تفسير سورة الفجر

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الفجر
مكية. وآياتها ثلاثون آية، وقد تضمنت القسم على أن الكفار سيعذبون حتما، كما عذب غيرهم من الأمم السابقة، وبيان الإنسان وطبعه وما جبل عليه في الدنيا، وبيان موقفه يوم القيامة.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
المفردات:
وَالْفَجْرِ: هو الوقت المعلوم الذي ينبلج فيه النور متتابعا ويظهر ليبدد حجب الظلام. وَلَيالٍ عَشْرٍ: هي الليالى الأولى من كل شهر التي يغالب فيها النور الظلام- وهي غير معينة ولذلك نكرت. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: الزوج والفرد من تلك الليالى. يَسْرِ أى: يسرى، بمعنى يجيء ويقبل. حِجْرٍ: عقل.
بِعادٍ: قبيلة من العرب البائدة كان نبيها هودا، وكانت تسكن الأحقاف جنوبي جزيرة العرب. إِرَمَ: لقب لها. ذاتِ الْعِمادِ: رفيعة العماد، وهذا كناية
859
عن الغنى والبسطة. ثَمُودَ: قبيلة من العرب البائدة كانت تسكن الحجر بين الشام والحجاز وكان نبيها صالحا. جابُوا: قطعوا الصخر ونحتوه. فِرْعَوْنَ: ملك مصر. ذِي الْأَوْتادِ: الأبنية الثابتة ثبوت الوتد- الذي يدق في الأرض.
طَغَوْا: تجاوزوا الحد. فَصَبَّ: أنزل عليهم العقوبة. سَوْطَ عَذابٍ أصل السوط: الجلد الذي يضفر ليضرب به، والمراد به العذاب الذي ينزل بهم.
لَبِالْمِرْصادِ المرصاد: المكان الذي يقوم فيه الرصد. والرصد من يرصد الأمور ويراقبها ليقف على ما فيها من خير وشر، ويقال للحارس: رصد.
المعنى:
أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالفجر ساعة يظهر فيه الضوء مطاردا للظلام بجحافله، وقت ينفسخ الصبح وإسفاره، لينشق النهار فينتشر الناس والحيوان، والطير والوحوش يبتغى الكل رزقا من عند الله وفضلا، وأقسم كذلك بالليالي العشر من كل شهر، ولا يزال الظلام فيها يغالب القمر وضوءه حتى يغلبه فيسدل على الكون حجبه وأستاره، وأقسم بالشفع من الليالى والوتر منها، وأقسم بالليل بأستاره التي تستر الكون فيختفى النهار، ويظهر الشفق في الأفق، أقسم بهذا كله ليلفت النظر إلى عجائب الكون وآثار قدرة الله لعلهم يتفكرون، أقسم ليقعن الكفار في قبضة القوى القادر، وليعذبهم عذابا شديدا كما عذب غيرهم من الأمم التي كذبت وكفرت، وكان عاقبة أمرها خسرا، وها هي ذي أخبارهم بالإجمال. ألم تر كيف فعل ربك بعاد بعد أن أرسل لها هودا فكذبته وكفرت بالله. وإرم لقبها «١»، وكانت تسكن الخيام وتتخذ البيوت من الشعر إلا أنها كانت رفيعة العماد، قوية الجناب، لم يكن يضاهيها أحد، ولم يخلق مثلها في البلاد قوة وعددا. وقد ذكر الله أخبار عاد، وثمود، وفرعون، بالتفصيل في سور أخرى كالحاقة وغيرها.
أما ثمود فكانوا ينحتون من الجبال بيوتا حالة كونهم فارهين، وكانوا يقطعون الصخر وينحتونه لبناء مساكنهم، وهذه شهادة لهم بقوة العمل وسعة الفكر، وأما فرعون وما أدراك ما فرعون؟ إنه ملك مصر وصاحب الحول والطول الذي كان
(١) هذه إشارة إلى أن (إرم) بدل من عاد وهو ممنوع من الصرف.
860
يقول: أنا ربكم الأعلى، وكان قومه قد برعوا في فن الهندسة والعمارة حتى بنوا الأهرام وأقاموا التماثيل والمسلات، وما أروع التعبير بقوله: ذِي الْأَوْتادِ فتلك أبنية ثابتة شامخة ثبوت الأوتاد في الأرض، وإذا نظرنا إلى الهرم وجدناه أشبه ما يكون بالوتد المقلوب، هؤلاء جميعا طغوا وبغوا وتجاوزوا الحد في البلاد، ونشأ عن ذلك أنهم أكثروا فيها الفساد، فأنزل الله عليهم من العقوبات والعذاب الدنيوي ما يشبه ضرب السياط المتتابعة المتتالية، وما أدق قوله تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ حيث شبه الله ما أوقعه بهم من أنواع المهلكات وأصناف العذاب بضرب السياط الذي يكون في أشد العقوبات والله- جل جلاله- إنما يعذب الأمم جزاء لما كانوا يعملون إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فهو يجازى المسيء على إساءته، ولا يفوته واحد منهم، ولن يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء، فاطمئنوا أيها المسلمون فغدا يلقى كل جزاءه، واحذروا أيها المشركون فهؤلاء كانوا أشد منكم قوة وأكثر حجما.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١٥ الى ٣٠]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
861
المفردات:
ابْتَلاهُ: اختبره بما فعله معه. وَنَعَّمَهُ: صيره مكرما يتمتع بالنعم.
وَلا تَحَاضُّونَ: لا يحض بعضكم بعضا على إطعام المسكين. التُّراثَ:
الميراث. لَمًّا: شديدا. جَمًّا: كثيرا. دُكَّتِ الْأَرْضُ الدك: الدق والهدم، ومنه: اندك سنام البعير: إذا انغرس في ظهره. وَلا يُوثِقُ الوثاق: الشد والربط بالسلاسل والأغلال. الْمُطْمَئِنَّةُ
: المستقرة الثابتة المتيقنة بالحق فلا يخالجها فيه شك.
المعنى:
هذا هو الرب- سبحانه- مع المخلوقين، فإن أردت أن تعرف الإنسان: فأما إذا ما ابتلاه بالخير في الدنيا أصابه الغرور، وقال: إن الله أكرمنى، ومن يكرمه الله في الدنيا فلا يعذبه في الآخرة مهما فعل من المعاصي، وإذا ما ابتلاه بأن ضيق عليه رزقه يقول: ربي أهاننى، ويظن أن من صغرت قيمته عند ربه لم يبال به ولا بعمله فتراه قد وقع في المعاصي وانخرط مع الجبارين، فكأن الغنى والفقر امتحان لا ينجو منه إلا قليل، لم يبتل الله الإنسان بالغنى لكرامته عنده، وإلا لما رأيت كثيرا من الصالحين المقربين فقراء ليس عندهم ما يكفيهم كلا: لم تكن الدنيا دليلا على هذا وذاك، وكان العرب يظنون أنهم على شيء يرضى الله، وكانوا يتوهمون أنهم على دين أبيهم إبراهيم الخليل فرد الله عليهم بأنهم ليسوا على شيء بدليل أنهم لا يكرمون اليتيم بل يأخذون ماله ظلما، ولا يحسنون إليه، ولا يحض بعضهم بعضا على إطعام المساكين، فكرمهم للرياء والسمعة، لا للإنسانية. وهم يأكلون الميراث أكلا بنهم وشدة، ويحبون المال أيا كان حبا شديدا كثيرا، أليس هذا دليلا على أن هؤلاء الكفار المغرورين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وأنهم ليسوا على شيء يرضى الله ولا يرضى أحدا من أنبيائه.
862
كلا وألف كلا!! لا ينبغي أن تكونوا كما وصفكم القرآن، ومن كان كذلك فإنه إذا دكت الأرض دكا وقامت القيامة قياما، وجاء ربك- والله أعلم بكيفية المجيء ولكن نؤمن به «١» - والملك !! قاموا وأحدقوا بالناس جميعا- وخاصة الكفار- صفوفا صفوفا، وجئ يومئذ بجهنم وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى «٢» يوم إذ يحصل هذا فقط يتذكر الإنسان أنه أخطأ وأهمل، وكذب وعصى، ولكن هل ينفعه ذلك؟! لا.
وأنى له الذكرى؟! يقول الإنسان الذي عصى في الدنيا: يا ليتني قدمت عملا ينفعني في تلك الحياة الأبدية.
وكأنها هي الحياة فقط وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «٣».
فيومئذ لا يعذب عذاب ربك أحد، بل هو الذي يتولى العذاب وحده بلا شريك ولا يوثق أحدا من خلقه غيره، وهذا لأن الأمر يومئذ أمره.
هذا شأن الإنسان المادي، وهذا جزاؤه ونهايته في الآخرة.
أما الإنسان إذا صفت روحه وسمت عن الماديات، كانت نهايته يوم القيامة سعيدة، ويقال له: يا أيتها النفس المطمئنة الواثقة في الله وفي لقائه، والمستيقنة بنور الحق الذي لا يخالجه شك، أيتها النفس ارجعي إلى ربك، وأحظي بشرف لقائه ورضوانه، ارجعي إلى ربك راضية عن عملك في الدنيا مرضية عنك لأن من كان معها قد رضى عنها، والله قد رضى عنها، وذلك هو الفوز العظيم، فادخلي أيتها النفس في عداد عبادي الصالحين المقربين لأنك عملت عملهم، وادخلى جنتي.
والرجوع إلى الله تمثيل لكرامة بعض خلقه عنده وإلا فالله معنا حيث كنا.
(١) وأول الخلف فقالوا: هذا تمثيل لعظمة المولى، أو المراد: جاء أمر ربك.
(٢) سورة النازعات آية ٣٦.
(٣) سورة العنكبوت آية ٦٤.
863
Icon