تفسير سورة العصر

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة العصر من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة العصر
احتوت السورة توكيداً حاسماً بأن لا فلاح للإنسان إلاّ بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر. وأسلوبها يدل على أنها من أوائل السور نزولاً مثل الليل والأعلى وغيرهما ؛ لأنها احتوت مبادئ عامة محكمة من مبادئ الدعوة. وقد ذكرت بعض الروايات١أنها مدنية، غير أن أسلوبها يدل على مكيتها، وهو ما عليه الجمهور.
١ - انظر تفسير الآلوسي ج ٣٠ ص ٢٢٧..

بسم الله الرحمن الرحيم

- العصر : آخر النهار إلى احمرار الشمس، ويقال له : الأصيل أيضا. وبعض المفسرين قالوا : إن العصر هو الدهر١، ولكن الجمهور على القول الأول.
﴿ وَالْعَصْرِ( ١ ) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( ٢ )إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا٢ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( ٣ ) ﴾ [ ١- ٣ ]

٢-
تواصوا : أوصى بعضهم بعضاً.
السورة على قصرها جاءت بأسلوب حاسم قوي، لتهتف بالناس أن لا فلاح لهم ولا نجاح ولا صلاح إلا في الإيمان بالله وحده، والعمل الصالح، والتواصي بالصبر، وأن كل من ينحرف عن هذه السبيل فهو خاسر.
وهي على إيجازها خلاصة هدف الدعوة الإسلامية الموجهة إلى الإنسانية جمعاء، وهي عرض عام مثل سورة الأعلى والليل ؛ ولذلك نرجح أنها نزلت مثلها قبل الفصول القرآنية التي فيها حكاية مواقف المكذبين في سورة العلق والقلم والمزمل والمدثر.
ولقد كان المؤمنون الأولون رضي الله عنهم يعرفون عظم مدى السورة، حتى لقد روي٢ أن الرجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلاّ بعد أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر. ولقد قال الشافعي رحمه الله٣ : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.
ونقول بالمناسبة : إن هناك آثاراً في فضل صلاة العصر. وقد فسرت الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها بنوع خاص في آية البقرة هذه :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ ٢٣٨ ] بصلاة العصر٤، والتسمية تنويهية بفضل هذه الصلاة. ومما يروى٥ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في مسجده في المدينة لأصحابه بعد هذه الصلاة، فيلتفون حوله ويستمعون إلى تعاليمه وعظاته ويراجعه الناس في مشاكلهم ؛ لأنهم يكونون في هذا الوقت قد فرغوا من مشاغلهم اليومية أو كادوا، وتكون شدة الحرارة في الصيف قد خفّت، ومن هنا كان الحثّ على المحافظة عليها كما هو المتبادر، ومن هنا تبدو حكمة القسم الرباني بوقتها.
١ - انظر تفسير السورة في تفسير النيسابوري مثلا..
- تواصوا : أوصى بعضهم بعضاً.
﴿ وَالْعَصْرِ( ١ ) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( ٢ )إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا٢ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( ٣ ) ﴾ [ ١- ٣ ]

٢-
تواصوا : أوصى بعضهم بعضاً.
السورة على قصرها جاءت بأسلوب حاسم قوي، لتهتف بالناس أن لا فلاح لهم ولا نجاح ولا صلاح إلا في الإيمان بالله وحده، والعمل الصالح، والتواصي بالصبر، وأن كل من ينحرف عن هذه السبيل فهو خاسر.
وهي على إيجازها خلاصة هدف الدعوة الإسلامية الموجهة إلى الإنسانية جمعاء، وهي عرض عام مثل سورة الأعلى والليل ؛ ولذلك نرجح أنها نزلت مثلها قبل الفصول القرآنية التي فيها حكاية مواقف المكذبين في سورة العلق والقلم والمزمل والمدثر.
ولقد كان المؤمنون الأولون رضي الله عنهم يعرفون عظم مدى السورة، حتى لقد روي٢ أن الرجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلاّ بعد أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر. ولقد قال الشافعي رحمه الله٣ : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.
ونقول بالمناسبة : إن هناك آثاراً في فضل صلاة العصر. وقد فسرت الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها بنوع خاص في آية البقرة هذه :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ ٢٣٨ ] بصلاة العصر٤، والتسمية تنويهية بفضل هذه الصلاة. ومما يروى٥ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في مسجده في المدينة لأصحابه بعد هذه الصلاة، فيلتفون حوله ويستمعون إلى تعاليمه وعظاته ويراجعه الناس في مشاكلهم ؛ لأنهم يكونون في هذا الوقت قد فرغوا من مشاغلهم اليومية أو كادوا، وتكون شدة الحرارة في الصيف قد خفّت، ومن هنا كان الحثّ على المحافظة عليها كما هو المتبادر، ومن هنا تبدو حكمة القسم الرباني بوقتها.
تعليق على تعبير ﴿ الصالحات ﴾
وتعبير ﴿ الصالحات ﴾ عام مطلق يتضمن كل نوع من أنواع الخير والبر والمعروف تعبديا كان أم غير تعبدي، فعبادة الله وحده وإسلام النفس إليه ونبذ ما سواه عمل صالح، والإحسان والبرّ بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء عمل صالح، والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين وتضحية النفس والمال في هذا السبيل عمل صالح، والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة عمل صالح، والتعاون على البرّ والتقوى والأعمال العامة عمل صالح، والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وأولاده وأقاربه عمل صالح، ومعاملة الناس بالحسنى عمل صالح الخ... وهكذا يكون تلقين السورة وما انطوى فيها من هدف الدعوة هو التبشير بكل عمل فيه خير وبرّ ورحمة ومكرمة وفضيلة وإخلاص لله، وبكلمة ثانية بكل ما فيه جماع الخير وسعادة الدارين. وأعظم بهما من تلقين وهدف جليلين خالدين، ومن هنا تبدو قوة القول المأثور عن الشافعي رحمه الله.
تعليق على التواصي بالحق والتواصي بالصبر
وتعبير " التواصي " قوي ؛ لأنه للمشاركة. فلا يكفي أن يلتزم الإنسان الحق والصبر بنفسه ؛ بل يجب أن يتضامن الناس فيهما ويوصي بعضهم بعضا بهما.
والتواصي بالحق يستهدف تضامن أفراد المجتمع في الحق وإحقاقه بحيث يكون الحق هو القائم الحاكم المؤيد من مجموعهم. والتواصي بالصبر يستهدف تضامن أفراد المجتمع في شد بعضهم أزر بعض في الأحداث الملمة، والمصاعب المدلهمة، وفي مواقف الحق والخير، دونما وهن، ولا ضعف، ولا جزع، ولا تراخ.
وإذا لوحظ أن تعبير الحق عام يشمل كل شيء من حقوق الله على عباده، وحقوق المجتمع على أفراده، وحقوق المجتمعات على بعضها، وحقوق الأفراد على بعضهم ومجتمعاتهم، وحقوق الضعفاء والبؤساء والمحرومين على الأقوياء والقادرين والميسورين، يبان مدى التلقين القرآني الجليل في التنويه بالتواصي بالحق، وجعله لازما للذين آمنوا وعملوا الصالحات، واختصاصه بالذكر من الصالحات، مع أنه داخل في معناها الشامل، وما استهدفه هذا التلقين مع الارتفاع بالإنسان والمجتمع الإنساني إلى مرتبة الكمال من حيث الطمأنينة العامة والسلامة الاجتماعية، وانتفاء أسباب الضغينة والحقد والقطيعة والخصام والبغي والبؤس والقلق التي تجتاح المجتمع حينما تنتشر فيه الفردية وتقوى الأنانية، ويشتد عدم مبالاة الفرد بغير نفسه ومصلحته وكيانه الخاص لضمان النفع لنفسه من أي سبيل، أو حينما يتسع المجال فيه لبغي الناس وعدوانهم بعضهم على بعض بدون رادع، أو حينما تداس فيه حقوق الضعفاء وتفقد فيه رغبة مساعدة المحتاجين وتضعف، أو تزول فيه عاطفة البرّ والتعاطف الاجتماعية.
وهذا المبدأ بهذه السعة من المبادئ الجليلة التي قررها القرآن مرة بعد مرة وبأساليب متنوعة، حتى كان من أهم أهداف الدعوة الإسلامية. ووروده في هذه السورة المبكرة، وبهذا الأسلوب القوي، يدل على أنه من أسس الدعوة الرئيسية، وإنه لكذلك، وإنه لمن أقوى مرشحات الإسلام للشمول والخلود.
ومثل هذا يقال في صدد الصبر والتواصي به ؛ لأن ذلك الخلق الشخصي الاجتماعي من لوازم الحياة الإنسانية الصالحة وعمدها. ويهدف القرآن إلى تقويته في الأفراد والمجتمع وبثّ روح القوة والطمأنينة فيهم. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على اعتباره من أهم الأخلاق التي يجب أن تقوم عليها الشخصية الإنسانية الإسلامية، وعلى ماله من خطورة وضرورة في حياة الأفراد والمجتمع.
مدى التنويه القرآني بالصبر
ونرى بهذه المناسبة أن نشير إلى ما تكرر كثيراً في القرآن من التنويه بالصبر حتى لقد بلغ عدد المرات التي وردت فيها كلمة الصبر ومشتقاتها في القرآن المكي والمدني، ونوّه فيها بخلق الصبر وحثّ عليه، وأثنى على من يتخلق به ويلتزمه، ووعد بالنجاح والأجر، وأمر بالاستعانة به على مواجهة الخطوب والشدائد، نحو مائة مرة ؛ حيث يدل هذا على مبلغ العناية الربانية بترسيخ هذا الخلق أو هذه الفضيلة التي هي من أجل الفضائل الأخلاقية في المسلمين. من ذلك في القرآن المكي هذه الآيات :
١- ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٠ ].
٢- ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ( ٢٢ ) ﴾ [ الرعد : ٢٢ ].
٣- ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ( ٤١ ) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ٤٢ ) ﴾ [ النحل : ٤١- ٤٢ ].
٤- ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( ٩٦ ) ﴾ [ النحل : ٩٦ ].
٥- ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [ الحج : ٣٥ ].
٦- ﴿ قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب( ١٠ ) ﴾ [ الزمر : ١٠ ].
٧- ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( ٣٤ ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( ٣٥ ) ﴾ فصلت [ ٣٤- ٣٥ ].
٨- ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ( ٤٣ ) ﴾ [ الشورى : ٤٣ ].
ومن ذلك في القرآن المدني هذه الآيات :
١- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ( ١٥٤ ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ( ١٥٥ ) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ( ١٥٦ ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ( ١٥٧ ) ﴾ [ البقرة : ١٥٣- ١٥٧ ].
٢- ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ( ١٥٧ ) ﴾ [ البقر : ١٥٣- ١٥٧ ].
٣- ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ( ١٤٦ ) ﴾ آل عمران : ١٤٦ ).
٤- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( ٢٠٠ ) ﴾ [ آل عمران : ٢٠٠ ].
وواضح من هذه الآيات ومن الآيات الكثيرة الأخرى التي وردت في سور عديدة : أن هدفها هو بث روح الجلد ورباطة الجأش وضبط النفس والسكينة والتضحية في نفس المسلم، مما يضمن له الكرامة والعزة والنجاح، ويجنبه الطيش والهلع والجزع والاضطراب والقلق في الأزمات والأخطار.
والصبر بعد يتجسد في أخلاق كثيرة، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد ومواقف الحق. والعفاف هو الصبر على الشهوات. والحلم هو الصبر على المثيرات. والكمال هو الصبر على أمانة الأسرار. والزهد هو الصبر على الحرمان. فإذا ما رسخ هذا الخلق في امرئ صار له من القوة المعنوية والشجاعة والجلد ما يمكنه من مواجهة الخطوب دون فزع وجزع، وتحمل المشاق والرضاء بالمكروه والحرمان في سبيل الحق والشرف والكرامة والعزوف عن الشهوات والمثابرة على المقاصد النبيلة مهما عسرت وطال أمدها، وغدا محل رضاء الله عز وجل والناس واعتمادهم.
ولقد روى الخمسة عن أبي سعيد الخدري حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : " ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر " ١. حيث ينطوي في الحديث التنويه العظيم بالصبر الذي ينطوي في الآيات القرآنية، ويتساوق بذلك التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر مثل سائر الأمور.
ولقد يكون في القرآن المكي -بل والمدني- آيات تحثّ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الصبر على ما كان يقع من أذى الكفار، وما كان من هؤلاء من مكابرة وعناد ومناوأة. غير أن المتمعن فيها يجد أنه ليس من تناقض بينها وبين ما قررناه. كما أنه ليس فيها ما يمكن أن يكون حثاً على احتمال الظلم والجور والضيم والذل. وكثير منها -بل جميعها- إنما توخت تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الحق وتهدئتهم إلى الوقت المناسب، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الاستمرار في الدعوة والمهمة التي انتدب لها، كما ترى في الأمثلة التالية، وهي مكية ومدنية :
١- ﴿ واتبع مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ١٠٩ ) ﴾ [ يونس١٠٩ ].
٢- ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ( ١٢٦ ) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ( ١٢٧ ) إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( ١٢٨ ) ﴾ [ النحل : ١٢٦- ١٢٨ ].
٣-﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ( ٧٧ ) ﴾ [ غافر : ٧٧ ].
٤- ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ( ٤٨ ) ﴾ [ الطور : ٤٨ ].
٥- ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ١٠٩ ) ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ].
٦- { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّ
١ - التاج ج ٢ ص ٣٢- ٣٣..
Icon