عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول :( إن فيهن آية أفضل من ألف آية ) يعني بالمسبحات " الحديد " و " الحشر " و " الصف " و " الجمعة " و " التغابن ".
ﰡ
[تفسير سورة الحديد]
سورة الحديد مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَيَقُولَ: (إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ) يَعْنِي بِالْمُسَبِّحَاتِ (الْحَدِيدَ) وَ (الْحَشْرَ) وَ (الصَّفَّ) وَ (الْجُمُعَةَ) وَ (التغابن).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مَجَّدَ اللَّهَ وَنَزَّهَهُ عَنِ السُّوءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلَّى لِلَّهِ (مَا فِي السَّماواتِ) مِمَّنْ خلق من الملائكة (وَالْأَرْضِ) من شي فيه روح أولا رو فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْبِيحُ الدَّلَالَةِ. وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ هَذَا وَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيحُ الدَّلَالَةِ وَظُهُورِ آثَارِ الصَّنْعَةِ لَكَانَتْ مَفْهُومَةً، فَلِمَ قَالَ: (وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) «١» وَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيحُ مَقَالٍ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) «٢» فَلَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيحُ دَلَالَةٍ فأي تخصيص لداود؟!
(٢). راجع ج ١١ ص ٣٠٧
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ٤ الى ٦]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
(٢). راجع ج ٤ ص ٥٦.
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ٧ الى ٩]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩)قَوْلُهُ تَعَالَى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ صَدِّقُوا أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ (وَأَنْفِقُوا) تَصَدَّقُوا. وَقِيلَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ غَيْرُهَا مِنْ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمُلْكِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إِلَّا التَّصَرُّفُ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ فَيُثِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْجَنَّةِ. فَمَنْ أَنْفَقَ مِنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَهَانَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ مِنْهَا، كَمَا يهون عل الرَّجُلِ، النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، كَانَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) بِوِرَاثَتِكُمْ إِيَّاهُ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْوَالِكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَا أَنْتُمْ فِيهَا إِلَّا بِمَنْزِلَةِ النُّوَّابِ وَالْوُكَلَاءِ، فَاغْتَنِمُوا الْفُرْصَةَ فِيهَا بِإِقَامَةِ الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ تُزَالَ عَنْكُمْ إِلَى مَنْ بَعْدَكُمْ. (فَالَّذِينَ آمَنُوا) وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) فِي سَبِيلِ اللَّهِ (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) وَهُوَ الْجَنَّةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخُ. أَيْ أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ فِي أَلَّا تُؤْمِنُوا وَقَدْ أُزِيحَتِ الْعِلَلُ؟! (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لا حكم قبل ورود الشرائع. وقرا أَبُو عَمْرٍو: (وَقَدْ أُخِذَ مِيثَاقُكُمْ) عَلَى غَيْرِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَالْبَاقُونَ عَلَى مُسَمَّى الْفَاعِلِ، أَيْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَكُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ وَهُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ. وَقِيلَ: أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ بِأَنْ رَكَّبَ فِيكُمُ الْعُقُولَ، وَأَقَامَ عَلَيْكُمُ الدَّلَائِلَ وَالْحُجَجَ الَّتِي تَدْعُو إِلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِذْ كنتم. وقيل:
[سورة الحديد (٥٧): آية ١٠]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي شي يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِيمَا يُقَرِّبُكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْتُمْ تَمُوتُونَ وَتَخْلُفُونَ أَمْوَالَكُمْ وَهِيَ صَائِرَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّوْبِيخُ عَلَى عَدَمِ الْإِنْفَاقِ. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ أَنَّهُمَا رَاجِعَتَانِ إِلَيْهِ بِانْقِرَاضِ مَنْ فِيهِمَا كَرُجُوعِ الْمِيرَاثِ إِلَى الْمُسْتَحَقِّ لَهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَ قَتَادَةُ:
يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرِ | دَاخَلَهُ فِي الصِّبَا وَمِنْ بَذَخِ |
اذْكُرْ إِذَا شِئْتَ أن تعيرهم | جدك واذكر أباك يا بن أَخِ |
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ | عَنْكَ وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ |
مَنْ لَا يَعِزُّ الشُّيُوخَ لَا بَلَغَتْ | يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إِلَى الشَّيَخِ |
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ١١ الى ١٢]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) نَدَبَ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) «١» الْقَوْلُ فِيهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا حَسَنًا: قَدْ أَقْرَضَ، كَمَا قَالَ «٢»:
وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ | إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْجَمَلْ |
(٢). قائله لبيد، ومعنى البيت: إذا أسدى إليك معروف فكافى عليه.
(٣). كل نسخ الأصل بلفظ أبى حيان والظاهر أن صوابه: ابن حيان.
(٤). راجع ج ٣ ص ٣٢٥
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٣٢ وص (٣١١)
(٣). راجع ج ٤ ص ١٣٢
(٤). راجع ج ٣ ص ٣٣٢ وص (٣١١)
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ١٣ الى ١٥]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الْعَامِلُ فِي (يَوْمَ) (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).. وقيل: هو بد ل مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِوَصْلِ الْأَلِفِ مَضْمُومَةُ الظَّاءِ مِنْ نَظَرَ، وَالنَّظَرُ الِانْتِظَارُ أَيِ انْتَظِرُونَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ (انْظُرُونا) بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الظَّاءِ مِنَ الْإِنْظَارِ. أَيْ أَمْهِلُونَا وَأَخِّرُونَا، أَنْظَرْتُهُ أَخَّرْتُهُ، وَاسْتَنْظَرْتُهُ أَيِ اسْتَمْهَلْتُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْظِرْنِي انْتَظِرْنِي، وَأُنْشِدَ لِعَمْرِو بْنُ كُلْثُومٍ:
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا | وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا |
«١». وَقِيلَ: إِنَّمَا يُعْطُونَ النُّورَ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَهْلُ دَعْوَةٍ دُونَ الْكَافِرِ، ثُمَّ يُسْلَبُ الْمُنَافِقُ نُورَهُ لِنِفَاقِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: يُعْطَى الْمُؤْمِنُ النُّورَ وَيُتْرَكُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ بِلَا نور. وقال الكلبي: بل يستضئ الْمُنَافِقُونَ بِنُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعْطَوْنَ النُّورَ، فَبَيْنَمَا هم يمشون
(٢). راجع ج ٧ ص ٢١١
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ١٦ الى ١٧]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ يَقْرَبُ وَيَحِينُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ يَأْنِ لِي يَا قَلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الْجَهْلَا | وَأَنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ الْمُبِينُ لَنَا عَقْلَا |
أَلَمَّا يَئِنْ لِي أَنْ تَجَلَّى عَمَايَتِي | وَأَقْصُرُ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أَنَى لِيَا |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٤٨. [..... ]
(٢). في بعض التفاسير: مقاتل بن سليمان وهو المفسر.
أَلَمْ يَأْنِ لِي مِنْكَ أَنْ تَرْحَمَا | وَتَعْصَ الْعَوَاذِلَ وَاللُّوَّمَا |
وَتَرْثِي لِصَبٍّ بِكُمْ مُغْرَمٌ | أَقَامَ عَلَى هَجْرِكُمْ مَأْتَمَا |
يَبِيتُ إِذَا جَنَّهُ لَيْلُهُ | يُرَاعِي الْكَوَاكِبَ وَالْأَنْجُمَا |
وَمَاذَا عَلَى الظبي لَوْ أَنَّهُ | أَحَلَّ مِنَ الْوَصْلِ مَا حَرَّمَا |
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ١٨ الى ١٩]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِيهِمَا مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيِ الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى. الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ أَيِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَهُوَ حَثٌّ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقَرْضِ الْحَسَنِ فَهُوَ التَّطَوُّعُ. وَقِيلَ: هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مُحْتَسِبًا صَادِقًا. وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ فِي تقدير الفعل، أي إن الذين صدقوا وَأَقْرَضُوا (يُضاعَفُ لَهُمْ) أَمْثَالُهَا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ (يُضَاعِفُهُ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَزِيَادَةِ هَاءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (يُضَعَّفُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِهَا. (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يَعْنِي الْجَنَّةَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ أَنَّ الشُّهَدَاءَ غَيْرُ الصِّدِّيقِينَ. فَالشُّهَدَاءُ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: (الصِّدِّيقُونَ) حَسَنٌ. وَالْمَعْنَى وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أَيْ لَهُمْ أَجْرُ أَنْفُسِهِمْ وَنُورُ أَنْفُسِهِمْ. وَفِيهِمْ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمُ الرُّسُلُ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ «٣» شَهِيداً). الثَّانِي- أَنَّهُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِيمَا يَشْهَدُونَ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا عَمِلُوا مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. الثَّانِي- يَشْهَدُونَ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِتَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى أُمَمِهِمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ قَوْلًا ثَالِثًا: إِنَّهُمُ الْقَتْلَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: أَرَادَ شُهَدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْوَاوُ وَاوُ الِابْتِدَاءِ. وَالصِّدِّيقُونَ عَلَى هَذَا القول مقطوع من الشهداء.
(٢). (أنعما) أي زادا وفضلا. وقيل معناه: صارا إلى النعيم ودخلا فيه.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٧١. وص ١٩٧.
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ٢٠ الى ٢١]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وَجْهُ الِاتِّصَالِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتْرُكُ الْجِهَادَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ، وَخَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْمَوْتِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ أَمْرَ اللَّهِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا لَا يَبْقَى. وَ (مَا) صِلَةٌ تَقْدِيرُهُ: اعْلَمُوا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبٌ بَاطِلٌ وَلَهْوُ فَرَحٍ ثُمَّ يَنْقَضِي. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ: أَكْلٌ وَشُرْبٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنَ اسْمِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ لَعِبٍ لَهْوٌ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى
(٢). الدهقان- بكسر الدال وضمها-: التاجر، فارسي معرب.
(٣). مأخوذ من الكفر- بفتح الكاف- وهو التغطية.
(٤). راجع ج ٨ ص (٣٢٧)
(٥). راجع ج ١٠ ص ٤١٢
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ | عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ |
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ٢٢ الى ٢٤]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) قَالَ مُقَاتِلٌ: الْقَحْطُ وَقِلَّةُ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ. وَقِيلَ: الْجَوَائِحُ فِي الزَّرْعِ. (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) بِالْأَوْصَابِ وَالْأَسْقَامِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ، قَالَهُ ابْنُ حَيَّانَ. وَقِيلَ: ضِيقُ الْمَعَاشِ، وَهَذَا مَعْنًى رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. (إِلَّا فِي كِتابٍ) يَعْنِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) الضَّمِيرُ فِي (نَبْرَأَها) عَائِدٌ عَلَى النُّفُوسِ أَوِ الْأَرْضِ أَوِ الْمَصَائِبِ أَوِ الْجَمِيعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْمُصِيبَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ وَالنَّفْسَ. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أَيْ خَلْقُ ذَلِكَ وَحِفْظُ جَمِيعِهِ (عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) هَيِّنٌ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ صَالِحٍ: لَمَّا أُخِذَ سعيد ابن جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قُلْتُ: أَبْكِي لِمَا أَرَى بِكَ وَلِمَا تذهب
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٠٩ [..... ]
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٩٣
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ٢٥ الى ٢٦]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَةِ وَالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ. وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، بِذَلِكَ دَعَتِ الرُّسُلُ: نُوحٌ فَمَنْ دُونَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أَيِ الْكُتُبَ، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ خَبَرَ مَا كَانَ قَبْلَهُمْ (وَالْمِيزانَ) قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ وَيُتَعَامَلُ (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أَيْ بِالْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (بِالْقِسْطِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمِيزَانَ الْمَعْرُوفَ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ بِهِ الْعَدْلَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمِيزَانِ الْمَعْرُوفِ، فَالْمَعْنَى أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ وَوَضَعْنَا الْمِيزَانَ فَهُوَ مِنْ بَابِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) ثُمَّ قَالَ: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ «١». (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بركات من السماء إلى الأرض: الحديد
[سورة الحديد (٥٧): آية ٢٧]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَفَّيْنا) أَيْ أَتْبَعْنَا (عَلى آثارِهِمْ) أَيْ عَلَى آثَارِ الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: عَلَى آثَارِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ (بِرُسُلِنا) مُوسَى وَإِلْيَاسَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَيُونُسَ وَغَيْرِهِمْ (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ) «١». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) عَلَى دِينِهِ يَعْنِي الْحَوَارِيِّينَ وَأَتْبَاعَهُمْ (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) أَيْ مَوَدَّةً فَكَانَ يُوَادُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي الْإِنْجِيلِ بِالصُّلْحِ وَتَرْكِ إِيذَاءِ النَّاسِ وَأَلَانَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَالرَّأْفَةُ اللِّينُ، وَالرَّحْمَةُ الشَّفَقَةُ. وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ تَخْفِيفُ الْكَلِّ، وَالرَّحْمَةُ تَحْمُّلُ الثِّقَلِ. وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ. وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثم قال:
[سورة الحديد (٥٧): الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أَيْ مِثْلَيْنِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى إِيمَانِكُمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليهما وَسَلَّمَ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ «١» فِيهِ. وَالْكِفْلُ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ وَقَدْ مَضَى فِي (النِّسَاءِ) «٢» وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كِسَاءٌ يَكْتَفِلُ بِهِ الراكب فيحفظه من السقوط، قاله ابن جريح. وَنَحْوُهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، قَالَ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْكِسَاءِ الَّذِي يَحْوِيهِ رَاكِبُ الْبَعِيرِ عَلَى سَنَامِهِ إِذَا ارْتَدَفَهُ لِئَلَّا يَسْقُطَ، فَتَأْوِيلُهُ يُؤْتِكُمْ نَصِيبَيْنِ يَحْفَظَانِكُمْ مِنْ هَلَكَةِ الْمَعَاصِي كَمَا يَحْفَظُ الْكِفْلُ الرَّاكِبَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: (كِفْلَيْنِ) ضِعْفَيْنِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: (كِفْلَيْنِ) أَجْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَتْ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) افتخر مؤمنو أهل
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٩٥
(٢). راجع ج ٧ ص ١٥٠ وج ١٣ ص ٢٤٤
(٢). روى قطرب عن الحسن أيضا كما في السمين وغيره، فتكون للحسن قراءتان فتح اللام وكسرها مع اسكان الياء فيهما. [..... ]