقون بالمدأي بما أعطاكم الله وفي قراءة الجمهور إشعار بأن الفوات لا يستدعي علة فإنه عدم أصلي أما الوجود والبقاء فلا يتصور إلا بعلة والمراد به نفي الأسى المانع من التسليم لأمر الله والصبر والفرح الموجب للنظر والاختيال ولذلك عقبه بقوله ﴿ والله لا يحب ﴾ الجملة منصوبة على الحال ﴿ كل مختال ﴾ متكبر بنعم الدنيا ﴿ فخور ﴾ بسطى الناس قال عكرمة ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا قال جعفر الصادق يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ﴾ منصوب على أنه بدل من كل مختال أو مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله تعالى ﴿ ومن يتول ﴾ أي يعرض على الإنفاق في سبيل الله ﴿ فإن الله هو الغني ﴾ عنه عن الإنفاق لا يضره الإعراض عن شكره لا ينفعه التقرب إليه الشكر نعمه قرأ نافع وابن عامر بغير هو كذلك في مصاحفهم والباقون بضمير الفصل ﴿ الحميد ﴾ محمود في ذاته
﴿ لقد أرسلنا رسلنا ﴾ من الملائكة إلى الأنبياء ومنهم إلى الأمم ﴿ بالبينات ﴾ بالحجج والمعجزات ﴿ وأنزلنا معهم الكتاب ﴾ لتبين الحق من الباطل والعمل الصالح من الفاسد والحلال من الحرام ﴿ والميزان ﴾ أي العدل وقال مقاتل ابن سليمان وهو ما يوزن به وإنزاله إنزال الأمر بالاستعمال ليسوا به الحقوق وقيل أن جبرائيل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال مرقومك يزنوا به ﴿ ليقوم الناس بالقسط ﴾ بالعدل وأن لا يظلم أحد إحدا علة لإنزال الكتاب والميزان ﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ روي عن ابن عمر يرفعه أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض الحديد والنار والماء والملح وقال أهل المعاني معاني قوله تعالى أنزلنا الحديد أنشأنا وأحدثنا أي اخرج لهم الحديد من المعاد وعلمهم صنعته بوحيه، وقال قطرب هذا من النزل كما يقر إنزال الأمير على فلان حسنا فمعنى الآية جعل ذلك نزل لهم ومثله قوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } ﴿ فيه بأس ﴾ أي حرب ﴿ شديد ﴾ فإن آلات الحرب متخذة منه ﴿ ومنافع للناس ﴾ إذ ما من صنعة إلا والحديد آلتها ﴿ وليعلم الله ﴾ عطف على محذوف أي لتقاتلوا في سبيل الله أعدائه وليعلم الله ﴿ من ينصره ورسله ﴾ وجاز أن يكون اللام صلة لمحذوف أي وإنزاله ليعلم الله وجاز أن يكون معطوفا على مفهوم فيه بأس شديد تقديره وأنزلنا الحديد لأن فيه بأسا شديدا وليعلم الله ﴿ الغيب ﴾ }حال من المستكن في ينصره ﴿ إن الله قوي ﴾ على إهلاك من أراد هلاكه ﴿ عزيز ﴾ لا يحتاج إلى نصرة أحد وإنما أمر الناس بالجهاد تفضلا على الناس ليبتغوا به مرضاة الله واستوجبوا الثواب امتثال الأمر وإعزازا الدين أو الشهادة
﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم ﴾ بيان وتفسير لما سبق من قوله تعالى :﴿ لقد أرسلنا رسلنا ﴾ وخصا بالذكر بفضلهما وكثرة ذريتهما ﴿ وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ يعني فضلناهما بجعل النبوة والكتاب في ذريتهما فإن الكتب الأربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، أنزلت في ذرية إبراهيم وهو من ذرية نوح عليهما السلام وذكر في المدارك عن ابن عباس أن المراد بالكتاب الخط بالقلم يقال كتبت كتابا ﴿ فمنهم ﴾ أي من الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم الإرسال والفاء السببية { مهتد وكثير منهم فاسقون ) ذريتهما
ثم قفينا على آثارهم } أي آثارهم نوح وإبراهيم من أرسل إليهم ولا يجوز إرجاع الضمير إلى الذرية لأن الرسلة المقفى بهم كانوا من ذريتهما ﴿ برسلنا وقفينا ﴾ الرسل أجمعين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بعيسى ابن مريم ﴾ وكان آخر أنبياء بني إسرائيل وكان بعده فترة الرسل حتى بعث الله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ﴾ مودة ولينا ﴿ ورحمة ﴾ تعطفا على إخوانهم وعلى المؤمنين كما قال الله تعالى :﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارا ﴾ وكما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحماء بينهم ﴿ ورهبانية ﴾ وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس وترك الشهوات حتى المباحة منها كالأكل بالنهار والنوم بالليل والنكاح وغيرها منسوبة إلى الرهبان فعلان من الرهب بمعنى خاف كخشيان من خشي معطوف على رأفة جعلنا في قلوبهم الميل إلى رهبانية ﴿ ابتدعوها ﴾ من قبل أنفسهم صفة لرهبانية وابتداعهم إياها لا ينافي جعل الله تعالى ميلها في قلوبهم وجز أن يكون رهبانية منصوبا بالفعل يفسره قوله تعالى ابتدعوها والجملة معطوفة على جعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وابتدعوها من قبل أنفسهم رهبانية ﴿ ما كتبناها ﴾ أي ما كتبنا شيئا من خصائل الرهبانية ﴿ عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ فالاستثناء حينئذ متصل وقيل الاستثناخ منقطع لعدم دخول ابتغاء مرضات الله في الرهبانية والمعنى ولكن كتبنا عليهم ابتغاء مرضات الله ﴿ فما رعوها ﴾ أي الرهبانية النفي لسلب العمر إلا لعموم السلب والمعنى فما رعوها جميعهم ﴿ حق رعايتها ﴾ بل ضعيفها بعضهم بترك ما التزموا على أنفسهم من المبالغة في الرياضة أو لفصل الرياء والسمعة والميل إلى الدنيا أو بكفرهم وقولهم ثالث ثلاثة أو قولهم بالاتخاذ أو بتهودهم وكفرهم بعيسى ومحمدا أو بكفرهم بحمد صلى الله عليه وسلم بعدما استقاموا على دين عيسى قبل مبعثه فهؤلاء كلهم ما رعوها حق رعايتها ﴿ فآتينا الذين آمنوا ﴾ إيمانا صحيحا وحافظ حقوقها حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم على ما وصى به عيسى عليه السلام ﴿ منهم ﴾ أي ممن ادعى باتباع عيسى عليه السلام ﴿ أجرهم أي الأجر الموعود لهم على حسب أعمالهم فمن رعى حق رعاية الترهيب كما التزم أتاه أجر عمله ومن استقام على الدين الإيمان ولكن لم يراع الرهبانية حقها أتاه أجر عمله { وكثير منهم فاسقون ﴾ خارجون عن اتباع عيسى وهم الذين قالوا بالتثليث وللاتخاذ والتهود أو دخلوا في دين الملوك وأثبتوا على دين عيسى لكنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاثة وهلك سائرهن فرقة وزارت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله تعالى :﴿ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ﴾ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ) وقال البغوي روي عن ابن مسعود قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية قلت الله ورسوله أعلم ؟ قال :( ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا قليل فقالوا إن ظهرنا هؤلاء أفتونا ولم يبق للدين أحد يدعوا إليه فقالوا تعالوا فتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم فتفرقوا في غير أن الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية ﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ الآية فآتينا الذين آمنوا منهم يعني ثبتوا عليها أجرهم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت الله ورسوله أعلم ( قال الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلال ).
قال وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ) وروى سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال كانت الملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها، فقالوا نحن نكفيكم أنفسا، فقالت طائفة ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا ترفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم وقالت طائفة دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما تشرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا.
وقالت طائفة ابنوا لنا دورا في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ففعلوا ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فجعل الرجل يقول نكون نحن في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قوله عز وجل : ورهبانية ابتدعوها أي ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم فاتينا الذين آمنوا منهم أجرهم يعني الذين ابتدعوها مرضات الله وكثير منهم فاسقون هم الذين جاؤوا من بعدهم قال فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم إلا قليل حط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب الدير من ديره وآمنوا به.
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند فيه من لا يعرف عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا فشهدوا واقعة أحد فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا يا رسول الله إنا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ٥٢ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه لحق من ربنا إنا كانا من قبله مسلمين٥٣ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ فلما نزلت قالوا يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجران كأجوركم فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ يؤتكم ﴾ هو ما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر ﴿ كفلين ﴾ نصيبين ﴿ من رحمته ﴾ وكذا أخرج ابن أبي داوود حاتم عن مقاتل قال لما نزلت ﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ﴾ الآية فخر مؤمن أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لنا أجران ولكم أجر فشق ذلك على الصحابة فأنزل الله تعالى هذه الآية فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب وعلى هذه الرواية الخطاب في قوله تعالى :﴿ يا أهل الذين آمنوا ﴾ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عامة وحينئذ قوله وآمنوا برسوله تأكيد لما سبق يعني آمنوا بجميع ما جاء به الرسول حق الإيمان وقال البغوي وأكثر المفسرين هذا خطاب أهل الكتابين من اليهود والنصارى يقول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد آمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم يؤتكم كفلين من رحمته يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن، وقال البيضاوي ولا يبعد أن يثابوا أي اليهود أيضا على دين سابق وإن كان منسوخا ببركة الإسلام، وقيل الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والعبد المملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطأها بها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران ) ﴿ وبجعل لكم نورا تمشون به ﴾ على الصراط كذا قال ابن عباس ومقاتل فهذه الآية نظيره قوله تعالى : يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } ويروي هن ابن عباس أن النور هو القرآن وقال مجاهد هو الهدى والبيان أي يجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به إلى جناب القدس وجنات الفردوس ﴿ ويغفر لكم ﴾ وما سبق من ذنوبكم ﴿ والله غفور رحيم ﴾
أخرج ابن جرير عن قتادة قال بلغنا أنه لما نزلت يؤتكم كفلين من رحمته حسد أهل الكتاب المسلمين عليها فأنزل الله تعالى ﴿ لئلا يعلم ﴾ متعلق بأفعال واقعة في جواب الأمر على التنازع قيل متعلق بحذوف تقديره أعلمكم بذلك لئلا يعلم ولا مزيدة المعنى ليعلم ﴿ أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ﴾ إن هي المخفقة والمعنى أن لا ينالون شيئا من فضل الله إلا بمشيئة الله تعالى ولا يقدرون على نيله باختيارهم هذه الرواية عن قتادة يناسب ما روى الطبراني عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن مقاتل أن الخطاب في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } للمؤمنين عامة لا لأهل الكتاب، وذكر البغوي قول قتادة أنه حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فأنزل الله تعالى :﴿ يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل ﴾ على خلاف ما زعموا أنهم أبناء الله وأحبائه وأهل رضوانه وأنهم لا يتمكنون من نيل شيء من الأجر والثواب لأنهم لم يؤمنوا برسله وهو مشروط بالإيمان به على هذا يناسب ما ذكر المفسرون في الآية خطاب لأهل الكتابين وقيل لا غير مزيدة والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله ولا ينالون وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وكذا ذكر البغوي أن لا يقدرون على شيء من فضل الله على خلاف ما زعموا أنهم أبناء الله أحبائه وأهل رضوانه وأنهم لا يتمكنون من نيل شيء من الأجر والثواب لأنهم لم يؤمنوا برسله وهو مشروط بالإيمان به وعلي عنه أنه قال قالت : اليهود يوشك أن يخرج منا نبي فيقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فأنزل الله ﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ أي ليعلم الذين لم يؤمنوا منهم أنه لا يقدرون على شيء من فضل الله فضلا أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة ويؤيده قوله تعالى :﴿ وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ خبر بعد لأن ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾.