تفسير سورة الغاشية

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

عن الغاشية، وهى القيامة، وعن أهوالها، تذكيرا للناس بها، وتنبيها لهم إلى ما يلقى المجرمون فيها من عذاب ونكال..

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ١٦) [سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ١٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟» سؤال، يراد به تشويق المسئول إلى المسئول عنه، وإثارة الرغبة عنده فى التطلع إليه، والبحث عن جواب له.
وما يكاد المسئول يبحث فى خاطره عن جواب هذا السؤال، حتى يرد عليه الجواب من خارج، فيلتقى مع ما تردد فى خاطره من أجوبة عليه.. فإذا كان «م ٩٧ التفسير القرآنى ج ٣٠»
1537
ما وقع فى خاطره صحيحا، التقى مع هذا الجواب الوارد عليه التقاء متمكنا، وعانقه عناق الغائب المنتظر، وإلا أخذ الجواب الصحيح، وأقامه مقام مالم يصح من خواطره، وتصوراته..
والغاشية: ما يغشى الناس فى هذا اليوم، من أهوال، وما يطلع عليهم فيه من شدائد.. وأصله من الغشي، وهو السطو والهجوم..
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ».
هذا هو مطلع حديث الغاشية، وهذا هو الجواب على السؤال عنها.. إن ما تحدّث به الغاشية عن نفسها ليس كلاما، وإنما هو أفعال وأحداث.. ومن أحداثها، تلك الوجوه الخاشعة.. وخشوعها هو خشوع ذلة، وضراعة، ومهانة، وليس خشوع تقوى وتوقير وإجلال.. فللذل خشوع انكسار، وامتهان، تموت معه العواطف، والمشاعر، كما يقول تعالى فى أصحاب النار:
«وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ».
وفى قوله تعالى: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» - إشارة إلى هذا الرهق الذي غشى تلك الوجوه الخاشعة، لأن أصحابها فى نصب دائم، وعمل مضن لا ينقطع، من موقفهم موقف المساءلة، والحساب، وعرض مخازيهم عليهم، إلى وضع الأغلال فى أعناقهم، إلى سحبهم على وجوههم فى جهنم، إلى صرخات الويل والثبور التي تملأ الآفاق من حولهم، فكل هذا وكثير غيره من الأهوال، تنطبع على وجوههم آثاره، قتاما وعبوسا، ورهقا..
وقوله تعالى:
«تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ».
هو صفة لهذه الوجوه، وما يرد عليها من مساءات.. إنها «تَصْلى ناراً
1538
حامِيَةً»
أي تعذب بنار حامية.. وفى وصف النار بأنها حامية، إشارة إلى أنها نار ذات صفة خاصة، على خلاف المعهود من نار الدنيا.. فكل نار، حامية، وهذا الوصف الوارد على النار، يعطى وصفا جديدا لها.
وهذه الوجوه أيضا، تسقى من ماء حار، يغلى فى البطون كغلى الحميم.
وإسناد هذه الأفعال إلى الوجوه، لأن الوجوه، هى عنوان الذات الإنسانية، وهى وحدها التي تحدّث عن ذات الإنسان، وتدل عليه.. فالناس يتشابهون أجسادا، ولكن الذي يفرق بين إنسان وإنسان هو الوجه الذي يجعل لكل إنسان صورته التي يعرف بها بين الناس.. إن الوجه هو الذات الإنسانية بكل مشخصاتها ومقوماتها، ولهذا كان له هذا الشأن فى موقف الحساب والجزاء، وما يلقى الإنسان هناك من نعيم أو عذاب، إن كل صور العذاب والآلام تنطبع عليه..
قوله تعالى:
َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ»
..
عدل هنا عن الحديث إلى الوجوه، واتّجه به إلى أصحابها، لأن الطعام لا يساق إلى الوجوه وإنما يساق إلى البطون، ثم تنطبع آثاره على الوجوه..
وفى هذا ما يعطى كل جزء من أجزاء الجسد نصيبه من هذا العذاب. فالعذاب الذي يقع على جزء من الجسد، يشيع فى الجسد كله، فإذا كان كل جزء من الجسد واقعا تحت لون من ألوان العذاب يتناسب مع طبيعته، كان ذلك أنكى وآلم، حيث يتحول الإنسان تحت وطأة هذا العذاب إلى طاقات كثيرة متعددة، يصبّ فيها العذاب الذي يحتوى كل ذرة فيها، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (٦٩: الفرقات).
1539
والضريع، كما يدل عليه لفظه، طعام غثّ ردىء، لا تتولد عنه إلا الضراعة، والذلة، والمهانة..
وقد اختلف المفسّرون فى معنى «الضريع» والفصيلة الذي ينتمى إليه من فصائل النبات.. وقال كل ذى رأى برأيه فيه، وتكاف له التأويل والتخريج..
والرأى- والله أعلم- أنه من طعام أهل النار، لا يعرف له شبيه فى الحياة الدنيا، ولهذا وصفه الله سبحانه بأنه «لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» أي أنه لا تتقبله الأجسام، ولا تتفاعل معه، كما أنه لا يشبع جوع الجياع..
ولو كان معروفا عند العرب، لما وصف هذا الوصف الكاشف!.
قوله تعالى:
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً»..
وهذا من حديث الغاشية أيضا..
فإذا كان من معارض يومها، وجوه خاشعة، عاملة، ناصبة- فإن من معارضها، كذلك، وجوه ناعمة، لسعيها راضية، فى جنة عالية..
والوجوه الناعمة، هى التي ترى عليها نضرة النعيم، وبشاشة الرضوان، فترقرق على صفحتها وضاءة البشاشة، ويجرى فى أديمها رونق البهاء، والصفا..
ولم تعطف هذه الوجوه على ما قبلها، مع أنها من حديث الغاشية، ليكون ذلك عزلا لها عن تلك الوجوه المنكرة، العاملة، الناصبة، التي تصلى نارا حامية..
فهذه وجوه، وتلك وجوه، ولا جامعة بينهما، إذ فريق فى الجنة وفريق فى السعير..
وقوله تعالى: «لسيعها راضية».. أي راضية لأجل سعيها الذي قدمته بين يديها.. فاللام هنا للتعليل..
1540
وقوله تعالى: «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» حال من ضمير الوجوه فى قوله تعالى:
«راضية».. والجنة العالية: أي عالية القدر، عظيمة الشأن..
وقوله تعالى: «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» صفة لهذه الجنة العالية، التي علا مقامها وارتفع قدرها عن أن يطوف بها طائف من الهذر أو اللغو..
واللاغية: الكلمة التي لا يعتد بها، لإسفافها وسقوطها..
وقوله تعالى: «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ».. وحيث كان الماء كانت الحياة، وكان الخصب، والخير، وكانت البهجة والمسرة..
قوله تعالى:
«فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ»..
هو عرض لما فى هذه الجنة العالية من ألوان النعيم.. ففيها سرر مرفوعة، أي عالية القدر، وأكواب موضوعة، أي معدة للشاربين، وفيها «نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ» أي وسائد، قد صفّ بعضها إلى جانب بعض، ليتكىء عليها الجالسون على هذا النعيم.. واحدتها نمرقة.. وفى هذه الجنة «زرابى مبثوثة» أي بسط متناثرة على أرض هذه الجنة، كأنها النجوم..
الآيات: (١٧- ٢٦) [سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١٧ الى ٢٦]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)
1541
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ»..
هو إلفات لهؤلاء المشركين المكذبين بالغاشية، إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، تلك القدرة القادرة على أن تعيدهم إلى الحياة بعد الموت، وأن تردّهم إلى الله سبحانه، للحساب والجزاء..
وفى إلفاتهم إلى الإبل، وإلى ضخامتها، وقوتها، وما أودع الخالق فيها من قوى قادرة على حمل الأثقال، والمشي فى الرمال، وإلى الصبر على الجوع والعطش- كل هذا يكشف عن صانع عظيم، عليم، حكيم، خلق فسوى، وقدر فهدى..
ولأن أول ما يلفت النظر إلى الإبل، هو قاماتها العالية، ورقابها المرفوعة، فقد ناسب ذلك أن يلفتوا إلى السماء، وإلى هذا العلو الشاهق الذي لا حدود له..
«وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ».. كذلك ناسب أيضا أن يلفتوا إلى الجبال، وقد مدت رقابها فوق الأرض كأنها رقاب الإبل، أو أسنمتها.. «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ».. ثم إن الشأن ليس فى رفع الشيء وعلوه، فما رفع الشيء إلا لحكمة، كما أنه ما خفض شىء إلا لحكمة.. فهذه الأرض المبسوطة الممدودة، لو كانت كلها أسنمة كأسنمة الإبل، أو رقابا كرقابها، لما أمكن الانتفاع بها، والسير فيها.. فهى مع ارتفاع بعض أجزائها، قد انبسط
1542
بعض أجزائها الأخرى، لتكون مهادا للناس، وبساطا ممدودا.. وبهذا تذلّل لهم وتستجيب لحركتهم عليها.. «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» (١٥: الملك).
وقوله تعالى:
«فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ».
هو دعوة إلى النبي الكريم أن يعرض هذه الآيات التي تحدثت عن قدرة الله سبحانه، وعن حكمته، ليكون فيها تذكرة لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر..
فوظيفة النبىّ، هى التذكير بالله، وإلفات العقول والقلوب إلى قدرته، وعلمه، وحكمته، وإلى ماله سبحانه من نعم سابغة على عباده..
وقوله تعالى: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» أي لست أيها النبي بمتسلط على الناس، تقهرهم بسلطان قوى، وبقوة قاهرة، على أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا لما تدعوهم إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» (٤٥: ق).
وفى هذا إطلاق للإنسان، وتحرير لذاته وشخصيته من أي سلطان، إلا سلطان عقله وضميره، وفى هذا تكريم للإنسان، واعتراف بمكانه فى الوجود، وأنه لا وصاية عليه من أحد حتى الأنبياء والرسل.. إنهم ليسوا أوصياء عليه، وإنما هم هداة يرفعون لعينيه مشاعل الهدى فى طريق حياته، فإن شاء سار فى الطريق الذي يكشف عنه هذا النور، وإن شاء أخذ الطريق الذي اختاره له عقله، وارتضاه ضميره.. ولو كان كفرا وضلالا، فتلك مشيئته التي شاءها لنفسه!.
قوله تعالى:
«إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ»..
1543
إلا هنا استثناء من عموم الأحوال التي تدخل فى السيطرة الواقع عليها النفي.. أي لست مسيطرا على الناس إلا فى حال واحدة، وهى حال من تولى وكفر، فإنه فى هذه الحال واقع تحت سلطان العذاب الذي أنذرته به.. وهذا العذاب فى يد الله، يعذب به هؤلاء الذين تولوا وكفروا.. فالسلطان الواقع على الإنسان هنا، هو سلطان الله سبحانه، وليس الرسول إلا منذرا بهذا السلطان، محذرا منه..
والعذاب الأكبر، هو عذاب يوم القيامة.. ووصف العذاب بهذه الصفة التي تحصر غاية العذاب وصوره كلها فيه- لأن كل ما عرفه الناس فى الدنيا من عذاب، هو عذاب دون هذا العذاب قدرا وأثرا.. فهو العذاب الأكبر كبرا مطلقا، لا حدود له.
وقوله تعالى:
«إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ»..
أي أن هؤلاء الذين تولوا وكفروا، ولا يفلتون من هذا الذي أنذروا به- إنهم سيعودون إلى الله، وسيحاسبون على ما اجترحوا من آثام.. وليس وراء هذا الحساب إلا العذاب الأليم.. العذاب الأكبر! وأنهم إذا كانوا قد خرجوا من سلطان النبىّ، فإنهم لن يخرجوا من سلطان الله الذي يلقاهم بهذا العذاب..
والإياب الرجوع إلى المكان الذي خرج منه الإنسان.. كالمسافر يئوب من سفره.. وفى هذا إشارة إلى أن البعث هو عودة إلى الحياة التي فارقها الإنسان فى رحلته التي بدأت بالموت.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى..»
(٨: العلق).
1544
Icon