تفسير سورة طه

التفسير القيم
تفسير سورة سورة طه من كتاب التفسير القيم من كلام ابن القيم المعروف بـالتفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

سورة طه

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة طه (٢٠) : آية ١٠]
إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠)
قيل: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي لأذكرك بها.
وقيل: مضاف إلى المذكور، أي لتذكروني بها، واللام على هذا لام التعليل، وقيل: هي اللام الوقتية، أي أقم الصلاة عند ذكري كقوله:
١٧: ٧٨ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ وقوله تعالى: ٢١: ٤٧ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ.
وهذا المعنى يراد بالآية، لكن تفسيرها به على أنه معناها فيه نظر، لأن هذه اللام الوقتية بابها أسماء الزمان والظروف. والذكر: مصدر، إلا أن يقدر زمان محذوف، أي عند وقت ذكري، وهذا محتمل.
والأظهر: أنها لام التعليل، أي أقم الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره، وإذا ذكر العبد ربه، فذكر الله سابق على ذكره، فإنه لما ذكره ألهمه ذكره. فالمعاني الثلاثة حق.
قول الله تعالى ذكره.

[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]

إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
تأمل كيف قابل الجوع بالعرى، والظمأ بالضحى.
والواقف مع القالب ربما يخيل إليه: أن الجوع يقابل بالظمأ، والعرى بالضحى.
والداخل إلى بلد الفقه عن الله: يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة لأن الجوع ألم الباطن، والعرى ألم الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن، والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا.
[سورة طه (٢٠) : آية ١٢٤]
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه وماله من الرغد وطيب الحياة في معاشه ومعاده أخبر عن حال من أعرض عن الهدى ولم يتبعه، فقال:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي عن الذكر الذي أنزلته، فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل، كقيامي وقراءتي، لا إلى المفعول، وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني، بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره.
وأحسن من هذا الوجه: أن يقال: الذكر هاهنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها.
والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا، قال تعالى: ٢١: ٥٠ وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ وقال تعالى: ٣: ٥٨
374
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ وقال تعالى: ٦٨: ٥٢ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وقال تعالى: ٤١: ٤١ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وقال تعالى: ٣٦: ١١ إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وأمثالها كثير.
فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي يقصد بها إضافة العامل إلى معموله.
ونظيره في إضافة اسم الفاعل قوله: ٤٠: ٣ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ فإن هذه الإضافات لا يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم، ولذلك أرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله: ١٤٥: ٢- ٣ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.

فصل


قوله تعالى: ٢٠: ١٢٤ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فسره غير واحد من السلف بعذاب القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر، ولهذا قال: نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
أي تترك في العذاب، كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار.
ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون ٤٠: ٤٦ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا فهذا في البرزخ ٤٠: ٤٦ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ فهذا في القيامة الكبرى.
ونظيره قوله تعالى: ٦: ٩٣ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ
375
وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
فقول الملائكة «اليوم تجزون عذاب الهون» المراد به: عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت.
ونظيره قوله تعالى: ٨: ٥١ وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ فهذه الإذاقة هي في البرزخ. وأولها حين الوفاة فإنه معطوف على قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه. كنظائره.
وكلاهما واقع وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه «١» في قوله تعالى: ١٤: ٢٧ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قال «نزلت في عذاب القبر» والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر.
والمقصود: أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره- وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى- فإن له معيشة ضنكا. وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة، ويجزيه أجره في الآخرة. فقال تعالى:
١٦: ٩٧ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعهده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالآخرة.
(١) هو أبو عمارة البراء بن عازب الأنصاري الحارثي نزيل الكوفة كان من أقران ابن عمر استصغر يوم بدر، توفي سنة إثنين وسبعين (انظر شذرات الذهب).
376
وقال سبحانه: ٤٣: ٣٦، ٣٧ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الأعراض أن قيض له شيطانا يقارنه، فيصده عن سبيل ربه، وطريق فلاحه.
وهو يحسب أنه مهتد، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينة، وعاين هلاكه وإفلاسه. قال: ٤٣: ٣٨ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ.
وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله؟ إذ كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى: ٧: ٣٠ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
قيل: لا عذر لهذا لا لأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولو ظن أنه مهتد. فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه.
وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها.
فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول.
وأما الثاني: فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى: ١٧: ١٥ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وقال تعالى:
٤: ١٦٥ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وقال تعالى في أهل النار: ٤٣: ٧٦ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وقال تعالى: ٣٩: ٥٦- ٥٩ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ
377
الْكافِرِينَ
وهذا كثير في القرآن.

فصل


وقوله تعالى: ٢٠: ١٢٤ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ: رَبِّ، لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ اختلف فيه: هل هو من عمى البصيرة، أو من عمى البصر؟ والذين قالوا: هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله: ١٩: ٣٨ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا وقوله:
٥٠: ٢٢ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وقوله: ٢٥: ٢٢ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وقوله: ١٠٢: ٦، ٧ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ونظائر هذا مما أثبت لهم الرؤية في الآخرة. كقوله تعالى: ٤٢: ٤٥ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وقوله: ٥٢: ١٣، ١٤ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟ وقوله: ١٨: ٥٣ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها.
والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا: السياق لا يدل إلا عليه.
لقوله: ٢٠: ١٢٤ قالَ: رَبِّ، لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق، فكيف يقول: وقد كنت بصيرا؟ وكيف يجاب بقوله:
٢٠: ١٢٥ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته: أعمى الله بصره يوم القيامة. وتركه في العذاب، كما ترك هو الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره تركه في العذاب.
378
وقال تعالى: ١٧: ٩٧ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا.
وقد قيل في هذه الآية أيضا: إنهم عمى وبكم وصم عن الهدى، كما قيل في قوله «ونحشره يوم القيامة أعمى، قالوا: لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون».
ومن نصر أنه العمى والبكم والصم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم: هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه. ولهذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «لا يرون شيئا يسرهم».
وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن.
وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: ٢٣: ١٠٨ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، ولا يسمع منهم إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل.
والذين قالوا: المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم: أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم لهم حجة هم عمى عنها، بل هم عمى عن الهدى، كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمى البصر. فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحده في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
379
وفصل الخطاب: أن الحشر هو الضم والجمع، ويراد به تارة: الحشر إلى موقف القيامة.
كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا»
وكقوله تعالى: ٨١: ٥ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وكقوله تعالى:
١٨: ٤٢ وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين: جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين:
جمعهم وضمهم إلى النار، قال تعالى: ١٩: ٨٥ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وقال تعالى: ٣٧: ٢٢، ٢٣ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف، وهو حشرهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: ٣٧: ٢١ يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ثم قال تعالى: ٣٧: ٢٢ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وهذا الحشر الثاني.
وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى النار، فعند الحشر الأول: يسمعون ويبصرون، ويجادلون، ويتكلمون وعند الحشر الثاني: يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. فلكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى، وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا ٤: ٨٢ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
380
Icon