ﰡ
(مكية حروفها ثلاثمائة وأحد وثمانون كلمها اثنتان وتسعون آياتها ست وعشرون)
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ٢٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤)تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)
القراآت:
تَصْلى بضم التاء من الإصلاء: أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر وحماد.
الباقون: بالفتح لا يسمع بضم الياء التحتانية لاغية بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. وقرأ نافع بتاء التأنيث والرفع. الآخرون: بفتح تاء التأنيث أو الخطاب لكل سامع لاغِيَةً بالنصب. بِمُصَيْطِرٍ بالصاد: أبو جعفر ونافع وعاصم وعلي وخلف. وقرأ حمزة في رواية بإشمام الزاي. الباقون: بالسين. إيابهم بالتشديد: يزيد.
الوقوف:
الْغاشِيَةِ هـ ط خاشِعَةٌ هـ ناصِبَةٌ هـ ك حامِيَةً هـ ك آنِيَةٍ هـ ط لتمام الأوصاف ضَرِيعٍ هـ ط جُوعٍ هـ ج للابتداء بعده ناعِمَةٌ هـ لا راضِيَةٌ هـ لا عالِيَةٍ هـ ج لاغِيَةً هـ ط جارِيَةٌ هـ م لئلا يتوهم أن ما بعدها صفة لعين فيكون في الحارية سرور ليس كذلك مَرْفُوعَةٌ هـ لا مَوْضُوعَةٌ هـ لا مَصْفُوفَةٌ هـ لا مَبْثُوثَةٌ هـ ط خُلِقَتْ هـ رُفِعَتْ هـ ك نُصِبَتْ هـ ط سُطِحَتْ هـ وقد يوقف على الآيات الأربع لأجل مهلة النظر وإلا فلكل متسقة مُذَكِّرٌ هـ ط بِمُصَيْطِرٍ هـ لا وَكَفَرَ هـ ك الْأَكْبَرَ هـ ط إِيابَهُمْ هـ لا حِسابَهُمْ هـ.
لما انجر الكلام في السورة المتقدّمة إلى ذكر الآخرة، شرح في هذه السورة بعض أحوال المكلفين فيها. والغاشية القيامة لأنها تغشى الناس بشدائدها، وكل ما أحاط بالشيء من جميع الجهات فهو غاش له قال الله تعالى يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: ٥٥] وقال وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: ٥٠] أي لم يأتك حديث هذه الداهية وقد أتاك الآن فاستمع. وقدّم وصف الأشقياء لأن مبنى السورة على التخويف كما ينبئ عنه لفظ الغاشية. والمراد بالوجه الذات ووجه حسن هذا المجاز أن الخشوع والانكسار والذل وأضدادها يتبين أكثرها في الوجه كقوله وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشوري: ٤٥] والعمل والنصب أي التعب. قيل: كلاهما في الآخرة وهو الأظهر لقوله يَوْمَئِذٍ أي تعمل في النار عملا تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار خوض الدابة في الوحل وتردّدها في صعود من نار وحدور منها. قال الحسن: كان يجب عليها أن تعمل لله في الدنيا خاشعة ناصبة فلما قصر في ذلك وقع في مثله بعد المفارقة إلى أن يشاء الله ليكون معارضا بنقيض مقصوده. وقيل: كلاهما في الدنيا وهم أصحاب الصوامع خشعت وجوههم لله وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة، لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي. وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء فهي في نصب منها في الآخرة. ثم شرح مكانهم وهو النار الشديدة الحر، ومشروبهم وهو من عين آنية أي متناهية في الحرارة، ومطعومهم وهو الضريع. وإنما قدّم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء يناسب النار مناسبة الضدين أو الشبيهين من حيث بساطتهما، أو لأنهم إذا أثر فيهم حر النار غلب عليهم العطش وكان الماء عندهم أهم، ثم إذا أثرت فيهم الحرارتان أرادوا أن يدفعوا ألم الإحساس بها بما يزيد العذاب على البدن، هذا مع أن الواو ليست للترتيب. قال الحسن: لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئا وقد يروى عنه أيضا أنه «فعيل» بمعنى «مفعل» كالأليم بمعنى المؤلم. والبديع بمعنى المبدع ومعناه إلا من طعام يحملهم على الضراعة والذل عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرارة. وعن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك. قال أبو الجوزاء: كيف يسمن من يأكل الشوك.
وفي الخبر «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرا من النار»
قال العلماء: إن للنار دركات وأهلها على طبقات: فمنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه غسلين، ومنهم من طعامه ضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: ٤٤] ووجود النبت في النار ليس ببدع من قدرة الله كوجود
وروي أن كفار قريش قالوا على سبيل التعنت حين سمعوا الآية: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
أي ليس فيه منفعة الغذاء ولا الاسمان ودفع الجوع كذبهم الله في قولهم يسمن الضريع، أو نبههم الله بعد تسليم أن ضريعهم مسمن على أن ضريع النار ليس كذلك أي كل ما في النار يجب أن يكون خاليا عن النفع. ثم أخذ في وصف السعداء فقال وُجُوهٌ وإنما فقد العاطف خلاف ما في سورة القيامة لأنه أراد هاهنا تفصيل ما أجمل في قوله هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ومعنى ناعمة ذات نعومة أو تنعم. وقوله لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي رضيت بما عملت في الدنيا وأثنت عليه نحو قولها «ما أحسن ما عملت» وذلك إذا رأت محلها ومنزلتها في الكرامة والثواب أو رضيت لجزاء سعيها حين رأت ما لا مزيد عليه. واللاغية اللغو مصدر كالعافية والباقية، ويجوز أن تكون صفة لمحذوف أي كلمة ذات لغو. قوله عَيْنٌ جارِيَةٌ قال جار الله: يريد عيونا في غاية الكثرة كقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ [الانفطار: ٥] قال الكلبي: لا أدري جرت بماء أو غيره. قال القفال: عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود وتجري لهم كما أرادوا. مَرْفُوعَةٌ في الرتبة أو مرتفعة عن الأرض ليرى المؤمن بجلوسه عليها جميع ما آتاه الله من الخدم والملك، فإذا جاء وليّ الله ليجلس عليها تطأطأت له، فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث أراد الله. وقد وصفها ابن عباس بأن ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت. وقيل: مرفوعة أي مخبوءة لهم من رفع الشيء إذا خبأه. والأكواب الكيزان التي لا عرى لها كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم حاضرة أو موضوعة على حافات العيون ليشرب بها. وجوّز في الكشاف أن يراد موضوعة من حدّ الكبر إلى التوسط والاعتدال. والنمارق الوسائد واحدها نمرقة بضم النون. وروى الفراء بكسرها أيضا مَصْفُوفَةٌ بعضها بجنب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة وأسند إلى أخرى.
والزرابيّ البسط العراض الفاخرة واحدها زربية بكسر الزاي. وقيل: هي الطنافس التي لها خمل رقيق. ومَبْثُوثَةٌ أي مبسوطة أو مفرقة في المجلس. وحين ذكر أحوال المعاد عاد إلى الاستدلال على المبدأ فإن من عادة كتاب الله الكريم أنه يرجع إلى تذكير الأصول عودا إلى بداية. وللمحققين في نسق الآية وفي تناسب هذه الأمور وجوه منها: قول أكثر أهل
قال الإمام فخر الدين الرازي: كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق فقدّموا جملا وتبعوه وكان ذلك الجمل يمشي ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب حتى وصل الطريق فتعجبنا من قوّة تخيله. وعن بعض أهل الفراسة أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه في بروكه ثم نهوضه مثقلا وقد نشأ في بلاد لا إبل بها ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وذلك أن طول العنق يسهل عليه النهوض. ثم إن أصحاب المواشي لاحتياجهم الشديد إلى الماء المستعقب للكلأ صار جل نظرهم إلى السماء التي منها ينزل المطر، ثم إلى الجبال التي هي أقرب إلى السماء وأسرع لوقوع المطر عليها وحفظ الثلج الذي منه مادة العيون والآبار عند إقلاع الأمطار على أنها مأمنهم ومسكنهم في الأغلب.
لنا جبل يحتله من نجيره | منيع يرد الطرف وهو كليل |
ويرد أنه ﷺ لا ينقطع طمعه من إيمان الكفرة ما داموا أحياء إلا أن يعلمه الله بذلك، وعلى تقدير الإعلام أيضا لا يجوز أن يقطع التذكير لأن الدعوة عامة في الأصل ولو جعلت خاصة لم تبق مضبوطة كرخصة المسافر مثلا. ثم ختم السورة بما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب. ومن قرأ إِيابَهُمْ بالتشديد فإما أن يكون «فيعالا» مصدر «فيعل» من الإياب، وأما أن يكون أصله «أوّابا» فعالا من «أوّب» ثم قلبت إحدى الواوين ياء كما في «ديوان» ثم الأخرى كما في «سيد». قال جار الله: فائدة تقديم الظرف في الموضعين الحصر أي ليس ينبغي أن يكون مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على توفية جزاء كل طائفة ولا أن يكون حسابهم واجبا إلا على حكمة من هو أحكم الحاكمين ورب العالمين.