تفسير سورة التكوير

الماوردي
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ إذا الشمسُ كُوِّرَتْ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني ذهب نورها وأظلمت، قاله ابن عباس.
الثاني : غُوِّرَت، وهو بالفارسية كوبكرد، قاله ابن جبير.
الثالث : اضمحلت، قاله مجاهد.
الرابع : نكست، قاله أبو صالح.
الخامس : جمعت فألقيت، ومنه كارة الثياب لجمعها، وهو قول الربيع بن خيثم.
﴿ وإذا النجوم انْكَدَرَتْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : تناثرت، قاله الربيع بن خيثم.
الثاني : تغيرت فلم يبق لها ضوء، قاله ابن عباس.
الثالث : تساقطت، قاله قتادة، ومنه قول العجاج :
أبصَرَ خرْبان فضاء فانكَدَرْ تَقضِّيَ البازي إذا البازي كَسَر
ويحتمل رابعاً : أن يكون انكدارها طمس آثارها، وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها.
﴿ وإذا الجبالُ سُيِّرتْ ﴾ يعني ذهبت عن أماكنها، قال مقاتل : فسويت بالأرض كما خلقت أول مرة وليس عليها جبل ولا فيها واد.
﴿ وإذا العِشارُ عُطِّلتْ ﴾ والعشار : جمع عشراء وهي الناقة إذا صار لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس أموالهم عندهم، قال الأعشى :
هو الواهبُ المائةَ المصْطفا ةَ إمّا مخاضاً وإمّا عِشاراً
فتعطل العشار لاشتغالهم بأنفسهم من شدة خوفهم.
وفي « عطلت » تأويلان :
أحدهما : أُهملت، قاله الربيع.
الثاني : لم تحلب ولم تدر، قاله يحيى بن سلام.
وقال بعضهم : العشار : السحاب تعطل فلا تمطر.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أنها الأرض التي يعشر زرعها فتصير للواحد عُشراً، تعطل فلا تزرع.
﴿ وإذا الوُحوشُ حُشِرتْ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : جمعت، قاله الربيع.
الثاني : اختلطت، قاله أبي بن كعب فصارت بين الناس.
الثالث : حشرت إلى القيامة للقضاء فيقتص للجمّاء من القرناء، قاله السدي.
الرابع : أن حشرها بموتها، قاله ابن عباس.
﴿ وإذا البحارُ سُجِّرتْ ﴾ فيه ثمانية تأويلات :
أحدها : فاضت، قاله الربيع.
الثاني : يبست، قاله الحسن.
الثالث : ملئت، أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها حتى امتلأت، قاله أبو الحجاج.
الرابع : فجرت فصارت بحراً واحداً، قاله الضحاك.
الخامس : سيرت كما سيرت الجبال، قاله السدي.
السادس : هو حمرة مائها حتى تصير كالدم، مأخوذ من قولهم عين سجراء أي حمراء.
السابع : يعني أوقدت فانقلبت ناراً، قاله عليّ رضي الله عنه وابن عباس وأُبي بن كعب.
الثامن : معناه أنه جعل ماؤها شراباً يعذب به أهل النار، حكاه ابن عيسى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف « سجرت » إخباراً عن حالها مرة واحدة، وقرأ الباقون بالتشديد إخباراً عن حالها في تكرار ذلك منها مرة بعد أخرى.
﴿ وإذا النفوسُ زُوِّجَتْ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني عُمل بهن عملٌ مثل عملها، فيحشر العامل بالخير مع العامل بالخير إلى الجنة، ويحشر العامل بالشر مع العامل بالشر إلى النار، قاله عطية العوفي : حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة.
الثاني : يزوج كل رجل نظيره من النساء فإن من أهل الجنة زوّج بامرأة من اهل الجنة، وإن كان من أهل النار زوّج بامرأة من أهل النار، قاله عمر بن الخطاب، ثم قرأ :
﴿ احْشُروا الذين ظلموا وأزواجهم ﴾ الثالث : معناه ردّت الأرواح إلى الأجساد، فزوجت بها أي صارت لها زوجاً، قاله عكرمة والشعبي.
388
الرابع : أنه قرن كل غاو بمن أغواه من شيطان أو إنسان، حكاه ابن عيسى.
ويحتمل خامساً : زوجت بأن أضيف إلى كل نفس جزاء عملها، فصار لاختصاصها به كالتزويج.
﴿ وإذا الموءوجة سُئِلَتْ ﴾ والموءودة المقتولة، كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت امرأته بنتاً دفنها حية، إما خوفاً من السبي والاسترقاق، وإما خشية الفقر والإملاق، وكان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ويمنعون منه حتى افتخر الفرزدق فقال :
ومِنّا الذي مَنَعَ الوائداتِ فأحْيا والوئيدَ فلم تُوأَدِ
وسميت موءودة للثقل الذي عليها من التراب، ومنه قوله تعالى :﴿ ولا يئوده حفظهما ﴾ أي لا يثقله، وقال متمم بن نويرة :
وموءودةٍ مقبورة في مفازةٍ بآمتها موسودة لم تُمهّدِ
فقال توبيخاً لقاتلها وزجراً لمن قتل مثلها ﴿ وإذا الموءودة سئلت ﴾ واختلف هل هي السائلة أو المسئولة، على قولين :
أحدهما : وهو قول الأكثرين أنها هي المسئولة :﴿ بأيِّ ذَنْبِ قُتِلَتْ ﴾ فتقول : لا ذنب لي، فيكون ذلك أبلغ في توبيخ قاتلها وزجره.
الثاني : أنها هي السائلة لقاتلها لم قتلت، فلا يكون له عذر، قاله ابن عباس وكان يقرأ : وإذا الموءودة سألت.
قال قتادة : يقتل أحدهما بنته ويغذو كلبه، فأبى الله سبحانه ذلك عليهم.
﴿ وإذا الصُّحُف نُشِرَتْ ﴾ يعني صحف الأعمال إذا كتب الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تطوى بالموت وتنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها قيقول :« ﴿ ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحْصاها ﴾.
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد نشّرت على تكرار النشر، وقرأ الباقون بالتخفيف على نشرها مرة واحدة، فإن حمل على المرة الواحدة فلقيام الحجة بها، وإن حمل على التكرار ففيه وجهان :
أحدهما : للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع.
الثاني : لتكرير ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه.
﴿ وإذا السماءُ كُشِطَتْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها يعني ذهبت، قاله الضحاك.
الثاني : كسفت، قاله السدي.
الثالث : طويت، قاله يحيى بن سلام، كما قال تعالى :﴿ يوم نطوي السماء ﴾ الآية.
﴿ وإذا الجحيمُ سُعِّرَتْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أحميت، قاله السدي.
الثاني : أُوقدت، قاله معمر عن قتادة.
الثالث : سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم، قاله سعيد عن قتادة.
﴿ وإذا الجنّةُ أُزْلِفَتْ ﴾ أي قرّبت، قال الربيع : إلى هاتين الآيتين ما جرى الحديث فريق في الجنة وفريق في السعير.
﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرتْ ﴾ يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب ﴿ إذا الشمس كورت ﴾ وما بعدها، قال عمر بن الخطاب : لهذا جرى الحديث، وقال الحسن :﴿ إذا الشمس كورت ﴾ قسم وقع على قوله ﴿ علمت نفسٌ ما أَحضَرَتْ ﴾.
389
﴿ فلا أُقسِمُ بالخُنّسِ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، قاله الحسن وقتادة.
الثاني : خمسة الأنجم وهي : زحل وعطارد والمشتري والمريخ والزهرة، قاله عليّ.
وفي تخصيصها بالذكر وجهان :
أحدهما : لأنها لا تستقبل الشمس، قاله بكر بن عبد الله المزني.
الثاني : لأنها تقطع المجرة، قاله ابن عباس.
الثالث : أن الخنس بقر الوحش، قاله ابن مسعود.
الرابع : أنها الظباء، قاله ابن جبير.
ويحتمل تأويلاً خامساً : أنها الملائكة لأنها تخنس فلا تُرى، وهذا قَسَمٌ مبتدأ، و « لا » التي في قوله ﴿ فلا أقسم بالخنس ﴾ فيها الأوجه الثلاثة التي في ﴿ لا أقسم بيوم القيامة ﴾.
﴿ الجوار الكُنّسِ ﴾ فيها التأويلات الخمسة :
أحدها : النجوم، قاله الحسن، سميت بالجواري الكنس لأنها تجري في مسيرها.
الثاني : أنها النجوم الخمسة، وهو قول عليّ.
والكنّس، الغيّب، مأخوذ من الكناس وهو كناس الوحش التي تختفي فيه، قال أوس بن حجر :
ألم تر أن الله أنزل مُزْنَهُ وعُفْرُ الظباءِ في الكِناس تَقَمّعُ
الثالث : أنها بقر الوحش لاختفائها في كناسها، قاله ابن مسعود.
الرابع : الظباء، قاله ابن جبير.
الخامس : هي الملائكة.
﴿ والليلِ إذا عَسْعَسَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أظلم، قاله ابن مسعود ومجاهد، قال الشاعر :
حتى إذ ما لَيْلُهُنَّ عَسْعَسا رَكِبْنَ مِن حَدِّ الظّلامِ حِنْدساً
الثاني : إذا ولى، قاله ابن عباس وابن زيد، قال الشاعر :
حتى إذا الصبح لها تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا
الثالث : إذا أقبل، قاله ابن جبير وقتادة، وأصله العس وهو الامتلاء، ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه، فانطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه، وانطلق على ظلامه لاستكمال امتلائه،
﴿ والصبحِ إذا تَنَفّسَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : طلوع الفجر، قاله عليّ وقتادة.
الثاني : طلوع الشمس، قاله الضحاك.
وفي « تنفّسَ » وجهان :
أحدهما : بان إقباله.
الثاني : زاد ضوؤه.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون تنفس بمعنى طال، مأخوذ من قولهم قد تنفس النهار إذا طال.
﴿ إنه لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ ﴾ وهو جواب القسم، يعني القرآن.
وفي الرسول الكريم قولان :
أحدهما : جبريل، قاله الحسن وقتادة والضحاك.
الثاني : النبي ﷺ، قاله ابن عيسى، فإن كان المراد به جبريل فمعناه قول رسول للَّه كريم عن رب العاليمن لأن أصل القول الذي هو القرآن ليس من الرسول، إنما الرسول فيه مبلغ على الوجه الأول، ومبلغ إليه على الوجه الثاني.
﴿ مُطاعٍ ثَمَّ أمينٍ ﴾ هو جبريل في أصح القولين، يعني مطاعاً فيمن نزل عليه من الأنبياء، أميناً فيما نزل به من الكتب.
﴿ وما صاحبكم بمجنونٍ ﴾ يعني النبي ﷺ.
390
﴿ ولقد رآه بالأفق المبين ﴾ وفي الذي رآه قولان :
أحدهما : أنه رأى ربه بالأفق المبين، وهو معنى قول ابن مسعود.
الثاني : رأى جبريل بالأفق المبين على صورته التي هو عليها، وفيها قولان :
أحدهما : أنه رآه ببصره، قاله ابن عباس وعائشة.
الثاني : بقلبه، ولم يره ببصره، قاله أبو ذر.
وفي « الأفق » قولان :
أحدهما : أنه مطلع الشمس.
الثاني : أقطار السماء ونواحيها، قال الشاعر :
أخَذْنا بآفاقِ السماءِ عليكمُ لنا قَمَراها والنُّجومُ الطّوالعُ
فعلى هذا فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه رآه في أفق السماء الشرقي، قاله سفيان.
والثاني : في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة.
الثالث : أنه رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة، قاله مجاهد، ﴿ وما هو على الغَيْبِ بضنين ﴾ قرأ بالظاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفيه وجهان :
أحدهما : وما محمد على القرآن بمتهم أن يأتي بما لم ينزل عليه، قاله ابن عباس.
الثاني : بضعيف عن تأديته، قاله الفراء.
وقرأ الباقون بالضاد، وفيه وجهان :
أحدهما : وما هو ببخيل أن يعلِّم كما تعلّم.
الثاني : وما هو بمتهم أن يؤدي ما لم يؤمر به.
﴿ فأيْنَ تَذْهَبون ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فإلى أين تعدلون عن كتاب الله تعالى وطاعته، قاله قتادة.
الثاني : فأي طريق أهدى لكم وأرشد من كتاب الله، حكاه ابن عيسى.
ويحتمل ثالثاً : فأين تذهبون عن عذابه وعقابه.
﴿ وما تشاؤون إلا أن يشاءَ اللهُ ربُّ العالَمين ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما تشاؤون الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله لكم.
الثاني : وما تشاؤون الهداية إلا أن يشاء الله بتوفيقه : وقيل إن سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى :
﴿ لمن شاء منكم أن يستقيم ﴾ قال أبو جهل : ذلك إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى :﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ربّ العالمين ﴾.
391
Icon