تفسير سورة الإنسان

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مدينة وآياتها إحدى وثلاثون

وسلم كان إذا قرأها قال سبحانك بلى «١».
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة» «٢».
سورة الإنسان
مدنية، وآياتها ٣١ [نزلت بعد الرحمن] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١)
هل بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة، والأصل: أهل، بدليل قوله:
أهل رأونا بسفع القاع ذى الأكم «٣»
فالمعنى: أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعا، أى: أتى على الإنسان قبل زمان قريب حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ فيه شَيْئاً مَذْكُوراً أى كان شيئا منسيا غير مذكور نطفة في الأصلاب والمراد بالإنسان: جنس بنى آدم، بدليل قوله إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ. حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ طائفة من الزمن الطويل الممتد. فإن قلت: ما محل لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً؟ قلت: محله النصب على الحال من الإنسان، كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو الرفع على الوصف لحين، كقوله يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وعن بعضهم: أنها تليت عنده فقال:
ليتها تمت، أراد: ليت تلك الحالة تمت، وهي كونه شيئا غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف.
(١). أبو داود: من رواية موسى بن أبى عائشة عن رجل سمعه عن النبي ﷺ ورواه الحاكم من رواية إسماعيل بن أمية عن أبى اليسع عن أبى هريرة نحوه «قلت» راويه عن إسماعيل عند الحاكم يزيد بن عياض متروك. ولكن أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن رجل عن أبى هريرة. واختلف فيه على إسماعيل على أوجه أخرى ذكرتها في حاشية الأطراف.
(٢). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٣٤٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢]

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢)
نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ كبرمة أعشار «١»، وبرد أكياش: وهي ألفاظ مفردة غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضا: نطفة مشج، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت... على مشج سلالته مهين «٢»
ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيرا له، بل هما مثلان في الإفراد، لوصف المفرد بهما.
ومشجه ومزجه: بمعنى. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان. وعن ابن مسعود: هي عروق النطفة. وعن قتادة: أمشاج ألوان وأطوار، يريد: أنها تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة نَبْتَلِيهِ في موضع الحال، أى: خلقناه مبتلين له، بمعنى: مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، تريد: قاصدا به الصيد غدا. ويجوز أن يراد: ناقلين له من حال إلى حال، فسمى ذلك ابتلاء على طريق الاستعارة. وعن ابن عباس: نصرفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة. وقيل: هو في تقدير التأخير، يعنى: فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، وهو من التعسف.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٣]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)
شاكرا وكفورا: حالان من الهاء في هديناه «٣»، أى: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعا.
أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع: كان معلوما منه «٤» أنه يؤمن أو يكفر، لإلزام الحجة. ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أى: عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة
(١). قوله «كبرمة أعشار» في الصحاح «برمة أعشار» إذا انكسرت قطعا قطعا وقلب أعشار: جاء على بناء الجمع، كما قالوا: رمح أقصاد اه، ولم يذكر أكباش ولا مادته فيه، فلينظر في غيره. (ع)
(٢). للشماخ. ورتجت الباب وأرتجته: إذا أغلقته. والرتاج: الباب. ومشج الشيء: مزجه. والمشج- كسبب-: الممزوج. ومثله: أمشاج، فهو مفرد على صورة الجمع كأخلاق. وقيل: جمع مشج. والسلالة- في الأصل: ما ينسل من بين الأصابع من الطين المائع. والمهين: الحقير، يصف امرأة قبلت المنى في فرجها وطوت قبلها عليه. ومرتجة صفة للأحشاء: أى مغلقة إلى وقت تمام الحمل. على منى مختلط من منى الرجل ومنيها، سلالته:
أى ما انسل وتدفق منه: مهين: حقير. وفعيل: يوصف به المذكر والمؤنث، والواحد والمتعدد.
(٣). قال محمود «هما حالان من الهاء في هديناه... الخ» قال أحمد: هذا من تحريفه المنكر وهو عند أهل السنة على ظاهره. [.....]
(٤). قال محمود: «أو يكون معناه إنا دعوناه إلى الايمان كان معلوما منه... الخ» قال أحمد: واستحسانه لقراءة أبى السمال لتخيله أن في التقسيم إشعارا بغرضه الفاسد، وليس كذلك، فان التقسيم يحتمل الجزاء إما شاكرا فمناب، وإما كفورا فمعاقب، ويرشد إليه ذكر جزاء الفريقين بعد.
في إِمَّا وهي قراءة حسنة. والمعنى: أما شاكرا فبتوفيقنا، وأما كفورا فبسوء اختياره «١»
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٤]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرئ: سلاسل، غير منون. وسلاسلا، بالتنوين «٢». وفيه وجهان: أحدهما أن تكون هذه النون بدلا من حرف الإطلاق، ويجرى الوصل مجرى الوقف. والثاني: أن يكون صاحب القراءة به ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٥ الى ١٠]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠)
الْأَبْرارَ جمع برّ أو بارّ، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد. وعن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذرّ «٣». والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر، وتسمى الخمر نفسها: كأسا مِزاجُها ما تمزج به كافُوراً ماء كافور، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور «٤» ورائحته
(١). قوله «فيسوء اختياره» هذا على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يخلق الشر، أما عند أهل السنة فهو خالق الخير والشر، كالشكر والكفر. (ع)
(٢). قال محمود: «قرئ بتنوين سلاسل فوجهه أن تكون هذه النون بدلا من ألف الإطلاق... الخ» قال أحمد: وهذا من الطراز الأول لأن معتقده أن القراءة المستفيضة غير موقوفة على النقل المتواتر عن النبي ﷺ في تفاصيلها، وأنها موكولة إلى اجتهاد القراء واختيارهم بمقتضى نظرهم كما مر له، وطم على ذلك هاهنا فجعل تنوين سلاسل من قبيل الغلط الذي يسبق إليه اللسان في غير موضعه لتمرنه عليه في موضعه، والحق أن جميع الوجوه المستفيضة منقولة تواترا عنه صلى الله عليه وسلم، وتنوين هذا على لغة من يصرف في نثر الكلام جميع ما لا ينصرف إلا أفعل، والقراآت مشتملة على اللغات المختلفة، وأما قوارير قوارير: فقرئ بترك تنوينهما وهو الأصل، وتنوين الأول خاصة بدلا من ألف الإطلاق لأنها فاصلة، وتنوين الثانية كالأولى اتباعا لها، ولم يقرأ أحد بتنوين الثانية وترك تنوين الأولى، فانه عكس أن يترك تنوين الفاصلة مع الحاجة إلى المجانسة، وتنوين غيرها من غير حاجة.
(٣). قوله «لا يؤذون الذر» في الصحاح «الذر» النمل. (ع)
(٤). قال محمود: «كافورا عين في الجنة اسمها كذلك في لون الكافور ورائحته وبرده... الخ» قال أحمد: هذا الجواب على القولين الأولين، وأما على القولين الآخرين وهو أن العين بدل من الكأس. ومعنى مزاجها بالكافور:
إما اشتمالها على أوصافه، وإما أن يكون الكافور المعهود كما تقدم، فلا يتم الجواب المذكور، فيجاب عن السؤال بأنه لما ذكر الشراب أولا باعتبار الوقوع في الوجود، ذكره ثانيا مطمئنا للالتذاذ به، وكأنه قال: فيشربون منها فيلتذون بها، وعليه حمله أبو عبيدة.
667
وبرده. وعَيْناً بدل منه. وعن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. وقيل: تخلق فيها رائحة الكافور وبياضه وبرده. فكأنها مزجت بالكافور. وعَيْناً على هذين القولين:
بدل من محل مِنْ كَأْسٍ على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون فيها خمرا خمر عين. أو نصب على الاختصاص. فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أوّلا، وبحرف الإلصاق آخرا؟ قلت: لأنّ الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته، وأما العين فبها يمزجون شرابهم، فكان المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل يُفَجِّرُونَها يجرونها حيث شاءوا من منازلهم تَفْجِيراً سهلا لا يمتنع عليهم يُوفُونَ جواب من عسى، يقول:
ما لهم يرزقون ذلك، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات، لأنّ من وفي بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أو في مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ، من استطار الحريق، واستطار الفجر. وهو من طار، بمنزلة استنفر من نفر عَلى حُبِّهِ الضمير للطعام، أى: مع اشتهائه والحاجة إليه. ونحوه وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وعن الفضيل بن عياض: على حب الله وَأَسِيراً عن الحسن: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وعن قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. وعن أبى سعيد الخدري:
هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم الغريم:
أسيرا، فقال «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» إِنَّما نُطْعِمُكُمْ على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولا باللسان منعا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله، فلا معنى لمكافأة الخلق، وأن يكون قولهم لهم لطفا وتفقيها وتنبيها، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله. وعن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله.
ويجوز أن يكون ذلك بيانا وكشفا عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئا. وعن مجاهد:
668
أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم. والشكور والكفور: مصدران كالشكر والكفر إِنَّا نَخافُ يحتمل إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم، لا لإرادة مكافأتكم، وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة.
ووصف اليوم بالعبوس. مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم:
نهارك صائم: روى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل: والقمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. قال الزجاج: يقال: اقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها «١»، فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة «٢»
واصطليت الحروب في كلّ يوم باسل الشّرّ قمطرير الصّباح «٣»
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١١ الى ٢٢]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥)
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠)
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
(١). قوله «وجمعت قطريها وزمت بأنفها» القطر: الناحية والجانب. وزق الطائر فرخه: أطعمه بفيه.
والزقرة: ترقيص الطفل، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). قوله «قال أسد بن ناعصة» من النعص: وهو التمايل. (ع)
(٣). لأسد بن ناعصة. وصلى النار واصطلاها إذا ذاق شدة حرها وتدفأ بها، فشبه الحرب بالنار على طريق المكنية، والاصطلاء تخييل، والباسل: الشجاع إذا اشتد كلوحه. والقمطرير: الشديد العيوس الذي يجمع ما بين عينيه، يقال: اقمطرت الناقة، إذا جمعت قطريها فرفعت ذنبها وزمت بأنفها، فهو من القطر، والميم زائدة، ووصف الشر والصياح بذلك مجاز.
669
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أى: أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب، وهذا يدل على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله بِما صَبَرُوا بصبرهم على الإيثار. وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله ﷺ في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك «١»، فنذر علىّ وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما: أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علىّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال:
السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعمونى أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ على رضى الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها. فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة. فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكل هنىّ، وحريرا فيه ملبس بهىّ. يعنى: أن هواءها معتدل، لا حرّ شمس يحمى ولا شدّة برد تؤذى. وفي الحديث: هواء الجنة سجسج «٢»، لا حرّ ولا قرّ. وقيل: الزمهرير القمر.
وعن ثعلب: أنه في لغة طيئ. وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزّمهرير ما زهر «٣»
(١). أخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن ابن عباس ومن رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس في قوله تعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ- الآية فذكر تمامه. وزاد في أثنائه أشعارا لعلى وفاطمة. قال الحكيم الترمذي في الرابع والأربعين: ومن الأحاديث التي تنكرها القلوب حديث رووه عن مجاهد عن ابن عباس فذكره بشعره. ثم قال: هذا حديث مزوق مفتعل لا يروج إلا على أحمق جاهل. ورواه ابن الجوزي في الموضوعات من طريق أبى عبد الله السمرقندي. عن محمد بن كثير عن الأصبغ بن نباتة. قال: مرض الحسن والحسين. إلى آخره فذكره بشعره وزيادة ألفاظ. ثم قال: وهذا لا نشك في وضعه.
(٢). قوله «هواء الجنة سجسج» تفسيره ما بعده، كما يفيده الصحاح. (ع)
(٣). أى: ورب ليلة ظلامها قد تراكم واختلط وكثر، قطعتها وأمضيتها بالسير، والحال أن الزمهرير ما زهر أى: ما ظهر وأضاء. والزمهرير في لغة طيئ: القمر، وهذه الحال مؤكدة لاعتكار الظلام.
670
والمعنى: أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر. فإن قلت: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها علام عطفت؟ قلت: على الجملة التي قبلها، لأنها في موضع الحال من المجزيين، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في عليهم، إلا أنها اسم مفرد، وتلك جملة في حكم مفرد تقديره: غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ودنوّ الظلال عليهم وقرئ: ودانية، بالرفع، على أن ظلالها مبتدأ، ودانية خبر، والجملة في موضع الحال، والمعنى:
لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، والحال أن ظلالها دانية عليهم، ويجوز أن تجعل مُتَّكِئِينَ ولا يَرَوْنَ ودانِيَةً كلها صفات لجنة. ويجوز أن يكون وَدانِيَةً معطوفة على جنة، أى:
وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، على أنهم وعدوا جنتين، كقوله وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ لأنهم وصفوا بالخوف: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا. فإن قلت: فعلام عطف وَذُلِّلَتْ؟
قلت: هي- إذا رفعت وَدانِيَةً-: جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية، وإذا نصبتها على الحال، فهي حال من دانية، أى: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم. أو معطوفة عليها على: ودانية عليهم ظلالها، ومذللة قطوفها، وإذا نصبت وَدانِيَةً على الوصف، فهي صفة مثلها، ألا ترى أنك لو قلت: جنة ذللت قطوفها: كان صحيحا، وتذليل القطوف: أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا. أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصيرا قَوارِيرَا قَوارِيرَا قرئا غير منونين، وبتنوين الأول، وبتنوينهما. وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق، لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأوّل، ومعنى قوارير من فِضَّةٍ أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها. فإن قلت: ما معنى كانت؟ قلت: هو من «يكون» في قوله كُنْ فَيَكُونُ أى: تكوّنت قوارير، بتكوين الله تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه كان في قوله: كان مزاجها كافورا. وقرئ: قوارير من فضة، بالرفع على: هي قوارير قَدَّرُوها صفة لقوارير من فضة. ومعنى تقديرهم لها: أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدّروا. وقيل: الضمير للطائفين بها، دل عليهم قوله وَيُطافُ عَلَيْهِمْ على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض. وقرئ: قدّروها، على البناء للمفعول. ووجهه أن يكون من قدر، منقولا من قدر. تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان: إذا جعلك قادرا له. ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاءوا. وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا، سميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه.
671
قال الأعشى:
كأنّ القر نفل والزّنجبيل باتا بفيها وأريا مشورا «١»
وقال المسيب بن علس «٢»
وكأنّ طعم الزّنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر «٣»
وسَلْسَبِيلًا لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يعنى: أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة. يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. ودلت على غاية السلاسة. قال الزجاج:
السلسبيل في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة. وقرئ: سلسبيل، على منع الصرف، لاجتماع العلمية والتأنيث، وقد عزوا إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه أن معناه سل سبيلا إليها، وهذا غير مستقيم على ظاهره. إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلا، جعلت علما للعين، كما قيل: تأبط شرا، وذرّى حبا، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع، وعزوه إلى مثل على رضى الله عنه أبدع.
وفي شعر بعض المحدثين:
سل سبيلا فيها إلى راحة النّفس براح كأنّها سلسبيل «٤»
وعَيْناً بدل من زَنْجَبِيلًا وقيل: تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه. أو يخلق الله طعمه فيها.
وعَيْناً على هذا القول: مبدلة من كَأْساً كأنه قيل: ويسقون فيها كأسا كأس عين. أو منصوبة على الاختصاص. شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور
(١). للأعشى، شبه رائحة فمها وطعمه بالقرنفل والزنجبيل، لأن العرب تستطبيهما وتستلذهما، وشبه طعم ريقها بطعم الأرى: وهو العسل. والمشور: اسم مفعول، من شاره شورا إذا جناه. والشور: موضع تعسل فيه النحل.
(٢). قوله «المسيب بن علس» العلس في الأصل: القراد الضخم. وبه سمى الرجل، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). للمسيب بن علس، وإجراء التشبيه هنا في طعم الزنجبيل يفيد أنه في البيت السابق كذلك، وضمير به للفم وإذ ذقته: أى حين ذقت ريقه، فهو مجاز، وسلافة الخمر: أول ما يعصر من العنب ويتخمر، وتشبه طعم الريق بهما في مطلق الاستلذاذ لا يفيد أن فيه حرافة كما فيهما. وسلافة: عطف على طعم. ويجوز أن ضمير «به» للريق وهو المذوق، ومعنى كون السلافة به: أنها ممزوجة فيه. [.....]
(٤). اطلب طريقا فيها إلى راحة نفسك، براح: أى بخمر. والسلسبيل والسلسال والسلسل: عين في الجنة سهلة الانحدار في الحلق، سلسة المساغ. وزيدت الباء مبالغة في الدلالة على السلاسة والسهولة. وشبه الخمر بها لما هو معلوم وثابت بين الناس أن شراب الجنة أعلى الشراب.
672
وعن المأمون: أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ. فنظر إليه منثورا على ذلك البساط، فاستحسن المنظر وقال: لله درّ أبى نواس، وكأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها... حصباء درّ على أرض من الذّهب «١»
وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنه أحسن وأكثر ماء رَأَيْتَ ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع ويعم، كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية، ثم. ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير. وثَمَّ في موضع النصب على الظرف، يعنى في الجنة ومن قال: معناه «ما ثم» فقد أخطأ، لأن «ثم» صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة كَبِيراً واسعا وهنيئا. يروى: أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه. وقيل لا زوال له. وقيل: إذا أرادوا شيأ كان. وقيل: يسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم. قرئ: عاليهم، بالسكون، على أنه مبتدأ خبره «٢» ثِيابُ سُندُسٍ أى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. وعاليهم. بالنصب، على أنه حال من الضمير في يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أو في حَسِبْتَهُمْ أى يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب. أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. وعاليتهم: بالرفع والنصب على ذلك. وعليهم. وخضر. وإستبرق: بالرفع، حملا على الثياب بالجر على السندس.
وقرئ: وإستبرق، نصبا في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمى، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول: الإستبرق، إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ: وإستبرق، بوصل الهمزة والفتح: على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لأنه معرب مشهور تعريبه، وأنّ أصله: استبره وَحُلُّوا عطف على وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ. فإن قلت: ذكر هاهنا أنّ أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من
(١). لأبى نواس، يصف الخمر بأن حبابها الذي يعلوها كالقوارير يشبه الدر، وبأنها تشبه الذهب، وهو من التشبيه المركب. وحكى أنه لما زفت بوران بنت الحسن بن سهل للمأمون بن الرشيد كان على بساط منسوج بالذهب ونثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه وقال: لله در أبى نواس حيث قال: كأن صغرى... البيت، وقد عيب عليه استعمال صغرى وكبرى مجردتين من أل والاضافة، مع أنهما عن أفعل التفضيل، وهو إذا جرد وجب تذكيره.
(٢). قال محمود: «قرئ بالسكون على أنه مبتدأ خبره ثياب... الخ» قال أحمد: في هذا الوجه الآخر نظر، فانه يجعله داخلا في مضمون الحسبان، وكيف يكون ذلك وهم لابسون السندس حقيقة، لا على وجه التشبيه باللؤلؤ، بخلاف كونهم لؤلؤا، فانه على طريق التشبيه المقتضى لقرب شبههم باللؤلؤ إلى أن يحسبوا لؤلؤا. ويحتمل أن يصحح هذا الوجه لكن بعد تكلف مستغنى عنه بالأول.
673
ذهب. قلت: هب أنه قيل: وحلوا أساور من ذهب ومن فضة، وهذا صحيح لا إشكال فيه، على أنهم يسوّرون بالجنسين: إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب، وسوار من فضة شَراباً طَهُوراً ليس برجس كخمر الدنيا، لأنّ كونها رجسا بالشرع لا بالعقل، وليست الدار دار تكليف. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدى الوضرة «١»، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. أو لأنه لا يئول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك. أى: يقال لأهل الجنة إِنَّ هذا وهذا إشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله لهم: ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم، والشكر مجاز.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦)
تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإنّ: تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول الله ﷺ أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أى وجه نزل إلا حكمة وصوابا، كأنه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما إلا أنا لا غيرى، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكل ما أفعله بدواعى الحكمة، ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة، وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة، ولا تطع منهم أحدا قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر الظفر، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. فإن قلت: كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله آثِماً أَوْ كَفُوراً؟ قلت: معناه ولا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه. أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. وقيل: الآثم عتبة، والكفور:
الوليد، لأنّ عتبة كان ركابا للمآثم، متعاطيا لأنواع الفسوق، وكان الوليد غالبا في الكفر
(١). قوله «فتمسه الأبدى الوضرة» من الوضر: وهو الدرن والدسم. أفاده الصحاح. (ع)
شديد الشكيمة في العتوّ. فإن قلت: معنى أو: ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو ليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟ قلت: لو قيل: ولا تطعهما، جاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل:
لا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما: عن طاعتهما جميعا أنهى. كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف، علم أنه منهى عن ضربهما على طريق الأولى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ودم على صلاة الفجر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وبعض الليل فصل له. أو يعنى صلاة المغرب والعشاء، وأدخل مِنَ على الظرف للتبعيض، كما دخل على المفعول في قوله لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وتهجد له هزيعا طويلا «١» من الليل:
ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)
إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يؤثرونها على الآخرة، كقوله بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَراءَهُمْ قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبئون به يَوْماً ثَقِيلًا استعير الثقيل لشدّته وهو له، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله. ونحوه: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الأسر: الربط والتوثيق. ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار. وفرس مأسور الخلق. وترس مأسور بالعقب «٢». والمعنى: شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب. ومثله قولهم: جارية معصوبة الخلق ومجدولته وَإِذا شِئْنا أهلكناهم وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ في شدّة الأسر، يعنى: النشأة الأخرى. وقيل: معناه: بدلنا غيرهم ممن يطيع. وحقه أن يجيء بإن، لا بإذا، كقوله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
(١). قوله «وتهجد له هزيعا طويلا» في الصحاح: مضى هزيع من الليل، أى: طائفة. (ع)
(٢). قوله «وترس مأسور بالعقب» في الصحاح: العقب- بالتحريك-: العصب: الذي تعمل منه الأوتار، الواحدة عقبة، تقول منه: عقبت السهم والقدح والقوس: إذا لويت شيئا منه عليه. (ع)
675
هذِهِ إشارة إلى السورة أو إلى الآيات القريبة فَمَنْ شاءَ فمن اختار الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة وَما تَشاؤُنَ الطاعة «١» إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بقسرهم عليها «٢» إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بأحوالهم وما يكون منهم حَكِيماً حيث خلقهم مع علمه بهم. وقرئ: تشاؤن، بالتاء. فإن قلت: ما محل أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؟ قلت النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود: إلا ما يشاء الله. لأنّ ما مع الفعل كأن معه يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ هم المؤمنون ونصب الظَّالِمِينَ بفعل يفسره. أعدّ لهم، نحو: أوعد وكافأ، وما أشبه ذلك. قرأ ابن مسعود: وللظالمين، على: وأعدّ للظالمين وقرأ ابن الزبير: والظالمون على الابتداء، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريرا» «٣».
(١). قال محمود: «معناه وما تشاؤن الطاعة إلا أن يشاء الله... الخ» قال أحمد: وهذا من تحريفاته للنصوص وتسوره على خزائن الكتاب العزيز، كدأب الشطار واللصوص، فلنقطع يد حجته التي أعدها، وذلك حكم هذه السرقة وحدها، فنقول: الله تعالى نفى وأثبت على سبيل الحصر الذي لا حصر ولا نصر أوضح منه. ألا ترى أن كلمة التوحيد اقتصر بها على النفي والإثبات، لأن هذا النظم أعلق شيء بالحصر وأدله عليه، فنفى الله تعالى أن يفعل العبد شيئا له فيه اختيار ومشيئة، إلا أن يكون الله تعالى قد شاء ذلك الفعل، فمقتضاه ما لم يشأ الله وقوعه من العبد لا يقع من العبد، وما شاء منه وقوعه وقع، وهو رديف: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وانظر إدخاله القسر في تعطيل الآية لا تأويلها كيف ناقض به، فان معنى الآية عنده: أن مشيئة العبد الفعل لا تكون إلا إذا قسره الله عليها، والقسر مناف للمشيئة، فصار الحاصل أن مشيئة العبد لا توجد إلا إذا انتفت، فإذا لا مشيئة للعبد البتة ولا اختيار، وما هو إلا فر من إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة ومشيئة غير خالقة، ليتم له إثبات قدرة ومشيئة مؤثرين، فوقع في سلب القدرة والمشيئة أصلا ورأسا، وحيث لزم الحيد عن الاعتزال: انحرف بالكلية إلى الطرف الأقصى متحيزا إلى الجبر، فيا بعد ما توجه بسوء نظره. والله الموفق.
(٢). قوله «إلا أن يشاء الله أن بقسرهم عليها» إرادته تعالى تستلزم وجود المراد، ولكن لا تستلزم كون العبد مقسورا ومجبورا على الفعل إلا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فقد أثبتوا للعبد للكسب، مع كون الله هو الخالق لفعل عندهم، وتفصيل ذلك في التوحيد. (ع)
(٣). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.
676
Icon