ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال المقاتلان يعني كل شيء من ذي الروح وغيره من الشجر، والجبال، والبحار، والشمس، والقمر، وكل خلق فيهما ولكن لا تفقهون تسبيحهم (١).وقال أهل المعاني: تسبيح ما لا يعقل تنزيه لله من السوء بما فيه من الآية الداعية إلى ذلك كأنها ناطقة به إذ صنعه يقتضي صانعًا غير مصنوع (٢).
قال أبو إسحاق: وهذا خطأ؛ لأن التسبيح تمجيد لله عز وجل وتنزيهه من [السوء] (*)، قال الله عز وجل ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤] فلو كان التسبيح آثار الصنعة لكانت معقولة، وكانوا يفقهونها، وأيضًا فإنه قال ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] فلو كان تسبيحها آثار الصنعة لم يكن في هذا تخصيص لداود (٣)، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وفي مواضع.
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣٥، و"فتح القدير" ٥/ ١٦٥.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢١، وقال القرطبي ١٧/ ٢٣٦، وما ذكره هو الصحيح.
(*) قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين غير واضح في المطبوع، وما أثبتناه من معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج (٥/ ١٢١).
وقال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى يحيي النطف التي إنما هي موات ويميت الأحياء، ويكون موضع يحي ويميت رفعًا على معنى هو يحيي ويميت ويجوز أن يكون نصبًا على معنى له ملك السموات والأرض محييًا ومميتًا قادرًا (٢).
٣ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ قال جماعة المفسرين: هو الأول قبل كل شيء، كان هو ولا شيء موجود، فهو الأول بلا ابتداء، والآخر بعد كل شيء بلا انتهاء، يفني الأشياء، ويبقى آخرًا كما كان أولاً، وهذا يروى مرفوعًا أنه "الأول وليس قبله شيء والآخر وليس بعده شيء" (٣).
قال الأزهري: ولا يجوز أن يعدو في تفسير الاسمين ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (٤).
قوله تعالى: ﴿وَالظَّاهِرُ﴾ أي الغالب العالي على كل شيء، ومثل قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤] أي غالبين عالين، من قولك: ظهرت
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢١.
(٣) الحديث أخرجه مسلم (٢٧١٣) في الدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع وفيه "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء" الحديث. والترمذي في الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، وأحمد ٢/ ٣٨١، ٤٠٤.
(٤) لم أجد هذا اللفظ في "تهذيب اللغة" ١٣/ ٤٧٤ (بطن) وإنما قال: ومن صفات الله عز وجل: "الظاهر والباطن" لا تأويلها ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تمجيد الرب.. وذكر الحديث.
قوله تعالى: ﴿وَالْبَاطِنُ﴾ قال أبو إسحاق: الباطن العالم بما بطن، كما تقول: فلان يبطن أمر فلان، أي يعلم دِخْلَةَ أمره (٣).
قال الليث: يقال أنت أبطن بهذا الأمر من فلان، أي: أخبر بباطنه فالله تعالى العالم الباطن بكل شيء فلا أحد أعلم منه (٤)، وهذا معنى ما روي في الحديث: "وأنت الباطن فليس دونك شيء" أي ليس أقرب منك بالعلم شيء، ويجوز أن يكون معنى الباطن أنه محتجب عن الأبصار وهو معنى ما روي في الخبر "والباطن فلا يُرى".
٤ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ مفسر في سورة الأعراف (٥) إلى قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ﴾ وهو مفسر في سورة سبأ (٦) إلى قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ أي بالعلم والقدرة وليس ينفك أحد من تعلق علم
(٢) انظر: "الكشاف" ٤/ ٦٣، و"فتح القدير" ٥/ ١٦٥، ثم قال: وقد فسر هذه الأشياء الأربعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيتعين المصير إلى ذلك.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٢.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (بطن).
(٥) من الآية (٥٤) من سورة الأعراف.
(٦) "تفسيره" الآية (٣٤) من سورة سبأ.
وهذا حجة على من ترك تأوبل قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ وأجراه على الظاهر إذ لابد من التأويل في قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ولا يجوز إجراؤه على الظاهر حتى يعتقد أنه مع كل واحد في مكانه وجهته وإذا جاء التأويل في بعض جاز في الكل (١).
أما قوله: وهذا حجة على من ترك تأويل قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ وأجراه على الظاهر فهو كلام مردود مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة. قال الإمام أحمد رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو الله على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ومثل هذا نقل عن الشافعي، وابن جرير، وابن المبارك، وسعيد بن عامر، وابن خزيمة، والبخاري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، ومالك، وغيرهم. انظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي ٥/ ٥، و"شرح الفقه الأكبر"، لأبي حنيفة ص١٠٢، و"العلو" للذهبي ص١٠١ - ١٠٢، و"السنة" لعبد الله بن أحمد ١/ ٧، و"الرسالة" ص ٨، و"الصواعق المرسلة" ٤/ ١٢٩٢ - ١٣٠٥.
وأما قوله: وإذا جاز التأويل في بعض جاز في الكل، فجوابه أن التأويل الذي يقبل هو التأويل بمعنى التفسير أي معرفة معاني الصفات، وهذا حق. وأما التأويل بمعنى الحقيقة فهذا لا يعلمه إلا الله، فحقائق الصفات من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وأما التأويل الذي يشير إليه المؤلف -عفا الله عنه- فهو صرف نصوص الصفات عما دلت عليه بغير دليل، وإنما لشبهة، وهذا التأويل مردود ولا يصح. انظر: "التدمرية" لابن تيمية ص ٩١.
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ قال عطاء والكلبي ومجاهد والمقاتلان (٢): يريد حين أخرجهم من ظهر آدم.
وقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢].
قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قال الكلبي: إذا كنتم عند أخذ العهد مقرين له (٣) فـ ﴿إِنْ﴾ على قوله بمعنى (إذ)، وقال غيره: إن كنتم مؤمنين بالحجج والدليل فقد بان وظهر على يد محمد -صلى الله عليه وسلم- ببعثته وإنزال القرآن عليه، ويجوز أن يكون المعنى: إن كنتم مؤمنين يومًا فما لكم لا تؤمنون الآن، وقد قامت الحجة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحة نبوته (٤).
٨ - ثم قال في الحث على الإنفاق، قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: أيّ شيء لكم في ترك الإنفاق
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤٧ - ٣٤٨، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٦، و"تفسير مقاتل" ١٤٠ ب.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤٧.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣٨ - ٢٣٩.
١٠ - ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ قال: يعني فتح مكة في قول جميعهم (٣)، قال مقاتل: لا يستوي في الفضل والسابقة من أنفق من ماله وقاتل العدو من قبل فتح مكة (٤).
قال الكلبي في رواية محمد بن فضيل: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، يدل على هذا أنه كان أول من أنفق المال على رسول الله - ﷺ - في سبيل الله (٥).
قال ابن عمر: كنت قاعدًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة فخلّها (٦) في صدره بخلال فنزل عليه جبريل فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة فخلها في صدره؟ فقال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح (٧).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٢٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٤.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣٩، وزاد مع الشعبي الزهري.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٠ ب.
(٥) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص ٤٦٩، و "الوسيط" ٤/ ٢٤٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٤٠.
(٦) خلها: أي جمع بين طرفيها بعود أو حديد. النهاية (خلل).
(٧) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٦٢ أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٦٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٥، و"ابن كثير" ٤/ ٣٠٧، كلهم ذكروا بيان أطول من هذا، وتعقبه ابن كثير بقوله: هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه، وذكره ابن الجوزي في ترجمة أبي بكر عن ابن عمر بدون سند، و"صفة الصفوة" ١/ ٢٤٩ - ٢٥٠.
قال صاحب النظم: قوله: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ﴾ يقتضي نقيضًا كما قال ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الحشر: ٢٠] ولم يجيء هاهنا النقيض الذي يقابل من أنفق فلما قال ﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ دل على هذا النقيض؛ لأن نقيضه من أنفقوا من بعد وقاتلوا (٢).
قال عطاء: يريد درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها (٣)، وقال مقاتل بن حبان: يقول كانت نفقتهم وجهادهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم أجرًا ودرجات من درجات من أنفق وقاتل بعد الفتح فتح مكة (٤).
قال أبو إسحاق: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم وكانت بصائرهم أيضًا أنفذ (٥).
قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ قال مقاتل بن سليمان: يقول
(٢) انظر: "التفسيرالكبير" ٢٩/ ٢١٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٤٠، و"فتح القدير" ٥/ ١٦٨.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٤٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٥.
(٤) انظر: "فتح القدير" ٥/ ١٦٨.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٣.
والقراء في النصب في ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ﴾ لأنه بمنزلة زيدًا وعدت خيرًا فهو مفعول وعد، وقرأ ابن عامر "وكل" بالرفع (٢)، وحجته أن الفعل إذا تقدم عليه مفعوله لم يقو عمله فيه قوته إذا تأخر، ألا ترى أنهم قد قالوا في الشعر (٣): زيدٌ ضربتُ، ومما جاء في ذلك الشعر (٤):
قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ وتدَّعي | عليَّ ذنْبًا كُلُهُ لم أصْنّعِ |
أبحتَ حمى تهامةَ بعد نجدٍ | وما شيءٌ حميتَ بمُستباحِ |
(٢) قرأ ابن عامر "وكل" وقرأ الباقون بالنصب انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩٨، و"النشر" ٢/ ٣٨٤، و"الإتحاف" ص ٤٠٩.
(٣) قوله: (في الشعر) زيادة لا فائدة منها.
(٤) "البيت" لأبي النجم. انظر: "الخزانة" ١/ ١٧٣، و"الخصائص" ١/ ٢٩٢، و"شرح أبيات المغني" ٤/ ٢٤.
(٥) انظر: "ديوان جرير" ١/ ٨٩، و"شرح أبيات المغني" ص ٧٤١، "شرح شواهد سيبويه" ١/ ٤٥، و"مغني اللبيب" ص ٥٠٣، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٢٥، و"شرح شواهد الألفية" ٤/ ٧٥.
(٦) من قوله: "وحجته أن الفعل" إلى هنا من كلام أبي علي الفارسي.
انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٦٦ - ٢٦٧.
وقال مقاتل: يعني طيبة بها نفسه (٢).
وقال أهل العلم: القرض الحسن أن يجمع أوصافًا عشرة وهي: أن تكون من الحلال، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب" (٣).
وقد قال أيضًا: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" (٤).
وأن تكون من أكرم ما تملكه دون أن تقصد إلى الرديء للإنفاق. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧].
وأن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه، بأن ترجو الحياة كما قال -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن أفضل الصدقة، فقال: "أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا أو لفلان كذا" (٥).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٠ ب.
(٣) جزء حديث صحيح رواه الإمام مسلم في"صحيحه"، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها. والإمام أحمد في "المسند" ٢/ ٣٢٨.
(٤) رواه الإمام مسلم في الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، وأبو داود في الطهارة، باب في فرض الوضوء، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء (لا تقبل صلاة بغير طهور) وقال: هذا الحديث هو أصح شيء في هذا الباب وأحسن.
(٥) رواه البخاري في"صحيحه"، كتاب: الزكاة، باب: أفضل الصدقة صدقة الشحيح الصحيح ٢/ ١٣٧، ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: بيان أن أفضل الصدقه صدقة الصحيح الشحيح.
وأن تكتمه ما أمكن؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١].
وأن لا تتبعه منا وأذى؛ لأن الله تعالى قال: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [البقرة: ٢٦٤].
وأن تقصد به وجه الله ولا ترائي بذلك؛ لأن المرائي مذموم على لسان الشرع.
وأن تستحقرها، تعطي وإن كثر؛ لأن ذلك قليل والدنيا كلها قليلة.
وأن تكون من أحب مالك إليك، قال الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢]. فهذه أوصاف عشرة إذا استكمَلَتها الصدقة كانت قرضًا حسنًا إن شاء الله (٢)، وهذه الآية مفسرة مذكورة في سورة البقرة (٣).
١٢ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ قال أبو إسحاق: يوم منصوب بقوله: ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ أي وله أجر كريم في ذلك اليوم (٤).
و ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ قال مقاتل والحسن: يسعى نورهم بين
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٤٧، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٢١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٤٢، ونسب هذا القول للقشيري.
(٣) عند تفسيره الآية (٢٤٥) من سورة البقرة.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٣.
وقال قتادة: إن المؤمن يضيء له نوره كما بين عدن إلى صنعاء ودون ذلك حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نور إلا موضع قدميه (٢).
وقال ابن مسعود في هذه الآية: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم منهم من نوره مثل الجبل وأدناهم نورًا نوره على إبهامه يطفأ مرة ويَقد أخرى (٣).
وقال مجاهد: ما من عبد إلا ينادي يوم القيامة أين فلان بن فلان ها نورك، أين فلان بن فلان لا نور لك.
قوله: ﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ قال الأخفش والفراء: يريد من أيمانهم وشمائلهم فأقام الباء مقام عن كما قال: ﴿يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥]. يقول بطرف (٤)، واكتفى بالأيمان عن ذكر الشمائل.
وقال الضحاك وابن حبان: ﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ كتبهم التي أعطوها فكتبهم بأيمانهم ونورهم بين أيديهم (٥)، وعلى هذا حذف الكتب لدلالة قوله: ﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ عليها.
قوله تعالى: ﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ﴾ أي: وتقول لهم الملائكة: بشراكم اليوم.
١٣ - ثم ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم فقال: قوله تعالى: {يَوْمَ
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٥، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢٨، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٦٣ أ.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٢٨، و"زاد المسير" ٨/ ١٦٥، و"لباب التأويل" ٧/ ٣٢، وهو اختيار أبي جعفر النحاس. انظر: "إعراب القرآن" ٣/ ٣٥٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٤٠٧، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣٢.
(٥) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٤٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٥، و"زاد المسير" ٨/ ١٦٥، وهو اختيار ابن جرير، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢٨.
وقال ابن عباس ومجاهد: إن المؤمنين والمنافقين جميعًا يعطون النور وذلك أنهم يحشرون معًا ويعطون النور فيطفأ نور المنافقين ويقولون للمؤمنين ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ (٣).
وقال الكلبي: يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون قالوا: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ أي انتظرونا (٤) ونظر بمعنى انتظر في التنزيل والشعر كثير، قال الله تعالى: ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣] منتظرين إدراكه، وأنشد أبو علي (٥):
ما زِلت مُذ أشهرَ السُّفَّارُ أنْظُرُهُم | مثلُ انتظارِ المضحّي راعيَ الإبلِ |
(٢) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص ١٠٨ (الرقائق)، والحاكم في "المستدرك" وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ٢/ ٤٣٥، ببيان أطول مما هاهنا، وهو صحيح الإسناد موقوف على أبي أمامة، وانظر: "ابن كثير" ٤/ ٣٨، و"الدر" ٦/ ١٧٣.
(٣) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٧، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢٩.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٥٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٤٥.
(٥) البيت ورد في "اللسان" (ش) ولم ينسبه، وفيه: (راعي الغنم).
وقرأ حمزة ﴿أنْظِرُونَا﴾ بقطع الألف (٢) من الإنظار: قال أبو عبيد: التي تختارها هي الأولى (٣)؛ لأن تأويلها: انتظرونا، وأما الأخرى: فإنما هي من التأخير ولا أعرب للتأخير هاهنا موضعاً (٤) فأبطل هذه القراءة.
قال أبو إسحاق: ﴿انْظُرُونَا﴾ بقطع الألف معناه: انتظرونا أيضًا، وأنشد بيت عمرو بن كلثوم (٥):
أبا هند فلا تعجل علينا | وأنظرنا نخبرك اليقينا |
وأنظرنا نخبرك اليقينا
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الأعراف: ١٤] إنما هو طلب الإمهال والتسويف، فالمطلوب بقوله: وأنظرنا: تسويف، وكذلك
(٢) قرأ حمزة (أَنْظِرُونَا) بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الظاء، وقرأ الباقون (انظُرُونَا) بوصل الهمزة وضم الظاء. انظر: "النشر" ٢/ ٣٨٤، و"الإتحاف" ص ٤١٠.
(٣) أي قراءة الجمهور.
(٤) قلت: وإذا ثبتت القراءة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-كما هنا فلا عبرة بما قال غيره، وعدم معرفة أبي عبيد -رحمه الله - لهذا المعنى في القراءة لا يطعن في صحة القراءة وقوتها ولا يقلل من قدره رحمه الله، ومعرفة غيره من علماء اللغة لهذا المعنى تشهد لصحة القراءة لغة وقد صحت سندًا، والله أعلم.
(٥) البيت من معلقة عمرو بن هند. انظر: "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص ٩٨، و"الخزانة" ٣/ ٦٢٨.
قوله تعالى: ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ﴾ قال ابن عباس: يقول المؤمنون لهم ارجعوا وراءكم (٣). وقال مقاتل: قالت لهم الملائكة ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة (٤).
﴿فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ قال أبو إسحاق: تأويله لا نور لكم عندنا (٥).
قوله: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ﴾ قد ذكرنا أن المنافقين ينصرفون لطلب النور فلا يجدون، ثم يقبلون إلى المؤمنين ليلحقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين ويضرب بينهم سد، وهو قوله: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ﴾ أي أن بين المنافقين والمؤمنين ﴿بِسُورٍ﴾ وهو الحائط، والباء فيه صلة للتأكيد، قاله
(٢) انظر: " الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٧٣، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٥٧، وقوله: فيما لطف، أي فيما غمض معناه وغفى، و"اللسان" ٣/ ٣٦٩ (لطف).
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٥٤، و"الوسيط" ٤/ ٢٤٩
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٠ ب، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢٩، ونسب القول للمؤمنين موضحًا معنى الآية.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٤.
﴿لَهُ بَابٌ﴾ لذلك السور باب ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ أي في باطن ذلك السور الرحمة، قال ابن عباس والمفسرون (٢): يعني الجنة التي فيها المؤمنون ﴿وَظَاهِرُهُ﴾ يعني وخارج السور ﴿مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ أي من قبله يأتيهم العذاب، والمعنى أن ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة، وما يلي الكافرين يأتيهم من قبله العذاب.
قال ابن عباس: يريد جهنم (٣)، وقال الحسن: يعني النار (٤).
وقال الكلبي: هذا السور هو سور الأعراف (٥).
وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار (٦)، والمعنى أن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقين يحصلون (٧) في العذاب والنار وبينهم السور الذي ذكر الله تعالى.
١٤ - قوله تعالى: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ قال المفسرون: إن المؤمنين إذا فاتوا المنافقين وسبقوهم نادوهم من وراء السور ألم نكن معكم نصلي بصلاتكم في مساجدكم ونغزو مغازيكم، وكنا معكم في الحج
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٢٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٦، و"زاد المسير" ٨/ ١٦٦.
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٤٦، و"فتح القدير" ٥/ ١٧١.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٦، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٠٩.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤١ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢٩، و"الجامع" للقرطبي ١٧/ ٢٤٦، و"ابن كثير" ٤/ ٩٠٣، عن مجاهد وابن زيد، وقال ابن كثير: وهو الصحيح.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٢٩، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩، وزاد نسبته للحسن.
(٧) قوله: (يحصلون) أي يميزون، والمُحَصَّلة: التي تْمَيِزّ الذهب من الفضة، و"اللسان" ١/ ٦٥٤ (حصل).
﴿وَتَرَبَّصْتُم﴾ قال ابن عباس: يريد بالتوبة (٢)، وقال مقاتل: وتربصتم بمحمد الموت، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه (٣)، وهو اختيار أبي إسحاق، قال: وتربصتم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين الدوائر (٤).
قوله تعالى: ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ قال ابن عباس: شككتم في الوعيد، يعني فيما أوعدهم به محمد -صلى الله عليه وسلم- من العذاب (٥).
وقال مقاتل: وشككتم في نبوة محمد (٦).
وقوله: ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ قال ابن عباس: يريد الباطل وهو ما كانوا يتمنون الدوائر بالمؤمنين (٧) ﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ قالوا: الموت.
قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار (٨). وهو قوله تعالى: ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ أي وغركم الشيطان بحلم الله وإمهاله وهذا مفسر فيما تقدم (٩).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٥٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٤٧.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٦.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٤.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٥٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٤٧.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤١ أ.
(٧) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٤٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٦.
(٨) (الله في) ساقطة من (ك)، وانظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٠، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٦.
(٩) عند "تفسيره" الآية (٣٣) من سورة لقمان.
وقال مقاتل: يعني وليكم (٢).
وقال الكلبي: هي أولى بكم (٣)، وهو قول أبي عبيدة، وأنشد للبيد: (٤)
تعدت كل الفرجين تحسب أنه | مولى المخافة خلفها وأمامها |
وقال الفراء: هي أولى بكم (٦). هذا الذي ذكرنا ألفاظهم (٧). والمعنى: إنما هي التي تلي عليكم لأنها قد ملكت أمركم وأسلمتم إليها فهي أولى بكم من كل شيء وإنما جاز إطلاق هذا اللفظ على النار؛ لأن
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤١ أ.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٥٥، و"الوسيط" ٤/ ٢٤٩.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٤، والبيت في معلقة لبيد. انظر: "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص ٨٥، ومعناه: أن البقر هربت خوفاً من الكلاب، ولا تعرف أن الكلاب خلفها أم أمامها من شدة الخوف، فما بين اليدين فرج وما بين الرجلين فرج. وورد أيضًا في "شرح شواهد الكتاب" ١/ ٢٠٢، و"المقتضب" ٣/ ٢٠١، و"الدرر اللوامع" ١/ ١٧٨.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٥.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٣٤.
(٧) قال الرازي: واعلم أن هذا الذي قالوه معنى وليس بتفسير للفظ؛ لأنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر. انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٢٧ - ٢٢٨.
ووجه آخر وهو أن معنى قوله: ﴿هِيَ مَوْلَاكُمْ﴾ لا مولى لكم أي لا ناصر، وذلك أن من كانت النار مولاه فهو مولى له وهذا كما يقال: ناصره الخذلان، ومعينه البكاء، أي لا ناصر له ولا معين، ومثله كثير ويؤكد هذا الوجه قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١].
١٦ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾. يقال: أَنَى لك يَأْني أَنًى، وآن لك يئين أيْناَ إذا حان (١). روى الثوري عن الأعمش قال: لما قدموا المدينة أصأبوا من لين العيش ورفاهيته ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزلت في ذلك ﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾ الآية (٢). ونحو هذا قال القرظي، قال: كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الريف ففتروا عما كانوا عليه (٣).
وقال ابن أبي رواد: إن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهر فيهم المزاح والضحك فأنزل الله هذه الآية (٤).
قال ابن مسعود: لم يكن بين إسلامهم وبين أن عاتبهم الله بهذه الآية
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٢٧٦، وابن المبارك في "الزهد" ٢/ ٨٩، وابن المنذر، و"الدر" ٦/ ١٧٥.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٦٦ أ - ب.
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف". انظر: "الدر" ٦/ ١٧٥، و"فتح القدير" ٥/ ١٧٤.
وقال مقاتل بن حيان: إنها حين نزلت قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يستبطئكم بالخشوع" فقالوا عند ذلك يعتب ربنا. (٢) والمعنى: أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم لذكر الله.
قال ابن عباس: يريد لمواعظ الله، وعلى هذا الذكر مصدر أضيف إلى الفاعل أي "لذكر الله" وعظهم وما يعتبرون به ويستدلون به على الخشوع وهو ما ذكر الله لهم من مواعظ القرآن، ويجوز أن يكون الذكر مضافاً إلى المفعول والمعنى لذكرهم الله، أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة فلا يخشع قلبه للذكر.
قال أبو إسحاق هذه الآية -والله أعلم- نزلت في طائفة من المؤمنين حُثُّوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفه الله جل وعز بالخشوع والرقة فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء (٣).
قوله تعالى: ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ (ما) في موضع جر بالعطف على الذكر وهو موصول، والعائد إليه محذوف على تقدير وما نزله (٤) من الحق
(٢) ذكره القرطبي في "تفسيره" بدون سند، وفي "تفسير الثعلبي" ١٢/ ١٦٥ أعن ابن عباس قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وأورده ابن المبارك في "الزهد" ص ٨٩ عنه.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٧، و"لباب التأويل" ٧/ ٣٥، و"الوسيط" ٤/ ٢٥.
(٤) في (ك): (نزل).
قال أبو عبيدة: وكذلك هي عندنا على التشديد لذكر الله جل ثناؤه قبل ذلك (٢). والمعنى أنه هو نزل الحق.
قال المبرد: والمعنى في التشديد والتخفيف واحد؛ لأن الحق لا ينزل إلا بأن ينزله الله عز وجل فهو معلوم أن الله عز وجل أنزله وإن لم يذكر باللفظ ويدل على صحة قراءة من ضعف قوله: ﴿وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ (٣).
قال ابن عباس والمفسرون: في قوله: ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ يعني القرآن (٤).
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكُونُوا﴾ هو قال الفراء: هو في موضع نصب معناه: ألم يأن أن تخشع قلوبهم وألا يكونوا. قال: ولو كان جزماً على النهي كان صوابًا (٥)، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء (٦).
قوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ قال ابن عباس: يريد اليهود والنصارى ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ قال ابن عباس: يريد الدهر، وهو
(٢) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٧٤، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٥٩.
(٣) من الآية (١٠٥) من سورة الإسراء. وانظر: المراجع السابقة. قال النحاس: وليس يقع في هذا اختيار، ولو جاز أن يقال الذي مثل هذا اختيار لقيل: الاختيار نزل؛ لأن مثله ﴿لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ ولم يقل: لتذكير الله.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٧، و"فتح القدير" ٥/ ١٧٢.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٣٥.
(٦) وهي قراءة عيسى، وابن إسحاق، ورويس، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة، وغيرهم.=
والمعنى: طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد حب الدنيا أي مالوا إليها وأعرضوا عن مواعظ الله تعالى (٢)، ويجوز أن يكون المراد بطول الأمد أن أعمارهم طالت في الغفلة فأورثهم ذلك القسوة (٣).
ويكون المعنى على هذا: طال عليهم أمد الجزاء وأمد آجالهم.
وقال ابن حيان: الأمد (٤) هاهنا الأمل (٥) البعيد (٦)، والمعنى على هذا: طال عليهم الأمد بطول الأمل أي أملوا بعيدًا فقست قلوبهم.
وقال هو ومقاتل بن سليمان: يعني طال عليهم أمد خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقست قلوبهم حتى أحدثوا الأحداث (٧) يعني الذين كانوا قبل خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- والمعنى: أنه نهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر، ولهذا قال القرطبي: يجب أن يزداد المؤمن إيمانًا ويقينًا وإخلاصًا في طول صحبته الكتاب (٨).
(١) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٨، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٧.
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٥٠، و"لباب التأويل" ٧/ ٣٥.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٢٩، و"فتح القدير" ٥/ ١٧٣.
(٤) في (ك): (الأحد) والتصويب من "التفسير الكبير".
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٠.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤١ ب.
(٧) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٦٦ ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٠، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣.
(٨) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٢، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٦٦ ب، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١.
وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان نزلت في المنافقين (٢) وعلى هذا معنى قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي باللسان في العلانية.
قال مقاتل: كان المنافقون لا ترق قلوبهم لذكر الله والقرآن فلم يَلِن له إلا القليل منهم وهم الذين صدقوا وكثير منهم فاسقون (٣).
١٨ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ قراءة العامة بتشديد الصاد على معنى المتصدقين والمتصدقات بالصدقة، وكذا هو في قراءة أُبَّي بالفاء (٤) فأدغمت التاء في الصاد يدل على أن المعنى هذا.
قوله تعالى: ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ وهذا الفصل اعتراض بعين الخبر والمخبر عنه والاعتراض بمنزلة الصفة (٥) فهو للصدقة أشد ملاءمة منه للتصديق، وقراءة من قرأ بتخفيف الصاد من التصديق الذي هو بمعنى الإيمان، ومعناها إن المؤمنين والمؤمنات، حجة هذه القراءة أن التشديد مقصور على الصدقة والتخفيف أعم؛ لأن التصديق يعم الصدقة وغيرها من كل ما صدقوا وآمنوا به فهو أذهب في باب المدح، وعلى هذا قوله:
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤١ ب.
(٣) المرجع السابق.
(٤) قرأ ابن كثير، وأبو بكر: ﴿الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ بتخفيف الصاد فيهما وقرأ الباقون (المصَّدَّقين والمصَّدقات) بتاء ظاهرى وبها احتج الجمهور لقراءة التشديد. انظر: "حجة القراءات" ص ١٠٧، و"النشر" ٢/ ٣٨٤، و"الإتحاف" ص ٤١.
(٥) في (ك): (الصلة).
وذكر أبو علي في المسائل الحلبية في قوله: ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ﴾ أوجهًا، واختار الاعتراض فقال: حمله على الاعتراض أرجح الوجوه عندي؛ لأن الاعتراض قد شاع في كلامهم وكثر، ولم يجر ذلك عندهم فجرى مجرى الفصل بين المتصلين بما هو أجنبي؛ لأن فيه تبييناً فأشبه بذلك الصفة والتأكيد (٣).
١٩ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ في تفسير هذه الآية طريقان: أحدهما: أن الآية عامة في كل من آمن بالله ورسله وهو مذهب مجاهد، وقال: كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق، ثم قرأ هذه الآية (٤)، ويدل على هذا ما روي عن ابن عباس في قوله: ﴿هُمُ
(٢) من قوله: (قوله تعالى {وَأَقْرَضُوا﴾ وهذا الفصل) إلى هنا من كلام أبي علي الفارسي بتصرف من المؤلف. انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٧٤ - ٢٧٥.
(٣) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ١٤٣.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٣، و"معالم التزيل" ٤/ ٢٩٨، و"زاد المسير" ٨/ ١٧.
الثاني: أن الآية خاصة وهو قول المقاتلين، قال ابن سليمان: هم الذين لم يشكوا في الرسل ساعة حين أخبروهم (٢).
وقال ابن حيان: هم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم ولم يكذبوهم ساعة قط مثل حديث آل ياسين ومؤمن آل فرعون وأبي بكر الصديق (٣)، هذا كلامه وهو مذهب الضحاك في هذه الآية، قال: هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر رضي الله عنهم ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته (٤).
ومن قال بالطريقة الأولى قال: قوله: ﴿وَالشُّهَدَاءُ﴾ عطف على الآية الأولى. والمعنى: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء.
قال مجاهد: كل مؤمن صديق وشهيد، ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ﴾ (٥).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤١ ب.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٥١، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣١، و"فتح القدير" ٥/ ١٧٣، وأبو بكر الصديق هو خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي سنة ثلاث عشرة عن ثلاث وستين سنة. انظر: "الإصابة" ١١/ ٤٠، و"العبر" ١/ ١٣، و"صفة الصفوة" ١/ ٢٣٥.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٦٧ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٨، و"زاد المسير" ٨/ ١٧٠، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٥٤.
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٨، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٢، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٢.
قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون (والشهداء) نسقًا على ما قبله، فيكون المعنى: أولئك هم الصديقون وأولئك هم الشهداء عند ربهم، ويكون ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ للجماعة من الصديقين والشهداء (٢).
وعند قوم من المفسرين هذه الآية مستأنفة. قال مسروق: هذه للشهداء خاصة (٣)، وقال مقاتل بن سليمان ثم استأنف للشهداء يعني من استشهد (٤).
وقال مقاتل بن حيان: الآية الأولى مفصولة ثم ذكر الشهداء وهم الأنبياء والرسل (٥) واختار محمد بن جرير هذا القول قال: لأن الإيمان غير موجب اسم شهيد إلا أن يراد أنه شهيد على ما آمن به فيكون وجهًا وذلك ليس بمعروف من معانيه إذا أطلق، والتأويل والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله عند ربهم (٦).
وقال الفراء: انقطع الكلام عند قوله: ﴿هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ ثم قال ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يعني النبيين ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ ورفعت ﴿الشُّهَدَاءُ﴾ بقوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ ونحو هذا ذكر أبو إسحاق (٧) في هذا الوجه سواء فالشهداء
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٦ - ١٢٧.
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٦، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٣٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤١ ب.
(٥) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٥١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٨.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٣ - ١٣٤.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣٥، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٢٦.
٢٠ - قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ الآية، آراء المتأخرين من أهل التفسير يفسرون الحياة الدنيا بما في هذه الدار الفانية من العروض والأموال التي تسمى الدنيا وهي لا تسمى الحياة، والحياة الدنيا الحياة في هذه الدار، وللآدمي حياتان، الحياة الدنيا، وهي حياته في هذه الدار، وحياته الثانية: حياته في الآخرة، أعلم الله تعالى أن الحياة الفانية ما هي وهو يريد حياة من لا تكون حياته في طاعته؛ لأن من كانت حياته في طاعة الله لا تكون حياته لعبًا ولهوًا. قال ابن عباس في هذه الآية: يريد ما كان لغير الله فهو باطل وغرور (١). وإنما جعلها لعبًا ولهوًا: لأنها تنقضي عن قريب، ولأنها إذا كانت في غير الطاعة فهي باطل وغرور. قاله ابن عباس.
قوله تعالى: ﴿وَزِينَةٌ﴾ قال ابن عباس: يريد يتزين الناس بما لا يحب الله ولا يرضى (٢). والمعنى أن الكافر يستغل حياته بالتزين للدنيا، دون العمل للآخرة فحياته زينة على معنى أنه يذهبها في الزينة، والزينة اسم جامع لكل شيء يتزين به، والكافر لا همة له في حياته إلا ما يزينه في دنياه، وهذا كما قيل: حياتك بالغرور سهو وغفلة، أي أنك تذهبها فيهما لا أنها هما بعينهما. وكذلك قوله: ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ يعني أنكم تشتغلون في حياتكم بالتفاخر.
قال ابن عباس: يفاخر الرجل قريبه وجاره (٣).
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ٥/ ٢٥٥.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٥٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٨.
ثم بين لهذه الحياة شبيهًا فقال ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ يعني المطر والكاف موضعه رفع من وجهين أحدهما: أن يكون صفة لقوله. ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ وما ذكر بعدهما. والآخر: أن يكون خبرًا بعد خبر قاله الزجاج (٢)، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ﴾ [الكهف: ٤٥] الآية. وقد بينا الكلام فيها قوله تعالى: ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ يعني الزراع، عن عبد الله ومجاهد (٣).
قال الأزهري: والعرب تقول: للزارع كافرًا؛ لأنه يكْفُرُ البَذْرَ الذي يبذره بتراب الأرض، ومنه قوله: ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ أي الزُّرَّاعَ، وإذا أعجب الزراع نباتة مع علمهم به فهو غاية ما يُسْتَحْسَنُ، قال: وقيل الكفار في هذه الآية الكفار باللهِ وهم أشد إعجابًا بزينة الدنيا وحرثها من المؤمنين هذا كلامه (٤) وأكثره من قول أبي إسحاق (٥).
وقوله: ﴿نَبَاتُهُ﴾ أي ما ينبت من ذلك الغيث وباقي الآية مفسر في سورة الزمر (٦).
قال أهل المعاني: زهد الله بهذه الآية في العمل للدنيا ورغب في
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٧.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٣.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٩٩ (كفر).
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٧.
(٦) عند "تفسيره" الآية (٢١) من سورة الزمر.
قال مقاتل: عذاب شديد لأعداء الله ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ لأوليائه وأهل طاعته (١). وقاله ابن عباس.
قال الزجاج: معناه: مغفرة لأولياء الله، وعذاب لأعدائه (٢).
وقال الفراء: ذكر ما في الدنيا وأنه على ما وصف، ثم قال: وأما الآخرة فإنها إما عذاب وإما جنة (٣).
قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ يعني لمن عمل لها ولم يعمل للآخرة، وهو معنى قول مقاتل، أي: لمن اغتر بها يتمتعون ثم يذهب (٤).
وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور هو ما يلهيك عن طلب الآخرة وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه (٥).
٢١ - قوله تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ مضى تفسير هذه الآية عند قوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: ١٣٣].
قوله تعالى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ فيه ثلاثة أقوال.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٧.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٣٥.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٥٦.
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٨، و"لباب التأويل" ٧/ ٣٦، و"فتح القدير" ٥/ ١٧٥.
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد لرجل واحد، يعني أن لكل واحد جنة بهذه السعة (٢).
القول الثالث: أن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في نفوسهم، وأكبر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وهذا قول الزجاج (٣). وهذه الأقوال مشروحة في سورة آل عمران.
قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ في هذا أعظم رجاء وأقوى أمل إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن ولم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر (٤).
ثم قال ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله (٥).
قال أبو إسحاق: ثم أعلم أن المؤَدَّى إلى الجنة أو إلى النار لا يكون إلا بقضاء وقدر فقال:
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٥٦، و"فتح القدير" ٥/ ١٧٥. وفي "تفسير الثعلبي" ١٢/ ٧٨ ب قال: وقال ابن كيسان (عني به جنة واحدة من الجنان).
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٨.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٥، قال الشوكاني: ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه، واجتنب ما نها الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب و"السنة". "فتح القدير" ٥/ ١٧٦.
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٩، و"تفسير القرآن" ٤/ ٣١٣.
وقال الشعبي: المصيبة ما يكون من خير وشر، وما يسوء وشر (٣)، وهو اختيار الزجاج، قال: أو كسب خير أو شر فمكتوب عند الله معلوم (٤)، وهو قوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ قالوا: يعني اللوح المحفوظ.
وذكر أن سعيد بن جبير لما انطلق به إلى الحجاج بكى رجل، فقال ما يبكيك: قال: الذي نزل بك من الأمر قال: فلا تبك فإنه كان سبق في علم الله أن يكون هذا ثم قرأ هذه الآية (٥).
قال أبو علي الفارسي: قوله: ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ موضع قوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ يحتمل ضربين أحدهما: أن يكون مفعولا فيه ظرفًا، والآخر: أن يكون وصفًا، فإن جعلته ظرفًا احتمل أن يكون ظرفًا لأصاب، واحتمل أن يكون لمصيبة ويؤكد كونه ظرفًا ويحسنه دخول لا في قوله:
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٢، و"تفسبر مقاتل" ١٤٢ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٥٧.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٦٩ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٧، و"روح المعاني" ٢٧/ ١٨٦.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٨.
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٦٩ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٥٧.
الوجه الثاني: أن يكون صفة للنكرة، وقوله: ﴿وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ صفة معطوفة على صفة، وإذا كان كذلك احتمل موضع قوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ضربين: أحدهما: أن يكون جرًا على لفظ قوله: ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ والآخر: أن يكون رفعًا على موضع ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾.
فإن قلتَ: فما وجه دخول (لا) في قوله: ﴿وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ وليس الكلام على هذا التأويل بنفي؟ فالقول فيه: أنه لما كان معطوفًا على ما هو منفي في المعنى وإن لم يكن منفيًا في اللفظ جاز أن يحمل الكلام على المعنى فيدخل فيه لا؛ لأن قوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ صفة لمنفي (١) فأجريته مجرى المنفي فاستجزت العطف عليه بلا، والحمل على المعنى في النفي قد جاء في غير شيء من كلامهم ألا ترى أنهم قد قالوا: إن أحدًا لا يقول إلا زيد لما كان في المعنى منفيًا. وإن شئت قلت: إن (لا) زائدة وقد ذكرنا زيادتها في غير موضع (٢).
قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ قال ابن عباس: من قبل أن أخلق خلقي (٣).
وقال الكلبي والمقاتلان: من قبل أن أخلق الأنفس (٤). وعلى هذا
(٢) انظر: "الدر المصون" ١/ ٢٥١.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٣، و"فتح القدير" ٥/ ١٧٦، ولم ينسب القول لقائل.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٣، و"تفسير مقاتل" ١٤٢ أ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ قال ابن عباس: إن حفظ ذلك على الله هين (٤). وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [فاطر: ١١] والمعنى أن إثبات ذلك على كثرته يسير هين على الله.
٢٣ - قوله: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ هذا يدل على قول الشعبي إن المصيبة تكون من خير وشر؛ لأن الله تعالى ذكر في هذه الآية الحزن والفرح جميعًا، وهذه اللام تجعل أول الكلام سببًا لآخره، كما تقول: قمت لأضربك، بينت باللام أن القيام سبب للضرب وفي هذه الآية ليس الأمر على ذلك؛ لأن إثبات الله تعالى للحوادث والكائنات قبل خلقها لو كان سببًا لنفي الحزن والفرح ما فرح أحد ولا حزن، ولا وجد فرح ولا حزن، ولكن اللام تتعلق بإخبار الله تعالى إيانا بانقضائه وسبق قدره وبالكائنات، وذلك يوجب نفي الفرح والحزن وكأنه قيل: أخبرناكم بهذا لكيلا تأسوا، وحذف ذلك؛ لأن المشاهدة أغنت عنه وهذا معنى ما ذكره صاحب النظم (٥).
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٩، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٧.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٦٩ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٥٧.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٩، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٤.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٨.
قوله تعالى: ﴿مَا آتَاكُمْ﴾ قراءة العامة بالمد من الإيتاء، وقرأ أبو عمرو مقصورًا من الإتيان (٢) عادل به ﴿فَاتَكُمْ﴾ فكما أن الفعل للفائت في قوله: ﴿فَاتَكُمْ﴾ كذلك يكون الفعل الذي في قوله: ﴿مَا آتَاكُمْ﴾ والعائد إلى الموصول من الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل، ووجه قراءة العامة أن الخير الذي يأتيهم هو مما يعطيه الله فإذا قد كان ذلك منسوبًا إلى الله وهو المعطي لذلك، ويكون فاعل الفعل في (آتاكم) ضميرًا عائدًا إلى اسم الله، والهاء محذوفة من الصلة تقديره: بما آتاكموه (٣).
قال المبرد: المعنى في قوله: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ أي لا يكون منكم في هذا ولا في هذا ما يجاوز مقدار ما ينبغي فيه (٤).
وشرحه الزجاج فقال: معناه: لا تحزنوا حزنًا يطغيكم حتى يخرجكم إلى أن تلزموا أنفسكم الهلكة، ولا تعتدوا بثواب ما تسلبونه وما فاتكم،
(٢) قرأ الجمهور ﴿آتَاكُمْ﴾ بالمد، وقرأ أبو عمرو ﴿أَتَاكُمْ﴾ انظر: "النشر" ٢/ ٣٨٤، و"الإتحاف" ص ٤١١.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٧٥ - ٢٧٦، و"حجة القراءات" ص ١٠٧ - ٢٠٧.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٩، والظاهر أن الرازي رحمه الله خلط بين كلام المبرد وكلام الزجاج حيث ذكر ما شرح به الزجاج كلام المبرد ونسبه للمبرد، والصواب ما ذكره المؤلف هنا.
٢٤ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ هذه الآية مستأنفة لا تتعلق بما قبلها لأنها في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام وبخلوا ببيان فعته، قاله ابن عباس في رواية عطاء والكلبي ومقاتل (٣)، والآية مفسرة في سورة النساء (٤). و (الذين) ابتداء وخبره محذوف دل عليه قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ على تقدير الذين يبخلون الله غني عنهم (٥).
قال ابن عباس: ومن يتول عن الإيمان فإن الله غني عن عبادته، حميد إلى أوليائه (٦).
وقال مقاتل: يعني بخل اليهود حين بخلوا بالزكاة والنفقة في سبيل الله. يقول الله غني عما عندهم حميد عند خلقه (٧).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٦، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٣٩، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٤.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٣، و"تفسير مقاتل" ١٤٢ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤.
(٤) عند تفسيره الآية (٣٧) من سورة النساء.
(٥) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٦٧، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٧١٩.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٣، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٣.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ.
٢٥ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قال مقاتل بن حيان: البينات: الإخلاص لله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى ذلك دعت الرسل (٤). فالبينات على قول ابن سليمان الحجج (٥)، وعلى قول ابن حيان الأحكام في العبادة، والأول الوجه (٦)؛ لقوله (٧): ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾، والكتاب يتضمن الأحكام.
قوله تعالى: ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ قال قتادة وابن حيان: الميزان: العدل (٨).
(٢) قرأ الجمهور ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (فإن الله الغني) انظر: "النشر" ٢/ ٣٨٤، و"الإتحاف" ص ٤١١.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٧٦.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٩.
(٦) يظهر من قول المؤلف "والمعدل الوجه" سقط في العبارة قبل قوله: قال مقاتل بن حيان. ولعل العبارة كما في "تفسير مقاتل بن سليمان" هكذا (قال مقاتل بن سليمان: البينات: يعني الآيات).
(٧) في (ك): (كقوله).
(٨) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٥، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٩.
وقال مقاتل بن سليمان: يعني الموازين (١). وهو قول ابن زيد. قال: ما يوزن (٢) به.
وعلى هذا المعنى أنزلنا معهم الكتاب ووضعنا الميزان فيكون من باب:
علفتها تبنًا وماء باردًا (٣)
وأكلت خبزًا ولبنًا.
وقد مر في مواضع، يدل على صحة هذا قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: ٦].
قوله: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ أي: ليتبعوا ما أمروا به من الطاعة والعدل فتعملوا بينهم بالعدل.
﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ قال الكلبي: أنزل الله على آدم القلاة والمطرقة
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦.
(٣) ورد في "البيت" في "الخصائص" ٢/ ٤٣١، و"الخزانة" ٣/ ١٣٩، و"إيضاح الشعر" للفارسي ص ٥٧٣، و"الإنصاف" ص ٦١٣، ونسبه إلى ذي الرمة وليس في ديوانه. وفي "أوضح المسالك" ٢/ ٢٤٥، رقم (٢٥٨) قال محققه: ولم أقف له على نسبة إلى قائل معين، ثم ذكر ثلاثة تخريجات للبيت ومن قال بكل قول. وتمام البيت:
حتى شتت حمالة عيناها
وانظر: "زاد المسير" ٨/ ٢١٢، و"البحر المحيط" ١/ ٢٤٧، و"شذرات الذهب" الشاهد رقم (١١٥).
وروي عن ابن عباس: نزل آدم من الجنة معه خمسة أشياء من الحديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة (٢).
ويدل على صحة هذا ما روى ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح" (٣) هذا مذهب المفسرين.
وذهب قوم إلى أن معنى أنزلنا الحديد أنشاناه وأحدثناه، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦] وهو معنى قول مقاتل يقول: بأمرنا كان الحديد (٤)، وهذا قول أبي علي الفارسي.
وقال قطرب: معنى أنزلنا هيأنا وخلقنا من التنزل - يقال: أنزل الأمير على فلان نزلاً حسنًا (٥)، ومعنى الآية: أنعمنا بالحديد وجعلناه مهيأ لكم
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٧٠ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤١ - ٢٤٢، والميقَعةُ: ما دُفعَ به السيف، وقيل: الميقعة المسن الطويل، و"اللسان" ٣/ ٩٦٨ (وقع).
(٣) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ٧٠ ب، وقال ابن حجر: وفي إسناده من لا أعرفه. "تخريج أحاديث الكشاف" ٤/ ١٦٤، وفي "ضعيف الجامع" ٣/ ٧٧: موضوع، وفي "الطب النبوي" لابن القيم ص ٣٩٦، قال: ذكره البغوي مرفوعًا والموقف أشبه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ.
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٧٠ أ - ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٠، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٢.
قوله تعالى: ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ قال أبو إسحاق: يمتنع به ويحارب (١) به، وهو قول المفسرين: فيه قتال شديد، قاله عطاء والكلبي (٢).
وقال مقاتل: بأس شديد للحرب (٣)، والمعنى: أنه يتخذ منه آلتان للحرب: آلة الدفع، وآلة الضرب، وقد جمعهما مجاهد في قوله: جُنَّة وسلاح (٤).
قوله تعالى: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ قال المقاتلان والكلبي: ما ينتفعون به في معايشهم مثل السكاكين والفأس والمبرد (٥).
وقال عطاء عن ابن عباس: لأن كل شيء خلقه الله من حجر أو شجر لا يصلح إلا بالحديد (٦).
وقال أبو إسحاق: يستعملونه في أدواتهم وما ينتفعون به (٧).
قال صاحب النظم قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ كل هذا معترض بين قوله: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾؛ لأن قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ لا يتصل بإنزال الحديد وهو نسق على قوله: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (٨).
(٢) انظر؛ "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٠، وعبارتهما (قوة شديدة).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ.
(٤) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٨، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٣٧.
(٥) في (ك): (المدّ)، وانظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٤.
(٦) لم أجده.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٦.
(٨) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦١، و"الدر المصون" ١/ ٢٥٣.
ولأبي النصر عبد الجبار بن محمد العتبي الكاتب -رحمه الله- فصل في هذه الآية خلاف ما ذكره صاحب النظم؛ وهو أنه قال: كان يختلج في صدري معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ لجمعه بين الكتاب، والميزان، والحديد، على تنافر طردها من المناسبة، وبعدها قبل الرؤية والاستنباط عن المشاكلة والمقاربة، وسألت عنه عدة من أعيان العلماء بالتفسير والمشهورين من بينهم بالتذكير فلم أحصل منهم على جواب يزيح العلة، ويشفي الصدر، وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، وأنعمت التوبر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد، ويفصل جمل الفرائض، ويريهن مصالح الأبدان والنفوس، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، قد خطر فيه التعادي والتظالم، والتباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل في أقسام الأرزاق المخرجة لهم بين رجع السماء وصدع الأرض، ليكون ما لِصل منها إلى أهل الخطاب بحسب الاستحقاق بالتكسب دون التغلب والتوثب، واحتاجوا في استدامة حياتهم بأقواتهم مع النصفة المندوب إليها إلى استعمال آلة العدل التي يقع بها التعامل، ويعم معها التساوي والتعادل، فألهمم الله -عَزَّ وَجَلَّ- اتخاذ الآلة التي هي الميزان فيما يأخذونه
وهذا الذي ذكره من أن المراد بالحديد السيف هو معنى ما ذكرنا من قول المفسرين في تفسير قوله: ﴿بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾.
وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ قد مضى الكلام في بيان هذا العلم في مواضع، والمفسرون يقولون: وليرى الله من ينصره وينصر دينه، كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: ٧].
﴿وَرُسُلَهُ﴾ أي يقاتل مع رسله في سبيله ﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي ولم ير الله ولا أحكام الآخرة وإنما يحمد إذا أطاع بالغيب، كما قال الله تعالى {يُؤَمنُونَ
﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ﴾ في أمره، ﴿عَزِيزٌ﴾ في ملكه. قال مقاتل (١): وفيه بيان أنه غني عن خلقه وعن نصرتهم بعزه وقوته.
٢٧ - وما بعد هذا ظاهر ومفسر فيما تقدم، إلى قوله: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ قال ابن عباس يريد الحواريين وأتباعهم (٢).
﴿رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ قال مقاتل (٣): يعني المودة كانوا متوادين بعضهم لبعض كما وصف الله تعالى أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩].
قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ هي اسم مبني من الرهبة، وقد مضى الكلام في تفسير الرهبان (٤)، قال أبو إسحاق: وابتدعوا رهبانية كما تقول: رأيت زيدًا وعمرًا كلمته (٥).
وقال أبو علي: قوله: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ محمول على فعل، كأنه قال: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا (٦) مع وصفه إياها، بقوله: ابتدعوها؛ لأن ما يجعله هو -عَزَّ وَجَلَّ- لا
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٥٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦٢.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠.
(٤) الآية (٤٠) من سورة البقرة. رهب، يرهب، رهبًا: أي خاف، والراهب: المتعبد في الصومعة.
وأصل الرهبانية من الرهبة ثم صارت اسمًا لما فضل عن المقدار وأفرط فيه. "اللسان" ١/ ١٢٣٧ (رهب).
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٣.
(٦) في (ك): (جعلها).
ومعنى ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾ جاءوا بها من قبل أنفسهم، وهو معنى قوله: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس: ما فرضناها عليهم (٢).
ومعنى رهبانيتهم غلوهم في العبادة من حمل المشاق على أنفسهم في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبد في الغيران والكهوف والديارات والصوامع، وسبب ذلك على ما قال المفسرون: أن ملوكهم بدلوا غيروا وأحدثوا أحداثًا في دينه وقاتلوهم الذين بقوا على دينهم، فقتل منهم الكثير ولم يبق إلا نفر قليل، فذهب هؤلاء النفر وخرجوا إلى البراري والجبال متبتلين، وابتدعوا الرهبانية (٣).
قوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد طلبوا رضي الله (٤).
وقال قتادة: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله (٥)، وعلى هذا يكون التقدير: ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فيكون استثناء منقطعًا.
وقال أبو إسحاق: ويكون ﴿ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ بدلاً من الهاء
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٥، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦٣، ونسبه لابن زيد.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٨، سنن النسائي، كتاب آداب القضاة، باب: تأويل قوله -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، و"معالم التنزيل" ٤/ ١٠٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٥ - ٣١٦.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٥، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٦.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٦، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٣٨.
قوله تعالى: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن هؤلاء الذين ذكرهم الله ووصفهم بتصنع الرهبانية وترك رعايتها هم قوم كفروا بدين عيسى وتهودوا وتنصروا من هؤلاء الذين أحدثوا الرهبانية ودخلوا في دين ملوكهم وتركوا الترهب وهو قول مقاتل، قال: لم يرعوها ولا أحسنوا حين تهودوا وتنصروا فأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فآمنوا به، فهو قوله: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الذين تهودوا وتنصروا (٥).
ونحو هذا روى ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "منهم من تمسك بدينه وهم الذين قال الله ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ ومنهم من كفر، وهو قوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (٦) وهذا قول الضحاك ورواية عطاء عن ابن
(٢) في (ك): (أمره).
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٣.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٦٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٦.
(٦) هذا الحديث ذكره المؤلف بالمعنى، وهو حديث طويل أخرجه الحاكم في كتاب التفسير، سودة الحديد. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: قلت ليس بصحيح فإن الصعق وإن كان موثقًا فإن شيخه منكر الحديث. =
القول الثاني: أن الذين لم يرعوها حق رعايتهم (٢) الذين أدركوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمنوا به (٣).
قوله تعالى: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ أي آمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ يعني الذين لم يؤمنوا به، يدل على هذا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون" (٤).
القول الثالث: أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرض على ذلك طائفة منهم، وخلف بعدهم قوم اقتدوا بهم ولم يكونوا على منهاجهم، فهم الذين لم يرعوها حق رعايتها وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد (٥)، وعطاء.
(١) انظر: "الكشف والببان" ١٢/ ٧١ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦٣.
(٢) كذا في (ك)، ولعل الصواب (رعايتها).
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٦.
(٤) جزء من الحديث السابق، وقد أخرجه الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ٧١ ب، وفي سنده: عقيل الجعدي أيضًا.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٨.
وقال سعيد: ابتدعها (٢) الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ يعني الذين ابتدعوها ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الذين جاؤا من بعدهم (٣).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ خطاب لأهل الكتاب من اليهود والنصارى (٤) بقوله: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد -صلى الله عليه وسلم- وآمنوا به ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ ضعفين وأجرين ونصيبين ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ وذكرنا تفسير الكفل في سورة النساء (٥).
قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ قال ابن عباس: يعني على الصراط، وهو قول مقاتل (٦)، وقال مجاهد: يعني الهدى والبيان (٧).
وذكر أبو إسحاق القولين فقال: ويجعل لكم نورًا تمشون به كما قال
(٢) كذا في (ك) ولعل الصواب (ابتدعها).
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٠١٢، غرائب القرآن ٢٧/ ١٤١.
(٤) قال ابن عباس والضحاك وعتبة بن أبي حكيم، وهو اختيار ابن جرير انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٤٠، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٧.
(٥) عند "تفسيره" الآية (٨٥) من سورة النساء. والكفل: الحظَّ والضَّعف من الأجر والإثم، والكفل: النصيب أخذ من قولهم: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه أو على موقع من ظهره كساء وركبت عليه، وإنما قيل له كفل؛ لأنه لم يستعمل الظهر كله. انظر: "تهذيب اللغة"، و"اللسان" ٣/ ٢٧١، (كفل).
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٣ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٣، و"فتح القدير" ٥/ ١٧٩.
(٧) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٨، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٤٢، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦٧.
وعد الله تعالى لمن آمن من أهل الكتاب أجرين اثنين أجرًا لإيمانهم بالنبي، والكتاب الأول وأجرًا لإيمانهم بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والكتاب الثاني، كما قال في موضع آخر ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [القصص: ٥٤] الآية. ووعدهم أن يجعل لهم نورًا وأن يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم قبل الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
٢٩ - ولما نزل هذا وآمن من آمن منهم حسدهم الذين لم يؤمنوا فأنزل الله تعالى، قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ أي لأن يعلم ولا صلة في قول الجميع (٢) ﴿أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وحسدوا المؤمنين منهم ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ﴾ يعني أنهم لا يقدرون ﴿عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ والمعنى: جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ليعلم الذين لم يؤمنوا منهم أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فآت المؤمنين منهم أجرين.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين، وهذا الذي ذكرنا معنى قول قتادة (٣).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للأخفش، ٢/ ٤٧٠، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣٧، و"مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٤.
(٣) انظر: "تفسر عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٦، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٤٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٧٠، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٠٣.
(٢) وهو اختيار ابن جرير وابن كثير. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٤٢، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٧.