ﰡ
قيلَ هِلْ بمَعْنى قَدْ كما في قوله تعالى ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ الآيةَ قالَ قُطْربٌ أيْ قد جاءكَ يا محمدُ حديثُ الغاشيةِ وليسَ بذاكَ بلْ هو استفهامٌ أُريدَ به التعجيبُ ممَّا في حيزِه والتشويقُ إلى استماعِه والإشعارُ بأنَّه من الأحاديثِ البديعةِ التي حقُّها أنْ يتناقلها الرواة ويتنافس في تلقيها الوعاةُ مِنْ كلِّ حاضِرٍ وبادٍ والغاشيةُ الداهيةُ الشديدةُ التي تغشَى الناسَ بشدائدِها وتكتنفُهم بأهوالِها وهيَ القيامةُ من قولِه تعالى ﴿يَوْمَ يغشاهم العذاب﴾ الخ وقيلَ هيَ النارُ من قولِه تعالى ﴿وتغشى وُجُوهَهُمْ النار﴾ وقولِه تعالى ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ والأولُ هو الحقُّ فإنَّ ما سيُروى من حديثِها ليسَ مختصاً بالنَّارِ وأهلِها بلْ ناطقٌ بأحوال أهلِ الجنةِ أيضاً وقولُه تعالى
إلى قولِه تعالى مَبْثُوثَةٌ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقيِّ كأنَّه قيلَ من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما أتانِي حديثُها فما هو فقيلَ وجوهٌ يومئذٍ أيْ يومَ إذْ غشيتْ ذليلةٌ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا لم يكنْ أتاهُ عليه الصَّلاة والسَّلامُ حديثُها فأخبرَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فقالَ وجوهٌ الخ فوجوهٌ مبتدأٌ ولا بأسَ بتنكيرِها لأنَّها في موقعِ التنويعِ وخاشعةٌ خبرُهُ وقولُه تعالى
خبرانِ آخرانِ لوجوهٌ إذِ المرادُ بهَا أصحابُها أي تعملُ أعمالاً شاقةً تتعبُ فيها وهيَ جرُّ السلاسلِ والأغلالِ والخوضُ في النَّارِ خوضَ الإبلِ في الوحلِ والصعودُ والهبوطُ في تلالِ النارِ ووهادِها وقيلَ عملتْ في الدُّنيا أعمالَ السوءِ والتذتْ بها فهيَ يومئذٍ في نصبٍ منها وقيلَ عملتْ ونصبتْ في أعمالِ لا تُجدي عليهَا في الآخرةِ وقولُه تعالَى
أي تدخلُ
نَاراً حَامِيَةً
أي متناهيةً في الحرِّ خبرٌ آخرُ لوجوهٌ وقيلَ هو الخبرُ وما قبلَهُ صفاتٌ لوجوهٌ وقد مر غير مرة أن الصفةَ حقُّها أن تكونَ معلومة
الانتساب إلى الموصوف عند السامعِ قبلَ جعلِها صفةً له ولا ريبَ في أنَّ صليَ النارِ وما قبلَهُ من الخشوعِ والعملِ والنَّصَبِ أمورٌ متساويةٌ في الانتسابِ إلى الوجوهِ معرفةً وجهالةً فجعلُ بعضِها عُنواناً للموضوعِ قيداً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ الإفادةِ وبعضِها مناطاً للإفادةِ تحكُّمٌ بحتٌ ويجوز أن يكون هذا وما بعدَهُ من الجملتينِ استئنافاً مبيناً لتفاصيلِ أحوالِها
أي متناهية في الحر كما في قوله تعالى ﴿وبين حميم آن﴾
بيانٌ لطعامِهم إثرَ بيانِ شرابِهم والضريعُ ييس الشبرقِ وهو شوكٌ ترعاهُ الإبلُ ما دامَ رطباً وإذا يبسَ تحامتْهُ وهو سمٌّ قاتلٌ وقيلَ هي شجرةٌ ناريةٌ تشبهُ الضريعَ وقال ابنُ كيسانٍ هو طعام يضرعون عندَهُ ويذلُّونَ ويتضرعونَ إلى الله تعالى طلباً للخلاصِ منه فسمِّيَ بذلكَ وهذا طعامٌ لبعضِ أهلِ النارِ والزقومُ والغسلينُ لآخرينِ
أي ليسَ من شأنِه الإسمانُ والإشباعُ كما هو شأنُ طعامِ الدُّنيا وإنما هُو شيءٌ يضطرونَ إلى أكلِه من غيرِ أنْ يكونَ له دفعٌ لضرورتِهم لكنْ لا على أنَّ لهم استعداداً للشبعِ والسمنِ إلا أنَّه لا يفيدُهم شيئاً منهمَا بلْ على أنَّه لا استعدادَ من جهتِهم ولا إفادةَ من جهةِ طعامِهم وتحقيقُ ذلكَ أنَّ جوعَهُم وعطشَهُم ليسا من قبيلِ ما هُو المعهودُ منهما في هذه النشأةِ من حالةٍ عارضةٍ للإنسانِ عندَ استدعاءِ الطبيعةِ لبدلِ ما يتحللُ من البدنِ مشوقةً له إلى المطعومِ والمشروبِ بحيث يلتذ بهما عندَ الأكلِ والشربِ ويستغنِي بهمَا عن غيرِهما عندَ استقرارِهما في المعدةِ ويستفيدُ منهما قوةً وسمناً عند انهضامِهما بلْ جوعُهم عبارةٌ عن اضطرامِ النارِ في أحشائِهم إلى إدخالِ شيءٍ كثيفٍ يملؤُها ويُخرجُ ما فيها من اللهبِ وأما أن يكونَ لهم شوقٌ إلى مطعومٍ ما أو التذاذٌ به عندَ الأكلِ واستغناءٌ به عن الغير أو استفادةُ قوةٍ فهيهاتَ وكذا عطشُهم عبارةٌ عن اضطرارهم عند أكلِ الضريعِ والتهابِه في بطونِهم إلى شيءٍ مائعٍ باردٍ يطفئُه من غيرِ أنْ يكونَ لهم التذاذٌ بشربه أو استفادةُ قوةٍ به في الجملة وهو المعنيُّ بما رُويَ أنه تعالَى يسلطُ عليهم الجوعَ بحيثُ يَضطرهُم إلى أكلِ الضريعِ فإذا أكلُوه يسلطُ عليهم العطشَ فيضطرهُم إلى شرب الحميمِ فيشوِي وجوهَهُم ويقطعُ أمعاءَهُم وتنكيرُ الجوعَ للتحقيرِ أيْ لا يُغني من جوعٍ ما وتأخيرُ نَفي الإغناءِ منْهُ لمراعاةِ الفواصلِ والتوسلِ به إلى التصريحِ بنفي كلا الأمرينِ إذ لو قُدمَ لما احتيجَ إلى ذكر نفي الإسمانِ ضرورة استلزامِ نفي الإغناءِ عن الجوعِ إيَّاه بخلاف العكسِ ولذلك كررَ لاَ لتأكيدِ النَّفي وقولُه تعالَى
شروعٌ في روايةِ حديثِ أهلِ الجنةِ وتقديمُ حكايةِ حالِ أهلِ النارِ لأنَّه أدخلُ
في تهويلِ الغاشيةِ وتفخيمِ حديثِها ولأنَّ حكايةَ حسنِ حالِ أهلِ الجنةِ بعدَ حكايةِ سُوءِ حالِ أهلِ النارِ مما يزيدُ المحكيَّ حُسناً وبهجةً والكلامُ في إعرابِ الجملةِ كالذي مرَّ في نظيرتِها وإنما لم تُعطفْ عليها إيذاناً بكمالِ تباينِ مضمونَيهِما ومعنى ناعمةٌ ذاتُ بهجةٍ وحسنٍ كقولِه تعالى ﴿تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم﴾ أو متنعمةٌ
أي لعملها الذي عملتْهُ في الدُّنيا حيثُ شاهدتْ ثمرتَهُ
مرتفعةِ المحلِّ أو عليةِ المقدارِ
أي أنتَ أو الوجوهُ
فِيهَا لاغية
لغواً أو كلمةً ذاتَ لغوٍ أو نفساً تلغُو فإنَّ كلامَ أهلِ الجنةِ كلَّه أذكارٌ وحكمٌ وقُرِىءَ لا تُسمعُ على البناءِ للمفعول بالياءِ والتاءِ ورفعِ لاغيةً
أيْ عيونٌ كثيرةٌ تجرِي مياهُها كقولِه تعالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ
رفيعةُ السمكِ أو المقدارِ
جمعُ كوبٍ وهو إناءٌ لا عُروةَ لهُ
مَّوْضُوعَةٌ
أي بينَ أيديهِم
وسائدُ جمعُ نمرقة بالفتحِ والضمِّ
مَصْفُوفَةٌ
بعضُها إلى بعضٍ
أي بسطٌ فاخرةٌ جمعُ زُرْبيَّةٌ
مَبْثُوثَةٌ أيْ مبسوطةٌ
استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما فصلَ من حديثِ الغاشيةِ وما هو مبنيٌّ عليهِ من البعثِ الذى هم فيه مختلفون بالاستشهادِ عليهِ بما لا يستطيعونَ إنكارَهُ والهمزةُ للإنكارِ والتوبيخِ والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ وكلمة كيف منصوبة بما يعدها كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله معلقةٌ لفعلِ النظرِ والجملةُ في حيِّز الجرِّ على أنَّها بدلُ اشتمالٍ من الإبلِ أي أينكرونَ ما ذُكِرَ من البعثِ وأحكامِه ويستبعدونَ وقوعَهُ من قدرةِ الله عزَّ وجلَّ فلا ينظرونَ إلى الإبلِ التي هي نصب أعينهم يتسعملونها كلَّ حينٍ إلى أنَّها كيف
خُلقتْ خلقاً بديعاً معدولاً بهِ عن سُننِ خلقةِ سائرِ أنواعِ الحيواناتِ في عظمِ جثتِها وشدةِ قوتِها وعجيبِ هيأتِها اللائقةِ بتأتِّي ما يصدرُ عنها من ألأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلةِ وجرِّ الأثقالِ الفادحةِ إلى الأقطارِ النازحةِ وفي صبرها على الجو والعطشِ حتى إن أظماءَها لتبلغُ العشرَ فصاعداً واكتفائِها باليسيرِ ورعيها لكلِّ ما يتيسرَ من شوكٍ وشجرٍ وغير ذلك مما لا يكاد يزعاه سائرُ البهائمِ وفي انقيادِها مع ذلكَ للإنسانِ في الحركةِ والسكونِ والبروكِ والنهوضِ حيثُ يستعملُها في ذلكَ كيفما يشاءُ ويقتادُها بقطارِها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ
التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار
كَيْفَ رُفِعَتْ
رفعاً سحيق المدى بلا عمادٍ ولا مساكٍ بحيث لا يناله الفهم والادراك
التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمياهها وأشجارها
كَيْفَ نُصِبَتْ
نصباً رصيناً فهيَ راسخةٌ لا تميلُ ولا تميدُ
التي يضربونَ فيها ويتقلبونَ عليها
كَيْفَ سُطِحَتْ
سطحاً بتوطئةٍ وتمهيدٍ وتسويةٍ وتوطيدٍ حسبما يقتضيهِ صلاحُ أمورِ ما عليها من الخلائقِ وقُرِىءَ سُطِّحتْ مُشدداً وقُرِئتْ الأفعالُ الأربعةُ على بناء الفاعل للمتلكم وحذف الراجعِ المنصوبِ والمعنى أفلا ينظرونَ نظرَ التدبرِ والاعتبارِ إلى كيفيةِ خلقِ هذه المخلوقاتِ الشاهدةِ بحقيةِ البعثِ والنشورِ ليرجعُوا عمَّا هُم عليهِ من الإنكارِ والنفورِ ويسمعُوا إنذاركَ ويستعدُّوا للقائِه بالإيمانِ والطاعةِ والفاءُ في قولِه تعالى
لترتيبِ الأمرِ بالتذكيرِ على ما ينبىءُ عنه الإنكارُ السابقُ من عدمِ النظرِ أي فاقتصرْ على التذكيرِ ولا تلحَّ عليهم ولا يُهمنَّكَ أنَّهم لا ينظرونَ ولا يتذكرونَ وقولُه تعالى
إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ
تعليلٌ للأمرِ وقولُه تعالَى
تقريرٌ لهُ وتحقيقٌ لمَعْنى الإنذارِ أي لستَ بمتسلطٍ عليهم تجبرُهم على ما تريد كقوله تعالى وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ وقُرِىءَ بالسينِ على الأصلِ وبالاشمام وقُرِىءَ بفتحِ الطاءِ قيلَ هي لغة بني تمتم فإنَّ سيطرَ عندهم متعدَ ومنه قولُهم تسيطرُ وقولُه تعالَى
استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ من تولَّى منهم فإنَّ لله تعالَى الولايةَ والقهرَ
الذي هُو عذابُ جهنمَ وقيلَ استثناءٌ مُتَّصلٌ من قولِه تعالَى فَذَكّرْ أي فذكرْ إلاَّ من انقطعَ طمعُكَ من إيمانِه وتولَّى فاستحقَّ العذابَ الأكبرَ وما بينهما اعتراضٌ ويعضدُ الأولَ أنه قُرِىءَ أَلاَ على التنبيهِ وقولُه تعالى
تعليلٌ لتعذبيه تعالَى بالعذابِ الأكبرِ أيْ إنَّ إلينا رجوعَهُم بالموتِ والبعثِ لا إلى أحدٍ سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً وجمعُ الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أن إفراده فيما سبق باعتبارِ لفظِها وقُرِىءَ إيَّابَهُم على أنَّه فِيْعَالٌ مصدرُ فَيْعَلٍ من الإيابِ أو فِعَّالٌ من أَوَبَ كفِسَّارٍ من فَسَرَ ثمَّ قيلَ إِيْوَاباً كدِيُوَانٍ في دِوَّانٍ ثُمَّ قُلبتْ الواوُ ياءً فأدغمتِ الياءُ الأُولى في الثانيةِ
في المحشرِ لا على غيرِنا وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ لا في الزمانِ فإن الترتبَ الزمانيَّ بين إيابِهم وحسابِهم لا بينَ كونِ إيابِهم إليهِ تعالَى وحسابِهم عليهِ تعالى فإنَّهما أمرانِ مستمرانِ وفي تصديرِ الجملتينِ بأنَّ وتقديمُ خبرِها وعطفُ الثانيةِ على الأُولى بكلمةِ ثُمَّ المفيدةِ لبعدِ منزلةِ الحسابِ في الشدةِ من الإنباءِ عن غايةِ السخطِ الموجبِ لتشديدِ العذابِ مالا يخفى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الغاشيةِ يحاسبُه الله تعالى حساباً يسيراً
سورة الفجر مكية وآيها ثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم